الدرس الأول: مقدمات في التعريف بعلماء الأمصار
الدرس الأول: مقدمات في التعريف بعلماء الأمصار عناصر الدرس: ● فوائد معرفة علماء الأمصار في القرون الفاضلة. ● الكتب المؤلفة في علماء الأمصار. ● خصائص التعليم النبوي. ● بعوث النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأمصار. ● بعوث الخلفاء الراشدين إلى الأمصار. ● الآثار المروية في بعوث الخلفاء الراشدين إلى الأمصار. |
فوائد معرفة علماء الأمصار في القرون الفاضلة الحمد الله الذي أنعم وعلّم، وصلى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم، أما بعد: فإنّ من المعارف المهمّة لطالب العلم معرفة علماء الأمصار في القرون الفاضلة؛ فهي أصل مهم في معرفة نشأة علوم الشريعة واللغة العربية، وتداولها، وتدوينها. وقد روي في تفضيل القرون الثلاثة أحاديث صحيحة منها: 1: حديث إبراهيم النخعي عن عَبيدةَ السلماني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادةُ أحدهم يمينَه، ويمينُه شهادتَه» رواه البخاري ومسلم. 2: وحديث زهدم بن مضرب قال: سمعت عمران بن حصين رضي الله عنهما يحدّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» قال عمران: (لا أدري أذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد قرنين أو ثلاثة). رواه البخاري 3: وحديث السدي، عن عبد الله البهي، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس خير؟ قال: « القرن الذي أنا فيه، ثم الثاني، ثم الثالث » رواه مسلم. ولمعرفة علماء الأمصار في القرون الفاضلة فوائد جليلة منها: 1: أن علماء القرون الفاضلة هم أئمة أهل العلم وصفوتهم وخيارهم، وتوجيه العناية لأولئك الصفوة والاتساء بهم في تعلّمهم وتعليمهم، والانتفاع بسيرهم وأخبارهم ووصاياهم من أفضل سبل تقويم التعليم. 2: أن هذه المعرفة تقرّب لطالب العلم تصورّ أحوال أولئك السلف الصالح في طلبهم للعلم، ورعايتهم له، وتعليمهم إياه، وتبيّن له تنوّع طرائقهم في ذلك، ومسالكهم في العمل بالعلم. 3: أنها تعرّف طالب العلم بأصول أوعية العلم وطرق انتشاره في البلدان. 4: أنها تيسّر لطالب العلم معرفة أصول الأسانيد وتصنيفها على البلدان؛ فإن صعوبة حفظ الأسانيد سببها عدم المعرفة بكثير من أولئك الرجال، ومن عرفهم ودرس سيرهم، وعرف شيوخهم وتلاميذهم سهل عليه معرفة كثير من الأسانيد وأحكامها. 5: أن كلّ قرن من تلك القرون حدثت فيه حوادث مهمّة وفتن عظيمة، كان لها أثر كبير في الأمة بعدهم، ومعرفة منهج أولئك الأئمة الأعلام في تلك الحوادث والفتن من أعظم ما يبصّر بسبيل الهدى فيها. 6: أن قراءة سير أولئك العلماء تثمر في القلب ثمرات عظيمة النفع وتعالج آفات وأدواء من العجب والغرور، والغفلة والقسوة، والحيرة والعيّ، وربّ سيرة من تلك السير تفتح لطالب العلم باباً من السلوك يكون أنفع له من قراءة كثير من الكتب. ولذلك نقل عن بعض السلف أن قراءة سيرة رجل صالح أحبّ إليه من تعلّم باب من الفقه. - وقال روح بن عبادة: حدثنا هشام عن الحسن قال: (قد كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشعه وهديه وفي لسانه وبصره ويده). رواه الإمام أحمد في الزهد والبيهقي في شعب الإيمان. 7: أنه لا صلاح لآخر هذه الأمة إلا بما صلح عليه أوّلها ، ولا سبيل إلى معرفة ما صلح عليه أوّل هذه الأمة إلا بدراسة سير أولئك العلماء ومعرفة أخبارهم وآثارهم. |
الكتب المؤلفة في علماء الأمصار ألّف جماعة من أهل العلم في شأن علماء الأمصار؛ فمنهم من اقتصر على ذكر أسمائهم، ومنهم من ترجم لهم ترجمة مختصرة جداً، ومنهم من ذكر نُتَفاً من أخبارهم. ومن هذه الكتب: 1: فصل في طبقات القراء، لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي(ت:224هـ) جعله في مقدمة كتابه "القراءات"، وهو كتاب مفقود، لكن هذا الفصل نقله علم الدين السخاوي (ت:643هـ) في كتابه "جمال القراء". ومن هؤلاء القراء مفسّرون ورواة للتفسير ونحاة ولغويون. 2: كتاب الطبقات الكبرى، لمحمد بن سعد الزهري(ت:230هـ)، وهو من أجلّ كتب التاريخ المسندة، بدأه بفصول من السيرة النبوية، ثم ترجم لأعلام الصحابة رضي الله عنهم، ثم ترجم لعلماء الأمصار من التابعين وتابعيهم. 3: كتاب الطبقات، لخليفة بن خياط العصفري(ت:240هـ)، وهو مرتب على البلدان ثم على الطبقات. 4: التاريخ الكبير، لأبي بكر أحمد بن زهير ابن أبي خيثمة (ت:279هـ) مرتب على الطبقات والبلدان. 5: تسمية فقهاء الأمصار، لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي (ت:303هـ)، وهو مقتصر على ذكر أسماء الفقهاء، ومنهم جماعة من المفسرين. 6: مشاهير علماء الأمصار، لأبي حاتم محمد بن حبان البستي(ت:354هـ) وهو مرتب على الطبقات ثم على البلدان. 7: الإرشاد في معرفة علماء الحديث، لأبي يعلى الخليلي، واسمه خليل بن عبد الله القزويني(ت:446هـ)، وهو مرتب على البلدان والطبقات. 8: طبقات الفقهاء، لأبي إسحاق الشيرازي(ت:476هـ) ، بدأ فيه بفقهاء الصحابة، ثم رتب فقهاء التابعين على الأمصار، ثم ذكر فقهاء الأمصار بعدهم، ثم ذكر طبقات فقهاء المذاهب من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية. 9: معرفة القراء الكبار للذهبي، وهو مرتب على الطبقات. وهذه الكتب ليست مختصّة بالقراء والمفسّرين؛ لكنّها اشتملت على ذكر كثير منهم؛ فهي من المصادر المهمّة لمعرفة القراء والمفسّرين في القرون الأولى. |
