وَتُؤْمِنُ الفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ.
وَالإِيمَانُ بِالقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَيْنِ، كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ:
فَالدَّرَجَةُ الأَوْلَى: الإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ مَا الخَلْقُ عَامِلُونَ بِعِلْمِهِ القَدِيمِ الذي هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ أَزَلاً، وَعَلِمَ جَمِيعَ أَحْوَالهِمْ مِن الطَّاعَاتِ وَالمَعَاصِي وَالأَرْزَاقِ وَالآجَالِ، ثُمَّ كَتَبَ اللَّهُ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ مَقَادِيرَ الخَلْقِ.
فَأَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ القَلَمَ قَالَ لهُ: اكْتُبْ. قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.
فَمَا أَصَابَ الإِنْسَانَ لمْ يَكُنْ ليُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لمْ يَكُنْ ليُصِيبَهُ، جَفَّتِ الأْقلامُ، وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وَقَالَ: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}. وَهَذَا التَّقْدِيرُ التَّابِعُ لعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ يَكُونُ فِي مَوَاضِعَ جُمْلَةً وتَفْصيلاً: فَقَدْ كَتَبَ اللهُ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ مَا شَاءَ، وَإِذَا خَلَقَ جَسَدَ الجَنِينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكاً، فَيُؤْمَرُ بأَرْبِعِ كَلمَاتٍ، فَيُقَالُ لهُ: اكْتُبْ رِزْقَةُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، وَنَحْوُ ذَلكَ.
فَهَذَا القَدَرُ قَدْ كَانَ يُنْكِرُهُ غُلاةُ القَدَرِيَّةِ قديماً، وَمُنْكِرُوهُ اليَوْمَ قَليلٌ.
ذَكَرَ المُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا المَبْحَثِ الرُّكْنَ السَّادِسَ مِن أَرْكَانِ الإِيمَانِ وَهُوَ الإِيمَانُ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَذَكَرَ أَنَّ ذَلكَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ:
الأُولَى: عِلْمُ اللَّهِ القَدِيمُ وَأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَعْمَالَ العِبَادِ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهَا.
الثَّانِيَةُ: كِتَابَةُ ذَلكَ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ.
الثَّالِثَةُ: مَشِيئَةُ اللَّهِ العَامَّةُ وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ.
الرَّابِعَةُ: إِيجَادُ اللَّهِ لِكُلِّ المَخْلُوقَاتِ وأنَّهُ الخَالقُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ،وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ،وَهُوَ القَوْلُ الحَقُّ الذي يَدُلُّ عَلَيْهِ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لهُمْ بِإِحْسَانٍ خلافاً للْقَدَرِيَّةِ النُّفَاةِ وَالْمُجْبِرَةِ وَنَحْوِهِمْ.
"وَالمُخَاصِمُونَ فِي القَدَرِ نَوْعَانِ:
(أَحَدُهُمَا) مَن يُبْطِلُ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِه كَالذينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا}.
(وَالثَّانِي) مَن يُنْكِرُ قَضَاءَهُ وَقَدَرَهُ السَّابِقَ، وَالطَّائِفَتَانِ خُصَمَاءُ للَّهِ.قَالَ عَوْفٌ:مَن كَذَّبَ بِالقَدَرِ فَقَدْ كَذَّبَ بِالإِسْـلامِ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدَّرَ أقداراً، وَخَلَقَ الخَلْقَ بِقَدَرٍ، وَقَسَمَ الآجَالَ بِقَدَرٍ، وَقَسَمَ الأَرْزَاقَ بِقَدَرٍ، وَقَسَمَ البَلاءَ بِقَدَرٍ، وَقَسَمَ العَافِيَةَ بِقَدَرٍ، وَأَمَرَ وَنَهَى، وَقَالَ الإِمَامُ أَحْمَـدُ: القَدَرُ قُدْرَةُ اللَّهِ. وَاسْتَحْسَنَ ابْنُ عَقِيلٍ هَذَا الكَلامَ جدًّا وَقَالَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى دِقَّةِ عِلْمِ أَحْمَدَ وَتَبَحُّرِهِ فِي مَعْرِفَةِ أُصُولِ الدِّينِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ أَبُو الوَفَاءِ: فَإِنَّ إِنْكَارَ القَدَرِ إِنْكَارٌ لقُدْرَةِ الرَّبِّ عَلَى خَلْقِ أَعْمَالِ العِبَادِ وَكِتَابَتِهَا وَتَقْدِيرِهَا،وَسَلَفُ القَدَرِيَّةِ كَانُوا يُنْكِرُونَ عِلْمَهُ بِهَا، وَهُمُ الذينَ اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى تَكْفِيرِهِمْ.
وَفِي تَفْسِيرِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِن عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} قَالَ: الذين يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَقَوْلُهُ: "خَيْرِهِ وَشَرِّهِ" فَهُوَ تَعَالَى الخَالِقُ لكُلِّ شَيْءٍ وَمَا يَقَعُ فِي الكَوْنِ فَهُوَ بِمَشِيئَتِهِ وَإِنْ كَانَ لا يُحِبُّهُ وَلا يَرَضاهُ " فَإِنَّهُ خَلَقَ الخَيْرَ وَالشَّرَّ لِمَا لهُ فِي ذَلكَ مِن الحِكْمَةِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا كَانَ فِعْلُه حسناً مُتْقَناً كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ} وَقَالَ: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} فَلهَذَا لا يُضَافُ إِلَيْهِ الشَّرُّ مُفْرَداً، بَلْ إِمَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي العُمُومِ، وَإِمَّا أَنْ يُضَافَ إِلَى السَّبَبِ، وَإِمَّا أَنْ يُحْذَفَ فَاعِلُهُ.
فَالأَوَّلُ: كَقَوْلهِ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}.
وَالثَّانِي: كَقَوْلهِ: {قُلْ أَعُوَذُ بِرَبِّ الفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}.
والثالثُ:كقولِه فِيمَا حَكَاهُ عَن الجِنِّ: {وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً}. وَقَدْ قَالَ فِي أُمِّ القُرْآنِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فَذَكَرَ أَنَّهُ فَاعِلُ النِّعْمَةِ وَحَذَفَ فَاعِلَ الغَضَبِ وَأَضَافَ الضَّلالَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ الخَليلُ: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} وَلهَذَا كَانَ للَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَسَمَّى نَفْسَهُ بِالأَسْمَاءِ الحُسْنَى المُقْتَضِيَةِ للْخَيْرِ، وَإِنَّمَا يُذْكَرُ الشَّرُّ فِي المَفْعُولاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وَقَوْلِهِ: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} وَهَذَا لأَنَّ مَا يخَلُقُه مِن الأُمُورِ الَّتِي فِيهَا شَرٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ النَّاسِ لهُ فِيهَا حِكْمَةٌ هُوَ بِخَلْقِهِ لهَا حَمِيدٌ مَجِيدٌ لهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمْدُ. فَلَيْسَتِ الإِضَافَةُ إِلَيْهِ شراً وَلا مَذْمُومَةً فَلا يُضَافُ إِلَيْهِ مَا يُشْعِرُ بِنَقِيضِ ذَلكَ " فَإِنَّ الشَّرَّ لا يَدْخُلُ فِي شَيْءٍ مِن صِفَاتِهِ وَلا فِي أَفْعَالهِ كَمَا لا يَلْحَقُ ذَاتَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَإِنَّ ذَاتَهُ لهَا الكَمَالُ المُطْلَقُ الذي لا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهٍ مِن الوُجُوهِ، وَأَوْصَافُهُ كَذَلكَ لهَا الكَمَالُ المُطْلَقُ وَالجَلالُ التَّامُّ، وَلا عَيْبَ فِيهَا وَلا نَقْصَ بِوَجْهٍ مَا.
وَكَذَلكَ أَفْعَالُهُ كُلُّهَا خَيْرَاتٌ مَحْضَةٌ لا شَـرَّ فِيهَا أصلاً. وَلَوْ فَعَلَ الشَّرَّ سُبْحَانَهُ لاشْتُقَّ لهُ مِنْهُ اسْمٌ وَلَمْ تَكُنْ أَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا حُسْنَى، وَلعَادَ إِلَيْهِ مِنْهُ حُكْمٌ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَن ذَلكَ. وَمَا يَفْعَلُهُ مِن العَدْلِ بِعِبَادِهِ وَعُقُوبَةِ مَن يَسْتَحِقُّ العُقُوبَةَ مِنْهُمْ هُوَ خَيْرٌ مَحْضٌ إِذْ هُوَ مَحْضُ العَدْلِ وَالحِكْمَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ شراً بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ فَالشَّرُّ وَقَعَ فِي تَعَلُّقِهِ بِهِمْ وَقِيَامِهِ بِهِمْ لا فِي فِعْلِهِ القَائِمِ بِهِ تَعَالَى، وَنَحْنُ لا نُنْكِرُ أَنَّ الشَّرَّ يَكُونُ فِي مَفْعُولاتِهِ المُنْفَصِلَةِ، فَإِنَّهُ خَالِقُ الخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَلَكِنْ هُنَا أَمْرَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَا مِنْكَ عَلَى بَالٍ:
(أَحَدُهُمَا): أَنَّ مَا هُوَ شَرٌّ أَوْ مُتَضَمِّنٌ للشَّرِّ فَإِنَّهُ لا يَكُونُ إِلا مفعولاً منفصلاً لا يَكُونُ وصفاً لهُ، وَلا فعلاً مِن أَفْعَالِهِ.
(الثَّانِي): أَنَّ كَوْنَهُ شرًّا هُوَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ إِضَافِيٌّ، فَهُوَ خَيْرٌ مِن جِهَةِ تَعَلُّقِ فِعْلِ الرَّبِّ وَتَكْوِينِهِ بِهِ، وَشَرٌّ مِن جِهَةِ نِسْبَتِهِ إِلَى مَن هُوَ شَرٌّ فِي حَقِّهِ فَلَهُ وَجْهَانِ هُوَ مِن أَحَدِهِمَا خَيْرٌ، وَهُوَ الوَجْهُ الذي نُسِبَ مِنْهُ إِلَى الخَالقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلْقاً وتكويناً وَمَشِيئةً لِمَا فِيهِ مِن الحِكْمَةِ البَالغَةِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهَا وَأَطْلَعَ مَن شَاءَ مِن خَلْقِهِ عَلَى مَا شَاءَ مِنْهَا، فَقَدْ عَرِفْتَ أَنَّ كَوْنَهُ شرًّا هُوَ أَمْرٌ إِضَافِيٌّ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ خَيْرٌ مِن جِهَةِ نِسْبَتِهِ إِلَى خَالقِهِ وَمُبْدِعِهِ.
فَالقَدَرُ لا شَرَّ فِيهِ بِوَجْهٍ مِن الوُجُوهِ فَإِنَّهُ عِلْمُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ وَكِتَابَتُهُ وَمَشِيئَتُهُ وَذَلكَ خَيْرٌ مَحْضٌ وَكَمَالٌ مِن كُلِّ وَجْهٍ، فَالشَّرُّ ليْسَ إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى بِوَجْهٍ مِن الوُجُوهِ لا فِي ذَاتِهِ وَلا فِي أَسْمَائِهِ وَلا فِي صِفَاتِهِ وَلا فِي أَفْعَالهِ.وَإِنَّمَا يَدْخُلُ الشَّرُّ الجُزْئِيُّ الإِضَافِيُّ فِي المَقْضِيِّ المُقَدَّرِ وَيَكُونُ شرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَحَلٍّ وخيراً بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَحَلٍّ آخَرَ، وَقَدْ يَكُونُ خيراً بِالنِّسْبَةِ إِلَى المَحَلِّ القَائِمِ بِهِ مِن وَجْهٍ كَمَا هُوَ شَرٌّ لهُ مِن وَجْهٍ، بَلْ هَذَا هُوَ الغَالبُ،وَهَذَا كَالقَصَّاصِ وَإِقَامَةِ الحُدُودِ وَقَتْلِ الكُفَّارِ فَإِنَّهُ شَرٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ لا مِن كُلِّ وَجْهٍ بَلْ مِن وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ،وَخَيْرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ لِمَا فِيهِ مِن مَصْلَحَةِ الزَّجْرِ وَالنَّكَالِ وَدَفْعِ النَّاسِ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ،وَكَذَلكَ الآلامُ وَالأَمْرَاضُ وَإِنْ كَانَتْ شروراً مِن وَجْهٍ فَهِيَ خَيْرَاتٌ مِن وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ فَالخَيْرُ وَالشَّرُّ مِن جِنْسِ اللَّذَّةِ وَالأَلَمِ وَالنَّفْعِ وَالضَّرَرِ وَذَلكَ فِي المَقْضِيِّ المُقَدَّرِ لا فِي نَفْسِ صِفَةِ الرَّبِّ وَفِعْلِهِ القَائِمِ بِهِ، فَإِنَّ قَطْعَ يَدِ السَّارِقِ شَرٌّ مُؤْلِمٌ ضَارٌّ لهُ وَأَمَّا قَضَاءُ الرَّبِّ ذَلكَ وَتَقْدِيرُهُ عَلَيْهِ فَعَدْلٌ وَخَيْرٌ وَحِكْمَةٌ وَمَصْلَحَةٌ (فَإِنْ قِيلَ): فَمَا الفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِ القَدَرِ خيراً وشرًّا وَكَوْنِهِ حُلواً ومرًّا ؟
(قِيلَ) الحَلاوَةُ وَالمَرَارَةُ تَعُودُ إِلَى مُبَاشَرَةِ الأَسْبَابِ فِي العَاجِلِ، وَالخَيْرُ وَالشَّرُّ يَرْجِعُ إِلَى حُسْنِ العَاقِبَةِ وَسُوئِهَا، فَهُوَ حُلْوٌ وَمُرٌّ فِي مَبْدَئِهِ وَأَوَّلِهِ، وَخَيْرٌ وَشَرٌّ فِي مُنْتَهَاهُ وَعَاقِبَتِهِ. وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ سُنَّتَهُ وَعَادَتَهُ أَنَّ حَلاوَةَ الأَسْبَابِ فِي العَاجِلِ تُعْقِبُ المَرَارَةِ فِي الآجِلِ، وَمَرَارَتَهَا تُعْقِبُ الحَلاوَةِ فَحُلْوُ الدُّنْيَا مُرُّ الآخِرَةِ، وَمُرُّ الدُّنْيَا حُلْوُ الآخِرَةِ. وَقَدْ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ جَعَلَ اللَّذَّاتِ تُثْمِرُ الآلامَ وَالآلامَ تُثْمِرُ اللَّذَّاتِ، وَالقَضَاءُ وَالقَدَرُ مُنْتَظِمٌ لذَلكَ انتظاماً لا يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ البَتَّةَ، وَالشَّرُّ مَرْجِعُهُ إِلَى اللَّذَّاتِ وَأَسْبَابِهَا، وَالخَيْرُ المَطْلُوبُ هُوَ اللَّذَّاتُ الدَّائِمَةُ،وَالشَّرُّ المَرْهُوبُ هُوَ الآلامُ الدَّائِمَةُ، فَأَسْبَابُ هَذِهِ الشَّرورِ وَإِنْ اشْتَمَلَتْ عَلَى لذَّةٍ مَا، وَأَسْبَابُ تِلْكَ الخَيِّرَاتِ وَإِنْ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَلَمٍ مَا. فَأَلَمٌ يَعْقِبُ اللَّذَّةَ الدَّائِمَةَ أَوْلَى بِالإِيثَارِ وَالتَّحَمُّلِ مِن لذَّةٍ تَعْقُبُ الأَلَمَ الدَّائِمَ، فَلَذَّةُ سَاعَةٍ فِي جَنْبِ أَلَمٍ طَوِيلٍ كَلاَ لذَّةَ، وَأَلَمُ سَاعَةٍ فِي جَنْبِ لذَّةٍ طَوِيلَةٍ كَلاً أَلَمَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّرَّ كُلَّهُ يَرْجِعُ إِلَى العَدَمِ -أَعْنِي عَدَمَ الخَيْرِ وَأَسْبَابِهِ المُفْضِيَةِ إِلَيْهِ- وَهُوَ مِن هَذِهِ الجِهَةِ شَرٌّ. وَأَمَّا مِن جِهَةِ وُجُودِهِ المَحْضِ فَلا شَرَّ فِيهِ. مِثَالُهُ: إِنَّ النُّفُوسَ الشِّرِّيرَةَ وُجُودُهَا خَيْرٌ مِن حَيْثُ هِيَ مَوْجُودَةٌ. وَإِنَّمَا حَصَلَ لهَا الشَّرُّ بِقَطْعِ مَادَّةِ الخَيْرِ عَنْهَا، فَإِنَّهَا خُلِقَتْ فِي الأَصْلِ مُتَحَرِّكَةً لا تَسْكُنُ، فَإِنْ أُعِينَتْ بِالعِلْمِ وَإِلْهَامِ الخَيْرِ تَحَرَّكَتْ، وَإِنْ تُرِكَتْ تَحَرَّكَتْ بِطَبْعِهَا إِلَى خِلافِهِ، وَحَرَكَتُهَا مِن حَيْثُ هِيَ حَرَكَةٌ خَيْرٌ. وَإِنَّمَا تَكُونُ شرًّا بِالإِضَافَةِ لا مِن حَيْثُ هِيَ حَرَكَةٌ. وَالشَّرُّ كُلُّهُ وَهُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَلَوْ وُضِعَ فِي مَوْضِعِهِ لمْ يَكُنْ شرًّا، فَعُلِمَ أَنَّ جِهَةَ الشَّرِّ فِيهِ نِسْبَةٌ إِضَافِيَّةٌ.
