وَفِي [عَرَصَاتِ] القِيَامَةِ الحَوْضُ المَوْرُودُ للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَياضَاً مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ العَسَلِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، طُولُهُ شَهْرٌ، وَعَرْضُهُ شَهْرٌ، مَن يَشْرَبُ مِنْهُ شَرْبَةً لا يَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَداً.
ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلمٍ عَن أَنَـسٍ قَالَ أَغْفَـى رَسُـولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِغْفَاءَةً فَرَفَعَ رَأْسَـهُ مُتَبَسِّماً إِمَّا قَالَ لهُمْ وَإِمَّا قَالُـوا لهُ: لِمَ ضَحِكْتَ؟ فَقَالَ رَسُـولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهُ أُنْـزِلَتْ عَلَيَّ آنِفـاً سُـورَةٌ" فَقَـرَأَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ} حَتَّى خَتَمَهَا فَقَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَا الكَوْثَرُ؟" قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "هُوَ نَهَرٌ أَعْطَانِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي الجَنَّةِ عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، تَرِدُ عَلَيْهِ أمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ الكَوَاكِبِ، يَخْتَلِجُ العَبْدُ مِنْهُمْ فَأَقُولُ:يَا رَبِّ إِنَّهُ مِن أُمَّتِي فَيُقَالُ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ" وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا، وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَرِدُونَ عَلَى الحَوْضِ وَأَنَا أَرُدُّ عَنْهُ النَّاسَ بِعَصَايَ" قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَرْضُهُ ؟قَالَ "كَمَا بَيْنَ مَقَامِي هَذَا إِلَى عَمَّانَ" قُلْنَا: وَمَا آنِيَتُهُ؟ قَالَ: "عَدَدُ النُّجُومِ، فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الجَنَّةِ أَحَدُهُمَا مِنْ ذَهَبٍ وَالآخَرُ مِنْ وَرِقٍ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أبداً " قَالَ ثَوْبَانُ: فَادْعُوَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَجْعَلَكُمْ مِن وَارِدِيهِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ، وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الوَرِقِ، وَرِيحُهُ أَطَيَبُ مِنَ المِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلاَ يَظْمَأُ بعده أَبَداً" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لمُسْلمٍ، وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَضَى بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَإِذَا هُوَ بِنَهَرٍ عَلَيْهِ قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ فَذَهَبَ يَشُمُّ تُرَابَهُ فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ قَالَ: "يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا النَّهْرُ؟ قَالَ: هُوَ الكَوْثَرُ الذي خَبَّأَ لَكَ رَبُّكَ".
رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَفِي حَدِيثِ لَقِيطِ بْنِ عَامِرٍ: ثُمَّ يَنْصَرِفُ نَبِيُّكُمْ وَيَنْصَرِفُ عَلَى أَثَرِهِ الصَّالحُونَ فَيَسْلُكُونَ جِسْراً مِنَ النَّارِ فَيَطَأُ أَحَدُكُمُ الجَمْرَ فَيَقُولُ:حَسِّ يَقُولُ رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ: أَوَانُهُ. أَلاَ فَتَطَّلِعُونَ عَلَى حَوْضِ نَبِيَّكُمْ عَلَى أَظْمَأِ_وَاللَّهِ-نَاهِلَةٍ عَلَيْهَا قَطُّ مَا رَأَيْتُهَا، فَلَعَمْرُ إِلَهِكَ مَا يَبْسُطُ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَدَهُ إِلاَّ وُضِعَ عَلَيْهَا قَدَحٌ يُطَهِّرُهُ مِنَ الطَّوْفِ وَالبَوْلِ وَالأَذَى".
"وَالأَحَادِيثُ الوَارِدَةُ فِي الحَوْضِ تَبْلُغُ حَدَّ التَّوَاتُرِ، رَوَاهَا مِن الصَّحَابَةِ بِضْعٌ وثَلاَثُـونَ صَحَابِيًّا بَلْ قَدْ رَوَى أَحَادِيثَ الحَـوْضِ أَرْبَعُـونَ مِن الصَّحَـابَةِ وَكَثِيرٌ مِنْهَا، وَأَكْثَرُهَا فِي الصَّحِيحِ،وَرَوَاهُ غَيْرُهُمْ أيضـاً. وَهَلِ الحَوْضُ مُخْتَصٌّ بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضٌ؟ فَالحَوْضُ الأَعْظَمُ مُخْتَصٌّ بِهِ لا يَشْرَكُهُ فِيهِ نَبِيٌّ غَيْرُهُ وَأَمَّا سَائِرُ الأَنْبِيَاءِ فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَن سُمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ لكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضاً وَإِنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وَارِدَةً وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ وَارِدَةً)).
