![]() |
(27) يعقوب:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (27) يعقوب يَعْقُوبُ هو حفيد إبراهيم من ابنه إسحاق عليهم جميعا أزكى الصلاة وأتم التسليم. وهي في التوراة «يعقوب» بفتح الياء والعين، والمد بالضم لا بالواو بعد القاف، كما في «يوم» العربية العامية. عربها القرآن بخبن فتحة العين، وإشباع المد بالواو، فهي على وزن «يعسوب»، عظيم النحل، في العربية. أما «يعقوب» العبرية فهي – كما لعلك حدست – صيغة المضارعة للمفرد الغائب من الجذر العبري «عقب»، وهو نفسه الجذر العربي «عقب»، مبني ومعنى، مضارع يراد منه اسم الفاعل كما مر بك. فمعنى «يعقوب» عبريا «العاقب». ومن دقيق التعريب في القرآن، إتيانه بـ«يعقوب» العبرية على زنة «يفعول» وهي بنية تنفرد بها العربية من دون أخواتها الساميات، تفيد المبالغة وتعظيم الشأن، كما ترى في «يعسوب» عظيم النحل، وكما ترى في «يعبوب»، أي النهر عظيم العباب، شديد الجرية، وغيرهما في العربية كثير. كان يعقوب عليه السلام خيرَ عقبٍ لخيرِ سلف. شابه أباه إسحاق عليه السلام في العلم، وشابه جده إبراهيم عليه السلام في الصبر على البلوى إيمانًا واحتسابًا. وصف القرآن إسحاق بالعلم، كما مر بك من قوله عز وجل: {قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم} [الذاريات: 28]، وقال عز وجل في يعقوب: {وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [يوسف: 68]. وقال إمام المتوكلين إبراهيم عليه السلام يفرق بين الضلال والإيمان، يرد على الملائكة [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/292] أن ظنوا به القنوط: {قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون} [الحجر: 56] وقال مثلها يعقوب عليه السلام: {قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} [يوسف: 86 – 87]. ابتلى اللهُ صبر يعقوب، كما ابتلى من قبل صبر جده إبراهيم. ابتلاه بخاله لابان (تكون 29/15 – 29) الذي استأجره في أرضه وغنمه سبع سنين ليزوجه من ابنته الصغرى راحيل، أثيرة يعقوب. وإذا هو ليلة الزفاف يغشه فيدفع إليه بابنته الكبرى ليئة (واسمها مشتق من «اللأواء»!) فيضطره إلى خدمته سبع سنين أخرى ليزوجه عليها أثيرته راحيل. ويصبر يعقوب، حتى يجمع بين الأختين: ليئة وراحيل. فكان له من راحيل أحب بنيه: يوسف وبنيامين. ولكن هناءة يعقوب لا تدوم، لأن راحيل تجود بنفسها وهي تضع بنيامين، فيحتسبها يعقوب. ولكنه مبتلى في بنيه، مبتلى ببنيه: ينتزع منه أبناء «ليئة» أحب بنيه، يوسف، بكر فقيدته راحيل، يلقون به في غيابة جب، ويغدون على أبيهم يستعذبون عذابه وهم يقصون عليه أن ما خشيه على يوسف منهم قد وقع: أتى الذئب على يوسف لحما وعظما فلم يبق إلا القميص. ويا لهول ما يسمع! ولكن العزيز الرحيم الذي سلى يوسف في غيابة الجب بقوله: {وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون} [يوسف: 15] – يعني ستعيش يا يوسف حتى تنبئ إخوتك هؤلاء بخسيس ما فعلوه – يسلي بها أيضًا يعقوب، فيقول: {بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} [يوسف: 18]، يستعين الله الصبر على فراق يوسف، ويصابر بها النفس أيضًا على خيالات ما يصفون من افتراس الذئب إياه. كان فقد يوسف ذروة مصائب يعقوب، لا يصاب من بعده بمصيبة إلا [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/293] وتنكأ وجيعته في يوسف، فيقول: يا أسفا على يوسف! يتسلى بالمصاب الأكبر عن المصاب الأصغر. قالها يعقوب وهو يسمع من بنيه هؤلاء فجيعته في حبه الثاني بنيامين، وقد احتبسه ذلك «العزيز» في مصر، يسترقه عبدًا في سرقة صواع الملك. ذهب الذئب بيوسف، بل كان الذئب إخوته. وضاع بنيامين. أضاعه هؤلاء أيضًا الذين راودوا عنه أباه، ليفرطوا فيه مثلما فرطوا من قبل في يوسف! فمن له بيوسف وأخيه! ويتمتم الشيخ الذي أبلته الأحزان والسنون وما بلى له صبر: {فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم} [يوسف: 83]. أفكان يعقوبُ يعلم – يقينًا – أن الذئب ما أكل يوسف، وإنما وروى عنه في غيابة مجهول لا يعلمه؟ لو أن الموت اختطف يوسف أمام عينيه، فاحتسبه عند الله كما احتسب أمه راحيل من قبل! إذن لشفاه اليأس من لواعج الأمل، ومن هواجس الليل والنهار. وبنوه هؤلاء، الذين فجعوه بيوسف ليخلو لهم وجه أبيهم، هاهم أولاء يغدون ويروحون أمامه، تنضح أعينهم بما فعلوه، فلا يخلو لهم منه إلا وجه كسيف، ولسان لا يفتأ يذكر يوسف: ترى أين أنت الآن يا يوسف؟ أطعمت؟ أدفئت؟ أي ذئب آخر يترصدك؟ وتمضي السنون بيعقوب تزيد في أحزانه، ولكنها لا تنتقص من أمله في لقاء يوسف. وكأنما كانت فجيعته في بنيامين علامة من الله على قرب انتهاء عذابه، فيقول: {عسى الله أن يأتيني بهم جميعا}! قد صرف بصره عما حوله، لا يرى من بعد إلا يوسف وأخاه، إلى أن يأتيه البشير فيرتد بصيرًا، ويقول لمن أنكروا عليه: {ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون} [يوسف: 96]. نعم ... كان يعقوب طوال تلك السنين «يعلم». وهذا هو بلاؤه الأعظم. مر بك أن الملائكة هي التي سمت يعقوب، يوم سمت من قبل أباه إسحاق. ولكن سفر التكوين يقص عليك أن يعقوب ولد مع توأم له، هو «عيسو»، فخرج «عيسو» أولا، ثم خرج يعقوب ويده قابضة بعقب عيسو، فدعى اسمه يعقوب (تكوين 25/12 – 26)، يريد تفسير معنى يعقوب، لا بأنه «العاقب» على أصل [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/294] اللفظ في اللغة، وإنما بأنه «القابض على عقب أخيه» ليرتب على هذا نبوءته بافتراق بني إسحاق شعبين، شعب يقوي على شعب، وكبير يستعبد لصغير، كي تكون لأبناء يعقوب (أي بني إسرائيل) السيادة على كل من عداهم من أبناء إبراهيم المنحدرين من صلب ابنه إسحاق، ولا يكون لغيرهم البتة في «مواعيد» إبراهيم نصيب، تلك المواعيد التي فهموها على أنها عدد بتكثير نسل إبراهيم وإقطاعه «أرض غربته» - كل أرض كنعان – يعني كل فلسطين، ميراثًا له ولنسله. ولكن الكاتب يفطن إلى أن تكثير نسل إبراهيم قمين «بتفتيت التركة» وتوزعها بين «جماهير أمم» فبدأ بإخراج إسماعيل ونسله من هذا «الوعد» ليحصره في إسحاق أبيهم. وإذا إسحاق ينجب توأمين يتصارعان «الميراث»: عيسو ويعقوب. ويعقوب أبوهم، فلا مفر إذن من إخراج «عيسو» بدوره من «التركة»، كي تخلص «الأرض» ليعقوب وبنيه. هنا يقص عليك الكاتب أن الله تراءى ليعقوب، كما تراءى من قبل لوالدته «رفقة» وهي حامل بتوأميها عيسو ويعقوب، ليحصر «مواعيد إبراهيم» في يعقوب (وهو إسرائيل) دون غيره من نسل إبراهيم، ولكن إشكالاً يثور أمام الكاتب: ها هو عيسو يخرج من بطن أمه الأول، يليه يعقوب. فعيسو إذن هو الأكبر، أي بكر إسحاق، والبكر عنده هو الوارث (فلا تدري كيف فاته أن إسماعيل هو بكر إبراهيم بلا منازع فلماذا أخرجه من التركة ونَحَلَها إسحاق). يتذكر هذا فينص على أن الله هو الذي حرم إسماعيل بقوله لإبراهيم: بإسحاق يدعى لك نسل! أي لا نسل لك يعتد به يجيء من إسماعيل، وإنما نسلك المعنى هو نسلك عبر إسحاق. فماذا يقول في عيسو ويعقوب ابني إسحاق؟ افتعل قصة خروج يعقوب قابضًا بيده على عقب توأمه عيسو، رمزًا لسيادة يعقوب على عيسو، واشتق من هذا معنى اسم يعقوب، وعزز هذا المعنى بتلك الرؤى التي تراءى فيها الله ليعقوب ووالدته رفقة، ومنها قوله: «وكبير يستعبد لصغير»، أي أن عيسو البكر سيستعبد لأخيه «الأصغر» يعقوب. وكأنما كان إسحاق النبي بمعزل عن تلك الرؤى، أو تلك الصفقة التي تمت من وراء ظهره بين يعقوب ووالدته رفقة على حساب عيسو، فإذا هو وقد قرب موته يستدعى إليه بكره عيسو ليعلن له انحصار التركة فيه ويمنحه بركته. وتعلم رفقة بذلك، وكأنها ليست أم عيسو ويعقوب كليهمان فتتحايل هي وابنها يعقوب على [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/295] خداع أبيه إسحاق الذي كف بصره وضعفت حواسه لتنكر له يعقوب في ثياب عيسو. وينخدع نبي الله إسحاق فيجوز عليه هذا الغش (يكتبها الكاتب غير متورع ولا متأثم) فينحل «التركة» يعقوب ظانًا أنه عيسو، ويمنح يعقوب بركته. وينسى الكاتب أن كل هذا الذي افتعله لا يغير من الأمر شيئًا، لأن إسحاق ما منح التركة والبركة إلا لبكره عيسو، ولم يمنحهما يعقوب وإن تنكر في ثياب أخيه، وينسى أن «الوصية» ليعقوب باطلة بطلانًا مطلقًا لدخول الغش والتدليس. وينسى أخيرًا أن نسبة الغش والخديعة لأنبياء الله كفر بواح يكبكب صاحبه في سواء جهنم، فما بالك بكاتب وحي تظن به العصمة والقداسة والتنزيه؟ أما نسبة الخطيئة والغش لنبي الله يعقوب، ونسبة الغفلة لنبي الله إسحاق، فهذا أمر لا يهتز له ضمير الكاتب، فقد مرن عليه قلمه يوم سجل في سفره أن نبي الله لوطًا زنت به ابنتاه وأنجبتا منه، وأما الجرأة على الله عز وجل فأنت لا تستعظم عليه شيئًا بعد قوله إن الله عز وجل هبط يصارع يعقوب ليلة كاملة حتى الفجر، ولم يقدر الله على يعقوب فضرب حق فخذه كي يطلقه يعقوب، ولكن يعقوب الذي انخلع حق فخذه يتأبى على الله فيقول: لا أطلقك حتى تباركني! فباركه الله. إلى آخر تلك المقذعات التي تأنف من قراءتها في أساطير آلهة الأولمب، فما بالك بقراءتها في أسفار توراة يقال قد أوحى بها الله؟ ولكن الكاتب لا يفوت ذكاءه أن مشروعية تلك الوصية تحتاج إلى تصحيح يرفع عنها عيب الغش والتدليس، أي تحتاج إلى إقرار «لاحق» من إسحاق بأن التركة والبركة ليعقوب عينه، الذي غشه وخدعه، قد حرمهما عيسو. فيقص عليك أن عيسو وقد علم أن أخاه سلبه التركة والبركة «صرح صرخة عظيمة ومرة جدًا، وقال لأبيه باركني أنا أيضًا يا أبي. فقال قد جاء أخوك بمكر وأخذ بركتك». قال عيسو لأبيه «أما بقيت لي بركة؟ فأجاب إسحاق وقال لعيسو إني قد جعلته سيدًا لك ودفعت إليه جميع إخوته عبيدًا وعضدتُه بحنطة وخمر. فماذا أصنع لك يا بُنَي؟»، قال عيسو لأبيه «ألك بركة واحدة فقط يا أبي؟ باركني أنا أيضًا يا أبي. ورفع عيسو صوته وبكى. فأجاب إسحاق أبوه وقال له هو ذا بلا دسم الأرض يكون مسكنك، وبلا ندى السماء من فوق. وبسيفك تعيش. ولأخيك تستعبد». وكأنما هي [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/296] لعنة من إسحاق لا بركة، صحح بها الكاتب الوصية ليعقوب، فقد أصر عليها إسحاق، واستسلم لها عيسو، وأخذها يعقوب بمكر كما يقول الكاتب. فعل الكاتب كل هذا ليحصر «مواعيد إبراهيم» في يعقوب دون غيره من نسل إبراهيم. ولكنك تعلم أن هذه «المواعيد» لو كانت من عند الله لصدقت، وهي لم تصدق بالمفهوم الذي ظنه كاتب سفر التكوين، لأن الذي ورث الأرض عن أبيه إسحاق كان عيسو «المطرود» من التركة، لا يعقوب الذي ارتحل ببنيه إلى مصر دون أن ينال نصيبًا من فلسطين مع عيسو، بل احتبس هو وبنوه في «ضيافة» ملوك مصر نحوا من أربعمائة وثلاثين سنة، كما يقول سفر الخروج، يضاف إليها أربعون سنة في تيه سيناء. وعاد بنو إسرائيل (أي بنو يعقوب) إلى فلسطين بقيادة «فتى موسى» يشوع بن نون، يجاهدون أهلها (ومنهم «الأدوميون» الذين يعزونهم إلى عيسو بن إسحاق) في الحصول لأنفسهم على رقعة من تلك الأرض، قدر لها على طول تاريخهم، حتى في أزهى عصور ملكهم، عصر داود وسليمان، أن تشمل «بعض» فلسطين، لا «كل» فلسطين. وهم لم يحصلوا على تلك الرقعة بمقتضى صك «مواعيد» يعقوب، وإنما حصلوا عليها حربًا، ينصرون ويخذلون: إن نصروا الله نصرهم، وإن أفسدوا دمر الله عليهم وبدد شملهم، كما قال عز وجل: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} [الإسراء: 7]، حتى أجلوا عن فلسطين مرتين، دامت أخراهما نحوا من ألفي سنة. فأين كانت «مواعيد» إبراهيم التي في سفر التكوين: «وأعطى لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك، كل أرض كنعان، ملكًا أبديًا» (تكوين 17/8)؟ فأي ملك هذا الذي كان؟ لم يتحقق هذا الوعد كما ترى لا لإبراهيم نفسه، أول موعود به، ولا لنسله من حفيده يعقوب كما أراد الكاتب، بل قل كما تمنى الكاتب، الذي كتب هذا السفر لا على عصر موسى أو عصر إبراهيم، وإنما كتبه في أعقاب عصر داود وسليمان. ولأن الله عز وجل إذا وعد أوفى، لا يخلف وعده رسله. ولأن هذا الوعد لم يتحقق، لا منقوصًا ولا كاملاً: لا على كل فلسطين (كل أرض كنعان)، ولا على طول الدهر (ملكًا أبديًا) كما تنبأ الكاتب. أما والأمرُ كذلك، فلا مناص لك من أن تقطع جازمًا – آمنًا مطمئنًا – بأن هذا الوعد ليس من الله عز وجل، وإنما هو من «أماني» الكاتب، دسه على وحي [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/297] الله المنزل في صحف إبراهيم وموسى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} [البقرة: 79]. ركب الكاتب الشديد الوعر، وأجهد نفسه كما ترى في حصر التركة وتعيين الوارث. ولم يصح له هذا ولا ذاك، وإنما ورث إبراهيم «الذين اتبعوا ملة إبراهيم حنيفا»: ورثوا الملة وورثوا الأرض جميعًا. كان ميراث إبراهيم عليه السلام هو الملة والإمامة، أما الأرض فهي لله عز وجل، يورثها من يشاء من عباده. على أن مواعيد الله عز وجل مشروطة بشرائطها، من نكث فإنما ينكث على نفسه، ولا يظلم ربك أحدًا. قالها عز وجل لإبراهيم وهو ينصبه إمامًا للناس: {وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إمامًا قال ومن ذرتي قال لا ينال عهدي الظالمين} [البقرة: 124]. تمنى إبراهيم على ربه أن يجعل أيضًا من ذريته خلفاء أئمة، فأقر الله عينه بها واستثنى الذين ظلموا منهم. وأسوأ الظالمي أنفسهم الذين ينكثون عهد الله وميثاقه: أولئك ليس لهم عند الله عهد. أراد سفر التكوين أن يكون معنى «يعقوب» هو الذي يتعقب أخاه التوأم «عيسو»، فيسلبه التركه والبركة، وأراد الله عز وجل بيعقوب – الذي سمته الملائكة كما مر بك – أن يكون العاقب من جده إبراهيم، صلوات الله وسلامه على إبراهيم وآله. أما مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 133 من سورة البقرة) فقد أجمعوا على عجمته، ولم يفسروه، إلا من نقل عن أهل الكتاب رواية خروج يعقوب آخذًا بعقب أخيه عيسو، ففسروه بما فسره به سفر التكوين على معنى «الاعتقاب»، لا «العقبى». ورد على هذا آخرون فقالوا إنه لا يصح لأن «يعقوب» أعجمي والاعتقاب والتعقب عربيان، ولم يفطنوا إلى أن «عقب» العبري يكافئ «عقب» العربي مبني [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/298] ومعنى. ولم يفت هؤلاء المفسرون أن «اليعقوب» عربيًا هي صفة الذكر من طير الخجل، وقالوا أيضًا إن هذا لا يصح لأن «يعقوب» أعجمي غير مصروف في كل القرآن، ولو كان عربيًا على صفة هذا الطائر لصرف. ولم ينقل عن هؤلاء المفسرين قولهم – كما نقول نحن – إن «يعقوب» سمته الملائكة يوم سمت أباه إسحاق في قوله عز وجل: {وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب} [هود: 71]. أما التفسير القرآني – مقصدنا الأول من هذا الكتاب الذي نكتب – فقد فسر القرآن معنى يعقوب بأداتين: فسره بالتعريب، لأن «يعقوب» عربيًا تعني «العاقب» على المبالغة وتعظيم الشأن كما مر بك. ولم يصرفها القرآن، كما لم يصرف ميكال وإدريس رغم مجيئها على وزن عربي لا يحتمل إلا الصرف، نصًا من القرآن على أصلها الأعجمي. وفسره أيضًا بالمرادف القريب من معناه في قوله عز وجل: {فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب} [هود: 71]، والوراء من العاقب قريب. والوراء أيضًا كما يقول معجمك العربي «ولد الولد»، نصًا على ميلاد يعقوب من إسحاق «حفيدًا» مباشرًا لجده إبراهيم). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/291-299] |
(28) إسرائيل:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (28) إسرائيل «إسرائيل» في القرآن هي تعريب «يسرائيل» في التوراة. وهي شهرة شهر بها يعقوب عليه السلام. وقد تلقب بها من بعد بنو يعقوب، فقيل «بنو إسرائيل». ومن زلات سفر التكوين الذي بين يديك – وتابعه عليها كل علماء التوراة من بعد – تفسيره اسم «إسرائيل» بأنه «مصارع الله»: ظهر له الله في صورة رجل تصارع معه الليل بطوله حتى مطلع الفجر، ولم يقدر على يعقوب، ولما رأى أنه لا يقدر عليه (بصورته الإنسية) استعان بسطوة ألوهيته فلمس حق فخذ يعقوب، فينخلع حق فخذه، ويقول له أطلقني فقد طلع الفجر. ولكن يعقوب لا يطلقه، بل يظل آخذًا بتلابيبه ويقول له: لا أطلقك حتى تباركني. فيقول له ما اسمك؟ فيقول يعقوب. ويقول الرجل «الإله»: لا يدعى اسمك بعد يعقوب، بل «إسرائيل»، ثم يفسر له معنى هذا الاسم (يسرا + إيل) بقوله: لأنك صارعت الله والناس وقدرت. ويفهم يعقوب أن الذي صارعه هو الله، فيسمي هذا المكان «فنوئيل» (يعني «وجه الله») قائلاً: لأني رأيت الله وجهًا لوجه ونجيت نفسي. (راجع تكوين 32/424 – 30). أي أن يعقوب لم يكلمه الله فحسب كم كلم موسى، ولم ير الله وجهًا لوجه فحسب، تلك التي طلبها موسى فأدبه الله، ولكن يعقوب لاحم الله ملاحمة، وصارعه حتى كاد يصرعه، لولا أن لمس الله حق فخذ يعقوب فانخلع. وهو لا يتركك تظن أن الذي ظهر ليعقوب فصارعه ملك من ملائكة الله، على عادة كتبة التوراة في التعبير عن الملائكة بلفظ الآلهة كما مر بك، فضل بها كثيرون، ولكنه ينص نصًا لا إبهام فيه على أن الذي صارع يعقوب وكاد يصرعه يعقوب، هو الله نفسه، فيقول على لسان يعقوب: رأيت الله وجهًا لوجه ونجيت نفسي. ناهيك بتفسير علماء التوراة هذا الاسم بأنه على المزجية من (يسرا + إيل) وتعني كما تقول معاجمهم «الذي يصارع الله». ترى هل بقى في نفسك شيء من توقير هذا الكاتب الذي لا يرجو لله وقارًا، الذي لو سمعه جده يعقوب لرجمه وبرئ منه، ولو صور لك للطمت وجهه ونزعت منه [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/300 ] هذا القلم الذي يلغ به في عرض رسل الله وأنبيائه، ثم يتجاسر على مقام الله عز وجل فيهبطه إلى الأرض يعافر يعقوب ويواثبه، فلا يقدر عليه إلا أن يستعلن ليعقوب بألوهيته فينخذل يعقوب بعد أن خلع حق فخذه؟ ما ظنك بدين هذا الكاتب الذي يظن بالله ظن اليونان بآلهة الأولمب؟ بل ما ظنك بهذا السفر الذي يتصدر أسفار «الكتاب المقدس» وتنسب مادته إلى كليم الله موسى عليه السلام؟ أكل هذا العبث واللغو والولوغ ليفسر لك معنى «يسرائيل» الذي اشتبه عليه فظنه الذي «يساور» الله أو الذي «ساوره» الله؟ أما كان أكرم له أن يتوقف عن تفسير «يسرائيل» كما توقف من قبل عن تفسير «تارح»؟ عليك أن تنزع هذه الفقرات وأمثالها في أسفار التوراة، ثم تغيبها حيث لا يقع عليها بصر أحد، وإلا فأنت مسئول عن ضلال من ضلوا بها، مسئول عن كفران من نزه الله عنها فأنكر الوحي على التوراة جملة وتفصيلاً، ما صح منها وما لم يصح. ولكن هذا «الكلام» عند المؤمنين به من أهل الملتين «كلام مقدس» بحرفه قبل معناه، يفوضون العلم بحقيقته لله عز وجل، فيمرون عليه سراعًا، قبل أن يستزلهم الشيطان فيدركوا مأتاه ومعناه. وربما خيل إليك أن غلاة المؤمنين يظنون أن الله عز وجل يمتحنهم بهذا الكلام ليقولوا حين يتلى عليهم: حاشا لله! سبحان الله!. هذا النمط من الإيمان جدير باحترامك. ولكنك لا تحترم إصرار من أصروا على أن الله جل جلاله هبط إلى الأرض يعافر يعقوب بالفعل ويواثبه، أو الذين يفسرن «يسرائيل» بأنها تعني «مساور الله» أي الذي يساور الله أو ساوره الله. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/301] وقد تأثم من هذا بالفعل مترجمو سفر التكوين من أصله العبراني إلى غير العبرية من اللغات فحاولوا قدر الاستطاعة – وفي نطاق محدود – تخفيف وقع الصدمة على قارئ هذه الفقرات من سفر التكوين بالتصرف في الترجمة وإخراجها في صورة مقبولة بعض الشيء ولو خالفت النص المكتوب في الأصل العبراني. والذي ينبغي التنبيه إليه أن ترجمات «الكتاب المقدس» ليست حلاً مستباحًا لكل من هب ودب، ولو كان من فطاحل التراجمة، وإنما هي ترجمات لا تصدر إلا معتمدة من رؤساء الملتين، ممهورة بخاتم السلطة الدينية العليا فيهما، نصًا يتساوى في الحجية مع الأصل العبراني المنقول عنه، تقرأ به الصلوات في المعابد والكنائس، ويتعبد بقراءته أتباع الملة. فهو نص مقدس، ملزم للسلطة الدينية التي اعتمدته، ملزم لأتباعها. والذي أقصده من هذا أن رؤساء الملتين أنفسهم لم يتحرجوا من الاستدراك على هذا الكاتب، بل حاولوا – عن طريق الترجمة إلى اللغة التي لا يقرأ أتباع الملة إلا بها – تلوين النص الذي يروى في سفر التكوين مصارعة الله يعقوب تلوينا يهون على القارئ بتلك اللغة من فظاعة هذا الذي خطه الكاتب بيده، تاركين للقارئ في التوراة بالعبرية مباشرة استخلاص المعنى الذي يهديه إليه إيمانه. وهي محاولة تحمدها لهم بلا شك، وإن كنت تتمنى – كما تمنيت – لو مضوا في الشوط إلى نهايته ولم يكتفوا بالتخفيف، بل قطعوا بأن هذا النص الذي سفر التكوين، وأشباهه، نص دخيل، تبرأ منه توراة موسى عليه السلام، على نحو ما فعلت الكنيسة المسيحية الأولى بأسفار وصمتها بأنها «منحولة». ولكن هذه المحاولات اقتصرت على ترجمة عبارة «كي سريت عم إلوهيم وعم أناشيم وتخال» (تكوين 32/28)، وهي العبارة التي تعنينا في مقاصد هذا الكتاب الذي نكتب، لأنها هي التي تفسر (على لسان الله عز وجل في سفر التكوين) معنى «يسرائيل» عند علماء التوراة. من هذه المحاولات ثلاث: [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/302] (1) ترجمة إنجليزية، تجدها في: The British & Foreign Bible Society, OLD TESTAMENT, HEBREW & ENGLISH، تترجم عن العبرية عبارة «كي سريت عم إلوهيم وعم أناشيم وتخال» إلى الإنجليزية هكذاfor as a prince hast thour power with god and with men, and hast prevailed (Ge.32.28) ومعناها بالعربية: «لأنك مثل أمير، ذو قوة مع الله والناس سدت». وهي ترجمة تأخذ «سرا» العبري من السراوة والشرف، لا من المساورة والمغالبة كما يقول المعجم العبري، وكأنه الجذر العبري «سرر»، مكافئ «سرا / يسور» العربي. ولا يصح هذا عبريا: لو صح لكان الاسم «يسورايل» أو «يسرر إيل». وعلى فرض جوازه، فهل يصح عن الله عز وجل أن يسمى عبدا من عباده بأنه «الذي يسرو مع الله» أو «الذي هو سرى مع الله»؟ لو قيل «سرى عند الله» فربما جاز وفيه بعد. إنها محاولة على كل حال. ولكن الحرف «مع» يمنعك. (2) ترجمة عربية، تجدها في ترجمة الفاتيكان، المطبعة الكاثوليكية (بيروت، فبراير 1951)، تقول في ترجمة تلك العبارة نفسها: «لأنك إذ رؤست عند الله فعلى الناس أيضًا تستظهر»، تأخذ أيضًا في «سرا» العبري بمعنى السراوة والشرف، فتجعل «يسرائيل» رئيسًا عند الله، وترتب على رئاسيته عند الله استظهاره على الناس. وهذه هي «أبرع» المحاولات الثلاث في قلب النص العبري رأسًا على عقب، ترفع الحرف «مع» وتضع في موضعه «عند»، فيستقيم الكلام، لأنك لا تقبل رئيسا «مع» الله، وتستجيز رئيسًا «عند» الله. وهي أيضًا تغير في تركيب العبارة، فتجعل رئاسة يعقوب على الناس مترتبة على «رئاسته عند الله». وهذا وإن خالف النص العبراني في مبناه ومعناه، مقبول سائغ عند القارئ العربي الذي لا يرجع إلى التوراة في نصها العبري. (3) ترجمة عربية أيضًا، هي ترجمة الكنيسة الأرثوذكسية المصرية (دار الكتاب المقدس بمصر، طبعة العي المئوي 1883 – 1983)، وهي تترجم العبارة «كي سريت عم إلوهيم وعم أناشيم وتخال» (تكوين 32/28) كما يلي: «لأنك [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/303] جاهدت مع الله والناس وقدرت»، وهي ترجمة جميلة، يرتاح لها القارئ العربي الذي لا يقرأ في التوراة بالعبرية مباشرة. وهي على جمالها مطابقة لتركيب العبارة في نصها العبري، أمينة على النص الأصلي بكل حروفه. ولكنها تخالف المعجم العبري بتفسيرها الجذر «سرا / يسرا» بمنى «جاهد» (وليس هو كذلك في المعجم العبري «هملون هحداش لتناخ» مرجعنا في هذا الكتاب وإنما معناه في ذلك المعجم هو «نئبق» أي «عافره» وصارعه لا غير) ليكون معنى «يسرائيل» شهرة يعقوب هو «المجاهد مع الله» ولا يصح هذا عبريًا: لو صح لكان الاسم (يسرا – عم – إيل) أي (يسرو – مع – الله)، لأن إسقاط الحرف «عم» (أي مع) يجعل معنى هذا الاسم «الذي يجاهد الله»، ولا يصح لمخلوق أن «يجاهد الله»، ولأن «جاهده» و«صارعه» و«ساوره» واحد ولكنها محاولة تحمد للمترجم، يعززها اعتماد السلطة الدينية المختصة، تصحح بها فكر كاتب سفر التكوين فيما ينبو عنه أدب الحديث عن الله عز وجل. ولا عيب في هذه المحاولات إلا الإبقاء على فقرات مصارعة الله يعقوب التي تمهد لاسم «يسرائيل» وترتب التسمية عليها. وربما اقترحت على شراح التوراة تفسير هذه المصارعة لا على الحقيقة ولا على المجاز، بل تفسيرها بأنها حلف تراءى ليعقوب. ولكن هذا مردود عليه بأن أنبياء الله الممنوعين من رؤيته عز وجل جهرة في هذه الدنيا، ممنوعون أيضًا من رؤيته عز وجل في «أضغاث أحلام». لا خلاف على هذا في التوراة والإنجيل والقرآن. ولم يدر بخلد أحد ممن فسروا «سرا / سرا» بمعنى السراوة والشرف، أن يجعل اسم الله (إيل العبري) هو الفاعل في هذا التركيب المزجي يسرا + ايل (كما هو في يشمع + إيل)، فيكون المعنى «سرى هو الله» أو «تعالى الله»، يصيح بها يعقوب وقد انخلع حق فخذه في مصارعة الله إياه، فيشهر بها. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/304] والذي يعنينا من هذا هو تفاوت فهم علماء التوراة لمعنى الجذر العبري سرا / يسرا، هل هو من سرا / يسرو أم من سار / يسور العربيين؟ إن قلت بالأول فقد خالفت المعجم العبري، وإن قلت بالثاني فقد وقعت في المحظور: قد واثب الله يعقوب وساوره! وهو نفس المعنى الذي أراده كاتب سفر التكوين بترتيبه التسمية على المصارعة، واستخدامه في وصف معاركة الله يعقوب مادة الفعل العبري «نئبق» أي عافره وصارعه، ولم تختلف فيها الترجمات فقالت كلها: «وصارعه ...» ثم فسر التسمية بقوله «كي سريت...» يعني بها «كي نئبقت ...». ولأننا لا نصدق الكاتب في «مصارعة الله يعقوب»، فنحن من باب أولى نرفض كل تفسير – سواء للكاتب أو لغيره – يفسر اسم «يسرائيل» ترتيبًا عليها. ترسم «يسرائيل» في الخط العبري بغير ألف، أي ترسم «يسرئيل». ومن أعلام التوراة – غير يعقوب عليه السلام – أعلام تشبه هذا الرسم، هي «أسرئيل» (أخبار الأيام الأول 4/16) و«أسريئيل» (عدد 26/31). وأيضًا «يسرئيله» (أخبار الأيام 25/14) وترسم أيضًا «يشرئيله». والهاء في هذين الأخيرين هاء خاملة للوقف فقط على لام مفتوحة. بـ«إيل» و«إيله» واحد في المعنى. أما المقطع الأول في هذه الأعلام الثلاثة (أسر، يسر) فعلماء التوراة يأخذونه من الجذر العبري «أسر» (ويكتب أصلاً في الخط العبري بالحرف «سامخ» وهي السين الأصلية في الخط العبري التي لا تنقلب إلى شين في العربية) وإن كان في هذه الأعلام الثلاثة – كما في كُنية يعقوب – مرسومًا بالسين المنقلبة عن الشين. ولهذا نظائر في العبرية يعرفها المتخصصون، لا نثقل بها عليك. أما «أسر» العبري فمعناه من «أسر» العربي جد قريب، وهو أيضًا يكافئ «أصر» العربي، ومنه «الإصر» أي العهد والميثاق، وأصره يعني عقده وشده، وأيضًا لواء وعطفه، وحبسه. فمعنى «يسرائيله» وأمثالها هو «إسار الله» أو «إصر الله»، [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/305] و«إسار» عبريًا يفيد النذر بالامتناع، فيقولون: أسر – إسار – عل نفشو، يعنون: نذر على نفسه ...، أو آلى على نفسه ...، فالمعنى هو: نذر على نفسه نذرا فقيده الله به. أي الذي أوجب على نفسه فأوجب الله عليه. أفتكون «يسرئيله» هي نفسها شهرة يعقوب «يسرئيل»، خالفوا بينهما في النطق توقيرا لأبيهم يعقوب؟ والمعنى واحد: إصر الله! قد علمت من سفر التكوين (تكوين 32/31) أن يعقوب خرج من مصارعة الله يخمع على فخذه «لذلك لا يأكل بنو إسرائيل عرق النسا الذي على حق الفخذ إلى اليوم لأنه (أي الله) ضرب حق فخذ يعقوب على عرق النسا». لم لا تكون هذه هي مناسبة التسمية: حرم يعقوب على نفسه «عرق النسا» فقيده الله بما حرم على نفسه؟ احتاج الكاتب إلى تعليل تحريم يعقوب أكل عرق النسا، فهداه خياله إلى أن الله عز وجل ضرب يعقوب على «عرق النسا». ولكنها أعضلت عليه: أأدبه بها الله؟ ولم؟ كان عليه أن يخترع ليعقوب ذنبا يعاقبه به الله، ويعقوب عنده منزه عن ذلك. هنا تفتق خياله من مصارعة بين الله وبين يعقوب، وتمادى به الخيال فظن أن الله لم يقدر على يعقوب، فضربه على حق فخذه كي يطلقه. ولم ينس أن يسجل بها مجدا ليعقوب، ومناسبة للتسمية، ففسر بها «يسرئيل»، وتابعه على هذا وذاك دون تمحيص علماء التوراة. ترى لماذا حرم إسرائيل على نفسه أكل عرق النسا؟ أكان الدم الكذب الذي جاء به أبناء ليئة على قميص يوسف – أو كان المزق الذي افتعلوه في القميص – على موضع الحق من الفخذ، فعافت نفس يعقوب أكل ما نهش الذئب من يوسف؟ الله عز وجل بغيبه أعلم. أما مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 39 من سورة البقرة) فقد قال بعضهم نقلاً عن عبد الله بن عباس أن معنى إسرائيل هو «عبد الله» لأن «إسر» بالعبرية يعني «عبد»، وليس هذا بصحيح في العبرية، وإنما هو التفسير بالتخمين كما مر بك. وقال السهيلي «سمى إسرائيل لأنه أسرى ذات ليلة حين هاجر إلى الله تعالى فسمى [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/306] إسرائيل أي أسرى إلى الله ونحو هذا»، وليس هذا أيضًا بصحيح لأنه تفسير لشق الاسم بغير لغة صاحبه، فضلاً عن أنه لم يؤثر عن يعقوب أنه هاجر ذات ليلة إلى الله تعالى. وقال آخرون «إسر» يعني صفوة، فهو صفوة الله، وليس لهذا أصل لا في العبرية ولا في العربية. وقال المهدوي أيضًا إن «إسر» من الشد والتوثيق، أي أن إسرائيل تعني الذي شدده الله وأتقن خلقه. وليس هذا كله بشيء فلا تلتفت إليه. قال عز وجل في كتابه المصدق المهيمن: {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة} [آل عمران: 93]. وهذا من دقيق التفسير في القرآن: «حرم إسرائيل على نفسه» تفسر الشق الأول من الاسم فحسب (وهي بالعبرية «أسر – إسار – عل نفشو») ولا تفسر الشق الثاني من هذا الاسم المزجي (يسرا + ايل). ولكن القرآن لا يتركك تظن أن «إسرائيل» معناها «الذي حرم على نفسه»، بل يريدك أن تفهم أن «الله» حرم عليه الذي حرمه هو على نفسه، فيقول «كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه»، التي تفهم منها مباشرة أن الله (إيل العبري) حرم على بني إسرائيل الذي حرم إسرائيل على نفسه. بهذه الآية كان التفسير القرآني لاسم «إسرائيل» بمعنى «إصر الله»، وبها اهتدينا نحن إلى تفسير معناه، فالحمد لله الذي هدانا إلى هذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. إسرائيل (يسرائيل) يعني «إصر الله»، يفسرها القرآن بقوله عز وجل: {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة}[آل عمران: 93]. ودع منك أمثال «مصارع الله»، أو «أمير مع الله»: هذا تجديف في حق الله عز وجل، وولوغ في عرض أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/300-307] |
(29) يوسف:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (29) يوسف «يوسف» في القرآن هي تعريب «يوسف» في التوراة، لا فرق بينهما إلا في حركة السين: تضم في القرآن، وتكسر في التوراة. ومن دقيق التعريب في القرآن، إتيانه بالسين في «يوسف»، مثلها مثل النون في «يونس»، على الضم – وهي أعلى القراءات – كي لا يشتبها بالإيساف والمؤاسفة (في يوسف)، أو بالإيناس والمؤانسة (في يونس)، إن هو أتى بهما على وزن المضارعة المبني للمعلوم (يفعل) الذي تقرأ به «يوسف» في التوراة، أو على وزن المضارعة المبني للمجهول (يفعل) الذي تقرأ به «يونس» في الأناجيل اليونانية. ولم يفطن إلى هذا المفسرون. وردت «يوسف» في القرآن سبعًا وعشرين مرة: واحدة في الأنعام [الأنعام: 84]، وأخرى في غافر [غافر: 34]، والخمس والعشرون الباقيات في سورة كاملة سميت باسمه عليه السلام تقص قصته، أفردت له وحده، لا تتحدث إلا عنه، صدر لها القرآن بقوله عز وجل: {نحن نقص عليك أحسن القصص} [يوسف: 3]، فهي كما قال عز وجل. والذي يقرأ قصة يوسف في القرآن، ثم يقرؤها من بعد في سفر التكوين، أول أسفار التوراة، يندهش: أهذه هي تلك؟ وأنا لا أقصد هنا سحر البيان وقوة السرد، فليس للقرآن في هذين ند. وإنما الذي أعنيه هو أن القرآن علم من قصة يوسف ما لم تعلمه التوراة التي بين يديك، وأن الذي أثبته القرآن وأغفله سفر التكوين «محاور» في قصة يوسف لا يصح تسلسل الأحداث إلا بها، وأن الذي أفاض فيه كتبة التوراة – حين أفاضوا – حشو [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/308] لا غناء فيه، يفسد عليك جو القصة، ويقطع عليك تتابع الأحداث، إن أسقطته فأنت الكاسب. بدأ كاتب سفر التكوين الحديث عن يوسف في الإصحاح السابع والثلاثين، واسترسل فيه إلى أن أتم الإصحاح الخمسين، يختتم به السفر. ولكنه – فجأة – وفي ذروة المأساة، وقد التقط السيارة يوسف وباعوه إلى مصر إلى «فوطيفار خصي فرعون رئيس الشرط»، ينهي الإصحاح السابع والثلاثين ليخصص الإصحاح الثامن والثلاثين بأكمله لحديث يتنزه عنه أدب الوحي، يقص عليك فيه ما كان من أمر أخي يوسف، يهوذا، الذي تزوج بعد إلقاء يوسف في الجب فأنجب، وشب أبناؤه فزوجهم أيضًا، وكيف أن ابنه الأكبر «عير» مات قبل أن ينجب من «ثامار» فزوجها من ابنه الثاني «أونان» كي يقيم نسلاً لأخيه، وأن «أونان» هذا لم يرد أن «يقيم نسلاً لأخيه» فكان إذا دخل على امرأته ثامار أفسد على الأرض، فأماته الرب أيضًا. ثم يسترسل فيقص عليك أن يهوذا ترصدته على الطريق «ثامار» أرملة ابنيه هذين، تنكرت ليزني بها حموها كبغي، فيزني بها يهوذا ويعطيها أجرتها وهو لا يعلم أنها «ثامار» (وكأنها لو لم تكن أرملة ابنيه لجاز!) فحملت منه ثامار وولدت له توأمين. ثم ينبئك بأن أحد هذين التوأمين أخرج يده أولاً، فوضعت عليها القابلة قرمزًا، علامة على أنه البكر، ولكنه سحب يده ليخرج التوأم الثاني أولاً، كي يستنبط الكاتب من هذا معنى اسميهما: «فارص» (يعني «المقتحم») لأنه «اقتحم» على أخيه ليخرج أولاً، و«زارح» (يعني «الوضئ») الذي عليه القرمز، يختتم بها الإصحاح المقحم ليبدأ الإصحاح التاسع والثلاثين وكأنما تنبه إلى أنه يقص قصة يوسف، لا قصة يهوذا مع أرملة ابنيه ثامار، فيقول وكأنه يصل ما انقطع: «وأما يوسف ...». [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/309] ما هذا الحشو؟ بل ما هذا الدنس الذي يقصه عليك؟ وما علاقته بقصة يوسف وبتسلسل الأحداث في قصة يوسف؟ أيترك يوسف في بيت «خصي فرعون رئيس الشرط» ويقبع هو عند يهوذا بن يعقوب ما يزيد على ربع قرن في أرض كنعان ينتظر ولادة «فارص» و«زارح» من زنى أمهما بحميها يهوذا، ليحملهما يعقوب فيمن حمل من أبنائه وحفدته إلى يوسف في مصر؟ بل ويحمل معه ابني «فارص» الذي شب وتزوج هو الآخر في أرض كنعان فأنجب «حصرون» و«حامول» (تكوين 46/12)؟ وكيف اتسع الوقت ليهوذا في أرض كنعان بعد إلقاء يوسف في الجب كي ينجب يهوذا ابنيه عير وأونان، ليموتا، فيستولد من أرملتها «ثامار» ابنيه فارص وزارح، بل ويشب فارص فينجب من بعد حصورن وحامول، أجيالاً ثلاثة فيما لا يزيد على سبع وعشرين سنة، على ما تستخلص من كلام الكاتب؟ ولكن الكاتب ضعيف الذاكرة، ضعيف في علم الحساب، أو يظن بك الضعف في هذا وذاك على ما مر بك. ثم مال بالُ هذا الزاني بأرملة ابنيه حتى يقطع من أجله الحديث عن يوسف كي يشهد الكاتب زناه؟ أتراه يظنها محمدة ليهوذا؟ ربما. فهو يقول فيه قرب ختام السفر على لسان يعقوب: «يهوذا! إياك يحمد إخوتك. يدك على قفا أعدائك يسجد لك بنو أبيك، غلخ». (تكوين 49/8)، والذي سجد له بنو أبيه هو يوسف لا يهوذا كما تعلم وكما خط الكاتب بيده. ولكن الكاتب يكتب على عصر داود وسليمان، وداود من سبط يهوذا وهو لا يعني بهذه المحامد شخص يهوذا، وإنما يخص بها سبطه، الذي منه بيت داود الملك. يُطنب الكاتب أيضًا في تفصيل الحظوة التي كانت ليوسف عند «فرعون»، حتى لتظن أن الملك نزل ليوسف عن ملكه ولم يستبق لا الكرسي (تكوين 41/40). ولا ينسى أن يسجل ليوسف أنه استذل لفرعون شعب مصر، فاستولى بمخزونه من [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/310] القمح على كل فضتهم ومواشيهم وأرضهم، حتى تمنوا عليه لقاء الميرة أن يصيروا عبيدًا لفرعون (تكوين 47/35)، بينما هو يغدق بغير حساب على أبيه وإخوته: الفضة والمواشي والأرض. وليس هذا من الصدق التاريخي في شيء، لا لأنك شهدت وعاينت، وإنما لأنه من المحال العقلي: لو صح هذا لثار المصريون بهذا «العفريت» الذي خرج من القمقم فجزوا به من جديد في غيابة جب، ولذبحوا الأنفس السبعين الذين دخل بهم مصر يعقوب وبنوه، قبل أن يذبح «فرعون موسى» أبناءهم بعد نحو أربعمائة سنة. بل هو افتراء على يوسف الصديق صلوات الله عليه، الذي أهانه إخوته فأكرمه الله على أيدي ملك مصر وشعب مصر. يوسف الذي وعد فأوفى: {وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتها من نشاء، ولا نضيع أجر المحسنين} [يوسف: 54 – 56]. قد أحسن يوسف ولم يسيء. وليس هذا أيضًا من القصص الفني في شيء، لأن هذا الانقلاب في «شخصية» البطل يفجؤك، لا تتوقعه منه، ولا تمهد له الأحداث. بل هي أماني يهودي في ملك مصر لو ملكه الله. أبعده الله. إنه سليل أولئك الذين سلبوا ذهب المصريين عشية خروجهم من مصر، سرقة واحتيالاً: «طلبوا من المصريين أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابا. وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين فأعاروهم. فسلبوا المصريين» (خروج 12/35 – 36)، حسبوا هذا «نعمة من الرب»، رزقًا ساقه الله إليهم، ولكنه عز وجل لا يأمر بالسرقة والاحتيال، فحاسبهم بها القرآن في قوله المعجز على لسانهم في فتنة السامري: {قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري} [طه: 87]. أما التمكين الذي مكن الله ليوسف في مصر، فهو قوله عز وجل: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء} [يوسف: 56] وهي عبارة جامعة تغني عن كل قول: «زويت الأرض ليوسف، حبيس الجب نزيل السجن، فصارت له مصر كلها مغداه ومراحه يتبوأ منها حيث يشاء. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/311] والذي يجب أن تعلمه أن «الأرض» في هذه الآية وفي غيرها من مثلها في سورة يوسف، على ما يأتي إن شاء الله في موضعه، هي ترجمة من القرآن المعجز لمعنى اسم «مصر»، لا عند العبرانيين (مصرايم)، وإنما عند أهلها المصريين بلغتهم هم «تاوى»: تمادى بالمصريين العجب والفخر فظنوا أن لا أرض غيرها من بعدها. ولم يعرف هذا أحد، إلا بعد قرابة ثلاثة عشر قرنًا من نزول القرآن، ليس قبل أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، يوم افتكت طلاسم اللغة المصرية القديمة، فباحت بأسرارها». فأي إعجاز، وأي علم! هذا الكاتب الذي أطنب فيما لا غناء فيه، أغفل «محاور» في قصة يوسف لا تصح القصة فنيا إلا بها. يتضح لك هذا من مراجعة قصة يوسف التي في سفر التكوين على قصة يوسف في القرآن. قال القرآن إن «رؤيا» يوسف كانت سرًا بينه وبين أبيه، وإن يعقوب فهم الرؤيا على وجهها فقال ليوسف: {وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحق إن ربك عليم حكيم}[يوسف: 6]. فهم يعقوب أن النعمة التي أعد الله ليوسف ستجر نعمة على آل يعقوب، وقد كان. وهذا يفسر لك يقين يعقوب طوال القصة بأن الذئب ما أكل يوسف، بل سيعيش يوسف حتى يتم الله على يديه تلك النعمة. وهذا شأن النبي الواثق بمواعيد الله. قال يعقوب لما أتوا على قميص يوسف بدم كذب: {بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} [يوسف: 18]. أما يعقوب الذي في سفر التكوين فقد انتهر يوسف لما أسمعه رؤياه، واستنكر أن يسجد ليوسف أخوته وأمه وأبوه، فتفهم قول الكاتب إن يعقوب لم يشك ولو للحظة في افتراس الذئب يوسف: «وقالوا وجدنا هذا. حقق أقميص ابنك هو أم لا. فتحققه وقال قميص ابني. وحش رديء أكله. أفترس يوسف افتراسًا» (تكوين 37/32 – 33). وتفهم أيضًا قول الكاتب إن يعقوب حين جاء بنوه [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/312] يبشرونه بيوسف حيا، جمد قلبه لأنه لم يصدقهم، فرددوا عليه كلام يوسف الذي كلمهم به، وأبصر العجلات التي أرسلها يوسف لتحمله، فقال: «يوسف ابني حي بعد؟ أذهب وأراه قبل أن أموت» (تكوين 45/28). وهذا على الضد من قول يعقوب لما أن جاءه البشير فارتد بصيرًا: {قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون} [يوسف: 96]. بهذا خلت قصة يوسف في سفر التكوين من محنة يعقوب بيوسف، وهي لب البلاء في المأساة. بلاء الانتظار، وبلاء الإنكار: انتظار «العائد» الذي تمضي السنون ولا يعود، وإنكار المنكرين عليه طول صبره وطول عذابه: {قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين} [يوسف: 85]. أما المأساة في شقها الآخر، أعني «بلاءات» يوسف نفسه: كيد إخوته، وكيد امرأة العزيز، فالسرد في سفر التكوين مختلف. لا يقول الكاتب (إصحاح 37) إن يعقوب كان يخشى على يوسف من إخوته، ويخشى على إخوة يوسف أن ينزغ الشيطان بينهم وبينه فيكيدوا له كيدا: {قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين} [يوسف: 5]. ولا يقول الكاتب إن إخوة يوسف دبروا لمكيدتهم على الوجه الذي تمت به، ثم راودوا عنه أباه، فتوجس منهم يعقوب، فأوحت لهم هواجسه باختراع أكل الذئب المظلوم إياه: {قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون} [يوسف: 11 – 13]. وإنما الذي يقصه الكاتب أن يعقوب هو الذي أرسل يوسف وراء إخوته الذين يرعون غنم أبيهم عند شكيم لينظر سلامتهم وسلامة الغنم ويأتيه بأخبارهم. فلما رأوه مقبلاً عليهم تذكروا «أحلامه» فنبتت لديهم فكرة التخلص منه، بنت اللحظة، دون سابق تفكير وتدبير. وهو هنا يريد أن يخفف عنهم جريمة الفتك بيوسف «مع سبق الإصرار والترصد»: يقتلونه أولاً ثم يطرحون جثته في إحدى الآبار ويقولون وحشٌ رديء أكله. والكاتب يذهب بعيدًا في محاولة التخفيف من إثم إخوة يوسف، فيقول إن كبيرهم «رأوبين» احتال عليهم كي لا يقتلوه، فاقترح فكرة طرحه [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/313] في الجب حيًا، كي يغافلهم من بعد فيستنقذه من الجب ويذهب به إلى أبيه. ولكنهم – ولا يقول لك الكاتب أين كان «راوبين» - فكروا في إخراجه من الجُبَّ ليحققوا «ربحًا» من وراء صفقة التخلص منه: رأوا قافلة من الإسماعيليين مقبلة فأخرجوا هم يوسف من الجب وباعوه للإسماعيليين بعشرين من الفضة. ويرجع رأوبين – ولا تدري أن يكان – فلا يجد يوسف في الجُبِّ فيمزق ثيابه، ويجلسون معا يتشاورون كيف يجيئون على قميص يوسف بدم كذب. ترى ماذا بقى من إثم إخوة يوسف عند الكاتب؟ لم يقتلوه ولم يتركوه ليموت في غيابة جُب، جوعًا أو رُعبًا، وإنما باعوه «فقط) إلى إسماعيليين يتجرون فيه عبدا. عالمين أن القافلة متجهة إلى مصر (تكوين 37/25)، لا يخالجهم شك في أن يوسف حي لم يمت، بل ويعلمون أن مصر مكانه الذي اقتيد إليه. وهذا هو السرد المتهافت الذي يهدم بعضه بعضًا، لأنك تعلم من الكاتب أن إخوة يوسف حين جاءوا مصر يمتارون لأهليهم لم يفكروا في البحث عن أخيهم الذي باعوه، بل لم يفكروا في الاستعانة بسلطان «العزيز» - يوسف الذي لم يعرفوه – في البحث عن يوسف في مصر، وقد بالغ هذا «العزيز» في إكرامهم كما يقول الكاتب فآكلهم وشاربهم وأغدق عليهم ولو كانوا صادقين في ندمهم كما يقول الكاتب – رأوبين على الأقل – لفعلوه. بل تفهم من الكاتب أن إخوة يوسف سلموا بينهم وبين أنفسهم بأن يوسف قد مات، وأنهم مطالبون بدمه. قالوها حين اشترط عليهم «العزيز» ليميرهم مرة أخرى أن يأتوه بأخ من أبيهم: «وقال بعضهم لبعض حقًا إننا مذنبون إلى أخينا (يوسف) الذي رأينا ضيقة نفسه لما استرحمنا ولم نسمع لذلك جاءت علينا هذه الضيقة. فأجابهم رأوبين قائلاً ألم أكلمكم قائلاً لا تأثموا بالولد وأنتم لم تسمعوا. فهو ذا دمه يطلب» (تكوين 43/21 -2 2). ولا يصح هذا إلا إذا كانوا تعمدوا إلقاء يوسف في الجُبِّ، ولم يخرجوه ليبيعوه إلى الإسماعيليين، لا يعلمون ما كان من أمره: أهلك في الجُبِّ، أم التقطه بعض السيارة (وهي رواية القرآن)، بل استقر لديهم أن يوسف هلك على أيدي إخوته، كما قال رأوبين: هو ذا دمه يطلب. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/314] أما محنة يوسف بمراودة امرأة العزيز إياه، فهي باهتة شاحبة على قلم الكاتب، وهي محنة يوسف الكبرى، ضرب بها يوسف المثل بأحد السبعة الذين يظلهم الله عز وجل بظله يوم لا ظل إلا ظله، كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «ورجل تدعوه إلى نفسها امرأة ذات حسب وجمال، فيقول إني أخاف الله». قال الكاتب (تكوين 39/11 – 20) إن امرأة العزيز «لم تغلق الأبواب»، بل دخل يوسف البيت ذات مرة ولم يكن أحد بالبيت، فأمسكته بثوبه قائلة «اضجع معي»، فترك ثوبه في يدها وهرب إلى الخارج. فنادت أهل بيتها (لا تدري أين كانوا حين فاجأها يوسف) وروت لهم أنه أرادها على نفسها فصرخت، ولما صرخت ترك ثوبه بجانبها وهرب. وجاء سيده فرددت عليه ما روت لأهل بيتها وقالت: «دخل إلي العبد العبراني الذي جئت به إلينا ليداعبني، فلما رفعت صوتي ترك ثوبه بجاني وهرب إلى الخارج». فصدقها الزوج المخدوع، وحمى غضبه على يوسف فزج به في السجن، لأن الزوج كما تعلم كان «خصي فرعون رئيس الشرط». ويمضي الكاتب فيقول (تكوين 39/21 – 23) «إن الرب كان مع يوسف فجعل له نعمة في عيني رئيس بيت السجن فدفع إلى يد يوسف جميع الأسرى الذين في بيت السجن، وكأنه جعل منه نائبه، لا ينظر شيئًا البتة مما في يد يوسف، لأن الرب كان معه، ومهما صنع كان الرب ينجحه». هذا هو كل ما عنى به الكاتب من فتنة امرأة العزيز، مر عليه سريعًا ولم يع د إليه قط فيما بقى من قصة يوسف في أحد عشر إصحاحًا بقيت لديه من قصة يوسف (الإصحاحات الأربعين إلى الخمسين). كان كل ما يعنيه أن يجد ليوسف علة يدخل بها يوسف السجن ليلتقي فيه برئيس خبازي فرعون ورئيس سقاته، يعبر لهما رؤياهما، فيذكره رئيس السقاة عند الملك حين أعضلت على الملك رؤياه، فيستدعي إليه يوسف، وتكون بها «الحظوة» له والنعمة لآل يعقوب. هذا الكاتب لا يعرف قيمة «المادة» التي بين يديه، ولا تعنيه براءة يوسف، ولا يعنيه أيضًا أن يقنعك: كيف صدق العزيز امرأته ولم يحقق التهمة وهو «رئيس الشرط»؟ ما قيمة دليل ثوب يوسف في يد امرأة العزيز، ويوسف قد هرب إلى الخارج؟ كيف سمع أهل البيت نداءها ولم يكن أحد بالبيت؟ وكيف سمعوا نداءها ولم يسمعوا صراخها؟ ولماذا لم يدافع يوسف عن نفسه؟ أتراه كان مدفنا في حبها فأراد [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/315] أن يبوء هو بذنبها فلا يثلم شرف المرأة التي أحب؟ فما الذي عصمه من الاستجابة لمراودتها إياه؟ وكيف يكتفي العزيز رئيس الشرط وهو في حمو غضبه بسجن يوسف ولم يقتل هذا العبد العبراني الذي أكرم مثواه فثلم هو عرِضه؟ وكيف سكت رئيس الشرط على رئيس بيت السجن الذي أكرم يوسف فجعل كل ما في السجن في يد يوسف؟ أسئلة لا تجد لها جوابًا إلا في القرآن. بل غلقت امرأة العزيز الأبواب وقالت للذي هو في بيتها هيت لك! قال معاذ الله! فألحت عليه حتى همت به وهم بها، لولا أن رأى برهان ربه. فاستبقا الباب، وكانت هي وراءه، فقدت قميصه من دبر، وإذا زوجها رئيس الشرط بالباب، وشهد شاهد من أهلها. فلما رأى زوجها على مرأى من أهلها أن قميص يوسف قد من دبر، تيقنوا جميعًا من براءة يوسف وكذب المرأة. فماذا يفعل الزوج رئيس الشرط بهذا الرجل الأمين الذي حفظ عرضه في غيبته، وما كان أيسر عليه أن يغتنم افتتان امرأته به وينتهز غفلته، بل ما كان أحراه أن يفعل وضراوة الشباب تساوره، وسحر الخلوة يدير رأسه، والداعية سيدته، ذات الشباب والجمال، وتغليقها الأبواب وقولها هلم إلي، هيت لك؟ علام يعاقب يوسف، بل قل بماذا يكافئه؟ قال: يوسف! أعرض عن هذا، لا ذنب لك. وأنت استغفري لذنبك، أنت هي الخاطئة. ولكن الفضيحة تشيع، والمرأة لا ترعوى، قد شغفها فتاها حبًا لا تملك أن تدفعه. وتغدو القصة حديث النسوة في المدينة، فتدعوهن إلهيا لتشهدهن يوسف كي يعذرنها في حبه. فلما رأينه أكبرنه وقلن حاشا لله! ما هذا بشرًا! إن هذا إلا ملك كريم. وتثمل امرأة العزيز بما سمعت، فتستعلن بحبها، وتعترف بما كان، وتصر على ما تريد من يوسف: «فذلكن الذي لمتنني فيه، ولقد راودته عن نفسه فاستعصم، ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين». ويستفيض الأمر حتى يصك آذان رئيس الشرط. ويسمعه أيضًا يوسف، وبالمحنة يوسف بهذه الفتنة الطاغية الآثمة، [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/316] التي تحاصر خطاه في بيتها. أتراه كان يخشى أن يضعف، مثلما كاد يضعف يوم غلقت الأبواب وقالت هيت لك، فكاد يهم بها لولا أن رأى برهان ربه؟ نعم. «قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين». واستجاب له ربط فربط على قلبه: «فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم». ولكن المرأة لا تكف، وحديث النسوة في المدينة لا ينقطع. هنا، وهنا فقط، لا يرى رئيس الشرط بدا من سجن يوسف، ليحول بين زوجته وبينه، علها تنقطع ألسنة النسوة، وينقطع أمل زوجته في يوسف. ولكنه يعلم كما يعلم الكل براءة يوسف فلا يتجاوز بسجنه حد «العزل» أو السجن الوقائي، فيوصي رئيس بيت السجن بإحسان معاملته، وكأنه قال له كما قال لامرأته هذه يوم دخل عليه بيوسف غلامًا في يده: «أكرمي مثواه، عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا». (راجع في هذا كله الآيات 21 – 35 من سورة يوسف). ولكن يوسف لا يرضى إلا بالبراءة الكاملة، حاسمة قاطعة، يوم قرر الملك أن يخرجه من السجن ليستخلصه لنفسه، فيصر يوسف على ألا يبرح السجن حتى يسمع الملك شهادة النسوة اللاتي قطعن أيديهن، اللاتي سمعن من امرأة العزيز اعترافها على نفسها بما صنعت، فيضطرنها إلى الاعتراف، قالت: «الآن حصحص الحق، أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين». أراد يوسف البراءة القاطعة من فم التي ادعت عليه، تستعلن بها على الملأ في مجلس الملك الذي يريد أن يجعله على خزائن الأرض، فيتسلم الأمانة طاهر الذيل عفيف الإزار، وهو الحفظ الأمين. وأرادها أيضًا لنفسه، تكرمة لطول مجاهدته النفس الاصطبار على الفتنة، وقد علم أن ألسنة الناس يلذ لها الولوغ في الأعراض بالشبهة، ويمضها التعفف والسكوت تفويضًا لعلام الغيوب. وأرادها أخيرًا، بل قال أرادها أولاً، إكرامًا لهذا الشيخ رئيس الشرط الذي أكرم مثواه فرباه وكان له كأب، أن تتمزق نفسه بين الشك واليقين – والشك على النفس أغلب – فيقول يوسف: «ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين». ولا ينسى يوسف أن يؤدب بها نفسه على الملأ، سائلاً الله عز وجل المغفرة مما حاك في الصدر يوم همت به وهم بها، [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/317] فيقول: «وما أبرئ نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء، إلا ما رحم ربي، إن ربي غفور رحيم». (راجع في هذا كله الآيات 50 – 53 من سورة يوسف). هذا هو يوسف الصديق صلوات الله عليه، سليل إبراهيم وإسحاق ويعقوب. إن طلبت دليلاً فوق هذا على نبوته فلما أنصفت. فماذا تجد من هذا في سفر التكوين؟ هذا مما لا يعلمه الكاتب، ولو علمه لما اهتم له. وكيف تعنيه براءة يوسف، وهو يقطع الحديث عنه إصحاحًا كاملاً ليسجل على أخيه يهوذا زناه بثامار أرملة ابنيه «عير» و«أونان»؟ لا يدرك الكاتب أهمية براءة يوسف لأنه لا يدرك أهمية هذه النقطة المحورية في قصة يوسف، التي يرتب القرآن عليها، لا على تفسير الحلم، قول الملك: {ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين} [يوسف: 54]. كان كل هم الكاتب أن يطير بيوسف من السجن فيضعه أمام الملك، يفسر له الحلم ويقبض الجائزة: «فأرسل فرعون ودعا يوسف. فأسرعوا به من السجن. فحلق وأبدل ثيابه ودخل على فرعون» (تكوين 41/14). وما كانت جائزة الذي يفسر الأحلام عند الملوك إلا أن ينفحوه نفحات من الذهب أو الفضة، ويمضي المفسر من حيث أتى، لا يجعلونه على خزائن الأرض، ولا يكون لديهم المكين الأمين، ولا يضعون خاتم فرعون في يده كما يقول الكاتب (تكوين 41/42). للقرآن أيضًا في قصة يوسف، لمحاتٌ هي قمة في الفن، يدركها المتخصص الذواقة، لا نعارض بها ما كتبه الكاتب، فهذا مما يقصر عنه باعُ البشر، وإن ظننت أنهم كتبة وحي. من ذلك، ولا أطيل عليك فقد أطلت بالفعل – وعذري أنني أستمتع بما أكتب وأرجو أيضًا أن يمتعك – لمحتان: [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/318] الأولى دور قميص يوسف في قصة يوسف: القميص الذي جاءوا عليه بدم كذب يريدون إيهام يعقوب بأن الذئب أكل يوسف، فيستدل منه يعقوب على براءة الذئب من دم يوسف. والقميص الذي قدته امرأة العزيز من دبر، فيستدل منه زوجها على كذب المرأة وبراءة يوسف. والقميص الذي ألقاه البشير على وجه يعقوب فيرتد بصيرًا، وجد فيه يعقوب ريح يوسف منذ أن فصلت العير من مصر: {ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم} [يوسف: 94 – 98]. فكم من غمة ارتفعت بهذا القميص الناطق بالحق؟ اللمحة الثانية هي دور الرؤيا فيما صار إليه يوسف. وهي أيضًا ثلاث رؤى: رؤيا يوسف التي بدأت بها القصة في القرآن ففسرها له أبوه، وقد علم أن الله يجتبيه بها، فيعلمه من تأويل الأحاديث. ويزداد حرص يعقوب على يوسف، فيكون من أمر إخوته معه الذي تعلم، ورؤيا صاحبي السجن التي فسرها يوسف فمهدت له عند الملك، ورؤيا الملك التي أعضلت عليه وفسرها يوسف، فخرج بها من ضيق السجن إلى سعة الملك. كان «تأويل الأحاديث» هو السبيل إلى النعمة التي أعدها الله لهذا النبي الكريم ليمكن له في الأرض وليقيمه على خزائن الأرض (والأرض هنا يعني «مصر» كما قد علمت). قالها القرآن من قبل، ويوسف بعدُ غلام في بيت مولاه رئيس الشرط: {وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [يوسف: 21]، وفيه تقديم وتأخير، أي نعلمه من تأويل الأحاديث لنمكن له في الأرض. وقالها أيضًا يوسف يختتم بها القرآن قصته: {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين} [يوسف: 101] تجد نفس التقديم والتأخير، أي قد علمتني من تأويل الأحاديث، فآتيتني من الملك. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/319] أما العبرة كلها من قصة يوسف، التي فاتت الكاتب، وأني له وهو يبحث عن الفضة والمواشي والأرض، فقد صاغها القرآن في عبارة واحدة على لسان يوسف حين استعلن لهم: {قالوا أئنك لنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} [يوسف: 91]. وأما دور هذا «الطريد» في تاريخ بني إسرائيل، الذي نبذه إخوته فأطعمهم وآواهم، فهو «الجامع» بني أبيه في مصر، لولاه ما كانت رسالة موسى وهارون. ترى ماذا كان في دور يوسف النبيّ في مصر، تلك الدعوة التي بدأها بين جدران السجن: { يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنت وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [يوسف: 39 – 40)؟ أيدعو بها يوسف بين جدران السجن، ولا يدعو بها في بلاط الملك وقد أعزه الله؟ لا تقرأ من هذا شيئًا في سفر التكوين، ولكنك تقرؤه في القرآن، يصيح بها «مؤمن آل فرعون» تقريعًا لمن كذبوا موسى وهارون: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب} [غافر: 34]. هذا نص على أن يوسف دعا بدعوته هذه الملك وملأه، وأن الدعوة نفذت إلى قلوبهم، فما كان الملك ليجعله على خزائن الأرض لمجرد أنه مفسر يجيد تأويل الأحاديث، ولكن الدعوة لم تصمد لنفوذ الكهنة، فبقيت حبيسة صدر من آمن، وماتت بموت يوسف، إلا ظلال في الذاكرة يختلط فيها الشك باليقين عاشت إلى عصر موسى وهارون. ولكن الذي يعنينا من هذا الكتاب الذي نكتب، هو الدور التاريخي ليوسف عليه السلام في بني إسرائيل، الذي مهد لبني يعقوب في مصر فدخلوها آمنين: {فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} [يوسف: 99]: إنه «الذي آوى». وبها فسر القرآن هذا الاسم العلم كما سترى. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/320] يشتق علماء التوراة اسم «يوسف» من الجذر العبري «يسف» على المضارعة التي يراد منها اسم الفاعل. والمعنى هو «يزيد»، لأن «يسف» العبري، المتحور عن «ضفا» العربي، يجيء بمعنى زاد ونما. وهم كما مر بك يرتبون هذا التفسير على قول والدته حين وضعته: «ودعت اسمه يوسف قائلة: «يزيدني الرب ابنا آخر» (تكوين 30/24). والذي يجب أن تعلمه، أن اسم «يوسف» يجيء بين أعلام التوراة غير مسبوق، لم يتسم به أحد قبله، وإن ذاع من بعد وانتشر. فهو إذن اسم موضوع لشخصه هو، على النبوءة والتفاؤل، تمنت بها راحيل على الله أن «يزيدها» بـ «يزيد» ابنا آخر، وقد استجاب الله دعاءها فأنجبت من بعد يوسف مولودها الثاني الذي ماتت وهي تضعه، «بنيامين»، المعنى بقوله عز وجل: {ولما دخلوا على يوسف آوى إليه آخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون} [يوسف: 69]. أراد كاتب سفر التكوين هذا المعنى فأورده على لسان راحيل، وتابعه من بعد علماء العبرية وعلماء التوراة. والذي لم يلتفت إليه هؤلاء وأولئك، والتفت إليه القرآن، هو دلالة اسم «يوسف» على دور «يوسف» في تاريخ بني إسرائيل: إنه «يوسف» الذي آوى، يوسف «الآوي المضيف» ألهمته راحيل وهي تضع يوسف، وتصدى الكاتب كدأبه لتفسيره في سفر التكوين، فاشتبه عليه، كما اشتبه عليه من قبل «بابل» و«إسرائيل». في العبرية أيضًا الجذر «أسف»، يجيء في المضارعة على «يوسف» غير مهموز، بنفس نطق اسم «يوسف» في التوراة، وفي كتابته أيضًا وجوه، أحدها الذي يرسم في الخط العبري بنفس أحرف كتابة اسم «يوسف» في التوراة. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/321] ويجيء الجذر «أسف» في العبرية بمعنى الجمع واللم والضم والإيواء والضيافة. ومنه في العبرية المعاصرة «أسيفا كلاليت»، يعني «الجمعية العامة». ويصلح هذا الجذر أيضًا لمعنى «نزع»، لأنك حين تنزع شيئًا ما فأنت «تسحبه» وكأنك تضمه إليك. إن اشتققت اسم «يوسف» من هذا الجذر العبري «أسف»، فالمعنى أنه «الجامع» بني يعقوب في مصر، الذي استضاف وآوى. والذي يستوقف النظر في عبارة سفر التكوين على لسان راحيل التي تصدر بها لتسمية «يوسف»، استخدام راحيل هذا الجذر العبري «أسف» نفسه في قولها حين من الله عليها بيوسف بعد إذ امتنع عليها الولد من قبل وسبقتها أختها وضرتها «ليئة»: «أسف غلوهيم إت حربتي! وتقرا إت شمو يوسف» (تكوين 30/24) التي تجدها في الترجمة العربية هكذا: «قد نزع الله عاري! ودعت اسمه يوسف». أي بيوسف نزع الله خربة العقم عني! (والخربة التي تحورت عنها «حربا» العبرية يعني العيب والفضيحة). وتستدل أنت من هذا على راحيل نفسها وهي تصدر للتسمية، لا تشتق «يوسف» من «يسف» العبري بمعنى «يزيد»، وإنما تشتقه من «أسف» العبري بمعنى جمع وضم، أي «لملم»، وهو المعنى الرئيسي لهذا الجذر العبري «أسف». ولكن الترجمة العربية «نزع»، تعمي عليك – دون قصد بالطبع – هذا المعنى. ولآن «الآوي المضيف» هو التفسير القرآني لمعنى اسم يوسف عليه السلام، فنحن لا نحيد عنه إلى غيره مع الاعتذار الواجب لعلماء التوراة الذين لو اطلعوا على ما نقوله الآن – من حيث دلالة الاسم على المسمى – لما ارتضوا بهذا التفسير بديلاً. أما مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 4 من سورة يوسف) فالكثرة منهم على عجمة اسم يوسف، إلا من شذ فاشتقه من العربية فقال إن الأسف في اللغة (يعني العربية) هو الحزن، والأسيف يعني العبد، وقد اجتمعا في يوسف. وليس هذا بشيء كما مر بك، لأنه يفسر الاسم بغير لغة صاحبه، فلا تلتفت إليه. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/322] على أن «يوسف» لم يسمه الذي اشتراه من مصر، حتى يقول «العبد» بالعربية أو العبرية أو المصرية، كما أن أحدًا لا يسمي ابنه يوم مولده «المحزون الأسيف». هذا هو التفسير بالتخمين، فلا شك لك به أيا كان القائل والناقل. قال عز وجل في كتابه المصدق المهيمن، يفسر به اسم يوسف: {فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} [يوسف: 99]. وقال عز وجل من قبل: {ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه} [يوسف: 69]. يوسف في هاتين الآيتين يعني الذي استضاف وآوى، فهو «الآوي المضيف» وهو علم يلخص أبلغ تلخيص دور يوسف عليه السلام في تاريخ بني إسرائيل. وسبحان العليم الخبير. كان يوسف عليه السلام – كما كان من قبل أبواه يعقوب وإسحاق – من أنبياء القدوة، لا من أنبياء الدعوة. وإنما كانت الدعوة بموسى وهارون). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/308-323] |
مقدمة الجزء الثاني بقلم: المؤلفقال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( في 18 يناير سنة 1944 أصدرت «دار الهلال» الجزء الأول من كتابي «من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن»، وها هي اليوم تصدر الجزء الثاني المتمم لهذا الكتاب. ورغم الجهد الضخم الذي بذلته «دار الهلال» في إخراج هذا الكتاب في الثوب اللائق بموضوعه، فقد وقعت في طباعة الجزء الأول هنات لا يخلو من مثلها اليوم كتاب. وترد في نهاية هذا الجزء الثاني قائمة بأهم تلك الأخطاء مع تصويباتها. ولا يفوتني التنويه بأنني كنت قد فرغت من كتابة هذا البحث منذ نحو ثلاث سنوات، وبالتحديد في 12 أبريل سنة 1991، على أساس أن يصدر كله في مجلد واحد، ولكن كبر حجم الكتاب الذي تجاوز سبعمائة صفحة، وموضوعه المتخصص، كانا وراء تأخري في نشره بسبب تخوف الناشرين الذين عرضته عليهم من نشر كتاب كهذا لمؤلف غير معروف. ولكن «دار الهلال»، الرائدة في هذا المجال، قبلت مشكورة بركوب المخاطرة عندما عرضت عليها مسودة الكتاب في ديسمبر سنة 1993، إلا أنها اشترطت إصداره في جزأين تيسيرًا على القارئ. وقد ترتب على قسمة الكتاب جزأين أن فات قراء الجزء الأول الاطلاع على قائمة المراجع في ذيل الكتاب، كما فاتهم أيضًا الاطلاع على الفصل الأخير «في ختام البحث» الذي يشرح قصة هذا البحث، وكيفية إعداده، ونتائجه، كما يشرح الأساس الذي استندت إليه في انتقاء مراجعه. ولو أتيح الكتاب كله دفعة واحدة للقارئ لرد جزؤه الثاني – الذي بين يديك – على كثير من النقدات التي تفضل بها الدكتور الطناحي في تقديمه للجزء الأول، وشاطره إياها الدكتور محمد رجب البيومي في مقاله بعدد المصور 3618 بتاريخ 11 فبراير سنة 1994. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/3] والذي ينبغي التنبيه إليه أن موضوع هذا الكتاب هو تفسير العلم الأعجمي في القرآن بالقرآن نفسه، ومن ثم فهو يدور على محورين اثنين فقط: (1) تأصيل معنى العلم الأعجمي في لغة صاحبه، وهذا يحتاج فحسب إلى مباحث لغوية متخصصة في مصادرها «الأعجمية»، لا شأن لها بالمصادر العربية القديمة والحديثة التي تناولت تفسير هذا الاسم الأعجمي أو ذاك ولم توفق لسبب بسيط هو عدم معرفة أصحابها بتلك اللغات الأعجمية التي أشتق منها العلم الأعجمي في القرآن، ومن ثم فلا فائدة من استئناس المؤلف بها. (2) استخلاص اللفظ القرآني أو العبارة القرآنية المفسرين لمعنى الاسم الأعجمي العلم على منهج المؤلف في هذا الكتاب، لا حاجة بالمؤلف إلى كتب التفسير وكتب الحديث، وإنما كان استصحاب المؤلف لتفسير «القرطبي» على سبيل التمثيل فحسب لما قاله علماء التفسير في معاني الأعلام الأعجمية في القرآن وكلها حين تتصدى لتفسير الأسماء الأعجمية تفسر الأعجمي بالعربي. وتفسير القرطبي أكثر من كاف لأغراض هذا التمثيل. قال الدكتور الطناحي أيضًا أنني لم أستأنس بالمؤرخين العرب الذين كتبوا في الترتيب التاريخي للأنبياء والمدد التي بينهم. والواقع أن هؤلاء المؤرخين حين كتبوا فيما لم ينص عليه القرآن والحديث الصحيح إنما كانوا يستمدون رأسًا من مرويات أهل الكتاب، لا مصدر لهم غيرهم. والذي فعله المؤلف أوثق وأحصف، لأنه فيما لم ينص عليه القرآن والحديث الصحيح يرجع رأسًا إلى «العهد القديم»، مصدر كل مرويات أهل الكتاب، لا إلى مستنسخات من أقاصيص أهل الكتاب، ومنهم الذين وصفهم الحق سبحانه بأنهم «لا يعلمون الكتاب إلا أماني». على أن المؤلف لم يأخذ كل نصوص العهد القديم بالتسليم بل رد كثيرًا منها من مثل المدة التي بين آدم ونوح عليهما السلام، والتي بين نوح وإبراهيم عليهما السلام، على نحو ما أورده في التقديم لمبحث نوح. أما أن المؤلف عم القول بأن «المصادر الأولى» - أي العربية – تهيبت تكذيب التوراة فيما نصت عليه من أن الذبيح هو اسحق لا إسماعيل، وأن الحافظ ابن كثير على سبيل المثال انتصر للرأي القائل بأن الذبيح هو إسماعيل لا اسحق، فليس هذا بصحيح، لأن المؤلف قال بالنص (صفحة 286 سطر 1 من الجزء الأول): «أن جمهرة [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/4] من المفسرين قالوا أن الذبيح هو اسحق ... ولم يقل كل المفسرين. وبعد أن ذكر المؤلف أسانيده في تأييد القول بأن الذبيح هو إسماعيل لا اسحق، عقب في آخر الصفحة 287 من الجزء الأول بقوله: وقد نبه على هذا كله أو معظمه أجلاء المفسرين الذين قطعوا بأن الذبيح هو إسماعيل. أما استشهاد ابن قيم الجوزية بنص القرآن على اجتماع يعقوب في البشارة باسحق تنبيهًا على استحالة تصديق إبراهيم الرؤيا بذبح اسحق صبيًا لم يولد له بعد يعقوب، فهذا يصلح يج دال خصومه من المفسرين القائلين بأن الذبيح هو اسحق، ولا يصلح في مواجهة أصحاب التوراة. أما المؤلف فقد استشهد من التوراة على التوراة التي جاء فيها أن الله بشر إبراهيم قبل سنة من مولد اسحق بابن يولد له منجاب كثير النسل، إثباتًا لتناقض الكاتب مع نفسه. حيث لا ذكر في التوراة لاجتماع يعقوب مع اسحق في البشرى باسحق. أما القول في استدلالي بحديث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم من قوله للنسوة اللاتي تبعن الجنازة: ارجعن مأزورات غير مأزورات، لأن «مأزورات» في هذه العبارة جاءت على الازدواج الصوتي فحسب، وليست من المطرد المنقاس، ومن ثم فهو لا يصلح للتنظير بأن «آزر» و«وزر» سيان في مبحث «آزر»، فالحق أنني لم أستدل بهذا الحديث ولم أنظر به، وإنما أوردته على سبيل الاستئناس فحسب. أما الذي استدللت به فهو أن «الأزر» من معانيه «الظهر»، وأن «الآزر» - اسم أبي إبراهيم –في صلح بمعنى المأزور المحمول على أزره أي على ظهره، وقلت بالنص «وإن لم يسمع من العرب». قال الدكتور الطناحي أيضًا أن المؤلف يعمم القول بخطأ المفسرين واللغويين في فهم عبارة القرآن «إن إبراهيم كان أمة» [النحل: 120] بمعنى الرجل الجامع لخصال الخير «لا بمعنى القدوة أو الإمام كما فسرها المؤلف». والحق أنني بعضت ولم أعمم، بل قلت بالنص في حاشية الصفحة 274: قالت بعض التفاسير كما قالت بعض المعاجم. إلخ. أما أني خالفت قواعد النحو بقولي أن الاسم العلم لا يوصف إلا على البدل أو الخبر ولا يوصف على النعت لأن النعت يخصص والاسم العلم متخصص بذات علميته، فهذا الفعل جديد لم يقل من قبل، وكان حقه أن يقال: الفيصل الحاسم بين البدل والنعت أنك في البدل تستطيع تقديم البدل على المبدل منه في مثل «زيد التاجر» [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/5] و«التاجر زيد» دون إخلال بالمعنى من أي وجه، ولكنك لا تستطيع تقديم النعت على المنعوت في مثل «النجار الأمين» و«الأمين النجار»، وإنما يصح ذلك فقط في الاسم العلم. وأما استيحاش الدكتور الطناحي لعبارة «موسيقى القرآن» التي استخدمها المؤلف ضمن «أوشاب» أي «شوائب» شابت اسلوبه «العذب المصفى» فعزائي هو قول الدكتور الطناحي أن هذه الأوشاب باتت كالعدوى المهلكة التي تتسلل إلى «الأساليب الشريفة». مصداق ذلك أن الدكتور البيومي الذي أيد الدكتور الطناحي في «نقداته الصائبة» استخدم هو نفسه عبارة «موسيقى القرآن» في مقاله عن الكتاب بمجلة المصور غير مبال، على أن الموسيقى التي أعنيها ليست هي الطبل والزمر والضرب بالدف وعزف القيان، وإنما هي النغم والجرس والنم والاتساق جميعًا، لا يصلح في موضعها «النظم والاتساق» فقط كما اقترح الدكتور الطناحي: موسيقى القرآن تتحرى الحرف قبل اللفظ، تلفظ الحوشي وتتحرى الجمال، وما ذكره المؤلف في الفصل الأول من الكتاب عن خصائص لغة القرآن كاف في تبيان معنى «الموسيقى» الذي أراده المؤلف، ففي الموسيقى ما يقرع السمع عنيفًا، وفيها أيضًا الدمث اللين، وما بين بين، ولكل مقام في القرآن مقال. وأما أن الموسيقى لفظ أعجمي، فقد أفاض المؤلف في كتابه في قواعد الاستعارة من اللغات الأعجمية وأنها مقبولة مشكورة حين الحاجة إليها وتعذر الإتيان بلفظ من العربية مساو تمامًا للفظ الأعجمي المستعار في معناه، بل لم يتحرج القرآن نفسه من هذه الاستعارة على نحو ما ضربناه من أمثلة من القرآن. أما الدكتور البيومي في مقاله بمجلة المصور، فقد زاد من عنده ثلاث «نقدات» أولها أنني حين عرضت في الجزء الأول لفتنة داود بامرأة ضابطه كنت أنقل عن إسرائيليات فندها الزمخشري في تفسيره، وأنني لو اطلعت على هذا التفسير لنزهت داود عليه السلام عن ذلك. والواقع أنني اطلعت على ما قاله الزمخشري، ولا أوافق عليه لأنه مفتعل مصنوع لا سند له، وإنما تعلق الزمخشري بمقولة عصمة الأنبياء فأجهد نفسه في تأويل الآيات 21 – 26 من سورة ص على نحو يتصادم مع منطوق الآيات، فقال إنما عوتب داود لأنه انشغل بالعبادة عن مجلس القضاء لا من أجل [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/6] افتتانه بامرأة، وهذا يدفعه قول الحق سبحانه: {وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب} [ص: 24]. ولست من القائلين بأن عصمة الأنبياء مطلقة، وإنما هي فحسب في البلاغ عن الله عز وجل. ولم يستمد المؤلف مقولته من إسرائيليات دون تمحيص كما قال الدكتور البيومي في مقاله، وإنما يستمد من النص القرآني ذاته. ولو صبر الدكتور البيومي لقرأ في الجزء الثاني في مبحث «سليمان» ما يثلج صدره في هذه القضية، التي محصناها تمحيصًا. تابع الدكتور بيومي أيضًا الدكتور الطناحي في قوله أنني لم أستفد من المصادر العربية، فقال على سبيل المثال أنني لم أستفد من «مفردات» الراغب الأصفهاني، لأنه في حديثه عن الأعلام الأعجمية يصلح أن يكون عمادًا للمؤلف في كثير من اتجاهاته ولو رجع إليه لوجد فيه العضد والمعين. وقد سبق أن ذكرت أن تلك المصادر جميعًا لا فائدة منها في تأصيل مباحث هذا الكتاب القائم ابتداء على تأصيل معاني الأعلام الأعجمية في القرآن استنادًا إلى لغة صاحب الاسم العلم، لا إلى أقوال المفسرين وعلماء العربية الذين لا يملكون أدوات هذا التأصيل لعدم معرفتهم بتلك اللغات الأعجمية. أما ما قاله الراغب الأصفهاني بشأن الاسم «آدم» - وهو اسم عربي يخرج عن مقاصد الكتاب كما ذكرت – فلا فائدة فيما زاده على ما جاء في القرطبي، أعني تفسيره الاسم على معنى الخلق من عناصر وقوى متفرقة، أو لما طيب به من الروح المنفوخ فيه، لأن الاسم «آدم» مفسر في القرآن في منهجنا في هذا الكتاب بأنه من التراب والأديم، على نحو ما ذكره القرطبي وغيره، وهذا كاف. قال الدكتور البيومي في ثالثة «نقداته» أنه لا يتفق مع المؤلف في قوله أن أهل مدين هم أصحاب الأيكة ورتب الدكتور البيومي اعتراضه في الاحتجاج لمن قالوا أن مدين غير أصحاب الأيكة على أن القرآن قال {وإلى مدين أخاهم شعيبا} بينما قال في أصحاب الأيكة {كذب أصحاب الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون} ولم يقل (أخوهم شعيب)، فهو إذن ليس أخاهم، وإنما غريب عنهم. وليس بلازم. ليس بالدليل المرجح إن لم يكن ملزمًا كما قال الدكتور البيومي. على أن المؤلف لم يبن مقولته في التوحيد بين مدين وأصحاب الأيكة إلا على نقطتين اثنتين: وحدة الرسول، أي شعيب، وثانيًا وهو الأهم، أن شعيبًا يأخذ على هؤلاء ما يأخذ على أولئك، [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/7] خسرانهم الكيل والميزان وبخسهم الناس أشياءهم وعثوهم في الأرض مفسدين (الآيات 177 – 189 من سورة الشعراء). ومع وضوح حجة المؤلف فقد قال بالنص في ختام كلامه: نقول هذا ولا نخوض في غيب الله، فالله عز وجل بغيبه أعلم (الصفحة 251 من الجزء الأول). على أنني مهما قلت لا أستطيع أن أفي الأستاذين الدكتور الطناحي والدكتور البيومي حقهما من الشكر على إشادتهما الكريمة بالكتاب وكاتبه، فلا يسعني إلا أن أقول: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وكل أمي أن يقابل الجزء الثاني من الكتاب – وهو بين يديك – بما قوبل به الجزء الأول من حفاوة وتكريم. والحمد لله رب العالمين المؤلف محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 3-8] |
الفصل السابع: موسى وهارون
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( الفصل السابع موسى وهارون [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/9] يتناول هذا الفصل تفسير عشرة أعلام: موسى، هرون، فرعون، هامان، قارون، مصر، سيناء، التوراة، يأجوج ومأجوج، اليهود. والأعلام الخمسة الأولى (موسى – هرون – فرعون – هامان – قارون) أصحابُها متعاصرون، فقدمنا أولياء الله على أعدائه ورتبنا أعداء الله على حسب أهميتهم. أما (مصر)، (سيناء)، فهما مسرح الأحداث. وفي سيناء نودي موسى وأنزلت (التوراة). وجاءت بعد التوراة (يأجوج ومأجوج)، التي ارتبطت في القرآن بقصة «ذي القرنين»، لأننا نرجح، كما رجح مفسرون – والله عز وجل بغيبه أعلم – أن «ذا القرنين» هو نفسه الذي في سورة الكهف، العبد الصالح الذي صاحبه موسى فخرق السفينة وقتل الغلام، ورم الجدار الذي كان يريد أن ينقض فأقامه. وجاءت (اليهود) بأخره، لأنه عصوا الله عز وجل ثم هادوا، ثم عصوا من بعد. والتسمية الآن (وهي على المدح كما سترى). لا تنطبق عليهم. عسى ربهم أن يرحمهم، أو يتوب عليهم ليتوبوا). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 9-10] |
(30) موسى
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (30) موسى «موسى» في القرآن ليست هي، كماي ظن كثيرون، تعريب «موشيه» التي في التوراة، اسم نبي الله موسى الكليم صلوات الله عليه، عند اليهود. وإنما «موسى» في القرآن هي تعريب قرآني مباشر لهذا الاسم في لغة «آل فرعون» الذين التقطوا موسى من اليم مجهولاً غير ذي اسم، فكانوا أصحاب الحق في تسميته بلغتهم هم، أي بالمصرية القديمة. والمصرية القديمة كما تعلم لغة منقرضة ظلت قرونًا حبيسة البرديات والنقوش والمعابد، فلم تبح بأسرارها إلا ابتداءً من أواسط القرن الميلادي التاسع عشر، بعد نحو ثلاثة عشر قرنًا من نزول القرآن. ولكنك تعلم أيضًا أن القائل في القرآن هو الله عز وجل، القائل بكل اللغات، الذي علم آدم الأسماء كلها، الذي اختلاف ألسنة الناس من آياته، الذي أنطق بها خلقه: إنه واضعها وملهمها. نعم. سلم اللغويون الآن بأن اسم «موسى» عليه السلام من المصرية القديمة، لا من العبرية، لغة أمه وأبيه. ولكن متى قالوها؟ قالوها بعد أن قالها القرآن بنحو ثلاثة عشر قرنًا، ولم يفطن إليها أحد. في تفسير القرآن اسم «موسى» بلغة «آل فرعون»، آية أي آية. أما علماء التوراة فقد ألزمتهم عبارة في «سفر الخروج» بتفسير «موسى» على اللفظ العبراني، التي ينطقونها «موشيه» كدأب العبرية في «تشيين» السينات وإمالة الألف، فقالوا إن «موسى» عبرانية، على زنة الفاعل من الجذر العبري «مشا» (ومكافئه [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/11] العربي مسا/ يمسو بمعنى سلة أو أخرجه بلطف ومنه مسا الناقة أي أخرج الولد منها ميتا)، فهو «موشيه» أي «الماسي»، ويفسرونها بأنها تعني «نشيل الماء»، أي الذي التقطه آل فرعون من الميم، لقول كاتب سفر الخروج: «ودعت اسمه موسى (موشيه في الأصل العبراني) وقالت إني انتشلته من الماء» (خروج 2/10). ولا يصح هذا عبريًا، لأن موشيه على زنة الفاعل تعني أن موسى كان الماسي لا الممسو، أي كان هو الناشل لا المنشول، فلا يجوز في العبرية استعمال زنة الفاعل على قصد المفعول، وإن جاز هذا في العربية. ولكن علماءَ التوراة – لا علماء العبرية – افترضوا جوازَه ليستقيم لهم المعنى. وفاتهم أن من أعلام التوراة «نمشي» من نفس الجذر «مشا» ومعناه الممسو على المفعولية، ولو أريدت تسمية موسى على هذا المعنى لكان الاسم «نمشي»، ولما كان «موشيه». أو لكان «ماشوي» على المفعولية المباشرة من «مشا» العبري. ومنهم من قال أيضًا بأن «موشيه» على الفاعلية من «مشا» تفيد معنى «المخلص»، أي الذي انتشل بني إسرائيل من مصر، تسمية على النبوءة كدأبهم. فلا تدري كيف يطرأ هذا المعنى على ذهن التي انتشلته من الماء (ابنة فرعون في التوراة): يخلص من، وكيف، ومتى؟ أما الذي لا يصح البتة فهو افتراض عبرانية اسم «موسى»، وعلى لسان من؟ على لسان «ابنة فرعون» في قصر فرعون، تلتقطه من اليم فتفهم أنه من «أولاد العبرانيين» كما يقول الكاتب، فتتعمد تسميته تسمية عبرانية، وهي لا تفهم حرفًا من تلك اللغة، لغة عبيد فرعون كما تقرأ في التوراة، والأصح أن يتعلم العبيد لغة السادة لا العكس. وإنما المنطقي المتوقع من «ابنة فرعون» أن تسمى الذي انتشلته من الماء بلغتها هي، أي بالمصرية القديمة، فتقول مثلاً حال التقاطها إياه: هذا ابنُ لي! أنا التي انتشلته من الماء! أو شيئًا قريبًا من هذا. والذي قاله كاتب سفر الخروج على لسانها يتفق مع هذا ولا يتعارض معه «ودعت اسمه موسى وقالت إني انتشلته من الماء». لن «انتشلته من الماء» ليست بالضرورة ترجمة للاسم الذي اختارته، فهي عبارة تفيد الاختصاص، أي لأني أنا التي انتشلته من الماء فهو لي، يصلح في موضعها «فهو ابن لي»، أتخذه ولدا (وهو معنى اسم موسى بالمصرية القديمة كما سترى)، فلا تدري لماذا ألزم علماء التوراة أنفسهم بما لا يلزم من عبارة الكاتب. فأصروا – ولا يزالون يصرون رغم ما تكشف من أسرار اللغة المصرية القديمة منذ أواسط القرن [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/12] الماضي – على أن «موسى» (أي موشيه) اسم عبراني وإن تصادمَ الاشتقاقُ مع نحوِ تلك اللغة. والذي يجب أن تعلمه هو أن العبرانيين – الذين آواهم المصريون منذ عصر يوسف إلى عصر موسى وهرون – كانوا بحكم وجودهم بين ظهرانَي المصريين نحو أربعمائة وثلاثين سنة كما تقول التوراة، يجيدون اللغة المصرية القديمة، فيحسنون فهمَها كما يحسنون الحديثَ بها، وأنهم ما كان ليفوتَهم أو يفوتَ موسى نفسَه معنى «الابن» الذي في اسم «موسى» بهذه اللغة المصرية القديمة، بل تجد هذا واضحًا على قلم الكاتب وإن لم يفطن هو إليه ولم يفطن قارئوه: «فأخذت المرأة الولد وأرضعته. ولما كبر الولد جاءت به إلى ابنة فرعون، فصار لها ابنا» (خروج 2/ 9 – 10) أي صار موسى ابنا لابنة فرعون، يعني صار يُدعى كذلك. ولو كانت أسفار التوراة الخمسة الأولى قد كُتبت على عصر موسى وهرون، أو قريبًا منه، لما أعضلَ معنى «موسى» في المصرية القديمة على كتبة التوراة، فالتمسوا تفسيره من العبرانية. وهذا دليل لغوي لا ينقض على كتابة أسفار التوراة الخمسة الأولى بعد قرون من وفاة موسى، أي من الذاكرة، لا من الوحي: كان العبرانيون على عصر داود وسليمان قد أنسوا تمامًا هذه اللغة المصرية القديمة التي كانوا يتكلمونها على عصر موسى وهرون مع سادتهم المصريين. دليلك في هذا – لا من خطئهم في فمعنى معنى «موسى» من المصرية القديمة فحسب – وإنما أيضًا من خطئهم في فهم معنى «فرعون»، وهو من المصرية القديمة بلا خلاف، فقالوا أن «برعو» (أي فرعون) تعني عند المصريين «الملك»، وليس بشيء، لأن علماء اللغة المصرية القديمة يقولون لك أن «بر + عا» تعني «البيت + الكبير»، أو البيت العظيم، على نسق «الباب العالي» عند الخلفاء العثمانيين، يكنى بها عن شخص الملك مهابة وتفخيمًا. هذا «التفسير بالتخمين»، أعني تفسير علماء التوراة أسم «موسى» من العبرية تمحلا واعتسافا، لا لسبب إلا لأن المصرية القديمة أعضلت عليهم، تفسير لا يعتد به، لأنه تفسير لاسم من المصرية القديمة بغير لغة الذي سمى، شأنه شأن تفسير من تورط من مفسري القرآن ففسر العبري بالعربي، فلا تلتفت إليه. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/13] على أن من مفسري القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 51 من سورة البقرة) من فطن إلى ما لم يفطن إليه علماء التوراة، فافترض على ما يقتضيه المنطق الصرف أن اسم «موسى» اسم بلغة «آل فرعون» وراح يلتمس معناه عند معاصريه من القبط (وهم مصريو زمانه) يظن لغتهم هي نفس اللغة، ولكنها كانت قد تحورت وشاهت منذ قرون سبقت مولد المسيح، بل امحت على الألسنة تلك القبطية نفسها منذ أواخر القرن الثالث الهجري حتى اضطرت الكنيسة القبطية إلى ترجمة كتب الصلوات إلى العربية التي غلبت على ألسنة القبط أنفسهم، لا يفهمون غيرها، فلا تنتظر منهم إلا تفسيرًا «بالتخمين» لأسماء من مثل «موسى» و«فرعون»: قالوا له إن «مو» بالقبطية يعني «ماء»، وإن «شا» (أو «سا» بالسين» يعني «شجر» ورتب الرواة على هذا أن آل فرعون عثروا على التابوت الذي فيه موسى بين ماء وشجر، فسمي باسم المكان الذي وجد فيه وليس هذا بشيء كما ترى، فلا تعتد به ولا تلتفت إليه. ولكنك تسجل لهؤلاء الجهابذة الأعلام جهد المحاولة وفضل السبق إلى تحري تفسير معنى «موسى» في لغة «آل فرعون» لا في لغة «بني إسرائيل»، فما كان للابن الذي التقطه آل فرعون فتبنوه أن يتسمى بغير لغة أبيه بالتبني. ليس العيب فهيم أن أخطؤوا معنى «موسى» في لغة آل فرعون، بل يكفيهم شرفًا أن حاولوا، يوم كانت لغة آل فرعون طلاسم مطلسمة فلم يجدوا الذي يستوثقون منه: كان العيب في الذي استفتوه، فأفتاهم عدوا بغير علم. آفة اللغات البائدة عند دارسيها وعلمائها أنها لغات تقرأ ولا تسمع. أعني أنك لا تجد من يحدثك بها فيلزمك بتقويم لسانك. كل ما لديك كتابات ونقوش، رسمت بخط مهما وفقت في حل رموزه، فلن تستطيع الجزم آمنا مطمئنًا بأنك تنطق أحرفها على نحو ما كان ينطق أهلها. أما إن كان الخط – كالشأن في الخط المصري – خطا لا يعبأ بحركات المد فالآفة عندئذ أفدح وأعتى، لا سبيل لك إلى تداركها مهما بذلت من جهد. أدى هذا بعلماء اللغة المصرية القديمة – الأثبات منهم على وجه التحديد – إلى التحرز من إثبات حركة المد الواجبة بين ساكنين لإمكان الانتقال من أحدهما إلى الآخر، [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/14] كما تجد مثلاً في لفظة «دحرج» العربية: لا تستطيع الانتقال من الدال إلى الحاء، أو من الراء إلى الجيم، إلا بحركة مد (وهي الفتح في «دحرج» العربية). ومن هذا في المصرية القديمة لفظة «بر» (ومعناها «بيت»): لا تستبين من الخط المصري حركة مد بين الباء والراء، أو بعد الراء على الأقل، فلا تستطيع نطق هذه اللفظة المصرية القديمة إلا بحركة مد تفترضها افتراضًا، فتختارها حسبما يتفق لك من بين حركات المد الثلاث (الكسر والفتح والضم)، لا تدري أيها الصحيح، فلا تملك القطع بيقين. هنا اصطلح بعض علماء تلك اللغة – أعني الأثبات منهم – على الاكتفاء برسم الحروف الثابتة في الخط المصري، وافتراض المد، حين يتعذر النطق، مدا بالكسر (وهو أخف الحركات)، يصطلحون على هذا ولا يجزمون بصحته. على أنه قدر لهذه اللغة المصرية القديمة – دون غيرها من اللغات البائدة – أن تحظى على مدى قرن ونصف قرن بجهد جماعي دءوب جبار، بذله وما زال يبذله علماء أفذاذ، اقتربوا في استجلاء غوامضها من حد الكمال. ساعد على هذا وفرة «المادة» التي تتحدث عن نفسها بلسان تلك الحضارة العظمى فيما خلفته من آثار ونقوش لا نظير لها قط في الحضارات السابقة واللاحقة. وساعد عليه أيضًا ما بقي من تلك اللغة القبطية التي ورثت عن أمها المصرية القديمة الكثير من مفرداتها، وإن كنت لا تجزم – بل أنت إلى الشك أقرب – بتطابق النطق القبطي مع النطق المصري القديم، ناهيك بمطابقة اللفظ للمعنى، على نحو ما تقطع الآن بالتفاوت في هذا وذاك بين عربية القرآن وبين العربية الدارجة التي يلغو بها العرب اليوم في أقطارهم. والذي يعنينا هنا – ونحن لا نخوض في المباحث اللغوية إلا بالقدر اللازم لأغراض هذا الكتاب – أن القرآن المعجز أتى بلفظ «موسى» أقرب ما يكون إلى نطقه في لغة آل فرعون على ما استقر عليه علماء تلك اللغة في نطق الأسماء الأعلام المختومة بالشق «مس» كما تجد في «تحوت + مس» (تحتمس) التي انتهوا إلى أن أصلها «ضحوتي + موسى» تنطق موسى فيها على الإمالة، تمامًا كما تسمعها في بعض «قراءات» القرآن، والمعنى هو «ولد تحوت» أو «وليد تحوت»، لا «ابن تحوت» وإن تقارب المعنى، لأن «ابن» في المصرية القديمة هي «سا» لا «موسى». [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/15] «موسى» لفظة في المصرية القديمة منحوته من جذر في تلك اللغة، هو (م/ س/ ي)، فعل بمعنى ولد/ يلد/ ولادة. ولفظة «موسى» اسم على المفعولية من هذا، فهي «ولد» أو «وليد» وبهما فسر القرآن هذا الاسم على الترادف كما سترى. لم تفعل العبرية في «موسى» إلا أن «شينت» السين كدأبها، فقالت «موشيه» على الإمالة. وربما اختلط الأمر على كاتب سفر الخروج الذي تصدى لتفسيره فظنه من «مشا» العبري (وهو «مسا» العربي) بمعنى سله واستخرجه، وتابعه علماء التوراة على هذا فقالوا: «نشيل الماء». ولو بقيت لدى الكاتب أثارةٌ من علم بتلك اللغة المصرية القديمة التي تكلم بها مع فرعون موسى وهرون لما وقع في هذا الخلط. بل قل لو كان الكاتب هو موسى عليه السلام الذي ينسبون إليه هذا السفر لما أخطأ فهم معنى اسمه («ولد» أو «وليد») الذي سماه به آل فرعون. وربما قلت إن الجذر (م/ س/ي) في المصرية القديمة، الذي يعني ولد/ يلد/ ولادة، قريب في معناه من «مسا» العربي، أو «مشا» العبري، بمعنى سلة واستخرجه، لأن في الولادة شيئًا من هذا. ولكن علماء المصرية القديمة لا يقطعون برأي حاسم في مدى العلاقة اللغوية بين المصرية القديمة وجاراتها الساميات، وإن رجحوا – ونرجح معهم – أصلها السامي. ولكننا لا نخوض في هذا، لا لشيء إلا لأنه يخرج عن مقاصد هذا الكتاب الذي نكتب. قال العليم الخبير، في كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يفسر بها اسم «موسى» بلغة آل فرعون، لا بلغة أمه وأبيه: {وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا} [القصص: 9] فسمى بها موسى المحذوف لدلالة السياق عليه. وقال أيضًا على لسان فرعون الذي أنكر على موسى أن يكون شفيعًا لديه في بني إسرائيل وقد استله فرعون من بينهم فاحتضنه ورباه: {قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين} [الشعراء: 18]، يدل على موسى بدالة الإباوة والرباية ويفطن موسى إلى أن فرعون يستميله إليه ليقطع ما بينه وبين قومه، فيستدرك على فرعون بما يفحمه: {وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل} [الشعراء: 22]. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/16] أكرمتني وأهنت قومي، وهل أنا إلا بعض قومي؟ وهل صرت إليك فتبنيتني إلا لأنك استعبدت بني إسرائيل وأذللتهم، تذبح أبناءهم وتستحيي نساءهم، حتى نبذتني في اليم أمي؟ هذه الصديقة التي قذفت برضيعها في اليم عن أمر الله، اسمها في التوراة العبرانية «يوكبد» بكسر الكاف والباء (وتنطق عبرانيًا «يوخفذ» على ما مر بك من قواعد نطق الكاف والباء والدال إذا تحرك أو اعتل ما قبلها)، ولكن القرآن لم يسم أم موسى، وإنما كناها بأحب كنية تمنت أن تستعلن بها: أم موسى. ويروى سفر الخروج أنها عمة عمران أبي موسى، يعني تزوج عمران عمته يوكبد فاستولدها هرون وموسى ومريام (راجع سفر الخروج 6/ 2). وأيا ما قلت في صحة الزواج من العمة في دين إ براهيم، فالذي نعني به في مقاصد هذا الكتاب هو معنى هذا الاسم «يوكبد» عند علماء التوراة: قالوا إنه اسم مزجي مركب من شقين (يو + كبد)، الأول «يو» مختصر يهوا، اسم الله في العبرية منذ موسى عليه السلام (يهوا كما مر بك يعني «الذي هو هو»)، والثاني «كبد» اسم من مادة الجذر العبراني «كبد» بمعنى ثقل، وأيضًا بمعنى تمجد وشرف وعظم، ومنه أيضًا «كبود» التي تعني المجد والشرف، وتعني أيضًا في مجازها، اللب والفؤاد. وقد اختار علماء التوراة هؤلاء أن يكون معنى «كبد» التي في «يوكبد» هو المجد والشرف، واختاروا أيضًا أن تكون بنية هذا الاسم المزجي على المبتدأ والخبر، فقالوا إن معناه هو «الله مجد»، مرادًا منه «الله مجدها». ولا يصح هذا عبريًا، مع الاعتذار الواجب للذين قالوه، لأن معنى المجد والشرف في مادة «كبد» العبرانية يجيء على «كبود» بالواو كما مر بك، ولا يجيء قط في بنيته الاسمية على «كبد» بكسر الكاف والباء كما ينطق اسم أم موسى في التوراة. أما الذي يصح عبريًا فهو أن يفهم الشق الثاني من هذا الاسم «كبد» على أنه [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/17] فعل ماض مسند إلى المفرد الغائب (الذي هو «يو» اسم الله في العبرية) جاء على زنة «فعل» العبرية (التي هي «فعل» في العربية) فيكون أصل الاسم «يوكبد» بتشديد الباء المكسورة، ثم خفف تشديد الباء للمزجية، فآلت إلى نطقها الذي في التوراة، أعني «يوكبد». ولأن «كبد» العبرية كما مر بك تفيد معنيين هما (1) الوقر والثقل، و(2) المجد والشرف، فلك أن تختار في تفسير هذا الاسم أما «الله مجد» بتشديد الجيم المفتوحة، يعني «التي مجدها الله»، وأما «الله وقر» بتشديد القاف المفتوحة، أي «التي وقرها الله»، يعني رزنها وثبتها وسكنها، أو كما قال القرآن على منهجنا في تسير أعلام القرآن بالقرآن، «لولا أن ربطنا على قلبها»، فهي «التي ربط الله على قلبها». والذي يصح بلا مشاحة هو تفسير القرآن، لا تفسير علماء التوراة، لأن «يهوا» (التي اختصرت إلى «يو» في الاسم «يوكبد») لم تصر عند بني إسرائيل علما على الله عز وجل إلا في ديانة موسى عليه السلام كما تستظهر من التوراة: «ثم كلم الله موسى وقال له أنا الرب. وأنا ظهرت لإبراهيم وإسحق ويعقوب بأني الإله القادر على كل شيء. وأما باسمي يهوا فلم أعرف عندهم» (خروج 6/1 – 3)، فلا يصح دخوله في اسم أم موسى يوم ولدت. وإنما الصحيح أن يقال أنها كنية كناها بها بنو إسرائيل من بعد مبعث موسى عليه السلام بعد تحقق الصفة والحال، كما سترى في الاسم «أيوب»، فهي كنية تشير إلى منقبة في أم موسى. وقد أراد علماء التوراة الذين فسروا هذا الاسم على معنى «الله مجدها» - أي التي مجدها الله – تعظيم موسى بالتفخيم في معنى اسم والدته. ولكن الكنية على هذا المعنى الذي أراده علماء التوراة هؤلاء لا تصدق في وصف منقبة أم موسى التي انفردت بها من دون نساء العالمين: تنبذ ابنها في اليم رضيعًا قد ربط الله على قلبها، ويردونه إليها لا لتكون له أمًا، بل لتكون له مرضعًا، جاءوها به وقد أسموه بلغتهم «الولد» (موسى المصرية الهيروغليفية) لا أم له، وهي أمه، لا تملك أن تستعلن بها، فيكنيها القرآن بأحب اسم تمنت أن تسمعه: أم موسى. ويمرأ فيه لبنها، ويدنو يوم فطامه، فتشقى بما تسعد به كل أم، لولا رباط الله على قلبها: إنه اليوم في حجرها «ابنؤم»، [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/18] تهدهده بها لا بـ«موسى»، وهو غدا «ابن فرعون» تسلمه لهم، فيا لفؤاد أم موسى مما حمل، لولا رباط الله على قلبها. هذه هي منقبة أم موسى الوحيدة التي يصح أن تكنى بها. والرباط على القلب يعني تقسيته كي يحتمل، وهذا هو نفسه معنى «كبد» العبري كما تنص عليه معاجمهم. فلا تستطيع هذا وحدها أم. ولكن علماء التوراة لم يفطنوا إليه، إذ لا نص في التوراة على بلاءات أم موسى بل يقال لك أنها ألقته في اليم فحسب ثم قالت لأخته قصيه، وإلى هنا ينتهي ذكر أم موسى في التوراة. فاكتفوا في تفسير اسمها بالمجد الذي نالته بإنجابها موسى. وليس بشيء كما ترى. قال عز وجل في تفسير اسم تلك الصديقة التي ربط الله على قلبها: {وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتدبي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين} [القصص: 10]. وقد مر بك في تضاعيف هذا الكتاب أن القرآن حين لا ينص على اسم بطل الحدث، يُلمُّ بمعناه أحيانًا في ثنايا الآيات فيصوره بما تكاد تسميه به. واسم «أم موسى» من هذا كما رأيت، ولكنك لا تفطن إليه في سياق هذه الصياغة المعجزة لوصف حال أم موسى وقد ألقت برضيعها في اليم عن أمر الله: فرغ فؤاد أم موسى يعني صار فؤادها هواء جزعًا على موسى في تابوت تتقاذفه أمواجُ اليم، لا تدري أيغرق أم يطفو، بل كادت تستغيث من ينتشله لها (إن كادت لتبدي به) فيعيده إليها، وليكن ما يكون. ولكن الله ربط على قلبها، وثبت فؤادها، كي تظل على إيمانها بصدق وعده إياها: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين} [القصص: 7]. إعجاز فوق إعجاز. ولعلك التفت أيضًا إلى عبارة القرآن «فؤاد أم موسى» في (الآية 10 من سورة القصص) التي تولت توا، التي تشير إلى إلمام القرآن بمعنى الفؤاد الذي في شطر [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/19] اسم أم موسى «يوكبد»، وهو «كبود» كما مر بك: لو قلت: «فؤاد أم موسى» عبريًا، لقلت «كبود يوكبد»! فيم إذن دعاوى النقل والاقتباس، والقرآن كما رأيت أعلم بالعبرية من أهلها؟ لموسى عليه السلام أخ أسَنُّ منه (هرون)، وزر لموسى وشركه النبوة. سأل موسى ربه أن يعينه بهرون لسبب محدد. كان موسى يضيق صدره ولا ينطلق لسانه: {ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هرون} [الشعراء: 13]. وكان هرون فصيحًا لسنا: {وأخي هرون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون}[القصص: 34]. فاستجاب له عز وجل وامتن بها عليه: {قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ولقد مننا عليك مرة أخرى} [طه: 36: 37]. وسيأتي تفسير اسم هرون إن شاء الله في موضعه. ولموسى عليه السلام أيضًا أخت تكبره، هي أخته التي قصته: {وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون} [القصص: 11]، ولم يسمها القرآن. أما اسمها في التوراة التي بين يديك – أعني في ترجمتها العربية المتأثرة في رسم أعلامها العبرانية برسمها المعرب من قبل في القرآن – فهو «مريم» (مفتوحة الميم ساكنة الراء كاسم مريم أم عيسى في القرآن)، خلافًا لأصلها العبراني المرسوم في التوراة «مريام» (بكسر الميم وإشباع المد بالألف بعد الياء) وهو خطأ بين وقع فيه المترجم العربي يتابع فيه أدعياء الاستشراق الذين اتهموا القرآن بالخلط بين «مريام» أخت موسى هرون وبين «مريم» أم عيسى ولا صلة بين الاسمين كما سترى. ففي الإصحاح الثاني عشر من سفر العدد يقص عليك الكاتب قصة ملخصها أن موسى اتخذ امرأة كوشية (أي حبشية)، فلم تحمد له هذا أخته مريام، ولم يحمده أيضًا أخوه هرون، فتمردا عليه، أو «تمريا» عليه، فحمى غضب الرب عليهما كما يقول الكاتب. وإذا مريام برصاء كالثلج (فتعجب لماذا أفلت الرب هرون). واسترحم هرون أخاه موسى أن يدعو لها، فصرخ موسى إلى الرب قائلاً: اللهم اشفها! فقال الرب لموسى: لو بصق أبوها في وجهها أما كان تخجل سبعة أيام؟ فاعتزلت مريام سبعة أيام حتى شفيت. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/20] يلتقط علماء التوراة هذه الأقصوصة ليفسروا بها الاسم «مريام» وكأنه كنية تكنت بها، فقالوا إن معناه هو «المراء»، «التمري»، من الجذر العبري «مرا»، فهو «فعلان»، أي «مريان»، أبدلت نونه ميمًا على ما مر بك فصار إلى «مريام». وهو اسم على الذم كما ترى، فتعجب كيف استجازوا أن تتسمى به من بعد مريم أم عيسى عليهما السلام. نقول هذا ولا نتوقف عنده: كل ما أردناه هو أن ندلك على معنى «مريام» عند علماء التوراة: المراء والتمري والعصيان، كيلا تخلط أنت بينها وبين «مريم» أم عيسى عليهما السلام، لاختلاف الاسمين لغة، الأول عبراني والثاني آرامي، واختلافهما مبني ومعنى. وسيأتي. وأما ما عرجنا عليه من ذكر «هرون»، الذي يأتي في موضعه، فلم يكن تمهيدًا لتفسيره بقدر ما كان عروجا على لفظة «إبنؤم» (ابن + أم) التي ناجى بها هرون أخاه مرتين في القرآن يوم أخذ موسى برأس أخيه يجره إليه في فتنة العجل: {قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين} [الأعراف: 150]. وجاءت بصورة أخرى في سورة «طه»، تبرئ هرون عليه السلام من اصطناع العجل: {ولقد قال لهم هرون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى قال يا هرون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري قال يا ابنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي}[طه: 90 – 94]. لعلك لاحظت أن معنى: «الابن» الذي في «ابنؤم» موجودٌ أيضًا في «موسى» المصرية القديمة ومعناها «ولد»، «وليد»، وكأن القرآن في هذين الموضعين يفسر هذه بتلك، وسبحان العليم الخبير. كان هذا هو التفسير القرآني من المصرية القديمة لمعنى اسم «موسى» عليه السلام: فسره بلغة آل فرعون، ولم يفسره بلغة بني إسرائيل. فهو «ولد» أو «وليد». والمعنى فيهما واحد. ونحن نؤثر «وليد» في ترجمة اسم «موسى»، لأن «الوليد» من أعلام العرب، فتسهل المقابلة بين «وليد» العربية، وبين «موسى» المصرية القديمة. وسبحان الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم!) [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 11-21] |
