قولُه: (فَصْلٌ
فِى أَحْسَنِ طُرُقِ التَّفْسِيرِ
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا أَحْسَنُ طُرُقِ التَّفْسِيرِ؟ فَالْجَوَابُ: إِنَّ أَصَحَّ الطُّرُقِ فِي ذَلِكَ:
1- أَنْ يُفَسَّرَ القُرْآنُ بِالْقُرْآنِ: فَمَا أُجْمِلَ فِي مَكَانٍ فَإِنَّهُ قَدْ فُسِّرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَمَا اخْتُصِرَ فِي مَكَانٍ فَقَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
2- فَإِنْ أَعْيَاكَ ذَلِكَ فَعَلَيْكَ بِالسُّنَّةِ: فَإِنَّهَا شَارِحَةٌ لِلْقُرْآنِ، وَمُوَضِّحَةٌ لَهُ، بَلْ قَدْ قَالَ الإِمامُ أَبُوعَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ: " كُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِن الْقُرْآنِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ، وَقَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُم الَّذِى اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ . وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ: ((أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ)) يَعْنِي: السُّنَّةَ .
وَالسُّنَّةُ أَيْضًا تَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ كَمَا يَنْزِلُ الْقُرْآنُ، لاَ أَنَّهَا تُتْلَى كَمَا يُتْلَى. وَقَد اسْتَدَلَّ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ، وَغَيْرُهُ مِن الأَئِمَةِ، عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ، لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذَلِكَ.
وَالغَرَضُ أَنَّكَ تَطْلُبُ تَفْسِيرَ القُرْآنِ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فَمِن السُّنَّةِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ لِمُعاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ: ((بمَ تَحْكـُمُ ؟)) قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ :((فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ؟)). قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ: ((فَإِنْ لَمْ تجِدْ؟ قَالَ: أجتهدُ رَأْيِي)). قَالَ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ بِصَدْرِهِ وَقَالَ: ((الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسَولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ)). وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ).
حكى شيخُ الإسلامِ رحمهُ اللَّهُ في هذا الفصلِ طَرِيقَتَيْن من طرقِ التفسيرِ وقد جعَلَها رحمهُ اللَّهُ أربعةَ طُرُقٍ وهي: تفسيرُ القرآنِ بالقرآنِ، وتفسيرُ القرآنِ بالسُّنةِ، وتفسيرُ القرآنِ بأقوالِ الصحابةِ، وتفسيرُ القرآنِ بأقوالِ التابعين.
أما تفسيرُ القرآنِ بالقرآنِ فقد نبَّهَ على أنَّ هذا الطريقَ أصحُّ الطُّرُقِ، وذلك بأن يُفسَّرَ القرآنُ بالقرآنِ؛ لأن ما أُجْمِلَ في مكانٍ قد فُسِّرَ في موضعٍ آخَرَ، وما اختُصِرَ في موضعٍ فقد بُسِطَ في موضعٍ آخَرَ , ولم يَزِدْ على ذلك رَحِمَه اللَّهُ.
وإذا نظرْنَا إلى تفسيرِ القرآنِ بالقرآنِ فإنَّ كونَه أصحَّ الطُّرقِ وأبلغَ التفاسيرِ هذا لا إشكالَ فيه، ولكن هل تفسيرُ القرآنِ بالقرآنِ مما يتأتَّى بالرأيِ والاجتهادِ أو هو مما لا رأيَ فيه ولا اجتهادَ فيه؟ بمعنى أنَّ المفسِّرَ إذا فسَّرَ آيةً بآيةٍ هل تفسيرُه هذا من بابِ الرأيِ أو من بابِ النقْلِ البحْتِ؟
الواقعُ أنَّ جمهورَ تفسيرِ القرآنِ بالقرآنِ يدخُلُ في بابِ التفسيرِ بالرأيِ، وهنا يجبُ أن ننتَبِهَ إلى أننا حينما نقولُ: إنَّ القرآنَ مصدرٌ للتفسيرِ فإننا ننظُرُ إلى مَن يفسِّرُ الآيةَ بالآيةِ.
فهناك آياتٌ مثلًا لا يمكنُ أن يُختلفَ في أنها تفسِّرُ آياتٍ أخرى؛ لأنَّ هذا ظاهرُ النَّصِّ، كما في قولِه تعالى: {والسَّماءِ والطَّارِقِ وما أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} فسَّرَها قولُه: {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} فهذا النوعُ يَجِبُ قبولُه؛ لأنه مما لا خِلافَ فيه.
وقد يكونُ تفسيرُ الآيةِ بالآيةِ وارِدًا عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ كما في قولِه تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا ولم يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ} فسَّرَها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ بالآيةِ الأخرى: {إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فهذا أيضًا يُقبلُ؛ لأنه واردٌ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ.
أما ما عدا ذلك مما لا يتَّضِحُ معناه اتِّضاحًا كاملًا , ويكادُ يُختلفُ فيه , ولم يَرِدْ فيه حديثٌ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ فهو في عِدادِ الاجتهادِ.
فمثلًا قولُه تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم}. مَن المُنعَمُ عليهم؟ فُسِّرَتْ بقولِه تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ والصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولِئَكَ رَفيقًا}. فهذا من بابِ التفسيرِ بالاجتهادِ.
وكذلك قولُه تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذينَ كَفَرُوا أنَّ السَّماواتِ والأرضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ تُؤْمِنُونَ}. فسَّرَها بعضُ السَّلفِ أنَّ السماءَ كانتْ لا تُمْطِرُ ففَتَقَها اللَّهُ بالمَطَرِ، وأنَّ الأرضَ كانت لا تُنْبِتُ ففَتَقَها اللَّهُ بالنباتِ، وفسَّرَها بقولِه تعالى: {والسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ والأرضِ ذاتِ الصَّدْعِ} فجَعلَ المعنى الذي في الآيةِ هو نفسَ المعنى الذي في الآيةِ الأخرى، قال: والرَّجعُ هو رجوعُ المطَرِ مرَّةً بعدَ مرَّةٍ، والصَّدْعُ هو تشقُّقُ الأرضِ بالنباتِ، فمِثلُ هذا التفسيرِ يدخُلُ في بابِ الاجتهادِ، وأغْلَبُ تفسيرِ القرآنِ بالقرآنِ من هذا النوعِ؛ أي: التفسيرِ بالاجتهادِ، هذه مسألةٌ.
المسألةُ الثانيةُ: إذا فسَّرَ أهلُ البدَعِ آيةً بآيةٍ فهل يُقبلُ تفسيرُهم , أو لا؟
أضربُ مثلًا لذلك قولَه تعالى: {وجوهٌ يومَئذٍ ناضِرَةٌ إلى رَبِّها ناظِرَةٌ} النَّظَرُ هنا يقولُ المعتزلةُ: إنه بمعنى الانتظارِ، ويستدلُّون بقولِه تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأبْصَاُر وهو يُدْرِكُ الأبصارَ}، فهم يفسِّرونَ الآيةَ الأولى بالآيةِ الثانيةِ، فهل يُقبلُ مثلُ هذا التفسيرِ؟ فمِثلُ هذا التفسيرِ غيرُ مقبولٍ؛ لأنه مبنيٌّ على خطأٍ في الاعتقادِ، وهو نفيُ الرُّؤْيةِ، فليس كلُّ تفسيرٍ للقرآنِ بالقرآنِ مقبولًا، وإنما يكونُ مقبولًا إذا كان موافِقًا للصَّوابِ.
مسألةٌ أخـرى: وهي أنه حينَ يُقالُ: تفسيرُ القرآنِ بالقرآنِ أو تفسيرُ آيةٍ بآيةٍ , هل المرادُ بيانُ معنًى خفيٍّ في آيةٍ بآيةٍ أخرى؟ أو المرادُ رَبْطُ آيةٍ بآيةٍ أخرى أيًّا كان هذا النَّوعُ من الرَّبطِ؟
إنَّ عملَ علماءِ التفسيرِ رَحِمَهم اللَّهُ في تفسيرِ القرآنِ بالقرآنِ على ربطِ آيةٍ بآيةٍ أخرى , أيًّا كان هذا النوعُ من الرَّبطِ، وهو موجودٌ في تفسيرِ السَّلفِ، ومِن أشهَرِهم في ذلك مقاتلُ بنُ سليمانَ وعبدُ الرحمنِ بنُ زيدِ بنِ أسْلَمَ، ثمَّ تراهُ موجودًا بكثرةٍ عندَ ابنِ كثيرٍ والصَّنعانيِّ والشِّنقيطِيِّ، وغيرِهم ممَّن اعتنى بهذا الطريقِ، حيثُ تَجِدُهم يذكُرون ما يتعلَّقُ بالآيةِ من الآياتِ الأخرى ويَربِطُونها بها بأيِّ شكلٍ كان هذا الرَّبطُ، ومعنى ذلك أنَّ مدلولَ تفسيرِ القرآنِ بالقرآنِ عندَهم واسعٌ , وليس المرادُ به فقطْ ما يتعلَّقُ بالبيانِ.
فمثلًا قولُه تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عليهم حِجارةً مِنْ سِجِّيلٍ} فالسِّجِّيلُ كلمةٌ غريبةٌ فسَّرَتْها الآيةُ الأخرى: {بِحِجَارةٍ مِنْ طِينٍ}، وكذلك قولُه تعالى: {إلَّا ما يُتْلَى عليكم} مُجْمَلٌ بيَّنَه قولُه تعالى: {حُرِّمَتْ عليكم المَيْتَةُ والدَّمُ ولَحْمُ الخِنزيرِ}.
ولكن هناك بعضُ الآياتِ إذا رُبِطتْ بآيةٍ أخرى لا يكونُ من بابِ البيانِ , وإنما يكونُ من بابِ جمعِ النظائرِ مثلًا، أو بابِ إكمالِ قصةٍ ذُكِرَ بعضُها في موضعٍ , وبعضُها في موضعٍ آخَرَ؛ فمثلًا قصةُ موسى عليه السلامُ قد تُذكَرُ في مكانٍ ويُخْتَزَلُ بعضُ ما ذُكرَ في مكانٍ آخَرَ , فيأتي المفسِّرُ ويُكمِلُ ما لم يُذكَرْ في سورةِ كذا بما ذُكِرَ في السورةِ الأخرى, فهذا في الحقيقةِ ليس فيه بيانٌ للآيةِ وإنما هو رَبطُها بآيةٍ أخرى.
إذًا: تفسيرُ القرآنِ بالقرآنِ على نوعين:
النوعُ الأولُ: ما يكونُ فيه بيانٌ مباشرٌ عن معنًى خفيٍّ في الآيةِ، وهذا هو الذي يَنطبقُ عليه معنى التفسيرِ حقيقةً.
النوعُ الثاني: ما يكونُ فيه توسُّعٌ في مدلولِ تفسيرِ القرآنِ بالقرآنِ فيدخُلُ فيه ربطُ الآيةِ بآيةٍ.