إنَّ مِن أبرزِ العلماءِ وأولاَهُم بالاتِّبَاعِ والعِنَايَةِ: أبا العَبَّاسِ أحمدَ بنَ عَبْدِ الحليمِ بنِ عبدِ السلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ الحَرَّانِيَّ، العَلَمَ المشهورَ، شيخَ الإسلامِ، وكانَ مِن أبرزِ العلماءِ وأفْضَلِهم، ولا أعلَمُ - حَسَبَ ما اطَّلَعْتُ عليه - في زمانِه، ولا بَعْدَ زمانِه، أعْلَمَ باللَّهِ ودِينِه وأَتْقَى للهِ مِنه، فيما ظَهَرَ لي مِن كُتُبِه ونَشاطِه وغَيرَتِه للهِ، رَضِيَ اللَّهُ عنه ورَحِمَه.
ثم يَلِيه في هذا تِلْمِيذُه البَارُّ، الصادِقُ، العَلاَّمَةُ ابنُ القَيِّمِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فهو مِن أكبرِ الناسِ عِلماً وفَضْلاً وتَقْوَى، وهو جَدِيرٌ أيضاً بالعنايةِ بكُتُبِه، فكلاهما جَدِيرٌ بأنْ يُعتنى بكُتُبِه، فقد اعْتَنَيَا جميعاً بالأدلَّةِ الشرعيَّةِ، والعِلَلِ المَرْعِيَّةِ، وتَرْجِيحِ الراجحِ وتَزْيِيفِ الزائفِ في مسائلِ الخِلافِ، بكلِّ عنايةٍ، وتَجَرُّدٍ وبُعْدٍ عنِ الهوَى، وليسا معصوميْن، فكلٌّ له أغلاطٌ، وكلٌّ له هَفَوَاتٌ، لا شيخُ الإسلامِ ولا ابنُ القَيِّمِ، رَحْمَةُ اللَّهِ عليهما، ولا غيرُهم مِن أهلِ العلمِ، كلٌّ له نَصِيبُه ممَّا أعطاهُ اللَّهُ مِن العلمِ والفضلِ، وكلٌّ له أغلاطٌ وأخطاءٌ، لكن هي بالنسبةِ إلى عِلْمِهم وفَضْلِهم كقَطْرَةٍ في بحرٍ.
وهكذا الأئِمَّةُ الأربعةُ، وغيرُهم مِن أهلِ العلمِ، على حَسَبِ بَصِيرَتِهم في كتابِ اللَّهِ، وسنَّةِ رسولِه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، وعلى آخِرِ ما بَلَغَهم مِن العلمِ، فقد يَبْلُغُ العالمَ أكثرُ مما يَبْلُغُ العالمَ الآخرَ مِن الأدلَّةِ الحديثيَّةِ، وقد يَفْهَمُ مِن الكتابِ العزيزِ ما لا يَفْهَمُه الآخرُ. فلهذا تَفَاوَتَتْ مَرَاتِبُهم في العلمِ.
وقد صَنَّفَ أبو العبَّاسِ ابنُ تَيْمِيَّةَ, رَحِمَهُ اللَّهُ، كتاباً في هذا الشأنِ سَمَّاهُ (رَفْعَ الْمَلاَمِ عَنِ الأَئِمَّةِ الأَعْلاَمِ) وهو كتابٌ جَدِيرٌ بالعنايةِ، كتابٌ مُفيدٌ مطبوعٌ، ويُوَزَّعُ مِن دارِ الإفتاءِ، ويُباعُ في المكتباتِ، فهو كتابٌ جيِّدٌ مُفيدٌ، يَعْرِفُ به طالبُ العلمِ منازلَ العلماءِ وأعْذَارَهم، فيما قدْ يَقَعُ مِن الأخطاءِ والأغلاطِ، فالحاصلُ أنَّ أبا العبَّاسِ ابنَ تَيْمِيَّةَ مِن خِيرةِ أهلِ العلمِ، وهو جديرٌ بأنْ يُعْتَنَى بكُتُبِه وأقوالِه، وهكذا تلميذُه العلاَّمَةُ ابنُ القَيِّمِ رَحْمَةُ اللَّهِ عليهما، وهكذا أئِمَّةُ الدعوةِ؛ الشيخُ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَهَّابِ ومَن سارَ في دعوتِه ونَصَرَ دعوتَه، وألَّفَ فيها، هو أيضاً جَدِيرٌ بالعنايةِ، جديرٌ بأنْ يُعْتَنَى بكُتُبِهم، وما قَرَّرُوهُ في توحيدِ العبادةِ، وفي الردِّ على أهلِ البِدَعِ، وفي نَصْرِ السنَّةِ، فلهم في هذا حظٌّ وافرٌ ونصيبٌ عظيمٌ، رحمةُ اللَّهِ عليهم.
وشيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ يُعْتَبَرُ في المعنى شيخاً للإمامِ المُجَدِّدِ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الوهَّابِ، رَحْمَةُ اللَّهِ عليه، وإنْ كانَ بينَهما مسافةٌ طويلةٌ مِن الزمانِ، لكنَّه في الحقيقةِ شيخٌ له؛ لعُكُوفِ الشيخِ الإمامِ مُحَمَّدٍ على كُتُبِه والاستفادةِ منها، ومِن كتبِ ابنِ القَيِّمِ ومِن أشباهِهم مِن أهلِ العلمِ والبَصيرةِ.