(31) هرون:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (31) هرون «هارون» في القرآن (التي شاع رسمها على غرار المصحف بغير ألف)، هي تعريب «أهارون» في التوراة، اسم أخي موسى عليهما السلام. والألف البادئة في «أهارون» العبرية – كما مر بك في تضاعيف هذا الكتاب – هي «ألف التحلية» Prosthetic Aleph والأصل «هارون» كما عَربها القرآن. وقد تجنب علماء التوراة (راجع «المعجم العبري الآرامي لألفاظ التوراة») تفسير اسم «أهارون»: ربما لم يستبن لهم وجه الصواب في معناه، وربما أيضًا لأن الكاتب في سفر الخروج خالف «مألوفه»، فلم يتصد لتفسيره. ولم يؤثر أيضًا عن مفسري القرآن تفسير لاسم «هرون»: أجمعوا على عجمته، ولم يتصدوا لتفسيره. وربما التمسوه عند بعض أحبار يهود ولم يظفروا بشيء. وهذا يرجح لديك، كما ترجح لدي، أن هؤلاء الأحبار لم يكن لديهم مأثور يستندون إليه في تفسير اسم «هرون» ويرأبون به الثغرة التي تركها كتبة التوراة بسكوتهم عن تفسيره. وربما تعللت لكتبة التوراة في ذلك بأن شخصية البطل – موسى عليه السلام – شخصية طاغية تملأ مسرح الأحداث، أذهلت الكاتب عن تقديم الشخصيات «الثانوية» للقارئ، وكأنه لا يفطن لهان فلا يسميها، رغم ولوعه كغيره من كتبة التوراة بتحليل الأنساب وتفسير التسميات، بإيراد مناسبة التسمية وسببها. يبدأ الكاتب سفر الخروج بإصحاح مقتضب، يمهد لظهور موسى على المسرح، تقرأ فيه أن ملكا جديدا اعتلى عرش مصر، لا هم له إلا استئصال شأفة العبرانيين باستصفاء نسلهم، فيأمر قابلتي العبرانيات «شفرة»، «فوعة»، بأن تنظرا المولود: إن كان ذكرًا قتلتاه، وإن كان بنتا فتحيا. ولكن القابلتين خافتا الله كما يقول الكاتب فاحتالتا على فرعون بأن النساء العبرانيات لسن كالمصريات، فهن قويات يلدن قبل أن [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/22] تأتيهن القابلة. عندئذ أمر فرعون جميع شعبه بأن كل ابن يولد للعبرانيين يطرحونه في النهر، وكل بنت يستحيونها. وكأنما ألقت أم موسى ابنها في اليم عن أمر فرعون، لا عن أمر الله كما تقرأ في القرآن. ثم ينتقل الكاتب سريعًا إلى الإصحاح الثاني، يتعجل تعليل إفلات موسى من هذا المصير، لا يعنيه ما كان من أمر إخوة سبقوه، بل لا يعنيه شخص أمه وأبيه اللذين منهما ولد، فيذهب بك مباشرة إلى «النهر» حيث ألقى موسى فتستحييه «ابنة» فرعون، ويبدأ الإصحاح هكذا: «وذهب رجل من بيت لاوى وأخذ بنت لاوى. فحبلت المرأة وولدت ابنا. ولما رأت أنه حسن خبأته ثلاثة أشهر. ولما لم يمكنها أن تخبئه بعد، أخذت له سفطا من البردي وطلته بالحمر والزفت ووضعت الولد فيه، ووضعته بين الحلفاء على حافة النهر. ووقفت أخته من بعيد لتعرف ماذا يُفْعَلُ به» (خروج 2/ 4 -4). هذا الكاتب الذي لم يفته وصف «التابوت» بأنه سفط من البردي مطلي بالحمر والزفت، لا علم له بما كان من وحي الله على أم موسى. وهو أيضًا – كأخيه الذي في سفر التكوين – لا يعرف قيمة «المادة» التي بين يديه، فلا يهتم لبلاءات أم موسى وهي تلقي بفلذة كبدها في اليم عن أمر الله. ولكنه في سرده المتعجل ينزلق إلى التهافت المخل: إنه يضع «التابوت» عند مغتسل ابنة فرعون (ومغتسل الملوك كما تعلم يكون قبالة قصرهم)، كما يوضع اللقطاء عند أبواب الأديرة والمساجد. وهو لا يترك التابوت هائمًا بين الأمواج، وإنما يثبته بين الحلفاء التي على حافة النهر قبالة قصر آل فرعون كما مر بك، وكأنه يقتحم به عليهم، كي لا يفوت ابنة فرعون العثور عليه، أو يطوح به التيار بعيدًا عن أعين جواريها. إنه يدس التابوت في أيديهم دسًا، لا يترك مجالاً للصدفة أن يلتقطه غيرهم. وكان أيسر عليه أن يحمل موسى إليه حملاً، يذبحونه [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/23] أو يستحيونه، كمن يمشي إلى طالبي دمه يحمل على يديه كفنه. وليس في هذا كرامة. ولكن الذي تعجب له عند الكاتب، ولم يلتفت هو إليه، أن «مغتسل» ابنة فرعون كان على مقتضى روايته «حمى» مستباحًا، تغتسل فيه ابنة فرعون مع جواريها على أعين الناس، لا يستترن إلا بتلك الحفاء التي على حافة النهر، لا حرس موضوعًا عليه ليل نهار، ولا رقباء يذودون تطفل المارة. وإلا فكيف تفسر نفاذ من تسلل بالتابوت إلى تلك الحلفاء نفسها، وهو يقول لك إن أخت موسى ما كان لها أن تقترب، وإنما وقفت تنظر من بعيد لتعرف ماذا يفعل به؟ كان على الكاتب أن يرجع إلى القرآن ليعلم منه حقيقة الذي كان، ولكن القرآن لم يكن قد نزل بعدك ألقت أم موسى بالتابوت في اليم أقرب ما يكون إلى بيتها، وتكفلت أمواج اليم بالباقي، عن وحي الله وأمره: {إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن} [طه: 38 – 40]. فانظر إلى هذا الإيجاز المعجز الذي لا يند عنه تفصيل فلا تملك أن تعقب عليه بشيء، وتأمل! هل يستطيعه إلا علام الغيوب؟ والذي يعنينا في هذا السياق أن الكاتب شغله موسى عن هرون فلم يذكر ما كان من أمره: لم يحضر ولادته، ولم يسمه، فلا يفسره. وهو لا يعني أيضًا بأن يفسر لك كيف أفلت هرون من الذبح وقد ولد قبل موسى بنحو ثلاث سنوات وبضعة أشهر، على ما تستخلصه من سفر العدد الذي يقول لك أن هرون مات وهو ابن مائة وثلاث وعشرين سنة، في السنة الأربعين لخروج بني إسرائيل من مصر (عدد 33/ 38 – 39)، ومات موسى بعده في نفس السنة وعمره مائة وعشرون سنة (تثنية 34/ 7). ولا شك أن تذبيح الذكور واستحياء الإناث بدأ قبل موسى بسنوات، بل وقبل زواج عمران من أم موسى، كما تستظهر من الإصحاح الأول من سفر الخروج. فكيف أفلت من الذبح هرون؟ لم يعن بهذا كاتب سفر الخروج. ولكن كان من مفسري القرآن من توقف عنده. ومن طريف ما يروى في هذا – نقلاً عن أقاصيص لأهل الكتاب بالطبع – أن فرعون [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/24] حين أراد استئصال شأفة العبرانيين في مصر باستصفاء نسلهم، بدأ بتذبيح أبنائهم سنة واستحيائهم سنة، وأن هرون الذي يكبر موسى كان حقه أن يولد سنة الذبح، ولكن الله أطال حمل أمه به كي تضعه سنة الاستحياء فينجو. وإذا علمت أن الجذر العبري «هرا» معناه حبلت (المرأة)، فربما قلت – ولم أقرأ هذا لأحد – أن اسم هرون مشتق من «هرا» العبرية هذه، وكأنه «حبلان» من «الحبل» الذي طال به. أدى أيضًا طغيان شخصية البطل – موسى عليه السلام – إلى شحوب شخصية هرون وتضاؤل دوره في رسالة موسى عند كتبة التوراة، الذين أعضل عليهم إيجاد دور لهرون إلى جوار موسى، فنحلوا هرون دور «الصبي»: صبي «النبي»، أو صبي «الحاوي». تجد دور «صبي النبي» في قول الكاتب على لسان الله عز وجل مخاطبًا موسى: «أنا جعلتك إلها لفرعون، وهرون أخوك يكون نبيك» (خروج 7/ 1). وتجد «صبي الحاوي» في قول الكاتب على لسان الله عز وجل أيضًا، يأمر موسى بما يفعله حين تطلب منه الآية على صدق دعواه: «تقول لهرون خذ عصاك واطرحها أمام فرعون فتصير ثعبانا» (خروج 7/ 9)، فلا تندهش – إن كنت مسلما – حين تقرأ في السفر أيضًا أن «عصا هرون» - لا «عصا موسى» - هي التي لقفت حبال السحرة وعصيهم (خروج 7/ 12). كل هذا بالوساطة عن موسى بالطبع، فلا دور على الحقيقة عند الكاتب لهرون. ولكن الكاتب – وكأنه يثأر لهرون – يقول لك إن هرون «كهن» لموسى، فألبسه موسى عن أمر الله رداء الكهنوت العظم: لا كهانة إلا بهرون وأبناء هرون دون غيرهم من أسباط بني إسرائيل فريضة أبدية (خروج 28)، فاحتاز هرون وبنوه من بعده سلطانا في بني إسرائيل أعظم من سلطان موسى: سلطان الرأي والفكر والفُتيا بالشريعة. وهذا كله دخيل على التوراة التي أنزل الله على موسى، فلا كهنوت ولا كهانة في دين الواحد الحد، ولا وساطة بين العبد وربه. ونحن لا نشك لحظة في أن اليهود صنعوا هذا الكهنوت من بعد موسى ليحاكوا به كهنوتا سحر ألبابهم سلطانه [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/25] العاتي في ديانة «آمون»: حراس العقيدة وسدنة المعبد. ولا يفسد الدين، وتفسد العقيدة، إلا على أيدي هؤلاء الحراس والسدنة. وقد حارب المسيح عليه السلام هذا الكهنوت من قبل، ففضحه وعراه. ولكن الكهنوت انتصر من بعد، فاصطنعت المسيحية لنفسها في أوروبا كهنوتًا مثله، وربما أعتى. وهبت رياح الإصلاح تريد اقتلاع هذا الكهنوت من جذوره، فلم تفرق بين الديانة والكهانة، وكان ما كان. والذي نتوقف عنده هنا في أغراض هذا الكتاب الذي نكتب، أن كهنوت هرون وبنيه أورث اللغة العبرية بعد عصر موسى وهرون، مصطلحًا جديدًا: كان موسى وهرون كما تعلم من سبط لاوى بن يعقوب، أي كان هرون وبنون لاويين، فأصبحت لفظة «لاوى» (وتنطق «ليفى» في العبرية المعاصرة شائعة في أعلامها) علمًا على الكاهن خادم المعبد، وأيضًا «أهاروني»، أي المنسوب إلى «هرون» رأس هذا الكهنوت. ولا تدري كيف فات هذا المعنى (اللاوي أو الهاروني = الكاهن خادمَ المعبد) على أدعياء الاستشراق وأذنابهم ممن تسقطوا للقرآن قوله في مريم أم عيسى عليهما السلام: {يا أخت هرون} [مريم: 28] فتهكموا رعونة وجهلاً بأن القرآن يخلط بين «مريم» أم عيسى وبين «مريام» أخت موسى وهرون، وقد خلت الأنبياء والرسل بين موسى وعيسى عليها السلام، ونص القرآن على أن عيسى هو آخر رسل الله إلى بني إسرائيل: {وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم} [المائدة: 46]، فكيف تكون أمُّةُ أختا لموسى وهرون؟ لم يدرك هؤلاء الأدعياء وأذنابهم – وأنى لهم وقد أعماهم الحقد وأصمهم – أن القرآن ينضح هاهنا بعلمه النافذ إلى صميم ديانة اليهود ومصطلحات كهنوتهم: «أخت هرون» يعني «خادم المعبد» الذي كانته أمة الرب مريم البتول عليها السلام: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا} [التحريم: 12]. إنها «هارونية» (أخت هارون»، راهبة خادم معبد، يستعظم منها أن تفعل في وهمهم الذي فعلت: {فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هرون ما كان أبوك امرأ سوء وما كنت أمك بغيا} [مريم: 37 – 38]، فأي علم هنا وأي جهل هناك. لم يفطن إلى هذا مفسرو القرآن، [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/26] وعذرهم واضح، إذ لا علم لهم ببطائن كهنوت بني إسرائيل، ولكن ما عذر أولئك الأدعياء المتعالمين على القرآن وفيهم اليهودي القح، وربما كان منهم الهاروني الحبر، «أخو هرون»؟ الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله عند تحليل الاسم «مريم» في موضعه من هذا الكتاب. ولا ينقضي الكلام في هرون قبل الحديث عن دوره في فتنة العجل الذي صنعه «السامري» لبني إسرائيل في التيه: {فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسى} [طه: 88]، لأن التوراة كما تعلم تنسب صناعة العجل إلى هرون، لا إلى ذلك السامري الذي هو من أفانين القرآن كما يرى أدعياء الاستشراق، فتجب لهم – وهم يهود أو نصارى آخر الأمر – كيف لا يخجلون من نسبة هذا الكفر إلى نبي من أنبياء التوراة الكبار، ويأخذون على القرآن تنزيه هرون عنه، فيصدقون كاتب سفر الخروج على هزله ويكذبون القرآن، قول الحق الذي فيه يمترون. قال كاتب سفر الخروج: «وقال موسى لهرون ماذا صنع بك هذا الشعب حتى جلبت عليه خطية عظيمة. فقال هرون لا يَحْمَ غضب سيدي. أنت تعرف هذا الشعر أنه في شر. فقالوا لي اصنع لنا آلهةً تسير أمامنا لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من مصر لا نعلم ماذا أصابه. فقلت لهم من له ذهب فلينزعه ويعطني. فطرحته في النار فخرج هذا العجل» (خروج 33/ 21 – 24). الذي صنع العجل لبني إسرائيل عبدوه في التيه هو إذن هرون في قول التوراة، لا السامري الذي اخترعه القرآن، فما كان لسامري من السامرة أن يندس في جماعة بني إسرائيل فيصنع لهم العجل، والسامرة [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/27] بعد في أرض فلسطين لم يدخلها بنو إسرائيل إلا من بعد وفاة موسى وهرون. واستكثر هؤلاء الأدعياء على القرآن أن يستأثر بعلم الذي جهله آباء كتبة التوراة أو أنسوه أو تكتموه، فقالوا لم يسمع في تاريخ بني إسرائيل وأساطيرهم شيء عن هذا الذي كُتبَ عليه أن يقول «لا مساس»! أبد الدهر: {قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا} [طه: 97]، وزعموا أن قصة السامري الذي في القرآن كانت هي الأساس الذي بنى عليه أهل الكتاب من بعد أسطورة «اليهودي التائه»، إلى آخر ما قالوه، ولو يتوقفوا ليتساءلوا: ولم لا تكون أسطورة اليهودي التائه من أهابيش ذاكرة أهل الكتاب التي سقطت من أسفار التوراة أو تكتمتها أسفار التوراة؟ ولماذا يهتم القرآن – وهو من عند غير الله بزعمهم – لمخالفة أساتذته من أحبال أهل الكتاب لمجرد تنزيه هرون عن ضلالة صنع العجل لبني إسرائيل في قول التوراة، مثلما اهتم من بعد لتبرئة مريم عليها السلام «أخت هرون!» من البهتان الذي قذفت به في عيسى عليه السلام يوم جاءت به قومها تحمله؟ ما للقرآن لهذا أو ذاك وهو يختصم أهل الملتين معًا؟ أليس لأنه وحده هو العليم بكل ما كان؟ الحريصُ على الصدق في كل ما قال؟ هؤلاء الأدعياء يهرفون بما لا يعرفون، فيقطعون ولا يتثبتون، بل ربما دلسوا عليك آمنين ألا تكشف زيفهم، ظانين أنك لست أهلاً لتجشم مؤونة الرجوع إلى مصادرهم: ليست «السامري» في القرآن صفة على النسب إلى السامرة التي في فلسطين (وهي «شمرون» عبريًا بضم الشين والنسبة إليها «شمروني» أي «السامري» الذي من السامرة)، وإنما هي صفة على النسب إلى «شمرون» بكسر الشين، وهو شمرون بن يساكر بن يعقوب، الذي ينسب إليه «الشمرونيون»، عشيرة شمرون، من سبط يساكر بن يعقوب، أحد أسباط بني إسرائيل الإثني عشر. وكلا اللفظين (شمرون بضم الشين يعني السامرة وشمرون بكسر الشين ابن يساكر بن يعقوب رأس عشيرة الشمرونيين والنسبة إليها شمروني بكسر الشين يعني واحد الشمرونيين أي «السامريين» كالذي في القرآن) مشتق من الجذر العبري «شمر»، الأولى «شمرون» بضم الشين على اسم المكان، أي السامرة، والثانية بكسر الشلين على اسم الفاعل من «شمر»، [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/28] ومعناه حفظ وصان وحرز، و«شمر من» يعني احترز منه وتحاماه وتوقاه (راجع الترجمة العربية على الأصل العبراني لسفر يشوع 6/18). وعلى هذا يكون معنى السامرة عبريًا هو الحرز أي الحصن المنيع، ويكون معنى اسم شمرون بن يساكر بن يعقوب المنسوب إليه ذلك «الشمروني» (أي السامري الذي في القرآن)، هو الحارز المحترز. السامري الذي في القرآن هو من صميم أسباط بني إسرائيل في التيه، لا شأن له بالسامرين الساكنين السامرة في فلسطين. لم يسمه القرآن بالاسم وإنما نسبه إلى بني أبيه. ولم يفطن إلى هذا المفسرون. ولكن القرآن المعجز الذي لم يسم هذا الرجل بالاسم، لا يفوته على منهجنا في هذا الكتاب أن يفسر لك معنى «شمروني» (أي السامري) في أصلها العبري بتلك العبارة المعجزة «لا مساس!» التي سيقولها السامري ليتجبنه الناس، أي توقوني وتحاموني، فأنا شمروني! وتندهش إذ تعلم أن صيغة أمر الجماعة من الجذر العبري «شَمَرْ» - إن أضفت إليها ضمير المفعول للمتكلم في العبرية «ني» (كما في العربية تمامًا) تصبح «شمروني!» أي توقوني وتحاموني (لا مسال التي في القرآن) بنفس الرسم والنطق الذي في «شمروني» على النسب، أي السامري الذي في القرآن. ألا فسبح معي العليم الخبير، القائل بكل اللغات، ودعك من بغاث الطير الذين يريدون التحليق إلى قمة ليس إليها من سبيل. أما تفسير الاسم «هارون» - مقصدنا الأول في هذا المبحث – فقد مر بك أنه في العبرانية «أهارون» بزيادة الألف في أوله، وأن هذه الألف البادئة هي «ألف التحلية» Prosthetic Aleph، التي تزيد في المبنى ولا تزيد في المعنى، فالأصل «هارون» بنفس صورته المعربة في القرآن. ومر بك أيضًا أن علماء التوراة وكتبة أسفارها لم يتصدوا لتفسير معنى هذا الاسم في العبرية، شأنهم شأن مفسري القرآن الذين اكتفوا بالنص على عجمة هذا الاسم ولم يتصدوا لتفسيره. إلا أنه قد كان من أصحاب المعاجم، مثل معجم وبستر وغيره، من تصدوا لتفسير معنى «هارون»، استنادًا إلى علماء العبرية بالطبع، فتفاوتت تفسيراتهم على ثلاثة أقوال: [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/29] 1- إنه الخفيف النزق nimble or light، وهم هنا يشتقونه من الجذر العبري «أرن» بفتح الراء مكافئ «أرن» العرب بكسرها، أي خف ونشط ومرح وبطر، فهو «أرون» عربيًا. وعلى هذا القول تكون الألف الزائدة البادئة في «أهارون» أصلية، والزائدة هي الهاء. ولا يصح هذا في نحو اللغة العبرية، فضلاً عن أنه من أعلام العبرانيين على معنى الخفة والنزق «أورين»، «أرنان» بضم الهمزة وفتحها، على الاشتقاق الصريح من الجذر العبري «أرن»، دون حاجة إلى إقحام الهاء بعد الألف البادئة في «هارون». 2- إنه الفكير المكير thoughtful, deviser، يشتقونه من «هرا» العبري الذي معناه – إن أسندته إلى فاعل مؤنث – حبلت (المرأة)، وإن أسندته إلى فاعل مذكر كان معناه: فكر وقدر to conceive, devise وهذا يصح في العبرية من حيث الاشتقاق، ولكن المعجم العبري لألفاظ التوارة «هملون هحداش لتناخ» عبري/ عبري، وهو من مراجع هذا الكتاب، يقول لك إن «هرا» العبري المسند إلى الفاعل المذكر ليس من التفكير والتقدير وإنما هو يجيء على الذم بمعنى اضمر له سواء، أو كاد له أمرا. ولا تصح التسمية بهذا في هارون من قبل أبيه وهارون بكره. ولا تصح به الكنية أيضًا من قبل بني إسرائيل وهارون أحب إليهم من موسى، حتى إنهم حين مات هرون اتهموا موسى بقتله غيرةٌ منه. 3- إنه عَلِيٌ أو مُتعال exulted, elated (وربما ذكرك هذا بقوله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: «أنت مني بمنزلة هرون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي!» الذي اغتنمه أصحاب الأهواء فحملوه فوق ما يحتمل). والاشتقاق هنا يجيء من «يهر» وهو جذر ممات في عبرية التوراة لم يبق منه إلا «يهير» بمعنى الصليف ذي الصلف، فيفترضون أن «يهر» بمعنى «علا». وعلى هذا القول تجيء «أهارون» من «يهر» مزيدًا بالواو والنون على الفاعلية، كما جاءت «يشرون»: (أي «شارون» من «يشر» وقد مر بك) فتصبح «يهرون» ثم تؤول بحذف الياء البادئة إلى «هارون»، ثم تضاف ألف التحلية فيؤول إلى «أهارون» يرسمها في التوراة. ولا غبار على هذا التفسير من حيث الاشتقاق في العبرية، ولكن الذي يُضعف منه هو انعدام الجذر «يهر» في عبرية التوراة. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/30] ولئن كان أرجح التفسيرات الثلاثة هو التفسير الأخير (عَلي أو مُتعالٍ)، فثلاثتها جميعًا موضع اختلاف بين علماء العبرية كما رأيت، أي ليس على أي منها إجماع. وهذا يدلك على أن علماء العبرية ليس لديهم مأثور يفسرون به هذا الاسم، وإنما هي اجتهادات لغوية ليس إلا. ولكن القرآن لا يفسر على منهجنا في هذا الكتاب الاسم «هارون» بأي من هذه المعاني الثلاثة: الخفة أو المكيدة أو العلو. وإنما هو يجانسه على معنى القوة والشدة في مثل قوله عز وجل على لسان موسى: {واجعل لي وزيرا من أهلي هرون أخي اشدد به أزري} [طه: 29 – 31]، {وأخي هرون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي رداء يصدقني إني أخاف أن يكذبون قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون} [القصص: 34 – 35]. هذه المجانسات القرآنية على الاسم «هارون»، والتي تحدد علة استنصار موسى بأخيه، لا تخرج عن معنيين: الفصاحة واللسن، وأيضًا القوة والشدة، فشد أزره وشد عضده، يعني قواه، والردء من معانيه في العربية القوة والعماد، والوزارة أيضًا من هذا، فالوزير يعني حامل الثقل، والوزر عربيًا بفتحتين يعني الجبل المنيع يعتصم به. أما تفسير «هارون» على معنى الفصاحة واللسن، فهو مردود بامتناع تأصيله على أحرف «هارون» في العبرية. وأما تفسيره على معاني القوة والشدة والوزر، فهو سلسل قريب. لا يحتاج إلى افتعال ذلك الجهد الذي بذله علماء العبرية في تفسيراتهم للاسم «هارون»، ولو فطنوا لما سنقوله الآن لما ارتضوا به بديلاً: إنه من «هار» العبرية بمعنى «جبل»، زيد بالواو والنون، إما على الصفة المشبهة (كما قالت العبرية «إشتون» من «إشت» أي شبيه المرأة، وقد مر بك)، وإما على التصغير توددًا وتحببا، فهو «جبيل». وأما الألف الملصقة بهذا الرسم في العبرية «أهارون» فهي زائدة: إما هي ألف التحلية كالتي في «أدون» يعني «سيد» (وأصلها «دون»)، وإما هي أداة التعريف العربية «أل» حذفت لامها، ولهذا نظائر في العبرية يعرفها المتخصصون، لا نثقل بها عليك. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/31] والذي ينبغي التنبيه إليه أنه «هار» العبرية بمعنى «جبل»، يكنى بها عبريًا عن القوة والثبات والصمود، تمامًا كما يفعل أهل العربية في لفظة «جبل»، بل لا تخلو أعلام العرب من «جبل»، «جبيل»، «جبلة». بل من مجاز العبرية أن تكنى عن رؤساء الشعب «بلفظة» «هاريم» (جمع جبل) وهو مجاز يفسره المعجم العبري بعبارة «دولي هاعام» أي «أكابر الشعب»، وبلفظة «معصاموت» أي القوة، ومنها في العبرية المعاصرة «معصاموت جدولوت» يعني «القوى الكبرى». «هارون» إذن يعني «الجبل» أو «جبيل»، وقد فسره القرآن كما رأيت على معنى الوزر والقوة، وفسره أيضًا بالتقابل في قول هرون يعتذر لأخيه في فتنة العجل: {قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء} [الأعراف: 150]. وسبحان العليم الخبير). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 22-32] |
(32) فرعون:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (32) فرعون «فرعون» في القرآن هي تعريب «برعا» المصرية القديمة، تصطلح على نطقها مكسورة الباء ساكنة الراء، اتباعًا لمنهج علماء تلك اللغة الذين يفترضون «الكسر» حين يمتنع القطع بحركة المد الواجبة بين ساكنين، في خط لا يعبأ بإثبات حركات المد. وهي في التوراة «برعو» بفتح الباء وسكون الراء، وتحول الألف إلى الواو. أما «برعا» المصرية القديمة هذه فهي اسم مزجي مركب من شقين «بر + عا»، الشق الأول «بر» يعني البيت أو الدار، والشق الثاني «عا» صفة بمعنى الكِبَرِ أو العظم، فهو «البيت الكبير أو «البيت العظيم». وتدخل «بر» في تراكيب مزجية عديدة، من مثل «بر + عنخ» أي بيت الحياة أو بيت الروح، يعنون «دار الكتبة»، «بر + حض» أي البيت الأبيض، يعنون «دار الخزانة» أو «بيت المال»، «بر + نسو» أي بيت الملك، يعنون «القصر». وحين تأتي «برعا» المصرية القديمة على المزجية فهي تفقد معناها الأصلي كبيت كبير أو بيت عظيم، وتصبح كنية يكنى بها عن شخص الملك مهابة وتفخيمًا، كما قال العثمانيون في خليفتهم «الباب العالي»، وقالوا في رئيس وزرائه «الصدر الأعظم». والثابت لدى علماء المصريات أن «برعا» لم تصبح اسمًا دالاً بذاته على شخص الملك بحيث تستطيع أن تقول جاء «برعا» وذهب «برعا» وقال «برعا»، إلا منذ عصر الأسرة التاسعة عشرة عصر الرعامسة الذين كان منهم «فرعون موسى» على ما نرجح نحن ويرجع معنا اليوم كثيرون. ومن إعجاز القرآن أنه – مطلع القرن السابع للميلاد – يوم كانت اللغة المصرية القديمة، وكان التاريخ المصري القديم، طلاسم مطلسمة عند العالم أجمع، بل وعند المصريين أنفسهم، لم يعلم فقط معنى «برعا» في اللغة المصرية القديمة، وإنما علم أيضًا منذ متى بدأ إطلاق هذه الكنية على ملوك مصر، فخص بها فرعون موسى وحده. أما [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/33] حين يذكر ملوك مصر الذين سبقوا «فرعون موسى» - كما ترى في حديثه عن الملك الذي استخلص يوسف لنفسه وجعله على خزائن الأرض – فهو يقول «الملك»، لا يخطئ مرة واحدة فيقول «فرعون». أما كتبة التوراة – شأنهم شأن الخلق جميعا عصر نزول القرآن وحتى أواسط القرن الماضي وأوائل هذا القرن العشرين – فقد جهلوا هذا وذاك: فسروا «ﭘرعا» (وهي عنهم «ﭘرعو» كما مر بك) على التخمين بأنها لفظة في المصرية القديمة تعني «الملك»، وأطلقوها بلا قيد في سفري التكوين والخروج، لا فرق بين «فرعون موسى»، و«فرعون يوسف»، و«فرعون إبراهيم». وهذا يدلك بالنقد اللغوي وحده – كما مر بك – على أن أسفار التوراة المنسوبة إلى موسى عليه السلام لم تكتب على عصر موسى وهرون – أو قريبًا منه – يوم كان العبرانيون يحسنون فهم تلك اللغة المصرية القديمة بحكم وجودهم بين ظهراني المصريين نحو أربعة قرون تفصل بين عصر يوسف وعصر موسى وهرون، وإنما هي كُتبت من الذاكرة – لا من الوحي المباشر – بعد خروجهم من مصر بقرون أنستهم ما كانوا يحفظون من تلك اللغة. وأول ما يدلك على علم القرآن القاطع بمعنى البيت الذي في «برعا» هو تلك المفاضلة المعجزة بين «بيت» عند الله في الجنة وبين «فرعون» البيت الكبير، على لسان امرأة فرعون إذ قالت: {رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله} [التحريم: 11]. أما الترجمة الدقيقة في لغتك العربية لمعنى «برعا» هذه (البيت الكبير)، فهي «الصرح»، وبهذه الترجمة الدقيقة فسر القرآن كما سترى معنى «فرعون» - أي «برعا» - من المصرية القديمة التي كان يجهلها الخلقُ جميعًا عصر نزول القرآن في مطلع القرن السابع الميلادي وحتى أواسط القرن الماضي وأوائل هذا القرن العشرين، وسبحان العليم الخبير. في تفسير القرآن أعلامه المصرية القديمة من مثل موسى وفرعون ومصل بلغة أهلها مطلع القرن السابع للميلاد إعجازٌ يخشع له العقل والقلب. فهل آن للمطنطنين بدعوى النقل والاستنساخ أن يخسؤوا؟ بل ما أحراهم وقد افتضح الجهل أن يجلسوا إلى هذا القرآن مجلس التلميذ من الأستاذ، يتعلمون منه ولا يتعالمون عليه. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/34] وردت لفظة «الصرح» في كل القرآن أربع مرات، مرتين في (الآية 44 من سورة النمل) وصفًا لذلك القصر البلوري الذي بنته الجن لسليمان عليه السلام ودخلته ملكة سبأ فحسبت وهي تطؤه – لملاسته وصفائه وشفافيته – إنها تخوض في ماء رقراق: {قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير} [النمل: 44]. وأما المرتان الأخريان فكانتا في تفسير معنى فرعون من المصرية القديمة بأنه «الصرح». قال عز وجل: {وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين} [القصص: 38]. وقال عز وجل أيضًا: {وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب} [غافر: 36]. وهو في المرتين يفسر معنى «فرعون» («ﭘرعا» المصرية القديمة) على الترادف الصريح، لا كناية ولا تصوير: ﭘرعا = الصرح. إن أرجعت «فرعون» إلى أصلها المصري القديم «ﭘرعا» لقلت في مثل الآية 36 من سورة غافر: «وقال ﭘرعا يا هامان ابن لي ﭘرعا»! ألا فسبح معي العليم الخبير، القائل بكل اللغات، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم. أما علماء المصريات – يهود ومسيحيين – فقد أعياهم العثور على أر أو نحت أو نقش يصدق التوراة فيما ترويه من أخبار فرعون مع موسى وهرون، بله على أثر أو نحت أو نقش يستدل منه على مجرد وجود قد كان لبني إسرائيل في مصر، ناهيك بذلك الحدث الجلل الذي أغرق فرعون في اليم وهو يطارد بني إسرائيل الذين جاوزوا البحر إلى سيناء. قال الملحدون من أهل الملتين: وماذا في ذلك؟ القصص الديني كله حديث خرافة، لا حقيقة له خارج الذهن، لا نحوت ولا نقوش إلا في أدمغة الذين آمنوا. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/35] أما علماء الأثبات – لا شأن لك بإيمانهم أو إلحادهم – فقد استدركوا على هؤلاء: وهل تتوقع من فراعنة مصر غير ذلك إن صحت تاريخيًا قصة التوراة؟ ليست النصب والنحوت والنقوش في مصر القديمة صنع أفرقة من المؤرخين أو الهواة، وإنما هي تصنع وتقام بأمر الدولة وبتمويل من السلطة الحاكمة، ملوكًا أو كهنة، لا سيما النصب والنحوت والنقوش التي تسجل أخبار الملوك. والملوك يسجلون انتصاراتهم وأمجادهم، ويطمسون ما كان من هزائمهم ومخازيهم، بل ربما صوروا الهزيمة نصرًا، والفضيحة مجدًا. وكذلك يفعلون. والذي يعنينا من هذا أن فقدان التاريخ دليله العلمي الذي يوثق به أحداث ما كان من أمر فرعون مع موسى وهرون، أدى أيضًا إلى انعدام الدليل العلمي الذي يحدد بيقينٍ لا شك فيه شخص هذا الملك واسمه بين الفراعنة الذين حكموا مصر. ولكن للغويين كلمتهم في هذا: قد مر بك أن لقب «فرعون» - حين يدل بذاته على شخص الملك – بحيث تستطيع أن تقول ذهب فرعون وجاء فرعون وقال فرعون تعني بها الملك بالاسم، كنية يتكنى بها، لم تسمع في مصر القديمة على هذا الوجه الصريح قبل عصر الأسرة التاسعة عشرة. أي دولة الرعامسة (الأولى) التي حكمت مصر أواخر القرن الرابع عشر قبل الميلاد ودام حكمها حوالي مائة سنة. وقد كان نصيب رمسيس الثاني من مدة حكم هذه الدولة سبعا وستين سنة. ولأن القرآن يخص بلفظ «فرعون» ملكا بعينه من ملوك مصر، اسمًا علمًا، مُغايرًا بين «الملك» الذي جعل يوسف على خزائن الأرض، وبين الطاغية الذي علا في الأرض أي في مصر (على ما مر بك من أن «مصر» بلغة أهلها يومئذ تسمى الأرض) وجعل أهلها شيعًا، لا يريد به أي «فرعون» سبقه أو تلاه، فهو يعني بالتأكيد «أول» فرعون تلقب به لا ينادي بغيره، أي أول فرعون استقر له هذا اللقب فعرف به. فهو أول الرعامسة إن شئت، أو أشهرهم بهذا اللقب. لا شأن لك بمن اصطنعوا اللقب من بعده، «أشباح فراعين» ليس لهم من الاسم إلا رسمه. ولكنك تستبعد رمسيس الأول مؤسس الأسرة التاسعة عشرة، لأن حكمه لم يدم إلا سنة واحدة أو سنة وبعض سنة، وتستبعد أيضًا خليفته سيتي الأول الذي دام [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/36] حكمه ثلاث عشرة سنة. تستبعد هذين لأن مدني حكمهما (نحو 14 سنة) لا يستوعب أيهما أحداث ما كان بين فرعون وموسى. ولكنك تتوقف عند رمسيس الثاني خليفة سيتي الأول لا تعدوه إلى غيره، لا لطول مدة حكمه التي دامت سبعًا وستين سنة فقط، وإنما أيضًا وبالأخص لأنه أحق فراعين مصر بهذا اللقب، بل هو على الراجح أول من تلقب به. وأنت تستبعد بالطبع «مرنبتاح» (منفتاح) خليفة رمسيس الثاني، وإن حلا لمؤرخين التوقف عنده. تستبعد هذا بالدليل التاريخي: «لوحة إسرائيل» (الأثر المصري الوحيد الذي جاء فيه ذكر «إسرائيل» بالاسم) وفيها يقول ذلك الملك إنه في السنة الثالثة أو الخامسة من حكمه حارب في آسيا فصال وجال: «يِنْعِمْ أصبحت كأن لم تكن، وإسرائيل أبيدت ولن يكون لها بذرة، وأصبحت حورو (أي فلسطين وما حولها) أرملة لمصر». والذي حارب إسرائيل في فلسطين فانتصر عليهم وأباد بذرتهم، ثم عاد إلى مصر سليمًا معافى يكتب هذا النقش، لا يمكن بداهة أن يكون هو نفسه «فرعون» الذي هلك في اليم غريقًا وهو يطارد بني إسرائيل في عبورهم البحر إلى سيناء، كما تقول التوراة وكما يقول القرآن. بل في هذه اللوحة - «لوحة بني إسرائيل» - مهما قلت في طنطنة هذا الملك – الدليل التاريخي الكافي على وجود قد كان لبني إسرائيل على مصر مرنــﭘــتاح في فلسطين أو في الطريق إلى فلسطين – أعني في تيه سيناء. وهذا يدلك على أن بني إسرائيل خرجوا من مصر إلى فلسطين قبل أن يخلف مرنـﭘـتاح أباه رمسيس الثاني على عرش مصر، أي كان خروجهم إلى تيه سيناء قبل مرنـﭘـتاح، لا في عهده ولا في عهد من جاءوا بعده رعامسة وغير رعامسة. فلم يكن لإسرائيل كيان في فلسطين قبل خروجهم من مصر، لأن إسرائيل الذين ينسبون إليه رجل فرد، دخل مصر قبل أن يتحقق لبنيه هذا الكيان لا في فلسطين ولا في غيرها. إذن فقول مرنـــﭘـتاح – مهما تشككت في طنطنته – إنه حارب إسرائيل في فلسطين يفيد ثبوت علمه بوجود شعب أو قبيلة بهذا الاسم خارج مصر، وهذا العلم وحده قاطع الدلالة على خروجهم من مصر قبل مرنــﭘـتاح لا بعده. فتعجب كيف يتورط مؤرخون في توقيت [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/37] خروج بني إسرائيل من مصر بعهد مرنــﭘـتاح وفي أيديهم وتحت بصرهم هذا الشاهد التاريخي القاطع؟ عليك إذن – شأن المؤرخ الجدير بهذا الاسم – التماس فرعون موسى في رمسيس الثاني ومن سبقوه، لا شأن لك قط بمن خلفوه. على أنك تكتفي من «لوحة إسرائيل» بهذا الدليل التاريخي القاطع على ارتحال بني إسرائيل من مصر قبل عهد مرنــﭘـتاح، لا تعدوه إلى طنطنة هذا الملك بانتصاراته في آسيا فالراجح أن هذا الملك – طوال حكمه الذي دام إحدى عشرة سنة – لم تطأ قدماه أرض سيناء، ناهيك بأرض فلسطين، لانشغاله عن بوابة مصر الشرقية بحروبه مع ليبيين شَنُّوا على مصر من الغرب حملات استيطانية كان لهذا الملك – وهذا هو الإنجاز الوحيد الذي يسجله التاريخ لمرنــﭘـتاح – فضل حماية مصر منها. هذا وحده هو الذي يفسر لك – إن سلمت بأن فرعون موسى نفسه هو رمسيس الثاني والد مرنــﭘـتاح – سبب سكوت مثر عن ثاراتها لدى بني إسرائيل أربعين سنة في تيه سيناء، وتطوافهم بين جبالها ووهدانها وكأنه لا وجود لمصر عسكريًا في سيناء، ولم يعن بالتساؤل عن سر هذا السكوت والإغضاء أحد: لا تنام مصر عن سيناء إلا في عصور الفوضى. كان هذا هو ديدن مصر منذ فجر التاريخ وإلى اليوم. نامت مصر عن ثاراتها لدى بني إسرائيل في سيناء لانشغالها بمصيبتها في داخلها: سقوط الدولة. لم يمت فرعون موسى على سريره حتف أنفه، وإنما هلك في كارثة كبرى، أودت بين ليلة وضحاها لا بملك مصر وحده، بل وبالملأ من وزرائه وأمرائه وقادة جنده. وكان على مرنــﭘـتاح الذي آل إليه العرش وهو في الستين من عمره أن يواجه هذا كله، بالإضافة إلى أطماع من تحينوا الفرصة للوثوب على مصر واستيطانها، كما ترى في تلك الحملات الليبية التي تصدى لها هذا الملك وانشغل بها عما عداها. على أن الاضطرابات والقلاقل داخل مصر بدأت مع أواخر عصر رمسيس الثاني، وهي اضطرابات وقلاقل لا تفسرها فقط بشيخوخته كما يقول المؤرخون، وإنما تفسرها أيضًا بكوارث طبيعية، وقلاقل سياسية، الأولى تأديب من الله عز وجل: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون} [الأعراف: 130]، وجاءت الثانية نتيجة افتضاح فرعون وسقوط هيبته عند شعبه وعند الملأ من بلاطه بتوالي هزائمه أمام موسى وهرون. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/38] ويقول المؤرخون أن أحوال مصر ازدادت سوءًا وخطورة على عهد مرنــﭘـتاح، وتفاقمت بالصراع على السلطة في بلاط من خلفوه، فتمزقت البلاد شر ممزق، وأعلن كثيرون من كبار حكام الأقاليم استقلالهم، وغزيت مصر من الخارج، وظل الناس سنوات دون حاكم عليهم، حتى كان الرجل يذبح جاره، واستطاع رجل من أصل سوري تنصيب نفسه ملكًا على مصر، ينهب ممتلكات الناس ويهمل المعابد، فختمت به شر ختام الأسرة التاسعة عشرة بعد نحو ربع قرن من مهلك رمسيس الثاني. أفتجد في تاريخ مصر أنسب من هذا المناخ لسكوت مصر عن ثاراتها في سيناء؟ أما طنطنة هذا الملك بخروجه إلى سيناء وحربه مع بني إسرائيل يستأصل شأفتهم ويبيد بذرتهم، فهي أمانيُّ العاجزَ عن الثأر لمهلك أبيه، يعلل بها النفس، كالذي تقرؤه في ديوان امرئ القيس من شعر حماسي يدبجه في مصارع الذين قتلوا حجرًا أباه. على أن من المؤرخين من يرتفع بتاريخ خروج بني إسرائيل من مصر أربعة قرون سبقت مصر مرنــﭘـتاح، فيرد هذا الخروج إلى عصر الملوك الرعاة – الهكسوس – الذين حكموا مصر نحو قرنين من حوالي منتصف القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن السادس عشر قبل الميلاد. وربما نزل بعضهم بتاريخ هذا الخروج إلى عصر الأسرة الثامنة عشر، وتدرج به من تحوتمس الثالث إلى أمنحوتب الثاني فأمنحوتب الثالث، ثم إلى أمنحوتب الرابع، أي اخناتون، في محاولة للربط بين خروج بني إسرائيل من مصر وبين ما يسمونه «ثورة اخناتون» الدينية، تمسحًا بهذا الملك في تاصيل زعمهم بأن اخناتون هذا هو أول قائل بعقيدة التوحيد، وأن التوراة نقلت عنه فكرة عبادة الواحد الأحد، كما استنسخ داود مزموره (104) من نشيد اخناتون الإلهي، متناسين أن بني إسرائيل هم الذين جاءوا إلى مصر بهذه العقيدة مع يوسف ويعقوب [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/39] عن جدهما إبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين، والحق أن عقائد المصريين جميعًا، ومنها العقيدة التي جاء بها اخناتون، ليست إلا تنويعات عن لحن واحد، وإنما هم يتبدلون أسماء بأسماء. وليس «أتون» (يعني شعاع الخلق والحياة المنبث عن قرص الشمس) بأفضل من «آمون» إن أدرت التجريد، لأن «آمون» في اللغة المصرية القديمة معناها «الخفي المحتجب»، أي الذي هو وراء كل معبود مشهود، أما «آمون - رع» فهو الإله الأكبر الذي وراء قرص الشمس الإله. والذي فعله إخناتون كان في حقيقته صراعًا على السلطة مع كهنة «آمون». وما كان إقصاؤه الآلهة الأخرى فلا يعبد مع «آتون» غيره، إلا إقصاء لسدنتها وكهنتها، كي ينفرد إخناتون وحده بالكهانة: لا توسل إلى «آتون» إلا به، ولا وساطة بين «أتون» وبين الناس إلا من خلاله. وما هكذا يكون التوحيد أيما نصبت من إله. على أن التوحيد – فطرة الله التي فطر الناس عليها – بدأ بآدم، ثم ضل من ضل فانتهى إلى الشرك. ولا يخلو شرك من أصل للتوحيد يرد إليه: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3]، أي أن الشرك هو اصطناع الوسائط بين الخلق والخالق، فهو «الكهانة». وليس الإلحاد ثورة على التوحيد، وإنما هو في أصله إن تمعنت ثورة على الشرك، أي ثورة على الكهنة الذي يعددون الأرباب والوسائط تكثيرًا للأرزاق والجراية، ثم يقفون على أبواب المعابد يقبضون منك الصدقة أتاوة، كالمتسول، الجبار ذي العاهة، يريك من عكازه هراوة غليظة يدق بها عنقك إن تأبيت عليه. متى رمزت إلى الله عز وجل برمز، فقد فسد الدين، وانصرف الناس عن الأصل إلى الرمز، حتى عبدوا الحجر والشجر. والكهان – وإخناتون منهم – هم الذين يبتدعون لك هذه الرموز ليحكموك بها. على أن إخناتون لم يعرف الله عز وجل حق معرفته، لأنه يوحد «أتون» ليستأثر به لنفسه. ونشيده الإلهي تهاويم شاعر، أكثره مسبوق مأثور، تقرؤه في تسابيح المصريين من قبله لآمون وغيره. وإنما طنطن الملحدون من أهل الملتين بإخناتون تدليلاً على أن وحي الله عز وجل على رسله مسبوق بما قاله هذا الشاعر الملك المتحنث، بل الملك النبي في قول البعض. وما كن لنبي يدعو الناس إلى الواحد الأحد أن يدعى – كما قال إخناتون في نشيده – أنه ولد من صلب إلهه. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/40] وقد انزلق إلى هذا الوهم أيضًا مؤرخون معاصرون مصريون مسلمون، فرحوا بإخناتون الملك النبي الذي سبق موسى وهرون! قد أصابهم الزهو العرقي المميت، فعموا عن الحق، ربما تعللت لهم بأنهم لا يقرءون القرآن – وهذا أقبح الذنب – ولكنك لا تعفيهم من إثم إشاعة هذا الضلال «العلمي» بين الناس، وأهل الأدب بوجه خاص. أما المقارنة التي يعقدونها بين نشيد إخناتون وبين مزمور داود (104) فلك أن توازن بين النصين، ولن تجد في القليل الذي اتفقا فيه إلا أفكارًا شائعة لا تحتاج إلى أخذ اللاحق عن السابق. على أن المزمور (104) ليس محقق النسبة إلى داود عليه السلام، دليلك في هذا من «الكتاب المقدس» نفسه، الذي سكت عن نسبة مزامير بعينها، منها هذا المزمور، لداود: قال في بعضها «المزمور (...) لداود»، وسكت عن الباقي. دام حكم رمسيس الثاني سبعا وستين سنة، فهو أطول ملوك مصر القديمة حكمًا بإطلاق، لا الرعامسة فحسب، فلا تجد بين ملوك مصر القديمة فرعون غيره يستوعب حكمه أحداث ما كان منذ التقاط آل فرعون موسى من اليم وتنشئته في قصر فرعون حتى يبلغ مبلغ الرجال، ويقتل موسى ذلك المصري فيفر من آل فرعون إلى مدين حيث يصهر إلى كاهنها «يثرو» ويمكث عنده عشر سنوات، يعود بعدها إلى فرعون هذا نفسه، ويحاوره فرعون ويداوره، وتمضي بهما السنون حتى يخرج موسى ببني إسرائيل إلى تيه سيناء وقد ناهز موسى الثمانين كما تقول التوراة أو حسابات التوراة، فقد امتد الأجل بموسى في تيه سيناء أربعين سنة ومات في التيه وعمره مائة وعشرون سنة، كما مر بك من قول الكاتب في سفر الخروج. ومهما عجبت لمبالغات التوراة في أعمار أبطالها، فلا شك أن الحوار بين موسى وفرعون قد طال سنوات، لقوله عز وجل: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون} [الأعراف: 130]. وأنت تعلم أن الرسل باستثناء عيسى عليه السلام يبعثون في تمام الأربعين. فر موسى إذن إلى مدين وقد ناهز الثلاثين، وعاد إلى مصر بعد عشر [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/41] سنوات حيث نودي من جانب الطور الأيمن في سيناء، ثم ناجز فرعون سنين، ليخرج ببني إسرائيل إلى تيه إسرائيل إلى تيه سيناء وقد ناهز العقد السادس من عمره، إن لم يزد. لا يتسع لهذه العقود الخمسة أو الستة حكمُ أي ملكٍ من ملوك مصر القديمة منذ «نعرمر» مُوَحد القطرين إلى رمسيس الثاني. وقد مر بك القول في الشاهد التاريخي – لوحة إسرائيل – المانع من أن يكون « مرنــﭘـتاح» - ابن رمسيس الثاني – هو فرعون موسى - مرنــﭘـتاح ولا جميع من خلفوه. لا يتسع لهذا إلا حكم رمسيس الثاني وحده (67 سنة) إذا كان الفرعونان واحدًا: الذي احتضن وربى، ثم جحد وعصى. والقرآن على هذا لأنه يخص بلفظة «فرعون» ملكًا بعينه، اسمًا عَلَما، لا يعدوه إلى غيره. ولكن التوراة تقول لك في سفر الخروج أن فرعون الذي التقط موسى من اليم فاحتضنه ورباه، وفر منه موسى إلى مدين بعد قتله ذلك المصري، ليس هو نفسه فرعون الذي هلك في اليم غريقا. بل مات وموسى لا يزال بعد في مدين (خروج 2/ 23)، فلم يعد موسى إلى مصر إلا بعد أن «مات جميع الذين يطلبونه» (خروج 4/ 19) ليقتلوه بذلك الرجل المصري. فهما إذن فرعونان: فرعون الذي ربى، وفرعون الذي بعث موسى عليه السلام إليه رسولا. وقد رتب بعض المؤرخين على هذا أن «فرعون الخروج» هو مرنــﭘـتاح، خليفة رمسيس الثاني. وهذا مردود بما مر بك من الشاهد التاريخي على امتناع دور «فرعون الخروج» على مرنــﭘـتاح وكل من خلفوه. وهو مردود ثانيًا بأن موت ملك مصر لا يسقط الجرم الذي اجترحه موسى بقتله ذلك المصري، كما وهم كاتب سفر الخروج، الذي أراد تعليل إقدام موسى على العودة إلى مصر وهو فيها مهدر الدم. وليس بلازم، لأن الله عز وجل يعصم أنبياءه، بل قد توجس منها موسى: {ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون} [الشعراء: 14 – 15]: الذي خرج من مصر فرارا من بطش فرعون قد عاد إلى فرعون هذا نفسه بسلطان الله {... ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما} [القصص: 35]. على أنك لا تأخذ كل ما يسطره هذا الكاتب مأخذ الجد، فهو لا يني يتحفك بمحالاته. من ذلك قوله في نفس الإصحاح (خروج 4/ 34 – 36) وقد فرغ من [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/42] تسجيل نزول الرسالة على موسى: «وحدث في الطريق إلى المنزل أن الرب التقاه ليقتله (يعني أراد الله أن يقتل موسى) فأخذت صفورة (زوج موسى) – وأصلها العبراني «صـﭘورة» يعني «عصفورة» - صوانة وقطعت غرلة ابنها ومست رجليه وقالت إنك عريس دم لي، فانفلت عنه (أي انصرف الرب عن موسى وعدل عن قتله) حين قالت عريس دم، من أجل «الختان». وقد أحرج هذا النص شراح التوراة: بأي ذنب يقتل الله موسى وقد اصطفاه نبيًا رسولا؟ قالوا إن موسى أهمل ختان ابنه فكاد أن يهلكه بهذا الذنب، لولا قطع صفورة غرلة ابنها (يعني ختنته) فعفا الرب عن موسى، فلا تدري كيف علمت صفورة بغض الله على موسى واعتزامه قتله وموسى في الطريق إلى المنزل. أما قولها إنك «عريس دم» لي (وهي بالعبرية «حتن دميم») فهم يفسرونها بأن الزوجية انقطعت بينهما بغض الله على موسى لإهماله ختان ابنه، وعاد لها موسى عريسًا بمقتضى دم الختان الذي مست به رجليه. هراء يفسر بهراء مثله. لم يتوقف الكاتب لحظة ليسائل نفسه: كيف يقتل الله النبي الذي اصطفاه برسالاته وبكلامه؟ ولم؟ ألأنه أهمل ختان ابنه كما قال الشراح من بعد هذا الكاتب؟ أفكان موسى يتوقف لحظة عن ختان ابنه لو ذكره الله به قبل أن يقرر قتله؟ أم أراد الله أن يبيت له كي يأخذه على غرة؟ وهبه أراد قتله، فهل يمشي الله إليه ليقتله أم يبعث إليه بملك يقبض روحه؟ وهبه مشى إليه ليقتله، فهل تحول دونه حيلة صفورة؟ لا عليك. هذا الكاتب كأخيه الذي في سفر التكوين يهزل أحيانًا. ومحالاته حشو لا يلزمك، فليس هذا من التوراة التي أنزل الله على موسى. على أن في التوراة دليلين «جادين» يشيران إلى أن «فرعون الخروج» هو نفسه رمسيس الثاني، ولم يحظيا من المؤرخين بالعناية الواجبة والتدقيق الكافي. الدليل الأول تجده في سفر الملوك الأول: «وفي السنة الخامسة للمك رحبعام صعد شيشق ملك مصر (يريد «شيشنق») إلى أورشليم وأخذ خزائن بيت الرب وخزائن [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/43] بيت الملك ..» (ملوك أول 14/ 25 – 26). ورحبعام هذا هو ابن سليمان بن داود. وتقرأ فيه أيضًا أن سليمان الذي حكم أربعين سنة بدأ حكمه في السنة الأربعمائة وست وسبعين لخروج بني إسرائيل من مصر (ملوك أول 6/ 1). إن أضفت إلى هذا إلى ذاك كان صعود «شيشق» هذا إلى أورشليم في السنة الخمسمائة وعشرين لخروج بني إسرائيل من مصر. ما عليك إذن إلا أن تعين مدة حكم «شيشق» على مصر، وتضيف إلى بدايتها – أو نهايتها إن شئت – 521 سنة حتى تصل بالتقريب إلى عصر «فرعون الخروج». ولكن تاريخ الأسر الحاكمة في مصر يُسمى خمسة ملوك باسم «شيشنق»، شيشنق الأولى إلى شيشنق الخامس، وليس لدينا، ولا لدى المؤرخين أيضًا، الدليل الحاسم على أي الملوك الخمسة هؤلاء كان شيشنق المعنى. ولكن الذي نتوقف عنده هو أنك إن اخترت شيشنق الخامس (منتصف القرن الثامن) وأضفت خمسة قرون منذ خروج بني إسرائيل من مصر إلى عصر رحبعام، لوجدت نفسك في قلب القرن الثالث عشر قبل الميلاد، قرن رمسيس الثاني! أما إن أصررت على شيشنق الأول (منتصف القرن العاشر) كما يصر المؤرخون بلا دليل لديهم، ثم أضفت القرون الخمسة، فقد وصلت إلى منتصف القرن الخامس عشر قبل الميلاد، أي عصر تحوتمس الثالث، الذي يرشحه بعض المؤرخين كما مر بك لدور «فرعون الخروج». ولا يصلح تحوتمس الثالث بالذات لهذا الدور بدليل لا يصح فيه جدل غفل عنه أولئك المؤرخون: خلف تحوتمس الثالث ابنه أمنحوتب الثاني الذي حارب بضراوة في آسيا، مارًا بسيناء بالطبع. أفلم تقع عيناه على شراذم بني إسرائيل في التيه فيمزقهم شر ممزق انتقامًا لمهلك أبيه على أيديهم؟ كيف سلم بنو إسرائيل من ثارات مصر أربعين سنة؟ لم يعن ببحث هذا النقطة من المؤخرين أحد. وقد تقدم. أما الدليلُ الثاني من التوراة على أن فرعون موسى هو رمسيس الثاني بالذات، وهو دليلٌ حاسم هذه المرة، فأنت تعلم من التاريخ أن هذا الملك ابتنى لنفسه عاصمة في شمال شرق الدلتا أسماها باسمه: «ﭘر – رعمسيس»، يعني «بيت رمسيس». وتعلم من التوراة (خروج 1/11) أن فرعون موسى سخر بني إسرائيل في بناء مدينتين: مخازن فيئوم، ثم رعمسيس. ولا يمكن أن تكون «رعمسيس» التي يعنيها الكاتب سوى «ﭘر – رعمسيس» التي ابتناها رمسيس الثاني، فليس في مصر القديمة شمالي شرق الدلتا قرب منازل بني إسرائيل في مصر مدينةٌ بهذا الاسم غيرُها. والذي [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/44] يبنى لرمسيس الثاني مدينته هذه لا يمكن أن يكون خروجه من مصر سابقًا على عصر هذا الملك. ربما قلت إن هذه من أفانين الكاتب، ينحل قومه شرف بناء مدينة لفرعون، ولكن الكاتب لا يقولها في معرض التفاخر، وإنما يقولها للتدليل على التسخير والذلة والمهانة. لو أراد المفاخرة لما أعضل عليه انتحال أثر مصري أعظم وأخلد، كما ادعى متبجحون من يهود هذا العصر أنهم المهندس الذي كن وراء بناء الأهرام. قد عاصر بنو إسرائيل إذن رمسيس الثاني في مصر، لم يخرجوا منها قبله. وهم كما مر بك لم يخرجوا على عصر خليفته مرنــﭘـتاح ومن جاءوا بعده. فلم يبق إلا أن يكون رمسيس الثاني هذا نفسه هو «فرعون الخروج». ومن المؤرخين من يشفق من هذا، لا يريد أن يكون رمسيس الثاني، ذلك الفرعون العظيم، سيد العالم في زمنه، هو نفسه «الفرعون الملعون» في القرآن، بينما القرائن كلها تشير إليه، وينعدم الدليلُ العلمي على من يحل محله من ملوك مصر في البوء بإثمه. والسبب أنهم مبهورون بشخصية هذا الملك، أشهر فراعنة مصر وأعظمهم على الإطلاق، متى قست العظمة بالعلو والاستعلاء، والزهو والفخر والتجبر، والبناء والنحت والنقش، وإن كذب وزيف، كما ترى من نقشه الذي يحول هزيمته في قادش إلى بطولة ونصر مؤزر، وكما ترى من سرقته آثار غيره ينسبها لنفسه، مثل بهوى الأعمدة في الأقصر والكرنك. كل هذا عند هؤلاء المؤرخين «هنات» لا تقلل من عظمة هذا الملك، الذي يشفقون من مهلكه ذليلاً خاسئًا بعصا موسى على أيدي شرذمة من بني إسرائيل. ولو أن هؤلاء المؤرخين آمنوا واتقوا، وقرءوا طويلاً في هذا القرآن، لأدركوا أن الله عز وجل إنما يرسل الرسل إلى هذا الصنف بالذات من الملوك الجبابرة الطغاة: {وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين}[يونس: 83]، الذين آتاهم الله من كل شيء فجحدوا واستكبروا، وتألهوا: {فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى} [النازعات: 23 – 26]. وما كانت العبرة لتحدث لو كان فرعون هذا ملكا [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/45] هملا. على أنه لم يقل أحد بأن بني إسرائيل ناجزوا فرعون فغلبوه، وإنما هم فروا منه بليل، يتوجسون. بل كان مهلك فرعون بآية كونية كبرى، تناسب «جبروت» هذا الملك، الذي علا واستكبر، فقصمه جبار السموات والأرض، لا كبير غيره. يؤيد هذا أن مهلك رمسيس الثاني كان آخر عهد مصر بالعظمة، فلم تقم لها من بعدُ قائمة، إلا هبات هنا وهناك، وجذوة تحت الرماد تريد أن تتوهج وسرعان ما تنطفئ. وكأنما حلت بمصر اللعنة (هي لعنة الفراعنة إن تمعنت). وإنما كانت سقطة مصر الفرعونية إلى أبد الدهر تأديبًا لها على سكوتها عن هذا الطاغية، ولو لكان فرعون موسى اسبق من رمسيس الثاني، لما كان لعصر رمسيس الثاني في تاريخ مصر محل. تلك هي عاقبةُ السكوت على كل طاغية متأله: {يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري} [القصص: 38]، {فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين} [الزخرف: 54]، {فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين} [الزخرف: 55]، {وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القامية} [هود: 99]، {كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك أورثناها قوما آخرين فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين} [الدخان: 25 – 29]. لو أن رمسيس الثاني آمن لموسى لتغير وجه التاريخ البشري كله، وتاريخ مصر بوجه خاص. ولكن لا مجال في التاريخ لكلمة «لو» التي تفتح عمل الشيطان كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: إنه قضاء الله عز وجل لا راد لحكمه، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهو أعلم بالمهتدين. وقد كان من آل فرعون من آمن لموسى وهرون. تجد هذا في القرآن ولا تجده في التوراة، ولكنهم كتموا إيمانهم خشية بطش هذا الطاغية. من هؤلاء ذلك الرجل من آل فرعون في سورة غافر الذي لم يطق صبرا فاستعلن لهم بإيمانه: {فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب} [غافر: 45]. بل من هؤلاء أيضًا امرأة فرعون نفسه: {وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/46] رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين} [التحريم: 11]. أفقد كانت هذه هي أم موسى بالتبني، التي التقطته من اليم فاتخذته ولدا؟ التي قالت لزوجها ترقق قلبه: {قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا} [القصص: 9]؟ القرآن على هذا، فلم ترد «امرأة فرعون» في كل القرآن إلا في هذين الموضعين فحسب (القصص: 9 – التحريم: 11)، اسمًا علما على تلك التي كانت سببا في استحياء موسى فكان جزاؤها من الله عز وجل أن تؤمن به ليكون لها حسن ثواب الآخرة. فما بال التوراة تقول أن التي التقطت موسى من اليم فتنبته هي «ابنة فرعون»، ليست هي «امرأة فرعون»؟ أفتكون الابنة والزوجة شخصًا واحدًا؟ أفقد تزوج رمسيس الثاني ابنته؟ نعم. فقد كان من مخازي هذا الفرعون «العظيم» أنه تزوج ثلاثًا من بناته! ربما استفظعت هذا. لا عليك. فقد سبقه بها الملك «القديس» إخناتون، الذي تزوج ابنته «عنخس إن ﭘا أتون» وهي في الثانية عشرة من عمرها بعد أن فارقته أمها «نفرتيتي» فاستولد ابنته «حفيدته» منها «عنخس إن ﭘا أتون» (الصغرى) ولما رأى أن ابنته لم تنجب له وريثا للعرش وقد حرم من ذريته الذكور، زوجها من أمير صغير في التاسعة من عمره استخلفه على العرش، وهو «توت عنخ آمون»! هذا قد يفسر لك قول التوراة «ابنة فرعون» على معنى «امرأة فرعون» الذي في القرآن، أي «الابنة الزوجة» التي كانت لرمسيس الثاني. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/47] قال فرعون بعد ما عاين الآية الكبرى وهو يغرق، يوم لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: {قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل!}، فقال عز وجل: {ألآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون} [يونس: 91 – 92]. وهاتان الآيتان من إعجاز القرآن إن تمعنت: لم يترك الله جثمان رمسيس الثاني في قاع اليم طعامًا لوحوش البحر، بل أصعده إلى نجوة منه، ليتحقق من مهلكه الذين تأله لهم. ورغم ظروف مهلكه التي ترجح معها أنه ما حنط حتى رم، فقد حفظ جثمانه على أحسن ما يكون تحنيط المصريين مومياءات ملوكهم. ويكاد الفطر يتسلل إلى موميائه في المتحف المصري فتفسد وتتحلل، ولكن الله يقيض لها خبراء أجانب يعكفون على تطبيبها فتصح. وكم ذعروا يوم فكوا لفائفها وذراع رمسيس الثاني تنتفض مشرعة إلى أعلى، وكأنها تيبست على حالها يوم هلك، يستغيث ولا مغيث، أو يوحد بها الواحد الأحد. ويظل تمثال له مجندلاً في صعيد مصر قرونا، يمر عليه الرائح والغادي، حتى جاءوا به لينصبوه في ميدان بوسط القاهرة، فيعبث به الصبية: يتخذون من نافورة في قاعدة التمثال «مبالة» وتختنق القاهرة بسكانها، فتقام الكباري والمعابر على أعناق ميادينها، ويغرق التمثال في طوفان البشر، ويطاطئ الرأس التي علتها أقدام المارة، يطلون عليه – إن أطلوا – من عَلٍ! أهذا هو فرعونُ موسى؟ ربما. ولكن القرآنَ المعجز لا يتركك هائمًا بين الشك واليقين، تبحث عن «فرعون موسى» بين فراعنة مصر، ولكنه يسميه لك بالاسم: إنه ليس «أي» فرعون، يتجادل الباحثون فيه، أي الفراعين كان، ولكنه «فرعون ذو الأوتاد». قال عز وجل، يسمى فرعون المعنى: {كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد} [ص: 12]. وقال فيه أيضًا: {وثمود الذين جابوا [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/48] الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذي طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد} [الفجر: 9 – 14]. أما مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي لهذه الآيات من سورتي ص والفجر) فقد فسروا هذه الأوتاد على معنى الوزراء والأنصار والأعوان. وليس بشيء، فلكل ملك – وإن ذل – وزراء وأنصار وأعوان، وما كان لفرعون موسى أن يخصه الله بلقب شائع في الملوك جميعًا. وأما أنت – وقد علمك الله من هذه اللغة المصرية القديمة ومن تاريخ الفراعنة وآثارهم ما لم تكن تعلم – فقد علمت أن رمسيس الثاني انتحل لنفسه بناء بهو «الأعمدة» الذي في معبد الكرنك، وهو أعظم آثاره المنسوبة إليه، وإن كان التاريخ يرد الشروع في بنائه إلى جده رمسيس الأول، ويقول إن أبا رمسيس الثاني، «سيتي الأول»، ربما أتم بناءه أو كاد، وجاء رمسيس الثاني يضع «اللمسات الأخيرة» فملأ أعمدة هذا البهو بنقوش تحمل اسمه، غلبت على كل ما كان باسم جده وأبيه، ينتحل كعادته هذا الأثر المعماري الفني العظيم لنفسه، فنسب إليه، لا يعرف به غيره. ربما قلت وما شأن «ذي الأوتاد» بصاحب هذه «الأعمدة»؟ الجدير بالذكر أن علماء المصريات العرب لا يستحدثون الأسماء للأثر الفرعوني المكتشف، ولا يترجمون اسمه من المصرية القديمة إلى العربية، وإنما هم يترجمون اللفظة الإنجليزية الموضوعة له وفق المصطلح الذي يضعه علماء المصريات الأجانب. قال هؤلاء في ترجمة «يونيت» المصرية القديمة Hall of Columns فقال علماء المصريات العرب «بهو الأعمدة». ولكن هذه «الأعمدة» ليست للزينة والزخرفة، وإنما هي دعائم وأوتاد جبارة، يرتكز عليها – أو كان يرتكز – سقف هائل. إنها أشبه شيء بكتل خرسانية ضخمة تحمل فوق رأسها منشآت جبارة تزن مئات الأطنان. «الأوتاد» هنا إن تمعنت، بعد مشاهدة هذا الأثر بالطبع، ترجمة أدق وأولى. وسبحان علام الغيوب). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 33-49] |
(33) هامان:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (33) هامان لم يرسل موسى عليه السلام إلى فرعون وحده، وإنما كانت رسالة موسى أيضًا إلى «هامان» و«قارون». تستظهر هذا من قوله عز وجل: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب} [غافر: 23 – 24]. ثلاثتهم مخاطب بالآيات التي أنزل الله على موسى، وثلاثتهم ظلموا بها: {فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين فكلا أخذنا بذنبه}[العنكبوت: 39 – 40]. ورد اسم «هامان» في القرآن ست مرات، وورد اسم «قارون» أربع مرات فحسب، بينما ورد اسم «فرعون» في سياق قصة موسى عليه السلام في كل القرآن أربعا وسبعين مرة، فتفهم أن فرعون هو الرأس، والذنب قارون وهامان. ولا يجيء «هامان» في القرآن إلا مجموعًا إلى فرعون، على التبعية والإلحاق، لا يتقدمه قط. وتفهم من سياق الآيات التي تجمع بين فرعون وهامان، أن «هامان» رجل ذو شأن في بلاط فرعون، ولكنه يعمل بين يديه ويأتمر بأمره، وكأنه وزيره أو قائد جنده. أما «قارون» - حين يجمع في القرآن إلى «فرعون وهامان» - فهو لا يتوسطهما البتة، وإنما يجيء قارون بعد «هامان». كما رأيت في قوله عز وجل: {إلى فرعون وهامان وقارون} [غافر: 24]، أو يجيء «قارون» قبل «فرعون وهامان»، كما ترى في قوله عز وجل: {وقارون وفرعون وهامان وقد جاءهم موسى بالبينات} [العنكبوت: 38]، فتفهم أن ثمة فارقًا يحول دون إدماج «قارون» في «فرعون وهامان». [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/50] وقد نص القرآن على هذا الفارق بقوله عز وجل: {إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم} [القصص: 76]، أي كان قارون رجلاً من بني إسرائيل، وكان هامان مصريًا من قوم فرعون. والذي يستوقف النظر – ولم يلتفت إليه أحد – أن القرآن لا يخص هذين الرجلين هامان وقارون بالذكر إلى جوار فرعون فحسب، وإنما هو أيضًا يجمعهما مع فرعون في توجه رسالة موسى إلى ثلاثتهم كل على حدة كما رأيت من قبل في تلك الآيات من سورتي غافر والعنكبوت، وكأنه قد كانت في مصر على عصر موسى قوى سياسية ثلاث، يتعين إفرادها بالرسالة والخطاب، وإلا لأغنت الرسالة إلى الرأس، أي إلى فرعون، عن الرسالة إلى الأذناب. والأكثر استيقافًا للنظر – ولم يتساءل عنه أحد – هو توجه موسى بالرسالة إلى رجل من قومه هو قارون، وكأنه قد كان من بني إسرائيل في مصر من بعد عصر يوسف عليه السلام من ضلوا السبيل، فانخلعوا من دين أبيهم إبراهيم، وانغمسوا في عبادات سادتهم المصريين. ربما فعلوه أول الأمر اجتلابًا للحظوة والمنفعة، ثم رين على قلوبهم بذنبهم، فارتدوا عن عبادة الواحد الأحد إلى شرك المصريين. وهو ما كان يخشاه عليهم في مصر أبوهم يعقوب: {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلها واحدا ونحن له مسلمون} [البقرة: 133]. هذا يفسر لك عدل الله عز وجل في بني إسرائيل حين استحبوا الضلالة على الهدى وقضاءه فيهم بفتنة فرعون، يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، يستذلهم في الأرض ويسخرهم تسخيرا، مستعينًا عليهم ببعض قومهم من مثل «قارون»، كم تجد في قوله عز وجل: {إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة} [القصص: 76]. وإنما بغى قارون على قومه لا بسلطانه، وإنما بسلطان فرعون، لأنه كان عميلا [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/51] لفرعون عليهم، فلم يستنكف أن يكون رئيس سخرتهم، يرتشي من فرعون بيمناه، ويعتصر عرق بني إسرائيل بيسراه. وهذا يفسر لك أيضًا كثرة اعتلال بني إسرائيل على موسى سواء في مصر أو بعد خروجهم إلى تيه سيناء، حتى إذا مروا على أصنام قوم في التيه طلبوا من موسى أن يجعل لهم في التيه أصنامًا آلهة، بل ما ذهب موسى لموعدة ربه يتلقى ألواح التوراة، حتى صنعوا لأنفسهم ذلك العجل من ذهب، يتعبدونه، تحنانا إلى ما كانوا عليه في مصر، فكان قضاء الله فيمن عبدوا العجل منهم أن يقتل بعضهم بعضا بحد السيف، تكفيرًا وتطهيرًا، عسى أن يغفر لهم ربهم. كان موسى إذن رسولا إلى فرعون وهامان، كما كان رسولا أيضًا إلى من طغوا وبغوا من بني إسرائيل، الذين انحرفوا فزاغت قلوبهم. لم يستجب لموسى من قوم فرعون إلا ذلك الرجل المؤمن الذي في سورة غافر، وإلا امرأة فرعون التي سألت الله عز وجل أن ينقذها من فرعون (البيت الكبير!) ويجعل لها بدلاً منه «بيتا» في الجنة: {وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين} [التحريم: 11]. أما بنو إسرائيل فلم تؤمن كثرتُهم بموسى نبيًا رسولاً، وإنما آمنت كثرتهم به على الراجح زعيمًا وقائدًا يستخلصهم من براثن فرعون، يصفقون لموسى حين يُجري الله على يديه الآيات التي تُعجزُ فرعون، وينقمون على موسى حين تشتد قبضةُ فرعونَ عليهم: {قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا} [الأعراف: 129]. كان هذا حال الملأ من قوم موسى، أي أشياخ بني إسرائيل، حجر عثرة في طريق من آمن لموسى من قومه، وما آمن لموسى من قومه إلا قليل: {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين} [يونس: 83]، أي آمن لموسى شبيبة من قومه، على خوف لا من فرعون فحسب، بل ومن أشياخ بني إسرائيل، المعنيين في الآية السابقة بقوله عز وجل «وملئهم» أي الملأ من بني إسرائيل أنفسهم، أن يفتنهم فرعون بسلطانه، أو يفتنهم بمن سلطهم عليهم من بني قومهم، [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/52] وكان شيخ هؤلاء الأشياخ قارون، الذي توجهت إليه الرسالة كما توجهت إلى فرعون وهامان. كان قارون أحد جناحي السلطة الغاشمة في مصر على عصر موسى ورمزًا من رموزها. إنه زعيم حزب الخونة العملاء، الذين مرقوا من دين الواحد الأحد، وخانوا قومهم ونافقوا السلطة، وجمعوا من هذا أكداسا من المال الحرام يكتنزونه، حتى إذا قيل له اتق الله، وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، وأحسن كما أحسن الله إليك، تبجح بقوله: {إنما أوتيته على علم عندي} (راجع الآيات 76 – 78 من سورة القصص). على هذا الوجه يفهم توجه موسى بالرسالة إلى قارون. فما بالُ هامان؟ لا يصح توجه موسى بالرسالة إلى «هامان» بالاسم إلى جوار فرعون، إلا إذا كان «هامان» يمثل قوة سياسية ما في نظام الحكم، أعني زعيم حزب مستقل عن سلطان فرعون، لا يملك له فرعون من أمره شيئًا: إنه السلطة الدينية التي اتكأ عليها ملوك مصر الأقدمين في تأصيل نظرية «التفويض الإلهي»، أي استمداد السلطة الزمنية الحاكمة سلطانها من الآلهة رأسًا، إما بإرجاع نسب الملك إلى تلك الآلهة نفسها، وإما بوحي «هبط» على الكهنة ينص على اختيار هذا الشخص أو ذاك ملكًا على مصر عينته الآلهة بالاسم. يتضح لك هذا من تلك الألقاب التي تسمى بها أولئك الملوك، من مثل «مري آمون» (لقب رمسيس الثاني) يعني «حبيب آمون»، أو «مي آمون» (لقب رمسيس الثاني أيضًا) يعني «الذي هو كأمون». بل «رعمسس» نفسها أي رمسيس، ومعناها كما علمت «ولد رع» أو «المولود من رع»، أي المولود من الإله رع، الشمس – الإله. وليس عمل الكهنوت في هذا النظام الملكي إفسادًا سياسيًا فحسب، بل هو قبلَ كل شيء تأصيل أخرق لعبادة آلهة من دون الله عز وجل، منها ما يمشي على الأرض مثل تلك الملوك، ومنها الكسيح حبيس الصخر والحجر. والرسل لا تبعث في الأساس إلا لتصحيح عقيدة الناس في الواحد الأحد، الفرد الصمد، المتفرد بالخلق والأمر، فتصح العقيدة، ومن ثم يصح العمل. ما كانت رسالة موسى لتتجه إلى «هامان» بجوار فرعون لو كان «هامان» فحسب وزيرًا لفرعون، أو كبيرًا في بلاطه، أو قائد جنده، يعمل بين يديه ويأتمر [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/53] بأمره، فما كانت الرسالات لتتخطى الرأس إلى الذنب. وإنما اتجهت الرسالة إلى «هامان» لأنه أحد قطبي السلطة في هذا النظام الملكي: إنه قضيب الكهانة، في مقابلة صولجان الملك. لا يصح توجه موسى بالرسالة إلى «هامان» بالاسم إلى جوار فرعون، إلا إذا كان «هامان» على عصر موسى هو نفسه «كبير كهنة آمون». كان عصر «إخناتون» كما رأيت من قبل انقلابًا على «كهنة آمون»، فجمع هذا الملك بين يديه لأول مرة في تاريخ مصر القديمة، السلطتين الزمنية والدينية معًا، أي بين الملك والكهانة. كاهنًا أوحد لآتون إله الكون. لم يكن هذا الملك الكاهن مفجر ثورة شعبية أطاحت بنفوذ الكهنة، وإنما كان سنده الأوحد في الانتقاض على آمون هو الجيش، الذي يدين في مصر أبد الدهر بالولاء والطاعة للجالس في دست الحكم، ابن إله نصبته الآلهة من قبل، وربما رفيق سلاح أو سليل رفقاء سلاح، فما كان الملوك في العالم القديم، وفي مصر بالذات، إلا قواد جيوش، لا حين يغتصبون السلطة فقط، بل وبعد ما يتوطد الملك لهم، ويستقر في سلالتهم. بل كثيرًا ما كان الملك على رأس جيشه في الحملات الكبرى والمعارك الفاصلة، مثلما رأيت في خروج فرعون على رأس جيشه يتعقب بني إسرائيل في فرارهم من مصر. ولكن إخناتون كان يحسن الكهانة ولا يحسن الملك: اكتفى بمعبوده آتون عما سواه، وأدار ظهره لشؤون الدولة وشؤون الجيش، فانفكت قبضة الدولة، وتشرذم الجيش. وفي هذا المُناخ التعس أطلت الفتنة برؤوسها: فلول كهنة آمون! لا يتربصون بإخناتون الدوائر فحسب، بل ويحيكون المؤامرات والدسائس للقضاء عليه وعلى فتنته، كي يستردوا سلطان الكهانة – وذهبها أيضًا – الذي سلبهم إياه إخناتون. ويموت إخناتون على الراجح صريع تلك المؤامرات والدسائس. كان المنتصر في هذا الصراع على السلطة هم «آمون» وكهنة آمون. فلا تعجب أن أعقبت «فتنة» إخناتون ومعبوده «آتون»، ردة عاتية إلى «آمون» وكهنة آمون، [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/54] الذين اتعظوا بهذا الدرس كما اتعظ به الملوك من بعد إخناتون. فقد أدرك طرفا المعادلة – القصر والكهنوت – أنه لا بقاء لأحدهما إلا بالآخر: ما كاد «توت عنخ آتون» وريث إخناتون المباشر، يعتلي العرش، حتى بدل اسمه إلى «توت عنخ آمون»، معلنًا ولاءه لآمون وانخلاعه من آتون. وصنع لآمون تمثالاً فخمًا من الذهب الجيد، يسترضي كهنة آمون ويعيدهم في مناصبهم، وضوعفت ثروات المعابد – أي جرايات الكهنوت – إلى ثلاثة أو أربعة أمثال ما كان لهم من فضة وذهب ولازورد وفيروز، وعاد الملوك رغم أنوفهم إلى حظيرة آمون، وانتظر الكهنة انتصارًا كاملاً، «وكان يوم تسليم توت عنخ آمون للكهنة بجميع مطالبهم هو بدء تسلط الكهنة على الدولة، ولم يسترجع الفراعنة سلطانهم القديم بعد ذلك اليوم». لم يفلت من هذا «الشرك في السلطة» حور محب الذي خلف توت عنخ آمون على العرش وكان همزة الوصل بين الأسرة الثامنة عشرة والأسرة التاسعة عشرة، أسرة الرعامسة الأولى التي يعنينا منها فرعون موسى (رمسيس الثاني كما نقول نحن). وما كان فرعون موسى بدعًا في هذا رغم عظيم سلطانه. كان الكهنوت في مصر سلطة فاعلةً داعمة، يزيد من قوتها وخطرها أنها سلطة غير مباشرة تستتر وراء فرعون، استند إليها هذا الطاغية في قولته: أنا ربكم الأعلى!. وربما وزر هذا الكهنوت لفرعون فشاركه السلطة خفية بالرأي والكيد والمشورة. بل قد كان لهذا الكهنوت جند وحرس. وكان له الإشراف على بناء النصب والمعابد، وعلى نحت النحوت ورسم النقوش، بل كان منهم المهندسون والكتبة. وكانت المعابد معاهد للعلوم مغلقة على أصحابها، يستأثرون بأسرارها وأصولها ودقائقها. فكانوا هم العلماء والسحرة. كان الكهنوت مؤسسة كاملة تصنع عقل الأمة، وخرافاتها أيضًا. هذا «الشرك في السلطة» يفسر لك قوله عز وجل: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/55] يحذرون} [القصص: 5 – 6]، حين جمع القرآن بين فرعون وهامان وأعوانهما وجنودهما في الحذر من موسى وقومه: خشى فرعون على صولجان الملك، وخشى هامان على سلطان الشرك وذهبه. وهو يفسر لك أيضًا قوله عز وجل: {فأرقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا} [القصص: 38]، فما كان بناء «الصرح» ليصح إلا بأمر تلك الكهنة وصنع أيديهم. وقد جمع القرآن حلف الشيطان، الكهنوت وفرعون، في سلة واحدة، تحت اسم آل فرعون، كما تجد في قوله عز وجل: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودها كانوا خاطئين} [القصص: 8]. لا تجد في التاريخ المصري القديم، ولا في أعلام هؤلاء المصريين أيضًا، شخصًا باسم «هامان» استوزر لفراعنة مصر، أو كان قائد جندهم، أو كبيرًا في بلاطهم، أو عظيمًا من عظماء كهنوتهم: ليس البتة فيما عرف من التاريخ المصري القديم «هامان». ولا تجد بالمثل فيما تقصه عليك أسفار التوراة التي بين يديك من حديث موسى وفرعون ذكرا لشخص «هامان» لا بالاسم ولا بالمنصب: كل ما في تلك التوراة هو فرعون فحسب في مواجهة موسى وهرون. ولكنك تكتشف في سفر «استير» الذي يقص عليك ما كان من أمر اليهود في القرن الخامس قبل الميلاد، عصر السبى تحت حكم الملك «أحشوروش Xerxes ملك فارس (486 – 465 ق.م)، أي بعد عصر موسى وهرون بسبعة قرون على الأقل، عَلَما يشبه «هامان»، يرسم في النص العبراني «هيمان» (مدًا بالكسر بعد الهاء) ويرسم في الترجمة العربية لهذا السفر «هامان» تمامًا كهامان الذي في القرآن، خلطًا بينه وبين «هامان» قرين فرعون في القرآن، على ما مر بك من خلطهم بين رسم «مريم» أم عيسى عليهما السلام في القرآن وبين «مريام» أخت موسى وهرون. وقد حار علماء التوراة في «هيمان» الذي في بلاط فارس، إذ لا يصح له اشتقاق في العبرية، فخمنوا [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/56] أن أصلها «مهيمان» حذفت الميم في أولها، لا تدري لماذا، واشتقوها من الجذر العبري «أمن» على معنى الصدق والأمانة الذي في قرينه العربي «أمن». وليس بشيء. وإنما الصواب أن يقال أن «هامان» المصري خرج شبحا من ضباب ذاكرة كتبة التوراة، فخلعوا اسمه على قرين له في بلاط فارس، لاتحاد الشخصين في الكيد لبني إسرائيل، على ما يقول هذا السفر من أن «هيمان» الذي في بلاط فارس كاد لليهود عند «احشوروش» ملك الفرس، يريد مهلكهم واستئصال شأفتهم، ولكن مردخاي العبراني كان قد دفع من قبل بابنة أخيه «استير» إلى أحضان الملك، فحظيت عنده، واستنقذت بني قومها، فصارت إلى اليوم قديسة عند اليهود، وبطلة من أبطال تاريخهم، يضرب بها المثل. وليس لهذا كله بالطبع علاقة بـ«هامان» قرين فرعون في القرآن، لبعد ما بين فارس ومصر، وما بين «احشوروش» ملك فارس وبين فرعون موسى وهرون. قد انفرد القرآن إذن بذكر «هامان» قرينًا لفرعون على غير سابقة في التوراة، ودون سند في التاريخ المصري القديم، أو بالأحرى فيما تكشف من تاريخ مصر القديم منذ أواسط القرن الماضي وحتى أواخر هذا القرن العشرين. وهذا في ذاته من إعجاز القرآن، لأن انفراده بذكر «هامان» قرينًا لفرعون دون سابقة في التوراة وأقاصيص أهل الكتاب، ودون نظير فيما عرف من تاريخ مصر القديم، يدلك على انفراد القرآن بالعلم المحيط، ويدلك على سفاهة القائلين بدعوى النقل والاستنساخ والتلقين، لأنه عَلِمَ ما لمي علمه الخلقُ أجمع عصرَ نزوله وإلى هذا العصر. ربما قال الجاحدُ المكابر: ولم لا تكون «هامان» من أفانين القرآن اخترعه اختراعًا، أو التقط «هيمان» الذي في بلاط فارس عصر السبى ورده إلى عصر موسى في مصر قرينًا لفرعون، على بون ما بينهما في الزمان والمكان؟ ولكنك تقول لهذا الجاحد المكابر وأمثاله من أدعياء الاستشراق المنكرين الوحي على القرآن – متسلحًا بما هدانا الله إليه في هذا الكتاب الذي نكتب – إن الذي انفرد وحده بعلم معنى «موسى»، «فرعون»، «مصر»، بلغة أهلها على عصر موسى [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/57] وهرون، مطلع القرن السابع لميلاد المسيح، وعَلِمَ من دقائق التاريخ السياسي في مصر القديمة ما يتيح له معرفة دور الكهنوت المصري في السلطة، فيتجه برسالة موسى إلى كبير هذا الكهنوت قرينًا لفرعون – الذي عَلِمَ هذا كله وقت أن كانت اللغة المصرية القديمة – وكان التاريخ المصري القديم – طلاسم مطلسمة، لا تستكثر عليه أن يسمى كبير هذا الكهنوت بالاسم، بل هذا هو الذي تتوقعه منه، فلا تملك إلا أن تؤمن عليه: كان القرآن شاهدًا، وكانوا هم الغائبين: {فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين} [الأعراف: 7]. ولعله يتكشف من تاريخ مصر القديم في مُقبلِ الأيام ما يُثبت وجود «هامان» كبير كهنة آمون قرينا لفرعون موسى. نرجو هذا لا لأنفسنا ولا للقرآن – فقد كفى القرآن ما فيه دلائل إعجازه في تفسير أعلامه المصرية القديمة التي يتناولها هذا الكتاب الذي نكتب – ولكننا نرجوه لهؤلاء الأدعياء المنكرين الوحي على القرآن. ليس شرطًا أن تكون «هامان» من أعلام الأشخاص في المصرية القديمة، بل قد تكون «هامان» لقبًا دالاً على المنصب، كما تلقب كبير كهنة «أون» (هليوبوليس) باسم «ور – ماءو» يعني «الرائي الأعظم». وقد تفكه بعض المستشرقين فقال إنه ليس بمستبعد أن يكون اسم «آمون» معبود المصريين قد وقع في سمع محمد صلى الله عليه وسلم وتحرف عليه إلى «هامان»، وظنه اسم رجل، فنحت منه اسما علما على شخص في بلاط فرعون. تفكه الرجل وهو لا يدري أنه بمقولته هذه يخدم القرآن في وجه من وجوه تفسير اسم «هامان». ذلك أن اسم هذا الإله «آمون» الذي ينطق بالواو بعد الميم في اصطلاحنا اليوم ليس هو كذلك في المصرية القديمة، التي يرسم فيها بأحرف هيروغليفية ثلاثة هي الهمزة والميم والنون، على ما مر بك من أن الخط الهيروغليفي لا يعبأ بإثبات حركات المد. وإنما اصطلح علماء تلك اللغة أول الأمر على نطقه «آمون» بالواو لا بالألف بعد الميم استئناسا برسمه اليوناني والقبطي المطابق لرسمه في التوراة «آمون». وهذا دليل آخر على أن أسفار موسى الخمسة لم تكتب على عصر موسى وهرون، وإنما كتبت بعد [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/58] عصر داود وسليمان، بعد قرون من عصر موسى وهرون، فتأثرت عبرية التوراة التي بين يديك، كما تأثر الرسم اليوناني، بالنطق القبطي عصر كتابة التوراة. والقبطية كما مر بك ليست حجة على صحة النطق المصري القديم في كل الأحوال، وإنما الحجة على صحة النطق المصري القديم هم معاصرو «فرعون موسى» في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، الذين خلفوا لنا في النص البابلي لمعاهدة أبرمت حوالي عام 1280 ق.م. بين خاتوسيلاس ملك خاتي (الحيثيين) وبين رمسيس الثاني ملك مصر، النطق الصحيح للفظة آمون التي في لقب رمسيس الثاني «مي – آمون» (أي الذي هو كأمون) فلم يكتبوها «مي – آمون» وإنما كتبوها «مي – آمان» مدًا بالألف، لا بالواو، على ما سمعوه بآذانهم من سفراء رمسيس الثاني إلى بلاط خاتي فقالوا في «رمسيس مي – آمون» (أي رمسيس الذي هو كآمون): رعمشيشا مي آمانا (شينوا كدأبهم السين التي في رعمسيس وختموا الاسمين بالألف أداة التعريف الآرامية كما مر بك) . وهذا دليل لغوي لا ينقض على أن صحة النطق المصري القديم لاسم هذا الإله «آمون» على عصر رمسيس الثاني هي «آمان» تمامًا كما في «هامان» المبدوءة بالهاء في القرآن. فكيف «تحرفت» آمون على القرآن الذي مدها على أصلها الهيروغليفي بالألف لا بالواو، فأصاب هو، وأخطأ كتبة التوراة، وعلماء المصريات الذين نطقوها مدًا بالواو؟ لماذا لم يقل «آمون» فيجانس بالواو بين القرناء الثلاثة: فرعون وهامان وقارون؟ [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/59] وما حاجته إلى إضافة الهاء في أول الاسم وقد سمعه كما يقولون مهموزًا؟ أليس الأقرب إلى الصواب أن تكون «هامان» التي في القرآن اسمًا مزجيًا من المصرية القديمة، يدل على منصب كبير كهنة آمون: «ها + آمان»؟ أما «آمان» فهي «آمون» الذي علمت، منطوقة على الوجه الصحيح في المصرية القديمة على عصر رمسيس الثاني كما وضح لك من نطقها في النص البابلي لتلك المعاهدة المبرمة بينه وبين ملك الحيثيين حوالي 1280 ق.م.، وأما «ها» التي ترسم في الخط الهيروغليفي (وهي الهاء) مزيدة بمميز معنوي غير منطوق هو (رمز البيت أو الدار «ﭘر») فقد توقف علماء المصريات في معناها، لا يجزمون، وإن كانوا يفترضون أن معناها «الحجرة» room، ربما استنادًا إلى شكل الحرف الذي يمثلها: (الهاء الهيروغليفية كما مر بك). وليس بقوي، أولاً لأن «الحجرة» في الهيروغليفية لها لفظها الأصيل وهو «عت»، لا «ها»، وثانيًا لأن الأقرب في الاستنباط من رسم الهاء الهيروغليفية أن تستنبط منه لا معنى الحجرة، وإنما معنى المدخل والمدلف، أي الباب، وهو «عا» في الهيروغليفية، والمبادلة بين العين والهاء في الساميات جميعًا – وليست الهيروغليفية عن هذا ببعيد – أمر مسلم به بين اللغويين، وثالثًا لأن الهاء في الساميات جميعًا – وليست المصرية القديمة عن هذا ببعيد – أصلها رسما ونطقا ومعنى «الكوة». أي الفتحة النافذة في الجدار يدخل منها الهواء والضوء، وقد بقى منها في العربية «الهو»، «الهوة»، بنفس المعنى. على هذا يكون معنى «ها + آمان» المصرية القديمة (هامان في القرآن) هو: النافذ إلى آمون، أو المدلف إلى آمون، أو كوة آمون «هو - آمون». وليس أليق من هذا لقبًا يتسمى به «كبير الكهنة». [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/60] أما الوجه الآخر في تفسير «هامان»، فهو أن تكون «هامان» في القرآن عربية. وردت على الترجمة لقبًا لكبير كهنة آمون، قرين فرعون في القرآن. وقد شاعت «هيمن» على عصرنا بمعنى القهر والغلبة والسيطرة، وليس بشيء، لأن هذه اللفظة لا تجد تأصيلها في العربية إلا من القرآن. بصيغة الفاعل فقط، وفي موضعين فحسب، الأولى اسمًا لله عز وجل: {الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن} [الحشر: 23]، والثانية وصفًا للقرآن: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} [المائدة: 48]. وقد استنبط البعض من هذا – على التخمين – أن «المهيمن» معناها «العالي المرتفع»، بينما قال آخرون إن معناها «الشاهد». وليس لهذا أصل في اللغة، وإنما الصحيح ما ذكره «الجوهري» وهو أن «هيمن» ليست من الرباعي المجرد، وإنما هي من الجذر الثلاثي «أمن» مزيدًا بهمزة التعدية، فيكون أصلها «أأمن» بهمزتين، انقلبت الثانية ياء «أيمن»، وأبدلت الأولى هاء «هيمن»، كما قالوا «هراق الماء» بمعنى أراقه. فالمهيمن أصلها «المؤامن»، فهو الأمين الحافظ المؤتمن. وهذا كما ترى يطابق تمامًا المعنى المقصود من «هيمنة» القرآن على الكتب السابقة، فهو الحفيظ عليها، الأمين المؤتمن على ما صح فيها. وهو أيضًا يناسب ورود وصف الله عز وجل باسم «المهيمن» في سورة الحشر بعد وصفه عز وجل باسمي «السلام» و«المؤمن» تباركت أسماؤه، فهو «السلام»، وهو «المؤمن» الذي يؤمن الخلق من الخوف، وهو «المهيمن» الذي «يأمنه» الخلق لأنه تبارك وتعالى الحفيظ الأمين المؤتمن. هذا هو المعنى الصحيح للفظة «هيمن» العربية، استطردنا بك إليه إرادة جلاء اللبس في خطأ شائع لا يكاد يبرأ منه في هذا العصر قلم، ولا يصح هذا في لغة القرآن، وفي الفهم الصحيح لمعاني القرآن، ودقائق القرآن. على أنك لا تستطيع اشتقاق اسم «هامان» قرين فرعون في القرآن من «هيمن» إن كانت «هامان» عربية، لامتناع اشتقاق «فعلال» من «افعل» (زنة «هيمن» التي أصلها أأمن كما مر بك): الجائز من «هيمن» هو «المهيمن» لا غير. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/61] أما الذي يصح، فهو أن تشتق «هامان» من «الهامة»، أي «الرأس»، على زنة «فعلان» من فعلة، كما قال العرب «كاذان»، يعني «عظيم الكاذة»، «والكاذة هي اللحم الذي على الفخذ. فيكون معنى «هامان» عربيًا هو «عظيم الهامة». ولا يقدح في هذا الذي نقوله أن: «هامان» على معنى «عظيم الهامة» لم تُسْمَع من العرب، وإنما المسموع من العرب على منى عظيم الهامة هو «الأهْوَم» فقط ذلك أن القرآن على ما مر بك من منهجنا في هذا الكتاب هو «صاحب اللغة»، ينحت من جذورها على أوزانها المسموعة ما شاء، كيفما شاء. بل في هذا كما مر بك إشارة إلى عجمة صاحب الاسم العلم. «عظيم الهامة» هي الوجه الوحيد الجائز في معنى «هامان»، إن كانت عربية، على الترجمة من المصرية القديمة. أما معنى «عظيم الهامة» في المصرية القديمة فهو «ور – تب» («ور» يعني كبير، «تب» يعني الرأس)، أو «ور – ضاضا» («ضاضا» مرادف «تب»). وقد مر بك أن كبير كهنة «أون» (هليوبوليس) تلقب باسم «ور – ماء و»، يعني «عظيم الرائين» أو «الرائي الأعظم». ولا يبعد أن يكون لقب كبير كهنة آمون على عصر فرعون موسى هو «ور – تب» أو «ور – ضاضا»، بمعنى «عظيم الهامة» أو «الرأس الأعظم»، جاء بها القرآن على «هامان»، أي «عظيم الهامة»، تفسيرًا بالترجمة لا بالتعريب. أما مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآيتين 6، 8 من سورة القصص)، فلم يتصدوا لاسم «هامان»، وما كان لهم أن يتكئوا في «هامان» المصري على أهل [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/62] الكتاب وقد سكتت عنه التوراة. ولكنهم قالوا إن «هامان» كان وزيرًا لفرعون من القِبْط، أي المصريين، على ما فهموه من دوره في بلاط فرعون. ولم يتساءلوا عن وجه اتجاه موسى بالرسالة إلى هامان بجوار «سيده» فرعون. وقالوا أيضًا إن «هامان» كان حازيا لفرعون، والحازي يعني «المُنَجّمِ». وهذا قريبٌ من عمل الكاهن «الرائي» الذي كَانَهُ «هامانُ» لفرعون على ما نقول نحن. ولم يتصد المفسرون أيضًا لعُجمة «هامان». وإنما مروا على اسمه مَرَّ الكرام، رغم أنه ممنوعُ من الصرف من كل القرآن، غير منون. والوجه في هذا أن «هامان» تُمنع من الصرف في كل الأحوال، عربية أو أعجمية: إن كانت أعجمية فللعجمة، وإن كانت عربية فلأنها مختومة بالألف والنون، على زنة «فَعلان» الممنوع من الصرف وجوبًا. لـ«هامان» كما رأيت في التفسير وجهان: التعريب أو الترجمة، معنيان كلاهما يغاير الآخر. إما أنها جاءت في القرآن على الترجمة من المصرية القديمة بمعنى «عظيم الهامة» أو «الرأس الأعظم»، استيحاشا لاستبقائها على أصلها «ور – تب» أو «ور – ضاضا»، والتفسير في القرآن بالترجمة يغني عن كل تفسير. وإما أنها جاءت في القرآن على التعريب من المصرية القديمة «ها + آمان» وهي بمعنى «النافذ إلى آمون»، أو «هو - آمون»، لقبا من المصرية القديمة دالاً على منصب كبير كهنة آمون. ولكن القرآن لا يفسرها في سياق الآيات التي تحدثت عن «هامان» خلافًا لمنهجنا في هذا الكتاب. ليس لدينا الدليل في هذا أو ذاك، لانعدام «النظير» الذي تُطابقه عليه لدى علماء المصريات أعني المدونَ من التاريخ المصري القديم، أو بالأحرى ما تكشف من التاريخ المصري القديم. ليس لديك فيما عُرِفُ من الأسماء والألقاب في المصرية القديمة «ها + آمان» أو «ور - تب» أو «ور - ضاضا»، ناهيك بتحديد شخص حامل هذا الاسم أو اللقب قرينًا لفرعون موسى الذي في القرآن وفي التوراة، وناهيك بمن هو «فرعون موسى» في التاريخ المصري القديم، «فرعون ذو الأوتاد» في القرآن – رمسيس [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/63] الثاني كما نقول نحن – ساحبُ «الأعمدة» في معبد الكرنك، «نِبْ – يُونيت» في المصرية القديمة. وحين ينعدم النظير المتفق عليه بإجماع في المصرية القديمة من علماء المصريات، يمتنعُ أيضًا القطعُ بمعنى «هامان» التي في القرآن، إلى أن ينكشف من أسرار التاريخ المصري القديم ما يدل عليه. ولكن القرآن الذي انفرد وحده بذكر «هامان» قرينا لفرعون موسى، على غير سابقة في التوراة، ودون سند من التاريخ المصري القديم، وما كان أغناهُ عنها، يتحدى بـ«هامان» هذا الأولين والآخرين: الأولين الذين جهلوا وجود قرين البتة لفرعون موسى، والآخرين – علماء المصرية القديمة والتاريخ المصري القديم – الذين لا يعلمون حتى الآن من قد كان «فرعون ذو الأوتاد» المعنى في القرآن ومكانه في سلسلة فراعين مصر، ولا يعلمون من ثم من قد كان «كبير الكهنة» على عصر فرعون المعنى. لو أن القرآن لا يعلم ما يقول، أو يقول ما لا يعلم، فكيف يجازف في غير ضرورة البتة بذكر قرين لفرعون موسى بالاسم، آمنا ألا تكشف الأيام زيفه بثبوت انعدام القرين، واختلاف المسمى؟ كيف ضمن في مطلع القرن السابع للميلاد وإلى هذا القرن العشرين أن يقف علماء المصريات حيارى أمام هذا التحدي؟ ليس الإعجاز فقط أن يتنبأ متنبئ فيصيب. ربما قلت صدف. الحادث في المستقبل لا يصح حتى يقع. ولكن الإعجاز الحق أن تتحدى سامعك بما كان، فلا يملك لك سامعك نفيًا أو إثباتًا. لا يفعل هذا إلا شاهد حافظ، انفرد بعلم كل الذي كان. وكفى بهذا إعجاز تنقطع دونه الرقاب). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 50-64] |
(34) قارون:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ((34) قارون عرجنا في تحليل اسم «هامان» على ذكر ما كان من شأن «قارون» الذي توجه موسى إليه بالرسالة قرينًا لفرعون وهامان. كان قارون كما مر بك، وكما نص عليه القرآن، رجلاً عبرانيًا من بني إسرائيل في مصر على عصر موسى، اتجه إليه موسى بالرسالة لأنه مَرَقَ من دين الواحد الأحد، شأنَ الملأ من بني إسرائيل من بعد يوسف ويعقوب الذين طلبوا الحظوة عند سادتهم المصريين، ثم رين على قلوبهم بذنبهم، فكانوا آباء الذين عبدوا العجل في التيه. ولكن قارون كذب موسى شأن سيده فرعون وكبير كهنته «هامان». والقرآن يقص عليك بإيجاز بليغ مستوف في سبع آيات من سورة القصص (76 – 82) كل ما كان من شأن قارون ومآله، فيقول: {إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال إنما أوتيته على علم عندي أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه وما كان من المنتصرين وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/65] ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون} [القصص: 76 – 82]. أثبتنا الآيات السبع برمتها هنا ولم نحلك إليها في مصحفك لأنها تغني عن كل قول: أخذ الله على قارون الكفر، وبطر النعمة، والاستكبار، والإفساد في الأرض، والاستعلاء على قومه بما آتاه الله من الكنوز، كما أخذ على قارون «بغيه على قومه»، وكانت القاصمة تبجحه بقوله: إنما أوتيته على علم عندي! وشاءت رحمة الله عز وجل ألا يفتتن بقارون الذين يريدون «الحياة الدنيا» فخسف الله به وبداره الأرض. أي خسف الله به وبما جمع. وأنت بالطبع لا تتصور أن قارون الذي يحدثك القرآن عنه قد كان مهلكه بتيه سيناء بعد إنجاء الله بني إسرائيل من قبضة فرعون. ولا تتصور أن يكون بغى قارون على قومه في تيه سيناء وقد عرى قارون من سلطان فرعون الذي يبطش قارون بيده. ولا تتصور أن يبغي قارون على قوم موسى وموسى في تيه سيناء بين ظهرانيهم حاكمًا محكمًا. ولا تتصور أن يجمع قارون كنوزه في صحراء جرداء كتيه سيناء، أو أن يخرج على قومه في زينته في صحراء كصحراء سيناء، ولا تتصور أي معنى لأن يخسف الله الأرض بدار لقارون في التيه، وما كانت دور بني إسرائيل في التيه إلا أخبية من الوَبَر على أحسنِ الفروض، لا يستقر بهم المقام إلا ليحملوا عصا الترحال. ولا تتصور أيضًا وبالأخص أن ينجي الله قارون مع موسى عبر البحر إلى سيناء، ولا يهلكه مع فرعون وهامان، كما لا تتصور أن تكون لقارون في مصر كنوز تنوء بمفاتحها العصبة أولو القوة، ثم يعبر بها قارون البحر مع موسى إلى سيناء في فرار بني إسرائيل من مصر. قال عز وجل في مهلك قارون: {وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} [العنكبوت: 38 – 40]. تجد في هذه الآيات النص [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/66] بالترتيب الزمني على مَهْلِكِ عادٍ وثمودَ وقارونَ وفرعونَ وهامان: كان بالحاصب مهلك عاد، وبالصيحة مهلك ثمود، وبالخسف مهلك قارون، ثم بالإغراق مهلك فرعون وهامان. فتستخلص من هذا جازمًا قاطعًا أن مهلك قارون بالخسف قد كان في مصر، سابقًا على مهلك فرعون وهامان في اليم غرقًا. وهذا شأن حكمته عز وجل: يقطع المنافق الذنب، لتتعظ به الرأس. ولكن فرعون وهامان لم يتعظا بقارون، فحق عليهما القول. قارونٌ الذي يحدثك عنه القرآن قد كان في مصر بغيه وماله، لا في تيه سيناء. ولم يلتفت إلى هذا المفسرون. تحدثك التوراة (الفصل 16 من سفر العدد) عن ثلة قوامها 250 رجلاً يتزعمهم رجي يدعى «قُوْرَح»، قاوموا موسى عليه السلام في التيه، أي تمردوا على رئاسته فنازعوه الانفرادَ بالتلقي من الله عز وجل واختصاصه نفسه وهرون بالكهانة. كما مر بك في ذلك السفر نفسه (عدد 12) من منازعة هرون ومريام أخاهما موسى. عندئذ سخط الرب على «قورح» وجماعته: «ففتحت الأرض فاها فابتلعتهم هم وبيوتهم وكل إنسان لقورح وجميع المال» (عدد 16/ 32). كان هذا في تيه سيناء كما يتضح لك من مجادلتهم موسى: «أقليل أنك أخرجتنا من أرض تدر لبنا وعسلا لتقتلنا في البرية حتى تترأس علينا ترؤسًا أيضًا!» (عدد 16/ 13). لم يكن الخسف بقورح الذي في التوراة في مصر بل في تيه سيناء. ولم يكن الخسف بقورح الذي في التوراة لأنه بَغَى على قومه، وإنما لأنه بَغَى على موسى فنازعه الرئاسة المستمدة من النبوة. ولم تكن لقورح الذي في التوراة كنوزٌ يختالُ بها على قومه، ولم تكن له ولجماعته دور مبنية يخسف بها. وإنما كانت لهم بيوت أخبية من الوَبَر: «فتباعدوا من حوالي مسكن قورح وداثان وأبيرام وخرج داثان وأبيرام ووقفا على أبواب خيامهما هما ونساؤهما وعيالهما» (عدد 16/ 27). لا مجال للمقارنة بين قورح الذي في التوراة وبين قارون في القرآن. ولكن مفسري القرآن (راجع تفسير القرطبي للآيات 76 وما بعدها من سورة القصص) تأثروا بهذا الذي قصصته عليك من سفر العدد، فقالوا إن قورح هذا الذي [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/67] في التوراة هو نفسه الذي في القرآن، استئناسًا بالتشابه بين لفظي «قورح»، «قارونج، وأيضًا – وبالأخص – بالتماثل في المآل، أي الخسفُ بقارون الذي في القرآن: {فخسفنا به وبداره الأرض} [القصص: 81]. وتلك واحدةٌ من الإسرائيليات في تفاسير القرآن. بل قد اتكأ على هذه التفاسير أدعياءُ الاستشراق المنكرون الوحي على القرآن، كدأبهم على الاستفادة من تلك التفاسير في النعي على القرآن، فقالوا إن محمدًا صلى الله عليه وسلم سمعها «قورح» فعربها على «قارون» على المجانسة من «هارون»، ثم نسج حوله تلك القصة عن ثراء قارون وكنوزه التي تنوء بمفاتحها العصبة أولو القوة، واستكباره على قومه، لا على موسى نفسه، ولكنه استبقى لقارون في القرآن المآل الذي لقيه قورح في التوراة: خَسْفُ الأرضِ به وبدارهِ. عليك إن كنت مسلمًا في هذا العصر الذي نعيشه، وقد أتيحت أسفار التوراة بالعربية للقارئ بتلك اللغة مسلما وغيرَ مسلم، أن تتوقف عند كل تفسير للقرآن يتأصل على شيء مما تقصه هذه التوراة التي بين يديك، تراجع النص التوراتي على النص القرآني، فتنقي هذه التفاسير – أيا كان قدر أصحابها – مما علق بها من شوائب تلك الإسرائيليات، لأن القرآن هو المهيمن على التوراة، لا العكس، والقرآن الذي يصدق ما صدق في التوراة، لا يكذب كل ما في التوراة، ولكنه يكذب فقط المكذوب على الله عز وجل وعلى التاريخ الصحيح مما دس على التوراة التي بين يديك، ويعفو عن كثير. ونحن لا نقصد من هذا إلى أن الخسف بقورح الذي في التوراة محض خيال ولكننا نقول إنها أهابيش اهتبشها الكاتب أو الناسخ من ضباب الذاكرة، كما اهتبش من قبل «هامان» المصري فجاء به بعد قرون من عصر موسى إلى بلاط فارس يكيد لبني إسرائيل. لا يصح للجاحد المكابر أن يقول العكس، أعني لا يصح أن القرآن هو الذي اهتبش «هيمان» الذي في بلاط فارس فجاء به إلى بلاط فرعون، أو أنه هو الذي اهتبش من سفر العدد «قورح» الذي ناوأ موسى في تيه سيناء فأعاده إلى مصر يناصر فرعون على موسى. لا يصح لأن القرآن في اعتقاد هذا المكابر لا ذاكرة له [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/68] يهتبش منها ويغترف كما يفعل كتبة التوراة ونساخها: كل ما لدى القرآن في اعتقاد هذا الجاحد هو أسفار التوراة وأقاصيص أهل الكتاب، بسطت أمامه، وأفرغت في أذنيه، لا علم له بشيء خارجها، فهو ينتقي منها ويختار. والذي ينتقي ويختار لا يقع في مثل هذا الخطأ المادي الفادح الذي ليس له فيه سند. إلا أن تقول إن القرآن يخترع قصصه اختراعًا، ويؤلف بينه تأليفًا. والذي يخترع القصص يخترع أيضًا أبطال أحداثه، ولا يلتقط نظائر لها في التوراة على خلاف في الزمان والمكان والأحداث، بل يبعد بنفسه عن هذا كل البعد، ويحترز منه أشد الاحتراز. وإلا فهو – على غير ضرورة البتة – يزج بنفسه في المزالق. لم يخترع القرآن قصة مهلك قارون بالخسف في مصر، ولكن كتبة التوراة الذين أنسوا الذي كان – وهم يكتبون أسفارهم في أعقاب عصر داود وسليمان – أسقطوا مصير قارون في مصر على نظير له في تيه سيناء، تغليظًا لمصير أولئك الذين تجرءوا على موسى فنازعوه الكهنوت في التيه. وفات الكاتب وهو في سورة غضبه من قورح وجماعته أن الله عز وجل لا يخسف بالمتطاولين على أنبيائه – إن صح قوله في قصة «قورح» - فيهلك معهم الحرث والنسل دون ذنب جنوه، بل ويهلك أيضًا جماعة بني إسرائيل كلهم عدا موسى وهرون، حين تذمر بنو إسرائيل على موسى بسبب مهلك قورح وجماعته، فيفنيهم جميعًا في لحظة، لولا أن هرون قدم البخور وكفر عن العشب، ووقف موسى بين الموتى والأحياء فكفت الضربة وكانت قد بدأت بالفعل، فكان عدد الذين ماتوا بالضربة أربعة عشر ألفًا وسبعمائة خلا من مات بسبب قورح (راجع سفر العدد/ 41 – 50). قارن ذنب قورح الذي في التوراة بذنب قارون الذي في القرآن. وقارن بين مهلك قورح وهذا العدد الضخم من بني إسرائيل بسبب قورح، وبين قارون الذي لم ينازع موسى الكهنوت شأن قورح الذي في التوراة، وإنما كفر بموسى أصلاً وبمن أرسله، وكفر بأنعم الله عليه متبجحا بقولته: إنما أوتيته على علم عندي! واستذل قومه في مصر وكان سوط عذاب لفرعون عليهم، فلم يخسف الله الأرض إلا به وحده وبداره: {فخسفنا به وبداره الأرض} [القصص: 81]، ورحم الذين كانوا يتمنون مكانه بالأمس، فقالوا: {لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون}[القصص: 82]. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/69] قارن أنت بين هذين السردين، الذي في التوراة والذي في القرآن، وتأمل أي السردين أحق بالتصديق والاتباع. والذي يجب أن تندهش له أن كتبة التوراة (خروج 1) الذين لم يفتهم أن يسموا بالاسم تلكما القابلتين العبرانيتين «شفرة وفوعة» اللتين أمرهما فرعون بقتل مواليد بني إسرائيل الذكور واستحياء مواليدهم الإناث، فخافتا الله كما يقول الكاتب، لم يسموا أحد من «مدبري بني إسرائيل ومسخريهم» الذين سلطهم فرعون عليهم من أنفسهم (خروج 5) فلم يتحدثوا قط عن «قارون» وأشباه قارون، وكأنما ذاكرتهم «الحديدية» التي لم يفتها تسمية من خرجوا مع موسى من مصر، انطمست فجأة، فلم تستذكر أحدًا من أولئك الخونة، عملاء فرعون عليهم، ناهيك برأس الكفر والبغي «قارون». والوجه في هذا، أن القابلتين «شفرة وفوعة» خافتا الله، فسجل لهما الكاتب هذا الشرف في أجيال نسلهما. أما أولئك «المدبرون المسخرون» فهم عار وشنار. بل ربما قد كان منهم من تاب من بعد وأناب فشرف بصحبة موسى في عبور البحر إلى سيناء، فتكتم الكاتب عنه عار ما قد سلف. بل قد كان منهم على وجه القطع والبقين من هلك في مصر على كفره مثل «قارون» وأشباه قارون، فحرص الكاتب أن يعمي أمره – خشية أن يكون في أشراف بني إسرائيل عصر كتابة الكاتب ما كتب من ينتسبون إليه – فأسقط من سجله أسماء هؤلاء المدبرين المسخرين جميعًا، لا يسمى بعضًا دون بعض فيقع في المحظور دون أن يدري. تكتمت التوراة إذن ما قد كان من شأن «قارون» في مصر ولم تسمه، وانفرد به القرآن. والقرآن ينص على أن «قارون» هذا كان رجلاً عبرانيًا: {إن قارون كان من قوم موسى} [القصص: 76] ومن ثم تقطع بأن هذا الاسم «قارون» اسم عبراني. ولكنك لا تقع قط في أعلام العبرانيين منذ وجدوا وإلى يومنا هذا على شخص واحد [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/70] تسمى بالاسم «قارون»، وكأنهم يتحاشون التسمية به. ولكن اللغة العبرية لا تخلو من اللفظ «قارون» على الصفة، زنة المفعول عبريًا من الجذر العبراني «قرن» بمعنى أنار وأضاء وأشع، فهو الأنور المنور، ومن طريف ما يذكره القرطبي في تفسيره الآيات 76 وما بعدها من سورة القصص أن «قارون» كانت كنيته في قومه «المنور» لوضاءته وجماله، دون أن يفطن بالطبع إلى أن «المنور» هذه هي نفسها «قارون» عبريًا. والذي نقطع به نحن أن القرطب ينقل هذا عن بعض رواة أهل الكتاب من اليهود، الذين ترجموا «قارون» التي في القرآن إلى معناها العبري «المنور»، يفتعلون العلم المسبق بما ذكره القرآن ولم تذكره التوراة، أو «يجاملون» بها مفسري القرآن، تبريرًا لمجيء القرآن بالاسم «قورح» الذي في التوراة على لفظ مغاير، هو «قارون». والذي لا تستطيع أن تعفى مفسري القرآن منه، هو انسياقهم إلى القول بأن «قارون» التي في القرآن هي تعريب للاسم «قورح» الذي في التوراة. فلا يصح هذا عربيًا بوجه، لإبدال النون من الحاء: لو أراد القرآن تعريب «قورح» لنطقها «قورح» بفتح القاف زنة «هودج، أو لقال «قرح» زنة «عمر»، أو لقال «قاروح» زنة «قاموس»، ولما قال البتة «قارون» بالنون. وإنما انساق المفسرون إلى هذا، لانزلاقهم بتأثير رواتهم من أهل الكتاب إلى القول بأن «قارون» المخسوف به في مصر هو نفسه «قورح» المخسوف به في التيه – ولا يصح هذا البتة كما مر بك – لأنهم لم يفطنوا إلى وجه العلة في توجه موسى بالرسالة إلى فرعون وهامان وقارون جميعًا، وقد مر بك. ولا يصح أيضًا القول بأن قارون التي في القرآن هي ترجمة عربية للاسم العبري قورح الذي في التوراة. فالاسم العبراني معناه الأقرع، أصلع الرأس، ولا صلة البتة بين قارون – إن أردتها عربية – وبين معنى القرع والصلع الذي في قورح العبري. ولا يصح كذلك القول بأن «قارون» كنية عربية كنى بها القرآن عن «قورح»، لا يترجم بها اسمه وإنما وصفًا له بما شهر به وتحدث به القرآن وهو «جمعه» الأموال والكنوز، أعني «فاعول» على المبالغة من «قرى» العربي بمعنى «جمع»، فلا يصح البتة اشتقاق قارون من قرى، وإنما الذي يصح من قرى على المبالغة هو «قاروء» بالهمزة لا «قارون» بالنون، ,إن لم تسمع «قاروء» من العرب. أما «قارون» على «فاعول» من «قَرَنَ» - وإن لم تسمع من العرب أيضًا – فمعناها القارن بين الشيئين، لا مطلق الجمع. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/71] ولأن كتبة التوراة جهلوا ما كان من أمر قارون في مصر أو أنسوه أو تكتموه، بل وجهلوا أو تكتموا وجود علم عبراني البتة بلفظ «قارون»، فأنت تنحي علماء العبرية وعلماء التوراة عن تفسير معنى هذا الاسم «قارون»، وتلتمس تفسيره من القرآن على منهجنا في هذا الكتاب، لأن القرآن هو صاحب هذا الاسم، الذي أتى به على غير مثال في العبرية أو نظير في أعلام بني إسرائيل، وهو أيضًا الراوي قصته وما كان من شأنه وما آل إليه. قال عز وجل يفسر الاسم العبراني قارون بالتصوير: {إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة} [القصص: 76]. هذه الصورة البليغة المعجزة تدلك على أن «قارون» هو الموقر المثقل غنى. وفي المعجم العبري أن «يقر» (وهو من «وقر» العربي) يفيد معاني الثقل والعظمة والمال (وهذا قريب من معاني «وقر» العربي، فالوقر يعني الحمل الثقيل، والوقار من معانيه العظمة، والقرة من معانيها المال، كما تقرأ في معجمك العربي) وقد جمع هذا كله «قارون» الذي في القرآن. أما كيف تجيء «قارون» التي في القرآن من «يقر» العبري، فهي تجيء في العبرية على المزيد بالواو والنون، فتصبح «يقرون»، كما جاءت «يشرون» العبرية من «يشر» أي السواء والاستقامة، فهو السوي المستقيم، ثم تحذف الياء البادئة من «يقرون» استخفافًا، فتؤول إلى «قارون» الواقر الموقر، كما آلت من قبل في العبرية «يشرون» إلى «شارون». تُرى أكان القرآن – وهو يخترع «قارون» بزعمهم – يستطيع أن ينحت من العبرية هذا الاسم «قارون» من «يقر» العبري إن لم يكن القرآن أفقه بالعبرية من أهلها ومعاصريه من أهل الكتاب الذين اعتجمت عليهم فظنوها «الأنور المنور» كما يروي القرطبي على التفسير السهل المباشر من «قرن» العبري بمعنى أضاء وأشع؟ ألا فسبح معي العليم الخبير، الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/72] ومن طريف ما يذكر في هذا السياق أن أهل الكتاب – الذين لم يعلموا بقارون إلا من القرآن وحده – يتخذون من قارون هذا مثلاً على الغنى المفرط، فيقولون بالعبرية «عشير كقورح» يعني «غنيٌ مثل قورح»، ينسقون على قول الأوروبيين بالفرنسية مثلاً riche comme Cresus يريدون ملك ليديا في آسيا الصغرى في القرن السادس قبل الميلاد الذي اشتهر بفرط غناه. ولم تصف التوراة قورح الذي في التيه بالغنى والثراء، وإنما وصفته بالعصيان والمروق، وما كان لإسرائيلي في التيه مهما بلغ غناه أن يقارن بغنى كرسوس ملك ليديا، بل ما كان ذهب الإسرائيليين جميعًا ليتجاوز وزن ذلك العجل من ذهب الذي حرقه موسى ونسفه في اليم نسفا. ولا يصل هذا إلى عُشرِ معشار ما كان لملك ليديا فيما تروى الأساطير. وإنما نسقت العبرية في هذا على قارون الذي في القرآن، الذي أوتي من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة. وهم هنا أيضًا يوحدون ما بين «قورح»، «قارون»، يجعلون منهما نفس الشخص على اختلاف الزمان والمكان. وقد أدى هذا أيضًا ببعض الأدعياء إلى القول بأن القرآن يعرب «كرسوس» اليوناني على قارون، وينقله من ليديا إلى مصر، على بعد ما بين آسيا الصغرى ومصر، وما بين القرن السادس قبل الميلاد الذي عاشه «كرسوس» اليوناني والقرن الثالث عشر قبل الميلاد الذي عاشه فرعون موسى. ولكن كيف تجيء «قارون» من «كرسوس»؟ كان أولى بالقرآن أن يقول «قاروس»، لن السين الأولى التي في «كرسوس» اليونانية سين أصلية لا يجوز حذفها أما السين الثانية فهي حركة «إعراب» للرفع في اليونانية تحل محلها النون في النصب فتقول «كرسون». هذا وذاك يدلك على الخلط والتخبط، وهو أمر بئيس لا يلتفت إليه، ولكننا دللناك عليه كي تأمن الوقوع فيه). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 65-73] |
(35) مصر:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (35) مصر «مصر»، هذا الاسم الجغرافي العلم، اسم عربي ليست فيه شبهة عجمة. ولا يقدح في هذا أنه اسم ممنوع من الصرف غير منون، لأن «مصر» علم مؤنث، والعلمية مع التأنيث تمنع من الصرف وجوبًا، عربيًا كان الاسم أم غير عربي. وفي معجمك العربي «مصر» أخرى تقبل الألف واللام، كما تقل التنكير والإضافة، وتقبل الإفراد والتثنية والجمع، أعني «المصر» بمعنى البلد أو القطر، وتجمع على أمصار، وليست هذه كتلك، لأن المصرَ اسمٌ معنويٌ مذكر، ليس بِعَلَم. أما «مصرُ» الاسم الجغرافي العلم، أعني هذه الأرض التي نعيش عليها أنا وأنت، فليس معناها عربيًا البلد أو القطر، وإنما معناها «الحائل»، أي الحاجز بين الشيئين، أو بين الأرضين، يمنعك من اختراقه أو النفاذ منه، ولفظه في العربية «ماصر» على الفاعلية، وأيضًا «مِصْر»، وفي العبرية «مَصُور» وأيضًا «مِصِر» بكسرتين (راجع في معجمك العربي الجذر «مَصَر» المشترك على هذا المعنى بين العربية والعبرية). ولكن «مصر» تجيء أيضًا في العبرية بصيغة المصنى «مِصْرَيم»، وليس هذا على إرادة التثنية، إنما هو للتعظيم، كما يعرف حذاق اللغة العبرية التي تقول «إلوهيم» جمع «إله» على التعظيم تريد الواحد الأحد. وربما أيضًا على المجانسة مع «تَاوى» اسم مصر بلغة أهلها المصرية القديمة «الهيروغليفية»، يعني «الأرضان» على التعظيم لا التثنية. كانت هيبةٌ مصرَ في صدور جيرانها منذ فجر التاريخ تصورها لهم سدًا منيعًا، تعلموا بالتجربة أنهم ما انتطحوه إلا وتحطمت عليه قرونهم، فلم يجدوا لمصر أليق من هذا الاسم «مصر» يسمونها به. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/74] ولكن مصر سفهت من بعد فترفهت ولانت، وتهاونَت فهانت. ومع ذلك فقد بقى لها حقها في هذا الاسم بالتقادم: ذهبت الهيبةُ وبقيت مصر، لا يعرف أهلها اليوم لاسمها هذا مبنى أو معنى، لا من العربية ولا من العبرية، ولا من المصرية القديمة أيضًا. لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وسبحان مقلب القلوب والأحوال والزمان. فاللهم بجاهك وجاه نبيك اردد علينا ما فرطنا في جنب أنفسنا: اردد علينا إسلامنا، واردد علينا قرآننا، وتب علينا، إنا هُدْنا إليك. أما Egypt 0إيجيبت) اسم مصر الشائع الآن في كل اللغات تقريبًا عدا العربية والعبرية، فهو مأخوذ من «إغيبتوس» Aigyptos اليونانية (السين الخاتمة للرفع)، اسم مصر عند اليونان. وقد تخبط الباحثون في تفسيره فقيل إنه متحور عن Gbtiw (جبتيو) المصرية القديمة يعني «قفط» (مدينة في صعيد مصر). وليس بشيء، فلا معنى لأن يتخذ اليونان من مدينة فقط عَلَما على مصر كلها، ولا معنى أيضًا لأن يتأنوا في تسمية مصر وقد جاءوا من شماليها حتى ينتهي بهم التجوال إلى صعيد مصر. والراجح عندي ولم يقل به بعد أحد – فهو من الجديد الذي من الله علينا به – أن اليونان نحتوا Aigyptos هذه من لفظة agapytos وهو اسم المفعول في اليونانية من agapo يعني «أحب» على الترجمة من المصرية القديمة «تا – مري» يعني أرض المحبوب، أو أرض الأحبة، أو الأرض التي تحب، وهو واحد من أسماء «مصر» بلغة أهلها كما سترى. كيفما كان الأمر، فقد تحولت «إغيبتوس» اليونانية هذه في اللغة القبطية إلى «جبتو»، وعن «جبتو» القبطية هذه قال العرب: «القبط»ن يعنون المصريين أجمع، لا نصارى مصر فحسب كما شاعت الآن، وكما يظن الذين لا يعلمون. وهو خطأ لغوي بين، لأن «القبط» على هذه الأرض التي نعيش عليها أنا وأنت اسبق تاريخًا من مبعث المسيح عليه السلام، ناهيك باعتناق «القبط» المسيحية يوم اعتنقوها. وهم أيضًا أسبقُ وجودًا على هذه الأرض من مجيء الإسلام ودخول أكثريتهم الكاثرة في دين الله أفواجًا. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/75] لم يسم المصريون بلدهم باسم «مصر» العربي العبراني على معنى الحائل أو الحاجز كما أسماها بلغاتهم جيران مصر في الشرق، هيبةً ويأسًا وتعظيمًا، فقد من الله على هؤلاء المصريين في غابر الدهر بالطمأنينة في بلادهم، لا يهابون أحدًا من وراء هذا الحائل أو الحاجز، بل قل لا يهتمون لشيء من أمر الذين هم من وراء هذا الحائل أو الحاجز. كان لديهم قدر من «الاكتفاء بالذات» تغبطهم عليه كل شعوب العالم القديم، فانكفؤوا على أنفسهم يحرثون ويزرعون، ويغزلون وينسجون، ثم يجدون من بعد هذا كله وفرة من الوقت يصنعون فيه أصول الحضارة والفن لكل البشر. هذا الاكتفاء بالذات، والانكفاء على النفس، أورثا المصريين من قديم أنفة واعتزازا، وربما أيضًا عجبًا وخيلاء، والتصاقًا بالأرض، حتى ملئت صدورهم ببلدهم هذا عشقا، فقروا في «أرضهم» لا يبغون عنها حولا، وغيرهم الذاهب الجائي. كانت حياتهم الأرض والنهر، فكانت مصر عندهم في لغتهم هي «الأرض» (تا) لا أرض غيرها من بعدها، وكان اسم النيل عندهم بلغتهم هو «النهر» (إِترو)، لا نهرَ في الأرض من دونه. ومن الأرض والنهر اشتق المصريون الأقدمون اسم «مصر» بلغتهم هم فقالوا: (1) «إدبوى» مثنى «إدب» يعني «الضفة» فهي الضفتان، يعنون على الراجح جانبي الوادي. (2) «تاوى» مثنى «تا» يعني الأرض، فهي «الأرضان»، ومنه «نب – تاوى» أي سيد الأرضين يعني «ملك مصر»، في مقابلة «نب – ضار» أي رب الكون. والراجح أن التثنية في «الأرضين» هي على التعظيم، وليست على الجمع بين الوجهين البحري والقبلي. (3) «تا – مري»، يعني «أرض المحبوب» أو «أرض الأحبة» أو «الأرض التي تحب» (4) «تا - كمت»، أو «كمت» فقط اختصارًا، واصل «تا – كمت» هو «الأرض السوداء»، والسواد هنا على معنى الخضرة الضاربة إلى السواد، يعني الزروع، في مقابل «تا - دشرت» (الأرض الحمراء) يعني الصحراء، ومصر كما تعلم جزيرة وسط رمال يضرب لونها إلى الحمرة، كما قال [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/76] العرب «سواد العراق»، في مقابل باديته. وقد شاع من هذه الأسماء «تاوى»، تا - مري، «تا – كمت» أو «كمت» اختصارا. «مصر» عند أهلها كما رأيت بلغتهم هم هي الأرض، وإن تعددت النعوت. وقد «علم» القرآن هذا قبل أن يعلمه أحد من الخلق أجمعين عصر نزوله وإلى هذا العصر، فجاءت «مصر» في عدة مواضع من القرآن باسم الأرض كما سترى، وسبحان علام الغيوب. وهذا من أبين إعجازات القرآن التي تتناولها مباحث هذا الكتاب الذي نكتب. وردت «مصر» في كل القرآن خمس مرات، جاء الاسم في أربع منها ممنوعا من الصرف، غير منون: {وأحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا} [يونس: 87]، {وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه} [يوسف: 21]، {وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} [يوسف: 99]، {ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي}؟ [الزخرف: 51]، أما المرة الخامسة فقد ورد فيها الاسم مصروفا، منونا بالألف نصبا، وهي: {وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم} [البقرة: 61] على خلاف بين مفسري القرآن في أن «مصرا» في هذه الآية من سورة البقرة ليست هي مصر البلد المعروف، وإنما هي بمعنى «المصر» مفرد أمصار، أي اهبطوا من تيه سيناء إلى بلد من تلك البلدان التي تنبت أرضها من الزروع ما اشتهيتموه، فيكون لكم فيه ما سألتم، لا مصر بالذات على وجه التحديد، إذ كيف يؤمرون بالعودة إلى مصر وقد أنجاهم الله منها؟ استند القائل بهذا إلى أن «مصرا» هذه التي جاءت مصروفة في هذه المرة الخامسة، منونة بالألف نصبا، على خلاف المرات الأخرى، ليست هي مصر العلم المؤنث الممنوع من الصرف وجوبا، وإنما اسم معنوي مشترك ينطبق على «أي» بلد أو [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/77] قطر. وفات هذا المفسر وأضرابه أن هذا ليس بدليل لأن ما كان من العلم المؤنث على زنة «هند» أو «مصر» يجوز فيه الصرف لخفته، وقد جاء بها القرآن على الوجهين. وإن كان الأشهر في «مصر» هو المنع من الصرف. وفاته أيضًا أن المصر والأمصار ليست من ألفاظ القرآن، وإنما نحتت في العربية بعد نزوله، عصر الفتوح وتقطيع «الأمصار» أو «تمصير» الأمصار، أي تخطيط المدن الجديدة في البلدان المفتوحة. وفاته أخيرًا – بل قل فاته أولاً – أن عبارة «فإن لكم ما سألتم» ليست من الله عز وجل على الاستجابة، فلم يهبط موسى ببني إسرائيل من التيه لا إلى مصر من الأمصار ولا إلى «مصر» نفسها التي خرجوا منها فرارًا بأنفسهم، بل قد مات هؤلاء العصاة في التيه، لم يخرجوا إلى غ يره، بل ومات فيه موسى أيضًا. وإنما العبارة هي من الله عز وجل على التقريع، أي: أتطلبون الدنية وقد أكرمكم الله بإنجائكم من فرعون، وأنزل عليكم المن والسلوى، وفجر لكم الماء من الصخر عيونا، تريدون البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل مما كنتم تأكلون في مصر؟ عودوا إلى مصر وفرعون إذن! أي عودوا إلى ما كنتم فيه صاغرين أذلة، قد أذلتكم بطونكم، وليتشف منكم المصريون اشتفاء. وردت «مصر» إذن بهذا اللفظ خمس مرات في كل القرآن. وليس في أي منها كما رأيت تفسيرٌ لمعنى لفظة «مصر» على منهجنا في هذا الكتاب. ولكن القرآن المعجز يفسر اسم مصر على الترجمة من المصرية القديمة في أكثر من موضع، أي بلفظة «الأرض» التي في «تاوى»، «تا – مري»، «تا – كمت»، على الإبدال من «مصر» العربية العبرانية. يفعل القرآن هذا عامدًا متعمدًا، إدلالا بعلمه وإعجازه، ما أن تعلم أن «مصر» بلغة أهلها اسمها «الأرض»، وتضع «مصر» موضع «الأرض» في الآيات التي سأنتقيها لك توًا، حتى يستقيم لك معنى الآية على الوجه الصحيح، الذي لات ملك أن تعدل به غيره. وسبحان العليم الخبير، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم. وردت مادة «الأرض» في كل القرآن 359 مرة، تلمح في بعضها اسم «مصر» وراء لفظة «الأرض» التي في الآية، أترك لك استقصاءها في مصحفك، [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/78] ولكني سأدلك على أحد عشر موضعا في القرآن – غير مستقص – فيها الدليل القاطع على أن «الأرض» التي في الآية إنما يقصد بها اسم «مصر» صريحًا، وهي: أولاً: ثلاثة مواضع في قصة «يوسف»: {فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين} [يوسف: 80]، قالها رأوبين بكر يعقوب حين استيأسوا من يوسف أن يرد إليهم أخاهم بنيامين الذي احتبسه يوسف معه في مصر بتهمة سرقة صواع الملك، أو يأخذ أحدهم مكانه. وكان يعقوب حين أذن لهم في اصطحاب بنيامين في سفرتهم الثانية إلى مصر يمتارون لأهليهم قد خشى على بنيامين من إخوته أن يفرطوا فيه مثلما فرطوا من قبل في يوسف، فأخذ عليهم موثقًا من الله ليأتنه به إلا أن يحاط بهم (راجع يوسف: 66)، وتحدثك التوراة (تكوين: 37 – 38) بأن رأوبين تعهد لأبيه بسلامة بنيامين وقال له: أقتل ابني إن لم أرده إليك. خشى أن يعود إلى أبيه في فلسطين بغير بنيامين، فأقسم ألا يغادر «مصر» حتى يأذن له أبوه، أو يحكم الله له. ترى هل تستطيع إلا أن تضع «مصر» موضع «الأرض» في عبارة رأوبين: «لن أبرح الأرض»؟. {وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} [يوسف: 54 – 55]، وأنت تعلم بالطبع أن ليس للأرض خزائن، وإنما الخزائن التي أقام عليها يوسف هي خزائن مصر. «الأرض» في هذه الآية يعني «مصر»، لا مجال للقول بغيره متى علمت أن مصر بلغة أهلها اسمها «الأرض». {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين} [يوسف: 56]. لا تستطيع أن تقول أن الله عز وجل مكن ليوسف في مطلق الأرض، بل مكن له في مصر، يتبوأ من مصر حيث يشاء. «الأرض» في هذه الآية هي «مصر» بلا جدال. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/79] ثانيًا: ثمانيةُ مواضع في قصة «موسى»: {وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون} [الأعراف: 127]، والفساد في هذه الآية بمعنى الخلل والاضطراب في قولهم «ويذرك وآلهتك»، أي أن المخشى من موسى وقومه هو أن يفسدوا الرعية على فرعون وكهنة فرعون بإثارة الشك في عباداتهم. وليس الفساد المقصود هو «العتو» فما كان بنو إسرائيل ليستطيعوه في مصر، بدلالة قول «فرعون»: «إنا فوقهم قاهرون» أي هم أذل من أن يستطيعوا له شيئًا. «الفساد» هنا هو «إفساد مصر على فرعونها وعلى آلهته «الأرض» هنا يعني «مصر». {قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين} [يونس: 78]، لم يستنكر آل فرعون أنت كون لموسى وهرون الكبرياء في مطلق الأرض بالطبع، وإنما خشوا على الكبرياء التي لآل فرعون أن تؤول إلى موسى وهرون. الأرض في هذه الآية يعني مصر، لا يصح القول بغيره. {فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا} [الإسراء: 103]، أي أراد فرعون أن يستفز بني إسرائيل من مصر، لا من مطلق الأرض. الأرض هنا يعني مصر. {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا}[القصص: 4]، الأرض هنا تعني مصر بالاسم، لا يصح لك القول بغيره. بل في هذه الآية الدليل الحاسم على أن القرآن يعلم يقينًا أن «الأرض» اسم من أسماء مصر بلغة أهلها، وعلى أنه يستخدم «الأرض» في موضع «مصر»، وإلا لألزمك فقه اللغة العربية أن تفهم عبارة «وجعل أهلها شيعا» بأنها تعني «وجعل أهل الأرض شيعا» لعودة الضمير الذي في «أهلها» على لفظة «الأرض» التي قبلها. وليس هو مقصود الآية، وإنما مقصودها «إن فرعون علا في مصر وجعل أهل مصر شيعا» . الأرض في هذه الآية اسم لمصر بلا جدال. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/80] {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين} [القصص: 5]، أي أن نمن على بني إسرائيل الذين استضعفوا في «مصر» لا في مطلق الأرض. الأرض هنا اسم لمصر. {ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} [القصص: 6]، أي نمكن لبني إسرائيل في مصر، لا في مطلق الأرض، بدليل قوله آنفًا: «ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون»، كل هذا في مصر نفسها. الأرض هنا أيضًا اسم لمصر. {وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد} [غافر: 26]، شاور فرعون ملأه في قتل موسى، خشية الفتنة في الدين الذي يسوسون به الدهماء، فيختل نظام الملك، وهو معنى قوله: «أو يظهر في الأرض الفساد»، أي يشيع في مصر الخلل والاضطراب. الأرض هنا اسم لمصر. {يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من باس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} [غافر: 29]، استمر الحوار بين فرعون وملئه، وانبرى لجدال فرعون ومقالته ذلك الرجل المؤمن من آل فرعون الذي شُهِرَ بين المفسرين باسم «مؤمن غافر»، أي المؤمن الذي في سورة غافر، فخوفهم بسوء المآل وضياع الملك، وحذرهم الافتتان بما هم فيه: لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض، أي في مصر، فلم «يظهروا» في غيرها. الأرض هنا أيضًا اسم لمصر «تا – مري»، لا يصح القول بغيره. ليس فيما مر بك مصادفات كما ترى، بل هو قصد مقصود. على أن القرآن المعجز لا يدعك تمضي دون أن ينص تنصيصًا في الآية 61 من سورة البقرة على أن «الأرض» = «مصر» في سياق الحديث عن الذين لم يصبروا في التيه على طعامٍ واحد، فطلبوا من موسى أن يدعو لهم ربه: {فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض}، فاستدرك عليهم موسى: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصر فإن لكم ما سألتم} [البقرة: 61]. الأرض في أول الآية اسم مصر بلغة أهلها («تاوى» أو «تا – مري» أو «تا – كمت») مترجمًا، ثم [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/81] معقبًا عليه في آخر الآية باسمها العربي الصريح: اهبطوا مصران أي إن أردتم ما تنبت مصر فاهبطوا مصرا، لا يصح أن يقال أن «الأرض» في الآية هي على أصلها بمعنى «التربة»، فلم يرد بنو إسرائيل أي بقل وقثاء وفوم وعدس وبصل، وإنما أرادوا ما تنبت «مصر» من هذا الذي أكلوه في مصر واعتادوه، وإلا لكانت عبارة «مما تنبت الأرض» حشوًا يغنيك عنه قولك: فادع لنا ربك يخرج لنا البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل. لفظة «الأرض» حين يُراد منها «مصر»، هي ترجمة من القرآن المعجز لمعنى اسم مصر بلغة أهلها على عصر موسى: «الأرضان» (تاوى)، أو «أرض الأحبة» أو «الأرض التي تحب» (تا – مري)، أو «الأرض السواد» التي تنبت الزرع «تا – كمت). وسبحان العليم الخبير). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 74-82] |
(36) سيناء:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (36) سيناء سيناء في القرآن بقعة شرفت من دون بقاعِ الأرض جميعًا بأنها الأرضُ التي كلم اللهُ عليها موسى تكليما، كما شرف ترابها من دون تراب الأرض جميعًا بتجلي الله عز وجل بنوره على جبل ما في نواحيها فجعله دكا: إنها واد مقدس بنص القرآن، يكفيك في قداسته هذا الكلام، وهذا التجلي. ومن المصريين اليوم من يغفل عن هذا، بل منهم من يفوته أنه قد كان في مصر مولد موسى عليه السلام، وعلى صفحة نيلها تهادى به التابوت رضيعًا، وكان على أرضها مبعثه من سيناء، وفي بحرها انشق له البحر، وكان في التيه محياه ومماته، فدفن في تراب سيناء لا يعرف له قبر. صلوات الله وسلامه على جميع رسله وأنبيائه، وعلى كل من تبعهم بإحسان. قال عز وجل: {وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين} [المؤمنون: 18 – 20]. وقال عز وجل أيضًا: {والتين والزيتون وطور سينين} [التين: 1 – 2]. هذان فحسب هما الموضعان اللذان ذكر القرآن فيهما اسم «سيناء»: ورد في الأول على ما شاعت به (سيناء)، وجاء في الثاني بلفظ «سينين» التي انفرد بها القرآن. على أن «سيناء» لم ترد في الموضعين منفردة، وإنما وردت في كلا الموضعين مضافًا إليها «الطور» وهو «الجبل» في العربية وفي الآرامية أيضًا. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/83] ليس المقصود في القرآن إذن هو «سيناء» بالذات، وإنما المقصود في القرآن هو ذلك «الطور» الذي في سيناء، أو المنسوب إلى سيناء. والذي ينبغي التذكير به أن الجغرافيين العرب حتى الثلث الأول من هذا القرن العشرين لم يقولوا قط «سيناء» منفردة في تسمية ما هو معروف الآن باسم «شبه جزيرة سيناء»، وإنما قالوا دائمًا في تسميتها «طور سيناء» أو «طور سينين»، على ما وردت في القرآن، تعميمًا لاسم هذا الطور المبارك على كل شبه الجزيرة، ولكننا في هذا القرن نتعالم، فنسقط فصيح العربية لنستبدل به رطانة الأجنبي Sinai المنقولة حذو النعل بالنعل عن العبرية «سيناي»، أي «سيناء»، كما قال بعض متعالمي الأساتيذ على ما مر بك من «تفاصحهم» إن صحيح «قيصر» هي «سيزار». أما لفظة «طور» العربية – الآرامية («هار» العبرية)، فهي عربيا تعني مطلق الجبل، أو هي الجبل المنبت للشجر خاصة. وعلى هذا الوجه يفهم قول الله عز وجل: {وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين} [المؤمنون: 20] في وصف هذه الشجرة بأنها شجرة تنبت في سفوح هذا الطور المبارك. وتفهم أيضًا أنها شجرة «الزيتون» بالذات، لأنك لا تعلم في النبت شجرة تنبت الدهن وتنبت «الصبغ» معًا (وهو الإدام يؤتدم به) إلا ثمرة الزيتون التي تؤكل إداما وتعصر زيتا، لا خلاف على هذا بين مفسري القرآن. وستذكر أيضًا قول الله عز وجل وجل يضرب المثل لنوره: {الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور} [النور: 35]. وقد وردت لفظة «الطور» في كل القرآن عشر مرات، ست منها في هذا الطور المعنى بالنص، طور سيناء أو طور سينين: (مريم: 52، طه: 80، المؤمنون: 20، [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/84] القصص: 29 و 46، التين: 2)، وثلاث ترجح أنها فيه أيضًا، أعني ذلك الجبل الذي «نتقه» الله فوق بني إسرائيل (البقرة: 63 و 93، والنساء: 154)، والعاشرة لا تشك أنها فيه أيضًا، الذي أقسم الله به: {والطور وكتاب مسطور} [الطور: 1 – 2]. ووردت «الطور» بلفظ «الجبل»، أي نفس الطور المعنى، ثلاث مرات {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا} [الأعراف: 143]، {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة} [الأعراف: 171]. ومن عجائب القرآن أنه يضع لفظة الغَرْبي موضع الطور، مرادفًا مطابقًا له، في قوله عز وجل: {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر} [القصص: 44] يعني إذ قضيتنا إلى موسى الرسالة، ثم يكرر الغربي بلفظ الطور لا يفصل بين القولين إلا آية: {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا} [القصص: 46]، وكأن الغربي بذاتها وبمحض لفظها، اسم موضوع لهذا الطور المبارك. وقد ظن بعض المفسرين (راجع تفسير القرطبي لهاتين الآيتين) أن «الغربي» خلاف «الطور» فقالوا إن الطور هو موضع المناداة الأولى (ليلة آنس موسى من جانب الطور نارًا فأراد أن يقتبس)، أما «الغربي» فهو موضع إنزال التوراة وتلقي الألواح في مواعدة موسى ثلاثين ليلة أتمهن بعشر. ولا يصح هذا الذي قاله المفسرون، لقول الله عز وجل في تعيين موضع المواعدة: {يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن} [طه:80]، فجانب الطور الأيمن إذن وجانب الغربي سواء، والغربي والطور واحد. وقد حار أيضًا مفسرو القرآن في وصف هذا الجانب من الطور بأنه «الأيمن» التي جاءت في كل القرآن ثلاث مرات فقط، كلها في وصف جانب هذا الطور أو شاطئه، والجانب والشاطئ واحد، ثم وصفه بأنه «الغربي»، التي وردت في كل القرآن مرةً واحدة فقط، هي في اسم هذا الطور المبارك أو جانبه، فقالوا إن الجبال لا يمين لها ولا يسار، ولا غرب ولا شرق، وإنما هو الذي على يمين موسى، وإلى الغرب من موسى. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/85] والذي لم يعلمه هؤلاء المفسرون، وما كان لهم بالطبع هم والخلق أجمع أن يعلموه قبل أواسط القرن الماضي وأوائل هذا القرن العشرين، وعلمه الذي هو بكل شيء عليم، أن القرآن هاهنا يرادف بين الأيمن والغربي إدلالاً بإعجازه، وتدليلا على بالغ فقهه باللغة المصرية القديمة، لغة «شبه جزيرة سيناء» على عصر موسى، لأن اليمين عند المصريين القدماء هو «الغرب»، يعبرون عنهما بلفظ واحد: أمنت (قارون في المصرية القديمة «ونمى» يعني اليد اليمنى)، واليسار عندهم هو «الشرق» يعبرون عنهما بلفظ واحد: يابت (قارن في المصرية القديمة «يابى» يعني اليد اليسرى)، على خلاف ما نفعل نحن الآن في تعيين الجهات الأصلية الأربع: نستقبل الشمال ونستدبر الجنوب فيكون الشرق على اليمين والغرب على اليسار، وكأنهم كانوا يستقبلون الجنوب ويستدبرون الشمال، فيكون الغرب على اليمين والشرق على اليسار. والغروب كما تعلم هو أفول الشمس واحتجابها وراء الأفق، فاشتق المصريون معنى «الغرب» من الجذر المصري أمن وهو في لغتهم بمعنى الاختفاء والاحتجاب، ومن هذا المعنى أيضًا اشتق المصريون اسم معبودهم «آمون» (أو بالأحرى «آمان» كما نطقها البابليون على ما مر بك) الذي معناه المحتجب أو «الغربي» صيغة المذكر من أمنت يعني الغرب أو الغربي، أو هو «الغارب»، فعل الشمس التي تأفل في الأفق الغربي فتختفي وتحتجب: إنه الظاهر والباطن، الذي يشرق ويغرب، ومع ذلك فهو دائم الوجود، دائم الفيض، عميم النعم. ومن هنا تلمس في «شرك المصريين» أصلاً قديمًا من التوحيد، ولكن الكهنوت يرمز فيطمس. ثم يعدد فيفسد ويضل. مثلما استولد «رع» أي الشمس، من الإله الخفي المحتجب «آمون»، وليس «آتون» أي قرص الشمس، عن هذا ببعيد. وربما قلت إن هذا الجبل «الغربي» الذي في سيناء كان عند المصريين القدماء أيضًا جبلا مقدسًا، ينسبونه إلى آمون «الغرب» أو «الغربي» على ما مر بك. ولكن ليس لديك دليل على هذا من المصرية القديمة، أو مما عرف من المصرية القديمة. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/86] على أن في القرآن إشارة إلى هذا في قول الله عز وجل يخاطب موسى: {إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى} [طه: 12]، وكأن هذا الوادي المبارك تقدس من قبل أن يطأه موسى، أعني تقدس في ماضٍ بعيدٍ في القرون الأولى، يوم كانت مصر قبل شركها بلدًا موحدًا يعبد الواحد الأحد. ربما كانت "دوى» هذه اسمًا من المصرية القديمة لهذا الجبل، وربما كانت «طوى» على ما قال المفسرون لهذه الآية (راجع القرطبي) عربيةً من الجذر «طوى» بمعنى «مرتين»، فيكون المعنى: الذي تقدس الآن، وتقدس من قبل. والذي يجب أن تعلمه أن من أسماء الجبل الذي في سفحه زرع في اللغة المصرية القديمة، لفظة ترسم في الهيروغليفية «ضو»، وتنطق ف يالقبطية «توو» Toou وربما كان الأصل البعيد في المصرية القديمة هو «ضوا» أو "طوا». وسبحان علام الغيوب. لا يعرف علماء المصرية على التدقيق اسمًا في تلك اللغة موضوعًا على التخصيص لشبه جزيرة سيناء بحدودها المعروفة الآن، وإنما الذي يعرفونه من اللغة المصرية القديمة هو لفظة «شاسو»، علمًا على هذه الصحراء التي تربط مصر بجيرانها في الشرق، أي بالشام. والراجح أن المصريين ما كانوا يفرقون بين الصحراء «شرقي السويس»، وبين الصحراء «غربي السويس»، فلم تكن ثمة قناة تفصل ضفتاها بين الصحراوين، بل كانتا معًا صحراء واحدة ممتدة، تذهب فيها وتجيء جماعات من البدو الرحل، أسموهم بنفس هذا الاسم أيضًا «شاسو» من الجذر المصري «شس» بمعنى ذهب ورحل، وهم الذين نسميهم نحن الآن «بدو سيناء». ولا يعرف علماء اللغة المصرية القديمة أسماء بتلك اللغة لمواقع داخل شبه الجزيرة يتقارب نطقها مع «سيناء» العربية أو «سيناى» العبرية، يمكن أن ينسب إليها الطور المبارك، بل إن «جبل موسى» - «حوريب» في التوراة – ليس مقطوعًا على وجه اليقين بأنه هو بالذات الجبلُ المعني. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/87] والذي يعنينا بالدرجة الأولى في هذا الكتاب هو تفسير لفظة «سيناء»ن لا تعيين موقع ذلك «الطور» الذي في سيناء، أو المنسوب إلى سيناء. في قراءة «سيناء» وجهان: الأول بفتح السين سيناء، على قراءة الكوفيين ومنها قراءة «حفص» التي يقرأ بها المصريون في مصاحفهم، والثاني بكسر السين، سيناء، في قراءة غيرهم، وهو يقارب النطق الدارج في العامية: سينا، بالقصر بدل المد، وبكسر السين لا بفتحها. وهذا يذكرك بلقب الفيلسوف العربي العلم: «ابن سينا». ومن المصريين من يتفاصح فيلزمك بفتح السين في «سيناء»، مخطئًا إياك في كسرها، وإنما هو انحياز لإحدى القراءتين فحسب. والراجح عندي أن كسر السين في سيناء أصوب وأفصح، لقوله عز وجل على الإبدال من «سيناء»: سينين، في الآية 2 من سورة التين «والتين والزيتون. وطور سينين»، وكأن أصل الاسم سين، جاء بصورة جمع السالم المذكر مجرورًا بإضافة الطور إليه: سينين. أو هو مفرد على أصله جر بالكسر منونًا، أي سين مع إشباع الكسرة قبل التنوين فتؤول الكسرة إلى الياء: سينين، على المجانسة مع رؤوس الآيات في سورة «التين»، كما قال عز وجل: {سلام على إل ياسين} [الصافات: 130]، والأصل إلياس. وقد جاءت «سين» هذه في التوراة علما على برية في صحراء سيناء: «مدبار سين» (النص العبراني: خروج 186) – و«مدبار» عبريًا يعني البرية – يطلقه شراح التوراة على صحراء غربي جبل سيناء باتجاه الساحل الشرقي لخليج السويس الذي عبره بنو إسرائيل وغرق فيه فرعون وجنوده، ومن شراح التوراة من يقول إن «سيناى» أي جبل سيناء، هي صفة على النسب إلى «سين»، فهو الجبل السيني، أو جبل سين، يعني الجبل الذي في برية «سين». والعبرانيون لا يقولون «هارسيناي» أي جبل سيناي، يعني الجبل السيني، وإنما يقولون اختصارًا «سيناي» أي «السيني»، يعنون الجبل نفسه لا المكان المنسوب إليه. أما «سيناي» في العبرية المعاصرة فهي عَلَمٌ الآن على شبه الجزيرة ؟؟؟، مأخوذ من اسم هذا الجبل المقدس، لا من برية «سين». [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/88] أفتكون «سين» هذه عبرية؟ علماء التوراة على هذا كدأبهم في «الاختصاص» بتسمية المواقع والأعلام بلغتهم هم وإن لم يكن لهم بها عهد، أو انتحال التسميات من لغتهم هم مهما كانت ظاهرة الافتعال. دليلك في هذا أنهم لا يجدون في لغتهم ما يشتقون منه «سين» هذه، فيقولون إنها من الآرامية، ومعناها «الطين»، فيكون معنى «سيناي» هو الجبل الطيني، أو جبل الصلصال. فتندهش كيف جاء الآراميون إلى هذا المكان فأسموه بلغتهم في غفلة من المصريين أصحاب الأرض؟ على أن في اللغة المصرية القديمة أيضًا «سين» بنفس المعنى، الطين أو الصلصال، فتفهم أن العبرانيين أخذوا «سين» بمعنى الطين والصلصال من المصرية القديمة رأسًا ولم يأخذوها من الآراميين. بل من اللغويين أيضًا من قال بأن «سين» هذه بابلية، اسمًا من البابلية لمعبودهم «سين» الإله القمر، وأن سيناء كانت موضعًا لعبادة القمر. وهذا بعيد. وربما شجع هذه المقولة أن «السنا» عربيًا يعني ضوء القمر، أخذوها من مفسري القرآن الذين حاولوا تفسير «سيناء» بالسنا والوضاءة، فالتقطها كدأبهم المستشرقون. ومن علماء التوراة من يظن أيضًا أن «سين» هذه منسوبة إلى «سني» العبرية (بكسر السين والنون، والياء خاملة، وظيفتها إشباع كسرة النون، أعني أن الياء فيها تنطق ألفًا ممالة، كما لو نطقت بالفرنسية Sene)، وهو في التوراة اسم الشجرة التي نُودي منها في البقعة المباركة بشاطئ الوادي الأيمن: {فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة} [القصص: 30]، تنص الآية على «الشجرة»، ولا تبين ما هي. ولم يهتد علماء التوراة إلى أصلٍ عبريٍ في اشتقاق «سني» هذه يجمعون عليه. قالوا ربما إنها من الجذر العبري «سَنَنْ» - مكافئ «سَنَّ» العربي – بمعنى شاك وأحد وسنن، فهو نبت شوكي ذو أشواك، وانتهى المترجم العربي للتوراة إلى أنها شجرة العليق. والعليق كما تعلم أنواع، منها «توت العليق»، وهو الفرامبواز Framboise في اللغة الفرنسية، و Raspberry في اللغة الإنجليزية. وعلماءُ النبات العرب يقولون لك إن هذا الفرامبواز ليس أصيلاً في بلادنا، ناهيك بأن يكون أصيلاً في سيناء، وإنما هو مستورد، النبت واسمه، [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/89] لا يصح أن يكون على عصر موسى عليه السلام. ولكن المعجم العبري الحديث لألفاظ التوارة «هملون هحداش لتناخ» (وهو من مراجع هذا الكتاب) ينص في تفسير «سنى» على أنه الفرامبواز، فيقول في تفسيره: سيح بطل قدوش، يعني شجيرة الفرامبواز المقدسة، ونسيج العبارة العبرية ذاته يوحي لك بالتكلف والافتعال، لأن «بطل» العبرية هذا بمعنى «فرمبواز» ليست عبرية، أعني أنها ليست من عبرية التوراة، وإنما هي من العبرية المستحدثة، استحدثوها بعدما رأوا الفرمبواز في أرض الشتات وأكلوه. وإضافة صفة «المقدسة» إلى تلك الشجيرة «قدوش»، يدلك على أن هذا النبت المقدس المسمى في التوراة، نبت يوجد في الذهن والتصور، ولا يوجد في الطبيعة، فلا يأكل منه الناس، وهذا هو الواقع، فلا وجود لنبت في العبرية باسم «سني» إلا في التوراة. لهذا تحرز المعجم الثنائي عبري – فرنسي «لاروس» من تفسير «سنى» بلفظ الفرمبواز على التعيين، وإنما قال: Buisson d’epines أي شجيرة أشواك، لا يحدد ما هي. كذلك تحرز المترجم الإنجليزي للتوراة، بل كان أشد تحرزًا، في ترجمته «سني»، فاكتفى بقوله Bush أي «شجيرة»، لا يزيد. والقرآن على هذا كما مر بك: إنها الشجرة لا يسميها ولا يحدد ما هي. وهذا من إعجاز القرآن كما سترى، الذي لم يلتفت إليه المفسرون الذين خاضوا في تعيين اسم الشجرة (راجع تفسير القرطبي للآية 30 من سورة القصص)، فقالوا «سمرة» «عناب»، «عوسج»، «غرقد»، بل قالوا «شجرة العليق» بالنص، متابعة لعلماء أهل الكتاب، ثم استراحوا لتفسيرها بالغرقد، استئناسًا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي خرجه مسلم في صحيحه وجاء فيه أن الغرقد من شجر اليهود: «فإذا نزل عيسى وقتل اليهود الذين مع الدجال فلا يختفي أحد منهم خلف شجرة إلا نطقت وقالت يا مسلم هذا يهودي ورائي، تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود، فلا ينطق» . وليس هذا الحديث على صحته بحجة للغرقد كما ترى، إذ ليس لشجرة بوركت من الله عز وجل: {فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها} [النمل: 8] أن يخرج من بذرتها ظهير للذين ظلموا. هذا مجمل ما قيل في «سيناء» شرقًا وغربًا. وهو كما رأيت لا يصمد للنقد، ولكنك تعود فتقول إن اسم برية سين الذي في سفر الخروج لم يأت من فراغ: إنه اسم [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/90] البقعة التي يوجد بها الطور المبارك، وإليها ينسب. ولكنه كما كان عليك أن تفترض من قبل، علم على أرض بلغة أصحاب الأرض. ليست «سنى» العبرية هذه بعبرية، وليست هي أيضًا عربية، وإنما هي مصرية هيروغليفية. ليست هي العليق أو الفرمبواز، وليست هي أيضًا بالعناب أو السمر أو العوسج أو الغرقد كما تكلم فيها مفسرو القرآن، وليست أيضًا من السناء والوضاءة على النسبة إلى القمر كما قال مستشرقون يتكئون على أهل التفسير الأوائل. ولكن «سنى» هي كما قال القرآن، مطلق الشجرة. ومطلق الشجرة في المصرية القديمة هو «شن» يصطلح علماء تلك اللغة كما مر بك على نطقها مكسورة الشين ساكنة النون، لا يجزمون. والعبرية كما مر بك تخالف بين الشين والسين: ما كان بلغة غيرهم شيئًا قلبوه إلى السين، والعكس، فلا تستبعد أن ينطقوا «شن» المصرية القديمة هذه «سن» وتجيء منها في التوراة «سين» اسم تلك البرية، «سينى» اسم ذلك النبت. وتحرف هذا وذاك على شراح التوراة، فظنوا «سنى» من «سنا» العبرية بمعنى الشوكة، وأخذوا «سين» اسم تلك البرية، من «سين» الآرامية بمعنى الطين. وأنت لا تتصور بالطبع أن تكون شبه جزيرة سيناء على عصر موسى مفازة بلا أعلام، وإنما أنت تقطع بأنه قد كان في شبه الجزيرة قبل عصر موسى بقرون لا يعلمها إلا الله مواقع ومنازل سماها أصحاب شبه الجزيرة بلغتهم هم، لا ينتظرون عبور بني إسرائيل إليها من «بحر القلزم» (خليج السويس) ليسموها بلغتهم العبرية، شأن الرحالة الأوروبيين في عصر الكشوف الجغرافية. بل قد كانت للمصريين في سيناء محاجر ومناجم، وكانت لهم في سيناء مخافر وشرط حدود، وكانت لهم عبر سيناء حملات وغزوات، ولا يحدث هذا كله على مدار التاريخ دون أن تكون في سيناء مواقع ومنازل أسماها المصريون أنفسهم قبل مجيء بني إسرائيل إلى مصر في ضيافة يوسف بإذن من ذلك الملك الذي جعله على خزائن الأرض. وأنت لا تتصور بالمثل أن تكون سيناء كلها صحراء لا نبت فيها ولا زرع، وإلا لخلت على مدى التاريخ من بدو يغدون فيها ويروحون في طلب الكلأ والمرعى. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/91] ولكنك تعليم اليوم – بل وترى رأي العين – أن المطر ربما هطل على مواقع في شبه الجزيرة سيولا، هي المدد لتلك المياه الجوفية التي يسلكها الباري عز وجل ينابيع في الأرض، ثم تتفجر منها حيث يشاء سبحانه العيون والآبار، ومنها – وهو الذي يعنينا هنا - «عيون موسى» في جنوبي شبه الجزيرة قبالة خليج السويس، حيث عبر بنو إسرائيل. لا تخلو سيناء إذن من واحات مخضرة، ولا تخلو بالأخص من نخيل وزيتون. ولكن سفر الخروج (الفصل 16) يقول لك إن بني إسرائيل عبروا البحر فبلغوا «برية سين» بعد خمسة شعر يوما من عبورهم بحر القلزم (خليج السويس)، فأعوزهم في تلك البرية الماء والطعام، وتذمروا على موسى وهرون: «ليتنا متنا بيد الرب في أرض مصر، إذ كنا جالسين عند قدور اللحم، نأكل خبزًا للشبع، فإنكما أخرجتمانا إلى هذا الفقر لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع» (خروج 16/ 4). فكيف يجوز تسمية القفر باسم «سين» على معنى «الطين» آرامية أو مصرية؟ بل كيف يجوز تسمية هذا القفر باسم «سين» المتحورة عن «شن» الهيروغليفية – كما نقول نحن – على معنى «الشجرة»؟ أفي القفر ثم طين أو شجر؟ الذي أقول به أنا هو أن «سين» هذه ليست منسوبة إلى طينتها أو شجرها، وإنما هي بالأحرى منسوبة إلى هذا الجبل المبارك، الذي تنتهي عنده تلك البرية في واد مقدس، في سفح «طور» ينبت الشجر. والصفة على النسب تجيء في الهيروغليفية – مثلما تجيء في العبرية والعربية – بإضافة الياء في آخر الاسم المنسوب إليه – غير مشددة – فتقول بالهيروغليفية شنى (من شن) تريد الأشجر، ذو الشجر. وليست «شنى» الهيروغليفية هذه عن «سنى» العبرية ببعيد. ومن هنا تفهم عبارة سفر الخروج في النصر العبراني: «متوخ هسنى» (خ 3/ 4) لا على أنها «من وسط العليقة» كما قال المترجم العربي، ولكن على أنها «من وسط الشجرة» كما قال القرآن: {فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة} [القصص: 30]، أي نودي من الشجرة التي في شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة، أي الوادي المقدس «طوى». وشاطئ الوادي الأيمن يعني شاطئ الوادي من جهة الغرب، أي الشاطئ الغربي كما [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/92] مر بك، لا حاجة بك إلى القول كما قال المفسرون الأوائل بأنه الذي على يمين موسى أو إلى الغرب من موسى: إنه الشاطئ المواجه لبرية «سين» الواقعة بين غربي الطور المبارك وبين شرقي خليج السويس. على هذا يكون معنى «طور سيناء» هو: طور الشجراء ذات الشجر، أو هو «طور الشجرة» المعنية، لا أكثر ولا أقل. والقرآن – على منهجه في التعريب – يأتي بـ «سيناى» العبرية على العلمية التي ثبتت لها في التوراة، فيقول «سيناء»، ولكنه يعلم ما لم يعلمه شراح التوراة، وهو أن سيناء بلغة أصحاب الأرض أصلها من «الشجر» فيرادف بين الشجرة وبين «سيناء» في قوله عز وجل: {وشجرة تخرج من طور سيناء} [المؤمنون: 20]. وسبحان العليم الخبير. وقد مر بك ما قلناه في تفسير عدول القرآن عن «سيناء» إلى «سنين» في الآية 2 من سورة التين، فلا نعود إليه. أما ما هي تلك الشجرة – والله عز وجل بغيبه أعلم – فنحن نرجح أنها شجرة الزيتون بالذات، استدلالاً بوصفه عز وجل تلك الشجرة «التي تخرج من طور سيناء» بأنها «شجرة تنبت بالدهن وصبغ للآكلين»، ولا يصح الجمع في الإنبات بين هذا وذاك إلا في ثمرة الزيتون، واستئناسًا أيضًا بالترادف بين «الزيتون» وبين «سينين» في قوله عز وجل: {والتين والزيتون وطور سينين}[التين: 1 – 2]، وجمعا بين قوله عز وجل في إحلال البركة على تلك الشجرة التي في سيناء: {فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها} [النمل: 8]، وبين قوله عز وجل في ضرب المثل لنوره: {المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة} [النور: 35]. وقد مر بك أن سيناء لا تخلو من نخيل وزيتون، ولكنها بالقطع – عصر نزول التوراة على الأقل – كانت تخلو البتة من توت العليق أو الفرامبواز، على خلاف ما ذهب إليه أهل الكتاب، أصحاب التوارة. وسبحان علام الغيوب، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات والأرض). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 83-93] |
(37) التوراة:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (37) التوراة «التوراة»، في القرآن، تعريب مفسر للفظة «تورا» العبرية، اسم الكتاب الذي أنزل الله على موسى. وتنطق «تورا» العبرية مدًا بالألف بعد الراء، حين تنفرد، وتزاد فيها التاء حين تضاف إلى مضاف إليه، فتقول بالعبرية «تورات موشيه»، وتعني «توراة موسى». أما إن أضفت إلى «تورا» أداة التعريف العبرية «ها»، فأنت تنطقها «هتورا»، تريد «التوراة» معرفة بالألف واللام. وقع في وهم الذين لا يعرفون العبرية من المتعالمين في المجتمع المسلم – الذين يأنفون أو يفرقون من إعمال المسلمين القرآن دستورًا لهم في مجتمعاتهم – أعني هؤلاء العلمانيين المتأوربين في المجتمع المسلم الذين يكدون الذهن في تأصيل مقولة المباعدة بين القرآن والسياسة وتسويد الصحائف في إفلاس «الإسلام السياسي» - وقع في وهم هؤلاء أن «تورا» العبرية، أي التوراة، معناها بمحض لفظها العبري «الشريعة»، أما القرآن فهو كتاب هدى ورحمة، لا يصح أن تتخذ منه دستورًا. يريد هذا الكاتب إفتاء المسلمين بالا حرج عليهم في المباعدة بين القرآن والسياسة في مجتمعهم لأن القرآن كتاب هداية وإرشاد فحسب، ليس بشريعة كالتوراة. وربما تفكهت معه فأوجبت عليه بحكم منطقه هذا أن يتصدى لإفتاء يهود هذا العصر بأن يعملوا التوراة في السياسة لا يحيدون عنها إلى غيرها، لأن التوراة هي الشريعة. وليس هذا بشيء كما سترى، وإنما بنى الكاتب مقولته على ما وجده في بعض معاجمه الفرنسية أو الإنجليزية التي تفسر لفظة «تورا» بلفظة Loi الفرنسية ولفظة [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/94] Law الإنجليزية. وهو تفسير يأخذ لفظة «تورا» لا بأصل معناها في العبرية، وإنما بما آلت إليه عند بني إسرائيل الذين اتخذوا من توراتهم شريعة لهم، شأنها شأن القرآن نفسه مع هؤلاء المسلمين أنفسهم منذ نزوله وحتى انهيار الخلافة العثمانية في أوائل هذا القرن العشرين، أساءوا التطبيق أم أحسنوا. يكفي أن قد كان لهم القرآن إمامًا، ويكفي أنك تحاسبهم بهذا القرآن نفسه حين أساءوا: تعيب التطبيق ولا تعيب الأصل، تتهم المؤتم ولا تتهم الإمام، فتنتقد نفسك ولا تنتقد قرآنك، أن أسأت الفهم عنه أو عبثت بك أهواؤك، أو خومرت في عقلك فأردت التحلل منه، تلتمس الهدى عند من أضلوك عنه، الذين فتنت بهم منذ اقتحموا عليك أرضك، فأفسدوا عليك عقلك، وأفسدوا عليك إسلامك. ليس المسلم خيار إلا اتباع قرآنه، إن أراد أن يظل مسلمًا بفكره، مسلمًا بقلبه، مسلمًا بيده، مسلمًا بلسانه، لا مسلمًا ببطاقة هويته فحسب، فما ذل المسلمون في بلادهم اليوم وبالأمس، إلا لأنهم ارتضوا الدنية في دينهم، وتخاذلوا فسكتوا عمن لغا في هذا القرآن من ذوات أنفسهم، حتى نبحت الإسلام كلابه. وقد أخطأ الإسلاميون في هذا القرن، وأخطأ معهم أمثال هذا الكاتب العلماني، الذين خلطوا بين التشريع والشريعة: أراد الإسلاميون من القرآن، واشترط العلمانيون على القرآن، يتوهمون تعجيزه، في صدورهم كبر ما هم ببالغيه، أن يكون القرآن بذاته مجموعة جاهزة من الأحكام القانونية. وإنما القرآن «شريعة»، والشريعة «دستور»، والدستور «ضوابط» تحكم مسيرة المجتمع كله، كما تحكم الاشتراع والتشريع، إنه الحاكم الضابط الموجه لما يصدر في المجتمع المسلم من قوانين وتشريعات، يحكم منطلقاتها وأهدافها، شأنه شأن أي دستور آخر، تسفل أو تسامى. فهل آن للمسلمين اليوم أن يثوبوا إلى مقالة نبيهم صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس! إن لكم معالم، فانتهوا إلى معالمكم»؟ وهل «معالم» المسلمين في كل عصر وكل زمن إلا هذا القرآن؟ ألم يحن للمسلمين اليوم أن يتخذوا من قرآنهم دستورًا؟ [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/95] أما أن القرآن كتاب هداية وإرشاد، فنعم. ولكن، هداية وإرشاد إلى ماذا، وإلى أين؟ هذا هو الذي فات الكاتب. غفر الله لنا وله، وهدانا وإياه جميعًا إلى صراطه المستقيم: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلك وصاكم به لعلكم تتقون} [الأنعام: 153]. وأما الذي تعجب له وتندهش، فهو أن «تورا» العبرية هذه لا تعني بذات لفظها العبري الشرعة أو القانون، وإنما هي تعني بذات لفظها العبري الهدى والهداية، وهو ما «نعاه» الكاتب على القرآن، كما تعني بذات لفظها الإراءة والتبصير، وتعني التعليم والإرشاد، كما تعني بذات لظفها العلم. ولا تزال العبرية المعاصرة تنحت من «تورا» العبرية هذه لفظة مورى، يعني المعلم. وتقول العبرية المعاصرة على سبيل المثال: تورات هنفش، يعنون علم النفس، لا شريعة النفس، وتقول: تورات هاجيرا، يعنون علم الاجتماع، لا شرعة الاجتماع، وتقول: تورات هاهجيون، يعنون علم المنطق، لا شرعة المنطق، كما لو فهمت «تورات» في هذا وذاك بمعنى الشرعة والشريعة، كما يفهمها الذين يستمدون – دون تأصيل – من معاجمهم الفرنسية أو الإنجليزية. تشتق العبرية لفظة «تورا» من الجذر العبري «يرا»، وهي لا تشتق «تورا» من ثلاثية المجرد «يرا»، وإنما تشتقه من ثلاثية المزيد في أوله بهاء التعدية في العبرية، أي «هورا». وهاء التعدية في العبرية تكافئ همزة التعدية في العربية، أي صيغة أفعل يفعل إفعالاً. ولفظة «تورا» مصدر من هذا، فهي «إفعال» من «أفعل»، أو هي «تفعلة» من «فعل». وهي أيضًا «تفعال» مثل تبيان وترحال وتجوال، على المبالغة. والجذر العبري «يرا»، يدور هو مشتقاته على معاني مستمدة من أصول عربية أربعة، هي: (1) الجذر العربي أرى، واراه يعني ثبته ومكنه، ومنه «يروشاليم» عاصمة فلسطين كما يقول علماء التوراة يعني «ركيزة السلام»، لا «مدينة السلام» كما يقول غيرهم أخذًا من «أور» الآرامية يعني المدينة، وهو خطأ شائع، لأن اسم القدس في العبرية والآرامية معًا مبدوءٌ بالياء لا بالهمزة. (2) الجذر العبري وأر، [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/96] وأوأره يعني أعلمه. (3) الجذر العبري ورأ، وأورأه يعني أعلمه. (4) الجذر العربي ورى، ومنه الورى، أي الخلق، كان في سابق علم الله مكنونًا فظهر، واستوراه فورى له يعني استعلمه فأعلمه، واستهداه فهداه، أي أرشده، لا يخرج عن هذا «ورى عن الشيء» أي أراده وأظهر غيره، أي أخفاه، ومنه التورية، لأنها معدولة عن «الإعلام» إلى نقيضه بالحرف «عن»، كما تقول «رغبت فيه» و«رغبت عنه»، وكما تقول، «عدلت إليه» و«عدلت عنه». معنى «تورا»، أي «التوراة»، هو إذن عند علماء العبرية وعلماء التوراة: (1) العلم والإعلام، تجيء بها في العربية على «توراء»، زنة «تفعال» من الجذر «ورأ». وقد استجيزت «توراء» على معنى «توراة» في الشعر خاصة، لا تصح القراءة بها في القرآن لمخالفتها خط المصحف. (2) الإظهار والإبانة، من الجذر «ورى». (3) الهدى والهداية والإرشاد، من الجذر «ورى» أيضًا. (4) الإراءة والتبصرة، من استوراه فورى له، تأخذ هذا من الجذر «ورى» كذلك. وقد ألم القرآن المعجز في تفسيره لفظة «توراة» بهذه المعاني الأربعة جميعًا: العلم، الإبانة، الهدى، التبصرة، في غير موضع، تكفيك منها الأمثلة التي نتلوها عليك توًا. وكثيرًا ما ترد في القرآن لفظة «الكتاب» والمقصود بها «التوراة» على وجه التحديد، من مثل قوله عز وجل: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا} [الأنعام: 91]. نعم، قد جاء لفظ «الكتاب» كثيرًا والمراد منه «القرآن» بالقطع، في مثل قوله عز وجل: {ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه} [البقرة: 1 – 2]، أي أن القرآن وحده، دون الكتب من قبله، هو الكتاب الذي لا ريب فيه، لا تشك أن كل حرف فيه من قول الله، وغيره من الكتب تسمعها فلا تأمن التصحيف والتبديل. وكثيرًا أيضًا ما يجيء القرآن بلفظة «الكتاب» ومراده منها مجمل وحي الله على رسله، وما «أم الكتاب» عن هذا ببعيد، أعني اللوح المحفوظ [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/97] الذي تتنزل منه الملائكة بوحي الله على رسله، قرآنا وغير قرآن، ولكن ربما لا يلتفت كثيرون إلى أن «التوراة» بالذات – أعني ما صدق في التوراة التي بين يديك فصدقه القرآن – هي وحدها فيما نعلم من قول الله عز وجل، الكتاب الوحيد الذي أنزله الله مكتوبًا في ألواح، فهي الكتاب المكتوب، كما تستظهر من قوله عز وجل: {وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأوريكم دار الفاسقين} [الأعراف: 145]، أي إن لم تفعلوا كان مصيركم دار الفاسقين. ولكن بني إسرائيل لم يفعلوا، وتعللوا بأن الألواح التي جاء بها موسى من عند الله ألقاها موسى فتحطمت منه في فتنة العجل، بل تقول لك هذه التوراة التي بين يديك أن الألواح لم تكن إلا لوحين اثنين، كسرهما موسى بيديه في حُمُوْ غضبه (خروج 32/ 29) فلم تعد ثمة ألواح، ولكنه نحت لنفسه بأمر الله لوحين من حجر مثل الأولين كتب الله له عليهما نفس الكلمات التي كانت على اللوحين اللذين كسرهما موسى في حمو غضبه (خروج 31/ 1). ولكن القرآن يجيء بالألواح على صيغة الجمع كما مر بك ويقول لك أيضًا أن الألواح لم تتحطم ولم يكسرها موسى بيديه – حاشاه أن يفعل مهما كان حمو غضبه – ولكنه التقط الألواح لم يمسسها سوء ولم تمح منها كلمة مما كتب الله له فيها: {ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} [الأعراف: 154]. بل ما كانت تلك الألواح لتنحطم أو تنكسر لحظة ألقاها موسى، فلم تكن من حجر: كما وهم الكاتب، وإنما كانت رقائق من الجلد، كما تستظهر من قوله عز وجل يقسم بالطور وبالتوراة، والكتاب المسطور: {والطور وكتاب مسطور في رق منشور} [الطور: 1 – 3] أيا ما كان الأمر، فأنت تعلم بالطبع أن بني إسرائيل من بعد موسى أضاعوا هذه الألواح المقدسة فلم يبق منها إلا ما بقى في ذاكرة كتبة التوراة: فيها من قول الله، الذي صدقه القرآن والحديث الصحيح، وفيها الذي هو إلى التواريخ والسير أقرب، وهو أكثرها. والذي يعنينا في هذا السياق هو تأصيل المقصود من عبارة «أهل الكتاب» في [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/98] القرآن: أهم اليهود فقط أم اليهود والنصارى فحسب، أم هم كل أمةٍ ذات كتاب، سواء أخبر الله عز وجل عنهم في القرآن أم لم يخبر؟ أما أن اليهود يندرجون تحت وصف أهل الكتاب فهذا مقطوعٌ به ولا خلاف عليه، تستظهره في مثل قوله عز وجل: {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا} [الأحزاب: 26]، والذين أنزلهم الله من صياصيهم، أي من حصونهم، وقذف في قلوبهم الرعب، وقتل منهم المسلمون وأسروا، هم «بنو قريظة»، أي بعض يهود يثرب. وأما أن النصارى مخاطبون هم أيضًا في القرآن باسم «أهل الكتاب»، فهذا مقطوع به كذلك ولا خلاف عليه، تستظهره في مثل قوله عز وجل: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} [النساء: 171]، والذين «قالوا ثلاثة» ليسوا اليهود كما تعلم، وإنما هم النصارى. وأما أن اليهود والنصارى هم وحدهم «أهل الكتاب» لا يندرج تحت هذا الاسم غيرهم من الملل، فهذا هو صريح القرآن، لا يصح غيره، وشواهده القاطعة من القرآن عديدة، ومنها هذا الشاهد الحاسم الذي يقطع كل جدل: {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين} [المائدة: 68]، أي هم أهل التوراة والإنجيل، فليستقيموا عليهما، وعلى ما أنزل إليهم من ربهم، أي القرآن، الذي جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم ودعاهم إليه، بدليل قوله عقب هذا مباشرة وليزيدن كثيرا منهم [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/99] ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرا .... (الآية)، فما أنزل إليهم من ربهم بخلاف التوراة والإنجيل هو هذا القرآن الذي دعوا إليه. لا يصح أن يؤمر بإقامة التوراة والإنجيل، إلا أهلهما، كما جاء في قوله عز وجل: {ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون} [المائدة: 65 – 66]. والراجح عندي لا يصح غيره، أنهم سموا «أهل الكتاب» بمعنى «أهل التوراة»، فالتوراة، لا الإنجيل، هي الكتاب المعني. وهي مشتركة بين الطائفتين: يدين اليهود بالتوراة كما تعلم، ويكفرون بالإنجيل، ويدين النصارى بالتوراة وبالإنجيل. وقد قال المسيح عليه السلام: ما جئت لأهدم الناموس (أي التوراة) وإنما جئت لأكمل، أي بالإنجيل، فالمسيح عليه السلام يكمل التوراة ولا ينتقص منها. وقد ظل المسيحيون الأوائل يعدون فرقة من فرق اليهود لا أكثر ولا أقل. ولم تكتب الأناجيل التي بين يديك إلا بعد زمان من رفع المسيح، وهي قد كتبت إنشاء لا استنساخًا من أصل يرد إليه. ولا تزال المسيحية إلى اليوم تتعبد في كنائسها بتلاوة فقرات من هذه التوراة، توراة اليهود. بل إن «الكتاب المقدس»، كتاب المسيحيين كما مر بك، مجلد يضم «التوراة والإنجيل» معًا: إنه هو «الكتاب» The Bible (La Bible بالفرنسية)، وأصلها Biblion اليونانية – لغة الكنيسة الأولى – واصل معنى Biblion هذه «الكتاب» لا أكثر ولا أقل. وقد أصبحت Bible هذه علما على التوراة والإنجيل معًا، لا يجوز إطلاقها إلا والمراد منها «التوراة والإنجيل»، لا مجرد أي كتاب. ومن إعجاز القرآن أن يفطن وحده – مطلع القرن السابع للميلاد – إلى هذا، فيجمع بين الطائفتين تحت مسمى واحد: أهل الكتاب، على معنى أهل التوراة والإنجيل يعني (بالإنجليزية مثلاً) People of the Bible لا People of the Book كما تخطئ فيها بعض ترجمات القرآن الإنجليزية . بل إن القرآن المعجز يأبى على أي من الطائفتين أن تنكر إحداهما على الأخرى وكتابُهم واحد، أي التوراة: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/100] على شيء وهم يتلون الكتاب} [البقرة: 113] يريد كيف يسوغ لهم إنكار بعضهم على بعض وهم جميعًا يتعبدون بهذه التوراة نفسها، وإن اختلف الكَنِيس؟ والقرآن بهذا الإنكار يسبق بقرون المعاجم الأوروبية التي استحدثت لفظة Judeo – Christianism عَلَما على الثقافة «اليهودية – المسيحية»، أعني هذا الفكر المشترك الذي ينهل من نبع واحد هو «التوراة». هذا الفكر المشترك النابع من نبع واحد، هو الأصل الذي ترد إليه تلك «الموالاة» بين الطائفتين، حين تتحدان في مواجهة الإسلام: لا تتحزب مع الإسلام قط طائفة ضد أختها. وهذا هو معنى قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} [المائدة: 51]، أي لأنهم أولياء بعض تخشى منهم الموطأة عليك. وهذا من إعجاز القرآن أيضًا، دليلك فيه ما يحدث في هذا العصر بالذات من ممالأة إسرائيل عليك. ولكنك لا تلوم في هذه إلا نفسك، فهم لم يخدعوك أو يغرروا بك، وإنما أنت الذي عميت عن كتاب ربك وسنة نبيك، حتى هانت عليك نفسك، فهنت على الناس. أما أن يقال لك أن أهل الكتاب معناها في القرآن كل أمة ذات كتاب، فهو قول هراء، لا لما أسلفناه من القرآن فحسب، وليس لمسلم حجة بعد القرآن، وإنما أيضًا لأن القرآن لم يقل قط «أهل كتاب» على التنكير الذي يفيد التعميم، وإنما قالها «أهل الكتاب» معرفًا بالألف واللام، يريد الكتاب المعنى، أي التوراة بالذات على ما مر بك. ولأن القرآن يريد الكتب «المنزلة» ولا يعبأ بالكتب «الموضوعة»، ولا علم لك بكتب أنزلت قبل القرآن إلا التوراة والإنجيل، ناهيك بكتب يصطنعها الذين كفروا بختام الرسالات والنبوات. إن عممت ولم تفرق، اعتل عليك كل ذي كتاب بكتابه، وإن جاء بصريح الكفر. وإن عممت ولم تفرق، فقد استدركت على القرآن الذي لم يسم لك كتب زرادشت وكونفوشيوس وكتب البوذيين والهندوس، وقد دانت بها الملايين على [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/101] عصر نزول القرآن، ولا تزال تدين. وأخيرًا، إن عممت ولم تفرق، فقد أدخلت المسلمين أنفسهم في زمرة أهل الكتاب، لأنهم أهل القرآن، والقرآن كتاب، بل هو الكتاب. ولا يعتلن عليك أحد بفعل عمر رضي الله عنه - إن صحت الرواية – أنه استجاز إلحاق المجوس بأهل التوراة والإنجيل: قد قاس عمر إذن، والقائس يجتهد فيخطيء أو يصيب. ولو كان في المسألة نص صريح عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يقرر أن المجوس بعضٌ من أهل الكتاب لما جاز لعمر أصلاً أن يقيس، وما كان لمجوسي أن يستعلن بمجوسيته في دار الإسلام على عصر عمر رضي الله عنه كما يستعلن اليهود والنصارى، وإلا لقبل عمر الجزية من الهرمزان وما قال له: الإسلام أو السيف! ولم تكن في دار الإسلام على عصر عمر «معابد نيران» يؤمها المجوس مثلما كانت لليهود والنصارى في دار الإسلام ولا تزال صلوات وبيع وأديرة وكنائس. ودعك مما يقال لك – وإن صح – من أنه قد بقى في الدولة العباسية مجوس يؤمون معابد لهم، فلا تنس أن «العباسي» ليس صحابيًا تستن به، ولا تنس أيضًا أن الدولة العباسية قامت على أكتاف الفرس، والعرق دساس. في المجتمع المسلم – حين يصح إسلامه – لا مواطنة إلا لمسلم أو كتابي، ولا كتابي إلا اليهودي والنصراني، وغيرهما عابر مسلم أو معاهد مستأمن، ومثل بمثل. مر بك أن التوراة هي الكتاب الذي أنزل الله على موسى. ولكن التوراة كما تعلم، شأنها شأن الإنجيل، تطلق أيضًا ويراد منها مجمل أسفار «العهد القديم»، فتشمل أسفار اليهود كلها، التي يجمعها اليهود تحت اسم «تورا نبيئيم وكتوييم» (وتلفظ عبرانيًا «تورا نفيئيم وختوفيم» وتختصر إلى «تناخ» بالأحرف الأولى) يعني «التوراة – الأنبياء - الكتب»، أي «أسفار التوراة»، «أسفار الأنبياء»، «أسفار [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/102] الكتبة» - وسنقولها نحن اختصارًا «توراة الأنبياء والكتبة» - لأن من أصحاب تلك الأسفار من ليسوا بأنبياء، بل كتبة، مثل سفر «عزرا»، كاتب شريعة الله بعد سبى بابل. والكتبة في ديانة اليهود هم حفاظ التوراة، يستنسخونها بأيديهم، لم يهبط عليهم وحي، وإنما جاءتهم القداسة بإضافة ما صنفوه إلى الكتاب. وما نزل القرآن إلا وقد اكتمل المجلد، فهو تلك «التوراة» أو «العهد القديم» الذي بين يديك. وقد ضاع من قبل بعض تلك الأسفار وبقى البعض، دليلك في هذا من التوراة التي بين يديك، التي تحيلك في بعض مواضع إلى أسفار تسميها بالاسم ثم تفتش عنها في هذا المجلد فلا تجد لها أثرًا بين دفتيه. وسواء نسب السفر إلى نبي أو كاتب، فسيان هذا أو ذاك، إذ ليس في التوراة التي بين يديك سفر واحد خطه نبي بيده، أو أملاه وروجع عليه، وإنما هي كلها صنع «الكتبة» على التراخي، حفظ الكتبة أم ضيعوا. وما جاء القرآن في بعض مقاصده إلا لهذا، مصدقًا لما بين يديه ومهيمنًا عليه. وتنسب الأسفار الخمسة الأولى من «توراة الأنبياء والكتبة»، وهي سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر العدد، وسفر اللاويين، وسفر التثنية (تثنية الاشتراع) – أو بالأصح تنسب مادة هذه الأسفار الخمسة – إلى موسى عليه السلام، فهي وحدها «توراة موسى»، تليها أسفار غيره، أنبياء وكتبة، ومن بين أسفار الأنبياء، سفر «المزامير»، أي مزامير داود عليه السلام، أي الزبور، المعنى بقوله عز وجل: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا} [الإسراء: 55]. وسيأتي الحديث عن «الزبور» في موضعه. هذه «التوراة» إذن، أ‘ني «توراة الأنبياء والكتبة» كما يسميها اليهود، أو «العهد القديم» كما يسميها النصارى، تتضمن فيما تتضمن، كلاً من «توراة موسى»، «زبور داود». ولو قد آمن اليهود لعيسى، لكان الإنجيل نفسه بعض «توراة الأنبياء والكتبة»، خاتمة لهذا «الكتاب» المنسوب إليه «أهل الكتاب»، الموسوي منهم والمسيحي سواء، ولحفظه الأحبار مثلما حفظوا توراة موسى وزبور داود، على الأصل الذي نطق به عيسى بلغته العبرية أو الآرامية، ولسمعت كلماته من فيه المبارك تنطق بالحق الذي ضل عنه كثيرون. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/103] ولكن الله عز وجل هكذا شاء وقدر، فحسبك القرآن المصدق المهيمن، وفيه الكفاية. صلوات الله وسلامه على جميع رسله وأنبيائه وعلى كل من تبعهم بإحسان. أما «توراة موسى»، أعني تلك الأسفار الخمسة الأولى التي تتصدر «توراة الأنبياء والكتبة»، فهي التراث الموروث لما سمع من الأنبياء منذ إبراهيم إلى موسى عليهم جميعًا أزكى الصلاة وأتم التسليم، بالقدر الذي حفظته ذاكرة الكتبة الذين خطوا هذه الأسفار الخمسة بأيديهم، أعني «ما صدق» فيها. تستظهر هذا من قوله عز وجل في ختام سورة الأعلى: {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى} [الأعلى: 14 – 19]. أما «صحف موسى» فهي أسفار أربعة من تلك الأسفار الخمسة: خروج – عدد – لاويون – تثنية، التي تقص قصة موسى عليه السلام منذ مولده في عاصمة مصر حتى وفاته في تيه سيناء لا يعرف له قبر. وأما «صحف إبراهيم» فتجدها في السفر الأول من الأسفار الخمسة، أعني سفر «التكوين»، الذي يقص قصة الخلق منذ بدء الخلق بآدم، وينتهي بوفاة يوسف في مصر. والذي تستطيع أن تسميه «صحف إبراهيم» من هذا السفر هو الإصحاحات الأربعة والعشرون الأولى من سفر التكوين، وبداية الإصحاح الخامس والعشرين حتى يقول الكاتب: «وأسلم إبراهيم روحه ومات بشيبة صالحة شيخًا وشبعان أيامًا وانضم إلى قومه» (تكوين 25/ 8). ثم يأتي بعد ذلك حديث إصحاحات السفر عما كان من شأن أبناء إبراهيم وحفدته وفيهم من الأنبياء إسماعيل وإسحق ويعقوب ويوسف الذي ينتهي السفر بوفاته. وكما لا تستطيع أن تقول أن الأسفار الأربعة التي تتحدث عن موسى هي بذات حروفها «وحي الله على موسى»، أو «صحف موسى» كما يسميها القرآن، لأنك لا تتصور أن يتضمن وحي الله «على موسى»، أخبار مولده وأخبار وفاته كما يقصها عليك الكاتب في سفري الخروج وتثنية الاشتراع، لا تستطيع أيضًا أن تقول [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/104] أن أول أسفار «توراة الأنبياء والكتبة»، أعني «سفر التكوين» وفيه ما فيه على ما مر بك، هو بذات الحرف والعبارة التي في إصحاحاته الأربعة والعشرين الأولى «وحي الله على إبراهيم»، أو «صحف إبراهيم» كما يسميها القرآن، ولكنك تقول جازمًا آمنًا مطمئنًا أن كتبة هذه الأسفار حفظوا وضيعوا وبدلوا، ودلس بعضهم تدليسا، بل وأفحشوا إفحاشا، يقبسون من أساطير اليونان وآلهة الأولمب، من مثل خلق الله آدم على صورة الله ومثاله، فقدموا «للإنسان - الإله» ومهدوا له تمهيدا، ومن مثل مصارعة الله يعقوب فجاهده يعقوب حتى جهده، وتطاولوا على مقام أنبياء الله ورسله، من مثل إسكار نوح حتى تنكشف عورته على أبنائه فيتضاحكوا منه، ومن مثل زنى ابنتي لوط بأبيهما ليكون لهما منه نسل يعيرون به خصومهم الموآبيين على ما مر بك، ومن مثل صنع هرون العجل لمن طلبوا العجل في التيه، إلى آخر ما تعلم. وقد تلتمس العذر لأولئك الكتبة فيما ضيعوه من هذه التوراة لأنهم أنسوه، فذاكرة البشر تسعف وتخون. ولكنك لا تعذرهم قط فيما بدلوا ودلسوا. أما أنهم «حفظوا» فنعم: حفظوا حظًا مما ذكروا به، وهو الذي يصدقه القرآن ويهيمن عليه. ونسوا حظًا مما ذكروا به فالقرآن يدلهم عليه. وتبدلوا من قول الله قول البشر، ينقلون الكلم عن بعض مواضعه، والقرآن يرد عليهم مقالتهم ويبين لهم. ولكن القرآن «يعفو» تنزهًا عن تكذيب ما أفحشوا فيه، المحال في جنب الله عز وجل، المحال على كرامة أنبيائه، لأنه ظاهر البطلان بذاته. يكفيك كي تؤمن بهذا القرآن – إن كنت من غير أهله – أن تراجع هذه التوراة عليه، عسى أن تكون ممن شاء الله أن يهديهم، لا هداية إلا به سبحانه. والذي يعنينا في هذا السياق أن القرآن المعجز، وقد علم أن أهل الكتاب ينسبون إلى موسى عليه السلام هذه الأسفار الخمسة من «توراة الأنبياء والكتبة»، أو مادة هذه الأسفار الخمسة كما مر بك، يصحح لأهل الكتاب مقولتهم فينسب بعض مادة هذه الأسفار – أعني بعض ما في النصف الأول من سفر التكوين – إلى إبراهيم [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/105] عليه السلام: إنها ليست كلها «توراة موسى» وحده، وإنما هي معًا «صحف إبراهيم وموسى»! أما التفسير القرآني – المقصد الأول في مقاصد هذا الكتاب الذي نكتب – للفظة «توراة» (أعني «تورا» العبرية) بلغة أهلها، وقد مر بك وجوه اشتقاقها من العبرية على معاني أربعة هي العلم والإبانة والهداية والتبصرة، فقد فسر القرآن «التوراة» بمعنى العلم في مثل قوله عز وجل: {ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا} [محمد: 16]، يعني الذين أوتوا التوراة، وفي مثل قوله عز وجل: {إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} [آل عمران: 19]، يعني لم يختلف أهل الكتاب أصحاب التوراة إلا من بعد ما جاءتهم التوراة، وهذا من إعجاز القرآن، لأن اليهود لم يختلفوا فرقا إلا من بعد ما أنزلت التوراة، فالعلم هنا بمعنى التوراة، لا يصح أن تفسره بمعنى «عيسى» كما قال مفسرون، فقد نزل فيهم عيسى وهم فرق، ولا يصح أيضًا أن تفسره بمعنى القرآن كما قال آخرون، لأن أهل الكتاب كانوا مختلفين قبل نزول القرآن ومبعث خاتم الرسل. وغير هذا في القرآن كثير، تكفيك منه هاتان الآيتان. وفسرت التوراة أيضًا في القرآن على معنى البيان والإبانة في مثل قوله عز وجل: {أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى} [طه: 133]، والصحف الأولى كناية عن التوراة كما تعلم، وفي قوله عز وجل: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} [البينة: 4] أي ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم التوراة كما مر بك، وفي قوله عز وجل: {ولقد مننا على موسى وهرون ونجيناهم وقومهم من الكرب العظيم ونصرناهم فكانوا هم الغالبين وآتيناهما الكتاب المستبين} [الصافات: 114 – 117]، يعني بالكتاب المستبين «التوراة». وفسر القرآن التوراة على معنى الهدى والهداية في مثل قوله عز وجل: {وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل} [الإسراء: 2] وغيره في [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/106] معناه كثير، تكفيك منه هذه الآية. وأخيرًا فسر القرآن التوراة على معنى البصيرة والتبصرة في قوله عز وجل: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس} [القصص: 43]. وكما فسر القرآن معنى التوراة بالمرادف المطابق والمرادف القريب، فسرها أيضًا بالتعريب، فهي معدولة عن «التوراء» كما مر بك، تفعال من الجذر «ورأ»، فهي بمعنى «الإيراء» أي الإعلام. وهي أيضًا معدولة عن «التورية»، تفعلة من الجذر «ورى» أي من «أوراه»، «ورى» له، أي أظهر له وأبان. وهذا من التعريب الفني في القرآن لأنه يجانس «تورية» على «تورا»، فيقول «توراة»، كما قال العرب في «قارية» يعني الحاضرة الجامعة: «قاراة»، وكما سمع من العرب في «جارية» - الأمة أو الفتاة - «جاراة». وسبحان العليم الخبير. والذي ينبغي التنبيه إ ليه أن التوراة في القرآني هي فحسب التي كتب الله لموسى في الألواح، تلتمس مما بقى منها في الأسفار الأربعة - «الخروج» إلى «تثنية الاشتراع» - لا شأن لك بما قبلهاه وما بعدها في «توراة الأنبياء والكتبة». وسفر التكوين ليس من توراة موسى قطعًا، وما بقي في هذا السفر من «صحف إبراهيم» ليس من التوراة بالقطع، دليلك في هذا وذاك قوله عز وجل: {يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده} [آل عمران: 65]، وقوله تعالى: {إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة} [آل عمران: 93] ثم تحداهم بقوله: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} [آل عمران: 93]، فكان الأمر كما قال: كذب المكذبون وصدق العلي الكبير. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 94-107] |
(38) يأجوج ومأجوج:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (38) يأجوج ومأجوج «يأجوج ومأجوج» غيبٌ من غيب الله عز وجل الذي أخبر به القرآن، لا تجد له في التوراة والإنجيل اللذين بين يديك، وفي أقاصيص أهل الكتاب، إلا أهابيش من ضباب رؤى وخيالات تبعد بك كل البعد عن حديث يأجوج ومأجوج الذي في القرآن. ففي «توراة الأنبياء والكتبة» يحدثك سفر حزقيال – وهو من أعلام القرن السادس قبل الميلاد – لا عن «يأجوج ومأجوج» الذين ردم عليهم «ذو القرنين» فلا يخرجون حتى قبيل قيام الساعة – وإنما يحدثك عن «جوج» أمير «ماجوج» الذي يجيء من أقاصي الشمال ومعه شعوب كثيرة فيجتاح إسرائيل، ولكن الله يرد لبني إسرائيل الكرة عليهم فيستأصلونهم ويقبرون في واد يسمونه وادي جمهور جوج (راجع الإصحاحين 38 و 39 من سفر حزقيال). وحزقيال عند اليهود نبي راء، يرى الرؤى فيخبر بها وكأنها وحي من الله عليه، والرؤى كما تعلم أضغاث ورموز، إن صدقت الرائي فلا تأمن سوء الفهم عنه، وإن استأمنت الناسخ والناقل فلا تأمن الخلط والتخليط. وأما في أسفار «العهد الجديد»، فأنت تجد في آخر أسفار الأناجيل، سفر «رؤيا يوحنا اللاهوتي»، أن «جوج وماجوج» هم الأمم الذين في أربع زوايا الأرض (راجع الإصحاح 20 من سفر الرؤيا). وعند يوحنا اللاهوتي أن هناك قيامتين: القيامة الأولى بعد القضاء على فتنة الدجال، والناجون من هذه الفتنة يكونون كهنة لله والمسيح ويملكون معه ألف سنة: «ثم متى تمت اللف السنة يحل الشيطان من سجنه ويخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض جوج وماجوج ليجمعهم للحرب الذين عددهم مثل رمل البحر. فصعدوا على عرض الأرض وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة فنزلت نار من عند الله من السماء وأكلتهم وإبليس الذي كان [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/108] يضلهم طرح في بحيرة النار والكبريت حيث الوحش والنبي الكذاب وسيعذبون نهارًا وليلاً إلى ابد الآبدين» (رؤيا 20/ 7 – 10). ولا شك أن يوحنا اللاهوتي يستمد من حزقيال اسمي جوج وماجوج، ولكنه لا يجعل ماجوج أرضًا لجوج، وإنما يجعل جوج وماجوج معًا أمما عددهم مثل رمل البحر يجمعهم الشيطان لحرب المدينة المحبوبة (أورشليم) مملكة المسيح في مجيئه الثاني قرب قيام الساعة، فيتفق مع حزقيال في تعيين أورشليم موقع مهلك جوج أمير ماجوج، ويختلف معه في موعد خروجهم ومهلكهم: تعجله حزقيال فربطه بخراب أورشليم على أيدي مملكة بابل، وأجله يوحنا اللاهوتي ألف سنة تعقب عودة المسيح إلى الأرض في مجيئه الثاني. ورؤيا يوحنا اللاهوتي تقتبس بلا شك من سفر حزقيال، ولكنها تقتبس بتصرف، وتقتبس أحيانا دون تريث، فقد تنبأ حزقيال في القرن السادس قبل الميلاد بخراب بابل، وخربت بابل بالفعل في قرنه، ولكن يوحنا اللاهوتي يعود فيتنبأ لبابل بالخراب: «وسيبكي وينوح عليها ملوك الأرض الذين زنوا معها وتنعموا معها حينما ينظرون دخان حريقها، واقفين من بعيد لأجل خوف عذابها قائلين ويل ويل. المدينة العظيمة بابل المدينة القوية»، «ورفع ملاك واحد قوي حجرا كرحى عظيمة ورماه في البحر قائلاً بدفع سترمى بابل المدينة العظيمة ولن توجد في ما بعد» (راجع الإصحاح 18 من سفر الرؤيا)، لا يدري أن بابل المدينة العظيمة قد خربت بالفعل قبل ستة قرون على الأقل من مولد هذا الكتاب. ولكنك لن تعدم من شراح هذا السفر من يقول لك إن بابل هذه ليست بابل، ولكنها علم على كل ملك جبار فاسق. وهكذا أنت في الأحلام والرؤى، تفسر ما شئت بما تشاء، أو يفسر لك بما يشاء لك. وأما في أقاصيص أهل الكتاب التي لا تجدها بين دفتي «الكتاب المقدس»، ولا حجة بها من ثم على أهل الكتاب، فمنها المروية عن السريان في أساطير الاسكندر، مؤسس الإمبراطورية اليونانية في الشرق الأدنى القديم، وقد وهم أدعياء الاستشراق أنها الأصل المباشر لقصة يأجوج ومأجوج في القرآن، وفي الأسطورة السريانية أن الاسكندر أغلق على جوج وماجوج، فلا يخرجون إلا في نهاية العالم. وترسم «جوج» في السريانية «أجوج» قريبة من «يأجوج» التي في القرآن. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/109] تخلص من هذا إلى أن أهل الكتاب، في الكتاب المقدس بشطريه وخارجه، كانوا على علم قديم بيأجوج ومأجوج، ولكنهم خلطوا فيه، وتفاوتت الرواية عن هذا وذاك، فجاءوا محمدًا صلى الله عليه وسلم يسألونه عن حقيقة الذي كان، فأجابهم القرآن بقوله: {ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا} [الكهف: 83] وسرد عليهم ما كان من شأن ذي القرنين مع يأجوج ومأجوج. ففي بعض كتب التفسير أن بعضًا من أهل الكتاب أرادوا امتحان مبلغ محمد صلى الله عليه وسلم من العلم: سألوه عن فتية ذهبوا في الزمان الأول (أصحاب الكهف) فأجابهم القرآن: {نحن نقص عليك نبأهم بالحق} [الكهف: 13] وسرد ما كان من شأنهم. وسألوه عن الروح ما هو (أو ما هي) فكفهم القرآن عنها: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الإسراء: 85]. وسألوه عن طوافة رحالة (ذي القرنين) فأجابهم القرآن: {ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا} [الكهف: 83 – 84]، ثم قص ما كان من شأن ذي القرنين مع يأجوج ومأجوج، وكيف أرتج عليهم محبسهم، لا يستطيعون الخروج منه أو نقبه حتى يقترب الوعد الحق: {فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا} [الكهف: 98 – 99]. وقد جاءت «يأجوج ومأجوج» في القرآن مرتين اثنتين فقط، الأولى في حديث ذي القرنين: {قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا} [الكهف: 94]، والثانية في النص على أن الفتح ليأجوج ومأجوج من علامات الساعة كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: قال عز وجل: {وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة عن هذا بل كنا ظالمين} [الأنبياء: 95 – 97]، أي عندما يقترب الوعد الحق تفتح يأجوج ومأجوج، فيتذكر الذين كفروا أنهم قد نبئوا [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/110] بهذا في القرآن من قبل، فتشخص أبصارهم هلعا، ثم يتندمون كيف غفلوا عن هذا، ولكنهم يستدركون على أنفسهم بأنهم كانوا ظالمين، لا غافلين فحسب، نسوا الله فأنساهم مواعيده. بل قد كان منهم العابثُ الساخر، المتفكه بغيب الله عز وجل، فسحقًا سحقًا. والوجه في غيب الله عز وجل أنه علم الله الكلي المطلق، يعلم ما كان ويكون، على الوجه الذي به كان ويكون. وهذا العلم الكلي المطلق مترتب على أنه عز وجل خالق كل شيء وخالق كل فعل. وهو عز وجل ليس عالم الغيب فقط – والغيب هو كل ما غاب عنك علمه – ولكنه عز وجل أيضًا عالم «الشهادة»، أي أنه جل وعلا يعلم أيضًا مشهودك ومعلومك، لا كما تعلمه أنت، ولكن على ما هو عليه: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14]. وقد خاض مفسرون (راجع تفسير القرطبي للآيات 92 – 99 من سورة الكهف) في يأجوج ومأجوج فأسفوا وأبعدوا: لم يهتبشوا من أهابيش أهل الكتاب فحسب، بل وأضافوا إليها من عندهم تهاويل خيال سقيم، فتجاوزوا نص القرآن والحديث الصحيح عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وزيفت في يأجوج ومأجوج أحاديث لا يصح لها سند، حتى عميت عليك حقيقة يأجوج ومأجوج. ولم يعلم أولئك المفسرون أن أدعاء الاستشراق سيتكئون عليهم، لأن أدعاء الاستشراق لا يستقون من القرآن ومن الحديث الصحيح، وإنما يستقون من كتب التفسير هذه، كما رأيت من قبل في «قسطاس»، «فردوس»، «إبليس»، وأمثالها. ولأن أولئك المفسرين تحذلقوا فتابعوا أساطير السريان في قولتهم أن «الاسكندر» هو صاحب «جوج وماجوج»، فلم يجد أدعياء الاستشراق حرجًا في القول بأن القرآن في يأجوج ومأجج يستقي من هؤلاء السريان رأسًا: القصة والبطل. زعم بعض المفسرين (راجع تفسير القرطبي للآية 82 من سورة الكهف)، متابعة لما دس عليهم من أقاصيص أهل الكتاب، أن «ذا القرنين» هو «الاسكندر» مؤسس الإمبراطورية اليونانية في الشرق الأدنى القديم، وترسخ هذا في أذهان الناس حتى شاع لقب «الاسكندر ذي القرنين» على هذا الملك الوثني، لا يتحرج مسلمون [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/111] اليوم من ذلك: عامتهم وخاصتهم. وهذا يدلك على مدى الخفة التي صار إليها المسلمون في هذا العصر. فشتان ما بين عباد آلهة في جبال الأولمب وما بين عباد الواحد الأحد جل جلاله الذين لم يكن ذو القرنين من عامتهم فحسب، بل كان من صفوتهم، الذي قال الله فيه: {إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا} [الكهف: 84]، والذي حكمه الله في قوم عند عين حمئة لقيهم ذو القرنين وقد آذنت الشمس بالمغيب: {حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا} [الكهف: 86 – 88]، والاسكندر، وملوك الأرض جميعا، أذل من ذلك. الذي يحكمه الله عز وجل فيمن كفر أو آمن، يحسن في طائفة ويعذب طائفة، فيجعل العذاب على الذين ظلموا ويجعل جزاء الحسنى لمن آمن وعمل صالحا، الذي يفعل ذلك بتحكيم الله عز وجل، لا يصح أن تنسبه إلى عبدة الأوثان، بل لا يصح أن تنسبه إلى عامة المؤمنين الصالحين، وإنما تسلكه في صفوتهم، الذين اجتباهم الله وأيدهم بروح منه، نبيا أو في مقام نبي. ولكنك لا تقول ما قال بعض المفسرين إنه «ملك» من ملائكة الله عز وجل، لأسباب ثلاثة: أولها أن الملائكة رضوان الله عليهم خلق مأمور، لا تخير كما خير ذو القرنين في القوم الذين لقيهم عند العين الحمئة، وثانيها لأن الملائكة رضوان الله عليهم لا يستعينون البشر كما استعان ذو القرنين الذين سألوه أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سدًا، يناولونه زبر الحديد وينفخون فيه نارًا حتى تلتحم الزبر، ثم يجيئونه بقطر يفرغه عليه، وثالثًا لأن الملائكة رضوان الله عليهم لا يمشون في الأرض مطمئنين يكلمون الناس ويستعملهم الناس: {قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا قال [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/112] هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد رب يجعله دكاء وكان وعد ربي حقا وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا} [الكهف: 94 – 101]. على أن ذا القرنين الذي يحدثك عنه القرآن لم يكن ملكا يمشي في جيشه كالذي كانه الاسكندر، وإنما كان رجلاً فردًا، وإلا لما احتاج إلى ما يناولونه زبر الحديد، ثم ينفخونه نارًا حتى تلتحم الزبر، ويأتونه بقطر يفرغه على هذا السد من حديد. وكما جانب المفسرين الأوائل الصواب في تعيين ذي القرنين بأنه الاسكندر مؤسس الإمبراطورية اليونانية في الشرق الأدنى القديم، وجد أيضًا من الباحثين الإسلاميين في القرن العشرين من وهموا أن ذا القرنين هو «كورش» ملك الفرس الذي انتصر لليهود من بني إسرائيل أيام سبيهم في بابل، الذي ردهم إلى «أورشليم» وأغدق عليهم، فعده اليهود من بعد «ملكًا قديسًا». وقد أصل الباحث مقولته بالعثور على تمثال لهذا الملك الفارسي وعلى رأسه تاج مقرن من خلف ومن قدام، فهو «ذو القرنين» على هذا المعنى. وليس بشيء، فقد خلف كورش ملوك حملت مثل هذا التاج، كان منهم الاسكندر المقدوني نفسه بعد اندحار الفرس أمامه. وليس بالضرورة أن يجيء لقب ذي القرنين المعنى من وجود قرنين على رأسه، تاجًا أو غير تاج. وخاض الباحث أيضًا في تعيين موقع «السد» مما لا نستطرد بك إليه، فقد خاض في تعيينه الأوائل على ما تقرأ في تفسير القرطبي واصطنعت له أحاديث، وليس بشيء، لأن موضع «السد»، بل موضع «السدين» اللذين ردم ما بينهما ذو القرنين ليحول دون نفاذ يأجوج ومأجوج إلى القوم الذين لا يكادون يفقهون قولاً: {ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قومًا لا يكادون يفقهون قولا قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا} [الكهف: 92 – 94]، كل هذا من المغيبات التي سكت عنها القرآن والحديث الصحيح. وقد سكت عنها القرآن [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/113] والحديث الصحيح لأنك لا تتصور أن يكون خروج يأجوج ومأجوج من علامات الساعة ثم يعين لك القرآن والحديث الصحيح مكان محبسهم على هذا الكوكب الذي نعيش عليه، تغدو عليهم الناس وتروح، كما لم يعين لك القرآن موضع تلك العين الحمئة والقوم الذين لقيهم عندها ذو القرنين في مغرب الشمس وحكم فيهم، يعذب منهم أو يتخذ فيهم حسنا، ولم يعين لك أيضًا القوم الذين لقيهم ذو القرنين في مطلع الشمس لم يجعل الله لهم من دونها سترا، بل قد تكتم القرآن أمرهم ولم يحدثك بما كان من شأن ذي القرنين معهم فقال عز وجل: {كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا} [الكهف: 91]، أي قد علمنا نحن ما قد كان من أمره معهم ولن نحدثك به، فالقرآن لا يحدثك بكل أخبار ذي القرنين، وإنما بطائفة من أخباره فقط، لقوله: {سأتلو عليكم منه ذكرا} [الكهف: 83] أي بعضًا من ذكره فحسب، أي خبره مع يأجوج ومأجوج، وهو المسئول عنه، وما سبقه تمهيد لهذا الحديث عن يأجوج ومأجوج، حتى تعلم مكان ذي القرنين عند الله عز وجل، فلا يذهب بك الوهم إلى أنه مهندس يجيد بناء السدود، أو أنه ملك من تلك الملوك ذوات التاج المقرن من خلف ومن قدام، الاسكندر أو كورش. يأجوج ومأجوج، محبسهم ومخرجهم، كأصحاب الكهف، من آيات الله عز وجل، مرقدهم ومبعثهم، ولكنه تبارك وتعالى جعل خروج يأجوج ومأجوج علامة على اقتراب الوعد الحق الذي به تؤمن، كما آمن ذو القرنين: {وكان وعد ربي حقا} [الكهف: 98]، وهذا حسبك. على أن نبوءة حزقيال – وهو من أعلام القرن السادس قبل الميلاد – بمقدم جوج أمير ماجوج وشعوب كثيرة معه إلى فلسطين وخراب أورشليم على يديه، تجعل الردم على يأجوج ومأجوج سابقًا على عصر حزقيال، وبالتالي سابقًا على كورش والاسكندر اللذين ملكا في فارس بعد حزقيال، فلا يصح أن يكون أحدهما هو الذي ردم عليهم. بل إن عصر الردم على يأجوج ومأجوج أسبق بقرون لا يعلمها إلا الله من مولد موسى ومولد عبرية التوراة. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/114] ذلك أن علماء العبرية وعلماء التوراة لا يستطيعون لجوج وماجوج اشتقاقًا من جذور اللغتين العبرية أو الآرامية، وإنما يقولون لك إن «جوج» هو أمير «ماجوج»، وأن «ماجوج» هي أرض «جوج»، لا يزيدون، فليس في العبرية، ولا في الآرامية، جذر مستعمل يعين على هذا الاشتقاق. فهما إذن اسمان وقعا في سمع حزقيال عبر أساطير سبقت مولد العبرانيين أنفسهم. على أن في المعجم العبري الآرامي لألفاظ التوراة (وهو من مراجع هذا الكتاب) الاسم «أجاج»، عَلَمًا على ملوك العماليق المعنيين بقوله عز وجل على لسان بعض بني إسرائيل في التيه: {قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون} [المائدة: 22]. ولم يستطع علماء العبرية وعلماء التوراة تفسير الاسم «أجاج» فردوه إلى الجذر العربي «أجج». وفي العبرية أيضًا اللفظ «جاج» ومعناه سقف البيت ونحوه، لا يعرف له كذلك أصل أو اشتقاق، فهو من «جوامد» تلك اللغة. وربما ظننت أن «جوج» من هذا، بمعنى المسقوف عليهم، أي المردوم عليهم. ولكن علماء العبرية وعلماء التوراة لم يتصدوا لهذا. أما «يأجوج» و«مأجوج» اللذان في القرآن، فهما اسمان عربيان أصيلان، تشتقهما من الجذر العربي «أجج»: «يأجوج» على زنة «يفعول» من أج/ يؤج/ أجا، وأجيجا وأجة أيضًا، ومن معانيه في العربية إلى الآن الإهاجة والاشتداد والاستثارة، والأجاج يعني اللاذع الممض مرارة أو ملوحة، ومن معاني الأجيج أيضًا الاضطراب والاختلاط، أما «مأجوج» فهي على زنة «مَفْعُول» من دأج» هذه نفسها، وكأن «أج» يصلح أيضًا متعديًا بنفسه، وكأن معنى «يأجوج ومأجوج» هو الذين يؤج بعضهم بعضًا. نعم. يأجوج ومأجوج من العربية الأولى، عربية آدم، لا تستطيع أن تحدد زمان الإرتاج عليهم، كما لا تستطيع تحديد موقعه من هذه الأرض التي نعيش [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/115] عليها، ولا تستطيع التنبؤ بزمن خروجهم، لاستئثاره عز وجل بعلم الساعة، لا يجليها لوقتها إلا هو. الذي تستطيعه هو فحسب تفسير «يأجوج ومأجوج» من القرآن بالقرآن، مقصدنا الأول من الحديث عن يأجوج ومأجوج في هذا الكتاب الذي نكتب: فسرت «يأجوج ومأجوج» في القرآن بالتعريب: الذي يؤج بعضهم بعضًا، ويستفز بعضهم بعضًا، ويموج بعضهم في بعض، كما قال عز وجل فيهم: {وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض} [الكهف: 99] والموج على المصدرية من ماجَ/ يَمُوجُ/ مَوْجَا، هو من الاختلاط والاضطراب، فهو تفسير بالتصوير، كما قال في موضع آخر: {وهم من كل حدب ينسلون} [الأنبياء: 96] كناية عن مدى الاختلاط والاضطراب. وفي الاختلاط والاضطراب فسادٌ وإفساد، ومن هذا قول الذين استعانوا ذا القرنين عليهم: {إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض} [الكهف: 94]. ونحن لا نخوض في كل من كان «يأجوج ومأجوج»، وكيف هم الآن في محبسهم، ولا نخوض كما خاض مفسرون في وصف خلقتهم وهيئتهم. هذا من غيب الله عز وجل الذي لم يشأ أن يطلعنا عليه فنحن نتوقف فيه. والله عز وجل بغيبه أعلم. ونحن أيضًا لا نخوض في مَنْ كان ذو القرنين المَعْنِيُّ في القرآن، وإن كنا نرجح – كما رجح مفسرون دون دليل – أنه هو نفسه العبد الصالح الذي صاحبه موسى في سورة الكهف ليُعَلِمَهُ مما علمه الله، فلم يستطع موسى معه صبرًا. وليس لدينا نحن أيضًا دليل على هذا نقترحه عليك، إلا شاهدين: الأول عجائب هذا العبد الصالح مع موسى بدءًا بالحوت الميت الحي الذي اتخذ سبيله في البحر عجبا، وانتهاء بَرَمِّه الجدارَ الذي كان لغلامين يتيمين في المدينة حتى يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما، فأشبه «السد». والشاهدُ الثاني – وهو أكثر دلالة – أن سورة الكهف تضم أخبارًا أربعة: (1) نبا الفتية أصحاب الكهف. (2) مثل الرجلين، صاحب الجنتين والذي حاوره. (3) قصة موسى مع العبد الصالح. (4) أخبار ذي القرنين. وقد فصلت سورة [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/116] الكهف بفواصل تطول أو تقصر ما بين هذه الأربعة (راجع هذا في سورة الكهف)، إلا ما بين أخبار ذي القرنين وبين قصة موسى مع العبد الصالح، فقد أتت بـ «ذكر» ذي القرنين مباشرة بعد قصة موسى مع العبد الصالح لا يفصل بينهما فاصل: {وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا} [الكهف: 82 -84]، وكأنها إشارة إلى أن المحكي عنه في النبأين واحد، وكأن ما تقدم ذكره من قصة موسى مع الذي صاحبه من أخبار ذي القرنين. والله عز وجل بغيبه أعلم. وأما معنى اسمه «ذو القرنين» فقد تعددت الأقوال فيه، على ما تجد في تفسير القرطبي للآية 83 من سورة الكهف، ولا دليل عليها من قرآن أو سنة، وإنما هي اجتهادات لأصحابها، أقربها إلى القبول أقربها إلى المنطق، وأبعدها أسمجها بالطبع، المنسوب إلى الإمام علي رضي الله عنه والإمام علي من هذا السخف براء: قيل كان رجُلا دعا قومه إلى الله عز وجل فشجوه على قرنه، ثم دعاهم إلى الله عز وجل كرة أخرى فشجوه على قرنه الآخر! والذي نقطع به نحن أن أهل الكتاب لم يسألوا عن: «ذي القرنين» بهذا الاسم، فليس في أخبار أهل الكتاب شيء اسمه «دي قرنيم» (وهي «ذو القرنين» بالعبرية)، وإنما سألوا عن الطوافة الرحالة الذي كانه «ذو القرنين». «ذو القرنين» إذن لقب تلقب به في القرآن. إن صح هذا فالراجح عندي استئناسًا بقصته في القرآن – ولا أقولها جازمًا فالله عز وجل بغيبه أعلم – أن «القرنين» هما قرنا الشمس كناية عن مغربها ومطلعها (والقرن هو أول ما يبزغ من قرص الشمس عند مطلعها وآخر ما يأفل منها عند مغربها)، وكأنه الطواف بين قرني الشمس من مغربها إلى مطلعها، كما في القرآن: {حتى إذا بلغ مغرب الشمس} [الكهف: 86]، {حتى إذا بلغ مطلع الشمس} [الكهف: 91]. ربما كان هذا هو سبب التسمية. والله عز وجل بغيبه أعلم. كيفما كان الأمر، فليس «ذو القرنين» من العلم الأعجمي الذي تتناوله مباحث هذا الكتاب، وإنما عرجنا عليه إيناسًا للقارئ، واستكمالاً لمبحث «يأجوج ومأجج». مثلما عرجنا من قبل على لفظة «طوى» في تحليل «سيناء»، وكما عرجنا من قبل على «ذي الأوتاد» في تحليل اسم «فرعون»). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 108-117] |