خصائص التعليم النبوي كان النبي صلى الله عليه وسلم هو المعلّم الأوّل لهذه الأمة ، وهو إمام المعلّمين وقدوتهم، قال الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)}.وكان تعليمه صلى الله عليه وسلم أحسن التعليم وأبينه، وقد امتاز تعليمه صلى الله عليه وسلم بمزايا جليلة منها: 1: دلالته على اليقين في أبواب الدين. فكان الصحابة يتلقون العلم منه غضاً طرياً، دالا على اليقين في أبواب الدين، لا يشكّون فيه ولا يترددون، فهو الرسول المبلّغ عن ربّه البلاغ المبين، والنبي المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، ولا ينسى إلا ما شاء الله، وكلامه لا يدلّ إلا على الهدى، ولا يخرج من لسانه إلا الحق. فكان التعليم منه صلى الله عليه وسلم ليس كالتعليم من غيره. - قال أبو مالك عبيد بن الأخنس: حدثني الوليد بن عبد الله، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو، قال: كنت أكتبُ كلَّ شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: «اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق». رواه أحمد والدارمي وابن أبي شيبة وأبو داوود. 2: أنه تعليم مقرون بالعمل واتباع الهدى. فلم يكن تعليمه صلى الله عليه وسلم إلقاء مجرّداً، بل كان تعليماً مقروناً بالعمل واتباع الهدى، فيرون فيه أسوة حسنة، وكان أقرب أصحابه إليه أفضلهم وأعلمهم بهديه وأحسنهم اتباعاً له. وكان هديه صلى الله عليه وسلم أحسن الهدي، وهو خير من عمل بعلمه، وزكى نفسه، فكان هو الميزان الأكبر لأمته، على هديه وسنته تعرض الأقوال والآراء؛ فما وافقها بإيمان كان صواباً وما خالفها كان خطأ مردوداً. فكانوا يتلقون منه العلم ويبصرون أثره فيه صلى الله عليه وسلم في دعوته وعمله وهديه، ويرون أثره أيضاً في نفوسهم، حتى كانوا ربما أنكروا أنفسهم إذا خفّ عنهم ما يجدون من قوة الإيمان واليقين إذا كانوا بحضرته. - قال سعيد بن إياس الجريري عن أبي عثمان النهدي، عن حنظلة بن الربيع التميمي رضي الله عنه وكان من كُتَّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقيني أبو بكر، فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ فقلت: نافق حنظلة. قال: سبحان الله ما تقول؟! قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات؛ فنسينا كثيرا. قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: (نافق حنظلة يا رسول الله). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما ذاك؟» قلت: (يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين؛ فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرا). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة» ثلاث مرات. رواه مسلم. وخير التعليم ما كان مقروناً بالعمل والامتثال. 3: أنه تعليم شامل لأبواب الدين وما يحتاج إلى الهدى فيه. فلم تبق مسألة يُحتاج إلى الهدى فيها إلا بيّنها صلى الله عليه وسلم لأمّته، وذلك أنه قد أوتي جوامع الكلم، واختُصر له الكلام اختصاراً، فكان قليل كلامه كثير المعاني والهدايات، وكان عمله وهديه في الحادثة الواحدة يستفاد منه الفوائد الكثيرة. وربما خطب بأصحابه خطباً مطوّلة يذكر لهم فيها كلّ ما تحتاج أمّته إلى معرفته. - قال الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة رضي الله عنه، قال: (لقد خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم خطبة، ما ترك فيها شيئا إلى قيام الساعة إلا ذكره، علمه من علمه وجهله من جهله، إن كنت لأرى الشيء قد نسيت، فأعرف ما يعرف الرجل إذا غاب عنه فرآه فعرفه). رواه البخاري ومسلم. - وقال عبد الله بن وهب: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أن أبا إدريس الخولاني، كان يقول: قال حذيفة بن اليمان: (والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة، وما بي أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إليَّ في ذلك شيئاً لم يحدثه غيري، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يحدث مجلسا أنا فيه عن الفتن؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعد الفتن: « منهن ثلاث لا يكدن يذرن شيئا، ومنهن فتن كرياح الصيف منها صغار ومنها كبار» قال حذيفة: فذهب أولئك الرهط كلهم غيري). رواه مسلم. - وقال أبو عاصم النبيل: أخبرنا عزرة بن ثابت، أخبرنا علباء بن أحمر، حدثني أبو زيد يعني عمرو بن أخطب، قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر؛ فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن» فأعلمنا أحفظنا). رواه مسلم. - وقال سفيان بن عيينة: حدثنا علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العصر إلى مغيربان الشمس، فلم يبق شيء يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به، علمه من علمه، وجهله من جهله). رواه الحميدي. - وقال سفيان بن عيينة، عن فطر بن خليفة، عن أبي الطفيل، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكّرنا منه علما). قال أبو ذر: فقال صلى الله عليه وسلم:«ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُيّن لكم» رواه الطبراني في المعجم الكبير، وابن حبان في صحيحه. ولفظ ابن حبان: (إلا عندنا منه علم). قال ابن حبان: (معنى "عندنا منه" يعني بأوامره ونواهيه وأخباره وأفعاله وإباحاته صلى الله عليه وسلم). قلت: يريد العلمَ الذي له تعلّق بالأحكام الشرعية، وهذا معنى أخصّ من العلوم والمعارف الواسعة في الخلق والأمر، وفي كلا النوعين نصوص من الكتاب والسنة إلا أنّ ما له تعلّق بالعمل قد تمّ به البيان، وما لا يتعلّق به العمل قد ذكر منه ما تحصل به الكفاية في التبصر والاستدلال بالمعلوم على ما وراءه، وقد قال الله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}. 4: أنه تعليم ميسّر لا تكلّف فيه ولا تعنّت. قال الله تعالى: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلّفين}، وقال الله تعالى:{ولو شاء الله لأعنتكم}. فدلّ ذلك على أنّ الله تعالى لم يجعل في شريعة الإسلام عنتاً ولا مشقة، كما قال تعالى:{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، وقال تعالى:{وما جعل عليكم في الدين من حرج}. - وقال معن بن محمد الغفاري، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» رواه البخاري والنسائي. وتعليم العلم من أبواب الدين؛ فكان تعليمه صلى الله عليه وسلم أيسر التعليم وأحكمه وأبعده عن التكلف والتعنّت، يأخذ كلّ أحد منه ما يكفيه ويغنيه؛ فينتفع به العالم والعامي، والكبير والصغير، والذكر والأنثى. ولذلك تنوّعت وصاياه لمن استوصوه؛ فكان يوصي كلّ مستوصٍ ومحتاج للوصية بما هو أصلح له وأنفع، وكلّ من أخذ بوصيته سعد بها وفاز. 5: أنه تعليم محفوظ لا يُخشى عليه الضياع. وذلك أنّ السنة النبوية محفوظة بحفظ الله تعالى لكتابه؛ فهي بيان للكتاب وتفسير له، كما قال الله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل إليهم} ، وقال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} فضمن الله تعالى حفظ كتابه الكريم نصاً وبياناً. وقال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} والدين كامل إلى أن يأتي أمر الله. ومن ضرورة بقاء الدين كاملاً حفظ السنة النبوية. ومن الأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث: ((لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس)) هذا لفظ حديث معاوية بن أبي سفيان في صحيح مسلم، والحديث مروي عن نحو أحد عشر صحابياً. ومن ضرورة بقائهم قائمين بأمر الله بقاء علمهم بأمر الله. وهذا لا يقتضي أن يكون لدى واحد من الأمة علم جميع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن مجموع سنة النبي صلى الله عليه وسلم محفوظ لدى الجميع؛ فقد يعلم عالم ما يخفى على عالمٍ آخر، لكن يكون لديهم جميعاً ما تكتمل به معرفة السنة النبوية. والمقصود من كلّ ما تقدّم أنّ تعليمه صلى الله عليه وسلم لأمّته تعليم مُحكم، شامل، مقرون بالعمل والهدى، وميسر لا مشقة فيه، ومحفوظ من الضياع. |
بعوث النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأمصار من دلائل عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالتعليم بعثه علماء أصحابه إلى الأمصار يفقهونهم في الدين ويعلّمونهم القرآن.1. فبعث مصعب بن عمير العبدري القرشي إلى أهل المدينة بعد بيعة العقبة الأولى، يقرئهم القرآن ويعلّمهم شرائع الإسلام، ويدعو إلى الله، فأسلم على يديه جماعة من أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم: عبَّاد بن بشر، وأسيد بن الحضير، وسعد بن معاذ، وأسلم بإسلامهم أكثرُ بني عبد الأشهل من الأوس رضي الله عنهم وأرضاهم. - قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، وعبد الله بن المغيرة بن معيقيب، قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصعبَ بن عمير مع النفر الاثني عشر الذين بايعوه في العقبة الأولى إلى المدينة يُفَقّه أهلها ويقرئهم القرآن). رواه البيهقي في دلائل النبوة. وذكر ابن إسحاق أن مصعباً عاد إلى مكة في موسم الحج ومعه سبعون من الأنصار فبايعوا بيعة العقبة الثانية. 