إثباتُ المكرِ والكيدِ للهِ تعالى على ما يليقُ به
وقَوْلُهُ: ( وَهُوَ شَديِدُ المِحَالِ )، و قَوْلُهُ: ( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ )، وقَوْلُهُ: ( وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْناً مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ )، وقَوْلُهُ: ( إِنَّهُمْ يَكِيدُون كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً ).(31)
(31)قوله: (وَهُوَ) أي اللهُ سبحانَه
(شَديدُ المِحَالِ) المِحال ُفي اللُّغةِ الشِّدَّةُ ـ أي شديدُ الكيدِ ـ قال الزَّجَّاجُ: يقالُ ماحلتَه مِحَالا إذا قَاويتَه حتى يتبيَّن أيُّكُما أَشَدُّ.
وقال ابنُ الأعرابيِّ: المحالُ المكرُ. فهو سبحانَه شديدُ المكرِ وشديدُ الكيدِ ـ والمكرُ من اللهِ إيصالُ المكروهِ إلى مَن يستحقُّه مِن حيثُ لا يشعرُ.
وقولُه (وَمَكَرُوا) أي الَّذين أحسَّ عيسى منهمُ الكفرَ، وهمْ كفَّارُ بني إسرائيلَ الَّذين أرادُوا قتلَ عيسى وصَلْبَه،
والمكرُ: فعلُ شيءٍ يرادُ به ضدُّه
(وَمَكَرَ اللهُ) أي: استدرجَهُم وجازاهم عَلى مكرِهم، فألقى شَبَه عيسى عَلى غيرِه، ورفع عيسى إليه
(وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) أي أقواهم وأقدرُهُم عَلى إيصالِ الضَّررِ بمَن يستحقُّه مِن حيثُ لا يشعرُ ولا يحتسبُ.
وقولُه: (ومَكَروا) أي الكفَّارُ الَّذين تحالفوا عَلى قتلِ نَبيِّ اللهِ صالحٍ عليه السَّلامُ وأهلِه خُفْيةً خوفاً مِن أوليائِه,
(وَمَكَرْنَا مَكْراً) جازيناهم بفعلهِم هذا فأهلكناهم ونجَّينا نبيَّنا
(وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ) بمكرِنَا.
وقولُه: (إنَّهُمْ) أي كفَّارُ قريشٍ
(يَكِيدُونَ كَيْداً) أي يمكرون لإبطالِ ما جاء به محمَّدٌ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ مِن الدِّين الحقِّ (وَأَكيدُ كَيْداً) أي: أستدرجُهم وأُجازيهم عَلى كيدهِم فآخذُهُم عَلى غِرّةٍ، وهم لا يشعُرون.
الشَّاهدُ مِن الآيات: في هذه الآياتِ وصفُ اللهِ بالمكرِ والكيدِ، ونسبةُ ذلك إليه سبحانَه حقيقةٌ عَلى بابِه، فإنَّ المكرَ إيصالُ الشيْءِ إلى الغيرِ بطريقٍ خَفِيٍّ، وكذلك الكيدُ والمخادعةُ،
والمكرُ والكيدُ نوعان:
قبيحٌ وهو إيصالُ ذلك لمَن لا يستحقُّه،
وحسَنٌ وهو إيصالُه إلى مَن يستحقُّه؛ عقوبةً له,
فالأوَّلُ مذمومٌ، والثاني ممدوحٌ, والرَّبُّ تعالى إنما يفعلُ مِن ذلك ما يُحمدُ عليه عدلاً منه وحكمةً، وهو تعالى يأخذُ الظَّالمَ والفاجرَ مِن حيثُ لا يَحْتَسِبُ، لا كما يفعلُ الظَّلَمةُ بعبادِ اللهِ، واللهُ أعلمُ.
واللهُ سبحانَه لم يَصِفْ نفسَه بالكيدِ والمكرِ والخداعِ إلاَّ عَلى وجهِ الجزاءِ لمَن فعلَ ذلك بغيرِ حقٍّ. وقد عُلِم أَنَّ المجازاةَ حسنةٌ مِن المخلوقِ، فكيف بالخالقِ سبحانَه وتعالى!
تنبيهٌ: نِسبةُ الكَيدِ والمكرِ ونحوِهِمَا إليه سبحانَه مِن إطلاقِ الفعلِ عليه تعالى، والفعلُ أوسعُ مِن الاسمِ، ولهذا أطلق اللهُ عَلى نفسِه أفعالاً لم يَتَسَمَّ منها بأسماءِ الفاعلِ، كأرادَ وشاءَ، ولم يُسَمَّ بالمريدِ والشَّائي. وكذا مكَر ويمكُر. وأكيدُ كيداً ولا يقالُ الماكرُ والكائدُ؛ لأنَّ مسمَّياتها تنقسمُ إلى ممدوحٍ ومذمومٍ.