تفسير سورة المنافقون [ من الآية (5) إلى الآية (8) ]
تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) } تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) ) قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول اللّه لوّوا رءوسهم ورأيتهم يصدّون وهم مستكبرون (5) سواءٌ عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر اللّه لهم إنّ اللّه لا يهدي القوم الفاسقين (6) } يقول تعالى مخبرًا عن المنافقين -عليهم لعائن اللّه-أنّهم {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول اللّه لوّوا رءوسهم} أي: صدوا وأعرضوا عمّا قيل لهم، استكبارًا عن ذلك، واحتقارًا لما قيل لهم ولهذا قال: {ورأيتهم يصدّون وهم مستكبرون}).[تفسير القرآن العظيم: 8/126] قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ( (5) {وَإِذَا قِيلَ} لهؤلاءِ المُنافقِينَ: {تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} عمَّا صَدَرَ مِنكم؛ لتَحْسُنَ أحوالُكم، وتُقْبَلَ أعمالُكم. امْتَنَعُوا مِن ذلكَ أشَدَّ الامتناعِ، و {لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ}؛ امتناعاً مِن طَلَبِ الدعاءِ مِن الرسولِ، {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} عن الحقِّ؛ بُغْضاً له، {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} عن اتِّباعِه؛ بَغْياً وعِناداً. فهذهِ حالُهم عندَما يُدْعَوْنَ إلى طَلَبِ الدعاءِ مِن الرسولِ). [تيسير الكريم الرحمن: 864] قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (5- {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ} أيْ: حَرَّكُوهَا؛ استهزاءً بذلك ورَغبةً عن الاستغفارِ. {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ}: يُعْرِضونَ عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} عن الإتيانِ إلى رسولِ اللهِ وسؤالِ الاستغفارِ منه، يَرَوْنَ أنفُسَهم أكبرَ مِن ذلك، ويَستَحْقِرُونها لو فَعَلُوا). [زبدة التفسير: 555] تفسير قوله تعالى: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) ) قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ جازاهم على ذلك فقال: {سواءٌ عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر اللّه لهم إنّ اللّه لا يهدي القوم الفاسقين} كما قال في سورة "براءةٌ" وقد تقدّم الكلام على ذلك، وإيراد الأحاديث المرويّة هنالك. وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا ابن أبي عمر العدني قال: قال سفيان {لوّوا رءوسهم} قال ابن أبي عمر: حوّل سفيان وجهه على يمينه، ونظر بعينه شزرا، ثمّ قال: هم هذا. وقد ذكر غير واحدٍ من السّلف أنّ هذا السّياق كلّه نزل في عبد اللّه بن أبيّ بن سلولٍ كما سنورده قريبًا إن شاء اللّه تعالى، وبه الثّقة وعليه التّكلان. وقد قال محمّد بن إسحاق في السّيرة: ولمّا قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة -يعني مرجعه من أحدٍ-وكان عبد اللّه بن أبيّ بن سلولٍ -كما حدّثني ابن شهابٍ الزّهريّ-له مقامٌ يقومه كلّ جمعة لا ينكر، شرفًا له من نفسه ومن قومه، وكان فيهم شريفًا، إذا جلس النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يوم الجمعة وهو يخطب النّاس قام، فقال: أيّها النّاس، هذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بين أظهركم، أكرمكم اللّه به، وأعزّكم به، فانصروه وعزّروه، واسمعوا له وأطيعوا. ثمّ جلس، حتّى إذا صنع يوم أحد ما صنع -يعني مرجعه بثلث الجيش-ورجع النّاس قام يفعل ذلك كما كان يفعله، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه وقالوا: اجلس، أي عدوّ اللّه، لست لذلك بأهلٍ، وقد صنعت ما صنعت. فخرج يتخطّى رقاب النّاس وهو يقول: واللّه لكأنّما قلت بجرًا؛ أن قمت أشدّد أمره. فلقيه رجالٌ من الأنصار بباب المسجد فقالوا: ويلك. ما لك؟ قال: قمت أشدّد أمره، فوثب عليّ رجالٌ من أصحابه يجذبونني ويعنّفونني، لكأنّما قلت بجرًا، أن قمت أشدّد أمره. قالوا: ويلك. ارجع يستغفر لك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فقال: واللّه ما أبتغي أن يستغفر لي وقال قتادة والسّدّيّ: أنزلت هذه الآية في عبد اللّه بن أبيٍّ، وذلك أنّ غلامًا من قرابته انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدّثه بحديثٍ عنه وأمرٍ شديدٍ، فدعاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فإذا هو يحلف باللّه ويتبرّأ من ذلك، وأقبلت الأنصار على ذلك الغلام فلاموه وعذموه وأنزل اللّه فيه ما تسمعون، وقيل لعدوّ اللّه: لو أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؟ فجعل يلوي رأسه، أي: لست فاعلًا وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو الرّبيع الزّهرانيّ، حدّثنا حمّاد بن زيدٍ، حدّثنا أيّوب، عن سعيد بن جبيرٍ: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان إذا نزل منزلًا لم يرتحل حتّى يصلّي فيه، فلمّا كانت غزوة تبوك بلغه أنّ عبد الله ابن أبيّ بن سلولٍ قال: {ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ} فارتحل قبل أن ينزل آخر النّهار، وقيل لعبد اللّه بن أبيٍّ: ائت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى يستغفر لك. فأنزل اللّه: {إذا جاءك المنافقون} إلى قوله: {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول اللّه لوّوا رءوسهم} وهذا إسنادٌ صحيحٌ إلى سعيد بن جبيرٍ. وقوله: إنّ ذلك كان في غزوة تبوك، فيه نظرٌ، بل ليس بجيّدٍ؛ فإنّ عبد اللّه بن أبيّ بن سلولٍ لم يكن ممّن خرج في غزوة تبوك، بل رجع بطائفةٍ من الجيش. وإنّما المشهور عند أصحاب المغازي والسّير أنّ ذلك كان في غزوة المريسيع، وهي غزوة بني المصطلق. قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدّثني محمّد بن يحيى بن حبّان، وعبد اللّه بن أبي بكرٍ، وعاصم بن عمر بن قتادة، في قصّة بني المصطلق: فبينا رسول اللّه مقيمٌ هناك، اقتتل على الماء جهجاه بن سعيدٍ الغفاريّ -وكان أجيرًا-لعمر بن الخطّاب، وسنان بن وبر قال ابن إسحاق: فحدّثني محمّد بن يحيى بن حبّان قال: ازدحما على الماء فاقتتلا فقال سنانٌ: يا معشر الأنصار. وقال الجهجاه: يا معشر المهاجرين -وزيد بن أرقم ونفرٌ من الأنصار عند عبد اللّه بن أبيٍّ-فلمّا سمعها قال: قد ثاورونا في بلادنا. واللّه ما مثلنا وجلابيب قريشٍ هذه إلّا كما قال القائل: "سمن كلبك يأكلك". واللّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ. ثمّ أقبل على من عنده من قومه وقال: هذا ما صنعتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما واللّه لو كففتم عنهم لتحوّلوا عنكم في بلادكم إلى غيرها. فسمعها زيد ابن أرقم، فذهب بها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو غليّمٌ -وعنده عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه-فأخبره الخبر، فقال عمر رضي اللّه عنه: يا رسول اللّه مر عبّاد بن بشر فليضرب عنقه. فقال صلّى اللّه عليه وسلّم: "فكيف إذا تحدّث النّاس -يا عمر-أنّ محمّدًا يقتل أصحابه؟ لا ولكن ناد يا عمر في الرّحيل". فلمّا بلغ عبد اللّه بن أبيٍّ أنّ ذلك قد بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، أتاه فاعتذر إليه، وحلف باللّه ما قال ما قال عليه زيد بن أرقم -وكان عند قومه بمكانٍ-فقالوا: يا رسول اللّه، عسى أن يكون هذا الغلام أوهم ولم يثبت ما قال الرّجل. وراح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مهجرًا في ساعةٍ كان لا يروح فيها، فلقيه أسيد بن الحضير فسلّم عليه بتحيّة النّبوّة، ثمّ قال: واللّه لقد رحت في ساعةٍ منكرة ما كنت تروح فيها. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أما بلغك ما قال صاحبك ابن أبيٍّ؟. زعم أنّه إذا قدم المدينة سيخرج الأعزّ منها الأذلّ". قال: فأنت -يا رسول اللّه-العزيز وهو الذّليل. ثمّ قال: يا رسول اللّه ارفق به فواللّه لقد جاء اللّه بك وإنّا لننظم له الخرز لنتوّجه، فإنّه ليرى أن قد استلبته ملكًا. فسار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالنّاس حتّى أمسوا، ليلته حتّى أصبحوا، وصدر يومه حتّى اشتدّ الضّحى. ثمّ نزل بالنّاس ليشغلهم عمّا كان من الحديث، فلم يأمن النّاس أن وجدوا مس الأرض فناموا، ونزلت سورة المنافقين وقال الحافظ أبو بكرٍ البيهقيّ: أخبرنا أبو عبد اللّه الحافظ، أخبرنا أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا بشر بن موسى، حدّثنا الحميدي، حدّثنا سفيان، حدّثنا عمرو بن دينارٍ، سمعت جابر بن عبد اللّه يقول: كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في غزاة فكسع رجلٌ من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال الأنصاريّ: ياللأنصار. وقال المهاجريّ: يا للمهاجرين. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ما بال دعوى الجاهليّة؟ دعوها فإنّها منتنةٌ". وقال عبد اللّه بن أبيّ بن سلول -وقد فعلوها-: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال جابرٌ: وكان الأنصار بالمدينة أكثر من المهاجرين حين قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثمّ كثر المهاجرون بعد ذلك، فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "دعه؛ لا يتحدّث النّاس أنّ محمّدًا يقتل أصحابه" ورواه الإمام أحمد عن حسين بن محمّدٍ المروزيّ، عن سفيان بن عيينة ورواه البخاريّ عن الحميديّ، ومسلمٌ عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره، عن سفيان، به نحوه وقال الإمام أحمد: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، حدّثنا شعبة، عن الحكم، عن محمّد بن كعبٍ القرظيّ، عن زيد بن أرقم قال: كنت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في غزوة تبوك، فقال عبد اللّه بن أبيٍّ: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ. قال: فأتيت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبرته، قال: فحلف عبد اللّه بن أبيٍّ أنّه لم يكن شيءٌ من ذلك. قال: فلامني قومي وقالوا: ما أردت إلى هذا؟ قال: فانطلقت فنمت كئيبًا حزينا، قال: فأرسل إلى نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: "إنّ اللّه قد أنزل عذرك وصدّقك").[تفسير القرآن العظيم: 8/126-129] قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ( (6) وهذا مِن لُطْفِ اللَّهِ وكَرامتِه لرسولِه، حيثُ لم يَأْتُوا إليهِ فيَسْتَغْفِرَ لهم, فإِنَّه {سَوَاءٌ} أَسْتَغْفَرَ لهم أَمْ لم يَسْتَغْفِرْ لهم فـ {لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}؛ وذلكَ لأنهم قومٌ فاسِقونَ، خارِجونَ عن طاعةِ اللَّهِ، مُؤْثِرونَ للكُفْرِ على الإيمانِ. فلذلكَ لا يَنْفَعُ فيهم استغفارُ الرسولِ، ولو استَغْفَرَ لهم، كما قالَ تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ). [تيسير الكريم الرحمن: 864-865] قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (6- {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} لا يَنفعُهم ذلك لإصرارِهم على النِّفاقِ واستمرارِهم على الكُفْرِ. {لَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} أيْ: ما دَامُوا على النِّفاقِ. {إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي: الكاملينَ في الخروجِ عن الطاعةِ، والانهماكِ في مَعاصِي اللهِ، ويَدخُلُ في هذا المنافقونَ دُخولاً أوَّلِيًّا). [زبدة التفسير: 555] تفسير قوله تعالى: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) ) قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقال الإمام أحمد: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، حدّثنا شعبة، عن الحكم، عن محمّد بن كعبٍ القرظيّ، عن زيد بن أرقم قال: كنت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في غزوة تبوك، فقال عبد اللّه بن أبيٍّ: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ. قال: فأتيت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبرته، قال: فحلف عبد اللّه بن أبيٍّ أنّه لم يكن شيءٌ من ذلك. قال: فلامني قومي وقالوا: ما أردت إلى هذا؟ قال: فانطلقت فنمت كئيبًا حزينا، قال: فأرسل إلى نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: "إنّ اللّه قد أنزل عذرك وصدّقك". قال: فنزلت هذه الآية {هم الّذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول اللّه حتّى ينفضّوا} حتّى بلغ: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ} ورواه البخاريّ عند هذه الآية، عن آدم بن أبي إياسٍ، عن شعبة ثمّ قال: "وقال ابن أبي زائدة، عن الأعمش، عن عمرٍو، عن ابن أبي ليلى، عن زيدٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ورواه التّرمذيّ والنّسائيّ عندها أيضًا من حديث شعبة، به طريقٌ أخرى عن زيدٍ: قال الإمام أحمد، رحمه اللّه، حدّثنا يحيى بن آدم، ويحيى بن أبي بكير قال: حدّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق قال: سمعت زيد بن أرقم -وقال ابن أبي بكير عن زيد بن أرقم-قال: خرجت مع عمّي في غزاةٍ، فسمعت عبد اللّه بن أبيّ بن سلولٍ يقول لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول اللّه، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ. فذكرت ذلك لعمّي فذكره عمّي لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأرسل إليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فحدّثته فأرسل إلى عبد اللّه بن أبيّ بن سلولٍ وأصحابه فحلفوا ما قالوا: فكذبني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وصدّقه، فأصابني همٌ لم يصبني مثله قطّ، وجلست في البيت، فقال عمّي: ما أردت إلّا أن كذّبك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ومقتك. قال: حتّى أنزل اللّه: {إذا جاءك المنافقون} قال: فبعث إليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقرأها رسول اللّه عليّ، ثمّ قال: "إنّ اللّه قد صدّقك" ثمّ قال أحمد أيضًا: حدّثنا حسن بن موسى، حدّثنا زهير، حدّثنا أبو إسحاق: أنه سمع زيد ابن أرقم يقول: خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في سفرٍ، فأصاب النّاس شدةٌ، فقال عبد اللّه بن أبيٍّ لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضّوا من حوله. وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ. فأتيت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبرته بذلك، فأرسل إلى عبد اللّه بن أبيٍّ فسأله، فاجتهد يمينه ما فعل. فقالوا: كذب زيدٌ يا رسول اللّه. فوقع في نفسي ما قالوا، حتّى أنزل اللّه تصديقي: {إذا جاءك المنافقون} قال: ودعاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليستغفر لهم، فلووا رؤوسهم. وقوله تعالى: {كأنّهم خشبٌ مسنّدةٌ} قال: كانوا رجالًا أجمل شيءٍ. وقد رواه البخاريّ ومسلمٌ والنّسائيّ، من حديث زهيرٍ ورواه البخاريّ أيضًا والتّرمذيّ من حديث إسرائيل، كلاهما عن أبي إسحاق عمرو بن عبد اللّه السّبيعيّ الهمدانيّ الكوفيّ، عن زيدٍ، به. طريقٌ أخرى عن زيدٍ: قال أبو عيسى التّرمذيّ: حدّثنا عبد بن حميد، حدّثنا عبيد اللّه بن موسى، عن إسرائيل، عن السّدّيّ، عن أبي سعدٍ الأزديّ قال: حدّثنا زيد بن أرقم قال: غزونا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وكان معنا أناسٌ من الأعراب، فكنّا نبتدر الماء، وكان الأعراب يسبقوننا يسبق الأعرابيّ أصحابه يملأ الحوض، ويجعل حوله حجارةً، ويجعل النّطع عليه حتّى يجيء أصحابه. قال: فأتى رجلٌ من الأنصار الأعرابيّ، فأرخى زمام ناقته لتشرب، فأبى أن يدعه، فانتزع حجرًا ففاض الماء، فرفع الأعرابيّ خشبةً، فضرب بها رأس الأنصاريّ فشجّه، فأتى عبد اللّه بن أبيٍّ رأس المنافقين فأخبره -وكان من أصحابه-فغضب عبد اللّه بن أبيٍّ، ثمّ قال: لا تنفقوا على من عند رسول اللّه حتّى ينفضّوا من حوله -يعني الأعراب-وكانوا يحضرون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عند الطّعام. فقال عبد اللّه لأصحابه: إذا انفضّوا من عند محمّدٍ فائتوا محمّدًا بالطّعام، فليأكل هو ومن عنده، ثمّ قال لأصحابه: إذا رجعتم إلى المدينة فليخرج الأعزّ منها الأذلّ. قال زيدٌ: وأنا ردف عمّي، فسمعت عبد اللّه فأخبرت عمّي، فانطلق فأخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأرسل إليه رسول اللّه، فحلف وجحد، قال: فصدّقه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وكذّبني، فجاء إليّ عمّي فقال: ما أردت إلّا أنّ مقتك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وكذبك المسلمون. فوقع عليّ من الغمّ ما لم يقع على أحدٍ قطّ، فبينما أنا أسير مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في سفرٍ وقد خفقت برأسي من الهمّ، إذ أتاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فعرك أذني، وضحك في وجهي، فما كان يسرّني أنّ لي بها الخلد في الدّنيا، ثمّ إنّ أبا بكرٍ لحقني وقال: ما قال لك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قلت: ما قال لي رسول اللّه شيئًا، غير أن عرك أذني وضحك في وجهي. فقال: أبشر. ثمّ لحقني عمر فقلت له مثل قولي لأبي بكرٍ. فلمّا أن أصبحنا قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سورة المنافقين. انفرد بإخراجه التّرمذيّ وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وهكذا رواه الحافظ البيهقي عن الحاكم عن أبي العبّاس محمّد بن أحمد المحبوبيّ، عن سعيد بن مسعودٍ، عن عبيد اللّه بن موسى، به وزاد بعد قوله "سورة المنافقين" {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنّك لرسول} حتّى بلغ: {هم الّذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول اللّه حتّى ينفضّوا} حتّى بلغ: {ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ} وقد روى عبد اللّه بن لهيعة، عن أبي الأسود، عروة بن الزّبير في المغازي -وكذا ذكر موسى بن عقبة في مغازيه أيضًا هذه القصّة بهذا السّياق، ولكن جعلا الّذي بلّغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كلام عبد اللّه بن أبيّ بن سلولٍ إنّما هو أوس بن أرقم، من بني الحارث بن الخزرج. فلعلّه مبلّغٌ آخر، أو تصحيفٌ من جهة السّمع، واللّه أعلم).[تفسير القرآن العظيم: 8/129-131] قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ({هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ *}. (7) وهذا مِن شِدَّةِ عَداوتِهم للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ والمُسلمِينَ، لَمَّا رَأَوْا اجتماعَ أصحابِه وائْتِلافَهم ومُسارَعَتَهم في مَرضاةِ الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ قالوا بزَعْمِهم الفاسدِ: {لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا}؛ فإنَّهم على زَعْمِهم لَوْلاَ أموالُ المنافقِينَ ونَفَقَاتُهم عليهم، لَمَا اجْتَمَعُوا في نُصْرةِ دِينِ اللَّهِ. وهذا مِن أعْجَبِ العَجَبِ أنْ يَدَّعِيَ هؤلاءِ المنافقونَ ـ الذينَ هم أحْرَصُ الناسِ على خِذلانِ الدِّينِ وأذِيَّةِ المُسلمِينَ ـ مِثلَ هذه الدَّعْوَى التي لا تَرُوجُ إلاَّ على مَن لا عِلْمَ له بالحقائقِ. ولهذا قالَ تعالى رَدًّا لقولِهم: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}. فيُؤْتِي الرزْقَ مَن يَشاءُ، ويَمنَعُه مَن يَشاءُ، ويُيَسِّرُ الأسبابَ لِمَن يَشاءُ، ويُعَسِّرُها على مَن يَشاءُ, {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ}. فلذلكَ قالوا تلكَ الْمَقالةَ التي مَضْمُونُها أنَّ خَزائِنَ الرِّزْقِ في أَيْدِيهِم وتحتَ مَشيئتِهم). [تيسير الكريم الرحمن: 865] قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (7- {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا} أيْ: حتى يَتَفَرَّقُوا عنه، يَعنونَ بذلك فُقراءَ المهاجرينَ, {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أيْ: إنه هو الرزَّاقُ لهؤلاءِ المهاجرينَ. {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} أنَّ خَزائنَ الأرزاقِ بِيَدِ اللهِ, فظَنُّوا أنَّ اللهَ لا يُوَسِّعُ على المؤمنينَ). [زبدة التفسير: 555] تفسير قوله تعالى: (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) ) قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقد قال ابن أبي حاتمٍ، رحمه اللّه: حدّثنا محمّد بن عزيزٍ الأيليّ، حدّثنا سلامة، حدّثني عقيلٌ، أخبرني محمّد بن مسلمٍ، أنّ عروة بن الزّبير وعمرو بن ثابتٍ الأنصاريّ أخبراه: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم غزا غزوة المريسيع، وهي الّتي هدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيها مناة الطّاغية الّتي كانت بين قفا المشلّل وبين البحر، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خالد بن الوليد فكسر مناة، فاقتتل رجلان في غزوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تلك، أحدهما من المهاجرين، والآخر من بهز، وهم حلفاء الأنصار، فاستعلى الرّجل الّذي من المهاجرين على البهزيّ، فقال البهزيّ: يا معشر الأنصار، فنصره رجالٌ من الأنصار، وقال المهاجريّ: يا معشر المهاجرين. فنصره رجالٌ من المهاجرين، حتّى كان بين أولئك الرّجال من المهاجرين والرّجال من الأنصار شيءٌ من القتال، ثمّ حجز بينهم فانكفأ كلّ منافقٍ -أو: رجلٍ في قلبه مرضٌ-إلى عبد اللّه بن أبيّ بن سلولٍ، فقال: قد كنت ترجى وتدفع فأصبحت لا تضرّ ولا تنفع، قد تناصرت علينا الجلابيب -وكانوا يدعون كلّ حديث هجرةٍ الجلابيب-فقال عبد اللّه بن أبيٍّ عدوّ اللّه: [واللّه] لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ. قال مالك بن الدخشم -وكان من المنافقين-: أولم أقل لكم لا تنفقوا على من عند رسول اللّه حتّى ينفضّوا. فسمع بذلك عمر بن الخطّاب، فأقبل يمشي حتّى جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللّه، ائذن لي في هذا الرّجل الّذي قد أفتن النّاس، أضرب عنقه -يريد عمر عبد اللّه بن أبيٍّ-فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لعمر: "أو قاتله أنت إن أمرتك بقتله؟ ". قال: عمر [نعم] واللّه لئن أمرتني بقتله لأضربنّ عنقه. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "اجلس". فأقبل أسيد بن الحضير -وهو أحد الأنصار، ثمّ أحد بني عبد الأشهل-حتّى آتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللّه، ائذن لي في هذا الرّجل الّذي قد أفتن النّاس [حتّى] أضرب عنقه. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أوقاتله أنت إن أمرتك بقتله؟ ". قال: نعم، واللّه لئن أمرتني بقتله لأضربنّ بالسّيف تحت قرط أذنيه. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "اجلس". ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: "آذنوا بالرحيل". فهجّر بالناس، فسار يومه وليلته والغد حتّى متع النّهار، ثمّ نزل. ثمّ هجّر بالنّاس مثلها، فصبح بالمدينة في ثلاثٍ سارها من قفا المشلّل فلمّا قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة أرسل إلى عمر فدعاه، فقال له رسول اللّه: "أي عمر، أكنت قاتله لو أمرتك بقتله؟ " قال عمر: نعم، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "واللّه لو قتلته يومئذٍ لأرغمت أنوف رجالٍ لو أمرتهم اليوم بقتله امتثلوه فيتحدّث الناس أنّي قد وقعت على أصحابي فأقتلهم صبرًا". وأنزل اللّه عزّ وجلّ: {هم الّذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول اللّه حتّى ينفضّوا} إلى قوله: {لئن رجعنا إلى المدينة [ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل]} الآية. وهذا سياقٌ غريبٌ، وفيه أشياء نفيسةٌ لا توجد إلّا فيه. وقال محمّد بن إسحاق بن يسارٍ: حدّثني عاصم بن عمر بن قتادة: أنّ عبد اللّه بن أبيٍّ -يعني لمّا بلغه ما كان من أمر أبيه-أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللّه، إنّه بلغني أنّك تريد قتل عبد اللّه بن أبيّ فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلًا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فواللّه لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجلٍ أبرّ بوالده منّي، إنّي أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد اللّه بن أبيٍّ يمشي في النّاس، فأقتله، فأقتل مؤمنًا بكافرٍ، فأدخل النّار. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "بل نترفّق به ونحسن صحبته، ما بقي معنا" وذكر عكرمة وابن زيدٍ وغيرهما: أنّ النّاس لمّا قفلوا راجعين إلى المدينة، وقف عبد اللّه بن عبد اللّه هذا على باب المدينة، واستلّ سيفه، فجعل النّاس يمرّون عليه، فلمّا جاء أبوه عبد اللّه بن أبيٍّ قال له ابنه: وراءك. فقال: ما لك؟ ويلك. فقال: والله لا تجوز من هاهنا حتّى يأذن لك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فإنّه العزيز وأنت الذّليل. فلمّا جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم -وكان إنّما يسير ساقةً فشكا إليه عبد اللّه بن أبيٍّ ابنه، فقال ابنه عبد اللّه: واللّه يا رسول اللّه لا يدخلها حتّى تأذن له. فأذن له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: أما إذ أذن لك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فجز الآن. وقال أبو بكرٍ عبد اللّه بن الزّبير في مسنده: حدّثنا سفيان بن عيينة، حدّثنا أبو هارون المدنيّ قال: قال عبد الله بن عبد الله ابن أبيّ بن سلولٍ لأبيه: واللّه لا تدخل المدينة أبدًا حتّى تقول: رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الأعزّ وأنا الأذلّ. قال وجاء إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللّه، إنّه بلغني أنّك تريد أن تقتل أبي، فوالّذي بعثك بالحقّ ما تأمّلت وجهه قطّ هيبةً له، لئن شئت أن آتيك برأسه لآتينّك، فإنّي أكره أن أرى قاتل أبي).[تفسير القرآن العظيم: 8/131-132] قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ( (8) {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ}. وذلك في غَزوةِ الْمُرَيْسِيعِ، حينَ صارَ بينَ بعضِ الْمُهاجرِينَ والأنصارِ بعضُ كلامٍ كَدَّرَ الخواطرَ، ظَهَرَ حينَئذٍ نِفاقُ المُنافقِينَ وتَبَيَّنَ ما في قُلوبِهم, وقالَ كبيرُهم عبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ: ما مَثَلُنا ومَثَلُ هؤلاءِ - يعني المُهاجرِينَ - إلاَّ كما قالَ القائلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ. وقالَ: لَئِنْ رَجَعْنَا إلى المدينةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعزُّ مِنها الأذَلَّ. بزَعْمِه أنَّه هو وإخوانَهُ المُنافقِينَ الأَعَزُّونَ، وأنَّ رسولَ اللَّهِ ومَنِ اتَّبَعَه هم الأَذَلُّونَ. والأمْرُ بعَكْسِ ما قالَ هذا المُنافِقُ؛ فلهذا قالَ تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}, فهم الأَعِزَّاءُ، والمنافقونَ وإخوانُهم مِن الكُفَّارِ هم الأَذِلاَّءُ. {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك؛ فلذلكَ زَعَمُوا أنَّهم الأعزَّاءُ؛ اغْتِرَاراً بما هم عليه مِن الباطلِ). [تيسير الكريم الرحمن: 865] قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (8- {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} القائلُ هو عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ رأسُ المنافقينَ، وعَنَى بالأعَزِّ نفْسَه ومَن معه، وبالأذَلِّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومَن معه، ومُرادُه بالرجوعِ رُجوعُهم مِن تلك الغَزوةِ. أخْرَجَ الإمامُ أحمدُ عن زَيدِ بنِ أرْقَمَ قالَ: كنتُ مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في غَزوةٍ، فقالَ عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ: لئنْ رَجَعْنَا إلى المدينةِ ليُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ. قالَ: فأَتيتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأَخْبَرْتُه. قالَ: فحَلَفَ عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ: إنَّه لم يَكنْ شيءٌ مِن ذلك. قالَ زيدٌ: فلاَمَنِي قَوْمِي، وقالوا: ما أَرَدْتَ إلى هذا؟! قالَ: فانْطَلَقْتُ فنِمْتُ كَئيباً حَزيناً. قالَ: فأرسَلَ إليَّ نبيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقالَ: ((إِنَّ اللهَ أَنزَلَ عُذْرَكَ وَصَدَّقَكَ)). قالَ: وأَنْزَلَ هذه الآيةَ). [زبدة التفسير: 555] * للاستزادة ينظر: هنا |
الساعة الآن 01:45 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir