الإِيمَانِ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ الإِيمَانُ بِأَنَّ القُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَأَنَّ الَّلهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً، وَأَنَّ هَذَا القُرْآنَ الذي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ كَلامُ اللَّهِ حَقِيقَةً، لا كَلامُ غَيْرِهِ. وَلا يَجُوزُ إِطْلاقُ القَوْلِ بِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَن كَلامِ اللَّهِ أَوْ عِبَارَةٌ، بَلْ إِذَا قَرَأَهُ النَّاسُ أَوْ كَتَبُوهُ فِي المَصَاحِفِ لمْ يَخْرُجْ بِذَلكَ عَن أَنْ يَكُونَ كَلامَ اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً، فَإِنَّ الكَلامَ إِنَّمَا يُضَافُ حَقِيقَةً إِلَى مَن قَالَهُ مُبْتَدِئاً، لا إِلَى مَن قَالَهُ مُبَلِّغاً مُؤدِّياً. وَهُوَ كَلامُ اللَّهِ، حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ، ليْسَ كَلامُ اللَّهِ حُرُوفَاً دُونَ المَعَانِي، وَلا المَعَانِيَ دُونَ الحُرُوفِ.
مَسْأَلَةُ الكَلامِ مِن أَكْبَرِ المَسَائِلِ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا النِّزَاعُ بَيْنَ الفِرَقِ، وَالقَوْلُ الصَّوَابُ فِيهَا مَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالحِ أَنَّ الَّلهَ لمْ يَزَلْ مُتَكلِّماً إِذَا شَاءَ، وَأَنَّ القُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.
وَمَذْهَبُ سَلَفِ الأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لهُمْ بِإِحْسَانٍ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ المُسْلمِينَ كَالأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ الذي يُوَافِقُ الأَدِلَّةَ العَقْليَّةَ الصَّرِيحَةَ، أَنَّ القُرْآنَ كَلامُ الَّلهَ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، فَهُوَ المُتَكَلِّمُ بِالقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن كَلامِهِ ليْسَ مخلوقاً منفصلاً عَنْهُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ: إِنَّ القُرْآنَ أَوِ التَّوْرَاةَ أَوِ الإِنْجِيلَ لازِمَةٌ لذَاتهِ أزلاً وأبداً، وَهُوَ لا يَقْدِرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَلا قَالُوا: إِنَّ نَفْسَ نِدَائِهِ لمُوسَى أَوْ نَفْسَ الكَلمَةِ المُعَيَّنَةِ قَدِيمَةٌ أَزَليَّةٌ، بَلْ قَالُوا: لمَ يَزَلِ اللَّهُ مُتَكلِّماً إِذَا شَاءَ وَكَلمَاتُ اللَّهِ لا نِهَايَةَ لهَا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ تَكَلَّمَ بِالقُرْآنِ العَرَبِيِّ وَبِالتَّوْرَاةِ العِبْرِيَّةِ. فَالقُرْآنُ العَرَبِيُّ كَلامُ اللَّهِ وَقَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الكِتَابَ وَالقُرْآنَ العَرَبِيَّ نَزَلَ مِن اللَّهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ: " مِنْهُ بَدَأَ ".
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ:" مِنْهُ " أَيْ هُوَ المُتَكَلِّمُ بِهِ، فَإِنَّ الذين قَالُوا: إِنَّهُ مَخْلُوقٌ قَالُوا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ فَبَدَأَ مِن ذَلكَ المَخْلُوق،ِ فَقَالَ السَّلَـفُ:" مِنْهُ بَدَأَ " أَيْ هُوَ المُتَكَلِّمُ بِهِ لمَ يخَلُقْهُ فِي غَيْرِهِ، فَيَكُونُ كلاماً لذَلكَ المَحَلِّ الذي خَلَقَهُ فِيهِ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا خَلَقَ صِفَةً مِن الصِّفَاتِ فِي مَحَلٍّ كَانَتِ الصِّفَةُ صِفَةً لذَلكَ المَحَلِّ وَلَمْ تَكُنْ صِفَةً لرَبِ العَالَمِينَ وَإِنَّمَا يَتَّصِفُ الرَّبُّ تَعَالَى بِمَا يَقُومُ بِهِ مِن الصِّفَاتِ لا بِمَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ مِن المَخْلُوقَاتِ.
وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي مُسَمَّى الكَلامِ فِي الأَصْلِ فَقِيلَ: هُوَ اسْمُ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى المَعْنَى، وَقِيلَ: المَعْنَى المَدْلُولُ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ وَقِيلَ لكُلٍّ مِنْهُمَا بِطَرِيقِ الاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ اسْمٌ عَامٌّ لهُمَا جميعاً يَتَنَاوَلُهُمَا عِنْدَ الإِطْلاقِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ التَّقْيِيدِ يُرَادُ بِهِ هَذَا تَارَةً، وَهَذَا تَارَةً.
هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الفُقَهَاءِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا القَوْلُ لا يُعْرَفُ فِي كَثِيرٍ مِن الكُتُبِ، فَتَنَازُعُهُمْ فِي مُسَمَّى النُّطْقِ كَتَنَازُعِهِمْ فِي مُسَمَّى النَّاطِق،ِ فَمَنْ سَمَّى شخصاً مُحمَّداً وَإِبْرَاهِيمَ وَقَالَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ وَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ لمْ يَكُنْ هَذَا مُحمَّداً وَإِبْرَاهِيمَ المَذْكُورَيْنِ فِي القُرْآنِ، وَلَوْ قَالَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَإِبْرَاهِيمُ خَليلُ اللَّهِ يَعْنِي بِهِ خَاتَمَ الرُّسُلِ وَخَليلَ الرَّحْمَنِ لكَانَ قَدْ تَكَلَّمَ بِمُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ اللَّذينِ فِي القُرْآنِ، لكِنْ قَدْ تَكَلَّمَ بِالاسْمِ وَأَلَّفَهُ كلاماً فَهُوَ كَلامُهُ لمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ فِي القُرْآنِ العَرَبِيِّ الذي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ، فَالحُرُوفُ الَّتِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، وَإِذَا كُتِبَتْ فِي المُصْحَفِ قِيلَ: كَلامُ اللَّهِ المَكْتُوبُ فِي المُصْحَفِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَمَّا نَفْسُ أَصْوَاتِ العِبَادَ فَمَخْلُوقَةٌ، وَالمِدَادُ مَخْلُوقٌ، وَشَكْلُ المِدَادِ مَخْلُوقٌ.
وَلهَذَا كَانَ الإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِن أَئِمَّةِ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: مَن قَالَ اللَّفْظُ بِالقُرْآنِ أَوْ لفْظِي بِالقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جَهْمِيٌّ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ مَن قَالَ: لفْظِي بِالقُرْآنِ مَخْلُوقٌ - يَعْنِي بِهِ القُرْآنَ - فَهُوَ جَهْمِيٌّ؛ لأَنَّ اللَّفْظَ يُرَادُ بِهِ مَصْدَرُ لفِظَ يَلْفِظُ لفْظاً. وَمُسَمَّى هَذَا فِعْلُ العَبْدِ، وَفِعْلُ العَبْدِ مَخْلُوقٌ، وَيُرَادُ بِاللَّفْظِ القَوْلُ الذي يَلْفِظُ بِهِ اللافِظُ وَذَلكَ كَلامُ اللَّهِ لا كَلامُ القَارِئِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَخْلُوقٌ فَقَدْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لمْ يَتَكَلَّمْ بِهَذَا القُرْآنِ وَأَنَّ هَذَا الذي يَقْرَؤُهُ المُسْلمُونَ ليْسَ هُوَ كَلامَ اللَّهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا عُلِمَ بِالاضْطِرَارِ مِن دِينِ الرَّسُولِ، وَأَمَّا صَوْتُ العَبْدِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ. وَقَدْ صَرَّحَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الصَّوْتَ المَسْمُوعَ صَوْتُ العَبْدِ وَلَمْ يَقُلْ أَحْمَدُ قَطُّ: مَن قَالَ: إِنَّ صَوْتِيَ بِالقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جَهْمِيٌّ وَإِنَّمَا قَالَ: مَن قَالَ: لفْظِي بِالقُرْآنِ.
وَالفَرْقُ بَيْنَ لفْظِ الكَلامِ وَصَوْتِ المُبَلِّغِ لهُ فَرْقٌ وَاضِحٌ، فَكُلُّ مَن بَلَّغَ كَلامَ غَيْرِهِ بِلَفْظِ ذَلكَ الرَّجُلِ فَإِنَّمَا بَلَّغَ لفْظَ ذَلكَ الغَيْرِ لا لفْظَ نَفْسِهِ، وَهُوَ إِنَّمَا بَلَّغَهُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ لا بِصَوْتِ ذَلكَ الغَيْرِ وَنَفْسِ اللَّفْظِ والتِّلاوةِ وَالقِرَاءةِ وَالكِتَابَةِ وَنَحْوِ ذَلكَ لَمَّا كَانَ يُرَادُ بِهِ المَصْدَرُ الذي هُوَ حَرَكَاتُ العِبَادِ وَمَا يَحْدُثُ عَنْهَا مِن أَصْوَاتِهِمْ وَشَكْلِ المِدَادِ، وَيُرَادُ بِهِ نَفْسُ الكَلامِ الذي يَقْرَؤُهُ التَّالي وَيَتْلُوهُ وَيَلْفِظُ بِهِ وَيَكْتُبُهُ، مَنَعَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِن إِطْلاقِ النَّفْيِ وَالإِثْبَاتِ الذي يَقْتَضِي جَعْلَ صِفَاتِ اللَّهِ مَخْلُوقَةً أَوْ جَعْلَ صِفَاتِ العِبَادِ ومِدادَهُمْ غَيْرَ مَخْلُوقٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ: نَقُولُ: القُرْآنُ كَلامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ حَيْثُ تَصَرَّفَ - أَيْ حَيْثُ تُلِيَ وَكُتِبَ وَقُرِئَ مِمَّا هُوَ فِي نَفْسِ الأَمْرِ كَلامُ اللَّهِ فَهُوَ كَلامُهُ، وَكَلامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَا كَانَ مِن صِفَاتِ العِبَادِ وَأَفْعَالهِمُ الَّتِي يَقْرَءُونَ وَيَكْتُبُونَ بِهَا كَلامَهُ كَأَصْوَاتِهِمْ ومِدادِهم فَهُوَ مَخْلُوقٌ. وَلهَذَا مَن لمْ يَهْتَدِ إِلَى هَذَا الفَرْقِ يَحَارُ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ القُرْآنَ وَاحِدٌ وَيَقْرَؤُهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَالقُرْآنُ لا يَكْثُرُ فِي نَفْسِهِ بِكَثْرَةِ قِرَاءَةِ القُرَّاءِ وَإِنَّمَا يَكْثُرُ مَا يَقْرَءُونَ بِهِ القُرْآنَ، فَمَا يَكْثُرُ وَيَحْدُثُ فِي العِبَادِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَالقُرْآنُ نَفْسُهُ لفْظُهُ وَمَعْنَاهُ الذي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ وَسَمِعَهُ جِبْرِيلُ مِن اللَّهِ وَسَمِعَهُ مُحَمَّـدٌ مِن جِبْرِيلَ وَبَلَّغَهُ مُحَمَّدٌ إِلَى النَّاسِ وَأَنْذَرَ بِهِ الأُمَمَ لقَوْلهِ تَعَالَى:{ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } ـ قُرْآنٌ وَاحِدٌ وَهُوَ كَلامٌ اللَّهِ ليْسَ بِمَخْلُوقٍ.
وَالذين قَالُوا: " إِنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ " أَرْبَعُ فِرَقٍ،فِرْقَةٌ قَالَتْ: يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ مَخْلُوقٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ، وَهُمُ المُعْتَزِلَةُ، وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ قَدِيمٍ لمْ يَزَلْ وَلا يَزَالُ، وَهُمُ السَّالمِيَّةُ والاقْتِرانِيَّةُ. وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ حَادِثٍ فِي ذَاتِهِ بَعْدَ أَنْ لم يَكُنْ، وَهُمُ الكَرَّامِيَّةُ.
وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالحَدِيثِ: لمْ يَزَلِ اللَّهُ مُتَكلِّماً بِصَوْتٍ إِذَا شَاءَ. وَالذين قَالُوا: لا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ فِرْقَتَانِ: أَصْحَابُ الفَيْضِ وَالقَائِلُونَ: إِنَّ الكَلامَ مَعْنًى قَائِمٌ بِالنَّفْسِ. وَالمَذْهَبُ الحَقُّ أَنَّ كَلامَ اللَّهِ قَدِيمُ النَّوْعِ حَادِثُ الآحَادِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلكَ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلِ التِّلاَوةُ غَيْرُ المَتْلُوِّ ؟ أَوْ هِيَ المَتْلُوُّ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالذينَ قَالُوا: التِّلاوَةُ هِيَ المَتْلُوُّ فَلَيْسَتْ حَرَكَاتُ الإِنْسَانِ عِنْدَهُمْ هِيَ التِّلاوَةُ وَإِنَّمَا أَظْهَرَتِ التِّلاوَةَ وَكَانَتْ سبباً لظُهُورِهَا وَإِلاَّ فَالتِّلاوَةُ عِنْدَهُمْ هِيَ نَفْسُ الحُرُوفِ وَالأَصْوَاتِ وَهِيَ قَدِيمَةٌ، وَالذين قَالُوا: التِّلاوَةُ غَيْرُ المَتْلُوِّ طَائِفَتَانِ:إِحْدَاهُمَا قَالَتْ: التِّلاوَةُ: هِيَ هَذِهِ الحُرُوفُ وَالأَصْوَاتُ المَسْمُوعَةُ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ، وَالمَتْلُوُّ: المَعْنَى القَائِمُ بِالنَّفْسِ وَهُوَ قَدِيمٌ. وَهَذَا قَوْلُ الأَشْعَرِيِّ.
وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ قَالُوا: التِّلاوَةُ: هِيَ قِرَاءَتُنَا وَتَلَفُّظُنَا بِالقُرْآنِ، وَالمَتْلُوُّ هُوَ القُرْآنُ العَزِيزُ المَسْمُوعُ بِالآذَانِ بِالأَدَاءِ مِن فِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ حُرُوفٌ وَكَلمَاتٌ وَسُورٌ وَآيَاتٌ تَلاهُ جَبْرَائِيلُ وَبَلَّغَهُ جَبْرَائِيلُ عَن اللَّهِ تَعَالَى كَمَا سَمِعَهُ، وَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالحَدِيثِ فَهُمْ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَا قَامَ بِالعَبْدِ وَمَا قَامَ بِالرَّبِّ، وَالقُرْآنُ عِنْدَهُمْ جَمِيعُهُ كَلامُ اللَّهِ وَحُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ، وَأَصْوَاتُ العِبَادِ وَحَرَكَاتُهُمْ وَأَدَاؤُهُمْ وَتَلَفُّظُهُمْ كُلُّ ذَلكَ مَخْلُوقٌ بَائِنٌ عَن اللَّهِ. وَأَمَّا إِنْكَارُ أَحْمَدَ عَلَى مَن قَالَ لفْظِي بِالقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَوْ قَالَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَقَصْدُهُ أَنَّ اللَّفْظَ يُرَادُ بِهِ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: المَلْفُوظُ نَفْسُهُ وَهُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ للْعَبْدِ وَلا فِعْلَ لهُ فِيهِ.
وَالثَّانِي: التَّلَفُّـظُ بِهِ وَالأَدَاءُ لهُ وَهُوَ فِعْلُ العَبْد،ِ فَإِطْلاقُ الخَلْقِ عَن اللَّفْظِ قَدْ يُوهِمُ المَعْنَى الأَوَّلَ وَهُوَ خَطَأٌ، وَإِطْلاقُ نَفْيِ الخَلْقِ عَلَيْهِ قَدْ يُوهِمُ المَعْنَى الثَّانِيَ وَهُوَ خَطَأٌ، فَمَنَعَ الإطْلاقَيْنِ، وَرُوِيَ عَن أَبِي أُمَامَةَ عَن النَّبِيِّ صَـلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا تَقَرَّبَ العِبَادُ إِلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ " - يَعْنِي القُرْآنَ. وَرُوِيَ عَن جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، وَخَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ نَحْوُ ذَلكَ. وَقَوْلُهُ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ أَيِ اللَّهُ المُتَكَلِّمُ بِالقُرْآنِ ابْتِدَاءً حَقِيقَةً وَإِلَيْهِ يَعُودُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَذَلكَ مِن أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَأَمَارَاتِهَا، وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ عَن حُذَيْفَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالا: " يُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللَّهِ ليْلاً فَيُصْبِحُ النَّاسُ وَلَيْسَ مِنْهُ آيَةٌ وَلا حَرْفٌ فِي جَوْفٍ إِلا نُسِخَتْ "،وَرُوِيَ عَن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَرْجِعَ القُرْآنُ مِن حَيْثُ جَاءَ فَيَكُونُ لهُ دَوِيٌّ حَوْلَ العَرْشِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ فَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: مَا لكَ ؟ فَيَقُولُ: مِنْكَ خَرَجْتُ وَإِلَيْك عُدْتُ، أُتْلَى فَلا يُعْمَلُ بِي عِنْدَ ذَلكَ رُفِعَ القُرْآنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَةَ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ وَالحَاكِمُ والبَيْهقيُّ وَالضِّيَاءُ عَن حُذَيْفَةَ: يَدْرُسُ الإِسْلامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ حَتَّى مَا يُدْرَى مَا صِيَامٌ وَلا صَلاةٌ وَلا صَدَقَةٌ وَلا نُسُكٌ وَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فِي ليْلَةٍ فَلا يَبْقَى فِي الأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ وَتَبْقَى طَوَائِفُ مِن النَّاسِ الشَّيْخُ الكَبِيرُ وَالعَجُوزُ يَقُولُونَ أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الكَلمَةِ فَنَحْنُ نَقُولُهَا. وَرَوَى عَبْدُ الغَنِيِّ بْنُ سُرُورٍ المَقْدِسِيُّ عَن ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالا: القُرْآنُ كَلامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ.
وَقَالَ الشَّيْخُ فِي المُنَاظَرَةِ: وَلَمَّا جَاءَتْ مَسْأَلَةُ القُرْآنِ، وَمِن الإِيمَانِ بِهِ الإِيمَانُ بِأَنَّ القُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، نَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي كَوْنِهِ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَطَلَبُوا تَفْسِيرَ ذَلكَ، فَقُلْتُ: أَمَّا هَذَا القَوْلُ فَهُوَ المَأْثُورُ الثَّابِتُ عَن السَّلَفِ مِثْلَ مَا نقلَهَ عُمَرُ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً يَقُولُونَ: اللَّهُ الخَالقُ وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ إِلا القُـرْآنَ فَإِنَّهُ كَلامُ اللَّهِ غَـيْرُ مَخْلُـوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُـودُ وَقَدْ جَمَـعَ غَـيْرُ وَاحِـدٍ مَا فِي ذَلكَ مِن الآثَارِ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ كَالحَافِظِ أَبِي الفَضْلِ بْنِ نَاصِرٍ، وَالحَافِظِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ المَقْدِسِيِّ.
وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ مِنْهُ بَدَأَ أَيْ هُوَ المُتَكَلِّمُ بِهِ وَهُوَ الذي أَنْزَلَهُ مِن لدُنْه ليْسَ كَمَا تَقُولُهُ الجَهْميَّةُ: إِنَّهُ خَلَقَهُ فِي الهَوَاءِ أَوْ غَيْرِهِ وَبَدَأَ مِن عِنْدِ غَيْرِهِ. وَأَمَّا إِلَيْهِ يَعُودُ فَإِنَّهُ يُسْرَى بِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مِن المَصَاحِفِ وَالصُّدُورِ فَلا يَبْقَى فِي الصُّدُورِ مِنْهُ كَلمَةٌ وَلا فِي المَصَاحِفِ مِنْهُ حَرْفٌ، وَوَافَقَ عَلَى ذَلكَ بَعْضُ الحَاضِرِينَ وَسَكَتَ المُنَازِعُونَ، وَخَاطَبْتُ بَعْضَهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا المَجْلسِ بِأَنْ أَرَيْتُهُ العَقِيدَةَ الَّتِي جَمَعَهَا الإِمَامُ القَادِرِيُّ وَفِيهَا أَنَّهُ كَلامُ اللَّهِ خَرَجَ مِنْهُ فَتَوَقَّفَ فِي هَذَا اللَّفْظِ فَقُلْتُ: هَكَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا تَقَرَّبَ العِبَادُ إِلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ " - يَعْنِي القُرْآنَ. وَقَالَ خَبَّابُ بْنُ الأَرَتِّ يَا هَذَا تَقَرَّبْ إِلَى اللَّهِ بِمَا اسْتَطَعْتَ فَلَنْ يُتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لمَّا قَرَأَ قُرْآنَ مُسَيْلِمَةَ الكَذَّابِ: إِنَّ هَذَا الكَلامَ لمْ يَخْرُجْ مِن (( إِل )) يَعْنِي مِن رَبٍّ.
وتَمَعَّضَ بَعْضُهُمْ مِن إِثْبَاتِ كَـوْنِ كَلامِ اللَّهِ حَقِيقَةً بَعْدَ تَسْليمِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً، ثُمَّ أَنَّهُ سَلَّمَ ذَلكَ لمَّا بُيِّنَ لهُ أَنَّ المَجَازَ يَصِحُّ نَفْيُهُ وَهَذَا لا يَصِحُّ نَفْيُهُ وَلَمَّا بُيِّنَ لهُ مِن أَنَّ أَقْوَالَ المُتَقَدِّمِينَ المَأْثُورَةَ عَنْهُمْ، وَشِعْرَ الشُّعَرَاءِ المُضَافَ إِلَيْهِمْ هُوَ كَلامُهُمْ حَقِيقَةً فَلا يَكُونُ شَبَهُ القُرْآنِ بأقلَّ مِن ذَلكَ فَوَافَقَ الجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي مَسْأَلَةِ القُرْآنِ وَأَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً وَأَنَّ القُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ حَقِيقَةً.
وَقَالَ فِي المُنَاظَرَةِ أيضاً فِي مَسْأَلَةِ الحَرْفِ وَالصَّوْتِ: هَذَا الذي يَحْكِيه كَثِيرٌ مِن النَّاسِ عَن الإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ صَوْتَ القَارِئِينَ وَمِدَادَ المَصَاحِفِ قَدِيمٌ أَزَليٌّ كَمَا نَقَلَهُ مَجْدُ الدِّينِ ابْنُ الخَطِيبِ وَغَيْرُهُ كَذِبٌ مُفْتَرًى، لمْ يُقَلْ ذَلكَ أَحْمَدُ وَلا أَحَدٌ مِن عُلَمَاءِ المُسْلمِينَ لا مِن أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَلا غَيْرِهِمْ، وَأَخْرَجْتُ كُرَّاساً قَدْ أَحْضَرْتُهُ مَعَ العَقِيدَةِ فِيهِ أَلْفَاظُ أَحْمَدَ مِمَّا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلاَّلُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ عَن الإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَا جَمَعَهُ صَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ المَرُّوذِيُّ مِن كَلامِ الإِمَامِ أَحْمَدَ وَكَلامِ أَئِمَّةِ زَمَانِهِ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ فِي أَنَّ مَن قَالَ: لفْظِي بِالقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جَهْمِيٌّ، وَمَنْ قَالَ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. قُلْتُ وَهَذَا الذي نَقَلَهُ الأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ المَقَالاتِ عَن أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَصْحَابِ الحَدِيثِ وَقَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ بِه،ِ قُلْتُ فَكَيْفَ بِمَنْ يَقُولُ: لفْظِي قَدِيمٌ ؟ فَكَيْفَ بِمَنْ يَقُولُ: صَوْتِي قَدِيمٌ، وَنُصُوصُ الإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الفَرْقِ بَيْنَ تَكَلُّمِ اللَّهِ فِي صَوْتٍ وَبَيْنَ صَوْتِ العَبْدِ كَمَا نَقَلَهُ البُخَارِيُّ صَاحِبُ الصَّحِيحِ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ العِبَادِ وَغَيْرُهُ مِن أَئِمَّةِ السُّنَّةِ، وَأَحْضَرْتُ جَوَابَ مَسْأَلَةٍ كُنْتُ سُئِلْتُ عَنْهَا قديماً فِيمَنْ حَلَفَ بِالطَّلاقِ فِي مَسْأَلَةِ الحَرْفِ وَالصَّوْتِ وَمَسْأَلَةِ الظَّاهِرِ فِي العَرْشِ فَذَكَرْتُ مِن الجَوَابِ القَدِيمِ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ وَتَفْصِيلَ القَوْلِ فِيهَا، وَأَنَّ إِطْلاقَ القَوْلِ ذأَنَّ القُرْآنَ هُوَ الحَرْفُ وَالصَّوْتُ أَوْ ليْسَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ كِلاهُمَا بِدْعَةٌ حَدَثَتْ بَعْدَ المِائَةِ الثَّالثَةِ. وَقُلْتُ هَذَا جَوَابِي وَكَانَتْ هَذِهِ المَسْأَلَةُ قَدِ أَرْسَلَ بِهَا طَائِفَةٌ مِن المُعَانِدِينَ المُتَجَهِّمَةِ مِمَّنْ كَانَ بَعْضُهُمْ حاضراً فِي المَجْلسِ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِمُ الجَوَابُ أَسْكَتَهُمْ وَكَانُوا قَدْ ظَنُّوا أَنَّهُ إِنْ أَجَبْتُ بِمَا فِي ظَنِّهِمْ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ تَقُولُهُ حَصَلَ مَقْصُودُهُمْ مِن الشَّنَاعَةِ، وَإِنْ أَجَبْتُ بِمَا يَقُولُونَهُ هُمْ حَصَلَ مَقْصُودُهُمْ مِن المُوَافَقَةِ، فَلَمَّا أُجِيبُوا بِالفُرْقَانِ الذي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَلَيْسَ هُوَ كَمَا يَقُولُونَهُ هُمْ وَلا مَا يَنْقُلُونَهُ عَن أَهْلِ السُّنَّةِ، أَوْ قَدْ يَقُولُهُ بَعْضُ الجُهَّالِ بُهِتُوا لذَلكَ وَفِيهِ أَنَّ القُرْآنَ كُلَّهُ كَلامُ اللَّهِ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ، ليْسَ القُرْآنُ اسماً لمُجَرَّدِ الحُرُوفِ، وَلا لمُجَرَّدِ المَعَانِي ا.هـ. وَلا يَجُوزُ إِطْلاقُ القَوْلِ بِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَن كَلامِ اللَّهِ كَمَا تَقُولُهُ الكُلاَّبِيَّةُ , أَوْ عِبَارَةٌ عَنْهُ كَمَا تَقُولُهُ الأَشَاعِرَةُ.
فَمَذْهَبُ الكُلاَّبِيَّةُ أَتْبَاعِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلابٍ أَنَّ القُرْآنَ مَعْنىً قَائِمٌ بِالنَّفْسِ لا يَتَعَلَّقُ بِالقُدْرَةِ وَالمَشِيئَةِ وَأَنَّهُ لازِمٌ لذَاتِ الرَّبِّ كلزُومِ الحَيَاةِ وَالعِلْمِ وَأَنَّهُ لا يُسْمَعُ عَلَى الحَقِيقَةِ , وَالحُرُوفُ وَالأَصْوَاتُ حِكَايَةٌ لهُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ، وَهُوَ أَرْبَعُ مَعَانٍ فِي نَفْسِهِ: الأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالخَبَرُ وَالاسْتِفْهَامُ، فَهِيَ أَنْوَاعٌ لذَلكَ المَعْنَى القَدِيمِ الذي لا يُسْمَعُ، وَذَلكَ المَعْنَى هُوَ المَتْلُوُّ المَقْرُوءُ وَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَالأَصْوَاتُ وَالحُرُوفُ هِيَ تِلاوَةُ العِبَادِ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ، وَهَذَا المَذْهَبُ أَوَّلُ مَن يُعْرَفُ أَنَّهُ قَالَ بِهِ ابْنُ كُلابٍ، وَبَنَاهُ عَلَى أَنَّ الكَلامَ لا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِالمُتَكَلِّمِ , وَالحُرُوفُ وَالأَصْوَاتُ حَادِثَةٌ فَلا يُمْكِنُ أَنْ تَقُومَ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى؛ لأَنَّهُ ليْسَ مَحَلاًّ للْحَوَادِثِ فَهِيَ مَخْلُوقَةٌ مُنْفَصِلَةٌ عَن الرَّبِّ، وَالقُرْآنُ اسْمٌ لذَلكَ المَعْنَى وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَذْهَبُ الأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهُ مَعْنىً وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الرَّبِّ وَهُوَ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ أَزَليَّةٌ ليْسَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ وَلا يَنْقَسِمُ وَلا لهُ أبْعَاضٌ وَلا لهُ أَجْزَاءٌ وهو عينُ الأَمْرِ وَعَيْنُ النَّهْيِ وَعَيْنُ الخَبَرِ وَعَيْنُ الاسْتِخْبَارِ الكُلُّ مَعْنىً وَاحِدٌ , وَهُوَ عَيْنُ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآنِ وَالزَّبُورِ، وَكَوْنُهُ أمْراً ونهْياً وخبَراً واستِخباراً صِفَاتٌ لذَلكَ المَعْنَى الوَاحِدِ لا أَنْوَاعٌ لهُ فَإِنَّهُ لا يَنْقَسِمُ بِنَوْعٍ وَلا جَزَاءٍ، وَكَوْنُهُ قرآناً وَتَوْرَاةً وإنجيلاً تقسيمٌ للْعِبَارَاتِ عَنْهُ لا لذَاتِهِ بَلْ إِذَا عُبِّرَ عَن ذَلكَ المَعْنَى بِالعَرَبِيَّةِ كَانَ قرآناً، وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالعِبْرَانِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالسِّرْيَانِيَّةِ كَانَ اسْمُهُ إنجيلاً وَالمَعْنَى وَاحِدٌ.
وَهَذِهِ الأَلْفَاظُ عِبَارَةٌ عَنْهُ وَلا يُسَمِّيهَا حِكَايَةً وَهِيَ خَلْقٌ مِن المَخْلُوقَاتِ وَعَنْهُ لمْ يَتَكَلَّمِ اللَّهُ بِهَذَا الكَلامِ العَرَبِيِّ وَلا سُمِعَ مِن اللَّهِ، وَعِنْدَهُ ذَلكَ المَعْنَى سُمِعَ مِن اللَّهِ حَقِيقَةً.
وَهَذَا المَذْهَبُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَسْأَلَةِ إِنْكَارِ قِيَامِ الأَفْعَالِ الاخْتِيَارِيَّةِ بِالرَّبِّ تَعَالَى وَيُسَمُّونَهَا حُلُولَ الحَوَادِثِ، وَحَقِيقَتُهَا إِنْكَارُ أَفْعَالهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ. قَوْلُهُ (( وَلَيْسَ كَلامُ اللَّهِ الحُرُوفَ دُونَ المَعَانِي )) أَيْ كَمَا يَقُولُ ذَلكَ المُعْتَزِلَةُ وَطَائِفَةٌ مِن أَهْلِ الكَلامِ الذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ مُسَمَّى القَوْلِ وَالكَلامِ عِنْدَ الإِطْلاقِ اسْمٌ للَّفْظِ فَقَطْ وَالمَعْنَى ليْسَ جُزْءَ مُسَمَّاهُ، بَلْ هُوَ مَدْلُولُ مُسَمَّاهُ. وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِن المُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ.(( وَلا المَعَانِي دُونَ الحُرُوفِ )) كَمَا هُوَ قَوْلُ مَن يَقُولُ: بِأَنَّهُ مَعْنىً وَاحِدٌ قَدِيمٌ قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ هُوَ الأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالخَبَرُ وَالاسْتِخْبَارُ إِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالعَرَبِيَّةِ كَانَ قرآناً، وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالعِبْرَانِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً،وَهَذَا قَوْلُ ابْن كُلابٍ وَمَن وَافَقَهُ كَالأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ، فَأَشَارَ المُؤَلِّفُ فِي عِبَارَتِهِ هَذِهِ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَن يَقُولُ إِنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ أَزَليَّةٌ مُجْتَمِعَةٌ فِي الأَزَلِ. وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِن أَهْلِ الكَلامِ وَأَهْلِ الحَدِيث. ذَكَرَهُ الأَشْعَرِيُّ فِي المَقَالاتِ عَن طَائِفَةٍ. وَهُوَ الذي يُذْكَرُ عَن السَّالمِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ وَكَذَلكَ أَشَارَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الكُلاَّبِيَّةِ وَالأَشْعَرِيَّةِ.
فَإِنَّ أَوَّلَ مَن عُـرِفَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ قَدِيمٌ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلاَّبٍ ثُمَّ افْتَرَقَ الذين شَارَكُوهُ فِي هَذَا القَوْلِ فَمِنْهُمْ مَن قَالَ: الكَلامُ مَعْنىً وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الرَّبِّ وَمَعْنَى القُرْآنِ كُلِّهِ وَالتَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَسَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ وَكَلامِهِ هُوَ ذَلكَ المَعْنَى الوَاحِدُ الذي لا يَتَعَدَّدُ وَلا يتبَعَّضُ، وَالقُرْآنُ العَرَبِيُّ لمْ يَتَكَلَّمِ اللَّهُ بِهِ بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ. وَقَالَ جُمْهُورُ العُقَلاءِ: هَذَا القَوْلُ مَعْلُومُ الفَسَادِ بالاضْطِرارِ فَإِنَّهُ مِن المَعْلُومِ بِصَرِيحِ العَقْلِ أَنَّ مَعْنَى آيَةَ الكُرْسِيِّ ليْسَ مَعْنَى آيَةَ الدَّيْنِ وَلا مَعْنَى { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مَعْنَى { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لهَبٍ } فَكَيْفَ بِمَعَانِي كَلامِ اللَّهِ كُلِّهِ فِي الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ وَخِطَابِهِ لمَلائِكَتِهِ وَحِسَابِهِ لعِبَادِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ؟ وَغَيْرِ ذَلكَ مِن كَلامِهِ . وَمِنْهُمْ مَن قَالَ: هُوَ حُرُوفٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَليَّةٌ لازِمَةٌ لذَاتِهِ لمْ يَزَلْ وَلا يَزَالُ مَوْصُوفاً بِهَا.
وَكِلاَ الحِزْبَيْنِ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ لمْ يَزَلْ وَلا يَزَالُ يَقُولُ: يَا نُوحُ يَا إِبْرَاهِيمُ يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِن السَّلَفِ بِهَذَيْنِ القَوْلَيْنِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِن السَّلَفِ: إِنَّ هَذَا القُرْآنَ عِبَارَةٌ عَن كَلامِ اللَّهِ وَلا حِكَايَةٌ لهُ، وَلا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ: إِنَّ لفْظِي بِالقُـرْآنِ قَدِيمٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَضْلاً عَن أَنْ يَقُولَ:إِنَّ صَوْتِي بِهِ قَدِيمٌ أَوْ غَيْرٌ مَخْلُوقٍ بَلْ كَانُوا يَقُولُونَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِن أَنَّ هَذَا القُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ وَالنَّاسُ يَقْرَءُونَهُ بِأَصْوَاتِهِمْ وَيَكْتُبُونَهُ بِمِدَادِهِمْ وَمَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ كَلامُ اللَّهِ وَكَلامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.
وَقَوْلُهُ:(وَإِنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً) فِي قَوْلهِ:(حَقِيقَةً) رَدٌّ عَلَى مَن قَالَ: إِنَّهُ مَعْنىً وَاحِدٌ قَامَ بِذَاتِ اللَّهِ لمْ يُسْمَعْ مِنْهُ وَإِنَّمَا هُوَ الكَلامُ النَّفْسَانِيُّ؛ لأَنَّهُ لا يُقَالُ لمَنْ قَامَ بِهِ الكَلامُ النَّفْسَانِيُّ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ: إنَّ هَذَا كَلامُ الحَقِيقَةِ , وَإِلا لزِمَ أَنْ يَكُونَ الأَخْرَسُ مُتَكلِّماً، وَلَزِمَ أَنْ لا يَكُونَ الذي فِي الصُّحُفِ عِنْدَ الإِطْلاَقِ هُوَ القُرْآنَ وَلا كَلامَ اللَّهِ , وَلَكِنْ عِبَارَةٌ عَنْهُ ليْسَتْ هِيَ كَلامُ اللَّهِ كَمَا لوْ أَشَارَ أَخْرَسٌ إِلَى شَخْصٍ بِإِشَارَةٍ فَهِمَ بِهَا مَقْصُودَهَ فَكَتَبَ ذَلكَ الشَّخْصُ عِبَارَتَهُ عَن المَعْنَى الذي أَوْحَاهُ إِلَيْهِ ذَلكَ الأَخْرَسُ فَالمَكْتُوبُ هِيَ عِبَارَةُ ذَلكَ الشَّخْصِ عَن ذَلكَ المَعْنَى. وَهَذَا المَثَلُ مُطَابِقٌ غَايَةَ المُطَابَقَةِ لمَا يَقُولُونَهُ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لا يُسَمِّيه أَحَدٌ أَخْرَسَ لكِنْ عِنْدَهُمْ أَنَّ المَلَكَ فَهِمَ مِنْهُ مَعْنًى قائماً بِنَفْسِهِ لمْ يَسْمَعْ مِنْهُ حَرْفاً وَلا صَوْتاً بَلْ فَهِمَ مَعْنًى مُجَرَّداً ثُمَّ عَبَّرَ عَنْهُ فَهُوَ الذي أَحْدَثَ نَظْمَ القُرْآنِ وَتَأْليفَهُ العَرَبِيَّ وَأنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي بَعْضِ الأَجْسَامِ كَالهَوَاءِ الذي هُوَ دُونَ المَلَكِ هَذِهِ العِبَارَةَ، وَيُقَالُ لمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ: هَلْ سَمِعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ جَمِيعَ المَعْنَى أَوْ بَعْضَهُ ؟ فَإِنْ قَالَ: سَمِعَهُ كُلَّهُ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ سَمِعَ جَمِيعَ كَلامِ اللَّهِ، وَفَسَادُ هَذَا ظَاهِرٌ، وَإِنْ قَالَ: بَعْضَهُ فَقَدْ قَالَ بِتبَعُّضٍ. وَكَذَلكَ كُلُّ مَن كَلَّمَهُ اللَّهُ أَوْ أَنْزَلَ إِلَيْهِ شَيْئاً مِن كَلامِهِ. وَأَمَّا مَن قَالَ: إِنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ الأَخْطَلِ:
إِنَّ الكَلامَ لفِي الفُؤَادِ وَإِنَّمَا=جُعِلَ اللسَانُ عَلَى الفُؤَادِ دَليلاً
فَاسْتِدْلالٌ فَاسِدٌ. وَلَوْ اسْتَدَلَّ مُسْتَدِلٌّ بِحَدِيثٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ لقَالُوا هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ وَيَكُونُ مِمَّا اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى تَصْدِيقِهِ وَتَلَقِّيهِ بِالقَبُولِ وَالعَمَلِ بِهِ فَكَيْفَ وَهَذَا البَيْتُ قَدْ قِيلَ:إِنَّهُ مَوْضُوعٌ مَنْسُوبٌ إِلَى الأَخْطَلِ وَلَيْسَ هُوَ فِي دِيوَانِهِ وَقِيلَ إِنَّمَا قَالَ: إِنَّ البَيَانَ لفِي الفُؤَادِ , وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الصِّحَّةِ وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ عَنْهُ فَلا يَجُوزُ الاسْتِدْلالُ بِهِ فَإِنَّ النَّصَارَى قَدْ ضَلُّوا فِي مَعْنَى الكَلامِ وَزَعَمُوا أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ نَفْسُ كَلمَةِ اللَّهِ وَاتَّحَدَ اللاهُوتُ بِالنَّاسُوتِ أَيْ: شَيْءٌ مِن الإِلَهِ بِشَيْءٍ مِن النَّاسِ. أَفَيُسْتَدَلُّ بِقَوْلِ نَصْرَانِيٍّ قَدْ ضَلَّ فِي مَعْنَى الكَلامِ عَلَى مَعْنَى الكَلامِ وَيُتْرَكُ مَا يُعْلَمُ مِن مَعْنَى الكَلامِ فِي لُغَةِ العَرَبِ. وَأيضاً فَمَعْنَاهُ غَيْرُ صَحِيحٍ إِذْ لازَمَهُ أَنَّ الأَخْرَسَ يُسَمَّى مُتَكلِّماً لقِيَامِ كَلامِهِ بِقَلْبِهِ وَإِنْ لمْ يَنْطِقْ بِهِ وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ. وَيَرُدُّ قَوْلَ مَن قَالَ: إِنَّ الكَلامَ هُوَ المَعْنَى القَائِمُ بِالنَّفْسِ، قَـوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ صَلاَتَنَا هَذِهِ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِن كَلامِ النَّاسِ".وَقَالَ:"إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِن أَمْـرِهِ مَا يَشَـاءُ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لا تَكلَّمَوا فِي الصَّلاةِ".
وَاتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ المُصَلِّيَ إِذَا تَكَلَّمَ فِي الصَّلاةِ عَامِداً لغَيْرِ مَصْلَحَتِهَا بَطَلَتْ صَلاتُهُ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَا يَقُومُ بِالقَلْبِ مِن تَصْدِيقٍ بِأُمُورٍ دُنْيَوِيَّةٍ وَطَلَبٍ لا يُبْطِلُ الصَّلاةَ وَإِنَّمَا يُبْطِلُهَا التَكلُّمُ بِذَلكَ، فَعُلِمَ اتِّفَاقُ المُسْلمِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا ليْسَ بِكَلامٍ، وأَيْضاً فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ مَا لمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ ، فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ عَفَى عَن حَدِيثِ النَّفْسِ إِلا أَنْ تَتَكَلَّمَ، فَفَرْقٌ بَيْنَ حَدِيثِ النَّفْسِ وَبَيْنَ الكَلامِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لا يُؤَاخَذُ بِهِ حَتَّى تَتَكَلَّمَ بِهِ وَالمُرَادُ حَتَّى يَنْطِقَ بِهِ اللسَانُ بِاتِّفَاقِ العُلَمَاءِ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا هُوَ الكَلامُ فِي اللُّغَةِ؛ لأَنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا خَاطَبَنَا بِلُغَةِ العَرَبِ. وأيضاً فِي السُّنَنِ أَنَّ مُعاذاً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ" وَإِنَّا لمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فَقَالَ: وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ." فَبَيَّنَ أَنَّ الكَلامَ إِنَّمَا هُوَ بِاللِّسَانِ، فَلَفْظُ القَوْلِ وَالكَلامِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُمَا مِن فِعْلٍ مَاضٍ وَمُضَارِعٍ وَأَمْرٍ وَاسْمِ فَاعِلٍ إِنَّمَا يُعْرَفُ فِي القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَسَائِرِ كَلامِ العَرَبِ إِذَا كَانَ لفظاً وَمَعْنًى. وَلَمْ يَكُنْ فِي مُسَمَّى الكَلامِ نِزَاعٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لهُمْ بِإِحْسَانٍ وَإِنَّمَا حَصَلَ النِّزَاعُ بَيْنَ المُتَأَخِّرِينَ مِن عُلَمَاءِ أَهْلِ البِدَعِ ثُمَّ انْتَشَرَ. وَلا رَيْبَ أَنَّ مُسَمَّى الكلامِ والقولِ ونَحوِهما ليسَ هو مِمَا يُحتاجُ فيه إلَى قولِ شاعرٍ فإنَّ هذا مِمَّا تَكَلَّمَ بِهِ الأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ مِن أَهْلِ اللُّغَةِ وَعَرَفُوا مَعْنَاهُ كَمَا عَرَفُوا مُسَمَّى الرَّأْسِ وَاليَدِ وَالرِّجْلِ وَنَحْوَ ذَلكَ
وَقَدْ دَخَلَ أَيضاً فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِن الإِيمَانِ بِهِ وَبِكُتُبِهِ وَبِمَلائِكَتِهِ وَبِرُسُلهِ الإِيمَانُ بِأَنَّ المُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عِياناً بِأَبْصَارِهِمْ كَمَا يَرَوْنَ الشَّمْسَ صَحْواً ليْسَ دونها سَحَابٌ، وَكَمَا يَرَوْنَ القَمَرَ ليْلَةَ البَدْرِ لا يُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، يَرَوْنَهُ سُبْحَانَهُ وَهُمْ فِي عَرَصَاتِ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَرَوْنَهُ بَعْدَ دُخُولِ الجَنَّةِ كَمَا يَشَاءُ اللَّهُ تَعَالَى.
رُؤْيَةُ المُؤْمِنِينَ اللَّهَ فِي الآخِرَةِ أَفْضَلُ نَعِيمِ أَهْلِ الجَنَّةِ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ وَقَدْ ذُكِرَتْ فِي الكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَأَخْبَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ وَذَلكَ لِمَا تَلَقّوهُ مِن الوحْيِ الذي يَنْزِلُ بِهِ الرَّسُولُ مِن المَلائِكَةِ عَلَى الرَّسُولِ البَشَرِيِّ، وَمِن ثَمَّ كَانَ الإِيمَانُ بِهَا مِن جُمْلَةِ الإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. وَالمُنْكِرُ للرُّؤْيَةِ مُكَذِّبٌ بِهَذَا كُلِّهِ.
وَالإِيمَانُ بِالرُّسُلِ يَلْزَمُ مِنْهُ الإِيمَانُ بِجَمِيعِ مَاٍ أَخْبَرُوا بِهِ مِن المَلائِكَةِ وَالأَنْبِيَاءِ وَالكِتَابِ وَالبَعْثِ وَالقَدَرِ وَغَيْرِ ذَلكَ مِن تَفَاصِيلِ مَا أَخْبَرُوا بِهِ وَغَيْرِ ذَلكَ مِن صِفَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِ اليَوْمِ الآخِرِ كَالصِّرَاطِ وَالمِيزَانِ وَالجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالرُّؤْيَةِ وَغَيْرِهَا.
قَوْلُهُ: "عياناً بِأَبْصَارِهِمْ " أَي: رُؤْيَةً بِالعَيْنِ حَقِيقَةً، رُؤْيَةٌ لا شَكَّ فِيهَا وَلا امْتِرَاءَ وَلا يَحْصُلُ فِيهَا مَشَقَّةٌ وَلا نَصَبٌ.
قَوْلُهُ: " وَهُمْ فِي عَرَصَاتِ القِيَامَةِ " وَهِيَ كُلُّ مَوْضِعٍ وَاسِعٍ لا بِنَاءَ فِيهِ قَالَهُ ابْنُ الأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ. وَعَرْصَةُ الدَّارِ وَسَطُهَا وَقِيلَ مَا لا بِنَاءَ فِيهِ. سُمِّيَتْ بِذَلكَ لاعْتِرَاصِ الصِّبْيَانِ فِيهَا (لِعْبُهُمْ) وَالعَرْصَةُ: كُلُّ بُقْعَةٍ بَيْنَ الدُّورِ وَاسِعَةٍ ليْسَ فِيهَا بِنَاءٌ قَالَ مَالك بْن الرَّيْبِ:
تَحَمَّلَ أَصْحَابِي عِشَاءً وَغَادَرُوا=أَخَا ثِقَةٍ فِي عَرْصَةِ الدَّارِ ثَاوِياً
وَعَرَصَاتُ القِيَامَةِ مَوَاقِفُ الحِسَابِ وَالعَرْضِ.
فَيَرَى المُؤْمِنُونَ اللَّهَ فِي المَوْقِفِ وَبَعْدَ دُخُولِ الجَنَّةِ وَمَا شَاءَ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ " وَهَذَا الحَدِيثُ مَنْقُولٌ مِن طُرُقٍ كَثِيرَةٍ وَهُوَ مُسْتَفِيضٌ، بَلْ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ وَالحَدِيثِ اتَّفَقُوا عَلَى صِحَّتِهِ مَعَ أَنَّهُ جَاءَ مِن وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ قَدْ جَمَعَ طُرُقَهَا أَهْلُ العِلْمِ بِالحَدِيثِ كَأَبِي الحَسَنِ الدَّارَ قُطْنِيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ الأَصْبَهَانِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الآجُرِّيِّ وَغَيْرِهِمْ.
وَالجَنَّةُ فِي اللُّغَةِ البُسْتَانُ، وَالمُرَادُ بِالجَنَّةِ هُنَا: الدَّارُ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ لأَوْليَائِهِ وَفِيهَا مَا لا يَخْطُرُ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ مِن أَصْنَافِ النَّعِيمِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ الجَنَّةُ ليْسَتْ اسماً لمُجَرَّدِ الأَشْجَارِ وَالفَوَاكِهِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالحُورِ العِينِ وَالأَنْهَارِ وَالقُصُورِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَغْلَطُونَ فِي مُسَمَّى (الجَنَّةِ ) فَإِنَّ الجَنَّةَ اسْمٌ لدَارِ النَّعِيمِ المُطْلَقِ الكَامِلِ.
ومِنْ أَعْظَمِ نَعِيمِ الجَنَّةِ التَّمَتُّعُ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الكَرِيمِ وَسَمَاعُ كَلامِهِ، وَقُرَّةُ العَيْنِ بِالقُرْبِ مِنْهُ وَبِرِضْوَانِهِ فَلا نِسْبَةَ للَذَّةٍ مَا فِيهَا مِن المَأْكُولِ وَالمَشْرُوبِ وَالمَلْبُوسِ وَالقُصُورِ إِلَى هَذِهِ اللَّذَّةِ أبداً، فَأَيْسَرُ يَسِيرٍ مِن رِضْوَانِهِ أَكْبَرُ مِن الجِنَانِ وَمَا فِيهَا مِن ذَلكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ) وَأَتَى بِهِ مُنَكَّراً فِي سِيَاقِ الإِثْبَاتِ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ كَانَ مِن رِضَاهُ عَن عَبْدِهِ فَهُوَ أَكْبَرُ مِن الجَنَّةِ.
وَفِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ الرُّؤْيَةِ: " فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ شَيْئاً أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِن النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ ". وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: " إِنَّهُ سُبْحَانَهُ إِذَا تَجَلَّى وَرَأَوْا وَجْهَهُ عِيَاناً نَسَوْا مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ وَذَهَلُوا عَنْهُ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ". وَلا رَيْبَ أَنَّ الأَمَرَ هَكَذَا وَهُوَ أَجَلُّ مِمَّا يَخْطُرُ بِالبَالِ أَوْ يَدُورُ فِي الخَيَالِ.
وَعَنْ عَمَّارٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: " وَأَسْأَلُكَ لذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْق إِلَى لقَائِكَ " فَقَدْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ أَنَّهُ لمْ يُعْطَ أَهْلُ الجَنَّةِ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِن النَّظَرِ إِلَيْهِ وَسُنَّ أَنْ يُدْعَى بِلَذَّةِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الكَرِيمِ وَأَهْلُ الجَنَّةِ قَدْ تَنَعَّمُوا مِن أَنواعِ النَّعِيمِ بِالمَخْلُوقَاتِ بِمَا هُوَ غَايَةُ النَّعِيمِ، فَلَمَّا كَانَ نَظَرُهُمْ إِلَيْهِ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِن كُلِّ أَنْوَاعِ النَّعِيمِ عُلِمَ أَنَّ لذَّةَ النَّظَرِ إِلَيْهِ أَعْظَمُ عِنْدَ أَهْلِ الجَنَّةِ مِن جَمِيعِ أَنْوَاعِ اللَّذَّاتِ. وَالجَنَّةُ فِيهَا مَا تَشْتَهِي النَّفْسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ فَمَا لذَّتْ أَعْيُنُهُمْ بِأَعْظَمَ مِن لذَّتِهَا بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، وَاللَّذَّةُ تَحْصُلُ بِإِدْرَاكِ المَحْبُوبِ فَلَوْ لمْ يَكُنْ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِن كُلِّ شيءٍ مَا كَانَ النَّظَرُ إِلَيْهِ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَكَانَتْ لذَّتُهُ أَعْظَمَ مِنْ كُلِّ لذَّةٍٍ. وَاللَّهُ تَعَالَى وَعَدَ عِبَادَهُ بِالجَنَّةِ وَهِيَ اسْمٌ لِدَارٍ فِيهَا جَمِيعُ أَنْوَاعِ اللَّذَّاتِ المُتَعَلِّقَةِ بِالمَخْلُوقِ وَبِالخَالقِ كَمَا أَنَّ اسْمَ النَّارِ اسْمٌ لِدَارٍ فِيهَا جَمِيعُ أَنْوَاعِ الآلامِ لكِنْ غَلِطَ مَن ظَنَّ أَنَّ التَّنَعُّمَ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ ليْسَ مِن نَعِيمِ أَهْلِ الجَنَّةِ وَصَارَ هَؤُلاءِ حِزْبَيْنِ: حِزْباً أَنْكَرُوا التَّنْعِيمَ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ وَهُمُ المُنْكِرُونَ للْمَحَبَّةِ حَتَّى قَالَ أَبُو المَعَالِي وَنَحْوُهُ مِمَّنْ يُنْكِرُ مَحَبَّتَهُ: إنَّهُمْ إِذَا رَأَوْهُ لمْ يَلْتَذُّوا بِنَفْسِ النَّظَرِ بَلْ يَخَلُقُ لهُمْ لذَّةً بِبَعْضِ المَخْلُوقَاتِ مَعَ النَّظَرِ. وَكَذَلكَ مَن شَارَكَهُمْ فِي التَّجَهُّمِ مِن أَهْلِ الوَحْدَةِ كَابْنِ عَرَبِيٍّ قَالَ: مَا التَذَّ عَارِفٌ بِمُشَاهَدَةٍ قَطُّ.
وَادَّعَى أَبُو المُعَالِي أَنَّ إِنْكَارَ مَحَبَّتِهِ مِن أَسْرَارِ التَّوْحِيدِ، وَهُوَ مِن أَسْرَارِ تَوْحِيدِ الجَهْمِيِّةِ المُعَطِّلَةِ المُبْدِّلَةِ وَحُكِيَ عَن ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّهُ سَمِعَ رجلاً يَقُولُ: أَسْأَلُكَ لذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ الكَرِيمِ فَقَالَ لهُ: هَبْ أَنَّ لهُ وجهاً أَلَهُ وَجْهٌ يُلْتَذُّ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ ؟
وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى هَذَا الأَصْلِ فَإِنَّهُ وَشَيْخَهُ أَبَا يَعْلَى وَنَحْوَهُمَا وَافَقُوا الجَهْمِيَّةَ فِي إِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مَحْبُوباً وَاتَّبَعُوا فِي ذَلكَ قَوْلَ أَبِي بَكْرِ بْنِ البَاقِلاَّنِيِّ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ يُنْكِرُ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَجَعَلَ القَوْلَ بِإِثْبَاتِهَا قَوْلَ الحُلُوليَّةِ.
وَالجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ طَائِفَةً مِن الصُّوفِيَّةِ وَالعُبَّادِ شَارَكُوا هَؤُلاءِ فِي أَنَّ مُسَمَّى الجَنَّةِ لا يَدْخُلُ فِيهِ النَّظَرُ إِلَى اللَّهِ وَهَؤُلاءِ لهُمْ نَصِيبٌ مِن مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّلَذُّذِ بِعِبَادَتِهِ وَعِنْدَهُمْ نَصِيبٌ مِن الخَوْفِ وَالشَّوْقِ وَالغَرَامِ فَلَمَّا ظَنُّوا أَنَّ الجَنَّةَ لا يَدْخُلُ فِيهَا النَّظَرُ إِلَيْهِ صَارُوا يَسْتَخِفُّونَ بِمُسَمَّى الجَنَّةِ وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: مَا عَبَدْتُكَ شَوْقاً إِلَى جَنَّتِكَ وَلا خَوْفاً مِن نَارِكَ وَهُمْ غَلِطُوا مِن وَجْهَيْنِ.
(أَحَدهمَا): أَنَّ مَا يَطْلُبُونَهُ مِن النَّظَرِ إِلَيْهِ وَالتَّمَتُّعِ بِذِكْرِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ كُلُّ ذَلكَ فِي الجَنَّةِ.
(الثَّانِي): أَنَّ الوَاحِدَ مِن هَؤُلاءِ لوْ جَاعَ فِي الدُّنْيَا أَيَّاماً أَوْ أُلْقِيَ فِي بَعْضِ عَذَابِهَا طَارَ قَلْبُهُ وَخَرَجَ مِن قَلْبِهِ كُلُّ مَحَبَّةٍ، فَاعِلاً نَعِيمَ أَهْلِ الجَنَّةِ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الكَرِيمِ.
وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي قَصِيدَتِهِ فِي السُّنَّةِ:
وَقُلْ يَتَجَلَّى اللَّهُ للْخَلْقِ جَهْرَةً=كَمَا البَدْرُ لا يَخْفَى وَرَبُّكَ أَوْضَحُ
وَقَدْ يُنْكِرُ الجَهْمِيُّ هَذَا وَعِنْدَنَا=بِمِصْدَاقِ مَا قُلْنَا حَدِيثٌ مُصَرِّحُ
رَوَاهُ جَرِيرٌ عَن مَقَالِ مُحَمَّـدٍ فَقُلْ=مِثْلَ مَا قد قَالَ فِي ذَاكَ تَنْجَحُ
وَفِي السُّنَنِ مِن حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عبدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَمَا أَهَّلُ الجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لهُمْ نُورٌ فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ تَعَالَى قَد أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الجَنَّةِ قَالَ: وَذَلكَ قَوْله تَعَالَى:{ سَلامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } قَالَ: فَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَلا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ، وَيَبْقَى نُورُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمْ ".
وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مرفوعاً: " إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً مَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ أَلْفَ سَنَةٍ وَإِنَّ أَفْضَلَهُمْ مَنْزِلَةً لمَنْ يَنْظُرُ فِي وَجْهِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ ".
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاقُوهُ } وَقَالَ:{ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ } وَقَالَ:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُو رَبِّهِمْ }. وَأَجْمَعَ أَهْلُ اللِّسَانِ عَلَى أَنَّ اللِّقَاءَ مَتَى نُسِبَ إِلَى الحَيِّ السَّليمِ مِن العَمَى المَانِعِ اقْتَضَى الرُّؤْيَةَ , وَلا يَنْتَقِضُ هَذَا بِقَوْلهِ تَعَالَى:{ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } فَقَدْ دَلَّتِ الأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ عَلَى أَنَّ المُنَافِقِينَ يَرَوْنَهُ تَعَالَى فِي عَرَصَاتِ القِيَامَةِ، بَلْ وَالكُفَّارُ أيضاً كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ التَّجَلِّي يَوْمَ القِيَامَةِ، وَفِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ لأَهْلِ السُّنَّةِ.
(أَحَدُهَا) أَنَّهُ لا يَرَاهُ إِلا المُؤْمِنُونَ.
(وَالثَّانِي): يَرَاهُ جَمِيعُ أَهْلِ المَوْقِفِ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ ، ثُمَّ يَحْتَجِبُ عَن الكُفَّارِ فَلا يَرَوْنَهُ بَعْدَ ذَلكَ.
(وَالثَّالث): يَرَاهُ المُنَافِقُونَ دُونَ الكُفَّارِ . وَالأَقْوَالُ الثَّلاثَةُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَهِيَ لأَصْحَابِهِ، وَكَذَلكَ الأَقْوَالُ الثَّلاثَةُ هِيَ بِعَيْنِهَا لهُمْ فِي تَكْليمِهِ لهُمْ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ بْنُ بَطَّةَ: سَمِعْتُ أَبَا أَحْمَدَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الوَاحِدِ صَاحِبَ اللُّغَةِ يَقُولُ، سَمِعْتُ أَبَا العَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنَ يَحْيَى ثَعْلَباً يَقُولُ فِي قَوْلهِ تَعَالَى:{ وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيماً * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ }: أَجْمَعَ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ اللِّقَاءَ هَهُنَا لا يَكُونُ إِلا مُعَايَنَةً وَنَظَراً بالأَبْصَارِ، وَحَسْبُكَ بِهَذَا الإِسْنَادِ صِحَّةً , وَاللِّقَاءُ ثَابِتٌ بِنَصِّ القُـرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ وَبِالمُتَوَاتِرِ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُلُّ أَحَادِيثِ اللِّقَاءِ صَحِيحَةٌ كَحَدِيثِ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ حَدِيثِ بِئْرِ مَعُونَةَ:" إِنَّا قَدْ لقِيَنَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا " وَحَدِيثِ عُبَادَةَ وَعَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ: " مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لقَاءَهُ " وَحَدِيثِ أَنَسٍ:" فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ".
وَحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: " لوْ لقِيتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لقِيتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئاً لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً ". وَحَدِيثِ أَبِي مُوسَى" مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً دَخَلَ الجَنَّةَ" وَغَيْرِ ذَلكَ مِن أَحَادِيثِ اللِّقَاءِ الَّتِي اطَّرَدَتْ كُلُّهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَأَهْلُ الحَقِّ عَلَى إِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ.
والجَهْمِيِّةُ وَالمُعْتَزِلَةُ وَالخَوَارِجُ وَطَائِفَةٌ مِن غَيْرِ الإماميَّةِ تُنْكِرُهَا. وَالإمَامِيَّةُ لهُمْ فِيهَا قَوْلان: فَجُمْهُورُ قُدَمَائِهِمْ يُثْبِتُونَ الرُّؤْيَةَ، وَجُمْهُورُ مُتَأَخَّرِيهِمْ يَنْفُونَهَا.
وَأَمَّا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَأَئِمَّةُ الإِسْلامِ المَعْرُوفُونَ بِالإِمَامَةِ فِي الدِّينِ كَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ والأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسِحَاقَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَمْثَالِ هَؤُلاءِ وَسَائِرُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالحَدِيثِ وَالطَّوَائِفِ المُنْتَسِبِينَ للسُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ كَالْكُلّاَبِيَّةِ وَالكَرَّامِيَّةِ وَالأَشْعَرِيَّةِ وَالسَّالمِيَّةِ وَغَيْرِهمْ فَهَؤُلاءِ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى إِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ للَّهِ تَعَالَى ، وَالأَحَادِيثُ مُتَوَاتِرَةٌ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ بِحَدِيثِهِ. وَأَمَّا احْتِجَاجُ النُّفَاةِ بِقَوْلهِ تَعَالَى " لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ " فَالآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لا لهُمْ ؛ لأَنَّ الإِدْرَاكَ إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ مُطْلَقُ الرُّؤْيَةِ أَوِ الرُّؤْيَةُ المُقَيَّدَةُ بِالإِحَاطَةِ، وَالأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لأَنَّهُ ليْسَ كُلٌّ مَن رَأَى شَيْئاً يُقَالُ أدْرَكَهُ كَمَا لا يُقَالُ: أَحَاطَ بِهِ، كَمَا سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رِضَى اللَّه عَنْهُمَا عَن ذَلكَ فَقَالَ: أَلسْتَ تَرَى السَّمَاءَ ؟ قَالَ: بَلَى قَالَ أكُلَّهَا تَرَى ؟ قَالَ لا.
وَمَن رَأَى جَوَانِبَ الجَيْشِ أَوِ الجَبَلِ أَوِ البُسْتَانِ أَوِ المَدِينَةِ لا يُقَالُ: إِنَّهُ أَدْرَكَهَا، وَإِنَّمَا يُقَالُ: أَدْرَكَهَا إِذَا أَحَاطَ بِهَا رُؤْيَةً. وَنَحْنُ فِي هَذَا المَقَامِ ليْسَ عَلَيْنَا بَيَانُ ذَلكَ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا بَيَاناً لِسَنَدِ المَنْعِ المُسْتَدَلِّ بِالآيَةِ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الإِدْرَاكَ فِي لُغَةِ العَرَبِ مُرَادِفٌ للرُّؤْيَةِ، وَأَنَّ كُلَّ مَن رَأَى شَيْئاً يُقَالُ فِي لُغَتِهِمْ: إِنَّهُ أَدْرَكَهُ. وَهَذَا لا سَبِيلَ إِلَيْهِ، كَيْفَ وَبَيْنَ لفْظِ الرُّؤْيَةِ وَلَفْظِ الإِدْرَاكِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، فَقَدْ تَقَعُ رُؤْيَةٌ بِلا إِدْرَاكٍ، وَقَدْ يَقَعُ إِدْرَاكٌ بِلا رُؤْيَةٍ، أَوِ اشْتِرَاكٌ لفْظِيٌّ، وَإِنَّ الإِدْرَاكَ يُسْتَعْمَلُ فِي إِدْرَاكِ العِلْمِ وَإِدْرَاكِ القُدْرَةِ، فَقَدْ يُدْرَكُ الشَّيْءُ بِالقُدْرَةِ وَإِنْ لَمْ يُشَاهَدْ كَالأَعْمَى الذي طَلَبَ رجلاً هارباً فَأَدْرَكَهُ وَلَمْ يَرَهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالى: " فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ" فَنَفَى مُوسَى الإِدْرَاكَ مَعَ إِثْبَاتِ التَّرَائِي فَعُلِمَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ رُؤْيَةٌ بِلا إِدْرَاكٍ، وَالإِدْرَاكُ هُنَا هُوَ إِدْرَاكُ القُدْرَةِ، أَيْ مُلْحَقُونَ مُحَاطٌ بِنَا، وَإِذَا انْتَفَى هَذَا الإِدْرَاكُ فَقَدْ تَنْتَفِي إِحَاطَةُ البَصَرِ أيضاً، وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الآيَةَ يَمْدَحُ بِهَا نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ لا يُرَى ليْسَ صِفَةَ مَدْحٍ ؛ لأَنَّ النَّفْيَ المَحْضَ لا يَكُونُ مدحاً إِنْ لمْ يَتَضَمَّنْ أمراً ثُبُوتِيّاً؛ لأَنَّ المَعْدُومَ أيضاً لا يُرَى، وَالمَعْدُومُ لا يُمْدَحُ، فَعُلِمَ أَنَّ مُجَرَّدَ نَفْيِ الرُّؤْيَةِ لا مَدْحَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ المَنْفِيُّ هُوَ الإدراكَ فَهُوَ سُبْحَانَهُ لا يُحَاطُ بِهِ رُؤْيَةً كَمَا لا يُحَاطُ بِهِ عِلْماً، وَلا يَلْزَمُ مِن نَفْيِ إِحَاطَةِ العِلْمِ وَالرُّؤْيَةِ نَفْيُ الرُّؤْيَةِ، بَلْ يَكُونُ ذَلكَ دَلِيلاً عَلَى أَنَّهُ يُرَى وَلا يُحَاطُ بِهِ، فَإِنَّ تَخْصِيصَ الإِحَاطَةِ يَقْتَضِي أَنَّ مُطْلَقَ الرُّؤْيَةِ ليْسَ بِمَنْفِيٍّ، وَهَذَا الجَوَابُ قَوْلُ أَكْثَرِ العُلَمَاءِ مِن السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَاهُ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرِهِ، فَلا تَحْتَاجُ الآيَةُ إِلَى تَخْصِيصٍ وَلا خُرُوجٍ عَن ظَاهِرِ الآيَةِ، فَلا نَحْتَاجُ أَنْ نَقُولَ: لا نَرَاهُ فِي الدُّنْيَا أَوْ نَقُولُ: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ بَل المُبْصِرُونَ، أَوْ لا يُدْرِكُهُ كُلُّهَا بَلْ بَعْضُهَا، وَنَحْوَ ذَلكَ مِن الأَقْوَالِ الَّتِي فِيهَا تَكَلُّفٌ.
فَهَذِهِ الآيَةُ هِيَ عَلَى جَوَازِ الرُّؤْيَةِ أَدَلُّ مِنْهَا عَلَى امْتِنَاعِهَا. فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا ذَكَرَهَا فِي سِيَاقِ التَّمَدُّحِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ المَدْحَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالأَوْصَافِ الثُّبُوتِيَّة،ِ وَأَمَّا العَدَمُ المَحْضُ فَلَيْسَ بِكَمَالٍ وَلا يُمْدَحُ بِهِ، وَإِنَّمَا يُمْدَحُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِالعَدَمِ إِذَا تَضَمَّنَ أمراً ثبوتياً فَإِنَّ المَعْدُومَ يُشَارِكُ المَوْصُوفَ فِي ذَلكَ العَدَمِ، وَلا يُوصَفُ الكَامِلُ بأمرٍ يَشْتَرِكُ هُوَ وَالمَعْدُومُ فِيهِ، فَلَوْ كَانَ المُرَادُ بِقَوْلِه " لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ " أَنَّهُ لا يُرَى بِحَالٍ لمْ يَكُنْ فِي ذَلكَ مَدْحٌ وَلا كَمَالٌ لمُشَارَكَةِ المَعْدُومِ لهُ فِي ذَلكَ ،فَإِنَّ العَدَمَ الصِّرْفَ لا يُرَى وَلا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ، وَالرَّبُّ جَلَّ جَلالُهُ يَتَعَالَى أَنْ يُمْدَحَ بِمَا يُشَارِكُهُ فِيهِ العَدَمُ المَحْضُ، إِذاً فَالمَعْنَى أَنَّهُ يُرَى وَلا يُدْرَكُ وَلا يُحَاطُ بِهِ فَقَوْلُه " تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ " يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ عَظَمَتِه وَأنَّهُ أَكْبَرُ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّهُ لِعَظَمَتِهِ لا يُدْرَكُ بِحَيْثُ يُحَاطُ بِهِ، فَإِنَّ الإِدْرَاكَ هُوَ الإِحَاطَةُ بِالشَّيْءِ، وَهُوَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى الرُّؤْيَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى " فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ " فَلَمْ يَنْفِ مُوسَى الرُّؤْيَةَ وَلَمْ يُرِيدُوا بِقَوْلِهِمْ (إِنَّا لمُدْرَكُونَ) إِنَّا لَمَرْئِيُّونَ فَإِنَّ مُوسَى صَـلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلامُه عَلَيه نَفَى إِدْرَاكَهُمْ إِيَّاهُمْ بِقَـوْلهِ ( كَلاَّ ) وَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لا يَخَافُ دَرَكَهُمْ بِقَوْلهِ:{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى } فَالرُّؤْيَةُ وَالإِدْرَاكُ كُلٌّ مِنْهُمَا يُوجَدُ مَعَ الآخَرِ وَبِدُونِهِ، فَالرَّبُّ تَعَالَى يُرَى وَلا يُدْرَكُ كَمَا يُعْلَمُ وَلا يُحَاطُ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الذي فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ وَالأَئِمَّةُ مِن الآيَةِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{ لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } لا تُحِيطُ بِهِ الأَبْصَـارُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ أَعْظَمُ مِن أَنْ تُدْرِكَهُ الأَبْصَارُ: وَقَالَ عَطِيَّةُ: يَنْظُرُونَ إِلَى اللَّهِ وَلا تُحِيطُ أَبْصَارُهُمْ بِهِ مِن عَظَمَتِهِ، وَبَصَرُهُ يُحِيطُ بِهِمْ، فَذَلكَ قَوْله تَعَالَى:{ لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ } فَالمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِأَبْصَارِهِمْ عِيَاناً، وَلا تُدْرِكُهُ أَبْصَارُهُمْ بِمَعْنَى أَنَّهَا لا تُحِيطُ بِهِ إِذْ كَانَ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنَّ شَيْئاً يُحِيطُ بِهِ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ، وَهَكَذَا يُسْمِعُ كَلامَهُ مَن يَشَاءُ مِن خَلْقِهِ وَلا يُحِيطُونَ بِكَلامِهِ، وَهَكَذَا يَعْلَمُ الخَلْقَ مَا عَلَّمَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِعِلْمِهِ، وَتَأَمَّلْ حُسْنَ هَذِهِ المُقَابَلَةِ لفظاً وَمَعْنًى بَيْنَ قَوْلهِ:{ لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ } فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لعَظَمَتِهِ يَتَعَالَى أَنْ تُدْرِكَهُ الأَبْصَارُ وَتُحِيطَ بِهِ، وَلِلُطْفِهِ وَخِبْرَتِهِ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ فَلا تَخْفَى عَلَيْهِ فَهُوَ العَظِيمُ فِي لُطْفِهِ، اللَّطِيفُ فِي عَظَمَتِهِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلالُ المُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ بِقَوْلهِ تَعَالَى لِمُوسَى:{ لَنْ تَرَانِي وَلَـكِنِ انْظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ فِي الآخِرَةِ فَذَلكَ اسْتِدْلالٌ فَاسِدٌ، وَالآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ودلالتُها عَلَى الرُّؤْيَةِ مِن وُجُوهِ.
( أَحَدُهَا ): أَنَّهُ لا يُظَنُّ بِكَليمِ الرَّحْمَنِ وَرَسُولهِ الكَرِيمِ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ مَا لا يَجُوزُ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ مِن أَبْطَلِ البَاطِلِ وَأَعْظَمِ المُحَالِ وَهُوَ عِنْدَ فُرُوخِ اليُونَانِ وَالصَّابِئَةِ وَالفِرْعُونِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَسْأَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ وَيَنَامَ وَنَحْوَ ذَلكَ مِمَّا يَتَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ.
( الثَّانِي ): أَنَّ اللَّهَ لمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ سُؤَالَهُ وَلَوْ كَانَ مُحَالاً لأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لمَّا سَأَلَ نُوحٌ رَبَّهُ نَجَاةَ ابْنِهِ أَنْكَرَ عَلَيْهِ سُؤَالَهُ وَقَالَ:{ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الجَاهِلينَ }.
( الثَّالثُ ): أَنَّهُ أَجَابَهُ بِقَوْلهِ:{ لَنْ تَرَانِي } وَلَمْ يَقُلْ لا تَرَانِي، وَلا إِنِّي لسْتُ بِمَرْئِيٍّ، وَلا تَجُوزُ رُؤْيَتِي، وَالفَرْقُ بَيْنَ الجَوَّابَيْنِ ظَاهِرٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُرَى وَلَكِنْ مُوسَى لا تَحْتَمِلُ قُوَاهُ رُؤْيَتَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ لضَعْفِ قُوَّةِ البَشَرِ فِيهَا عَن رُؤْيَتِهِ تَعَالَى يُوَضِّحُهُ.
( الرَّابِعُ ) وَهُوَ قَوْلُهُ:{ وَلَـكِنِ انْظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } فَأَعْلَمَهُ أَنَّ الجَبَلَ مَعَ قُوَّتِهِ وَصَلابَتِهِ لا يَثْبُتُ لتَجَلِّيهِ لهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَكَيْفَ بِالبَشَرِ الضَّعِيفِ الذي خُلِقَ مِنْ ضَعْفٍ
( الخَامِسُ ) أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ الجَبَلَ يَسْتَقِرُّ مَكَانَهُ وَلَيْسَ هَذَا بِمُمْتَنِعٍ فِي مَقْدُورِهِ، بَلْ هُوَ مُمْكِنٌ، وَقَدْ عَلَّقَ بِهِ الرُّؤْيَةَ وَلَوْ كَانَتْ مُحالاً فِي ذَاتِهَا لمْ يُعَلِّقْهَا بِالمُمْكِنِ فِي ذَاتِهِ، وَلَوْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ مُحالاً لكَانَ ذَلكَ نَظِيرَ أَنْ يَقُولَ: إِنِ اسْتَقَرَّ الجَبَلُ فَسَوْفَ آكُلُ وَأَشْرَبُ وَأَنَامُ، فَالأَمْرَانِ عِنْدَهُمْ سَوَاءٌ.
( السَّادِسُ ) قَـوْلُه تَعَالَى:{ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } فَإِذَا جَازَ أَنْ يَتَجَلَّى للْجَبَلِ الذي هُوَ جَمَادٌ لا ثَوَابَ لهُ وَلا عِقَابَ فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَجَلَّى لأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَأَوْليَائِهِ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ وَيُرِيَهُمْ نَفْسَهُ ؟ فَأَعْلَمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُوسَى أَنَّ الجَبَلَ إِذَا لم يَثْبُتْ لرُؤْيَتِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَالبَشَرُ أَضْعَفُ.
( السَّابِعُ): أَنَّ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ كَلَّمَهُ وَقَرَّبَهُ إِلَيْهِ وَخَاطَبَهُ وَنَاجَاهُ وَنَادَاهُ، وَمَن جَازَ عَلَيْهِ التَكلُّمُ وَالتَّكْليمُ، وَأَنْ يَسْمَعَ مُخَاطِبُهُ كَلامَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَرُؤْيَتُهُ أَوْلَى بِالجَوَازِ. وَلهَذَا لا يَتِمُّ إِنْكَارُ الرُّؤْيَةِ إِلا بِإِنْكَارِ التَّكْليمِ. وَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الطَّوَائِفُ بَيْنَ إِنْكَارِ الأَمْرَيْنِ فَأَنْكَرُوا أَنْ يُكلِّمَ أحداً أَوْ يَرَاهُ أَحَدٌ؛ وَلهَذَا سَأَلَهُ مُوسَى النَّظَرَ إِلَيْهِ لمَّا أَسْمَعَهُ كَلامَهُ وَعَلِمَ نَبِيُّ اللَّهِ جَوَازَ رُؤْيَتِهِ مِن وُقُوعِ خِطَابِهِ وَتَكْليمِهِ فَلَمْ يُخْبِرْهُ بِاسْتِحَالَةِ ذَلكَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ أَرَاهُ أَنَّ مَا سَأَلَ عَنْهُ لا يَقْدِرُ عَلَى احْتِمَالهِ كَمَا لمْ يَثْبُتِ الجَبَلُ لتَجَلِّيهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:( لَنْ تَرَانِي ) فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ فِي المُسْتَقْبَلِ، وَلا يَدُلُّ عَلَى دَوَامِ النَّفْيِ وَلَوْ قُيِّدَتْ بِالتَّأْكِيدِ فَكَيْفَ إِذَا أُطْلِقَتْ ؟ قَالَ تَعَالَى:( وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً ) مَعَ قَوْلهِ:( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ).
وَلأَنَّهَا لوْ كَانَتْ للتَّأْبِيدِ المُطْلَقِ لمَا جَازَ تَحْدِيدُ الفِعْلِ بَعْدَهَا وَقَدْ جَاءَ ذَلكَ قَالَ تَعَالَى:( فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لي أَبِي ) فَثَبَتَ أَنَّ ( لَنْ ) لا تَقْتَضِي النَّفْيَ المُؤَبَّدَ. قَالَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ مَالكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ:
وَمَنْ رَأَى النَّفْيَ بِلْنَ مُؤَبَّداً=فَقَوْلُهُ ارْدُدْ وَسِوَاهُ فَاعْضُدَا
وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى:( لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) كَيْفَ نُفِيَ فِعْلُ الإِدْرَاكِ بِلا الدَّالَّةِ عَلَى طُولِ النَّفْيِ وَدَوَامِهِ فَإِنَّهُ لا يُدْرَكُ أبداً وَإِنْ رَآهُ المُؤْمِنُونَ فَأَبْصَارُهُمْ لا تُدْرِكُهُ تَعَالَى فضلاً عَن أَنْ يُحِيطَ بِهِ مَخْلُوقٌ، وَكَيْفَ نَفَى الرُّؤْيَةَ بِلَنْ فَقَالَ:( لَنْ تَرَانِي ) لأَنَّ النَّفْيَ بِهَا لا يَتَأَبَّدُ وَقَدْ أَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِمْ بِتَأْبِيدِ النَّفْيِ بِلَنْ صريحاً بِقَوْلهِ:( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ) فَهَذَا تَمَنٍّ للْمَوْتِ فَلَوْ اقْتَضَتْ لنْ دَوَامَ النَّفْيِ تَنَاقَضَ الكَلامُ، كَيْفَ وَهِيَ مَقْرُونَةٌ بِالتَّأْبِيدِ بِقَوْلهِ:{ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً } وَلَكِنْ ذَلكَ لا يُنَافِي تَمَنِّيهِ فِي النَّارِ لأَنَّ التَّأْبِيدَ قَدْ يُرَادُ بِهِ التَّأْبِيدُ المُقَيَّدُ وَالتَّأْبِيدُ المُطْلَقُ، فَالمُقَيَّدُ كَالتَّأْبِيدِ بِمُدَّةِ الحَيَاةِ كَقَوْلِكَ: وَاللَّهِ لا أُكَلِّمُهُ أبداً، وَالمُطْلَقُ كَقَوْلِكَ: وَاللَّهِ لا أَكْفُرُ بِرَبِّي أبداً، وَإِذَا كَانَ كَذَلكَ فَالآيَةُ إِنَّمَا اقْتَضَتْ نَفْيَ تَمَنِّي المَوْتِ أَبَدَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَمْ يَتَعَرَّضْ للآْخِرَةِ أصلاً، قَالَ أَبُو القَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ: عَلَى أَنِّي أَقُولُ: إِنَّ العَرَبَ إِنَّمَا تَنْفِي بِلَنْ مَا كَانَ مُمْكِناً عِنْدَ المُخَاطَبِ مَظْنُوناً أَنَّهُ سَيَكُونُ فَتَقُولُ لهُ: إِنَّ "لَنْ" تَكُونُ لِمَا ظُنَّ أَنَّهُ يَكُونُ ؛ لأَنَّ "لَنْ" فِيهَا مَعْنَى "أَنَّ"، وَإِذَا كَانَ الأَمْرُ عِنْدَهُمْ عَلَى الشَّكِّ لا عَلَى الظَّنِّ كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَيَكُونُ أَمْ لا ؟ قُلْتُ فِي النَّفْيِ لنْ يَكُونَ. وَهَذَا كُلُّه مُقَوٍّ لتَرْكِيبِهَا مِن لا، وَإِنْ تَبَيَّنَ لك وَجْهُ اخْتِصَاصِهَا فِي القُرْآنِ بِالمَوَاضِعِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا دُونَ لا.
وَاخْتَلَفَ العُلَمَاءُ هَلْ رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّه ليْلَةَ المِعْرَاج ؟ِ ( وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لمْ يَرَ ) وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِن الأَحَادِيثِ المَعْرُوفَةِ أَنَّهُ رَآهُ ليْلَةَ المِعْرَاجِ لكِنْ رُوِيَ فِي ذَلكَ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ العِلْمِ بِالحَدِيثِ وَالذي نَصَّ عَلَيْهِ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الرُّؤْيَةِ هُوَ مَا جَاءَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا قَالَهُ أَصْحَابُهُ. فَتَارَةً يَقُولُ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ مُتَّبِعاً لأَبِي ذَرٍّ فَإِنَّهُ رُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَن أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلمٍ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ ؟ فَقَالَ:"نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ ؟" وَلَمْ يُنْقُلْ هَذَا السُّؤَالُ عَن غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، فَلَمَّا كَانَ أَبُو ذَرٍّ أَعْلَمَ مِن غَيْرِهِ اتَّبَعَهُ أَحْمَدُ مَعَ مَا يَثْبُتُ فِي الصَّحِيحِ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ قَالَ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ، وَتَارَةً يَقُولُ أَحْمَدُ: رَآهُ، وَيُطْلِقُ اللَّفْظَ وَلا يُقَيِّدُهُ بِعَيْنٍ وَلا قَلْبٍ اتِّباعاً للْحَدِيثِ.
وَتَارَةً يَسْتَحْسِنُ قَوْلَ مَن يَقُولُ رَآهُ وَلا يَقُولُ بِعَيْنٍ وَلا قَلْبٍ. وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِن أَصْحَابِ أَحْمَدَ الذين بَاشَرُوهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ رَآهُ بِعَيْنِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ مَا نَقَلُوهُ عَن أَحْمَدَ الخَلاَّلِ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِ. وَكَذَلكَ لم يَنْقُلْ أَحَدٌ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: رَآهُ بِعَيْنِهِ بَل الثَّابِتُ عَنْهُ إِمَّا الإِطْلاقُ، وَإِمَّا التَّقْيِيدُ بِالفُؤَادِ. وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِن أَصْحَابِ أَحْمَدَ كَالقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَمَن اتَّبَعَهُ عَن أَحْمَدَ ثَلاَثَ رِوَايَاتٍ فِي رُؤْيَتِهِ تَعَالَى:
إِحْدَاهَا: إِنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ وَاخْتَارُوا ذَلكَ وَكَذَلكَ اخْتَارَهُ الأَشْعَرِيُّ وَطَائِفَةٌ، وَلَمْ يَنْقُلْ هَؤُلاءِ عَن أَحْمَدَ لفظاً صريحاً بِذَلكَ. وَلا عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَكِنَّ المَنْقُولَ الثَّابِتَ عَن أَحْمَدَ مِن جِنْسِ النُّقُولِ الثَّابِتَةِ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ: إِمَّا تَقْيِيدُ الرُّؤْيَةِ بِالقَلْبِ، وَإِمَّا إِطْلاقُهَا، وَإِمَّا تَقْيِيدُهَا بِالعَيْنِ فَلَمْ يَثْبُتْ لا عَن أَحْمَدَ وَلا عَن ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَأَمَّا مَن سِوَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ ذَكَرَ الإِمَامُ أَحْمَدُ اتِّفَاقَ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ لمْ يَرَهُ أَحَدٌ بِعَيْنِهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلمٍ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" وَاعْلَمُوا أَنَّ أحداً مِنْكُمْ لنْ يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ ".
وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ ؟ قَالَ:"نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ" قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: سَمِعْتُ شَيْخَ الإِسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: مَعْنَاهُ كَانَ ثَمَّ نُورٌ وَحَالَ دُونَ رُؤْيَتِهِ نُورٌ فَأَنَّى أَرَاهُ ؟ قَالَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلكَ أَنَّ فِي بَعْضِ الأَلْفَاظِ الصَّحِيحَةِ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ ؟ فَقَالَ: "رَأَيْتُ نُوراً." وَقَدْ أعْضَلَ أَمْرُ هَذَا الحَدِيثِ عَلَى كَثِيرٍ مِن النَّاسِ حَتَّى صَحَّفَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: نُورَانِيٌّ أَرَاهُ عَلَى أَنَّهَا يَاءُ النَّسَبِ وَالكَلمَةَ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ. وَهَذَا خَطَأٌ لفظاً وَمَعْنًى، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ لهُمْ هَذَا الإِشْكَالَ وَالخَطَأَ أَنَّهُمْ لمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهَ وَكَانَ قَوْلُه " أَنَّى أَرَاهُ" كَالإِنْكَارِ للرُّؤْيَةِ حَارُوا فِي الحَدِيثِ وَرَدَّهُ بَعْضُهمْ بِاضْطِرَابِ لفْظِهِ، وَكُلُّ هَذَا عُدُولٌ عَن مُوجِبِ الدَّليلِ. وَقَدْ حَكَى عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ فِي كِتَابِ الرُّؤْيَةِ لهُ إِجْمَـاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهُ لمْ يَرَ رَبَّهُ ليْلَةَ المِعْـرَاجِ، وَبَعْضُهمْ اسْتَثْنَى ابْنَ عَبَّاسٍ فِيمَنْ قَالَ ذَلكَ.
وَشَيْخُنَا يَقُولُ: ليْسَ ذَلكَ بِخِلافٍ فِي الحَقِيقَةِ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ: لمْ يَقُلْ رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ. وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ أَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ حَيْثُ قَالَ: إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يَقُلْ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ. وَلَفْظُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَ شَيْخُنَا فِي مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَوْلُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الحَدِيثِ الآخَرِ :( حِجَابَهُ النُّورُ ) فَهَذَا النُّورُ هُوَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ النُّورُ المَذْكُورُ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( رَأَيْتُ نُوراً ) اهـ
وَفِي صَحِيحِ مُسْلمٍ عَن عَائِشَةَ قَالَتْ:" مَن زَعَمَ أَنَّ مُحمَّداً رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الفِرْيَةَ" , وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن مَسْرُوقٍ قَالَ: قُلْتُ لعَائِشَةَ: فَأَيْنَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:{ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } ؟ قَالَتْ: إِنَّمَا ذَاكَ جِبْرِيلُ كَانَ يَأْتِيه فِي صُورَةِ الرِّجَالِ، وَإِنَّهُ أَتَاهُ فِي هَذِهِ المَرَّةِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ فَسَدَّ الأُفُقَ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلمٍ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ ؟ فَقَالَ: " نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ" ؟ وَفِي صَحِيحِ مُسْلمٍ أيضاً:" حِجَابُهُ النُّورُ، لوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ".
وَهَذَا الحَدِيثُ سَاقَهُ مُسْلمٌ بَعْدَ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ المُقَدَّمِ عَقِيبَهُ. وَهُوَ كَالتَّفْسِيرِ لهُ، وَلا يُنَافِي هَذَا قَوْلَه فِي حَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ الرُّؤْيَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ: ( فَيَكْشِفُ الحِجَابَ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ) فَإِنَّ النُّورَ الذي هُوَ حِجَابُ الرَّبِّ تَعَالَى يُرَادُ بِهِ الحِجَابُ الأَدْنَى إِلَيْهِ، وَهُوَ لوْ كُشِفَ لمْ يَقُمْ لهُ شَيْءٌ. كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عَـزَّ وَجَـلَّ:{ لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } قَالَ: ذَلكَ نُورُهُ الذي هُوَ نُورُهُ إِذَا تَجَلَّى بِهِ لمْ يَقُمْ لهُ شَيْءٌ. وَهَذَا الذي ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَهُ:{ لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } عَلَى عُمُومِهِ وَإِطْلاقِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلا يَلْزَمُ مِن ذَلكَ أَنْ لا يُرَى بَلْ يُرَى، فِي الآخِرَةِ بِالأَبْصَارِ مِن غَيْرِ إِدْرَاكٍ. وَإِذَا كَانَتْ أَبْصَارُنَا لا تَقُومُ لإِدْرَاكِ الشَّمْسِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَإِنْ رَأَتْهَا مَعَ القُرْبِ الذي بَيْنَ المَخْلُوقِ وَالمَخْلُوقِ فَالتَّفَاوُتُ الذي بَيْنَ أَبْصَارِ الخَلائِقِ وَذَاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلالُهُ أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ، وَلهَذَا لمَّا حَصَلَ للْجَبَلِ أَدْنَى شَيْءٍ مِن تَجَلِّي الرَّبِّ تَسَافَى الجَبَلُ وَانْدَكَّ لسُبُحَاتِ ذَلكَ القَدْرِ مِن التَّجَلِّي.
وَفِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ المَرْفُوعِ:" جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَحِلِْيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِن فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَحِلِْيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ القَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلا رِدَاءُ الكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ " فَهَذَا يَدُلُّ أَنَّ الكِبْرِيَاءَ عَلَى وَجْهِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ المَانِعُ مِن رُؤْيَةِ الذَّاتِ وَلا يَمْنَعُ مِن أَصْلِ الرُّؤْيَةِ، فَإِنَّ الكِبْرِيَاءَ وَالعَظَمَةَ أَمْرٌ لازِمٌ لذَاتِهِ تَعَالَى، فَإِذَا تَجَلَّى سُبْحَانَهُ لعِبَادِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَكَشَفَ الحِجَابَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فَهُوَ الحِجَابُ المَخْلُوقُ.
وَأَمَّا أَنْوَارُ الذَّاتِ الذي يُحْجَبُ عَن إِدْرَاكِهَا فَذَاكَ صِفَةٌ للذَّاتِ لا تُفَارِقُ ذَاتَ الرَّبِّ جَلَّ جَلالُهُ وَلَوْ كَشَفَ ذَلكَ الحِجَابَ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِن خَلْقِهِ، وَتَكْفِي هَذِهِ الإِشَارَةُ فِي هَذَا المَقَامِ للْمُصَدِّقِ المُوقِنِ. وَأَمَّا المُعَطِّلُ الجَهْمِيُّ فَكُلُّ هَذَا عِنْدَهُ بَاطِلٌ وَمُحَالٌ، وَالمَقْصُودُ أَنَّ المُخْبِرَ عَنْهُ بِالرُّؤْيَةِ فِي سُورَةِ النَّجْمِ هُوَ جِبْرِيلُ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ مُسْتَنَدَهُ هَذِهِ الآيَةُ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ المَرْئِيَّ فِيهَا جِبْرِيلُ فَلا دَلالَةَ فِيهَا عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَدْ حَكَى عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ الإِجْمَاعَ عَلَى مَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ".
وَقَدْ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ المُسْلمِينَ عَلَى أَنَّ أَحَداً مِن المُؤْمِنِينَ لا يَرَى اللَّهَ بِعَيْنِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يَتَنَازَعُوا إِلا فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّ جَمَاهِيرَ الأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لمْ يَرَهُ بِعَيْنِهِ، وَعَلَى هَذَا دَلَّتِ الآثَارُ الصَّحِيحةُ الثَّابِتَةُ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةِ المُسْلمِينَ. وَلَمْ يَثْبُتْ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ وَلا عَن الإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَمْثَالِهِمَا أَنَّهُمْ قَالُوا: رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ، بَل الثَّابِتُ عَنْهُمْ إِمَّا إِطْلاقُ الرُّؤْيَةِ، وَإِمَّا تَقْيِيدُهَا بِالفُؤَادِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِن أَحَادِيثِ المِعْرَاجِ الثَّابِتَةِ أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ. وَقَوْلُهُ:" أَتَانِي البَارِحَةَ رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةً " الحَدِيثَ الذي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّمَا كَانَ بِالمَدِينَةِ فِي المَنَامِ. هَكَذَا جَاءَ مُفَسَّراً، وَكَذَلكَ حَدِيثُ أَمِّ الطُّفَيْلِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهِمَا مِمَّا فِيهِ رُؤْيَةُ رَبِّهِ إِنَّمَا كَانَ بِالمَدِينَةِ. كَمَا جَاءَ مُفَسَّراً فِي الأَحَادِيثِ، وَالمِعْرَاجُ كَانَ بِمَكَّةَ كَمَا قَالَ:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى } وَقَدْ ثَبَتَ بِنَصِّ القُرْآنِ أَنَّ مُوسَى قِيلَ لهُ: لَنْ تَرَانِي وَأَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِن إِنْزَالِ كِتَابٍ مِن السَّمَاءِ. فَمَنْ قَالَ: إِنَّ أحداً مِن النَّاسِ يَرَاهُ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ أَعْظَمُ مِن مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَدَعْوَاهُ أَعْظَمُ مِن دَعْوَى مَن ادَّعَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ كتاباً مِن السَّمَاءِ.
وَالمُسْلمُونَ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ عَلَى ثَلاثَةِ أَقْوَالٍ: فَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَأَئِمَّةُ المُسْلمِينَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الآخِرَةِ بِالأَبْصَارِ عِياناً، وَأَنَّ أحداً لا يَرَاهُ فِي الدُّنْيَا بِعَيْنِهِ لكِنْ يُرَى فِي المَنَامِ وَيَحْصُلُ للْقُلُوبِ من المُكَاشَفَاتِ وَالمُشَاهَدَاتِ مَا يُنَاسِبُ حَالَهَا. وَمِن النَّاسِ مَن تَقْوَى مُشَاهَدَةُ قَلْبِهِ حَتَّى يَظُنَّ أَنَّهُ رَأَى ذَلكَ بِعَيْنِهِ وَهُوَ غَالِطٌ. وَمُشَاهَدَاتُ القُلُوبِ تَحْصُلُ بِحَسَبِ إِيمَانِ العَبْدِ وَمَعْرِفَتِهِ فِي صُورَةٍ مِثَاليَّةٍ.
( وَالقَوْلُ الثَّانِي ) قَوْلُ نُفَاةِ الجَهْمِيّةِ أَنَّهُ لا يُرَى فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ.
( وَالثَّالثُ ) قَوْلُ مَن يَزْعُمُ أَنَّهُ يُرَى فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَحُلُوليَّةُ الجَهْمِيِّةِ يَجْمَعُونَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالإِثْبَاتِ فَيَقُولُونَ: إِنَّهُ لا يُرَى فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ، وَأَنَّهُ يُرَى فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَرَبِيٍّ صَاحِبِ الفُصُوصِ وَأَمْثَالِهِ لأَنَّ الوُجُودَ المُطْلَقَ السَّارِي فِي الكَائِنَاتِ لا يُرَى، وَهُوَ وُجُودُ الحَقِّ عِنْدَهُمْ.