2. ثم بعث مصعب بن عمير وابن أمّ مكتوم بعد بيعة العقبة الثانية. - قال شعبة، عن أبي إسحاق السبيعي، عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: (أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرئاننا القرآن، ثم جاء عمار، وبلال، وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم؛ فما رأيت أهلَ المدينة فرحوا بشيء فَرَحَهم به، حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء؛ فما جاء حتى قرأت: {سبح اسم ربك الأعلى} في سورٍ مثلِها). رواه البخاري في صحيحه. 3. وبعث سبعين من قراء أصحابه إلى رعل وذكوان وعصية وبني لحيان، وهم قبائل من العرب، بعثهم يُمِدّونهم على بعض المشركين ويقرئونهم القرآن ويعلّمونهم الدين لما ذكروا أن فيهم إسلاماً؛ فغدروا بهم وقتلوا أكثرهم يوم بئر معونة، وأُسِرَ بعضُهم ثمّ قُتِلَ بعد؛ فوجد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجداً شديداً. - قال حماد بن سلمة: أخبرنا ثابت، عن أنس بن مالك، قال: جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا أنِ ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار، يقال لهم: القراء، فيهم خالي حَرَام، يُقرِئِون القرآن، ويتدارسون بالليل يتعلَّمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه، ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء، فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فعرضوا لهم، فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان، فقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا. قال: وأتى رجلٌ حراماً - خالَ أنس - من خلفه؛ فطعنه برمح حتى أنفذه، فقال حرام: فُزْتُ وربِّ الكعبة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (( إن إخوانكم قد قُتلوا، وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك، ورضيت عنا" )). رواه أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه. - وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رعلا وذكوان وعصية وبني لحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدوٍّ، فأمدَّهم بسبعين من الأنصار، كنَّا نسمّيهم القراءَ في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار، ويصلّون بالليل، حتى كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقَنَت شهراً يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب، على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان. قال أنس: (فقرأنا فيهم قرآنا، ثم إنَّ ذلك رُفِعَ: [بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا]). رواه أحمد والبخاري ومسلم. - وقال عاصم الأحول: سمعت أنسا يقول: « ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد على سرية ما وجد على السبعين الذين أصيبوا يوم بئر معونة، كانوا يُدعون القرَّاء، فمكث شهراً يدعو على قَتَلَتِهم» رواه مسلم. وكان من أولئك القراء: المنذر بن عمرو أمير السرية، وهو الملقّب بالمُعْنِق لِيَموت، وعاصم بن ثابت حميّ الدبر، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وخبيب بن عدي، وحرام وسليم ابنا ملحان خالا أنس بن مالك، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي، وخالد بن البكير، وعروة بن أسماء بن الصلت، وأوس بن معاذ بن أوس الأنصاري وهو ممن شهد بدراً، والحارث بن الصمة النجاري الأنصاري، والحارث بن النعمان العوفي الأنصاري، وسهل بن عامر النجاري الأنصاري، والحكم بن كيسان المخزومي، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي. وقد ذكر البخاري في صحيحه عن عروة بن الزبير أنَّ تلك الحادثة كانت بعد أحد. 4. وخلَّف النبيُّ صلى الله عليه وسلم معاذَ بنَ جبل على أهل مكة بعد غزوة الفتح ليعلّمهم القرآن ويفقههم في الدين. - قال عروة بن الزبير: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف معاذ بن جبل رضي الله عنه على أهل مكة حين خرج إلى حنين، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلّم الناس القرآن، وأن يفقّهَهم في الدين، ثم صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عامداً إلى المدينة، وخلَّف معاذَ بنَ جبلٍ على أهل مكة»). رواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في دلائل النبوة من طريق أبي علاثة قال: حدثنا ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة، وهو من صحيفة أبي الأسود عن عروة. ورواه البيهقي في دلائل النبوة من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمّه موسى بن عقبة. فهذا الخبر اتفق عليه عروة بن الزبير وموسى بن عقبة وهما من ثقات أصحاب المغازي. 5. وبعث المغيرة بن شعبة إلى أهل نجران. - قال سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل، عن المغيرة بن شعبة، قال: لما قدمت نجران سألوني، فقالوا: إنكم تقرأون {يا أخت هارون} وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك، فقال: «إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم» رواه مسلم. 6. وبعث عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان النجاري الخزرجي الأنصاري إلى أهل نجران وهو ابن سبع عشرة سنة ليفقههم في الدين ويعلمهم القرآن. - قال محمد بن إسحاق: (حدثنا عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا الذي كتبه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن يفقه أهلها ويعلمهم السنة، ويأخذ صدقاتهم، فكتب له كتابا وعهدا، وأمره فيه أمره فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله ورسوله {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}، عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن أمره بتقوى الله في أمره، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأمره أن يأخذ الحقَّ كما أمره، وأن يبشر الناس بالخير ويأمرهم، ويعلم الناس القرآن، ويفقههم فيه، وينهى الناس، ولا يمسَّ أحدٌ القرآن إلا وهو طاهر، ويخبر الناس بالذي لهم والذي عليهم ويلين لهم في الحق، ويشد عليهم في الظلم، فإنَّ الله عز وجل كره الظلم ونهى عنه...) ثمّ ذكر الكتاب بطوله، وهو في دلائل النبوة للبيهقي. - قال ابن شهاب الزهري: (قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه لعمرو بن حزم حين بعثه على نجران، وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم). رواه ابن وهب في جامعه، والنسائي في سننه. - وقال ابن عبد البرّ في الاستيعاب: (أول مشاهده الخندق، واستعمله رسول الله صلى عليه وسلم على أهل نجران، وهم بنو الحارث بن كعب، وهو ابن سبع عشرة سنة، ليفقههم في الدين، ويعلم القرآن، ويأخذ صدقاتهم، وذلك سنة عشر بعد أن بعث إليهم خالد بن الوليد، فأسلموا، وكتب له كتابا فيه الفرائض والسنن والصدقات والديات، ومات بالمدينة سنة إحدى وخمسين). 7. وبعث أبا موسى الأشعري إلى اليمن ثم أتبعه بمعاذ بن جبل يعلّمان الناس القرآن، ويقضيان بينهم، وكان مبعثه بعد غزوة تبوك. - قال طلحة بن يحيى التيمي: (أخبرني أبو بردة، عن أبي موسى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا وأبا موسى إلى اليمن فأمرهما أن يعلّما الناس القرآن). رواه الإمام أحمد. - وقال شعبة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ومعاذا إلى اليمن، فقال: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا» متفق عليه. - وقال عبد الملك بن عمير، عن أبي بردة، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى، ومعاذ بن جبل إلى اليمن، قال: وبعث كل واحد منهما على مخلاف، قال: واليمن مخلافان، ثم قال: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا»، فانطلق كل واحد منهما إلى عمله، وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه كان قريبا من صاحبه أحدث به عهدا، فسلم عليه، فسار معاذ في أرضه قريبا من صاحبه أبي موسى، فجاء يسير على بغلته حتى انتهى إليه، وإذا هو جالس، وقد اجتمع إليه الناس وإذا رجل عنده قد جمعت يداه إلى عنقه، فقال له معاذ: يا عبد الله بن قيس أيم هذا؟ قال: هذا رجل كفر بعد إسلامه. قال: لا أنزل حتى يقتل. قال: إنما جيء به لذلك فانزل. قال: ما أنزل حتى يقتل، فأمر به فقتل، ثم نزل. فقال: يا عبد الله، كيف تقرأ القرآن؟ قال: أتفوقه تفوقا. قال: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل، فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي). رواه البخاري في صحيحه. - وقال حميد بن هلال، عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن، ثم أرسل معاذ بن جبل بعد ذلك، فلما قدم قال: أيها الناس، إني رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليكم، فألقى له أبو موسى وسادة ليجلس عليها، فأتي برجل كان يهوديا فأسلم، ثم كفر، قال معاذ: «لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله، ثلاث مرار، فلما قتل قعد» رواه النسائي في السنن الكبرى. - وقال صفوان بن عمرو السكسكي: حدثني راشد بن سعد، عن عاصم بن حميد السكوني، أن معاذا لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم خرج معه النبي صلى الله عليه وسلم يوصيه ومعاذ راكب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته، فلما فرغ قال: ((يا معاذ، إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي وقبري)) فبكى معاذ بن جبل خشعا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم). رواه أحمد في مسنده والطبراني في المعجم الكبير، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي السنن الكبرى ودلائل النبوة. قال أبو بكر البيهقي في "دلائل النبوة": (وقد مضى في هذا الكتاب ما دلَّ على أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف معاذا على مكة عام فتحها مع عتاب ابن أسيد ليعلّم أهلها، ثم كان معه في غزوة تبوك؛ فالأشبه أنه بعثه إلى اليمن بعد ذلك). وقال في السنن الكبرى: (وهذا في بعثته الثانية). قوله: ( واليمن مخلافان) المخلاف بمعنى الإقليم، فإقليم الشمال من صنعاء إلى الجَند، وإقليم الجنوب زبيد وعدن والساحل ورمع وهي أرض قوم أبي موسى الأشعري. - وقال ابن عبد البر في "الاستيعاب": (قال ابن إسحاق: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين معاذ بن جبل وبين جعفر بن أبي طالب، شهد العقبة وبدرا والمشاهد كلها، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضيا إلى الجَنَد من اليمن، يعلّم الناس القرآن وشرائع الإسلام، ويقضي بينهم، وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين باليمن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قسم اليمن على خمسة رجال: خالد بن سعيد على صنعاء، والمهاجر بن أبي أمية على كندة، وزياد بن لبيد على حضرموت، ومعاذ بن جبل على الجَنَد، وأبي موسى الأشعري على زبيد وعدن والساحل). 8. وبعث عثمان بن أبي العاص الثقفي إلى قومه بالطائف وأمّره عليهم وكان أكثرهم قرآناً. قال ابن سعد: (كان عثمان بن أبي العاص في وفد ثقيف الذين قاموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ فأسلموا وقاضاهم على القضية، وكان عثمان من أصغرهم فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبلَهم فأسلم وأقرأه قرآنا ولزِمَ أبيَّ بن كعب؛ فكان يقرئه؛ فلمَّا أراد وفدُ ثقيفِ الانصرافَ إلى الطائف قالوا: يا رسول الله أمّر علينا؛ فأمّر عليهم عثمان بن أبي العاص الثقفي. وقال:(( إنه كيّس، وقد أخذ من القرآن صدرا )) فقالوا: لا نغيّر أميرا أمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقدم معهم الطائف؛ فكان يصلي بهم ويقرئهم القرآن). - وقال المعتمر بن سليمان: سمعت عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، يحدث عن عمه عمرو بن أويس، عن عثمان بن أبي العاص، قال: استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أصغر الستة الذين وفدوا عليه من ثقيف، وذلك أني كنت قرأت سورة البقرة، فقلت: يا رسول الله إن القرآن ينفلت مني، فوضع يده على صدري، وقال: « يا شيطان اخرج من صدر عثمان » ، فما نسيت شيئا بعده أريد حفظه). رواه البيهقي في دلائل النبوة، وصححه الألباني. - وقال عيينة بن عبد الرحمن ابن جوشن: حدثني أبي، عن عثمان بن أبي العاص قال: لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف جعل يعرض لي شيء في صلاتي حتى ما أدري ما أصلي، فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«ابن أبي العاص؟» قلت: نعم يا رسول الله. قال: «ما جاء بك؟» قلت: يا رسول الله، عرض لي شيء في صلواتي حتى ما أدري ما أصلي. قال: «ذاك الشيطان ادنه»فدنوت منه، فجلست على صدور قدمي، قال: فضرب صدري بيده، وتفل في فمي وقال: «اخرج عدو الله» ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال: «الحق بعملك». قال: فقال عثمان: «فلعمري ما أحسبه خالطني بعد» رواه ابن ماجه في سننه، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني، والروياني في مسنده، وصححه الألباني في السلسة الصحيحة. 9. وذكر ابن سعد في الطبقات أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عباد بن بشر الأشهلي إلى بني المصطلق يأخذ صدقات أموالهم ويعلمهم شرائع الإسلام ويقرئهم القرآن؛ فأقام عندهم عشرا ثم انصرف راضيا. وعباد بن بشر هو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:«رحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية، أسقطتهن من سورة كذا وكذا». والخبر في صحيح البخاري. وفي رواية في صحيح البخاري قالت عائشة رضي الله عنها: تهجَّد النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي، فسمع صوت عبّاد يصلي في المسجد، فقال: «يا عائشة أصوت عبَّاد هذا؟» قلت: نعم. قال:«اللهم ارحم عبَّادا». والأظهر أنّ بعثته لبني المصطلق كانت سنة عشر للهجرة؛ فإنه روي أنه كان بعد نزول قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا...}، وقد رجّح الشافعي وجماعة من أهل العلم أن نزولها كان سنة عشر للهجرة. 10: وبعث العلاء بن الحضرميّ إلى البحرين أميراً ومعلّماً، وبعث معه أبا هريرة. - قال ابن شهاب الزهري: (حدثني عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، أنه أخبره أن عمرو بن عوف الأنصاري وهو حليف لبني عامر بن لؤي، وكان شهد بدرا، أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صالح أهل البحرين، وأمّر عليهم العلاء بن الحضرمي...). رواه البخاري ومسلم. وبعوث النبي صلى الله عليه وسلم إلى القبائل والقرى والأمصار لتعليم القرآن والتفقيه في الدين أكثر من ذلك وإنما ذكرت ما تيسر لي جمعه بالبحث المتيسّر من غير تقصٍّ، وفي جمع مرويات هذه البعوث وأخبارها وأحوال ما يعرض لمعلمي القرآن وتلاميذهم فوائد جليلة القدر أرجو أن ينشط لها من يوفّق إليها من أهل العلم. ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن أبي سليمان الخطابي في كتابه "شعار الدين" وهو مفقود أنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسعد بن زرارة إلى المدينة يدعو الناس إلى الإسلام، ويعلّم الأنصار القرآن، ويفقههم في الدين، وبعث العلاء بن الحضرمي إلى البحرين في مثل ذلك، وبعث معاذا وأبا موسى إلى اليمن، وبعث عتاب بن أسيد إلى مكة). |
بعوث الخلفاء الراشدين إلى الأمصار عني الخلفاء الراشدون باتّباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم العلم، وبعث البعوث إلى الأمصار للتفقيه في الدين وتعليم القرآن وإقامة الشريعة. فأما أبو بكر الصديق رضي الله عنه؛ فشغل في أوّل خلافته بحروب الردة، وكان مع ذلك مجتهداً في التعليم ونشر العلم، وهو أوّل من جمع القرآن بين الدفتين، وأنفذ جيش أسامة بن زيد، وبعث عبد الله بن أبي ربيعة، والمهاجر بن أمية إلى اليمن، وبعث خالد بن الوليد إلى اليمامة على رأس جيش لقتال المرتدين وإقامة الدين، وعكرمة بن أبي جهل إلى عمان كذلك. وبعث أنس بن مالك إلى البحرين مصدّقاً، وكتب له فرائض الزكاة، ولم يزل ذلك الكتاب عمدة للمسلمين في مقادير الزكاة. وأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فكان من أعلم الصحابة وأفقههم في دين الله، وكان يختار لمجالسته في المدينة القراء والعلماء، وكان يبعث البعوث إلى الأمصار لتعليم القرآن؛ فبعث إلى العراق معلمين نجباء منهم: عبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وأبو موسى الأشعري، وقرظة بن كعب الخزرجي، ومجمّع بن جارية الأوسي، وعمران بن الحصين، وعبد الله بن مغفّل المزني، وغيرهم. وبعث بعدهم جماعة من التابعين وولاهم القضاء، منهم: شريح القاضي، وكعب بن سور، وسلمان بن ربيعة الباهلي، وأبو مريم الحنفي، وغيرهم. وبعث عبادة بن الصامت ومعاذ بن جبل وأبا الدرداء إلى الشام وأمرهم أن يبدؤا بحمص فيعلّموا فيها حتى يرضوا؛ ثم ينتقل معاذ إلى فلسطين، وأبو الدرداء إلى دمشق، ويبقى عبادة في حمص؛ ففعلوا ما أمرهم به، ونفع الله بهم خلقاً كثيراً. وبعث عبد الله بن السائب المخزومي إلى مكة، وبعث عثمان بن أبي العاص إلى عمان، وبعث العلاء بن الحضرمي إلى البحرين، وبعث معلمين إلى اليمن ومصر والمدائن، وبقي في المدينة جماعة من علماء الصحابة يقرئون الناس القرآن ويفقّهونهم في الدين؛ فانتشر العلم في بلدان الإسلام انتشاراً عظيماً مباركاً. وهمّ عمر أن يكتب السنة، ورُوي أنه استخار في كتابتها شهراً لكنّه خشي أن يشتغل الناس بها عن القرآن فترك ذلك. وأما عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ فكان من علماء الصحابة وقرائهم، وكان من أكثرهم تلاوة للقرآن وقيامهم به، حتى روي أنه ربما قرأ القرآن كله في ركعة واحدة. فقد جمع الناس على مصحف إمام، وكتب المصاحف العثمانية وبعث بها إلى الأمصار، وواصل بعث العلماء والقضاة إلى الأمصار. وأما عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فكان في انتقاله إلى العراق نشراً لعلمه؛ فكان أكثر من يُروى عنهم العلم من الخلفاء الراشدين، وواصل بعث العلماء والأمراء إلى الأمصار، وكان يولّي العلماء على الأمصار؛ فولّى عبد الله بن عباس على البصرة، وولّى قرظة بن كعب الخزرجي على الكوفة وكان من المعلمين الذين بعثهم عمر إلى الكوفة، وولى سهل بن حنيف على المدينة، وغيرهم. وقد ابتلي باختلاف الأمة في عهده، ثم بخروج الخوارج، فناظرهم وقبل توبة من تاب منهم، وكسر شوكة المعتدين منهم، وظهر في عصره طائفة غلت فيه حتى ادّعت فيه الأولوهية فقتلهم؛ فكان في هديه وسمته تعليماً كثيراً ولا سيما في الفتن والنوازل التي نزلت بالأمّة. |
الآثار المروية في بعوث الخلفاء الراشدين إلى الأمصار 1. قال محمد بن كعب القرظي: جمع القرآن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل وعبادة بن صامت وأبيّ بن كعب وأبو أيوب وأبو الدرداء؛ فلما كان زمن عمر بن الخطاب كتب إليه يزيد بن أبي سفيان: إنَّ أهل الشام قد كثروا وملأوا المدائن واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم؛ فأعِنّي يا أميرَ المؤمنين برجالٍ يعلمونهم؛ فدعا عمرُ أولئك الخمسة فقال لهم: إنَّ إخوانكم من أهل الشام قد استعانوني بمن يعلّمهم القرآن ويفقههم في الدين؛ فأعينوني رحمكم الله بثلاثة منكم، إن أحببتم فاستهموا وإن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا؛ فقالوا: ما كنا لنتساهم؛ هذا شيخ كبير لأبي أيوب، وأمَّا هذا فسقيم لأبيّ بن كعب؛ فخرج معاذ وعبادة وأبو الدرداء.فقال عمر: (ابدأوا بحمص؛ فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة، منهم من يلقن فإذا رأيتم ذلك فوجهوا إليه طائفة من الناس؛ فإذا رضيتم منهم فليقم بها واحد، وليخرج واحد إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين، وقدموا حمص فكانوا بها حتى إذا رضوا من الناس أقام بها عبادة، وخرج أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين فمات بها، وأما أبو الدرداء فلم يزل بدمشق حتى مات). رواه ابن سعد في الطبقات وهذا سياقه وهو أتمّ، ورواه البخاري في التاريخ الأوسط باختصار فيه وزاد: (وخرج أبو الدرداء إلى دمشق ومعاذ إلى فلسطين فمات بها، ولم يزل معاذ بها حتى مات عام طاعون عمواس، وصار عبادة بعدُ إلى فلسطين فمات بها، ولم يزل أبو الدرداء بدمشق حتى مات). 2. وقال هشام الدستوائي عن قتادة عن أنس قال: (بعثني الأشعري إلى عمر فقال لي عمر: كيف تركت الأشعري؟ فقلت له: تركته يعلم الناس القرآن. فقال: أما إنه كيس ولا تُسْمِعْها إياه). رواه ابن سعد في الطبقات. 3. وقال حارثة بن مضرب العبدي: قرئ علينا كتاب عمر ههنا [يريد بالكوفة]: « إني بعثتُ إليكم عمارا أميراً، وبعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا، وهما من النجباء من أصحاب محمد من أهل بدر فاسمعوا لهما وأطيعوا، وآثرتكم بابن أم عبد على نفسي، وجعلته على بيت مالكم». رواه أحمد في فضائل الصحابة وابن أبي شيبة في المصنف من طريق سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن حارثة. 4. وقال مجالد عن الشعبي عن قرظة بن كعب الأنصاري رضي الله عنه قال: بعثني عمر رضي الله عنه إلى أهل الكوفة في رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والأنصار فمشى معنا حتى بلغ مكانا قد سماه ثم قال: (هل تدرون لم مشيت معكم؟) قالوا: لحقّ صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق الأنصار. قال: (لا، ولكن مشيت معكم لحديث أردت أن أحدّثكموه؛ فأردت أن تحفظوه لممشاي معكم، إنكم تقدمون على قوم للقرآن في صدورهم دويّ كدويّ النحل؛ فإذا رأوكم مدُّوا إليكم أعناقهم، وقالوا: أصحاب محمد؛ فأقلّوا الحديثَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا شريككم). رواه أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة من طريق عبيد الله بن عمر القواريري: أخبرنا حماد بن زيد عن مجالد به، ورواه ابن قانع من طريق شعبة عن بيان عن الشعبي ، عن قرظة بن كعب قال: شيَّع عمرُ الأنصارَ وقال: « إنكم تأتون أرضا أو قوما ألسنتهم بالقرآن، فلا تصدوهم بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم؛ فلم أحدّث بشيء بعد، ولقد سمعت كما سمع أصحابي » 5. وقال الحسن البصري: (كان عبد الله بن مغفل أحد العشرة الذين بعثهم إلينا عمر يفقهون الناس، وكان من نقباء أصحابه، وكان له سبعة أولاد). ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب. 6. وقال حفص بن عمر عن عاصم بن بهدلة، وعطاء بن السائب، ومحمد بن أبي أيوب الثقفي، وعبد الله بن عيسى بن أبي ليلى، أنهم قرأوا على أبي عبد الرحمن، وذكروا أنه أخبرهم أنه قرأ على عثمان رضي الله عنه عامَّة القرآن، وكان يسأله عن القرآن، وكان وَلِيَ الأمر فشقَّ عليه وكان يسأله عن القرآن فيقول: « إنك تشغلني عن أمر الناس؛ فعليك بزيد بن ثابت؛ فإنه يجلس للناس ويتفرغ لهم، ولستُ أخالفه في شيء من القرآن». قال: (وكنت ألقى علياً رضي الله عنه فأسأله فيخبرني، ويقول: «عليك بزيد بن ثابت » .. فأقبلت على زيد فقرأتُ عليه القرآن ثلاث عشرة سنة). رواه أبو طاهر البغدادي كما في "معرفة القراء الكبار" للذهبي. 7. وقال أبو اليمان: (أخبرنا شعيب، حدثني عبد الله بن أبي حسين، حدثني شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، وهو الذي بعثه عمر بن الخطاب إلى الشام يفقه الناس...). رواه أحمد. 8. وقال الليث بن سعد في رسالته المشهورة إلى الإمام مالك: (وأما ما ذكرت من قول الله عز وجل: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم} فإنَّ كثيرا من أولئك السابقين الأولين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله؛ فجنَّدوا الأجنادَ، واجتمع إليهم الناس؛ فأظهروا بين ظهرانيهم كتابَ الله وسنة نبيهم، ولم يكتموهم شيئاً علموه، وكان في كلّ جند منهم طائفة يعلّمون لله كتابَ الله وسنة نبيه، ويجتهدون برأيهم فيما لم يفسره لهم القرآن والسنة، ويقومهم عليه أبو بكر وعمر وعثمان الذين اختارهم المسلمون لأنفسهم، ولم يكن أولئك الثلاثة مضيعين لأجناد المسلمين ولا غافلين عنهم، بل كانوا يكتبون في الأمر اليسير لإقامة الدين والحذر من الاختلاف بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فلم يتركوا أمرا فسَّره القرآن أو عمل به النبيّ صلى الله عليه وسلم أو ائتمروا فيه بعده إلا أعلموهموه). رواه يعقوب بن سفيان. |
الساعة الآن 02:33 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir