القارئ: النوع الرابع والعشرون: في كيفية سماع الحديث وتحمله وضبطه
قال: يصح تحمل الصغار الشهادة والأخبار,وكذلك الكفار,إذا أدوا ما حملوه في حال كمالهم,وهو الاحتلام والإسلام، وينبغي المبادرة إلى إسماع الولدان الحديث النبوي.
والعادة المضطردة في أهل هذه الأعصار وما قبلها بمدد متطاولة، أن الصغير يكتب له (غير مسموع) إلى تمام خمس سنين من عمره، ثم بعد ذلك يسمى سماعًا.
واستأنسوا من ذلك بحديث محمود بن الربيع: أنه عقل مجة مجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه من دلو في دراهم,وهو ابن خمس سنين.رواه البخاري.فجعلوه فرقًا بين السماع والحضور.
وفي رواية:وهو ابن أربع سنين.
وضبطه بعض الحفاظ بسن التمييز.
وقال بعضهم: أن يفرق بين الدابة والحمار.
وقال بعض الناس: لا ينبغي السماع إلا بعد العشرين سنة.
وقال بعضهم: عشر.
وقال آخرون: ثلاثون.
والمدار في ذلك كله على التمييز,فمتى كان الصبي يعقل كتب له سماع.
قال الشيخ أبو عمرو: وبلغنا عن إبراهيم بن سعيد الجوهري,أنه قال: رأيت صبيا ابن أربع سنين قد حمل إلى المأمون,قد قرأ القرآن ونظر في الرأي,غير أنه كان إذا جاع يبكي.
وأنواع تحمل الحديث ثمانية.
الشيخ: الآن بدأنا في مبحث جديد,وهو: ما يتعلق فيه بكيفية سماع الحديث وتحمله وضبطه، ومثل هذا في الحقيقة يعطينا لمحة سريعة عن جهود علماء الحديث,ودقتهم وحيطتهم في صيانة حديث النبي صلى الله عليه وسلم من جميع الجهات,فهذه المباحث يمكن ما تطرأ لنا على بال,لولا أننا نتأمل مثل هذا الكلام.
حينما تكلمت في شروط الحديث الصحيح,أشرت إلى بعض الكلام المتعلق بهذا المبحث,وما يتعلق بمسألة البلوغ ومسألة الإسلام، وهو صدر هذا الكلام الموجود عندنا في هذا المبحث، كالصغير,نحن ينبغي أن نفرق بين حالتين من حالاته:
الحالة الأولى: حالة التحمل.
والحالة الثانية: حالة الأداء.
فحالة الأداء باتفاق يجب أن تكون بعد البلوغ,ولا يقبل من الصبي قبل البلوغ، وأما حالة التحمل فيصح تحمله قبل البلوغ على الرأي الصحيح.
وأما من اشتراط أن يكون ابن عشرين سنة أو ابن ثلاثين سنة,فهذا لا التفات لقوله,وقوله شاذ، والصواب الذي تؤيده الأدلة,ويؤيده العقل الراجح, الصحيح السليم: أنه يصح تحمل الصغير قبل البلوغ,لكن ما هو الحد الأدنى لهذا التحمل الذي لا يصح معه قبله؟
الرأي الراجح في هذا هو ما أشار إليه الحافظ ابن كثير,أن العبرة في هذا بالتمييز,فمتى ما صح تمييز الصبي فإنه يصح تحمله للحديث، فإذا تحمل حديثًا منذ سن التمييز إلى سن البلوغ اعتبرنا هذا التحمل منه تحملًا صحيحًا، بحيث إذا أداه بعد البلوغ اعتبرنا ذلك الحديث حديثًا صحيحًا,أما لو تحمله قبل سن التمييز,ثم أداه بعد البلوغ,لما اعتبرنا ذلك صحيحًا منه.
هذه هي ثمرة مثل هذا الاختلاف,لكن ما هي سن التمييز؟ منهم من قال: السابعة,ومنهم من قال العاشرة لكن الصواب: أنه لا ينبغي أن يحد سن التمييز بحد,بل يختلف الناس في قدراتهم؛فبعضهم قد يميز وهو ابن أربع سنين,وبعضهم قد لا يميز وهو ابن عشر سنين,أماكيف يميز؟ فاختلفوا في ذلك:
منهم من قال: يمكن أن يميز بين التمرة والجمرة,لو أعطيته تمرة وجمرة لأخذ التمرة وترك الجمرة؛لمعرفته أن الجمرة تحرقه وأن التمرة حلوة يمضغها، ومنهم من قال: إذا فرق بين الدابة والحمار.
المهم أن هذا يعرف بالقرائن العرفية في نفس العصر، وكل منا إما له أخ أو ابن إن كان متزوجًا,وله أبناء,ويعرف أن هذا الابن في هذا السن يبدأ فعلًا يميز وأنه قبل ذلك لا يوثق به في تمييزه ولا يمكن أن يفرق النافع والضار,وبين كذا وكذا,ولا يعتمد عليه في ذلك.
فالعبرة إذن بسن التمييز, لكن من اشترط سنًا معينًا فإنه مجتهد,وبعضهم اعتمد على بعض الأدلة، مثل هذا الدليل المذكور عن محمود بن الربيع رضي الله تعالى عنه,وهو في صحيح البخاري أنه قال: "عقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي من بئر لنا". وهذا كان من كريم خلقه صلى الله عليه وسلم ومداعبته للأطفال,أخذ غرفة من ماء فجعلها في فيه فمجها في وجه هذا الصبي من باب المداعبة له أولًا,وأيضًا حتى تنال بركته صلى الله عليه وسلم ذلك الصبي.
فعلى كل حال، هذا الذي صدر من محمود بن الربيع رضي الله تعالى عنه يدل على أنه عقل في تلك السن.
"عقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم....." أدركت,حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس سنين، وفي بعض الروايات: ابن أربع سنين. فدل هذا على أن التمييز قد يقع في هذا السن، لكن هل هو لجميع الناس؟
نعرف أن هذا لا، بعضهم قد يبلغ هذا السن ولا يستطيع أن يمييز، لكن علماء الحديث اصطلحوا فيما بعد سنة ثلاثمائة للهجرة,وهي السنة التي تكلمنا عنها,وهي الحد بين المتقدم والمتأخر، اصطلحوا فيما بعد ذلك على أن مجالس العلم التي يحضرها الناس ينظر في الحضور,فمن كان منهم من سن الخامسة فما فوق كتب له سماع,ومن كان دون سن الخامسة كتب لهم حضور.
ولعلي أعطيكم مثالًا واضحًا: فهناك مسند عبد الله بن أبي أوفى, تأليف يحيى بن محمد بن صاعد رحمه الله تعالى,جزء لطيف كنت حققته قبل حوالي تسع سنوات أو نحو ذلك,في هذا الجزء في آخره سماعات,ومن جملة هذه السماعات سماع للحافظ العراقي -عبد الرحيم زين الدين العراقي- على أحد الشيوخ,الذين يروون ذلك الجزء الحديثي بإسنادهم، وكان العراقي رحمه الله كغيره من العلماء: إذا ولد لأحدهم مولود يأخذه من ساعة ولادته ويطوف به على الشيوخ ليكتبوا له إجازة؛لأن الشيخ قد تخطفه المنون في يوم من الأيام,فمجرد مولد ذلك الصبي كما سيأتي معنا إن شاء الله في مبحث الإجازة,مولد الصبي يؤهله أن يأتي لذلك الشيخ ويقول: أجز ابني هذه مروياتك,فيكتب له إجازة.
هذه فيها نوع تحمل,وإن كان ذلك الصبي لم يسمع ذلك الكتاب أو تلك الكتب أو تلك المرويات على ذلك الشيخ,وإنما أجازه بذلك إجازة، هذا يصنعه بعض العلماء بأولادهم,وبعضهم إذا استطاع أن يحضر أولاده على من كان حيا من الشيوخ ولهم مجالس سماع,فمجالس السماع هذه أقوى من الإجازة,أي: أن يسمع لفظ الشيخ بأذنه.
فمثل هذا الجزء الحديثي الذي أشرت إليه جاء فيه الحافظ العراقي بابنيه أبو حاتم وأبو زرعة، ومن محبته لأهل الحديث رحمه الله أنه سمى ابنيه باسمي أبي حاتم.. أو كناهما بكنيتي أبي حاتم وأبي زرعة الرازيين؛لمحبته لهما,ومحبته لعلم الحديث,ولبراعة هذين الإمامين.
فابنه أبو حاتم محمد توفي وهو شاب,أظنه في حوالي سن العشرين,لما كان ذاهبًا للحج توفي حوالي سنة ثمان مائة, أو ثمان مائة وواحد قبل وفاة والده بحوالي خمس أو ست سنوات.
وأما أخوه أحمد فهو ولي الدين أبو زرعة,الذي هو من شيوخ الحافظ ابن حجر,وهو صاحب كتاب (الإطراف بأوهام الأطراف) وغيره من الكتب، بل هو الذي شرح تقريب الأسانيد في كتابه: (طرح التثريب في شرح تقريب الأسانيد).
على كل حال هذا الذي هو أحمد ومحمد أحضرهما الحافظ العراقي في مجلس ذلك الشيخ؛ليسمعا ذلك الجزء الحديثي، لكن أحدهما كان في الخامسة وأحدهما كان في الرابعة، وفي ظني أنا أبا زرعة أحمد الذي عاش بعد ذلك هو الذي كان في سن الخامسة,كان أكبر من أخيه محمد، ومحمد هو الذي كان في الرابعة,فمكتوب في السماع وعبد الرحيم زين الدين العراقي ومعه ابناه أحمد,ومحمد حاضرًا.
أظن كتبوا لمحمد الحضور فقط، وأما أحمد فأثبتوا له السماع لمجرد فرق سنة بينهما، وهذا الحضور يعتبر أقل مما حصل لأخيه من السماع؛لأنه لا يعتبر عندهم تحملًا حقيقيا,أما لو انتظرا إلى سنة بعدها وأحضره في نفس المجلس,أو مجلس مشابه له, لكتبوا له بعد ذلك سماعًا,فهذا هو المراد من هذا الكلام,وبخاصة حينما يقول: والعادة المطردة في أهل هذه الأعصار وما قبلها بمدد متطاولة,أن الصغير يكتب له الحضور إلى تمام خمس سنين من عمره، ثم بعد ذلك يسمى سماعًا.
هذا هو المراد من هذا الكلام.
أما هذه القصة التي حكاها إبراهيم بن سعيد الجوهري فالحقيقة الله أعلم بصحتها,وإن صحت فتعتبر هذه من نوادر الزمان، لكن العلماء حينما تكلموا عن مثل هذه الأحداث التي تحدث, مثل هذا الصبي الذي في السن الرابعة قد قرأ القرآن ونظر في الرأي,غير أنه إذا جاع يبكي.
يقولون: إنه لا يعيش في الأعم الأغلب، ولذلك لما نظر رجل إلى مثل هذا الصبي ووجد فيه تلك النباهة، وذلك الذكاء,وضع رأسه على يده وقال: هذا الصبي لا يعيش,وفعلًا ما مكث إلا مدة وتوفي.
والحقيقة أن هذا يمكن أن يكون صحيحًا والعلم عند الله؛ لأنا نجد أن مثل الشيخ عبد الله الدويش رحمه الله تعالى,ولعل بعضكم عرفه، هو من طلبة العلم الذين كانوا في القصيم كان يضرب بحافظته المثل,والحقيقة يعني لولا وجوده لشككنا في صحة مثل ذلك النقل، كلما ذكر كتاب قالوا: يحفظه الشيخ عبد الله الدويش رحمه الله, لكنه توفي وهو في ريعان الشباب,وأظنه في سن الخامسة والثلاثين,هكذا فجأة,دون أن نعرف أنه مرض مثلًا بمرض عضال كسرطان أو غيره، فقد يكون,والعلم عند الله,أن مثل أصحاب هذه العقول التي بهذه الصفة فعلًا لا يعيشون؛لأن عقولهم تقضي عليهم,وتكون على حساب الجسم.والله أعلم بحقيقة ذلك.
تمت مراجعته وتهذيبه بواسطة ام العنان