دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > دروس التفسير لبرنامج إعداد المفسّر > دروس تفسير سورة النساء

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10 ربيع الأول 1440هـ/18-11-2018م, 08:59 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تفسير سورة النساء [ من الآية (77) إلى الآية (79) ]

تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا (79)}

تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله: {ألم تر إلى الّذين قيل لهم كفّوا أيديكم وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة فلمّا كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون النّاس كخشية اللّه أو أشدّ خشية وقالوا ربّنا لم كتبت علينا القتال لولا أخّرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدّنيا قليل والآخرة خير لمن اتّقى ولا تظلمون فتيلا}
قيل كان المسلمون قبل أن يؤمروا بالقتال قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لو أذنت لنا أن نعمل معاول نقاتل بها المشركين، فأمروا بالكف وأداء ما افترض عليهم غير القتال، فلما كتب عليهم القتال خشي فريق منهم {وقالوا ربّنا لم كتبت علينا القتال لولا أخّرتنا إلى أجل قريب} المعنى: هلّا أخرتنا، فأعلم اللّه - عزّ وجلّ - أن متاع الدنيا قليل وأن الآخرة لأهل التّقى). [معاني القرآن: 2/78-79]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله: ألم تر إلى الّذين قيل لهم اختلف المتأولون فيمن المراد بقوله الّذين قيل لهم؟ فقال ابن عباس وغيره: كان عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والمقداد بن عمرو الكندي وجماعة سواهم قد أنفوا من الذل بمكة قبل الهجرة وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيح لهم مقاتلة المشركين، فأمرهم الله تعالى بكف الأيدي، وأن لا يفعلوا، فلما كان بالمدينة وفرض القتال، شق ذلك على بعضهم وصعب موقعه، ولحقهم ما يلحق البشر من الخور والكع عن مقارعة العدو فنزلت الآية فيهم، وقال قوم:
كان كثير من العرب قد استحسنوا الدخول في دين محمد عليه السلام على فرائضه التي كانت قبل القتال من الصلاة والزكاة ونحوها والموادعة وكف الأيدي، فلما نزل القتال شق ذلك عليهم وجزعوا له، فنزلت الآية فيهم، وقال مجاهد وابن عباس أيضا: إنما الآية حكاية عن اليهود أنهم فعلوا ذلك مع نبيهم في وقته، فمعنى الحكاية عنهم تقبيح فعلهم، ونهي المؤمنين عن فعل مثله، وقالت فرقة: المراد بالآية المنافقون من أهل المدينة عبد الله بن أبيّ وأمثاله، وذلك أنهم كانوا قد سكنوا على الكره إلى فرائض الإسلام مع الدعة وعدم القتال، فلما نزل القتال شق عليهم وصعب عليهم صعوبة شديدة، إذ كانوا مكذبين بالثواب، ذكره المهدوي.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويحسن هذا القول أن ذكر المنافقين يطرد فيما بعدها من الآيات، ومعنى كفّوا أيديكم أمسكوا عن القتال، والفريق: الطائفة من الناس، كأنه فارق غيره. وقوله: يخشون النّاس كخشية اللّه يعني أنهم كانوا يخافون الله في جهة الموت، لأنهم لا يخشون الموت إلا منه، فلما كتب عليهم قتال الناس رأوا أنهم يموتون بأيديهم، فخشوهم في جهة الموت كما كانوا يخشون الله، وقال الحسن: قوله: كخشية اللّه يدل على أنها في المؤمنين، وهي خشية خوف لا خشية مخالفة، ويحتمل أن يكون المعنى يخشون الناس على حد خشية المؤمنين الله عز وجل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ترجيح لا قطع، وقوله: أو أشدّ خشيةً قالت فرقة: أو بمعنى الواو، وفرقة: هي بمعنى «بل»، وفرقة: هي للتخيير، وفرقة: على بابها في الشك في حق المخاطب، وفرقة: هي على جهة الإبهام على المخاطب.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد شرحت هذه الأقوال كلها في سورة البقرة في قوله: أو أشدّ قسوةً [الآية: 74] أن الموضعين سواء، وقولهم، لم كتبت علينا القتال؟ رد في صدر أوامر الله تعالى وقلة استسلام، «والأجل القريب» يعنون به موتهم على فرشهم، هكذا قال المفسرون.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا يحسن إذا كانت الآية في اليهود أو المنافقين، وأما إذا كانت في طائفة من الصحابة، فإنما طلبوا التأخر إلى وقت ظهور الإسلام وكثرة عددهم.
قوله تعالى: قل متاع الدّنيا قليلٌ والآخرة خيرٌ لمن اتّقى ولا تظلمون فتيلاً (77)
المعنى: قل يا محمد لهؤلاء: متاع الدّنيا، أي الاستمتاع بالحياة فيها الذي حرصتم عليه وأشفقتم من فقده قليلٌ، لأنه فان زائل والآخرة التي هي نعيم مؤبد خيرٌ لمن أطاع الله واتقاه في الامتثال لأوامره، على المحاب والمكاره، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم «تظلمون» بالتاء على الخطاب، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «يظلمون» بالياء على ترك المخاطبة وذكر الغائب، والفتيل الخيط في شق نواة التمرة، وقد تقدم القول فيه). [المحرر الوجيز: 2/604-606]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ألم تر إلى الّذين قيل لهم كفّوا أيديكم وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة فلمّا كتب عليهم القتال إذا فريقٌ منهم يخشون النّاس كخشية اللّه أو أشدّ خشيةً وقالوا ربّنا لم كتبت علينا القتال لولا أخّرتنا إلى أجلٍ قريبٍ قل متاع الدّنيا قليلٌ والآخرة خيرٌ لمن اتّقى ولا تظلمون فتيلا (77) أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروجٍ مشيّدةٍ وإن تصبهم حسنةٌ يقولوا هذه من عند اللّه وإن تصبهم سيّئةٌ يقولوا هذه من عندك قل كلٌّ من عند اللّه فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا (78) ما أصابك من حسنةٍ فمن اللّه وما أصابك من سيّئةٍ فمن نفسك وأرسلناك للنّاس رسولا وكفى باللّه شهيدًا (79)}
كان المؤمنون في ابتداء الإسلام -وهم بمكّة -مأمورين بالصّلاة والزّكاة وإن لم تكن ذات النّصب، لكن كانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم، وكانوا مأمورين بالصّفح والعفو عن المشركين والصّبر إلى حينٍ، وكانوا يتحرّقون ويودّون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم، ولم يكن الحال إذ ذاك مناسبًا لأسبابٍ كثيرةٍ، منها: قلّة عددهم بالنّسبة إلى كثرة عدد عدّوهم، ومنها كونهم كانوا في بلدهم وهو بلدٌ حرامٌ وأشرف بقاع الأرض، فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداءً لائقًا. فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلّا بالمدينة، لمّا صارت لهم دارٌ ومنعةٌ وأنصارٌ، ومع هذا لمّا أمروا بما كانوا يودّونه جزع بعضهم منه وخافوا من مواجهة النّاس خوفًا شديدًا {وقالوا ربّنا لم كتبت علينا القتال لولا أخّرتنا إلى أجلٍ قريبٍ} أي: لو ما أخّرت فرضه إلى مدّةٍ أخرى، فإنّ فيه سفك الدّماء، ويتم الأبناء، وتأيّم النّساء، وهذه الآية في معنى قوله تعالى {ويقول الّذين آمنوا لولا نزلت سورةٌ فإذا أنزلت سورة محكمةٌ وذكر فيها القتال [رأيت الّذين في قلوبهم مرضٌ ينظرون إليك نظر المغشيّ عليه من الموت فأولى لهم طاعةٌ وقولٌ معروفٌ فإذا عزم الأمر فلو صدقوا اللّه لكان خيرًا لهم]} [محمّدٍ: 20، 21].
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عليّ بن الحسين، حدّثنا محمّد بن عبد العزيز بن أبي رزمة وعليّ بن زنجة قالا حدّثنا عليّ بن الحسن، عن الحسين بن واقدٍ، عن عمرو بن دينارٍ، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنّ عبد الرّحمن بن عوفٍ وأصحابًا له أتوا النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بمكّة، فقالوا: يا نبيّ اللّه، كنّا في عزٍّ ونحن مشركون، فلمّا آمنّا صرنا أذلّةً: قال: "إنّي أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم". فلمّا حوّله اللّه إلى المدينة أمره بالقتال، فكفّوا. فأنزل اللّه: {ألم تر إلى الّذين قيل لهم كفّوا أيديكم [وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة فلمّا كتب عليهم القتال إذا فريقٌ منهم يخشون النّاس كخشية الله أو أشدّ خشيةً]} الآية.
ورواه النّسائيّ، والحاكم، وابن مردويه، من حديث عليّ بن الحسن بن شقيق، به.
وقال أسباطٌ، عن السّدّيّ: لم يكن عليهم إلّا الصّلاة والزّكاة، فسألوا اللّه أن يفرض عليهم القتال، فلمّا كتب عليهم القتال: {إذا فريقٌ منهم يخشون النّاس كخشية اللّه أو أشدّ خشيةً وقالوا ربّنا لم كتبت علينا القتال لولا أخّرتنا إلى أجلٍ قريبٍ} وهو الموت، قال اللّه تعالى: {قل متاع الدّنيا قليلٌ والآخرة خيرٌ لمن اتّقى}
وعن مجاهدٍ: إنّ هذه الآيات نزلت في اليهود. رواه ابن جريرٍ.
وقوله: {قل متاع الدّنيا قليلٌ والآخرة خيرٌ لمن اتّقى} أي: آخرة المتّقي خيرٌ من دنياه.
{ولا تظلمون فتيلا} أي: من أعمالكم بل توفّونها أتمّ الجزاء. وهذه تسليةٌ لهم عن الدّنيا. وترغيبٌ لهم في الآخرة، وتحريضٌ لهم على الجهاد.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم الدّورقي، حدّثنا عبد الرّحمن بن مهديٍّ، حدّثنا حمّاد بن زيد، عن هشام قال: قرأ الحسن: {قل متاع الدّنيا قليلٌ} قال: رحم اللّه عبدًا صحبها على حسب ذلك، ما الدّنيا كلّها أوّلها وآخرها إلّا كرجلٍ نام نومةً، فرأى في منامه بعض ما يحبّ، ثمّ انتبه.
وقال ابن معين: كان أبو مسهر ينشد:
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له = من اللّه في دار المقام نصيب
فإن تعجب الدّنيا رجالا فإنها = متاع قليلٌ والزّوال قريب). [تفسير القرآن العظيم: 2/359-360]


تفسير قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وأعلمهم أن آجالهم تخطئهم ولو تحصنوا بأمنع الحصون فقال:
{أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند اللّه وإن تصبهم سيّئة يقولوا هذه من عندك قل كلّ من عند اللّه فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا}
لأن مفعّلة، وفعّل للتكثير، يقال: شاد الرجل بناءه يشيده شيدا إذا رفعه وإذا. طلاه بالشيد، وهو ما يطلى به البناء من الكلس والجصّ وغيره، ويقال أيضا قد أشاد الرجل بناءه.
فأمّا في الذكر فأشدت بذكر فلان لا غير إذا رفعت من ذكره.
وقوله عزّ وجلّ:
{وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند اللّه وإن تصبهم سيّئة يقولوا هذه من عندك}.
قيل كانت اليهود - لعنت - تشاءمت برسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عند دخوله المدينة فقالت: منذ دخل المدينة نقصت ثمارنا وغلت أسعارنا، فأعلم اللّه عز وجل أن الخصب والجدب من عند اللّه). [معاني القرآن: 2/79]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروجٍ مشيّدةٍ وإن تصبهم حسنةٌ يقولوا هذه من عند اللّه وإن تصبهم سيّئةٌ يقولوا هذه من عندك قل كلٌّ من عند اللّه فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً (78)
المعنى: أينما تكونوا يدرككم الموت جزاء وجوابه. وهكذا قراءة الجمهور، وقرأ طلحة بن سليمان «يدرككم» بضم الكافين ورفع الفعل، قال أبو الفتح: ذلك على تقدير دخول الفاء كأنه قال: فيدرككم الموت، وهي قراءة ضعيفة، وهذا إخبار من الله يتضمن تحقير الدنيا، وأنه لا منجى من الفناء والتنقل، واختلف المتأولون في قوله: في بروجٍ فالأكثر والأصح أنه أراد البروج والحصون التي في الأرض المبنية، لأنها غاية البشر في التحصن والمنعة، فمثل الله لهم بها، قال قتادة: المعنى في قصور محصنة، وقاله ابن جريج والجمهور، وقال السدي: هي بروج في السماء الدنيا مبنية، وحكى مكي هذا القول عن مالك، وأنه قال: ألا ترى إلى قوله والسّماء ذات البروج [البروج: 1] وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال: في بروجٍ مشيّدةٍ، معناه في قصور من حديد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا لا يعطيه اللفظ، وإنما البروج في القرآن إذا وردت مقترنة بذكر السماء بروج المنازل للقمر وغيره على ما سمتها العرب وعرفتها، وبرج معناه ظهر، ومنه البروج أي المطولة الظاهرة، ومنه تبرج المرأة، ومشيّدةٍ قال الزجّاج وغيره: معناه مرفوعة مطولة، لأن شاد الرجل البناء إذا صنعه بالشيد وهو الجص إذا رفعه، وقالت طائفة: مشيّدةٍ معناه: محسنة بالشيد، وذلك عندهم أن «شاد الرجل» معناه: جصص بالشيد، وشيد معناه: كرر ذلك الفعل فهي للمبالغة، كما تقول: كسرت العود مرة، وكسرته في مواضع منه كثيرة مرارا، وخرقت الثوب وخرقته، إذا كان الخرق منه في مواضع كثيرة، فعلى هذا يصح أن تقول: شاد الرجل الجدار مرة وشيد الرجل الجدار إذا أردت المبالغة، لأن التشييد منه وقع في مواضع كثيرة، ومن هذا المعنى قول الشاعر [عدي بن زياد العبادي]: [الخفيف]
شاده مرمرا وجلّله كل = سا فللطير في ذراه وكور
والهاء والميم في قوله: وإن تصبهم رد على الذين قيل لهم، كفوا أيديكم وهذا يدل على أنهم المنافقون، لأن المؤمنين لا تليق بهم هذه المقالة، ولأن اليهود لم يكونوا للنبي عليه السلام تحت أمر، فتصيبهم بسببه أسواء، ومعنى الآية، وإن تصب هؤلاء المنافقين حسنة من هزم عدو أو غنيمة أو غير ذلك رأوا أن ذلك بالاتفاق من صنع الله، لا أنه ببركة اتباعك والإيمان بك، وإن تصبهم سيّئةٌ، أي هزيمة أو شدة جوع وغير ذلك، قالوا: هذه بسببك، لسوء تدبيرك، كذا قال ابن زيد، وقيل لشؤمك علينا. قاله الزجّاج وغيره، وقوله: قل كلٌّ من عند اللّه إعلام من الله تعالى، أن الخير والشر، والحسنة والسيئة خلق له ومن عنده، لا رب غيره ولا خالق ولا مخترع سواه، فالمعنى: قل يا محمد لهؤلاء: ليس الأمر كما زعمتم من عندي ولا من عند غيري، بل هو كله من عند الله، قال قتادة: النعم والمصائب من عند الله، قال ابن زيد، النصر والهزيمة، قال ابن عباس: السيئة والحسنة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كله شيء واحد، ثم وبخهم بالاستفهام عن علة جهلهم، وقلة فهمهم وتحصيلهم لما يخبرون به من الحقائق، والفقه في اللغة الفهم، وأوقفته الشريعة على الفهم في الدين وأموره، وغلب عليه بعد الاستعمال في علم المسائل الأحكامية، والبلاغة في الاستفهام عن قلة فقههم بينة، لأنك إذا استفهمت عن علة أمر ما، فقد تضمن كلامك إيجاب ذلك الأمر تضمنا لطيفا بليغا، ووقف أبو عمرو والكسائي على قوله فما ووقف الباقون على اللام في قوله: فما ل، اتباعا للخط، ومنعه قوم جملة، لأنه حرف جر فهي بعض المجرور، وهذا كله بحسب ضرورة وانقطاع نفس، وأما أن يختار أحد الوقف فيما ذكرناه ابتداء فلا). [المحرر الوجيز: 2/606-608]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروجٍ مشيّدةٍ} أي: أنتم صائرون إلى الموت لا محالة، ولا ينجو منه أحدٌ منكم، كما قال تعالى: {كلّ من عليها فانٍ [ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام]} [الرّحمن: 26، 27] وقال تعالى {كلّ نفسٍ ذائقة الموت} [آل عمران: 185] وقال تعالى: {وما جعلنا لبشرٍ من قبلك الخلد} [الأنبياء: 34] والمقصود: أنّ كلّ أحدٍ صائرٌ إلى الموت لا محالة، ولا ينجيه من ذلك شيءٌ، وسواءٌ عليه جاهد أو لم يجاهد، فإنّ له أجلًا محتومًا، وأمدًا مقسومًا، كما قال خالد بن الوليد حين جاء الموت على فراشه: لقد شهدت كذا وكذا موقفًا، وما من عضوٍ من أعضائي إلّا وفيه جرحٌ من طعنةٍ أو رميةٍ، وها أنا أموت على فراشي، فلا نامت أعين الجبناء.
وقوله: {ولو كنتم في بروجٍ مشيّدةٍ} أي: حصينةٍ منيعةٍ عاليةٍ رفيعةٍ. وقيل: هي بروجٌ في السّماء. قاله السّدّيّ، وهو ضعيفٌ. والصّحيح: أنّها المنيعة. أي: لا يغني حذرٌ وتحصّنٌ من الموت، كما قال زهير بن أبي سلمى:
ومن خاف أسباب المنيّة يلقها = ولو رام أسباب السّماء بسلّم
ثمّ قيل: "المشيّدة" هي المشيدة كما قال: "وقصرٍ مشيدٍ" [الحجّ: 45] وقيل: بل بينهما فرقٌ، وهو أنّ المشيّدة بالتّشديد، هي: المطوّلة، وبالتّخفيف هي: المزيّنة بالشّيد وهو الجصّ.
وقد ذكر ابن جريرٍ، وابن أبي حاتمٍ هاهنا حكايةً مطوّلةً عن مجاهدٍ: أنّه ذكر أنّ امرأةً فيمن كان قبلنا أخذها الطّلق، فأمرت أجيرها أن يأتيها بنارٍ، فخرج، فإذا هو برجلٍ واقفٍ على الباب، فقال: ما ولدت المرأة؟ فقال: جاريةً، فقال: أما إنّها ستزني بمائة رجلٍ، ثمّ يتزوّجها أجيرها، ويكون موتها بالعنكبوت. قال: فكرّ راجعًا، فبعج الجارية بسكّينٍ في بطنها، فشقّه، ثمّ ذهب هاربًا، وظنّ أنّها قد ماتت، فخاطت أمّها بطنها، فبرئت وشبّت وترعرعت، ونشأت أحسن امرأةٍ ببلدتها فذهب ذاك [الأجير] ما ذهب، ودخل البحور فاقتنى أموالًا جزيلةً، ثمّ رجع إلى بلده وأراد التّزويج، فقال لعجوزٍ: أريد أن أتزوّج بأحسن امرأةٍ بهذه البلدة. فقالت له: ليس هنا أحسن من فلانةٍ. فقال: اخطبيها عليّ. فذهبت إليها فأجابت، فدخل بها فأعجبته إعجابًا شديدًا، فسألته عن أمره ومن أين مقدمه ؟ فأخبرها خبره، وما كان من أمره في هربه. فقالت: أنا هي. وأرته مكان السّكّين، فتحقّق ذلك فقال: لئن كنت إيّاها فلقد أخبرتني باثنتين لا بدّ منهما، إحداهما: أنّك قد زنيت بمائة رجلٍ. فقالت: لقد كان شيءٌ من ذلك، ولكن لا أدري ما عددهم؟ فقال: هم مائةٌ. والثّانية: أنّك تموتين بالعنكبوت. فاتّخذ لها قصرًا منيعًا شاهقًا، ليحرزها من ذلك، فبينا هم يومًا إذا بالعنكبوت في السّقف، فأراها إيّاها، فقالت: أهذه الّتي تحذرها عليّ، واللّه لا يقتلها إلّا أنا، فأنزلوها من السقف فعمدت إليها فوطئتا بإبهام رجلها فقتلتها، فطار من سمّها شيءٌ فوقع بين ظفرها ولحمها، فاسودّت رجلها وكان في ذلك أجلها.
