قولُه: (فَالْمَقْصُودُ بَيَانُ طُرُقِ العِلْمِ وَأَدِلَّتِهِ وَطُرُقِ الصَّوابِ. وَنَحنُ نَعْلَمُ أَنَّ القرآنَ قَرَأَهُ الصَّحابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَتَابِعُوهُمْ، وَأنَّهُم كَانُوا أَعْلَمَ بِتَفْسِيرِهِ وَمَعَانِيهِ، كَمَا أَنَّهُم أَعْلَمُ بِالْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ , فَمَنْ خَالَفَ قَوْلَهُم وَفَسَّرَ القُرآنَ بِخِلاَفِ تَفْسِيرِهِم فَقَدْ أَخْطَأَ فِي الدَّليلِ وَالْمَدْلُولِ جَمِيعًا.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كُلُّ مَنْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ لَهُ شُبْهَةٌ يَذْكُرُهَا: إِمَّا عَقْلِيَّةٌ، وَإِمَّا سَمْعِيَّةٌ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ.
وَالْمَقْصُودُ هُنا التَّنبيهُ عَلَى مَثَارِ الاخْتِلافِ فِي التَّفسيرِ، وَأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِهِ البِدَعَ البَاطِلَةَ الَّتِي دَعَتْ أَهْلَهَا إِلَى أَنْ حَرَّفُوا الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَفَسَّرُوا كَلامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ بِغَيْرِ مَا أُرِيدَ بِهِ، وَتَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ).
هذه إشارةٌ إلى أقوامٍ قد اعتقدوا هذه الآراءَ وخالَفوا مذهبَ السَّلفِ ولم يأخُذوا به، ولكن هل يدخُلُ في حكمِ هؤلاءِ مَن اعتمَدَ على قولِ السَّلفِ في التفسيرِ , ولكنه أتى بمعنًى جديدٍ تحتملُه الآيةُ ولا يُخالِفُ قولَ السَّلفِ؟
هذا لم يُحرِّرْهُ شيخُ الإسلامِ هنا، ولكن يتَّضِحُ من تطبيقاتِ علماءِ أهلِ السُّنَّةِ أن هذا ممكنٌ ولكن بشرطِ أن يكونَ المعنى المفسَّرُ به صحيحًا من جهةِ نفْسِه ومِن جهةِ احتمالِ الآيةِ لَه، ثمَّ ألاَّ يَترُكَ المفسِّرُ قولَ السَّلفِ ولا يعتقدَ أنَّ قولَ غيرِهم أبْلَغُ من قولِهم، وبَحثُ هذا الموضوعِ وتحريرُه مُهِمٌّ جدًّا؛ لأنه كثُرت التفاسيرُ الحادثةُ في هذا العصرِ، وصِرْتَ تَرى الطبيبَ يُفسِّرُ القرآنَ ويُسمِّيهِ إعجازًا طِبِّيًّا في القرآنِ، والعالِمَ النَّفْسيَّ يُفسِّرُ القرآنَ ويسمِّيهِ إعجازًا في علمِ النَّفسِ في القُرآنِ، والمهندسَ يُفسِّرُ القرآنَ ويُسمِّيهِ الإعجازَ الهندسيَّ في القرآنِ وهكذا...، فهل كلُّ ما في هذه الاجتهاداتِ الحادثةِ مزيَّفٌ مردودٌ، أم فيها حقٌّ، وإذا كان فيها حقٌّ، فكيف يُعرفُ من بينِ ذلك الكثيرُ من المزيَّفِ المردودِ .
وأيًّا ما كان الأمرُ، فإنَّ هذا ـ كما قلتُ ـ يحتاجُ إلى تحريرٍ، ولكن يَحسُنُ أن تُلاحِظَ أنَّ شيخَ الإسلامِ نبَّهَ إلى قاعدةٍ كُليَّةٍ وهي أنَّ تَركَ قولِ السَّلَفِ ومخالَفَتَهُ إلى قولٍ آخَرَ طريقٌ غيرُ صحيحٍ، وذَكرَ أنَّ مَن فَعلَ ذلك لا بدَّ أنْ تكونَ له شبهةٌ، إما عقليةٌ، وإما سمعيةٌ، وإلا كان صاحِبَ هوًى.
قولُه: (مِنْ أُصُولِ العِلْمِ بِذَلِكَ أَنْ يَعْلَمَ الإِنْسَانُ القَوْلَ الَّذِي خَالَفُوه وَأنَّهُ الْحَقُّ، وَأَنْ يَعْرِفَ أنَّ تَفْسِيرَ السَّلفِ يُخَالِفُ تَفْسِيرَهُم، وَأَنْ يَعْرِفَ أَنَّ تَفْسيرَهُمْ مُحْدَثٌ مُبْتَدَعٌ، ثُمَّ أَنْ يَعْرِفَ بِالطُّرُقِ الْمُفَصَّلَةِ فَسَادَ تَفْسِيرِهِمْ بِمَا نَصَبَهُ اللَّهُ مِن الأَدِلَّةِ عَلَى بَيَانِ الْحَقِّ).
يشيرُ المصنِّفُ هنا إلى قضيةٍ مهمَّةٍ لمَن أرادَ أن يَلِجَ علمَ التفسيرِ، وهي أن يكونَ عنده بصرٌ بمذاهبِ هؤلاءِ الأقوامِ بحيث إنه إذا حَملُوا الآيةَ على معنًى أنها حُمِلَتْ على هذا المذهَبِ.