وَفِي مُسْنَدِ البَزَّارِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ لي حَوْضاً مَا بَيْنَ بَيْتِ المَقْدِسِ إِلَى الكَعْبَةِ أَبْيَضَ مِن اللَّبَنِ فِيهِ عَدَدُ الكَوَاكِبِ آنِيَةٌ، وَأَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ، وَلكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضٌ وَكُلُّ نَبِيٍّ يَدْعُو أُمَّتَهُ فَمِنْهُمْ مَن يَرِدُ عَلَيْهِ فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرِدُ عَلَيْهِ مَا هُوَ دُونَ ذَلكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرِدُ عَلَيْهِ العِصَابَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرِدُ عَلَيْهِ الرَّجُلانِ وَالرَّجُلُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لا يَرِدُ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ قَدْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ قَدْ بَلَّغْتُ ثلاثاً" وَذَكَرَ الحَدِيثَ.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَدْ رَوَى أَحَادِيثَ الحَوْضِ خَمْسُونَ مِن الصَّحَابَةِ. قَالَ: وَللْكَثِيرِ مِن هَؤُلاءِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلكَ زِيَادَةٌ عَلَى الوَاحِدِ كَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَحَادِيثُهُمْ بَعْضُهَا فِي مُطْلَقِ ذِكْرِ الحَوْضِ، وَفِي صِفَتِهِ بَعْضُهَا، وَفِيمَنْ يَرِدُ عَلَيْهِ بَعْضُهَا، وَفِيمَنْ يُدْفَعُ عَنْهُ بَعْضُهَا قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ المُتَأَخِّرِينَ وَصَّلَهَا إِلَى رِوَايَةِ ثَمَانِينَ صَحَابِياً. اهـ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ القُرْطُبِيُّ فِي المُفْهِمِ: مِمَّا يَجِبُ عَلَى المُكَلَّفِ أَنْ يَعْلَمَهُ وَيُصَدِّقَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى قَدْ خَصَّ نَبِيَّهُ مُحمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالحَوْضِ المُصَرَّحِ بِاسْمِهِ وَصِفَتِهِ وَشَرَابِهِ فِي الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الشَّهِيرَةِ الَّتِي يَحْصُلُ بِمَجْمُوعِهَا العِلْمُ القَطْعِيُّ، إِذْ رَوَى ذَلكَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن الصَّحَابَةِ نَيِّفٌ عَلَى الثَّلاثِينَ، مِنْهُمْ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَا يُنِيفُ عَلَى العِشْرِينَ، وَفِي غَيْرِهِمَا بَقِيَّةُ ذَلكَ مِمَّا صَحَّ نَقْلُهُ وَاشْتَهَرَتْ رُوَاتُهُ، ثُمَّ رَوَاهُ عَن الصَّحَابَةِ المَذْكُورِينَ مِن التَّابِعِينَ أَمْثَالُهُمْ، وَمِن بَعْدِهِمْ أَضْعَافُ أَضْعَافِهِمْ وَهَلُمَّ جَرًّا، وَأَجْمَعَ عَلَى إِثْبَاتِهِ السَّلَفُ وَأَهْلُ السُّنَّةِ مِن الخَلَفِ، وَأَنْكَرَتْ ذَلكَ طَائِفَةٌ مِن المُبْتَدِعَةِ وَأَحَالُوهُ عَن ظَاهِرِهِ، وَغَلَوْا فِي تَأْوِيلِهِ مِن غَيْرِ اسْتِحَالَةٍ عَقْليَّةٍ وَلا عَادِيَّةٍ تُلْزِمُ حَمْلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَلا حَاجَةَ تَدْعُو إِلَى تَأْوِيلِهِ فَخَرَقَ مَن حَرَّفَهَ إِجْمَاعَ السَّلَفِ وَفَارَقَ مَذْهَبَ أَئِمَّةِ الخَلَفِ. اهـ
وَوُرُودُ حَوْضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الصِّرَاطِ، فَيَرِدُهُ قَوْمٌ وَيُذَادُ عَنْهُ آخَرُونَ وَقَدْ بَدَّلُوا وَغَيَّرُوا، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَن أَنَسٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُـولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَشْفَـعَ لي فَقَالَ: "أَنَا فَاعِلٌ" فَقُلْتُ: أَيْنَ أَطْلُبُكَ؟ قَالَ: "اطْلُبْنِي أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي عَلَى الصِّرَاطِ" قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ؟ قَالَ: "أَنَا عِنْدَ المِيزَانِ" قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ؟ قَالَ: "أَنَا عِنْدَ الحَوْضِ".