ونذكر هاهنا قصّة صاحب الحضر، وهو "السّاطرون" لمّا احتال عليه "سابور" حتّى حصره فيه، وقتل من فيه بعد محاصرة سنتين، وقالت العرب في ذلك أشعارًا منها:
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجـ = لة تجبى إليه والخابور
شاده مرمرا وجلّله كل = سًا فللطّير في ذراه وكور
لم تهبه أيدي المنون فباد الـ = ملك عنه فبابه مهجور
ولما دخل على عثمان جعل يقول: اللّهمّ اجمع أمّة محمّدٍ، ثمّ تمثّل بقول الشّاعر:
أرى الموت لا يبقي عزيزا ولم يدع = لعادٍ ملاذّا في البلاد ومربعا
يبيّت أهل الحصن والحصن مغلقٌ = ويأتي الجبال في شماريخها معا
وقوله: {وإن تصبهم حسنةٌ} أي: خصبٌ ورزقٌ من ثمارٍ وزروعٍ وأولادٍ ونحو ذلك هذا معنى قول ابن عبّاسٍ وأبي العالية والسّدّيّ {يقولوا هذه من عند اللّه وإن تصبهم سيّئةٌ} أي: قحطٌ وجدبٌ ونقصٌ في الثّمار والزّروع أو موت أولادٍ أو نتاجٍ أو غير ذلك. كما يقوله أبو العالية والسّدّيّ. {يقولوا هذه من عندك} أي: من قبلك وبسبب اتّباعنا لك واقتدائنا بدينك. كما قال تعالى عن قوم فرعون: {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيّئةٌ يطّيّروا بموسى ومن معه} [الأعراف: 131] وكما قال تعالى: {ومن النّاس من يعبد اللّه على حرفٍ [فإن أصابه خيرٌ اطمأنّ به وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه خسر الدّنيا والآخرة]} الآية [الحجّ: 11]. وهكذا قال هؤلاء المنافقون الّذين دخلوا في الإسلام ظاهرًا وهم كارهون له في نفس الأمر؛ ولهذا إذا أصابهم شرٌّ إنّما يسندونه إلى اتّباعهم للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وقال السّدّيّ: {وإن تصبهم حسنةٌ} قال: والحسنة الخصب، تنتج خيولهم وأنعامهم ومواشيهم، ويحسن حالهم وتلد نساؤهم الغلمان قالوا: {هذه من عند اللّه وإن تصبهم سيّئةٌ} والسّيّئة: الجدب والضّرر في أموالهم، تشاءموا بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وقالوا: {هذه من عندك} يقولون: بتركنا ديننا واتّباعنا محمّدًا أصابنا هذا البلاء، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {قل كلٌّ من عند اللّه} فقوله {قل كلٌّ من عند اللّه} أي الجميع بقضاء اللّه وقدره، وهو نافذٌ في البرّ والفاجر، والمؤمن والكافر.
قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {قل كلٌّ من عند اللّه} أي: الحسنة والسّيّئة. وكذا قال الحسن البصريّ.
ثمّ قال تعالى منكرًا على هؤلاء القائلين هذه المقالة الصّادرة عن شكٍّ وريبٍ. وقلّة فهمٍ وعلمٍ، وكثرة جهلٍ وظلمٍ: {فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا}
ذكر حديثٍ غريبٍ يتعلّق بقوله تعالى: {قل كلٌّ من عند اللّه}
قال الحافظ أبو بكرٍ البزّار: حدّثنا السّكن بن سعيدٍ، حدّثنا عمر بن يونس، حدّثنا إسماعيل بن حمّادٍ، عن مقاتل بن حيّان، عن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدّه قال: كنّا جلوسًا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؛ فأقبل أبو بكرٍ وعمر في قبيلتين من النّاس، وقد ارتفعت أصواتهما، فجلس أبو بكرٍ قريبًا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؛ وجلس عمر قريبًا من أبي بكرٍ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لم ارتفعت أصواتكما؟ " فقال رجلٌ: يا رسول اللّه، قال أبو بكرٍ: الحسنات من اللّه والسّيّئات من أنفسنا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "فما قلت يا عمر؟ " قال: قلت: الحسنات والسّيّئات من اللّه. تعالى. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ أوّل من تكلّم فيه جبريل وميكائيل، فقال ميكائيل مقالتك يا أبا بكرٍ، وقال جبريل مقالتك يا عمر فقال: نختلف فيختلف أهل السّماء وإن يختلف أهل السّماء يختلف أهل الأرض. فتحاكما إلى إسرافيل، فقضى بينهم أنّ الحسنات والسّيّئات من اللّه". ثمّ أقبل على أبي بكرٍ وعمر فقال "احفظا قضائي بينكما، لو أراد اللّه ألّا يعصى لم يخلق إبليس".
