فَإِنَّ لفظَ التَّأويلِ يُرَادُ بِهِ ثَلاثةُ مَعَانٍ:
فَالتَّأْوِيلُ فِي اصْطِلاحِ كَثِيرٍ مِنَ المُتَأَخِّرِينَ هُوَ: صَرْفُ اللَّفْظِ عَنِ الاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إِلَى الاحْتِمَالِ المَرْجُوحِ لِدَلِيلٍ يَقْتَرِنُ بِذَلِكَ.
فَلا يَكُونُ مَعْنَى اللَّفْظِ المُوَافِقِ لِدَلالَةِ ظَاهِرِهِ تَأْوِيلاً عَلَى اصْطِلاحِ هَؤُلاءِ، وَظَنُّوا أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تعالى ِبلَفْظِ التَّأْوِيلِ ذَلِكَ، وَأَنَّ لِلنُّصُوصِ تَأْوِيلاً يُخَالِفُ مَدْلُولِهَا لاَ يَعْلَمُهُ إِلا اللَّهُ، ولا يَعْلَمُهُ المُتَأَوِّلُونَ.
ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلاءِ يَقُولُونَ: تُجْرَى عَلَى ظَاهِرِهَا، فَظَاهِرُهَا مُرَادٌ. مَعَ قَوْلِهِمْ: إِنَّ لَهَا تَأْوِيلاً بِهَذَا المَعْنَى لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللَّهُ. وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَقَعَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلاءِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ التَّأْوِيلَ هُوَ تَفْسِيرُ الكَلامِ، سَوَاءٌ وَافَقَ ظَاهِرَهُ أَوْ لَمْ يُوَافِقْ، وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ فِي اصْطِلاحِ جُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِوَقْفِ مَنْ وَقَفَ مِنَ السَّلَفِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ } [آلُ عِمْرَانَ: 7 ] كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَابْنِ قُتَيْبَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَكِلا القَوْلَيْنِ حَقٌّ بِاعْتِبَارٍ. كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوَضِعَ أخَرَ، وَلِهَذَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا وَهَذَا، وَكِلاهُمَا حَقٌّ.
وَالْمَعْنَى الثَّالِثُ: أَنَّ التَّأْوِيلَ: هُوَ الحَقِيقَةُ الَّتِي يَؤولُ الكَلامُ إِلَيْهَا، وَإِنْ وَافَقَتْ ظَاهِرَهُ، فَتَأْوِيلُ مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي الجَنَّةِ مِنَ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالنِّكَاحِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، هُوَ الحَقَائِقُ المَوْجُودَةُ أَنْفُسُهَا، لاَ مَا يُتَصَوَّرُ مِنْ مَعَانِيهَا فِي الأَذْهَانِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللِّسَانِ، وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ فِي لُغَةِ القُرْآنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنَّهُ قَالَ: {يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا } [يُوسُفُ: 100 ](1).
وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } [الأَعْرَافُ: 53 ] وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}. [النساء:59].
وَهَذَا التَّأْوِيلُ هُوَ الَّذِي لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللَّهُ (2).