وَقَدْ اسْتَشْكَلَ كَوْنُ الحَوْضِ بَعْدَ الصِّرَاطِ بِمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الأَحَادِيثِ: أَنَّ جَمَاعَةً يُدْفَعُونَ عَنِ الحَوْضِ بَعْدَ أَنْ يَكَادُوا يَرِدُونَ وَيُذْهَبُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ،وَوَجْه الإشْكالِ أَنَّ الذي يَمُرُّ عَلَى الصِّرَاطِ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى الحَوْضِ يَكُونُ قَدْ نَجَا مِن النَّارِ فَكَيْفَ يَرِدُ إِلَيْهَا ؟ وَيُمَكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُمْ يُقَرَّبُونَ مِن الحَوْضِ بِحَيْثُ يَرَوْنَهُ وَيَرَوْنَ النَّارَ فَيُدْفَعُونَ إِلَى النَّارِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُصُوا مِن بَقِيَّةِ الصِّرَاطِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ القُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ: ذَهَبَ صَاحِبُ القُوتِ وَغَيْرُهُ: إِلَى أَنَّ الحَوْضَ يَكُونُ بَعْدَ الصِّرَاطِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى العَكْسِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوْضَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي المَوْقِفِ قَبْلَ الصِّرَاطِ وَالآخَرُ دَاخِلُ الجَنَّةِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُسَمَّى كَوْثَراً، قَالَ الحَافِظُ: وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لأَنَّ الكَوْثَرَ نَهْرٌ دَاخِلَ الجَنَّةِ وَمَاؤُهُ يَصُبُّ فِي الحَوْضِ وَيُطْلَقُ عَلَى الحَوْضِ كَوْثَراً لكَوْنِهِ يُمَدُّ مِنْهُ , فَغَايَةُ مَا يُؤْخَذُ مِن كَلامِ القُرْطُبِيِّ أَنَّ الحَوْضَ يَكُونُ قَبْلَ الصِّرَاطِ فَإِنَّ النَّاسَ يَرِدُونَ المَوْقِفَ عِطَاشاً فَيَرِدُ المُؤْمِنُونَ الحَوْضَ وَتَتَسَاقَطُ الكُفَّارُ فِي النَّارِ بَعْدَ أَنْ يَقُولُوا: رَبَّنَا عَطِشْنَا فَتُرْفَعُ لهُمْ جَهَنَّمُ كَأَنَّهَا سَرَابٌ فَيُقَالُ: أَلا تَرِدُونَ؟ فَيَظُنُّونَهَا مَاءً فَيَتَسَاقَطُونَ فِيهَا.
وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلمٌ مِن حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: "أَنَّ الحَوْضَ يَشْخَبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِن الجَنَّةِ". وَلَهُ شَاهِدٌ مِن حَدِيثِ ثَوْبَانَ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى القُرْطُبِيِّ لا لَهَ؛ لأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصِّرَاطَ جِسْرُ جَهَنَّمَ وَأَنَّهُ بَيْنَ المَوْقِفِ وَالجَنَّةِ، وَأَنَّ المُؤْمِنِينَ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ لدُخُولِ الجَنَّةِ، فَلَوْ كَانَ الحَوْضُ دُونَهُ لحَالَتِ النَّارُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المَاءِ الذي يُصَبُّ مِن الكَوْثَرِ فِي الحَوْضِ. وَظَاهِرُ الحَدِيثِ أَنَّ الحَوْضَ بِجَانِبِ الجَنَّةِ لِيَنْصَبَّ فِيهِ المَاءُ مِن النَّهْرِ الذي دَاخِلَهَا. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: "وَيُفْتَحُ نَهْرُ الكَوْثَرِ إِلَى الحَوْضِ". اهـ
وَقَالَ القُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ: وَاخْتُلِفَ فِي المِيزَانِ وَالحَوْضِ أَيُّهُمَا يَكُونُ قَبْلَ الآخَرِ؟ فَقِيلَ: المِيزَانُ. وَقِيلَ: الحَوْضُ. قَالَ أَبُو الحَسَنِ القَابِسِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الحَوْضَ قَبْلُ. قَالَ القُرْطُبِيُّ: وَالمَعْنَى يَقْتَضِيهِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يَخْرُجُونَ عِطَاشاً مِن قُبُورِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فَيُقَدَّمُ قَبْلَ المِيزَانِ وَالصِّرَاطِ. قَالَ أَبُو حَامِدٍ الغَزَاليُّ فِي كِتَابِ كَشْفِ عِلْمِ الآخِرَةِ: حَكَى بَعْضُ السَّلَفِ مِن أَهْلِ التَّصْنِيفِ أَنَّ الحَوْضَ يُورَدُ بَعْدَ الصِّرَاطِ، وَهُوَ غَلَطٌ مِن قَائِلِهِ القُرْطُبِيِّ هُوَ كَمَا قَالَ، ثُمَّ قَالَ القُرْطُبِيُّ: وَلا يَخْطُرُ بِبَالِكَ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الأَرْضِ بَلْ فِي الأَرْضِ المُبْدَّلَةِ أَرْضٌ بَيْضَاءُ كَالفِضَّةِ لمْ يُسْفَكْ فِيهَا دَمٌ وَلَمْ يُظْلَمْ عَلَى ظَهْرِهَا أَحَدٌ قَطُّ تَظْهَرُ لنُزُولِ الجَبَّارِ جَلَّ جَلالُهُ لفَصْلِ القَضَاءِ انْتَهَى.
فَقَاتَلَ اللَّهُ المُنْكِرِينَ لوُجُودِ الحَوْضِ وَأَخْلِقْ بِهِمْ أَنْ يُحَالَ بَيْنَهمْ وَبَيْنَ وُرُودِهِ يَوْمَ العَطَشِ الأَكْبَرِ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ لقِيطِ بْنِ عَامِرٍ: "فَتَطَّلِعُونَ عَلَى حَوْضِ نَبِيِّكُمْ" ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الحَوْضَ مِن وَرَاءِ الجِسْرِ وَكَأَنَّهُمْ لا يَصِلُونَ إِلَيْهِ حَتَّى يَقْطَعُوا الجِسْرَ، وَللسَّلَفِ فِي ذَلكَ قَوْلانِ: حَكَاهُمَا القُرْطُبِيُّ فِي تَذْكِرَتِهِ وَالغَزَاليُّ، وغَلِطَ مَن قَالَ :إِنَّهُ بَعْدَ الجِسْرِ. وَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَا أَنَا قَائِمٌ عَلَى الحَوْضِ إِذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِن بَيْنِي وَبينِهُمْ فَقَالَ: هَلُمَّ. فَقُلْتُ: إِلَى أَيْنَ؟ فَقَالَ:إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ. قُلْتُ:مَا شَأْنُهُمْ ؟ قَالَ:إِنَّهُمْ ارْتَدُّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ فَلا أُرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلا مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ". قَالَ: فَهَذَا الحَدِيثُ مَعَ صِحَّتِهِ أَدَلُّ دَليلٍ عَلَى أَنَّ الحَوْضَ يَكُونُ فِي المَوْقِفِ قَبْلَ الصِّرَاطِ؛ لأَنَّ الصِّرَاطَ إِنَّمَا هُوَ جِسْرٌ مَمْدُودٌ عَلَى جَهَنَّمَ فَمَنْ جَازَهُ سَلِمَ مِن النَّارِ. قَلَتْ:وَلَيْسَ بَيْنَ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَارُضٌ وَلا تَنَاقُضٌ وَلا اخْتِلافٌ، وَحَدِيثُهُ كُلُّهُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً، وَأَصْحَابُ هَذَا القَوْلِ إِنْ أَرَادُوا أَنَّ الحَوْضَ لا يُرَى وَلا يُوصَلُ إِلَيْهِ إِلا بَعْدَ قَطْعِ الصِّرَاطِ فَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا وَغَيْرُهِ يَرُدُّ قَوْلَهُمْ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ المُؤْمِنِينَ إِذَا جَازُوا الصِّرَاطَ وَقَطَعُوهُ بَدَا لَهُمُ الحَوْضُ فَشَرِبُوا مِنْهُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ لقِيطٍ هَذَا وَهُوَ لا يُنَاقِضُ كَوْنَهُ قَبْلَ الصِّرَاطِ، فَإِنَّهُ قَالَ: طُولُهُ شَهْرٌ وَعَرْضُهُ شَهْرٌ فَإِذَا كَانَ بِهَذَا الطُّولِ وَالسِّعَةِ فَمَا الذي يُحِيلُ امْتِدَادَهُ إِلَى مَا وَرَاءِ الجِسْرِ؟ فَيَرِدُهُ المُؤْمِنُونَ قَبْلَ الصِّرَاطِ وَبَعْدَهُ؟ فَهَذَا فِي حَيِّزِ الإِمْكَانِ، وَوُقُوعُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى خَبَرِ الصَّادِقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: "عَلَى أَظْمَأِ نَاهِلَةٍ قَطُّ ": النَّاهِلَةُ: العِطَاشُ الوَارِدُونَ المَاءَِ أَيْ: يَرِدُوهُ أَظْمَأَ مَا هُمْ إِلَيْهِ، وَهَذَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الصِّرَاطِ فَإِنَّهُ جِسْرُ النَّارِ وَقَدْ وَرَدُوهَا كُلُّهُمْ فَلَمَّا قَطَعُوهُ اشْتَدَّ ظَمَؤُهُمْ إِلَى المَاءِ فَوَرَدُوا حَوْضَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا وَرَدُوهُ فِي مَوْقِفِ القِيَامَةِ.