وَلهَذَا كَانَتِ العُقُوبَاتُ المَوْضُوعَاتُ فِي مَحَالِّهَا خيراً فِي نَفْسِهَا وَإِنْ كَانَتْ شرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى المَحَلِّ الذي حَلَّتْ بِهِ لِمَا أَحْدَثَتْ فِيهِ مِن الأَلَمِ الذي كَانَتِ الطَّبِيعَةُ قَابِلَةً لضِدِّهِ مِن اللَّذَّةِ مُسْتَعِدَّةً لهُ، فَصَارَ ذَلكَ الأَلَمُ شرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا وَهُوَ خَيْرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الفَاعِلِ حَيْثُ وَضَعَهُ مَوْضِعَهُ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لا يَخَلُقُ شرًّا محضاً مِن جَمِيعِ الوُجُوهِ وَالاعْتِبَارَاتِ، فَإِنَّ حِكْمَتَهُ تَأْبَى ذَلكَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ ذَلكَ المَخْلُوقُ شرًّا وَمَفْسَدَةً بِبَعْضِ الاعْتِبَارَاتِ، وَفِي خَلْقِهِ مَصَالحُ وَحِكَمٌ بِاعْتِبَارَاتٍ أُخَرَ أَرْجَحَ مِن اعْتِبَارَاتِ مَفَاسِدِهِ، بَل الوَاقِعُ مُنْحَصِرٌ فِي ذَلكَ فَلا يُمْكِنُ فِي جَنَابِ الحَقِّ - جَلَّ جَلالُهُ - أَنْ يُرِيدَ شَيْئاً يَكُونُ فسَاداً مِن كُلِّ وَجْهٍ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ، لا مَصْلَحَةَ فِي خَلْقِهِ بِوَجْهٍ مَا.
هَذَا مِن أَبَيَنِ الْمَحَالِّ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ بِيَدِهِ الخَيْرُ، وَالشَّرُّ ليْسَ إِلَيْهِ، بَلْ كُلُّ مَا إِلَيْهِ فَخَيْرٌ، وَالشَّرُّ إِنَّمَا حَصَلَ لِعَدَمِ هَذِهِ الإِضَافَةِ وَالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ. فَلَوْ كَانَ إِلَيْهِ لمْ يَكُنْ شرًّا، فَتَأَمَّلْهُ. فَانْقِطَاعُ نِسَبْتِهِ إِلَيْهِ هُوَ الذي صَيَّرَهُ شرًّا. (فَإِنْ قُلْتَ:) لمْ تَنْقَطِعْ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ خَلْقاً وَمَشِيئَةً ؟ قُلْتُ: هُوَ مِن هَذِهِ الجِهَةِ ليْسَ بَشَرٍّ، فَإِنَّ وُجُودَهُ هُوَ المَنْسُوبُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مِن هَذِهِ الجِهَةِ ليْسَ بَشَرٍّ وَالشَّرُّ الذي فِيهِ مِن عَدَمِ إِمْدَادِهِ بِالخَيْرِ وَأَسْبَابِهِ، وَالعَدَمُ ليْسَ بِشَيْءٍ يُنْسَبُ إِلَى مَن بِيَدِهِ الخَيْرُ.
فَإِنْ أَرَدْتَ مَزِيدَ إِيضَاحٍ لذَلكَ فَاعْلَمْ أَنَّ أَسْبَابَ الخَيْرِ ثَلاثَةٌ: الإِيجَادُ وَالإِعْدَادُ وَالإِمْدَادُ، فَهَذِهِ هِيَ الخَيْرَاتُ وَأَسْبَابُهَا، فَإِيجَادُ السَّبَبِ خَيْرٌ وَهُوَ إِلَى اللَّهِ، وَإِعْدَادُهُ خَيْرٌ وَهُوَ إِلَيْهِ أيضاً. وَإِمْدَادُهُ خَيْرٌ وَهُوَ إِلَيْهِ أيضاً، فَإِذَا لم يَحْدُثْ فِيهِ إِعْدَادٌ وَلا إِمْدَادٌ حَصَلَ فِيهِ الشَّرُّ بِسَبَبِ هَذَا العَدَمِ الذي ليْسَ إِلَى الفَاعِلِ وَإِنَّمَا إِلَيْهِ ضِـدُّهُ. فَإِنْ قُلْتَ:فَهَـلاَّ أَمَدَّهُ إِذْ أَوْجَدَهُ؟ (قُلْتُ) مَا اقْتَضَتِ الحِكْمَةُ إِيجَادَهُ وَإِمْدَادَهُ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُوجِدُهُ وَيَمُدُّهُ، وَمَا اقْتَضَتْ إِيجَادَهُ وَتَرْكَ إِمْدَادِهُ أَوْجَدَهُ بِحِكْمَتِهِ وَلَمْ يَمُدَّهُ بِحِكْمَتِهِ فَإِيجَادُهُ خَيْرٌ، وَالشَّرُّ وَقَعَ مِن عَدَمِ إِمْدَادِهِ.
(فَإِنْ قُلْتَ:) فَهَلاَّ أَمَدَّ المَوْجُودَاتِ كُلَّهَا؟ (قُلْتُ) فَهَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ يَظُنُّ مُورِدُهُ أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ المَوْجُودَاتِ أَبْلَغُ فِي الحِكْمَةِ، وَهَذَا عَيْنُ الجَهْلِ بَل، الحِكْمَةُ كُلُّ الحِكْمَةِ فِي هَذَا التَّفَاوُتُ العَظِيمُ الوَاقِعُ بَيْنَهَا، وَلَيْسَ فِي خَلْقِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا تَفَاوُتٌ، وَالتَّفَاوُتُ إِنَّمَا وَقَعَ بِأُمُورٍ عَدَمِيَّةٍ لمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا الخَلْقُ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ فِي الخَلْقِ مِن تَفَاوُتٍ.
وَسِرُّ المَسْأَلَةِ أَنَّ الرِّضَى بِاللَّهِ يَسْتَلْزِمُ الرِّضَى بِصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَلا يَسْتَلْزِمُ الرِّضَى بِمَفْعُولاتِهِ كُلِّهَا، بَلْ حَقِيقَةُ العُبُودِيَّةِ أَنْ يُوَافِقَهُ عَبْدُهُ فِي رِضَاهُ وَسُخْطِهِ فَيَرْضَى مِنْهَا بِمَا يَرْضَى بِهِ وَيَسْخَطُ مِنْهَا مَا سَخِطَهُ (فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَرْضَى لعَبْدِهِ شَيْئاً وَلا يُعِينُهُ عَلَيْهِ؟ (قُلْتُ): لأَنَّ إِعَانَتَهُ عَلَيْهِ قَدْ تَسْتَلْزِمُ فَوَاتَ مَحْبُوبٍ لهُ أَعْظَمُ مِن حُصُولِ تِلْكَ الطَّاعَةِ الَّتِي رَضِيَهَا لهُ.
وَقَدْ يَكُونُ وُقُوعُ تِلْكَ الطَّاعَةِ مِنْهُ يَتَضَمَّنُ مَفْسَدَةً هِيَ أَكْرَهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِن مَحَبَّتِهِ لتِلْكَ الطَّاعَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ وُقُوعُهَا مِنْهُ مُسْتَلْزِماً لِمَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ، ومُفَوِّتاً لمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ. وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلكَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ كَرِهَ انْبِعَاثَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للْغَزْوِ وَهُوَ طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ، وَقَدْ أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، فَلَمَّا كَرِهَهُ مِنْهُمْ ثَبَّطَهُمْ عَنْهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْضَ المَفَاسِدِ الَّتِي كَانَتْ ستَتَرَتَّبُ عَلَى خُرُوجِهِمْ لوْ خَرَجُوا مَعَ رَسُـولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُمْ مَّا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالاً} أَيْ فساداً وشرًّا {ولأَوْضَعُواْ خِلالَكُمْ} أَيْ سَعَوْا فِيمَا بَيْنَكُمْ بِالفَسَادِ وَالشَّرِّ {يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أَيْ قَابِلُونِ مِنْهُمْ مُسْتَجِيبُونَ لهُمْ فَيَتَوَلَّدُ مِن بَيْنِ سَعْيِ هَؤُلاءِ بِالفَسَادِ وَقَبُولِ أُولَئِكَ مِنْهُمْ مِن الشَّرِّ مَا هُوَ أَعْظُمُ مِن مَصْلَحَةِ خُرُوجِهِمْ فَاقْتَضَتِ الحِكْمَةُ وَالرَّحْمَةُ أَنْ مَنَعَهُمْ مِن الخُرُوجِ وَأَقْعَدَهُمْ عَنْهُ فَاجْعَلْ هَذَا المِثَالَ أصلاً لهَذَا البَابِ وَقِسْ عَلَيْهِ.
(فَإِنْ قُلْتَ:) قَدْ يُتَصَوَّرُ لي هَذَا فِي رِضَى الرَّبِّ تَعَالَى لبَعْضِ مَا يخَلُقُهُ مِن وَجْهٍ وَكَرَاهَتِهِ مِن وَجْهٍ آخَرَ. فَكَيْفَ لي بِأَنْ يَجْتَمِعَ الأَمْرَانِ فِي حَقِّي بِالنِّسْبَةِ إِلَى المَعَاصِي وَالفُسُوقِ؟ ( قُلْتُ: ) هُوَ مُتَصَوَّرٌ مُمْكِنٌ، بَلْ وَاقِعٌ، فَإِنَّ العَبْدَ يَسْخَطُ ذَلكَ وَيُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُهُ مِن حَيْثُ هُوَ فِعْلٌ لهُ بِسَبَبِهِ وَوَاقِعٌ بِكَسْبِهِ وَإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَيَرْضَى بِعِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَإِذْنِهِ الكَوْنِيِّ فِيهِ، فَيَرْضَى بِمَا مِن اللَّهِ، وَيَسْخَطُ مَا هُوَ مِنْهُ. فَهَذَا مَسْلَكُ طَائِفَةٍ مِن أَهْلِ العِرْفَانِ.
وَطَائِفَةٌ أُخْرَى رَأَوْا كَرَاهَةَ ذَلكَ مُطلقاً، وَعَدَمَ الرِّضَى بِهِ مِن كُلِّ وَجْهٍ، وَهَؤُلاءِ فِي الحَقِيقَةِ لا يُخَالفُونَ أُولَئِكَ، فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا كَرِهَهَا مُطلقاً فَإِنَّ الكَرَاهَةَ إِنَّمَا تَقَعُ عَلَى الاعْتِبَارِ المَكْرُوهِ مِنْهَا، وَهَؤُلاءِ لمْ يَكْرَهُوا عِلْمَ الرَّبِّ وَكِتَابَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ وَإِلْزَامَهُ حُكْمَهُ الكَوْنِيَّ، وَأُولَئِكَ لمْ يَرْضَوْا بِهَا مِن الوَجْهِ الذي سَخِطَهَا الرَّبُّ وَأَبْغَضَهَا لأَجْلِهِ.
وَسِرُّ المَسْأَلَةِ أَنَّ الذي إِلَى الرَّبِّ مِنْهَا غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَالذي إِلَى العَبْدِ مِنْهَا هُوَ المَكْرُوهُ وَالمَسْخُوطُ ( فَإِنْ قَلْتَ: ) ليْسَ للْعَبْدِ شَيْءٌ مِنْهَا ؟ ( قُلْتُ ): هَذَا هُوَ الجَبْرُ البَاطِلُ الذي لا يُمْكِنُ صَاحِبُهُ التَّخَلُّصَ مِن هَذَا المَقَامِ: الضَّيِّقِ وَالْقَدَرِيُّ أَقْرَبُ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ مِن الْجَبْرِيِّ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ المُتَوَسِّطُونَ بَيْنَ القَدَرِيَّةِ وَالجَبْرِيَّةِ هُمْ أَسْعَدُ بِالتَّخَلُّصِ مِنْهُ مِن الفَرِيقَيْنِ (فَإِنْ قُلْتَ ) كَيْفَ يَتَأَتَّى النَّدَمُ وَالتَّوْبَةُ مَعَ شُهُودِ الحِكْمَةِ فِي التَّقْدِيرِ وَمَعَ شُهُودِ القَوْمِيَّةِ وَالمَشِيئَةِ النَّافِذَةِ ؟
( قُلْتُ: ) هَذَا الذي أَوْقَعَ مَن عَمِيَتْ بَصِيرَتُهُ فِي شُهُودِ الأَمْرِ عَلَى خِلافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَرَأَى تِلْكَ الأَفْعَالَ طَاعَات؛ٍ لمُوَافَقَتِهِ فِيهَا المَشِيئَةَ وَالقَدَرَ، وَقَالَ: إِنْ عَصَيْتُ أَمْرَهُ فَقَدْ أَطَعْتُ إِرَادَتَهُ فِي ذَلكَ. وَقِيلَ:
أَصْبَحْتُ مُنْفَعِلاً لِمَا تَخْتَارُهُ مِنِّي فَفِعْلِي كُلُّهُ طَاعَاتٌ
وَهَؤُلاءِ أَعْمَى الخَلْقِ بَصَائِرَ، وَأَجْهَلُهُمْ بِاللَّهِ وَأَحْكَامِهِ الدِّينِيَّةِ وَالكَوْنِيَّةِ فَإِنَّ الطَّاعَةَ هِيَ مُوَافَقَةُ الأَمْرِ لا مُوَافَقَةُ القَدَرِ وَالمَشِيئَةِ، وَلَوْ كَانَتْ مُوَافَقَةُ القَدَرِ طَاعَةً للَّهِ لكَانَ إِبْليسُ مِن أَعْظَمِ المُطِيعِينَ للَّهِ، وَكَانَ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَقَوْمُ فِرْعَـوْنَ كُلُّهُمْ مُطِيعِينَ لهُ، فَيَكُونُ قَدْ عَذَّبَهُمْ أَشَدَّ العَذَابِ عَلَى طَاعَتِهِ وَانْتَقَمَ مِنْهُمْ لأَجْلِهَا. وَهَذَا غَايَةُ الجَهْلِ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ.
قَوْلُهُ: (فَالدَّرَجَةُ الأَوْلَى الإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا الخَلْقُ عَامِلُونَ بِعِلْمِهِ القَدِيمِ الذي هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ أَزَلاً)، الأَزَلُ- بِالتَّحْرِيكِ-: القِدَمُ، يُقَالُ أَزَلِيٌّ أَيْ: قَدِيمٌ.
وَفِي اللسَانِ: وَذَكَرَ أَهْلُ العِلْمِ أَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الكَلمَةِ قَوْلُهُمْ للْقَدِيمِ لمْ يَزَلْ ثُمَّ نُسِبَ إِلَى هَذَا فَلَمْ يَسْتَقِمْ إِلاَّ بِالاخْتِصَارِ فَقَالُوا يَزَلِيٌّ. ثُمَّ أُبْدِلَتِ اليَاءُ ألِفاً؛ لأَنَّهَا أَخَفُّ فَقَالُوا: أَزَلِيٌّ كَمَا قَالُوا فِي الرُّمْحِ المَنْسُوبِ إِلَى ذِي يَزَنَ: أَزَنِيٌّ اهـ.
وَالعِلْمُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ للَّهِ لا يَخْلُو مِنْهَا، وَقَدْ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْلَ أَنْ يخَلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.
وَالعِلْمُ أَعَمُّ مِن الإِرَادَةِ وَأَصْلٌ لهَا، وَالمَعْلُومُ أَعَمُّ مِن المُرَادِ، فَالعِلْمُ يَتَنَاوَلُ المَوْجُودَ وَالمَعْدُومَ وَالوَاجِبَ وَالمُمْكِنَ وَالمُمْتَنِعَ وَمَا كَانَ وَمَا سَيَكُونُ وَمَا يَخْتَارُهُ وَمَا لا يَخْتَارُهُ.
وَأَمَّا الإِرَادَةُ فَتَخْتَصُّ بِبَعْضِ الأُمُورِ دُونَ بَعْضٍ، وَالخَبَرُ يُطَابِقُ العِلْمَ، فَكُلُّ مَا يُعْلَمُ يُمْكِنُ الخَبَرُ بِهِ،وَالإِنْشَاءُ يُطَابِقُ الإِرَادَةَ، فَإِنَّ الأَمْرَ إِمَّا مَحْبُوبٌ يُؤْمَرُ بِهِ أَوْ مَكْرُوهٌ يُنْهَى عَنْهُ، وَأَمَّا مَا ليْسَ بِمَحْبُوبٍ وَلا مَكْرُوهٍ فَلا يُؤْمَرُ بِهِ وَلا يُنْهَى عَنْهُ.
فَمَرْتَبَةُ العِلْمِ السَّابِقِ هِيَ أُولَى مَرَاتِبِ القَدَرِ " وَقَدْ اتَّفَقَ عَلَيْهَا الرُّسُلُ مِن أَوَّلِهِمْ إِلَى خَاتِمِهِمْ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهَا الصَّحَابَةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِن الأُمَّةِ، وَخَالَفَهُمْ مَجُوسُ الأُمَّةِ.
وَكِتَابَتُهُ السَّابِقَةُ تَدُلُّ عَلَى عِلْمِهِ بِهَا قَبْلَ كَوْنِهَا وَقَدْ كَفَّرَ السَّلَفُ مِن الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مَن أَنْكَرَ عِلْمَ اللَّهِ القَدِيمَ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "وَالذي يَحْلفُ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: لوْ كَانَ لأَحَدِهِمْ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَباً ثُمَّ أَنْفَقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ" " وَكَذَا كَلاَمُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ الِله وَوَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ وَغَيْرِهمْ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الإِسْلامِ كَثِيرٌ حَتَّى قَالَ فِيهِمُ الأَئِمَّةُ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ: إِنَّ المُنْكِرِينَ لعِلْمِ اللَّهِ القَدِيمِ يُكْفَرَونَ "فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلِمَ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوا الأَعْمَالَ، وَهَذَا حَقٌّ يَجِبُ الإِيمَانُ بِهِ بَلْ قَدْ نَصَّ الأَئِمَّةُ كَمَالكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّ مَنْ جَحَدَ هَذَا فَقَدَ كَفَرَ بَلْ يَجِبُ الإِيمَانُ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا سَيَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ.
وَفِي الصَّحِيحِ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِمَ اللَّهُ أَهْلَ الجَنَّةِ مِن أَهْلِ النَّارِ ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قِيلَ: فِيمَ العَمَلُ؟ قَالَ: "اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لهُ". وَذَلكَ أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ الأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ عَلَيْهِ وَقَدْ جَعَلَ أسباباً تَكُونُ بِهَا، وَيَعْلَمُ أَنَّهَا تَكُونُ بِتِلْكَ الأَسْبَابِ.
فَلا بُدَّ مِن الأَسْبَابِ الَّتِي قَدْ عَلِمَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِن الدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ وَغَيْرِهِ فَلا يَنَالُ العَبْدُ شَيْئاً إِلا بِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مِن جَمِيعِ الأَسْبَابِ، وَاللَّهُ خَالقُ ذَلكَ الشَّيْءِ وَخَالقُ الأَسْبَابِ؛ وَلهَذَا قِيلَ: الالْتِفَاتُ إِلَى الأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ، وَمَحْوُ الأَسْبَابِ إِنْ تَكُونَ أَسْبَابُ نَقْصٍ فِي العَقْلِ، وَالإِعْرَاضُ عَن الأَسْبَابِ بِالكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ. وَمُجَرَّدُ الأَسْبَابِ لا تُوجِبُ حُصُولَ المُسَبَّبِ، بَلْ لا بُدَّ مِن تَمَامِ الشُّروطِ، وَزَوَالِ المَوَانِعِ، فَكُلُّ ذَلكَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ.
وَكَذَلكَ أَمْرُ الآخِرَةِ فَلَيْسَ بِمُجَرَّدِ عَمَلِ العَبْدِ يَنَالُ الإِنْسَـانُ السَّعَادَةَ، بَل العَمَلُ سَبَبٌ،كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمُ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ" الحَدِيثَ. وَقَالَ تَعَالَى: {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فَهَذِهِ بَاءُ السَّبَبِ أَيْ بِسَبَبِ أَعْمَالِكُمْ، وَالذي نَفَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاءُ المُقَابَلَةِ وَالعِوَضِ، كَمَا يُقَالُ اشْتَرَيْتُ هَذَا بِهَذَا. أَيْ: ليْسَ العَمَلُ عِوَضاً أَوْ ثمناً كافياً فِي دُخُولِ الجَنَّةِ، بَلْ لا بُدَّ مَعَهُ مِن عَفْوِهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَمَغْفِرَتِهِ، فَمَغْفِرَتُهُ تَمْحُو السَّيِّئَاتِ وَرَحْمَتُهُ تَأْتِي بِالخَيْرَاتِ وَتُضَاعِفُ الحَسَنَاتِ.
وَلِهَذَا ضَلَّ فَرِيقَانِ: فَرِيقٌ أَخَذُوا بِالقَدَرِ، وَأَعْرَضُوا عَن الأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ وَالأَعْمَالِ الصَّالحَةِ، وَظَنُّوا أَنَّ ذَلكَ كَافٍ، وَهَؤُلاءِ يَئُولُ أَمْرُهُمْ إِلَى الكُفْرِ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. وَفَرِيقٌ أَخَذُوا يَطْلُبُونَ الجَزَاءَ مِن اللَّهِ كَمَا يَطْلُبُهُ الأَجِيرُ مِن المُسْتَأْجِرِ مُتَّكِلينَ عَلَى حَوْلِهِمْ وَقُوَّتِهمْ وَعَمَلِهِمْ. وَهُمْ جُهَّالٌ ضُلاَّلٌ، فَمَنْ أَعْرَضَ عَن الأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالوَعْدِ وَالوَعِيدِ ناظراً إِلَى القَدَرِ فَقَدْ ضَلَّ، وَمَن طَلَبَ المَقَامَ بِالأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُعرضاً عَن القَدَرِ فَقَدْ ضَلَّ. بَلْ لا بُدَّ مِن الأَمْرَيْنِ، فَكُلُّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ العَامِلُ وَلا يَكُونُ طَاعَةً وَعِبَادَةً وعملاً صالحاً فَهُوَ بَاطِلٌ، وَكُلُّ عَمَلٍ لا يُعِينُ اللَّهُ العَبْدَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لا يَكُونُ، وَللْعَبْدِ حَالانِ حَالٌ قَبْلَ القَدَرِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاللَّهِ ويتوَكَّلَ عَلَيْهِ وَيَدْعَوهُ، وَحَالٌ بَعْدَ القَدَرِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ فِي الطَّاعَةِ، وَيَصْبِرَ وَيَرْضَى فِي المُصِيبَة،ِ وَيَسْتَغْفِرَ فِي الذَّنْبِ وَفِي الطَّاعَةِ مِن النَّقْصِ، وَيَشْكُرَهُ عَلَيْهَا إِذْ هِيَ مِن نِعْمَتِهِ.
المَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: مَرْتَبَةُ الكِتَابَةِ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ. " وَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَجَمِيعُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالحَدِيثِ أَنَّ كُلَّ كَائِنٍ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ فَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي أُمِّ الكِتَابِ.
وَقَدْ دَلَّ القُرْآنُ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى كَتَبَ فِي أُمِّ الكِتَابِ مَا يَفْعَلُهُ وَمَا يَقُولُهُ فَكَتَبَ فِي اللَّوْحِ أَفْعَالَهُ وَكَلامَهُ.
وَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ لابْنِه "يَا بُنَيَّ إِنَّكَ لنْ تَجِدَ طَعْمَ الإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لمْ يَكُنْ ليُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لمْ يَكُنْ ليُصِيبَكَ " سَمِعْتُ رَسـُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ القَلَمَ فَقَالَ: اكْتُبْ. قَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ " يَا بُنَيَّ سَمِعْتُ رَسُـولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَفِي لفْظٍ لأَحْمَدَ: "يَا بُنَيَّ إِنْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْماً نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشِقِّيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَوَاللَّهِ الذي لا إِلَهَ غَيْرُهُ! إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ ليَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا ".
وَلمُسْلمٍ عَن حُذَيْفَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَدْخُلُ المَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ ليْلَةً فيَقُولُ: يَا رَبِّ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ ؟ فَيُكْتَبَانِ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيُكْتُبَانِ. وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ، وَأَثَرُهُ وَأَجَلُهُ وَرِزْقُهُ، ثُمَّ تُكْتَبُ الصُّحُفُ فَلا يُزَادُ فِيهَا وَلا يُنْقَصُ".
وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ هَذَا التَّوْقِيتُ بِأَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ ليْلَةً، وَالتَّوْقِيتُ فِيهِ بَيَانُ أَنَّهَا قَبْلَ ذَلكَ لا يُتَعَرَّضُ لهَا وَلا يَتَعَلَّقُ بِهَا تَخْليقٌ وَلا كِتَابَةٌ فَإِذَا بَلَغَتِ الوَقْتَ المَحْدُودَ وَجَاوَزَتِ الأَرْبَعِينَ وَقَعَتْ فِي أَطْوَارِ التَّخْليقِ طَبَقاً بَعْدَ طَبَقٍ. وَوَقَعَ حِينَئِذٍ التَّقْدِيرُ وَالكِتَابَةُ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ صَرِيحٌ فِي أَنَّ وُقُوعَ ذَلكَ بَعْدَ كَوْنِهِ مُضْغَةً بَعْدَ الأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ، وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ فِيهِ أَنَّ ذَلكَ بَعْدَ الأَرْبَعِينَ وَلَمْ يُوَقِّتِ البَعْدِيَّةَ، بَلْ أَطْلَقَهَا وَوَقَّتَهَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ قَالَ أيضاً عَلَى ذَلكَ.
وَيُحْتَمَلُ وجهاً آخَرَ: وَهُوَ أَنَّ التَّقْدِيرَ وَالكِتَابَةَ تَقْدِيرَانِ وَكِتَابَتَانِ فَالأَوَّلُ مِنْهُمَا: عِنْدَ ابْتِدَاءِ تَعَلُّقِ التَّحْوِيلِ وَالتَّخْليقِ فِي النُّطْفَةِ وَهُوَ إِذَا مَضَى عَلَيْهَا أَرْبَعُونَ وَدَخَلَتْ فِي طَوْرِ العَلَقَةِ وَهَذَا أَوَّلُ تَخْلِيقَةٍ، وَالتَّقْدِيرُ الثَّانِي وَالكِتَابَةُ الثَّانِيَةُ إِذَا كَمُلَ تَصْوِيرُهُ وَتَخْليقُهُ وَتَقْدِيرُ أَعْضَائِهِ وَكَوْنُهُ ذَكَراً أَوْ أُنْثَى مِن الخَارِجِ فَيُكْتَبُ مَعَ ذَلِكَ عَمَلُهُ وَرِزْقُهُ وَأَجَلُهُ وَشَقَاوَتُهُ وَسَعَادَتُهُ فَلا تَنَافٍ بَيْنَ الحَدِيثَيْنِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ الأَوَّلُ تقديراً لِمَا يَكُونُ للنُّطْفَةِ بَعْدَ الأَرْبَعِينَ، فَيُقَدَّرُ مَعَهُ السَّعَادَةُ وَالشَّقَاوَةُ وَالرِّزْقُ وَالعَمَلُ، وَالتَّقْدِيرُ الثَّانِي تقديراً لِمَا يَكُونُ للْجَنِينِ بَعْدَ تَصْوِيرِهِ فَيُقَدَّرُ مَعَهُ ذَلكَ وَيُكْتَبُ أيضاً، وَهَذَا التَّقْدِيرُ أَخَصُّ مِن الأَوَّلِ. وَنَظِيرُ هَذَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخَلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ثُمَّ يُقَدِّرُ ليْلَةَ القَدْرِ مَا يَكُونُ فِي العَامِ لِمِثْلِهِ.
وَهَذَا أَخَصُّ مِن التَّقْدِيرِ الأَوَّلِ العَامِّ " كَمَا أَنَّ تَقْدِيرَ أَمْرِ النُّطْفَةِ وَشَأْنِهَا يَقَعُ بَعْدَ تَعَلُّقِهَا بِالرَّحِمِ وَقَدْ قَدَّرَ أَمْرَهَا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَنَظِيرُ هَذَا: رَفْعُ الأَعْمَالِ وَعَرْضُهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ عَمَلَ العَامِ يُرْفَعُ فِي شَعْبَانَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ: "إِنَّهُ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلي وَأَنَا صَائِمٌ ". وَيُعْرَضُ عَمَلُ الأُسْبُوعِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ. كَمَا ثَبَتَ ذَلكَ فِي صَحِيحِ مُسْلمٍ، وَعَمَلُ اليَوْمِ يُرْفَعُ فِي آخِرِهِ قَبْلَ اللَّيْلِ. وَعَمَلُ اللَّيْلِ فِي آخِرِهِ قَبْلَ النَّهَارِ فَهَذَا الرَّفْعُ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَخَصُّ مِن الرَّفْعِ العَامِّ، وَإِذَا انْقَضَى الأَجَلُ رُفِعَ عَمَلُ الْعُمْرِ كُلِّهِ وَطُوِيَتْ صَحِيفَةُ العَمَلِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلمٍ عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْلَ أَنْ يخَلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ" وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَةَ عَن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مرفوعاً: " لوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْراً لهُمْ مِن أَعْمَالِهِمْ " الحَدِيثَ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيه عَن رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: "يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً فَلا تَظَّالَمُوا ".
" وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي مَعْنَى هَذَا الظُّلْمِ تَنَازُعاً صَارُوا فِيهِ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، وَوَسَطٌ بَيْنَهُمَا، وَخَيْرُ الأُمُورِ أَوْسَطُهَا. فَذَهَبَ المُكَذِّبُونَ بِالقَدَرِ القَائِلُونَ بِأَنَّ اللَّهَ لمْ يخَلُقْ أَفْعَالَ العِبَادِ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَكُونَ إِلا مَا أَمَرَ بِأَنْ يَكُونَ ,وَغُلاَتُهُمُ المُكَذِّبُونَ بِتَقَدُّمِ عِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابَتِهِ بِمَا سَيَكُونُ مِن أَفْعَالِ العِبَادِ مِن المُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ ـ إِلَى أَنَّ الظُّلْمَ مِنْهُ تَعَالَى هُوَ نَظِيرُ الظُّلْمِ مِن الآدَمِيِّينَ بَعْضِهُمْ لبَعْضٍ وَشَبَّهُوهُ وَمَثَّلُوهُ فِي الأَفْعَالِ بِأَفْعَالِ العِبَادِ حَتَّى كَانُوا هُمْ مُمَثِّلَةَ الأَفْعَالِ:قَالُوا إِذَا أَمَرَ الْعَبْدَ وَلَمْ يُعِنْهُ بِجَمِيعِ مَا يَقْدِرُ بِهِ عَلَيْهِ مِن وُجُوهِ الإِعَانَةِ كَانَ ظَـالِماً لهُ، والْتَزَمُوا أَنَّهُ لا يُقَدِّرُ أَنْ يَهْدِيَ ضالاًّ كَمَا قَالُوا: إِنَّهُ لا يُقَدِّرُ أَنْ يُضِلَّ مُهْتَدِياً. وَقَالُوا: إِذَا أَمَرَ اثْنَيْنِ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ وَخَصَّ أَحَدَهُمَا بِإِعَانَتِهِ عَلَى فِعْلِ المَأْمُورِ كَانَ ظَالِماً، إِلَى أَمْثَالِ ذَلكَ مِن الأُمُورِ الَّتِي هِيَ مِن بَابِ الفَضْلِ وَالإِحْسَانِ جَعَلُوا تَرْكَهُ لهَا ظلماً. وَكَذَلكَ ظَنُّوا أَنَّ التَّعْذِيبَ لِمَنْ كَانَ فِعْلُهُ مُقَدَّراً ظُلْمٌ مِنْهُ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ التَّعْذِيبِ لمَنْ قَامَ بِهِ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ ذَلكَ، وَمَن لمْ يَقُمْ بِهِ سَبَبُهُ. وَإِنْ كَانَ ذَلكَ الاسْتِحْقَاقُ لحِكْمَةٍ أُخْرَى عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ.
فَعَارَضَ هَؤُلاءِ آخَرُونَ مِن أَهْلِ الكَلامِ المُثْبِتِينَ للْقَدَرِ وَقَالُوا: ليْسَ الظُّلْمُ مِنْهُ حَقِيقَةً يُمْكِنُ وُجُودُهَا، بَلْ هُوَ مِن الأُمُورِ المُمْتَنِعَةِ لذَاتِهَا، فَلا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْدُوراً وَلا أَنْ يُقَالُ: إِنَّهُ تَارِكٌ لهُ بِاخْتِيَارِهِ.
وَإِنَّمَا هُوَ مِن بَابِ الجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَجَعْلِ الجِسْمِ الوَاحِدِ فِي مَكَانَيْنِ وَإِلا فَهُمَا قَدَرٌ فِي الذِّهْنِ وَكَانَ وُجُودُهُ مُمْكِناً، فَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بظُلْمٍ مِنْهُ سَوَاءٌ فَعَلَهُ أَوْ لمْ يَفْعَلْهُ،وَتَلَقَّى هَذَا القَوْلَ عَن هَؤُلاءِ طَوَائِفُ مِن أَهْلِ الإِثْبَاتِ مِن الفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الحَدِيثِ مِن أَصْحَابِ مَالكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ مِن شُرَّاحِ الحَدِيثِ،وَفَسَّرُوا هَذَا الحَدِيثَ بِمَا يَنْبَنِي عَلَى هَذَا القَوْلِ.
فَقَوْلُهُ: {فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: لا يَخَافُ أَنْ يُظْلمَ فَيَحْمِلَ عَلَيْهِ سَيِّئَاتِ غَيْرِهِ،وَلا يُهْضَمَ فَيُنْقِصَهُ مِن حَسَنَاتِهِ، وَلا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الظُّلْمُ هُوَ شَيْئاً مُمتنعاً غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ فَلا يَخَافُ مَا هُوَ مُمْتَنِعٌ لذَاتِهِ خَارِجٌ عَن المُمْكِنَاتِ وَالْمَقْدُورَاتِ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا إِذَا لمْ يَكُنْ وُجُودُهُ مُمْكِناً حَتَّى يَقُولُوا: إِنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ، وَلَوْ أَرَادَهُ كَخَلْقِ المِثْلِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ وُجُودُهُ فضلاً عَن أَنْ يُتَصَوَّرَ خَوْفُهُ حَتَّى يَنْفِيَ خَوْفَهُ. ثُمَّ أَيُّ فَائِدَةٍ فِي نَفْيِ خَوْفِ هَذَا ؟ وَقَدْ عُلِمَ مِن سِيَاقِ الكَلامِ أَنَّ المَقْصُودَ بَيَانُ أَنَّ هَذَا العَامِلَ لا يُجْزَى عَلَى إِحْسَانِهِ بِالظُّلْمِ وَالهَضْمِ، فَعُلِمَ أَنَّ الظُّلْمَ وَالهَضْمَ المَنْفِيَّ يَتَعَلَّقُ بِالجَزَاءِ كَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ، وَإِنَّ اللَّهَ لا يَجْزِيهِ إِلا بِعَمَلِهِ.
وَلهَذَا كَانَ الصَّوَابُ أَنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ إِلا مَن أَذْنَبَ. وأيضاً فَالأَمْرُ الذي لا يُمْكِنُ القُدْرَةُ عَلَيْهِ لا يَصْلُحُ أَنْ يُمْدَحَ المَمْدُوحُ بِعَدَمِ إِرَادَتِهِ وَفِعْلِهِ،وَإِنَّمَا يَكُونُ المَدْحُ بِتَرْكِ الأَفْعَالِ إِذَا كَانَ المَمْدُوحُ قادراً عَلَيْهَا، فَعُلِمَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ مِن الظُّلْمِ وَأنَّهُ لا يَفْعَلُهُ وَبِذَلكَ يَصِحُّ قَوْلُهُ: "إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي ". فَلا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا هُوَ مُمْتَنِعٌ لذَاتِه فَلا يَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ: حَرَّمْتُ أَوْ مَنَعْتُ نَفْسِي مِن خَلْقِ مِثْلِي. أَوْ مِن جَعْلِ المَخْلُوقَاتِ خَالقَةً وَنَحْوِ ذَلكَ مِن المُحَالاتِ الَّتِي يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهَا ليْسَتْ مُراداً للرَّبِّ.
وَالذي قَالَهُ النَّاسُ: إِنَّ الظُّلْمَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ يَتَنَاوَلُ هَذَا المَقْدُورَ دُونَ ذَاكَ المُمْتَنِعِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: الظُّلْمُ إِضْرَارُ غَيْرِ المُسْتَحَقِّ،فَاللَّهُ لا يُعَاقِبُ أحداً بِغَيْرِ حَقٍّ، وَكَذَلكَ مَن قَالَ: هُوَ نَقْصُ الحَقِّ كَقَوْلهِ: {كِلْتَا الجَنَّتَيْنِ أَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِّنْهُ شَيْئاً} وَمَنْ قَالَ هُوَ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الغَيْرِ، فَلَيْسَ بِمُطَّرِدٍ وَلا مُنْعَكِسٍ، فَقَدْ يَتَصَرَّفُ الإِنْسَانُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِحَقٍّ وَلا يَكُونُ ظالماً.
وَقَدْ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَكُونُ ظالماً، وَظُلْمُ العَبْدِ نَفْسَهُ كَثِيرٌ فِي القُرْآنِ فَتَبَيَّنَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ: أنَّ القَوْلَ الوَسَطَ وَهُوَ الحَقُّ أَنَّ الظُّلْمَ الذي حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ مِثْلُ أَنْ يَتْرُكَ حَسَنَاتِ المُحْسِنِ فَلا يَجْزِيهِ بِهَا، وَيُعَاقِبَ البَرِيءَ عَلَى مَا لمْ يَفْعَلْهُ مِن السَّيِّئَاتِ، وَيُعَاقِبَ هَذَا بِذَنْبِ غَيْرِهِ، أَوْ يَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِغَيْرِ القِسْطِ وَنَحْوَ ذَلكَ مِن الأَفْعَالِ الَّتِي نَزَّهَ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ عَنْهَا لقِسْطِهِ وَعَدْلِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا،وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ الحَمْدَ وَالثَّنَاءَ؛ لأَنَّهُ تَرَكَ هَذَا الظُّلْمَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: "إِنِّي عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ قَوْمٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: "اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ" قَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، فَدَخَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: "اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ، إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ" قَالُوا: قَبِلْنَا جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الأَمْرِ مَا كَانَ؟ قَالَ: "كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ" الحَدِيثَ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ عُلَمَاءُ المُسْلمِينَ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَن بَعْدَهُمْ فِي أَوَّلِ هَذِهِ المَخْلُوقَاتِ هُوَ العَرْشُ أَوِ القَلَمُ، وَالأَوَّلُ أَرْجَحُ كَمَا قَالَ فِي الكَافِيَةِ الشَّافِيَةِ:
وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِي القَلَمِ الَّذِي=كُتِبَ القَضَـاءُ بِهِ مِنَ الدَّيَّانِ
هَلْ كَانَ قَبْلَ العَرْشِ أَوْ هُوَ بَعْدَهُ=قَوْلانِ عِنْدَ أَبِي العَلاَ الهَمْدَانِيِّ
وَالحَـقُّ أَنَّ العَـرْشَ قَبْـلُ لأَنَّهُ=قَبْلَ الكِتَـابَةِ كَانَ ذَا أَرْكَانِ
وَكِتَابَةُ القَلَمِ الشَّـرِيفِ تَعَقَّبَتْ=إِيجَادَهُ مِنْ غَيْرِ فَصْـلِ زَمَـانِ
لَمَّا بَرَاهُ اللَّهُ قَالَ اكْتُبْ كَـذَا=فَغَـدَا بِأَمْـرِ اللَّهِ ذَا جَـرَيَانِ
فَقَدَ " اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ هَلِ القَلَمُ أَوَّلُ المَخْلُوقَاتِ أَوِ العَرْشُ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ ذَكَرَهُمَا الحَافِظُ أَبُو العَلاءِ الْهَمْدَانِيُّ، أَصَحُّهُمَا أَنَّ العَرْشَ قَبْلَ القَلَمِ، لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدَّرَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْلَ أَنْ يخَلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ عَامٍ وَعَرْشُهُ عَلَى المَاءِ ". فَهَذَا صَرِيحٌ أَنَّ التَّقْدِيرَ وَقَعَ قَبْلَ خَلْقِ العَرْشِ، وَالتَّقْدِيرُ وَقَعَ عِنْدَ أَوَّلِ خَلْقِ القَلَمِ لحَدِيثِ عُبَادَةَ هَذَا، وَلا يَخْلُو قَوْلُهُ "إنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ القَلَمَ" إِلَى آخِرِهِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً أَوْ جُمْلَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ جُمْلَةً-وَهُوَ الصَّحِيحُ-كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ عِنْدَ أَوَّلِ خَلْقِهِ قَالَ لهُ:اكْتُبْ كَمَا فِي اللَّفْظِ: "أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ القَلَـمَ قَالَ لهُ: اكْتُبْ" بِنَصْبِ أَوَّلَ وَالقَلَمِ، وَإِنْ كَانَ جُمْلَتَيْنِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ بِرَفعِ أَوَّلُ وَالقَلَمُ فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ أَوَّلُ المَخْلُوقَاتِ مِن هَذَا العَالَمِ ليَتَّفِقَ الحَدِيثَانِ إِذْ حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو صَرِيحٌ فِي أَنَّ العَرْشَ سَابِقٌ عَلَى التَّقْدِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ مُقَارِنٌ لخَلْقِ القَلَمِ، وَفِي اللَّفْظِ الآخَرِ"لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ القَلَمَ قَالَ لهُ: اكْتُبْ ". فَهَذَا القَلَمُ أَوَّلُ الأَقْلامِ وَأَفْضَلُهَا وَأَجَلُّهَا وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن أَهْلِ التَّفْسِيرِ: إِنَّهُ القَلَمُ الذي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ.
قَوْلُهُ " وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ " يَعْنِي اللَّوْحَ المَحْفُوظَ كَمَا قَالَ: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} أَيْ مِن بَعْدِ اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، يُسَمَّى مَا يُكْتَبُ فِي الذِّكْرِ ذِكْراً كَمَا يُسَمَّى مَا يُكْتَبُ فِي الكِتَابِ كِتَاباً كَقَوْلهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} وَالنَّاسُ فِي هَذَا الحَدِيثِ عَلَى قَوْلَيْنِ، مِنْهُمْ مَن قَالَ: إِنَّ المَقْصُودَ إِخْبَارُهُ بِأَنَّ اللَّهَ كَانَ موجوداً وَحْدَهُ ثُمَّ ابْتَدَأَ إِحْدَاثَ جَمِيعِ الحَوَادِثِ فَجِنْسُهَا وَأَعْيَانُهَا مَسْبُوقَةٌ بِالعَدَمِ،وَإِنَّ جِنْسَ الزَّمَانِ حَادِثٌ لا فِي زَمَانٍ،وَجِنْسُ الحَرَكَاتِ وَالمُتَحَرِّكَاتِ حَادِثٌ وَاللَّهُ صَارَ فاعلاً بَعْدَ أَنْ لمْ يَكُنْ يَفْعَلُ شَيْئاً مِن الأَزَلِ إِلَى حِينِ الفِعْلِ وَلا كَانَ الفِعْلُ مُمكناً.
وَالقَوْلُ الثَّانِي: المُرَادُ إِخْبَارُهُ عَن مَبْدَإِ خَلْقِ هَذَا العَالَمِ المَشْهُودِ الذي خَلَقَهُ اللَّهُ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ كَمَا أَخْبَرَ القُرْآنُ بِذَلكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
دَليلُ صِحَّةِ القَوْلِ الثَّانِي مِن وُجُوهٍ:
(أَحَدُهَا) أَنَّ قَوْلَ أَهْلِ اليَمَنِ: جِئْنَاكَ لنَسْأَلَكَ عَن أَوَّلِ هَذَا الأَمْرِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى حَاضِرٍ مَشْهُودٍ، وَالأَمْرُ هُنَا بِمَعْنَى المَأْمُورِ، أَيِ: الذي كَوَّنَهُ اللَّهُ بِأَمْرِهِ،وَقَدْ أَجَابَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن بَدْءِ هَذَا العَالَمِ المَوْجُودِ لا عَن جِنْسِ المَخْلُوقَاتِ؛ لأَنَّهُمْ لمْ يَسْأَلُوهُ عَنْهُ،وَقَدْ أَخْبَرَهُمْ عَن خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ حَالَ كَوْنِ عَرْشِهِ عَلَى المَاءِ لمْ يُخْبِرْهُمْ عَن خَلْقِ العَرْشِ وَهُوَ مَخْلُوقٌ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ.
(وأيضاً ) فَإِنَّهُ قَالَ: "كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ" وَقَدْ رُوِي "مَعَهُ" وَرُوِيَ "غَيْرُهُ" وَالمَجْلِسُ كَانَ واحداً،فَعُلِمَ أَنَّهُ قَالَ أَحَدَ الأَلْفَاظِ وَالآخَرَانِ رُوِيا بِالمَعْنَى، وَلَفْظُ القَبْلِ ثَبَتَ فِي غَيْرِ هَذَا الحَدِيثِ وَحِينَئِذٍ فَالذي ثَبَتَ عَنْهُ لفَظُ القَبْلِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلمٍ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ ".
الحَدِيثَ: وَلهَذَا كَانَ أَكْثَرُ أَهْلِ الحَدِيثِ إِنَّمَا يَرْوُونَهُ بِلَفْظِ القَبْلِ كَالحُمَيْدِيِّ وَالبَغَوِيِّ وَابْنِ الأَثِيرِ وَغَيْرِهمْ،وَإِذَا كَانَ كَذَلكَ لمْ يَكُنْ فِي هَذَا اللَّفْظِ تَعْرُّضٌ لابْتِدَاءِ الحَوَادِثِ وَلا لأَوَّلِ مَخْلُوقٍ.
( وأيضاً ) فَإِنَّهُ قَالَ: كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ أَوْ مَعَهُ أَوْ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ. فَأَخْبَرَ عَن هَذِهِ الثَّلاثَةِ بِالوَاوِ " وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ " رُوِيَ بِالوَاوِ وَبِثُمَّ فَظَهَرَ أَنَّ مَقْصُودَهُ إِخْبَارُهُ إِيَّاهُمْ بِبَدْءِ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا - وَهِيَ المَخْلُوقَاتُ الَّتِي خُلِقَتْ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ لا ابْتِدَاءَ خَلْقِ مَا خَلَقَهُ قَبْلَ ذَلكَ - وَذَكَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى خَلْقِهِمَا، وَذَكَرَ مَا قَبْلَهُمَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ وَوُجُودِهِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لابْتِدَاءِ خَلْقِهِ.
(وأيضاً ) فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الحَدِيثُ قَدْ وَرَدَ بِهَذَا وَهَذَا فَلا يُجْزَمُ بِأَحَدِهِمَا إِلا بِدَليلٍ،فَإِذَا رَجَحَ أَحَدُهُمَا فَمَنْ جَزَمَ بِأَنَّ الرَّسُولَ أَرَادَ المَعْنَى الآخَرَ فَهُوَ مُخْطِئٌ قطعاً. وَلَمْ يَأْتِ فِي الكِتَابِ وَلا فِي السُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى المَعْنَى الآخَرِ،فَلا يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ بِمَا يُظَنُّ أَنَّهُ مَعْنَى الحَدِيثِ،وَلَمْ يَرِدْ كَانَ اللَّهُ وَلا شَيْءَ مَعَهُ مُجَرَّداً وَإِنَّمَا وَرَدَ عَلَى السِّيَاقِ المَذْكُورِ، وَلا يُظَنُّ أَنَّ مَعْنَاهُ: الإِخْبَارُ بِتَعْطِيلِ الرَّبِّ تَعَالَى دائماً عَن الفِعْلِ حَتَّى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ.
(وأيضاً ) فَقَوْلُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ أَوْ مَعَهُ أَوْ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ " لا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ المَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى مَوْجُودٌ وَحْدَهُ لا مَخْلُوقَ مَعَهُ أصلاً ؛ لأَنَّ قَوْلَهُ: "وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ" يَرُدُّ ذَلكَ، فَإِنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ وَهِيَ " وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ " إِمَّا حَاليَّةٌ أَوْ مَعْطُوفَةٌ، وَعَلَى كِلاَ التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ مَوْجُودٌ فِي ذَلكَ الوَقْتِ فَعُلِمَ أَنَّ المُرَادَ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِن العَالَمِ المَشْهُودِ.