قال شيخ الإسلام تقيّ الدّين أبو العبّاس ابن تيميّة: هذا حديث موضوع مختلق باتفاق أهل المعرفة). [تفسير القرآن العظيم: 2/360-362]

تفسير قوله تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا (79)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله: {ما أصابك من حسنة فمن اللّه وما أصابك من سيّئة فمن نفسك وأرسلناك للنّاس رسولا وكفى باللّه شهيدا} فذا خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - يراد به الخلق.
ومخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تكون للناس جميعا لأنه عليه السلام لسانهم، والدليل على ذلك: قوله
{يا أيّها النّبيّ إذا طلّقتم النّساء فطلّقوهنّ لعدّتهنّ}فنادى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده وصار الخطاب شاملا له ولسائر أمّته، فمعنى {ما أصابك من حسنة فمن اللّه}، أي: ما أصبتم من غنيمة أو أتاكم من خصب فمن تفضل اللّه.
{وما أصابك من سيّئة} أي: من جدب أو غلبة في حرب فمن نفسك، أي: أصابكم ذلك بما كسبتم كما قال اللّه جلّ وعز {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}.
ومعنى
{وأرسلناك للنّاس رسولا} معنى الرسول ههنا: مؤكد لقوله: {وأرسلناك} لأن {وأرسلناك للنّاس} تدل على أنه رسول.
{وكفى باللّه شهيدا} أي: اللّه قد شهد أنه صادق، وأنه رسوله، و{شهيدا} منصوب على التمييز، لأنك إذا قلت كفى الله ولم تبين في أي شيء الكفاية كنت مبهما.
والفاء دخلت في قوله جل وعز: {ما أصابك من حسنة فمن اللّه} لأن الكلام في تقدير الجزاء، وهو بمنزلة قولك: إن تصبك حسنة فمن اللّه).
[معاني القرآن: 2/79-80]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: ما أصابك من حسنةٍ فمن اللّه وما أصابك من سيّئةٍ فمن نفسك وأرسلناك للنّاس رسولاً وكفى باللّه شهيداً (79) من يطع الرّسول فقد أطاع اللّه ومن تولّى فما أرسلناك عليهم حفيظاً (80) ويقولون طاعةٌ فإذا برزوا من عندك بيّت طائفةٌ منهم غير الّذي تقول واللّه يكتب ما يبيّتون فأعرض عنهم وتوكّل على اللّه وكفى باللّه وكيلاً (81)
قالت فرقة: ما شرطية، ودخلت من بعدها لأن الشرط ليس بواجب فأشبه النفي الذي تدخله من، وقالت فرقة ما بمعنى الذي، ومن لبيان الجنس، لأن المصيب للإنسان أشياء كثيرة: حسنة وسيئة، ورخاء وشدة، وغير ذلك، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وغيره داخل في المعنى، وقيل:
الخطاب للمرء على الجملة، ومعنى هذه الآية عند ابن عباس وقتادة والحسن والربيع وابن زيد وأبي صالح وغيرهم، القطع واستئناف الإخبار من الله تعالى، بأن الحسنة منه وبفضله، والسيئة من الإنسان بإذنابه، وهي من الله بالخلق والاختراع، وفي مصحف ابن مسعود، «فمن نفسك» «وأنا قضيتها عليك» وقرأ بها ابن عباس، وحكى أبو عمرو أنها في مصحف ابن مسعود «وأنا كتبتها» وروي أن أبيا وابن مسعود قرأ «وأنا قدرتها عليك» ويعضد هذا التأويل أحاديث عن النبي عليه السلام معناها، أن ما يصيب ابن آدم من المصائب، فإنما هي عقوبة ذنوبه. ومن ذلك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما نزلت من يعمل سوءاً يجز به [النساء: 123] جزع فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألست تمرض؟ ألست تسقم؟ ألست تغتم؟
وقال أيضا عليه السلام: «ما يصيب الرجل خدشة عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر». ففي هذا بيان أو تلك كلها مجازاة على ما يقع من الإنسان، وقالت طائفة: معنى الآية كمعنى التي قبلها في قوله: وإن تصبهم حسنةٌ يقولوا هذه من عند اللّه [النساء: 78] على تقدير حذف يقولون، فتقديره فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا، يقولون: ما أصابك من حسنة، ويجيء القطع على هذا القول من قوله: وأرسلناك، وقالت طائفة: بل القطع في الآية من أولها، والآية مضمنة الإخبار أن الحسنة من الله وبفضله، وتقدير ما بعده وما أصابك من سيّئةٍ فمن نفسك، على جهة الإنكار والتقرير، فعلى هذه المقالة ألف الاستفهام محذوقة من الكلام، وحكى هذا القول المهدوي، ورسولًا نصب على الحال، وهي حال تتضمن معنى التأكيد في قوله تعالى، وأرسلناك للنّاس رسولًا ثم تلاه بقوله: وكفى باللّه شهيداً توعد للكفرة، وتهديد تقتضيه قوة الكلام، لأن المعنى شهيدا على من كذبه.
والمعنى أن الرسول إنما يأمر وينهى بيانا من الله وتبليغا، فإنما هي أوامر الله ونواهيه، وقالت فرقة:
سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحبني فقد أحب الله»، فاعترضت اليهود عليه في هذه المقالة، وقالوا: هذا محمد يأمر بعبادة الله وحده، وهو في هذا القول مدّع للربوبية، فنزلت هذه الآية تصديقا للرسول عليه السلام، وتبيينا لصورة التعلق بينه وبين فضل الله تعالى). [المحرر الوجيز: 2/608-610]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال تعالى -مخاطبًا -للرّسول [صلّى اللّه عليه وسلّم] والمراد جنس الإنسان ليحصل الجواب: {ما أصابك من حسنةٍ فمن اللّه} أي: من فضل اللّه ومنّه ولطفه ورحمته {وما أصابك من سيّئةٍ فمن نفسك} أي: فمن قبلك، ومن عملك أنت كما قال تعالى: {وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثيرٍ} [الشّورى: 30].
قال السّدّيّ، والحسن البصريّ، وابن جريج، وابن زيدٍ: {فمن نفسك} أي: بذنبك.
وقال قتادة: {ما أصابك من حسنةٍ فمن الله وما أصابك من سيّئةٍ فمن نفسك} عقوبةً يا ابن آدم بذنبك. قال: وذكر لنا أنّ نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقول: "لا يصيب رجلًا خدش عودٍ، ولا عثرة قدمٍ، ولا اختلاج عرق، إلّا بذنبٍ، وما يعفو اللّه أكثر".
وهذا الّذي أرسله قتادة قد روي متّصلًا في الصّحيح: "والّذي نفسي بيده، لا يصيب المؤمن همٌّ ولا حزنٌ، ولا نصبٌ، حتّى الشّوكة يشاكها إلّا كفّر اللّه عنه بها من خطاياه".
وقال أبو صالحٍ: {ما أصابك من حسنةٍ فمن اللّه وما أصابك من سيّئةٍ فمن نفسك} أي: بذنبك، وأنا الّذي قدّرتها عليك. رواه ابن جريرٍ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمّد بن عمّارٍ، حدّثنا سهلٌ -يعني ابن بكّار -حدّثنا الأسود بن شيبان، حدّثني عقبة بن واصل بن أخي مطرّف، عن مطرّف بن عبد اللّه قال: ما تريدون من القدر، أما تكفيكم الآية الّتي في سورة النّساء: {وإن تصبهم حسنةٌ يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيّئةٌ يقولوا هذه من عندك} أي: من نفسك، واللّه ما وكلوا إلى القدر وقد أمروا وإليه يصيرون.
وهذا كلامٌ متينٌ قويٌّ في الرّدّ على القدريّة والجبريّة أيضًا، ولبسطه موضعٌ آخر.
وقوله تعالى: {وأرسلناك للنّاس رسولا} أي: تبلغهم شرائع اللّه، وما يحبّه ويرضاه، وما يكرهه ويأباه.
{وكفى باللّه شهيدًا} أي: على أنّه أرسلك، وهو شهيدٌ أيضًا بينك وبينهم، وعالمٌ بما تبلغهم إيّاه، وبما يردون عليك من الحق كفرا وعنادًا). [تفسير القرآن العظيم: 2/363]



* للاستزادة ينظر: هنا

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
تفسير, سورة

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:58 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir