ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى : (( قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي , رضي الله عنه : آمنت بالله , وبما جاء عن الله , على مراد الله , وآمنت برسول الله , وبما جاء عن رسول الله , على مراد رسول الله )).
هذه عبارة عظيمة للإمام الشافعي رحمه الله تعالى . ومعناها أنني أؤمن بالله تعالى وأؤمن بالرسول , وأؤمن أيضاً بما جاء عن الله في كتابه , أ و بما جاء عن رسول الله r في سنته على مراد ا الله ورسوله . والمعنى أنني آمنت بهما كما أراد الله تبارك وتعالى وأراد رسولهr ؛ وهذا منتهى الإيمان والتصديق والتسليم .
لكن قد يقول قائل : هل معنى ذلك التفويض وأنني آمنت بها لكن لا أعرف معناها ؟
نقول : لا . لأن الله لما أنزل علينا القرآن أراد منا أن نتلوه , وأن لانكون مثل أهل الكتاب الذين { لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيّ} [البقرة: 78] أي تلاوة وقراءة , بل أراد الله منا التدبر , والتفهم , والتمعن في الآيات القرآنية ؟
ولا شك أن الله تبارك وتعالى إنما أراد منا أن نقرأ القرآن , وأن نعرف معناه , وأن نفهمه , وأن نعمل به , وإلا فكيف نعمل بالقرآن ونحن لا نفقه معناه ؟ قال تعالى : {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] , وقال : {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْل} [المؤمنون: 68] , وقال : {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 76]، وغيرها من الآيات .
إذن أمرنا بالتدبر , لما أنزل علينا في هذا القرآن وفيه أسماؤه وصفاته , ومن هنا فنحن نثبتها على ما أراد الله ؛ لأن سياقات هذه الآيات القرآنية دالة على ذلك .
فمثلاً حينما يقول الله سبحانه وتعالى : {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [المائدة: 2] , فإن الله تبارك وتعالى لم يرد منا أن نثبت اللفظ ولا نفقه المعنى . ولو كان هذا هو المراد لما فقهنا آيات القرآن من أولها إلى آخرها ؛ لأن القرآن الكريم لا تكاد تخلو آية من آياته من التذكير بأسماء الله وصفاته , فإذا كنت لا تفهم معنى أن الله شديد العقاب , فمعنى ذلك أنك ما فقهت الوعيد الذي ترتب عليه مثل هذا النص , حينما نهاك الله سبحانه وتعالى عن مخالفه أمره .
كذلك أيضاً قوله : (( على مراد رسول الله )) فالرسول r حدث أصحابه وقال لهم : (( ينزل ربنا ))(1) وقال ( إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر)) (2) . فأراد رسول اللهr من الصحابة أن يؤمنوا وأن يثبتوا أن الله يُرى كما يُرى القمر , والتشبيه إنما هو للرؤية بالرؤية وليس المرئي بالمرئي , وهكذا بقية الصفات والواردة , وهذا معنى عبارة الشافعي رحمه الله تعالى التي هي نص في الرد على أهل التفويض لأنه صرح بإثبات النص وإثبات المعنى , وقيده بمراد الله ومراد رسوله , ولا شك أن الله أراد في كتابه المعاني التي فهمها الرسول r وفهمها أصحابه من بعده , وكذلك الرسول r أراد المعاني التي فهمهما أصحابه وبلغوها إلى من بعدهم .
(1) تقدم تخريجه 35
(2) تقدم تخريجه ص35