أغراض الذكر
وفي مقابل الحذف يقع أحيانا تصريح بذكر ما لو حذف لعُرف؛ فيكون الذكر أوقع في السمع وأبين للمراد وأحسن تأثيراً على المخاطب.
وللذكر في المواضع التي يمكن فيها الحذف أغراض منها:
1: دفع اللبس بالتصريح بالذكر، كما في قول الله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)}
ولو قيل فما متاعها؛ لوقع اللبس بعود الضمير إلى أقرب مذكور، مع ما في التصريح بالذكر من زيادة تصوير الموازنة بين متاع الحياة الدنيا والآخرة.
2: زيادة التقرير والإيضاح كما في قول الله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فأعاد ذكر اسم الإشارة {أولئك} مع ما تشعر به هذه الزيادة من المدح والثناء.
3: زيادة المعنى بإعادة الذكر مع إضافة وصف أو حكم؛ كما في قول الله تعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا} فكان في ذكرهم بوصف الظلم بدل الضمير زيادة معنى، مع ما يدلّ عليه الالتفات من الإعراض عنهم.
وكذلك قول الله تعالى: {وبالحقّ أنزلناه وبالحقّ نزل}.
4: التأثير على المخاطب تخويفاً أو تسكيناً أو تشويقاً أو تشنيعاً أو تهويلاً.
- فمثال التخويف: قول الله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بياتا وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ}
- ومثال التسكين وزيادة الاطمئنان قول الله تعالى: {لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين . ليكفّر الله عنهم أسوأ الذي عملوا} ففي ذكر اسم الله صريحاً غير مضمر ما يبعث في نفوسهم الطمأنينة والسكينة، ولو قال: ليكفّر عنهم ؛ لكان المعنى مفهوماً، لكن الاسم الظاهر أوقع في النفس من الضمير.
ومثاله أيضاً قوله تعالى: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18)}
- ومثال التشويق: قول الله تعالى: { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى}، فكرر ذكر الأنهار في مواضع لو أضمرت لفهم المعنى، لكن النصّ على ذكر الأنهار يفيد من التشويق ما لا يفيده العطف المجرد عن الذكر.
- ومثال التشنيع: قول الله تعالى: { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)}.
وقد يجتمع التشنيع والتخويف كما في قول الله تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) }
- ومثال التهويل: قول الله تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها . وأخرجت الأرض أثقالها }
5: التعظيم، كما في قول الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}
فكرر ذكر {هو الله} ثلاث مرات تعظيماً لشأنه جلّ وعلا.
وقال الله تعالى: {فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين} ولا يخفى ما في تكرار الذكر من معنى التعظيم.
وكذلك في قول الله تعالى: {لا أقسم بهذا البلد . وأنت حلّ بهذا البلد} فيه تعظيم للبلد الحرام.
6: التوسّل بتكرار ذكر اسم الله تعالى أو صفة من صفاته كما في قول الله تعالى: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)}
7: التلطّف بتكرار ذكر المخاطَب، كما في قول الله تعالى: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)}
فكرر الخليل عليه السلام ذكر {يا أبت} تلطّفاً بأبيه وتودداً إليه بذكر ما يُحبّ أن يُنادى به.