(39) اليهود:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (39) اليهود يزعم اليهود (وهي «يهوديم»، «يهودييم» في العبرية و«يهودائين» في الآرامية)، وتنطق دالها في العبرية والآرامية ذالاً، أنهم سموا هكذا نسبة إلى «يهوذا» ابن يعقوب. ولا يصح هذا وإن قاله العبرانيون أنفسهم وتابعهم عليه الخلق أجمع. لا يصح هذا لأنك لا تتصور أن يتسمى اليهود باسم ابن لأبيهم يعقوب، وأبوهم حي بعد، لم يذهب ببنيه وحفدته إلى مصر في ضيافة يوسف، وقد كانوا في مصر «بني إسرائيل» فحسب، وإسرائيل كنية يعقوب أبي يهوذا وأبيهم. وإذا استجزت النسبة إلى ابن لأبيهم، فلماذا «يهوذا» بالذات وليس هو بكر أبيهم، وإنما بكرهه «رأوبين» على ما مر بك، ولماذا حظى «يهوذا» بهذا الشرف من دونهم وفيهم «يوسف» صاحب الفضل وولي النعمة؟ وإذا لم يتسموا نسبة إلى «يهوذا» في مصر، فكيف ينتسبون إليه وحده في التيه وهم إثنا عشر سبطا أحدهم فحسب سبط يهوذا؟ ولماذا لم ينتسبوا في التيه – إن أرادوا بركة النسب – إلى سبط لاوي، سبط موسى وهرون، لا سيما و«لاوي» هو الثالث في ترتيب أبناء يعقوب و«يهوذا» الرابع؟ وكيف ينتسبون في التيه إلى «يهوذا» وموسى بين ظهرانيهم وموسى «لاوي» لا «يهوذي»؟ أفقد انسل من بينهم موسى؟ فما اليهود أجمع إ ن لم يكن منهم موسى؟ أفهل تسموا بهذا الاسم بعد موت موسى ودخولهم في بعض نواحي فلسطين بقيادة يشوع فتى موسى؟ فكيف يصح هذا وقد تفرقوا فيما بينهم أسباطا كل سبط في مساكنهم؟ وكيف يصح إطلاق هذا الاسم عليهم جميعا بعد افتراقهم مملكتين: مملكة يهوذا في الجنوب ومملكة إسرائيل في الشمال، تضم الأولى سبطى يهوذا وبنيامين، وتضم الأخرى العشرة الأسباط الباقية من بني إسرائيل؟ بل كيف جاز للآرامين أن يسموهم جميعًا «يهودائين»؟ [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/118] تُرَى، ما سر تلك الحظوة التي كانت ليهوذا بن يعقوب في تاريخ اليهود؟ السر كله هو أن كتبة «التوراة» يكتبون أسفارهم في ظل بيت داود الملك، وداود وسليمان من سبط يهوذا. تقرأ هذه في الترجمة العربية للإصحاح التاسع والأربعين من سفر التكوين، حيث يضع الكاتب على لسان يعقوب تفضيل يهوذا على كل إخوته وإن كان فيهم يوسف، فيبدأ بتنحية الأسن منه، رأوبين وشمعون ولاوي: رأوبين لأنه دنس مضجع أبيه (يريد أنه نكح ما نكح أبوه من قبل وينسى ما سجله على يهوذا الذي زنا بأرلمه ابنه ثامار فاستولدها من هذا الزنا ابنه «فارص»، ينسى هذا عمدًا لأن فارص هذا من آباء داود الملك على عمود النسب المباشر إلى يهوذا). أما شمعون ولاوي فلأنهما في غضبهما قتلا إنسانًا وفي رضاهما عرقبا ثورا. فيعقوب لهذا يفرقهما في إسرائيل. ويجيء دور «يهوذا» فيعطيه يعقوب كل شيء: «إياك يحمد إخوتك. يدك على قفا أعدائك. يسجد لك بنو أبيك»، «لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه (يعني لا يزال من نسله الملك والمشترع) حتى يأتي شيلو ويكون له خضوع شعوب». وقد كذبت النبوءة أول ما كذبت، في أول ملك ملك على بني إسرائيل، وهو الملك شاؤول (طالوت في القرآن)، وشاؤول من سبط بنيامين لا من سبط يهوذا، ولكن داود الذي من سبط يهوذا ورث شاؤول، وهذا هو سر اجتماع سبطي يهوذا وبنيامين في مملكة يهوذا من بعد داود وسليمان ولم يستقر الملك لبيت داود كما تنبأ الكاتب على لسان يعقوب، فلم يملك رحبعام بن سليمان بن داود حتى انشقت عليه الأسباط العشرة وانفصلوا وحدهم بمملكة إسرائيل، لم يتركوا له إلا سبطي يهوذا وبنيامين. بل إن هذا الملك المحدود لم يستقر لبيت داود كما تنبأ الكاتب، بل تراوح على بيت داود ملوك من أصحاب مملكة إسرائيل، ملكوا على يهوذا وإسرائيل كلتيهما. أما «شيلو» المتنبأ له بخلافة سبط يهوذا في الملك والاشتراع (أي الملك والنبوة) والذي يكون له خضوع شعوب، فقد طال انتظاره، حتى جاء البابليون فقضوا على هذا وذاك، ولم يبق من بيت داود إلا ذكريات وأشجان. أيا ما كان المر، فقد تأثر أحبار اليهود من بعد هذا الكاتب بنبوءة استقرار الملك والاشتراع (أي الملك والنبوة) في بيت داود الذي من سبط يهوذا كما تنبأ الكاتب [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/119] على لسان يعقوب، فاشترطوا أن يكون المسيح المنتظر من نسل داود الملك، لأنهم أرادوا، أو تمنوا، أن يكون المسيح ملكًا نبيًا على مثال داود وسليمان، يستردون به العزة الضائعة بعد سبى بابل، وكيلا يزول الملك والاشتراع عن سبط يهوذا كما قالت النبوءة، لا يعبئون بـ «شيلو» هذا من يكون. وكما تأثر أحبار اليهود بهذه النبوءة، فقد تأثر بها أيضًا «متى» و«لوقا» في إنجيليهما، بحرصهما على تأكيد أن المسيح عيسى ابن مريم هو نفسه المسيح الذي ينتظره اليهود، أي أنه المسيح بن داود، ينسبان كلاهما المسيح عليه السلام إلى داود – لا عَبْرَ والدته مريمَ عليها السلام فهي من سبط لاوي، سبط موسى وهرون، السبط الذي نبذه الكاتب على لسان يعقوب فأعزه الله بموسى وهرون ومريم أم عيسى عليهم جميعا صلوات الله وسلامه – وإنما عبر يوسف النجار خطيبها الذي هو من سبط يهوذا، في محاولة لإقناع اليهود بأنه هو هو المكتوب عنه في «توراة الأنبياء والكتبة» وإن شوشا بهذا على عذرية مولده صلوات الله عليه، فنصا كلاهما على عمود نسب «يوسف النجار» إلى يهوذا عبر داود، وأيضًا «فارص»، المولود كما يدعى سفر التكوين من زنا يهوذا بأرملة ابنه ثامار. وقد رذل المسيح عليه السلام هذه المقولة كما تعلم، مستنكرًا أن يكون هو ابنًا لداود، فهوي علم كما تعلم، وكما يعلم متى ولوقا والمسيحيون جميعًا، وكما شهد الله عز وجل في قرآنه المصدق المهيمن، أن المسيح عليه السلام مثله مثل آدم، مخلوق بكلمة «كن»، ألقاها عز وجل إلى عذراء لا تزن بريبة، فهو مولود بغير أب. وقد كان لمتى ولوقا غنية عن هذا لو قالا إن المسيح هو «شيلو» الذي ينتقل إليه الملك والنبوة بعيدًا عن سبط يهوذا. وقد قال بهذا فعلاً علماء المسيحية من بعد، فأسقطوا نبوءة «شيلو» على المسيح، دون التفات إلى أن مضمون النبوءة يوجب أن يكون «شيلو» من غير سبط يهوذا، فلا يحتاج النسابون إلى الارتفاع بنسب المسيح إلى داود. وقد فسروا اسم «شيلو» هذا من الجذر العبري «شلآ» (المأخوذ من «سلا» العربي على معنى كشف الهم والغم أي السلوى والسلوان) فهو المسيح «صانع السلام» والمراد أنه عليه السلام الذي يكون به السلام: سلام المرء مع نفسه، وسلامه مع الناس. وهذا كلام جميل، يصدق في حق النبيين جميعًا دون استثناء، فبهذا جاءت كل [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/120] رسالات السماء. وفي «شيلوا» قراءة أخرى يرجحها علماء التوراة: إنه «شلو»، يعني «الذي له» في العبرية، أي «الذي يئول الأمر إليه»، فيزداد الغموض غموضًا، شأن كل نبوءات التوراة، إلا أن تفسر «أيلولة الأمر» بمعنى «أيلولة الملك والاشتراع» التي تنبأ بها الكاتب لـ «شيلو». ولكن المسيح صلوات الله عليه قال: ما جئت لألقي على الأرض سلامًا، بل سيفًا! وما أصدق قوله عليه السلام، فما زال الحق الذي جاء به فتنة لمحبيه وشانئيه على السواء غ الي فيه فريق وأوضع فيه فريق، وهو صلوات الله عليه من هذين براء. أيضًا لم يملك المسيح كما ملك داود، بل قد رفع المسيح قبل أن يكون له – كما تنبأ الكاتب لـ «شيلو» - خضوع شعوب. ليس المسيح عليه السلام هو «شيلو»، وليس هو أيضًا ابن داود. أما نحن فنقول أن نبوة النبيين صلوات الله عليهم أجمعين، تثبت بذاتها، أي بما جاءوا به وبما قالوه أو صنعوه، لا تحتاج إلى كد الذهن في تصيد النبوءات من الكتب السابقة، صدق الكتبة أو زيفوا. ونبوة المسيح عليه السلام من هذا: دليلها من ذاتها لا من خارجها، شأنها شأن النبوات من إبراهيم إلى خاتم النبيين. وهذا حسبك. وقبل أن نتناول بالتفسير معنى اسم «يهوذا» بن يعقوب، ومعنى لفظة «يهودي» (وتنطق دالها في عبرية التوراة ذالاً كما مر بك) المقول بأنها صفة على النسب إلى «يهوذا» بن يعقوب، يحسن أن نرجع بك إلى معاجم العبرانيين أنفسهم لنستدل منها على وجوه إطلاق لفظة «يهودي» على ما نسميهم نحن الآن باسم «اليهود». ففي المعجم الحديث لألفاظ توراة الأنبياء والكتبة (هملون هحداش لتناخ) عبري/ عبري، وهو من مراجع هذا الكتاب المتخصصة، يقول لك المعجم المذكور (ص199) إن لفظة «يهودي» تطلق على وجوه ستة هي: (1) الساكن مملكة يهوذا، (2) الذي هو من جلاء يهوذا، أي ممن أجلاهم البابليون عنها، (3) الذي هو من أصلاء يهوذا الذين بقوا بالأرض ولم يجلوا، (4) سبى صهيون الذين ليسوا بكهنة أو لاويين، [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/121] يعني العامة من بني إسرائيل في هذا السبي خلاف الكهنة واللاويين «يسرائيليم هديوطيم»، (5) لقب اصطلاحي يطلق على من سكنوا «يهوذا»، المقاطعة الفارسية، (6) أبناء سبط «يهوذا»، فهو «اليهوذي» كما تقول «اللاوي»، «الشمعوني» إلى غيرهما من المنتسبين إلى أسباط يعقوب الإثني عشر. يتضح لك من هذا الكلام أن «اليهودي» في عبرية التوراة ليس هو «الإسرائيلي» بإطلاق، أي أن بني إسرائيل ليسوا كلهم «يهوديم»، وإنما بعضهم فقط: الذي هو من سلالة «يهوذا» بن يعقوب، أي المنتسب إلى أبيه «يهوذا»، وهذا لا خلاف فيه ولا غبار عليه، أما الآخر فهو المنسوب إلى ارض سميت «يهوذا»، كان من سبط «يهوذا» أو لم يكن وسواء بقى على تلك الأرض أو نزح منها. ويترتب على هذا مباشرة أن يخرج من عداد اليهود – سوى سبط يهوذا – كل أسباط بني إسرائيل الأحد عشر الأخرى الذين لم يسبق لهم سكنى «يهوذا»، بل ويخرج من عدادهم أيضًا موسى وهرون لأنهما أولا من سبط لاوي، وثانيًا لأنهما لم يريا في حياتهما أرض يهوذا، بل أرض فلسطين جميعًا، فقد ولدا في مصر وماتا في تيه سينائها. ويترتب على قول هذا المعجم المتخصص – والقول ما قاله لا ما نقوله نحن – أن «اليهودي» على النسب إلى شخص «يهوذا» بن يعقوب، وجدت على النسب إليه منذ أن وجد ليهوذا سبط ينسب إليه، أما التسمية على النسب إلى الأرض التي ملك فيها سبطا يهوذا وبنيامين فلا تصح إلا بعد انفصال مملكة «إسرائيل» بأسباطها العشرة من مملكة «يهوذا» في أولى سنى حكم «رحبعام» بن سليمان بن داود بعد حوالي خمسة قرون من خروجهم من مصر، على ما تقرأ في «توراة الأنبياء والكتبة». النسبة إذن عند صاحب هذا المعجم كما رأيت ليست إلى شخص يهوذا ولا تمت إلى يهوذا هذا بصلة، عدا انطباقها – حين تنطبق – على سبط يهوذا، أي أبناء يهوذا. وإنما اسم «اليهودي» عنده نسبة إلى أرض يهوذا، واليهود عنده هم مواطنو مملكة يهوذا أو من كانوا يوما ما من مواطني مملكة يهوذا منذ عصر ما بعد داود وسليمان لا شأن لهم بغيرهم من بني إسرائيل. على أن هذا الاسم – شاء صاحب المعجم أم لم يشأ – انطبق على بني إسرائيل جميعًا في أرض الشتات، لا يعرفون بغيره، فقد اختلطت الأسباط من بعد وتمازجت [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/122] الأنساب، لا تتوقف في تسمية جارك اليهودي أهو من سبط يهوذا أم لا، أكان من مواطني مملكة يهوذا أم لم يكن، يكفيك أنه ينتسب إلى موسى بن عمران. وقد أصبحت «اليهودية» عند أهلها وعند غير أهلها، هي اسم الدين الذي جاء به موسى، لا اسم له إلا هذا. ولكن نسبة هذا الدين إلى «يهوذا» بن يعقوب لا تصح، وقد مات يهوذا قبل موسى بنحو خمسة قرون. ولا تصح أيضًا نسبة اليهود كلهم إلى «يهوذا» بن يعقوب، وأكثرهم من غير سبطه. وإنما الشرف في هذا وذاك وقع ليهوذا بن يعقوب محض مصادفة، أن كان من سبطه داود وسليمان اللذان راحا – على قصر ملكهما – بكل ما كان لليهود في غابر الدهر من مجد سياسي على تلك البقعة المحدودة من أرض فلسطين. والذي نتوقف عنده في هذا السياق أن القرآن المعجز الذي عَلِمَ هذا كله قبل أن يعلمَهُ غيرهُ، لا يجيء قط بلفظة «اليهود» وقد وقعت في كل القرآن ثماني مرات – ولا بلفظ «اليهودي» وقد وقعت في كل القرآن مرة واحدة – إلا مقترنين بلفظي «النصراني»، «النصارى»، يعني أصحاب الملة على ما آل إليه اسمهم في عصره. أما إن أراد القبيلة أو الشعب في عصور سبقت – حتى الذين عبدوا العجل في التيه – فلا يقول إلا «قوم موسى» أو «بني إسرائيل»، وسبحان العليم الخبير. على أن القرآن يقول أيضًا «الذين هادوا»، وليست هذه كتلك، كما سترى. يستخدم القرآن في تفسير معنى لفظة «اليهود» أسلوب الترجمة على منهجنا في هذا الكتاب، فيقول: «الذين هادوا» من الجذر العربي هاد/ يهود/ هودا، يأخذها من قول موسى في استغفاره لقومه في فتنة العجل: {قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك} [الأعراف: 155 – 156]، أي تبنا وأنبنا. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/123] وقد تقول – كما أقول – أن القرآن يستخدم عبارة «الذين هادوا» أخذًا لبني إسرائيل بقول موسى على لسانهم: «إنا هدنا إليك»، أي يستخدمها على محمل تبكيت الذين هادوا ثم لم يهودوا، بل عصوا ثم هادوا ثم عصوا من بعد. وهذا جيد. ولكن الذي تندهش له، أن «الذين هادوا» هذه هي أحد وجوه ترجمة اسم «يهوذا» عبريًا – الشخص أو الأرض – لا عبرة بهذا أو ذاك، إن لم يكن أصوب هذه الوجوه. من معاني اليد في لغتنا العربية الصنيع والإحسان والمعروف، تقول: له على يد، تريد له عندي صنيع أنا له عارف، ممتن شكور. ويجيء على هذا المعنى الجذر العربي «يدي»، مجردًا أو مزيدًا في أوله بهمزة التعدية «أيدي». وعلى هذا المعنى أيضًا يجيء في العبرية الجذر العبري «يدا» (وأصله بالواو «ودا» الذي تستخدم العبرية المعاصرة مضعفة «ودا» بمعنى الاعتراف والإقرار)، والمعدى منه في العبرية بالهاء (كالمعدى في العربية بالهمزة على ما مر بك) هو «هودا» يعني أقر بالصنيع أو شكر (ومنه في العبرية المعاصرة «هودا» على المصدرية بمعنى عرفان الجميل أو الامتنان وأيضًا: «تودا» يعني: شكرًا). على أن «هودا» تعني أيضًا الاعتراف والإقرار على أصلها، ومنها «هودا بأشمه» يعني أقر بذنبه أو إثمه (والإثم في العبرية بالشين). وعلى هذا الوجه تستطيع أن تترجم إلى العبرية عبارة موسى عليه السلام في القرآن: «إنا هدنا إليك» (الأعراف: 156) بقولك عبريًا: «كي هودينو لخا»من «هودا» العبرية هذه، أي قد أقررنا لك على معنى التوبة والإنابة. وعلماء التوراة يشتقون اسم يهوذا من «هودا» أيضًا على زنة فعل المضارع المفرد الغائب المبني للمجهول يراد منه اسم المفعول، يشتقونه على معنى الشكر والعرفان فهو يشكر، بمعنى مشكور، استنباطًا من قول سفر التكوين على لسان والدته حين وضعته: «هبعام أوده إت يهوا، عل كن قارءا شمو يهوذا، وتعمد مليدت» (تكوين 9/ 35) التي تجدها في الترجمة العربية هكذا: «هذه المرة أحمد الرب. لذلك دعت ؟؟؟؟ يهوذا. ثم توقفت عن الولادة» (تكوين 29/ 35 – النص العربي). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/124] هنا تلمح على سن قلم الكاتب أنه يفسر جازمًا معنى «يهوذا» بمعنى الحمد الذي في عبارة والدته «هذه المرة أحمد الرب» على ما ترجمها المترجم العربي لسفر التكوين. والصواب أن تترجم هذه العبارة بقولك: «هذه المرة أشكر الرب» لا «أحمد الرب» لأن «هودا» العبرية بمعنى «شكر» لا بمعنى «حمد». والتفرقة بين الحمد والشكر من دقائق اللغة العربية، لا يفطن إليها كثيرون، ناهيك بغير الساميين الذين هم عن فهم هذه التفرقة أبعد، فهم يخلطون بين الحمد والمدح والشكر، كما تجد على سبيل المثال في الترجمة الإنجليزية لمعنى اسم «يهوذا»، فيقولون Praised يعني «ممدوح». ولو كانت «هودا» بمعنى الحمد لما جاز للعبرية المعاصرة أن تشتق منها «تُودا» يعني «شكرًا» الصحيح على قول سفر التكوين في هذا الموضع أن يهوذا معناها يشكر على البناء للمجهول، أي الذي هو موضع شكر والدته على إنجابها إياه، ذكرًا رابعًا، ولم تنجب بعد أختها وضرتها راحيل. وقد سمى العرب قريبًا من «يشكر» هذه، فكان من أعلامهم مثل «اليشكري». على هذا يكون معنى «اليهود»، أي «اليهوذيين» المنتسبين إلى «يهوذا»، أي إلى «يشكر» هو «اليشكريون». وقد تقول إن «ليئة» والدة يهوذا لم تقل هذا الذي قالها على لسانها كاتب سفر التكوين، بدليل أنه يضع في كلامها لفظة «يهوا» بمعنى «الرب» في النص العبراني، ولم تعرف «يهوا» هذه في العبرية إلا في رسالة موسى (خروج 6/ 3)، ولم يولد موسى إلا بعد هذا بخمسة قرون على الأقل. وإنما قال هذا كاتب يكتب عل زمنه عصر داود وسليمان يريد توثيق المعنى الذي يفسر به الاسم من أجل مجد بيت داود الذي من سبط يهوذا، استكمالاً لتفضيله يهوذا على جميع أبناء يعقوب على ما مر بك في موضعه من وصايا يعقوب أو بركاته لبنيه. وقد تكرر من الكاتب تأصيل معنى «يهوذا» على الفعل «هودا» العبري، لا على لسان ولادته هذه المرة وإنما على لسان أبيه، أعني في «بركات» يعقوب لبنيه، بقوله في الإصحاح التاسع والأربعين من سفر التكوين (النصر العبراني): «يهوذا أتا يوذوخا أحيخا» التي قالها المترجم العربي: «يهوذا إياك يحمد إخوتك» (تكوين [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/125] 49/8) يترجم هذه المرة أيضًا «يوذوخا» (وهي «هودا» في صيغة مضارع جمع الغائب) بمعنى الحمد، ربما متابعة للمترجم الإنجليزي الذي يستخدم فيها هنا أيضًا الفعل To Praise. ولكن المعجم العبري المتخصص الذي أحلتك إليه (ص197) يُخالف هنا المترجم العربي والمترجم الإنجليزي على السواء، إذ يتخذ من عبارة يعقوب هذه نفسها «أتا يوذوخا أحيخا» (إياك يحمد إخوتك) مثالاً لتفسير أحد معاني الفعل «هودا» العبري، فيقول – والقول ما قاله بالطبع فهو صاحب اللغة -: أتا يوذوخا أحيخا يتانو لخا هود ملخوت، كل هشبطيم يكيرو بعركخا، أي لا «إياك يحمد إخوتك» وإنما: يعطونك مجد الملك، كل الأسباط يقرون بفضلك. أعني أن هذا المعجم العبري المتخصص لا يفسر الفعل العبري «هودا» لا بمعنى «حمد» ولا بمعنى «مدح» أو «شكر»، وإنما يفسره بمعنى الإقرار والاعتراف. ليس هذا فقط، بل إن هذا المعجم العبري المتخصص يقول لك في نفس الموضع بالنص وهو يسرد عليك مختلف معاني الفعل العبري «هودا» إن «هودا» من معانيها عبريًا، «هتحرط»، يعني: «تاب وندم»، فهي التوبة والمثابة («تشويا» العبرية). متى صح لك هذا – وهو صحيح بقول شاهد من أهلها – جاز لك أن تفسر اسم «يهوذا» على معنى «الهائد» التائب المنيب. وكأن «يهوذا» أثارة من اسم النبي «هود» عليه السلام، مأخوذًا من العربية الأولى على ما مر بك في موضعه. وليس لنا بالطبع في هذا الكتاب أن نطالب المترجم العربي لسفر التكوين بتصحيح ترجمة عبارة «يهوذا إياك يحمد إخوتك» إلى: «يهوذا إليك يثوب إخوتك»، وإنما الذي يعنينا في مقاصد هذا الكتاب الذي نكتب هو أن القرآن المعجز علم من قبل أن معاني «يهوذا» الهائد المنيب، فجانس عليه في وصف «اليهود» المنتسبين إليه، فقال «الذين هادوا»، وكأنه يذكرهم بقول موسى يستغفر لهم ربه في فتنة العجل: {إنا [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/126] هدنا إ ليك} [الأعراف: 56] التي تقولها عبريًا: «كي هود ينولخا» على ما مر بك، يفسر لهم بها ما تسموا به. وسبحان العليم الخبير. وكما جاءت «الذين هادوا» عشر مرات في القرآن على الإبدال من «اليهود»، جاءت فيهم أيضًا ثلاث مرات لفظة «هود» (وقد وردت في المرات الثلاث مزيدة بألف تنوين المنصوب «هودا»). وقد قيل (راجع تفسير القرطبي للآية 111 من سورة البقرة) لمن «هود» هذه هي إما على التخفيف من «يهود» بحذف الياء البادئة، وإما هي «الذين هادوا» نفسها جاءت بصورة جمع الفاعل من «الذي هاد»، وهو الهائد، يجمع على هود. وهناك وجه أقترحه عليك، وهو أن «هود» هذه جاءت تسمية باسم الفعل من هاد يهود هودًا فهو «هود». هذا الوجه هو الراجح عندي، وهو أيضًا الذي إرتأيناه في تحليل اسم النبي «هود» عليه السلام، والتسمية بالمصدر واسم الفعل يستوي فيها المفرد والجمع. وكان هذا أيضًا مذهبنا في تفسير اسم النبي «لوط» عليه السلام من لاط يلوط لوطًا فهو «لوط». أما «يهود» فلم تقع في القرآن قط مجردة من الألف واللام، وإنما جاءت حيثما وردت، وقد وردت في كل القرآن ثماني مرات، معرفة بالألف واللام «اليهود»، والتعريف بالألف واللام كما تعلم يمنع من الصرف وجوبًا. ومن هنا لا ستبين لك منهج القرآن في جواز تنوين «يهود». والفصيح هو عدم جواز تنوين «يهود» لسببين: إن اعتبرتها أعجمية، فللعجمة، وإن اعتبرتها عربية، من هاد يهود، فلأنها مبدوءة بياء المضارعة كيثرب وينبع ويزيد، وهذا يمنع من الصرف وجوبًا. والذي أقول به أنا هو أن «يهود» بالذات ليست عربية، وإنما هي من الأعجمي الذي نطق به العرب قبل القرآن، وأنها قيلت بذاتها على معنى الجمع اسمًا لشعب أو قبيلة: تقول «ثلاثة رجال من يهود»، ولا تقول «ثلاثة رجال يهاويد أو ثلاثة رجال يهودين» أما إن أردت التنصيص على المفرد أو المثنى فأنت تقول على النسب «يهودي» أو «يهوديان». [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/127] وقد وقعت الصفة على النسب إلى «يهود» مرة واحدة فقط في كل القرآن، في قوله عز وجل {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما} [آل عمران: 67]. وجاء في فصيح العربية، بل وفي الصحيح من حديث سيد الفصحاء صلى الله عليه وسلم، لفظة «يهود» معرفة بمحض علميتها لا تحتاج إلى الألف واللام، يراد منها في الغالب ذلك الحي من يهود يثرب، كما تقول «عاد»، «ثمود». ولكن القرآن المعجز – وقد أتى بلفظة «اليهود» ثماني مرات – لا يأتي بها إلا معرفة بالألف واللام، يقطع شبهة تأويل مقولته فيهم في تلك المواضع الثمانية بأنها تنصرف إلى بعض من يهود دون بعض، من مثل قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} [المائدة: 51]، {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا} [المائدة: 82]: إنهم يهود كل مكان وكل عصر، سنة ماضية فيهم إلى يوم القيامة، فخذوا حذركم أيها المؤمنون الذين أسلموا. وقد مر بك في تقديمنا لهذا الفصل أن «اليهود» تسمية على المدح. ولو فهمها أصحابها على أصلها فعملوا بها لكان خيرًا لهم، ولكن اليهود هادوا ثم عصوا، ثم هادوا، ثم عصوا من بعد. ومن معاني الهود في اللغة، الهوادة والمهاودة، أي الانصياع وترك التأبي. والهود إلى الله عز وجل هو هذا بالذات: تجيئه مذعنًا قد سكن منك القلب والجوارح. إنه «إسلام الوجه لله» . من هذا قوله عز وجل في تفسير الذين هادوا: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا} [المائدة: 44]. ومنه أيضًا قول القرآن على لسان سليمان: {وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين} [النمل: 42]، أي أوتينا التوراة من قبل وكنا هودًا هائدين. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/128] بل منه أيضًا تلك الآية الجامعة لا قول بعدها لقائل: {إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} [آل عمران: 19] يعني إلا من بعد ما جاءتهم التوراة كما مر بك، فما جاءت التوراة إلا بهذا الإسلام نفسه. وأخيرًا قال الحق سبحانه: {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا} [آل عمران: 20]. هذا هو الدين القيم، لا يُدانُ لله بغيره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. فهل آن للذين هادوا أن «يهودوا»؟ عسى ربهم أن يرحمهم، أو يتوب عليهم ليهودوا). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 119-129] |
الفصل الثامن: داود ذو الأيد: أنبياء وملوك:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( الفصل الثامن داود ذو الأيد: أنبياء وملوك [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/131] يتناول هذا الفصل تفسير اثنى عشر اسمًا علمًا، هي: طالوت – جالوت – داود – الزبور – سليمان – إلياس – اليَسَع – ذو الكفل – يونس – أيوب – عزير – لقمان. والترتيب التاريخي للأعلام الخمسة الأولى: طالوت – جالوت – داود – الزبور – سليمان، ترتيب تتفق فيه التوراة مع القرآن. فطالوت هو شاؤول، أول ملوك بني إسرائيل، سألوا نبيا لهم أن يبعث الله عليهم ملكًا فبعث الله عليهم طالوت ملكًا، وهو شاؤول كما مر بك، ومعنى «شاؤول» عبريًا هو السؤل والطلبة كما سترى. وجالوت من جبابرة الفلسطينيين الذين كانت بينهم وبين إسرائيل حروب على عصر شاؤول. وداود كان يمشي في عسكر شاؤول، فخرج إلى مبارزة جالوت، وقتل داود جالوت [البقرة: 246 – 252]. والزبور هو «المزامير» في أسفار العهد القديم، وحي الله على داود كما تعلم. أما سليمان فهو ابن داود عليهما السلام، خلف أباه في بني إسرائيل فورث العرش كما ورث النبوة. أما الأعلام السبعة الأخرى: إلياس – اليسع – ذو الكفل – يونس – أيوب – عزير – لقمان، فلا يستبين لها ترتيب مقطوع به في القرآن. ولكنك تجد في التوراة إلياس في أعقاب سليمان، وتجد اليسع تلميذًا لإلياس، ويجيء ذو الكفل من خلفاء اليسع. أما يونس وأيوب فلا ترتيب لهما تطمئن إليه في التوراة، فجئنا بهما الواحد بعد الآخر، قبل عزير. وأما لقمان فقد انفرد به القرآن ولم تسمه التوراة. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/132] وليس المراد من عنوان هذا الفصل - «أنبياء وملوك» - أن رجاله جميعًا إما أنبياء وإما ملوك، أو أنهم ملوك أنبياء. نعم، قد كان منهم الملكُ النبي مثل داود وسليمان، وكان منهم الملك فحسب مثل شاؤول (طالوت) الذي كان ملكًا ولم يكن نبيًا، وكان منهم إلياس واليسع وذو الكفل ويونس وأيوب، أنبياء ليسوا بملوك. ولكن منهم أيضًا من ليس هذا ولا ذاك: جالوت، جبار فلسطيني عابد وثن، لا تثبت له التوراة صفة الملك على الفلسطينيين، ولا يُثبتها له القرآن، وإنما يثبت له صفة قائد جندهم أو أمير جُموعهم كما تجد في قوله عز وجل: {فلما برزوا لجالوت وجنوده} [البقرة: 250]، بينما هو في التوراة شجاع عملاق من أبطال جند الفلسطينيين فحسب. وثم أيضًا عزير، لا نبي ولا ملك. وثم أيضًا لقمان الذي انفرد به القرآن ولا تتجاوز به رتبة الصديق، فلم تثبت له النبوة في القرآن أو في حديث صحيح. وإنما الإشارة بهذا العنوان - «أنبياء وملوك» - هي إلى داود وسليمان، أبرز أعلام هذا الفصل، اللذين انفردا بالملك والنبوة جميعًا، صلوات الله وسلامه على جميع رسله وأنبيائه). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 130-133] |
(40) طالوت:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (40) طالوت مر بك في تضاعيف هذا الكتاب أن القرآن يخالف التوراة في تسمية أول ملوك بني إسرائيل: قالت التوراة: «شاؤول»، وقال القرآن «طالوت». وقد زعم بعض المستشرقين المنكرين الوحي على القرآن، أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أخطأ خطا بينا في تسمية شاؤول: قبلت له شاؤول فوقعت في سمعه طالوت، ولم يتثبت. وأنصف بعضهم – أو تحرى بعض الإنصاف ولم يستوف – فقال ان محمدًا صلى الله عليه وسلم علم من وصف هيئة شاؤول في التوراة إفراط شاؤول في الطول، فلقبه بكنية يستفاد منها المبالغة في الطول، فقال «طالوت» على الإبدال من اسمه الأصلي في التوراة «شاؤول» عالمًا أو غير عالم بهذا الاسم الذي لطالوت في التوراة. ولم يتصد هؤلاء – كما لم يتصد القرطبي رحمه الله في تفسيره الآية 247 من سورة البقرة – لسبب عدول القرآن عن «شاؤول» إلى طالوت، ولو علمه المستشرقون لما ملكوا إلا أن يشهدوا لهذا القرآن بإعجاز فوق إعجاز، كما سترى. ولكن الهدى هدى الله، والله عز وجل لا يهدي إليه إلا من أناب. رسما «شاؤول» بالألف بعد الشين على ما شاعت به في «الكتاب المقدس» (وترسم فيه أيضًا بواو غير مهموزة «شاول»)، وصحيحها في العبرية «شؤول»، على زنة «فعول»، زنة اسم المفعول في تلك اللغة، و«شاؤول» مفعول من «شأل» العبري، مكافئ «سأل» العربي بكل معانيه، وأخصها المعنى هنا الطلب، تقول سألت الله عز وجل، يعني طلبت منه وتمنيت عليه: {يسأله من في السموات والأرض [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/134] كل يوم هو في شأن} [الرحمن: 29] أي أنه جل وعلا الساعي في حوائج الخلق أجمع، كل يوم هو في شأن هذا وذاك وتلك، المستخفي بالليل والسارب بالنهار، لا يغفل عن النملة في أديم الأرض، ولا يسهو عن النبتة في صميم الجبل. وهذا من دقيق القرآن، لو تأملته لساخت نفسك، ولخشع العقل وانفطر القلب. «شاؤول» إذن معناها عبريًا «مسؤول» بمعنى موضع السؤال والطلب، فهو «طلبة» أو «سؤل» أو هو «المنة» و«الفضل»، كما قال عز وجل يستجيب لموسى: {قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ولقد مننا عليك مرة أخرى} [طه: 36 – 37]، يعني قد طلنا عليك بما سألت، أي طلنا عليك بسؤلك الذي سألت، وهذا شبيه بما سأله صموئيل لقومه: سألوا الله على لسان هذا النبي أن يبعث عليهم الله ملكا، فطال الله عليهم به، وكان لهم سؤلهم الذي سألوا. والقرآن المعجز، الذي لم يفته معنى «السؤال» الذي في شاؤول العبرية كما ظن المتطفلون على المباحث اللغوية من أدعياء الاستشراق المنكرين الوحي عليه، يجيء بشاؤول على «طالوت» العربية التي تجمع بين معنيين كما سترى: الذي طال الله به على قومه، والطوال الذي فاق بطوله كل أقرانه. فأي إعجاز وأي علم! كان شاؤول رجلاً طوالا، يعني مفرطًا في الطول، لا يتجاوز كتفيه أحد من قومه: «فوقف بين الشعب فكان أطول من كل الشعب من كتفه فما فوق» (صموئيل الأول 10/ 23) فكان طول قامته من دواعي تقبلهم له واجتماعهم عليه: «فقال صموئيل لجميع الشعب أرأيتم الذي اختاره الرب أنه ليس مثله في جميع الشعب؟ فهتف له كل الشعب وقالوا ليحيى الملك» (صموئيل الأول 10/ 24). والقرآن يعبر عن فرط طول قامة شاؤول بالبسطة في الجسم. ولكن القرآن يزيد قارئه بيانًا: {وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/135] والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم} [البقرة: 247]، يذكرهم بأنهم هم الذين استخاروا الله فيمن يملكون عليهم، وقد اصطفاه الله من دونهم، فلا قول بعد هذا لقائل. ولكنه عز وجل يتلطف، فيبين لهم أسباب الاصطفاء لهذا المنصب: لا عبرة بسعة المال، وإنما العبرة بالبسطة في العلم اللازم لإدارة شؤون الملك، وبالهيئة التي تحفظ الهيبة، وقد اجتمعا في «طالوت» طويل القامة الذي طال الله عليهم به. طال يطول طولا (مضموم الطاء في المصدر) يعني طالت قامته فهو طويل. أما طال يطول طولاً (بفتح الطاء في المصدر) فمعناه طالت قامته حتى فاق أقرانه فهو طوال. ومعناه أيضًا أفضل ومن أنعم: طاله بكذا، وطال عليه به، يعني جاد عليه بالفضل والمنة. والاسم من هذا، أي المطول به، هو الطيل، والطال والطالة أيضًا. وقد وصف الله عز وجل ذاته العلية بذي «الطول» (غافر: 3) يعني المنعم المفضال المتفضل. و«طالوت» مصدر صناعي من «الطال» على هذين المعنيين كليهما، الطوال والطال، كما قيل «ناسوت» من «الناس»، جاء بها القرآن ولم تسمع من العرب، إدلالاً بعلمه وإعجازه، فيجيء بشاؤول المعنى لا يسميه باسمه مترجمًا فحسب ولكنه يصوره لك أيضًا بصفته: لا تقرأ «طالوت» أو تسمعها إلا وتراه أمامك، الطوال العملاق. وسبحان العليم الخبير. وقد فطن مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 247 من سورة البقرة) إلى معنى «الطوال» الذي في «طالوت». ولكنهم، وقد علموا من أحاديث أهل الكتاب أن طالوت اسمه في التوراة «شاؤول»، لم يفطنوا إلى ما في «طالوت» من معنى الطيل والطال والطالة، أي الامتنان على السائل بما سأل، أي السؤل، معنى [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/136] اسم «شاؤول» عبريًا. وهم لم يفطنوا إلى هذا لأنهم لم يعلموا أن شاؤول عبريًا معناها «السؤال» عربيًا، وما كان لهم أن يعلموا هذا لأنهم لا يقرءون التوراة مباشرة في نصها العبري، ولأنهم أيضًا، وهذا أهم، لم يتوفروا على دراسة عبرية التوراة بالقدر اللازم لتأصيل معاني أعلامها. أما لماذا عدل القرآن عن «شاؤول» إلى «طالوت» التي لا وجود لها بذاتها أو بوجه قريب منها في أسفار التوراة التي بين يديك، فهذا كما مر بك هو منهج القرآن في التعريب: يعدل عن التعريب إلى الترجمة حين يُسيء التعريب إلى المعنى: إن قال في «شاؤول» شؤول على أصلها العبري، اختلط معناها بمعاني الجذر العربي «شال» بالشين غير مهموز، فعل العقرب، تشول عليك بذنبها، وهذا بعيد تمامًا عن معنى الجذر «شأل» العبري المهموز المكافئ لـ «سأل» العربي بالسين. وإن قال في تعريب «شاؤول» «سؤول»، أي شؤول العبرية معدولاً عن شينها إلى السين، شأن القرآن في الأعلام العبرية ذوات الشين، مثل «شلومون» المعربة على «سليمان»، أخذها القارئ بمعنى «سؤول» العربية يعن الكثير السؤال، أي السائل الملحف في السؤال، أي أخذها بعكس معناها في العبرية: السؤل، موضع السؤال. وقد كان في متناول القرآن بالطبع أن يترجم «شاؤول» بمكافئها العربي الدقيق، أعني «سؤل» أو سول (غير مهموزة، قد سمعت من العرب بمعنى «سؤل» المهموز)، أو يترجمها بفعل آخر بنفس معناها، وهو الطلب، فيقول «طلبة» (كما نسمي نحن في أعلامنا الآن فنقول «طلبة» بضم الطاء على معنى «البغية»). ولم يفعل القرآن هذا لأن «سول» غير المهموزة تختلط عند القارئ العربي بمعنى «التسويل» وهذا من معنى «شاؤول» العبري بعيد. ولأن «سؤل» و«طلبة» ليس لهما من الجرس القرآني الذي عهد نصيب. أما «طالوت» التي جاء بها القرآن – وهي من مستحدثات القرآن – يصيب بها الاسم والصورة معًا، فهي شأو في الترجمة بعيد، دونه قطع الرقاب. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/137] فسر القرآن إذن العلم العبراني «شاؤول» بالترجمة، فقال «طالوت»، والتفسير في القرآن بالترجمة يغني عن كل تفسير. ولكن القرآن يفسر أيضًا معنى هذا الاسم الأعجمي وهو الطلبة والبغية والسؤل، بالتصوير، في قوله عز وجل: {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله} [البقرة: 246]، أي سألوا الله على لسان هذا النبي ملكًا يقاتلون معه في سبيل الله، فاستجاب الله سؤلهم بشاؤول ملكًا. ولعلك تلاحظ هنا أن «شاؤول»، شأنها شأن كثير من أعلام التوراة، تشبه أن تكون كنية يتكنى بها العلم المقصود بعد تحقق الصفة والحال، أي ما كان شاؤول «سؤلاً» يوم ولد، وإنما يوم ملكه الله عليهم بسؤالهم إياه. وطالوت العربية من هذا أيضًا بلا جدال، فلا أحد يتسمى يوم مولده بالطوال العملاق، إلا أن يراد منها المعنى الآخر، الفضل والمنة، الذي تأخذه من الطال والطالة، فلا تدري أي الاسمين كنية، ولا تدري أيضًا أي الكنيتين أسبق من الأخرى في تسمية هذا الملك. أما لماذا جاءت «طالوت» في القرآن – وهي عربية – اسمًا ممنوعًا من الصرف غير منون، فالوجه عندي أن أخص سبب لهذا هو الإشارة إلى عجمة صاحب الاسم العلم). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 134-138] |
(41) جالوت:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (41) جالوت ترسم «جالوت» في التوراة «جليات»، وتنطق تاؤها في عبرية التوراة ثاء لاعتلال ما قبلها بالألف اللينة (أي غير المهموزة) على ما مر بك من قواعد النطق في تلك اللغة. وضم الجيم في «جليات» العبرية اصطلاحي بحت، لأن جيمها في الخط العبري مشكولة بالفتحة المفخمة الممدودة، ولكن سكون اللام بعد الجيم في المقطع الأول ونبر الألف اللينة في المقطع الثاني (جل – يات) يوجبان في اصطلاح علماء العبرية خطف المقطع الأول، أي تقصير زمن نطقه، فتنطق الفتحة المفخمة فيه «ضمة» خلافًا للرسم، أي أنها ترسم بالفتحة «جليات» وتنطق بالضمة «جليات». وهذا يدلك على أن الأصل فيه قد كان الفتحة، كما في جيم «جالوت» التي في القرآن. هذا إلى أن ضوابط النطق من نقط وشكل في التوراة التي بين يديك على مقتضى الرسم الذي ابتدعته جماعة «بعلى ماسورا» أي (أهل الأثر) على مدى ثمانية قرون من القرن الثاني إلى القرن العاشر الميلاديين في ظل المسيحية ثم في ظل القرآن، ليست لها حجية الشيء الموحي به، كما مر بك في تضاعيف هذا الكتاب. هذا فضلاً عن أن صاحب هذا الاسم كما تقول التوراة كان رجلاً فلسطينيًا ليس بعبري من بني إسرائيل، وأنه رغم وحدة الجذور بين اللهجات العبرية والآرامية والكنعانية كان ينطق اسمه بلهجة آبائه وأجداده، غير مجبر على اتباع النقط والشكل اللذين ابتدعهما أهل الأثر وانتهوا منه في القرن العاشر الميلادي بعد نحو ثمانية عشر قرنًا من مهلك «جالوت». وقد زل أدعياء الاستشراق زلة فاحشة في «جالوت» التي في القرآن، كما زلوا من قبل ومن بعد في غيرها: قالوا إن محمدًا صلى الله عليه وسلم ربما سمع [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/139] من يهود يثرب لفظة «جالوت» العبرية (ومعناها عربيًا الجلاء) تتردد على أفواههم – يعني جلاء بابل أو سبى بابل على أيدي بختنصر – فنحت منها اسم ذلك الجبار الفلسطيني «جليات» الذي قتله في التوراة وفي القرآن داود. والذي أرجوك إياه هو أن لا تسخر من هذا العبث الذي قاله أدعياء الاستشراق هؤلاء، وإنما ترثى معي لقائله الذي أعماه الهوى عن الحق، يبني على مقولة النقل والتلقين ولا يتوقف بينه وبين نفسه ليتساءل: أين وكيف ومتى استطاع محمدٌ صلى الله عليه وسلم التسمع على يهود يثرب في خلوتهم وهم يتطارحون بالعبرية أشجان ذكريات سبيهم في بابل فلا تعي أذناه من غمغمتهم بمراثيهم سوى لفظة «الجلاء» أي «جالوت» العبرية هذه؟ أو قد كان يهود يثرب يتطارحون أشجان بابل في يثرب بالعبرية فيما بينهم أم كانوا يحدثون بها النبي وأصحابه؟ فكيف استعصى عليهم الإتيان بلفظة «الجلاء» العربية التي تكافئ «جالوت» العبرية وقد كان من يهود يثرب من يتقنون العربية كالفصحاء والشعراء من أهلها؟ بل كيف يتشدقون أمام العرب بأيام نحسهم ومذلتهم في بابل، وهم الهازئون بالعرب، المتعاظمون عليهم؟ وهب أن محمدًا صلى الله عليه وسلم وقعت في أذنيه لفظة «جالوت» العبرية هذه من يهود يثرب في نَدْبِهِمُ «الجلاء» ولا يفقه لها معنى، فكيف فطن إلى أنها تصلح اسمًا لذلك الجبار الفلسطيني الذي سماه القرآن «جالوت» ولا تصلح اسمًا للملك «شاؤول» الذي سماه القرآن «طالوت»؟ أفقد سمع أيضًا من يهود يثرب أخبار ما كان بين «جليات» وداود؟ فكيف يخلط، وهو اللقن الفطن، بين اللفظتين العبريتين «جالوت»، «جليات»؟ وهبه قد علم أن «جالوت» العبرية معناها الجلاء، فكيف يجيء بها اسمًا لرجل على الإبدال من «جليات» التي انبهمت عليه؟ [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/140] ولماذا يعدل أصلاً عن «جليات» إلى «جالوت»؟ أفقد علم أيضًا أن «جليات» و«جالوت» العبريتين لفظتان بنفس المعنى عبريًا، أم علم ما لمي علمه علماء العبرية وعلماء التوراة فأراد أن يصحح لهم «جليات» إلى «جالوت»؟ إنما قال أدعياء الاستشراق هؤلاء ما قالوه لأنهم إما يجهلون معنى «جليات»، وإما أنهم يعلمونه ولكنهم يفترضون فيك الجهل به، فهم يعمون عليك ويخلطون، آمنين ألا ينكشف لك باطل دعواهم. ولأن الهوى والغرض داء مميت، فقد مات هؤلاء الأدعياء بدائهم. أما القرآن الخالد الباقي، قول الحق الذي فيه يمترون، فهو الذي قد علمت: أفقه بالعبرية من أهلها، وسبحان الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم. يشتق علماء التوراة اسم «جليات» من الجذر العبري «جلا»، وهو جذر بنفس المعنى في اللغات الثلاث: العبرية والآرامية والعربية. تقول منه جلا عن وطنه، ومن وطنه، يجلو، جلاء، وجلوا أيضًا، يعني نزح عنه، خشية خوف أو جدب، يلتمس الأمن أو الرزق في غيره، فهو «الجالي»، والجالية، شأن تلك «الجاليات» الأجنبية التي لا يخلو منها بلد يوفر الأمن والرزق لتلك الجاليات في مهجرها. وتقول أيضًا: أجلاه عن وطنه إجلاءً (وجلاه أيضًا جلاء وجلوا) يعني قهره على الجلاء، أي أخرجه منه كرهًا، فعل الغاصب الغازي، فالفاعل – أي هذا الغاصب – مجل، وجال أيضًا، والمفعول – أي الذي أخرجه الغاصب من أرضه – مجلو، ومجلى أيضًا، والاسم الإجلاء، والجلاء أيضًا. وتصلح «الجلاء» تسمية بالمصدر يستوي فيها المذكر والمؤنث، والمفرد والجمع. تقول: هؤلاء القوم هم جلاء بابل، أي الذين أجلاهم بختنصر عن مملكة يهوذا، وعن «أورشليم» بالذات التي جعل أهلها أثلاثًا: ثلث في القتلى، وثلث في السبي، وثلث استحياه فتركه يهيم في خرائبها [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/141] وينوح على أطلالها، وتلك هي النازلة التي يشير إليها القرآن في «مواعيد بني إسرائيل» بقول الحق سبحانه: {فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي باس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا} [الإسراء: 5]. وهذا الجلاء أو السبى كتبه الله من قبل على الظالمين من بني إسرائيل، لا يخرجون من جلاء حتى يقعوا بظلمهم في جلاء غيره، لقوله عز وجل: {ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار} [الحشر: 3]، سنة ماضية فيهم إلى يوم القيامة: {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس} [آل عمران: 112]، والحبل هنا بمعنى الإمهال والمد: يمد لهم الله حينا ويمد لهم الناس أحيانًا. والذي «يمد لهم» لا يلبث هو نفسه حتى ينقلب عليهم، بظلمهم حينا، وبلغوائهم وبطرهم أكثر الأحيان. «الجلاء» إذن كلمة غليظة في سمع بني إسرائيل، لا تهيج فيهم ذكريات مأساتهم على أيدي البابليين في القرن السادس قبل الميلاد فحسب، ثم على أيدي الرومان حوالي الربع الأخير من القرن الأول الميلادي في أعقاب رفع المسيح، ثم إجلاؤهم عن شبه الجزيرة أواخر عهد عمر رضي الله عنه في أواسط القرن السابع للميلاد، ولكنها تذكرهم أيضًا وبالأخص بخطر الجلاء الآتي، والجلاء الذي يليه، إلى دور فدور: إنه العقاب الغليظ الذي خصهم الله به في هذه الدنيا كلما ظلموا، يذيقهم الله إياه ما بين كل نوبة من نوبات «إرخاء الحبل»، يعظهم بواحدة ويبتليهم بأخرى، فما ارعوى الموعوظ ولا المبتلى. ولكن «جلاء بابل»، الذي كان أول جلاء أذاقه الله بني إسرائيل بظلمهم، حدث بعد «طالوت وجالوت» بقرون، فكيف يجيء من «الجلاء» جليات؟ [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/142] من أعلام التوراة عَلَمان مشتقان من مادة الجذر «جلا» هما: «يجلي»، «جليات». الأول – وهو «يجلي» - ورد في اسم الرئيس «بقى بن يجلي» اسم رجل كان في التيه مع موسى (سفر العدد 34/ 22) وهو كما يقول لك السفر رجل عبري قح من سبط بني دان. أما الثاني «جليات» فهو رجل فلسطيني (سفر صموئيل الأول 17/ 23) بارزة فتى يقال له داود، خرج إليه من عسكر شاؤول الملك، فقتل داود جالوت كما في القرآن. وأنت بالطبع لا تتصور أن يتسمى إسرائيلي في مصر، وهو «يجلي» أبو «بقى» الذي كان من رؤساء بني إسرائيل في التيه، باسم مشتق من «الجلاء» على معنى الأسير المسبى ولم يكن بعد ثم «جلاء»، حتى إن اعتبرت خروجهم إلى التيه جلاء وليس نجاء. ولكن علماء التوراة (راجع المعجم العبري الآرامي لألفاظ التوراة الوارد في قائمة مراجع هذا الكتاب تحت مادة «جلا») يقولون لك بالنص إن معنى اسم «يجلي» هذا هو من مادة «الجلاء» على معنى الأسير المسبي. وأنت أيضًا لا تتصور أن يتسمى «جليات» الفلسطيني باسم مشتق من مادة «الجلاء» على معنى السبى، ولم يكن قد حدث لبني إسرائيل جلاء بعد، فضلاً عن أن الرجل كما قالوا فلسطيني، لا شأن له بجلاءات بني إسرائيل، ناهيك بأن الرجل من جبابرة قومه، فلا يصح لهم وله أن يدعى بهذا المعنى اسمًا أو كنية. ولكن علماء التوراة (راجع المعجم المذكور تحت نفس المادة) يقولون لك بالنص أن «جليات»، اسم هذا الفلسطيني، مشتقة من مادة «الجلاء» مصدرًا أو مفعولاً، فهو «السباء» أو «السبى». أما نحن فنقول أن «الجلاء» في العبرية والآرامية والعربية جميعًا، له معنى آخر، هو الأصل في استعمال «الجلاء» في معنى الإخراج من الوطن أو الخروج منه، أي الخلاء والإخلاء (بالخاء المنقوطة من فوق فيهما): إنه الإبانة والبيان والبينونة والبين. تقول بان اللحم عن العظم، أي زال فانكشف العظم من تحته، وتقول جلا الصدأ عن السيف، أي أزال ما يحول دون لمعانه، وجلا بصره، يعني أسقط عنه الغشاوة، وتقول جلا الأمر فأصبح جليا بينا، وتقول «ابن جلا» (غير مهموز) تعني [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/143] الرجل الشريف في قومه يعرف مكانه، وجلا عمامته يعني وضعها فكشف رأسه، وجلا الشعر يعني انحسر عن مقدمة الرأس، إلى آخر ما تعلم. لهذا فنحن نخالف علماء التوراة في تفسير هذين الاسمين «يجلي»، «جليات» ونقول جازمين أن معنى «يجلي» العبراني هذا (وقد جاء بصيغة المضارع المبني للمجهول مرادًا منه اسم المفعول كما مر بك) هو «المجلو» الجلي البين الواضح. وعلى هذا المعنى نفسه نفسر أيضًا اسم «جليات» أو «جالوت» - لا شأن لك بما كان ينطق هذا الرجل اسمه على عصر طالوت وداود فليس للغويين اليوم إلى هذا من سبيل – فنقول إنه «الجلا» (غير مهموز) على معنى الرجل الشريف في قومه، يُعرف مكانه، كالذي تتوقعه من فارس قرم شجاع، يخرج لمبارزة أقرانه، ويأنف من مبارزة من كان دونه، على ما يقوله لك السفر من أن «جليات» أنف من مبارزة ذلك الفتى المغمور الذي كانه داود، ومثلما تقرأ في كتب السيرة عن فارس حلف قريش في غزوة الخندق، عمرو بن ود، الذي هاب الخروج إليه فرسان المسلمين، وأراد أن يخرج إليه علي بن أبي طالب، والنبي ينهنه من حماس علي، ويقول له: اجلس، إنه عمرو! يقولها ثلاثًا حتى يقول علي في الثالثة: يا رسول الله، وإن كان عمرًا! فيأذن له صلى الله عليه وسلم ويدعو له، ويقتل علي عمرو بن ود، كما قتل داود جالوت. ربما قلت معي إن علماء التوراة أرادوا بتفسيرهم «جليات» على معنى السباء المسبى، النيل من هذا الجبار الفلسطيني الذي صال على بني إسرائيل، ولا يصح هذا من علماء يأخذ عنهم الناس. الصحيح في «جليات» أنه «ابن جلا» لا العبد السبي. وقد فسر القرآن هذا الاسم على معنى «الجلا» الجلي الواضح، بالتعريف فجاء به على المبالغة «جالوت»، كما قيل من «طغى» «طاغوت»، وأمثالها. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/144] وفسره القرآن أيضًا بالمرادف الملاصق القريب من معناه، في قوله ع ز وجل: {فلما برزوا لجالوت وجنوده} [البقرة: 251]، و«برز» في معجمك العربي يعني ظهر بعد خفاء، وأبرزه يعني أظهره وبينه فهو «مبرز»، يعني جلي واضح ظاهر، والبرزة المرأة التي تجالس الرجال. أما موانع «جالوت» من الصرف فهي نفس ما قلناه في «طالوت». وسبحان العليم الخبير). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 139-145] |
(42) داود:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (42) داود ترسم «داود» في التوراة بأحرف ثلاثة فقط هي «دود» بغير ألف بعد الدال، ولكن جماعي «بعلى ماسورا» تضبطه في التوراة التي بين يديك بحيث ينطق «داويد» (التي آلت في العبرية من بعد إلى دافيد David بعد أن تحورت الواو على ألسنة اليهود إلى الفاء في مواضع أخصها حين تكون بادئة في الكلمة أو المقطع، ومنها: (دا – ويد). وعلماء العبرية وعلماء التوراة يفسرون «داويد» هذه على «فاعيل» بمعنى «مفعول» من جذر يفترضونه في العبرية، وهو الجذر «دود»، مقلوب الجذر العربي «ود» فهو وديد، يعنون الحب المحبوب. وليس هذا على شهرته بشيء كما سترى. أما مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 84 من سورة الأنعام) فقد توقفوا في «داود»، قالوا أنه اسم أعجمي فحسب، ولم يفسروه. ويرى المستشرقون أن الاسم «داود» كان معروفًا في شبه الجزيرة قبل نزول القرآن بنطقه الوارد في القرآن، متحورًا عن أصله العبري «داويد»، فأتى به القرآن على ما كان العرب ينطقونه. وهو قد تحور على ألسنة العرب من «داويد» إلى «داود» التي ترسم اصطلاحًا بواو واحدة وأصلها بواوين (داوود) لأن الواو الوسطى حين تمد، يمدها العرب بالواو على وزن «فاعول» ولا يمدونها قط بالياء «فاعيل». والذي لم يلتفت إليه هذا المستشرق وأضرابه أنه ليس في العبرية كلها – عبرية التوراة والعبرية المعاصرة – لفظ عبري واحد مشتق من فعل واوي أجوف (على مثال الجذر المفترض «دود») على زنة «فاعيل»، إلا «داويد» التي ارتأت جماعة «بعلى ماسورا» (أهل الأثر) ضبطها على هذا النحو في تسمية داود الملك، الحب المحبوب. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/146] ولو أريد تسمية داود على معنى الحب المحبوب، لقيل في العبرية «دود» على أصل حروفه الثلاثة «دود» في الخط العبري، أو لقيل في العبرية «يديد» على «فعيل» من الجذر العبري المستعمل – لا الممات - «يدد» المكافئ العبري المباشر للفعل العربي «ود»، ولما كانت لعلماء العبرية وعلماء التوراة من حاجة إلى افتراض جذر ممات في العبرية اسمه «دود». وأما الذي جهله هؤلاء وهؤلاء فهو أن القرآن المعجز يخالف علماء العبرية وعلماء التوراة في تفسيرهم اسم داود على معنى الحب المحبوب، وإنما يقول أن «داود» عناها «ذو الأيد»: {واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب} [ص: 17] يفسر داود بذي الأيد على الترادف المطابق اللصيق. وهذا من فرائد إعجازات القرآن التي تتناولها مباحث هذا الكتاب الذي نكتب. فالحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. كان شاؤول كما تعلم هو أول ملك ملكه بنو إسرائيل على أنفسهم، اختاره الله لهم على ما تعلم من التوراة ومن القرآن. والذي تتوقعه من شخص يصطفيه الله عز وجل على علم للحكم والملك أن يكون صفوة بني إسرائيل جميعًا. ولكن بني إسرائيل كدأبهم في بطر النعمة ما لبثوا أن كرهوه لحزمه وصرامته، فأكثروا عليه الأقاويل في أسفار العهد القديم، وادعوا أنه سقط في عين الرب لخروجه على نصائح صموئيل النبي الذي جاءهم به، وآثروا على شاؤول داود، ذلك الفتى الرقيق الجميل، البطل الذي قتل بحجر في مقلاعه عملاقًا فلسطينيًا اسمه «جليات». أما شاؤول الملك فقد عرف قدر داود وأحبه، وقربه منه، حتى زوجه من ابنته وربما آثره على كل بنيه، بل وفكر في استخلافه من بعده. ولكن دسائس البلاط تفرق بينهما، حتى يخشى شاؤول على نفسه من غدر داود، وحتى يفر داود بنفسه من شاؤول الذي طلب قتله. أحب شاؤول داود أشد الحب، وأبغضه أيضًا فأمعن في بغضه، وكأنه كان يغار منه. ويموت شاؤول على حالي الحب والبغض لداود، ولكنه لا يموت بيد داود، وإنما بيد [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/147] الفلسطينيين الذين بدأ حكمه بحربهم وانتهى أيضًا على أيديهم في جولة انكسر فيها شاؤول وجيشه، ويصاب شاؤول بجرح شديد من سهم قاتل، وتنزف منه الدماء فيجهز على نفسه بسيفه قبل أن يمثل به أعداؤه، فيملك بنو إسرائيل داود مكانه (راجع أخبار شاؤول وداود في سفر صموئيل الأول وفيه تهاويل كثيرة لا نستطرد بك إليها). والذي يعنينا هنا أن بني إسرائيل أصفوا داود الود، وأحبوه الحب كله. لم يحبوا فيه داود النبي – بل قل لم يكن داود عندهم بنبي – وإنما أحبوا داود الملك، لا يعدلون به ملكا غيره في كل تاريخهم على قصر عهدهم بالمُلك. لهذا استقام لعلماء العبرية وعلماء التوراة تفسير اسم داود (أي «داويد» ) بمعنى الحبيب المحبوب، وإن لم يستقم هذا التفسير على أصول العبرية كما سترى. ليس في العبرية كما مر بك جذر اسمه «دود»، وإنما الذي في العبرية من هذه المادة أسماء جوامد لا اشتقاق لها، وهي ستة: - «دُود» بضم الدال البادئة، يعني عم أو خال. - «دُود» بضم الدال البادئة، صفة بمعنى الحِبُّ الصديق. - «دثود» بضم الدال البادئة أيضًا، لا تستخدم إلا بصيغة الجمع «دُوديم» بمعنى الملاطفة والتحبب. - «دُود» (بنفس نقط «دُود» العربية) بمعنى سلة. - «دُود» (بنفس نطق «دُود» العربية) بمعنى قِدْر أو مِرْجَل. وهذه مشتقة من جذر سرياني «دُود» بمعنى هاج واضطرب. - «دُود» (بنفس نطق «دُود» العربية) ثمرة نوع من النبات اسمه «يُبْرُوح» أو «لفاح» وهو بالإنجليزية mandrake و mandagora. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/148] هذا بالإضافة إلى أعلام توراتية أخرى هي: «دُودو» يعني حبه أي «حب الله»، «دودوهو» بنفس المعنى، «دودي» أي «حبي»، وبالإضافة بالطبع إلى «داود» التي ترسم «دود». وهذه الأعلام كلها، بما فيها داود، ترد جميعًا إلى «دود» بضم الدال، فلا تدري لماذا خرجت عن هذا النسق «داويد». وهنا يثور سؤال: كيف يفترض جذر واحد ممات اسمه «دود» لتفسير هذه المعاني الست: العم – الحب – التحبب – السلة – المرجل – ثمرة اللفاح؟ إن جازت الصلة بين الحب والتحبب، فما الصلة بين العم والسلة، وبين هذين وبين المرجل وثمرة اللفاح؟ وإذا كان اسم داود (داويد العبرية) مشتقًا من الجذر المفترض «دود»، فلماذا الإصرار على أنه من «دود» بمعنى الحب، وليس من «دود» بمعنى العم، وكلا «الدودين» يكتب وينطق سواء؟ وإذا كان اسم داود (داويد العبرية) بمعنى «الحب» هو نفسه «دود» الحب – كتابة ومعنى – فلماذا انفردت «دود» التي هي اسم داود بالنطق «داويد» على خلاف الرسم؟ ولماذا تخصصت «داويد» (المرسومة «دود») بمعنى «الحب» اسما علمًا لداود الملك، وامتنع استخدامها صفة بمعنى «الحب»، لا يستعمل في موضعها كصفة إلا «دود» التي تنطق «دود» دون خشية اختلاطها بمعنى العم أو السلة أو المرجل أو ثمرة اللفاح؟ ولماذا الإصرار على جذر ممات اسمه «دود» بمعنى المودة والحب ولدى العبرية جذر آخر بنفس المعنى هو «يدد» مكافئ «ود» العربي – مبدلاً من واوه ياءً شأن العبرية والآرامية في كل جذر عربي مبدوء بالواو كما مر بك – لا تزال تستخدم العبرية المعاصرة منه صيغة «هتيدد» بمعنى «تودد» العربي ولا تستخدم قط صيغة فعلية من الجذر المفترض الذي اسمه «دود»؟ بل والأصل في العبرية «يديد» من هذا الجذر «يدد» لا من «دود»، تلقب بها سليمان بن داود عليهما السلام فقيل «يديديا» أي حب الله، ولم يقل «داويديا» من اسم «داويد» (داود) أبيه؟ الصواب أن يقال أن «دود» بمعنى الحب أصلها «يدود» من «يدد» حذفت ياؤه البادئة تخفيفًا (ولهذا نظائر في العبرية يعرفها المتخصصون)، لا حاجة لعلماء العبرية وعلماء التوراة بافتراض جذر ممات اسمه «دود». [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/149] وإنما اضطروا إلى افتراض هذا من أجل تفسير «داويد» بمعنى الحب لا أكثر ولا أقل، ولم يعبئوا بتفسير سبب كتابتها في الخط «دود» تماما كـ «دود» الأخرى بمعنى الحب. ولست أقول أن جماعة «بعلى ماسورا» (أهل الأثر) افتعلوا «داويد» نطقا لـ «دود» التي في الرسم، وإنما هم ضبطوها على ما كان ينطق به هذا الاسم في عصرهم «داويد» التي تجدها بهذا النطق نفسه في رسمها اليوناني بأصول الأناجيل، دون أن يتساءلوا عن سبب رسمها في مخطوطات العهد القديم بأحرف ثلاثة: الدال والواو والدال «دود». وقد مر بك أن جماعة أهل الأثر هؤلاء بدأت عملها في القرن الثاني الميلادي، ولا شك أنها ضبطت أعلام العهد القديم على ما كانت تنطق به في عصرها، وما كان يجوز لها غير ذلك في الأسماء الأعلام بالذات. ومر بك أيضًا أن الحاجة إلى ضبط نصوص العهد القديم بالشكل والنقط نَشأت عن وقوع اللحن في قراءة هذه النصوص في خط لا يعبأ كثيرًا بإثبات حركات المد بعد مضي نحو عشرة قرون على عصر داود عليه السلام. أما كيف كان داود ومعاصروه ينطقون اسمه المرسوم في أسفار التوراة «دود»، فليس لك اليوم إلى هذا من سبيل. ليس لديك إلا هذه الأحرف الثلاثة (واو بين دالين) تنطقها كما تشاء. وقد شاءت جماعة «بعلى ماسورا» في القرن الثاني بعد الميلاد أن تنطقها كما كان اليهود ينطقوها في عصرهم «داويد». ولأنه كما مر بك – لا وجود في عبرية التوراة والعبرية المعاصرة للفظ عبري واحد على زنة «فاعيل» بمعنى «مفعول» مشتق من جذر واوي أجوف على مثال ذلك الجذر المفترض «دود»، فلا مناص من أن تقول أن «داويد» هذه ليست إلا نطقا تحرف على ألسنة اليهود عن الصورة الصحيحة التي كان عليها نطق هذا الاسم العلم على لسان معاصري داود. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/150] ولأن الفرق في الرسم بين «دود»، «داويد» كبير، فلا بد لك أن تلتمس نطقا أقرب إلى الرسم «دود». ولا أقرب إلى هذا من أن تنطق دالها البادئة بحركة بين الكسر والفتح (شوا العبرية) التي ترسم نقطتين رأسيتين (:) تحت الحرف المعنى مع تثقيل ضم الواو، فتقول: دوود (بواوين) أقرب ما تكون إلى «داود» التي نطق بها العرب ونزل بها القرآن. أما من أين تجيء في العبرية «دوود» هذه التي أقترحها عليك، فهي تجيء سهلة سلسلة من «دي - أود»: أما «أود» العبرية فهي الأيد عربيًا، وأما «دي» العبرية الآرامية فهي «ذو»: إنه «ذو الأيد» كما فسرها القرآن المعجز، وسبحان العليم الخبير. هذا يفسر لك لماذا قال العرب قبل القرآن «داود» ولم يقولوا «داويد» التي قالها يهود يثرب في قراءتهم أسفار «توراة الأنبياء والكتبة». عرف العرب بداود الملك على عصره، فنطقوها كما كان ينطقها داود ومعاصروه، ولم تتحرف عليهم «داويد» إلى «داود»، كما يظن المتطفلون على مباحث اللغة أدعياء الاستشراق. ورد لفظ «الأيد» في كل القرآن مرتين فحسب، إحداهما قوله عز وجل: {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون} [الذاريات: 47]، والأخرى قوله عز وجل: {واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب} [ص: 17] وصفًا لداود بأنه «ذو الأيد». ولم ترد «ذو الأيد» في كل القرآن إلا في هذا الموضع فحسب، تفسيرًا لمعنى الاسم العلم «داود» بالمرادف المطابق اللصيق «ذو الأيد». إن أردت دليلاً على أن القرآن أفقه بالعبرية من أهلها، كفاك هذا الدليل. فدع عنك دعوى الاستنساخ والتلقين وسبح معي القائل بكل اللغات، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم. والحمد لله رب العالمين). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 146-151] |
(43) الزبور:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (34) الزبور قال عز وجل في نبيه داود عليه السلام: {واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} [ص: 17 – 20]. وقال فيه أيضًا: {ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد} [سبأ: 10] وقال عز من قائل: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا} [الإسراء: 55]. كان هذا الفضل من الله، وكان نبي الله داود عبدًا شكورًا. أنعم الله عز وجل على عبده داود بالصوت الندي، وحلاه باللحن الشجي الرقراق، يسبح ويرنم ويطرب حتى الجماد، ويصدح ويشدو فتشدو على نغماته الطير، وتسبح معه الجبال. وقد عرف داود حق هذه النعمة فوضعها حيث يجب أن تكون: تسبيحًا وتمجيدًا، وتهليلاً وتكبيرًا، واستغفارًا ودعاء، يدعو ربه فيسأله ويستعينه، يهلل لمنة، ويستنصر في الشدة، ويتوجع في المحنة، ويفتن فيندم ويتوب. كان داود بحق إمام المغنين. وهل أروع وأبدع من هذا الجمال وذاك الجلال، نشيًا من فم داود على مزمار داود، ترنمت به مع داود الجبال والطير يومًا في جنبات أورشليم؟ بل كيف وأنت وقد أسلمت أذنيك لأنغام تلك التسابيح، تشدو بها مع داود الطير، وتصدح الجبال؟ لا غرو قد صار بها مزمار داود مثلاً، حتى قيل على المبالغة في الصوت يعذب ويرق: مزامير داود! [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/152] أما هذه «المزامير» فهي ذلك الجزء من «توراة الأنبياء والكتبة» المنسوب إجمالاً إلى داود عليه السلام، والمعنون في ترجمات العهد القديم باسم «سفر المزامير»، وهو يضم مائة وخمسين مزمورا، ينسب بعضها فقط إلى داود، وينسب بعضها لابنه سليمان، كما ينسب بعضها لآساف، كبير المغنين في بلاط داود، وبعضها الآخر مسكوت عنه غير منسوب. ولكن القائلين تلك المزامير من غير داود يأتمون بطريقته، وينسجون على منواله، فلا تدري على التحقيق أي المزامير قالها داود، وأيها الذي لم يقله من بين كل المزامير المنسوبة إليه بالاسم في ذلك السفر من أسفار العهد القديم. لهذا حرصت ترجمات أهل الكتاب لأسفار العهد القديم على تسمية هذا السفر «سفر المزامير» على التعميم، لا يقولون «مزامير داود» لأنها ليست كلها لداود، وإنما هي «مزامير داود وسليمان وآساف وآخرين». ولئن جازت القداسة لمزامير قالها داود وسليمان عليهما السلام، فلا تجوز القداسة بوجه لمزامير ترنم بها آساف كبيرُ المغنين في بلاط داود، أو قالها من هو دون آساف في هذا البلاط، فلا قداسة إلا لنبي يوحي إليه. وهذا يدلك على أن المجموع بين دفتي هذا العهد القديم ليس كله من وحي الله عز وجل على رسله وأنبيائه، بل منه هذا وذاك. وهو يدلك أيضًا على أن معنى الوحي عند أهل الكتاب ليس هو نفس معناه عند أهل القرآن. ولكن هذا مبحث آخر يخرج بنا عن مقاصد هذا الكتاب الذي نكتب، فلا نستطرد بك إليه. الذي يعنينا في هذا السياق هو أن مجموع تلك المزامير التي صحت نسبتها إلى داود عليه السلام في ذلك السفر، أعني أيها في علم الله عز وجل صدق، هو فحسب المعنى في القرآن باسم «الزبور»، في مثل قوله عز وجل: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهرون وسليمان وآتينا داود زبورا} [النساء: 163]. على أن العهد القديم في نصه العبراني لا يسمى هذا السفر «سفر المزامير» كما تسميه ترجمات العهد القديم، وإنما اسمه في النص العبراني «سفر تهليم» أي سفر [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/153] التسابيح، من «هلل» العبري المأخوذ من «هلل» العربي لا بمعنى صاح وصوت، ولكن بمعنى «سبح»، ومنه لفظة «هللويا» الشهيرة في أناشيد أهل الكتاب، وأصلها العبري «هللو – يه»، أي هللوا له، أي سبحوه! يعني سبحوا الله، على التمجيد. فالترجمة العربية الدقيقة لاسم هذا السفر بالعبرانية هي «سفر التسابيح» أو «سفر التهاليل»، لا «سفر المزامير». ولكن النص العبراني أيضًا لهذا السفر يضع «مزمور» العبرية عنوانًا لكل فصل من فصوله المسماة «مزامير»، تسبق رقم هذا «المزمور» أو ترتيبه بين «المزامير»، فيقول «مزمور ريشون»، أي المزمور الأول، «مزمور شيني»، أي المزمور الثاني، إلى آخر المزامير المائة والخمسين. ومن هذا اللفظ - «مزمور» العبري – ترخصت الترجمة السبعينية اليونانية لأسفار العهد القديم فأسمته بمجموع ما فيه، أي بصيغة الجمع من «مزمور» فقالت «المزامير». وقد ترجمت اليونانية الكنسية لفظ «مزمور» العبرية بلفظة Psalmos اليونانية، من الفعل اليوناني Psallein، يعني «نتش»، إشارة إلى فعل العازف بأصابعه على ذوات الأوتار، وأخصها «الهارب» Harp، فمعنى Psalmos اليونانية الكنسية في ترجمة «مزمور» العبرية هو المعزوفة على ذوات الأوتار، لا زمر ثم ولا طبل، ولا غاب ولا قصب ولا ناي، كما قد يظن الذين يخلطون بين العبري والعربي. أما الذين ترجموا «مزمور» العبرية إلى Psalmos اليونانية، أي «المعزوفة» أو «الأنشودة» فقد تأثروا بما في بعض المزامير من إشارة في أعلاها إلى آلة العزف المصاحبة لها، وأيضًا بلفظة «سلاه» العبرية التي ترد في بعض مقاطعها، وتفيد في رأي البعض علامة موسيقية يرفع عندها المنشد صوته بمصاحبة الآلة، وفي رأي البعض الآخر علامة موسيقية على الوقف، فأخذوا «مزمور» العبرية بمعنى الأغنية والأنشودة، وهو بالفعل من بين معانيها، بل لا تزال العبرية المعاصرة تستخدم لفظة «زمار» بمعنى «المغني». أما المترجم العربي للعهد القديم فقد تأثر – كما تأثر مفسرو القرآن الأوائل جميعًا – بالتقارب اللفظي الشديد بين «مزمور» العبرية وبين «مزمور» العربية لا فرق بينهما إلا تثقيل الضم بالواو في اللفظة العربية وإبدال الكسرة العبرية فتحة في الميم، فأخذوها بمعنى النفخ في المزمار، ربما لأن المزمور في العربية هو «المزمار» نفسه [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/154] لا فعل «الزمر»، وقد شهر داود بإجادة النفخ في الناي. ولو درسوا العبرية لعلموا أن المزمار فيها هو «حليل»، أو «نحيلا» أي المثقوبة الجوفاء، من «خلل» العربي بالخاء. وليس هذا هو المعنى الذي يعنيه القرآن بقوله عز وجل: «وآتينا داود زبورا»، كما سترى. يجيء «زمر» العربي بمعان منها بالطبع زمر بالمزمار، ومنها أيضًا معنى القلة، يقال عطية زمرة، أي قليلة، ورجل زمر المروءة، يعني قليلها، والزمير يعني القصير، ومنها أيضًا معنى الحسن، والزمور يعني الغلام الجميل، وزمره أيضًا بمعنى مله، يقال زمر الوعاء ونحوه يعني ملأه، وزمر الكلب وغيره يعني وضع في عنقه الساجور أي الغل وهي القلادة التي توضع في عنق الكلب وتنتهي بالسلسلة يمسك بها أو يثبت. ومنها أخيرًا «الزمرة» أي الجماعة أو الفوج من الناس. أما «زمر» العبري فيجيء بمعان ليس بينها قط الزمار بالمزمار: المعنى الأول والأساسي هو قطع وقسم وشذب، ومنه «زمورا» العبرية بمعنى الغصن والفنن. وهو هنا يشترك مع «زمر» العربي حين تقول بالعربية «زمور» بمعنى الغلام الجميل، تريد «قسيم الوجه». والمعنى الثاني، وهو مشتق من الأول، يستخدم فيه «زمر» العبري مضعفًا، والمراد منه تقطيع القصيد، يعني نظمه، فهو الكلام المقطع المنظوم. والمعنى الثالث، وهو المترتب على الثاني، معنى الإنشاد أو الغناء، ومنه «زمرا» العبرية يعني الأنشودة أو الأغنية (ولا يقال للأغنية «زمرا» إلا إذا كانت قصيدة مغناة)، والمعنى الرابع، وهو المترتب على المعنى الثالث، معنى «اللحن» الموسيقى، أو العزف على آلة موسيقية ما. من هنا تجد أن «زمر» العربي لا يشترك مع «زمر» العبري إلا في معنى «زمور» أي الغلام القسيم الوجه المتناسق الأعضاء. وربما أيضًا في «زمرة» العربية إن اعتبرت الزمرة «قطعة» من الناس، وهو الراجح. ليست «مزمور» العبرية إذن من الزمر بالمزمار، وإنما هي بمعان ثلاثة هي: الأنشودة – المعزوفة – الكلام المقطع المنظوم أي «المقطوعة». وقد نظر القرآن إلى هذا المعنى الأخير: المقطوعة والمقطعات، فقال «الزبور»، خلافًا لقول علماء اللغة العربية وكل مفسري القرآن الذين قالوا «الزبور» يعني [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/155] المكتوب، فهو فعول بمعنى مفعول من زبره يزبره زبرا، يعني كتبه، أو جود كتابته (انظر تفسير القرطبي للآية 163 من سورة النساء)، فهو الكتاب المزبور، بمعنى الكتاب المكتوب. وقد حملهم على اختيار هذا المعنى وحده من بين مختلف معاني مادة «زبر» العربية ورود هذه المادة في مثل قوله عز وجل: {وإنه لفي زبر الأولين} [الشعراء: 196]، يعني القرآن في كتب السابقين، وقوله عز وجل: {وكل شيء فعلوه في الزبر} [القمر: 52] أي قد سجلنا عليهم أعمالهم في الكتب. وكان هذا كافيًا لصدهم عن التماس المعنى الآخر في «زبر» العربي، الذي في قوله عز وجل: {فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون} [المؤمنون: 53]، لا تستطيع أن تقول: فتقطعوا أمرهم بينهم كتبا، أو الذي في قوله عز وجل على لسان ذي القرنين في سورة الكهف: {آتوني زبر الحديد} [الكهف: 96] أي آتوني «قطع الحديد»، بلا خلاف بين المفسرين. أما مادة «زبر» في معجمك العربي فتجيء بمعان: زبره بالحجارة يعني رماه بها، وزبر البناء يعني وضع بعضه فوق بعض، أي رصه رصًا، وزبره عن الأمر يعني منعه ونهاه، والأصل فيها قطعه عنه، فزبر بمعنى قطع، وزبر الكتاب يعني كتبه، والأصل فيه أتقن كتابته مبينًا مفصلاً «مقطعا»، وهذا هو المعنى الرئيسي في مادة «زبر» الذي يفسر مختلف استخداماتها، ومنها الزبرة بمعنى القطعة أو الكتلة، والزبرة أيضًا بمعنى السندان من هذا: الكتلة من الحديد يطرق الحداد عليها حدائده. والذي نقول به نحن إن الأصوب في فهم «مزمور» العبرية بكسر الميم، أن تفهم عبريًا على أصل معناها: المقطعة، يعني القصيد المنظوم، فهي المقطعات لا المزامير، ولا تفهم بمعنى الأغنية أو المعزوفة الوترية كما فهمتها ترجمات العهد القديم بدءًا بالترجمة السبعينية اليونانية، فالله عز وجل إنما ينزل على أنبيائه كلامًا، ولا ينزل عليهم موسيقى وألحانًا، إلا أن تقول كما يقول أهل الكتاب أن هذه المزامير – لفظها وألحانها – من صنع من أنشدوها ولحنوها، داود أو غيره، ربما بإلهام من الله عز وجل أو بتوفيق منه، وعندهم أن الإلهام من معاني الوحي، على خلاف أهل القرآن في معنى وحي الله على أنبيائه، لا يكون إلا بملك. بل نحن نذهب إلى أبعد من هذا فنقول إن «زمر» العبري معدول عن زبر العربي، أبدلت باؤه في العبرية ميما. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/156] بل قد قال هذا – معكوسًا – أدعياءُ الاستشراق المنكرون الوحي على القرآن، الذين زعموا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم سمع «مزمور» العبرية فتحورت عليه إلى الباء، ظنها من «الزبر» فقال «زبرو». وهذا تافه لا يعتد به، لوجود كلتا المادتين في العربية «زمر»، «زبر» خلافًا للعبرية التي ليس فيها إلا «زمر» وحده بالميم، بل قد فهم القرآن المراد من «زمر» العبري على أصله «تقطيع القصيد» فجاء به على «زبور» ولو فهم منه المعنى الغنائي لقال «زمور» بالميم، وسبحان العليم الحكيم. أما «الزبور» العربية القرآنية في وصف وحي الله عز وجل على نبيه داود عليه السلام، فليس بجيد فهمها بمعنى مطلق الكتاب، وإلا لما تميز وحي الله على داود باسم علم يختص به من دون كتب الله على رسله، كما اختص باسمه العلم كل من التوراة والإنجيل والقرآن، وإنما أريد له معنى مضاف يميزه عن غيره من الكتاب المكتوب، فقيل له «زبور» بمعنى «مزبور»، منظورًا في ذلك إلى مادته وصيغته: إنه كتاب «تسابيح» مقطعات. كان «الزبور» كما رأيت تسابيح وتهاليل، ليس فيه شيء من التعاليم أو التكاليف كالذي تجد في توراة موسى ,إنجيل عيسى وقرآن خاتم النبيين، دليلك في هذا ما بَقى من وحي الله على داود في تلك المزامير التي في العهد القديم، ودليلك في هذا، بل قبل هذا، من القرآن نفسه، الذي لا يذكر الزبور بالاسم كلما جمع بين القرآن وبين توراة موسى وإنجيل عيسى، كما تجد في قوله عز وجل: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن} [التوبة: 111]، بل لا يجمع بين التوراة والإنجيل وبين الزبور في سلك واحد حين ذكر ما علمه الله عبده ورسوله عيسى ابن مريم: {ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} [آل عمران: 48]، وما ذاك إلا لأن التسابيح ليست علما يعلم، فهي ليست من ذات جنس «كتب» الله على أنبيائه، وإن كانت وحيًا منه تبارك وتعالى على نبيه داود، صلوات الله وسلامه على جميع رسله وأنبيائه. بل قد كانت خصيصة لداود [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/157] عليه السلام، فضلا آثره به عز وجل من دون أنبيائه، لقوله عز وجل: {ولقد فضلنا بعض الأنبياء على بعض وآيتنا داود زبورا} [الإسراء: 55]. وسبحان العليم الخبير. «الزبور» إذن عربية، ليس فيها شبهة عجمة، ومن ثم فهي لا تدخل في مقاصد هذا الكتاب، لأنها ليست من العلم الأعجمي الذي يفسره القرآن للعرب وفق منهجنا في هذا الكتاب الذي نكتب، ولكننا تصدينا لها لجلاء شبهات فهمها عربيًا بغير معناها المقصود في القرآن، ودفعًا لمقولة أدعياء الاستشراق إنها من الأعجمي الذي عربه القرآن فأبدل من الميم التي في «مزمور» العبرية باء. على أن القرآن قد فسر المراد من «زبور داود» بالتصوير والمرادف بالقريب: لا تجد أبلغ من قوله عز وجل: {إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب} [ص: 18 – 19] وقوله عز وجل: {يا جبال أوبي معه والطير} [سبأ: 10]، والتأويب يعني ترجيع الصوت. كان داود عليه السلام كثير التسبيح، يتغنى به، فأعطاه الله ما يسبح به كلامًا منه عز وجل ترجعه الطير والجبال، وسبحان العزيز الوهاب). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 152-158] |
(44) سليمان:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (44) سليمان مر بك في تضاعيف هذا الكتاب أن «فعلان» العربية على الصفة، مثل ظمآن وأمثالها، تجيء في العبرية على «فعلون»، مثل يثرون وشمعون وجدعون وأمثالها. ومر بك أيضًا أن النون في «فعلون» العبرية يجوز حذفها استخفافًا كما قيل في «يثرون» «يثرو». وعلى «فعلون» جاء «شلومو» (بغير نون) اسم نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام في النص العبراني لتوراة الأنبياء والكتبة، أي في أسفار العهد القديم: «شلومو» أصلها «شلومون» عبريًا، حذفت نونها استخفافًا، كما حذفت النون استخفافًا من «يثرون» حمى موسى فقيل «يثرو». دليلك في هذا بقاء نون «شلومو» في السريانية «شلمون»، وبقاؤها أيضًا في النص اليوناني للأناجيل Solomon «سولومون»، على إبدال السين من الشين كدأب اليونان، وعن اليونانية أخذت اللغات الأوروبية جميعًا هذا الرسم اليوناني. رغم هذا، رغم استقرار علماء العبرية ونُحاتها على أن «فعلو» العبرية أصلها «فعلون» حذفت نونها استخفافًا، إلا أن أدعياء الاستشراق المنكرين الوحي على القرآن عجبوا من مجيء القرآن بهذا الاسم «شلومو» مزيدًا بالنون في «سليمان»، رغم اعترافهم بأن سلمان وسليمان كليهما اسمان عرفهما العرب قبل نزول القرآن، بل وقعوا في حيص بيص من هذه النون التي زادها القرآن في اسم «سليمانج: قالوا ربما انتقلت إلى العرب من السريان الذي قالوها «شلمون» كما مر بك، أو العكس، أي أن العرب هم الذين أخذوا «شلومو» العبرية من اليهود فتحرفت عليهم إلى «سليمان»، [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/159] وانتقلت بصورتها هذه إلى السريان فقالوا «شلمن». وفات هؤلاء الأدعياء أن «فعلان»، ومصغره «فعيلان»، لا يتزنان على موازين العربية إلا بالنون في النعت على المذكر، لا تحذف نونه إلا في المؤنث منه، «فعيلى»، كما تجد في «سلمى»، «سلمان»، وكما تجد في مصغرهما «سليمى»، سليمان. وفات هؤلاء الأدعياء أيضًا قبل هذا أن «شلومو» العبرية أصلها بالنون «شلومون»، فلا معنى لكل ما قالوه، ولكنهم في تحريهم إثبات نقل القرآن عن أهل الكتاب يذهبون بعيدًا، فيحاولون إثبات أن العرب وجدوا بعد أن وجد أهل الكتاب، وأن اللغة العربية نشأت في حضن العبرية والآرامية، فهي ناقلة عن الواحدة أو الأخرى، حتى في نحت الأسماء الأعلام، وكأن العرب في شبه جزيرتهم كانوا قومًا بكمًا، لا ينسبون ببنت شفة حتى يستمعوا على اليهود أو السريان، وكأن العربية ليست هي أم الساميات جميعًا حيثما كان للساميين في هذه الأرض مكان، لا يقول اليوم بغير هذا إلا جاهل كما مر بك في تضاعيف هذا الكتاب. أما دعوى النقل والتلقين التي تصايح بها المنكرون الوحي على القرآن، فقد مات بها أصحابها كمدا، لأن «التلميذ» الناقل يعلم «أستاذه» ما لم يكن يعلم، ويصوب له ما أخطأ فيه، ويصحح له ما تحرف عليه، ويذكره بما أنسيه، ويرد عليه مقالته، بل ويعنف عليه، حين تزل بأستاذه القدم، أو يشتط به الهوى فيفترى على الله عز وجل، أو يتطاول على مقام رسل الله وأنبيائه، غالى بهم أو أوضع فيهم. ولا يصح هذا من «تلميذ» ناقل، وإنما يصح فحسب من المصدق المهيمن. أما «شلومو» العبرية هذه فهي من الجذر العبري «شلم» (مكافئ «سلم» العربي بكل معانيه). والمصدر منه «شلوم» يعني عربيًا السلم والسلم والسلام، كلها بمعنى السلام. وتجيء السلم بفتح السين على الصفة أيضًا في العربية، فيقال «رجل سلم لرجل» يعني هو له ماسلم، فالسلم على الصفة عربيًا يعني «المسالم». والسلم العربية هذه على الصفة هي نفسها «شلوم» على مقتضى النحو العبري – حين يضاف إليها مقطع الزيادة بالواو والنون الذي في «شلومون» - تخطف فتحتها البادئة على الشين فتتحول إلى صوت بين الفتح والكسر (حركة «شوا» العبرية) لا يكاد يحس، وربما [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/160] هي إلى السكون أقرب، فتقول بدلاً من شلومون: شلومون أو شلومون، ثم تحذف النون، فتقول «شلومو» اسم نبي الله سليمان عليه السلام، من السلم بمعنى المسالم. ورغم أن «سليمان» عربية قح، لا تحتاج من القرآن أن يفسرها للعرب على منهجنا في هذا الكتاب، فإن القرآن في قصة سليمان مع ملكة سبأ يجيء عقب «سليمان» بالمرادف القريب الذي يجلي لك المعنى المخصوص الذي يفهمه القرآن من هذا الاسم العلم من بين مختلف معاني الجذر «سلم»، فيقول: {قالت يا أيها الملأ إني ألقى إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين} [النمل: 29 – 31]، يعني جيئوني سلما مسالمين. أما لماذا جاءت «سليمان» العربية في القرآن ممنوعة من الصرف لا تقبل التنوين، فهذا في العربية هو شأن كل مذكر مزيد بالنون يتأنث بفقد النون: فعلى وفعلان، وأيضًا مصغرهما فعيلى وفعيلان، كما تقول سلمى وسلمان، وسليمى وسليمان. وقد يظن الجاهل بفقه اللغة العبرية، كما ظن أدعياء الاستشراق، أن القرآن أخطأ في تصغير «سلمان» التي جاء بها على «سليمان»، لأن «شلومو» العبرية تقابل «سلمان» العربية ولا تقابل «سليمان» على التصغير. ولكن علماء العبرية يقولون إن الزيادة في «فعلون» بالواو والنون، كما تجيء على الصفة واسم الفعل، تجيء أيضًا لإفادة التصغير، ومثاله «إيشون» العبرية المزيدة بالواو والنون من «إيش» العبرية يعني «إنسان»، فيقولون أن «إيشون» هي مصغر «إيش» فهي «أنيسان» على التصغير من «إنسان»، ويقال من «إيشون» العبرية هذه «إيشون بيت عين» يريدون ذلك «الأنيسان» الذي تراه في عين محدثك حين تحدق فيه، فهو «إنسان العين»، أي بؤبؤها. وليس المراد من بنية التصغير في كل الأحوال – على ما يعرف اللغويون جميعًا – هو صغر الحجم أو صغر القدر – فمن العرب من سموا «كليبا» وهم ملوك – وتقول لابنك وقد شبت وشاب معك: يا بني! كناية عن الحب والودادة والإعزاز. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/161] وقد علم القرآن مراد داود من تسمية ابنه يوم ولد فأسماه «شلومو» («شلومون»)، على التصغير من «شلوم» العبري الصفة لا المصدر، لا يصح في تفسير «شلومو»، عبريًا، إلا هذا: لو كانت «شلومو» (شلومون) محض الصفة لا مصغرها لقيل «شلمون» على زنة «فعلون»، كما قال العرب في الصفة «سلمان» على «فعلان» من سلم، ولكن نبي الله سليمان عليه السلام اسمه «شلومو» (شلومون) لا «شلمون» فهو مصغر «شلوم» يعني السلم أو سلمان على الصفة، إن صغرت «شلوم» قلت «شلومون»، وإن صغرت «سلمان» قلت سليمان. جاء القرآن باسم نبي الله «شلومو» (شلومون) على «سليمان» فأصاب المعنى وأصاب البنية، أي بناء الاسم على التصغير. وسبحان العليم الخبير. وقد خاض كتبة العهد القديم في سفر صموئيل الثاني (راجع صموئيل الثاني 11 – 12) بفحش لا مثيل له في قصة داود عليه السلام مع «بتشبع» امرأة ضابطة «أوريا الحثى»، فقالوا إن داود اطلع عليها من سطح بيته وهي تستحم في بيتها، وكانت رائعة الجمال، فسأل عمن تكون، فقيل له هي بتشبع بنت إليعام امرأة أوريا، فلم يتورع، زوجها في صفوف القتال، أن يرسل إليها من يأخذها إلى بيت «داود» فدخلت إليه فاضجع معها وهي مطهرة من طمثها ثم رجعت إلى بيتها (صموئيل الثاني 11/ 4). زنا بها داود إذن في غيبة زوجها على مرأى ومسمع من حاشيته، لم يتأثم ولم يتأثموا من جرم عقوبته في توراة موسى الرجم للزاني والزانية، وغن حرص وحرصوا على أن تكون «طاهرًا غير طامث» ويعود الضابط المثلوم العرض ليفاجأ بالفضيحة فيمتنع عن الدخول على امرأته وينام على باب قصر داود، ويخبر داود فيستفسر منه عن السبب ويقول له لماذا لم تنزل إلى بيتك وقد جئت من السفر؟ ويرد صاحب العرض الجريح وكأنه يعظ داود: «إن التابوت وإسرائيل ويهوذا ساكنون في الخيام، وسيدي يؤاب وعبيد سيدي (يعني يؤاب وجنوده ويؤاب هو القائد الأعلى للجيش) نازلون على وجه الصحراء، وأنا آتي لآكل واشرب وأضجع مع امرأتي؟ وحياتك وحياة نفسك لا أفعل هذا الأمر» (صموئيل الثاني 11/ 11). ولا تختلج عضلة في وجه داود الملك الذي يكتب الكاتب سيرته، ولكنه وقد شاعت الفضيحة [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/162] يعتز بإثمه فيولم لهذا الضابط يأكل معه ويشرب ويسكر، ثم يبلغ من عتوه أن يحمل أوريا من غده رسالة مطوية فيها الأمر ليؤاب قائد الجيش تقول: اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت (صموئيل الثاني 11/ 15) ويقتل أوريا بالفعل في المعركة صريع جمال امرأته وغدر داود. أما المرأة فندبت بعلها، وأما داود فلم يتلبث أن مضت «المناحة» حتى أرسل إليها فضمها إلى بيته وصارت له امرأة. وتضع المرأة ابنا لداود من زناه بها. ويرسل الرب ناثان النبي إلى داود يضرب له مثل الرجلين، صاحب النعجة الوحيدة التي اقتناها ورباها وكبرت معه ومع بنيه جميعًا، تأكل من لقمته وتشرب من كأسه وتنام في حضنه وكانت له كابنة، يريد بتشبع امرأة أوريا، والرجل الآخر ذي الوفرة من الغنم والبقر الذي نزل عليه ضيف فاستكثر أن يولم له من غنمه بل بلغ من عتوه أن يأخذ نعجة الرجل الفقير يولم بها لضيفه ولم يأبه، فعل داود مع أوريا. ويحمي غضب داود على هذا الظالم ويقضي عليه بقوله: يقتل هذا الظالم وترد النعجة إلى صاحبها أربعة أضعاف! فيقول له ناثان النبي: بل أنت هذا الرجل! قتلت الرجل وأخذت امرأته لك امرأة، ولم تذكر آلاء الله عليك. فعلت في السر والله يفعل بك في العلن: يأخذ الرب نساءك أمام عينيك، ويعطيهن لمن يضجع معهن في عين هذه الشمس. يفعل بهن هذا قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس. قال داود لناثان قد أخطأت إلى الرب. فأجابه ناثان قائلاً الرب أيضًا قد نقل عنك خطيئتك. لا تموت (أي لا يعاقبك بالقتل جزاء فعلتك) ولكن الابن المولود لك منها يموت. (ربما أراد الكاتب أن يمهد لما حدث من بعد لداود فيما يحكيه هذا السفر من أحدثا حرب لداود مع الفلسطينيين كانت لهم فيها سبابا من نساء داود وأهل بيته وكأنها عقوبة لداود على فعلته مع أوريا). ويمرض المولود ويموت. ولكن داود يُعزي بتشبع عن ابنهما ويدخل إليها ويضجع معها فتحمل وتلد له ابنا يدعوه سليمان: «فولدت له ابنا فدعا اسمه سليمان (شلومو) والرب أحبه. وأرسل بيد ناثان النبي ودعا اسمه يديديا من أجل الرب» (صموئيل الثاني 12/ 23 - 25) أي لأن الرب أحب سليمان كناه أبوه «يديديا» يعني «حب الله» كما مر بك. وكأنما قد كان مولد سليمان لداود علامة على السلم والسلام مع الله عز وجل الذي غفر له ما فعل. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/163] هذا هو معنى تسمية سليمان «شلومو» ومناسبتها، فلا غرو أن يجيء بها داود على التصغير من «شلوم»، توددا وتحببا. وقد قصصت عليك فأطلت، كي تعلم إلى أي مدى يلغ الكتبة في أعراض أنبياء الله ورسله، لا يتأثمون من شيء مهما عظم: نبي يغتصب امرأة صاحب جنده في غيبته، يجيء بها إلى عصبة من رجاله ليزني بها علنًا في بيته، ويعود زوجها فيطلب إليه داود الدخول إليها كي يختلف الماءان فلا يعرف من كان الأب، ويمتنع الزوج الذي اكتشف الفضيحة، ولكنه لا يجرؤ أن ينبس ببنت شفة، ويولم له داود «العشاء الأخير» قبل أن يبعث به من غده إلى ساحة الموت يحمل أمر إعدامه بيده إلى قائد الجيش «يؤاب» فينفذه غير مبال، ثم يبلغ داود بأنه قد تم! ولا يزيد داود على أن يقول: «لا يسوء في عينيك هذا المر (يعزيه في ثلم شرف الجندية!) لأن السيف يأكل هذا وذاك!» (صموئيل الثاني 12/ 25). ألا ما أقذع هذا وما أبشعه. قارن هذا بما قاله القرآن العظيم في هذه النازلة التي ابتلى بها داود (الآيات من 21 إلى 25 من سورة ص): لم يزن داود بالمرأة ولم يقتل زوجها، ولكن استزله هواه ففتن بها، ولم يستعصم، فاستدعى إليه زوجها وعزم عليه في طلاقها كي يتزوجها هو: {قال أكفلنيها وعزني في الخطاب} [ص: 23] أي شدد علي بسلطانه، ويذعن الرجل ويضعف تحت وطأة هذا السلطان، ويعود إلى موقعه على الجبهة وقد أجبر على فراق زوجته بسلطان الهيبة وسلطان الملك، ربما هانت عليه نفسه فاسترخص الموت، ولم يعنه عليه يؤاب قائد الجيش بأمر من داود، فلا يصح بهذا ملك، ولا يصبر على هذا جيش. ولكنك لا تعتذر لداود عما فعل، فمجرد رغته في تطليق امرأة من زوجها ليتزوجها هو ضمن حريم يكاد يبلغ المائة، ظلم صراح، وبغي لا يصح من أفراد الناس، فما بالك بملك، ناهيك بنبي! قد قالها داود بنفسه: {لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم}[ص: 24]، وينتبه داود إلى أنه بفعلته مع أوريا لم يعد من القليل الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلا يبغون على خلطائهم (ولعل أوريا كان ضابطا مقربًا إليه)، فهالته المصيبة التي لا [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/164] تعدلها عند المؤمن مصيبة، بل قد أيقن أنه فُتن: {وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب} [ص: 24]. وقد غفر الله لداود هذه الزلة لأن داود كانت له عند الله قربى بسالف العمل، موعود بحسن المآل: {فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} [ص: 25]. ولكن الله عز وجل يعظ بها داود في نفسه وعظا بليغًا، لو سمعه ملوك الأرض لتفطرت قلوبهم هلعًا من يوم الحساب: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب}[ص: 26]، أي ليس لمن ملكه الله على الناس أن يتبع هواه، وخير لمن يتبع هواه أن ينأى بنفسه عن المهالك فينأى بنفسه عن المُلْك ويعتزل الناس، وإلا فمصيره إلى النار وبئس القرار. ذكر القرآن حقائق ما كان: الفتنة والتوبة، والإنابة والاستغفار والمغفرة، وثنى بعد الموعظة بالوعيد. أما ذلك الكاتب في العهد القديم فقد لغط قلمه بما لغت به ألسنة الوالغين في أعراض الناس بالباطل، يبغون لهو الحديث، فما افلت منهم نبي ولا صديق. ولعلك لاحظت أيضًا أن الكاتب في العهد القديم لم يكن لديه علم بتلك الملائكة الذين تسوروا على داود في محرابه يعظونه، ويضربون له المثل ويذكرونه، حتى يسترجع داود وتتفلت منه العبرات، ويغفر الله له فيبشرونه بالتوبة والمغفرة مشروطتين بالاستقامة على عهد الله عز وجل، لا يتبع من بعدى الهوى المضل. لم يعلم الكاتب بهذا، فماذا يفعل؟ يلجأ لنبي اسمه ناثان يرأب به الثغرة، فينقل ناثان وحي الله إلى داود، يضرب نفس المثل الذي في القرآن أو يكاد، ولا يزد داود على أن يقول: قد أخطأت إلى الرب! ويقول له ناثان: والرب أيضًا قد نقل عنك خطيئتك! (لا يقتله بها وإنما يقتل مولوده من الزنا). ويمثل ناثان هذا أمامك معلما لداود ونبيا فوق نبي، وما هكذا تكون الأنبياء. قارن بين الروايتين واحكم بنفسك: أي الروايتين كلام من الله نزل؟ القرآن الذي ينطق بالحق ويميط الأذى عن أنبياء الله ورسله، أم كلام ذلك الكاتب الذي يضع نبي الله داود في صفوف الزناة والقتلة؟ [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/165] على أنك «تحمد» للكاتب شيئًا واحدًا، وهو تعففه عن الغمر في مولد سليمان عليه السلام، فلم يجعله ابنا لداود من الزنا، وإنما ابتدع «المولود الأول» لداود من بتشبع، ثم أماته، ليجيء سليمان من بعد «ابن رشدة»، أي بعد موت أوريا وزواج داود في الحل من أرملة أوريا. ولكنك تجزم معي بأن هذا المولود الأول المُفترى به على داود وبتشبع لم يكن له قط وجود، بل هو من بنات أفكار الكاتب، يحكم به نسيج قصته). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 159-166] |
(45) إلياس:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (45) إلياس «إلياس» في القرآن هو اسم نبي الله «إيليا» المذكور في سفرى الملوك الأول والثاني بالعهد القديم، نبيًا من أنبياء بني إسرائيل على عهد الملك آخاب الذي ملك على مملكة إسرائيل في السامرة بعد إحدى وأربعين سنة من موت رحبعام بن سليمان. ويقول لك كتبة هذين السفرين ان «آخاب عبد البعل وسجد له. واقام مذبحا للبعل في بيت البعل الذي بناه في السامرة. وعمل آخاب سواري وزاد آخاب في العمل لإغاظة الرب إله إسرائيل أكثر من جميع ملوك إسرائيل الذين كانوا قبله (الملوك الأول 16/ 31 – 33). وإلى هذا الملك وقومه الذين انحرفوا عن الواحد الأحد واتخذوا البعل والصنم من دون الله عز وجل، أرسل إلياس عليه السلام: {وإن إلياس لمن المرسلين إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين} [الصافات: 123 – 125]، والذين «دعوا» بعلاً (اسم صنمهم الأكبر) هم ذلك الملك آخاب وقومه من بني إسرائيل، فتقطع من القرآن بأن إلياس عليه السلام هو نبي الله «إيليا» المذكور بهذا اللفظ في العهد القديم. وقد عرب القرآن «إيليا» العبرية على «إلياس» ناظرًا إلى لفظها اليوناني الشائع عصر نزوله Elias أي بصورة المرفوع في تلك اللغة وعلامتها في المذكر إضافة السين، على ما مر بك في تضاعيف هذا الكتاب. أما هذا الاسم العبراني إيليا، المختصر من إلياهو، فأصله إيل + في + ياهو، أي «إيلي يهوا»، والمعنى هو الله إلهي أي «الله ربي». وقد ورد اسم «إلياس» عليه السلام في القرآن ثلاث مرات فحسب: {وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين} [الأنعام: 85]، {وإن إلياس لمن المرسلين} [الصافات: 123]، وفي هاتين المرتين ورد الاسم «إلياس» ممنوعًا [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/167] من الصرف للعجمة غير منون، أما في المرة الثالثة: {وتركنا عليه في الآخرين سلام على إلياسين} [الصافات: 129 – 130] فقد ورد كما ترى لا مصروفًا مجرورًا بالكسر فحسب منونًا، بل ومع إشباع الكسرة قبل نون التنوين حتى تؤول الكسرة في الرسم إلى الياء: إلياس + في + ن. والعلة في هذا كما قال المفسرون (راجع تفسير القرطبي لهاتين الآيتين من سورة الصافات) هي مراعاةُ رؤوس الآيات قبله كما رأيت من قبل في الإبدال من سيناء «سينين». والذي يستوقف النظر هو رسم المصحف لهذا الاسم في صورته الثالثة المزيدة بالياء والنون، فقد وقعت في الرسم مقطعة: إل ياسين، لا مجموعة: إلياسين، والرأي عندي أن هذا التقطيع مراد من الكاتب بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، إشارة إلى أن الألف واللام البادئتين في هذا الاسم ليستا هما أداة التعريف العربية، وإنما هما اسم الله عز وجل «إلْ» العبرانية – والتي نطق بها العربُ أيضًا على ما مر بك – كي لا يتوهم أن اسم «الياس» من «اليأس» سهلت همزته، أو نحو ذلك. وهذا يدلك على علم النبوة بفقه تركيب هذا الاسم العبراني الذي لم يفت الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. أما «ياسين» المقطع الثاني في هذا الاسم الذي رُسم مقطعًا في «الياسين»، فالرأي عندي أيضًا أنه الياءُ والسين تُنطقان كما تنطق الحروف المقطعة في بوادئ السور، ومنها يس في السورة المسماة بهذا الاسم وتنطق يا + سين. هذا عندي هو الوجه الأمثل في تفسير مجيء إلياس على الياسين في الآية 130 من سورة الصافات: قد روُعيت رؤوس الآيات بلا جدال، ولكن ليس ثم إضافة ولا تنوين. وقد فسر القرآن على منهجنا في هذا الكتاب الاسم «الياس» بالمرادف، كما تستظهر من قوله عز وجل: {وإن إلياس لمن المرسلين إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم ورب آبائكم [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/168] الأولين فكذبوه فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين وتركنا عليه في الآخرين سلام على إل ياسين} [الصافات: 123 – 130]. ألا تجد في هذا الجناس البديع بين «إلياس» (الله ربي) وبين «الله ربكم» ما يفسر الاسم إلياس (الله ربي أو الله إلهي) أبين تفسير؟ نعم. وسبحان العليم الخبير). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 167-169] |
(46) اليسع:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (46) اليسع «اليسع» عليه السلام هو نبي الله المرسوم «إليشع» في أسفار العهد القديم إلى جوار إيليا (إلياس)، تلميذ إيليا وخلفه في النبوة. وأصل «إليشع» العبرية هو إل + يشع، والمعنى: الله يسع: وهي نفسها إل + يسع، التي في القرآن «اليسع». فهو اسم أعجمي مفسر بالتعريب وحده، بل هو من أبين تفاسير القرآن علمه الأعجمي بالتعريب، ولم يفطن إليه أحد. يجيء «الوسع»، «السعة»، في العربية بمعان تدور كلها على معنى واحد هو «الرحابة» ضد «الضيق»، ومنه الطريق الواسع أي العريض، والرزق الواسع أي الذي لا يضيق عن النفقة، ورجل موسع عليه، يعني غير مضيق، وذو السعة يعني ذو الوفرة والغنى، ولا يسعني هذا الأمر، يعني يضيق عنه جهدي وقدرتي، فالسعة أيضًا يعني الطاقة والقوة. إلى آخر ما تعرف من معاني هذه المادة ومجازاتها. وقد بقى في العبرية من هذه المعاني معنيان اثنان: الغنى، والفرج بمعنى النصرة، أي التوسعة للمضيق عليه، والتفريج عن المكروب. وللمادة العبرية من «وسع» العربي صورتان «شاع/ يشوع/ شوع»، وهو مقلوب «وسع» العربي، والصورة الثانية هي «يشع» على إبدال الواو من «وسع» العربي ياء كدأب العبرية والآرامية في كل الجذور العربية ذوات الواو. ولكن عبرية التوراة لا تستخدم الجذر شاع/ يشوع في صيغة فعلية، وإنما تقول منه على الصفة «شوع» يعني الغني ذو الوفرة أو السخي الكريم، وتقول منه على الاسمية «شوع» (بتثقيل الضم في الواو) يعني الغنى والثروة (أي السعة)، وتقول منه على الاسمية أيضًا «تشوعا» (أي التوسعة) بمعنى الفرج والنجاء. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/170] أما الجذر العبري الآخر «يشع» فلا تستخدمه العبرية في صيغة الثلاثي المجرد، وإنما تستخدمه في صيغة «هفعيل» المعدى بالهاء (وهي صيغة «أفعل» العربي المعدى بالهمزة كما مر بك) بمعنى أوسع له وفرج عنه. وأيضًا في صيغة «نفعيل» (وهي صيغة المطاوعة في «انفعل» العربي) على المفعولية من «يشع»، والمعنى أوسع له وفرج عنه على البناء للمجهول. وهذا يدلك على أن «يشع» العبري غير المستعمل كان في أصله فعلاً متعديًا بذاته، وإلا لما جاز منه «انفعل»، تمامًا كوسع العربي المتعدى بذاته، كما في قول الحق تبارك وتعالى متحدثًا عن نفسه: {وسع كرسيه السموات والأرض} [البقرة: 255]، ولكن لأن «يشع» العبري أميت في ثلاثية المجرد، فقد استخدم في موضعه «هوشيع» أي «هفعيل» المعدى بالهاء، فتظن أن «يشع» أصله لازم غير متعد (أي اتسع) والأصوب هو العكس. أعني الصحيح هو أن الجذر الثلاثي العبري (الممات في ثلاثية المجرد) كان قبل مواته فعلاً متعديًا بذاته، فيكون معنى إل – يشع، الله يسع، يراد من هذا كما مر بك اسم الفاعل، بمعنى «الله ناصر»، «الله موسع»، «الله مفرج»، «الله معين». أما تركيب هذا الاسم المزجى، فهو فيما نقول نحن، إل – ييشع، «إل» اسم الله في العبرية، «ييشع» قياس المضارعة من الجذر الثلاثي الممات «يشع»، وهو «وسع» العربي. ولكن علماء التوراة يقولون إن التركيب المزجي لاسم «إليشع» هو «إلى – يشاع»، حي «إلى» = «إلهي»، «يشاع» = سعة، مصدرًا من الجذر الممات «يشع»، ويكون المعنى إلهي نصرة، إلهي فرج، إلهي عون، ولا فرق في المعنى بين هذا وبين الذي قلناه، بل يؤكد أن «يشع» أصله متعد لا لازم، لأن المصدر منه، الباقي في العبرية إلى الآن (النصرة، السعة، الفرج، العون) يفيد التعدي قطعًا ولا يفيد اللزوم. ولئن كان النطق والمعنى على القولين واحدًا، فإن ما نقوله نحن أصوب وأوجه، لأن قول علماء التوراة مفتعل، فلا أحد يصف الله عز وجل بصفة فيه ويقول «إلهي» كذا وكذا، مثل إلهي رحيم، إلهي رحمان، إلهي واسع، وكأن «إلهه» ليس «إله» كل الناس، وإنما يقول الله رحيم، الله رحمان، الله واسع. لا يصح أن يقال «إلهي» إلا على الخطاب من العبد لربه في الدعاء والمناجاة. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/171] أما الذي صد علماء التوراة عن القول الذي نقول به، فهو أن الجذر «يشع» ممات في ثلاثية المجرد كما مر بك، فلا يصح أن يُستخدم المضارع منه: إل – ييشع. وليس هذا بحجة في الأسماء الأعلام بالذات، التي تستحيي الممات في اللغة غير ناظرة إلى توقف جريانه على ألسنة الناس، فكم من اسم علم استبقى تراكيب أميتت في الاستعمال. من ذلك في العبرية نفسها الاسم العلم «عُمْرِى» (اسم ملك من ملوك إسرائيل) والجذر منه «عمر» ممات في ثلاثيه مثل «يشع» سواء بسواء. وقد تلبثت معك قليلاً عند معاني هذا الجذر العبري «يشع» - وربما أثقلت عليك بعض الشيء بمواضعات النحاة – رغم أنهما علمان اثنان فقط يدخل في تركيبهما هذا الجذر «يشع»، من بين واحد وستين اسمًا تتناولها مباحث هذا الكتاب، وما ذاك إلا لأن العلم الثاني – غير «إليشع» - هو علم المسيحية الأكبر عيسى عليه السلام الذي لنا في تفسيره مذهب نخالف به علماء المسيحية الذين فسروه من قديم بمعنى «المخلص» على الفاعلية من «خلص» ونفسره نحن على ما يأتي إن شاء الله في موضعه باسم المفعول، فهو «المخلص» الناجي. أما أدعياء الاستشراق الذين قد علمت، فقد عابوا على القرآن قراءة «اليسع» في المصحف بهمزة مفتوحة مختلسة على الألف البادئة – عكس ما فعل في «إلياس» الذي راعى فيه إثبات الهمزة المكسورة تحت الألف البادئة لا يجوز اختلاسها في الوصل فتقول «إن إلياس»، ولا تنطقها قط «إنلياس» - على ما مر بك من الحكمة في رسمها مرة «إل ياسين»، مقطعة. فقد وهم القرآن في زعمهم أن الألف واللام في «اليسع» هما أداة التعريف وليستا «إل» اسم الله عز وجل في العبرية. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/172] وتبتسم معي إشفاقًا: أفقد سلمتم للقرآن بالفقه في اللغة العبرية حتى استطاع أن يحلل اسم «إلياس» إلى عنصريه، فيفرد «إل» بالرسم مقطعة منعًا لظنها أداة التعريف مضافة إلى «ياس» في اسم «إلياس» ؟ فكيف يفطن إلى «إل» في إلياس وتنبهم عليه في «اليسع»؟ ألعل الذين لقنوه «إلياس» فسروه له، ولم يفسروا له «اليسع» حين أسمعوه إياه؟ أم أن تركيب هذا الاسم «إليشع» انبهم أيضًا على من لقنوه إياه؟ لا هذا ولا ذاك بالطبع، ولكن القرآن الأفقه بالعبرية من أهلها يعلم من دقائق العربية ما يخفى على هؤلاء المتطفلين الأدعياء: الاسم المزجي «إل + ياس» يُشكل بذاته جملة اسمية تامة بشطريها، المبتدأ والخبر، في أصل تركيبها العبري، بينهما ضمير الملك للمتكلم المفرد: إل + في + ياهو، يعني: إلهي هو، أي: هو إلهي. والمبتدأ في هذه الجملة الاسمية التامة، مضاف إلى مضاف إليه: إل مضاف إلى ضمير الملك للمتكلم المفرد وهو الياء (في العربية والعبرية سواء) ولا تجوز قط أداة التعريف في ضمائر الوصل (الياء والكاف وما جرى مجراهما) ولا ضمائر الفصل (أنا وأنت وما جرى مجراهما). أيضًا الاسم المزجي إل + يسع (إل + ييشع) العبري يشكل بذاته جملة اسمية تامة: الله يسع، ليس بينهما ضمير ملك، والانفصال بينهما واقع ظاهر، يجليه نطقك «إل» وكأنها أداة تعريف، يليها فعل عبري مضارع يراد منه اسم الفاعل، أي الواسع الموسع (والواسعُ من أسماء الله الحسنى) ودل القرآن بهذا النطق على أن الشطر الفعلي من الاسم المزجى «اليسع»، يراد منه الاسم لا الفعل. على أن إضافة أداة التعريف إلى صيغة الفعل المضارع صحيح في العربية: تقول منه «اليؤكل» على سبيل المثال تريد «الذي يؤكل» أي الصالح للأكل (edible الإنجليزية وكل مختوم بأحد المقطعين able – و ible – في اللغات الأوروبية الحديثة)، لأن «الـ» هنا بمعنى الذي عند علماء العربية. وقد مر بك في بعض حواشي هذا الكتاب ترجيحنا تفسير اسم الجلالة «الله» بأنه من «الـ + هو» أي الذي هو، وأنه في ترجيحنا الأصل الذي جاءت منه «إِلْ»، «يهوا» اسمين لله عز وجل في التوراة. فلا يبعد أن يكون مرادًا من الألف واللام كأداة تعريف في اسم «اليسع» المعرب عن «اليشع» العبري، هو اسم الله عز وجل. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/173] على أننا لا نتوقف عند هذا، وإنما نذكر هؤلاء الأدعياء بأن «اليسع»، شأنه شأن «إلياس» إنما جاءا في العربية التي نزل بها القرآن، لا على أصلهما، وإنما معربين على أوزان العربية، شأن التعريب الجيد لا الببغائي، ولا يصح تعريب في «اليسع» إلا بنطق الألف واللام فيه كما تنطق أداة التعريف العربية. إن فعلت غير هذا – وأرجو منك أن تحاول – كسرت الوزن. وردت «اليسع» - تعريبًا لاسم نبي الله «إليشع» عليه السلام – مرتين اثنتين فقط في القرآن، الأولى التي في سورة الأنعام في جُملة لفيف من أنبياء الله ورسله: {وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين} [الأنعام: 86]، والثانية في قوله عز وجل: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار} [ص: 45 – 48]. وليس في أي من المرتين كما ترى تفسير لمعنى هذا الاسم العلم العبراني «اليسع». «اليسع» إذن مفسرة في القرآن بالتعريب وحده. إنه «إِلْ + يَسَع»، يعني «إِيل يَسَع»، أي «اللهُ يَسَع»، واسع عليم سبحانه). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 170-174] |
(47) ذو الكفل:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (47) ذو الكفل «ذو الكفل» عليه السلام نبي من أنبياء الله عز وجل المسمين في القرآن بالاسم. ورد اسمه في القرآن مرتين فحسب، أولاهما التي في سورة الأنبياء مجموعًا إلى إسماعيل وإدريس عليهما السلام: {وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين} [الأنبياء: 85]، والثانية التي في سورة ص، مجموعًا إلى إسماعيل واليسع عليهما السلام: {واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار} [ص: 48]. ولفظ «ذي الكفل» كما ترى عربيٌّ قح، ليس فيه شبهة عجمة. على أن «ذا الكفل» لم يكن رجلاً عربيًا يتكلم العربية التي نزل بها القرآن. ولم يكن «ذو الكفل» بهذا اللفظ العربي هو الاسم الذي سماه به أبوه. وإنما «ذو الكفل» اسم «جاء به القرآن على الترجمة، بديلاً من اسمه العبراني في «توراة الأنبياء والكتبة، أي في العهد لاقديم، شأن القرآن المعجز في العدول عن التعريب إلى الترجمة حتى يسيء التعريب إلى المعنى أو يفسد الجرس. وقد اجتمعت هاتان العلتان في اسم «ذي الكفل» على أصله العبري، فوجبت الترجمة، كما سترى. تكلم المفسرون في «ذي الكفل» (تفسير القرطبي للآية 85 من سورة الأنبياء) فلم يتوقفوا عند تفسير معناه لأنه اسم عربي ظاهر العربية، لا يحتاج إلى تفسير. ولكن لفيفًا منهم أنكر نبوة ذي الكفل: قالوا هو رجل صالح من بني إسرائيل. وساقوا في هذا أحاديث، حملوها على «ذي الكفل» المسمى في القرآن. وهي تدور على رجل لم يكن يتورع عن ذنب، جاء امرأة أعطاها ستين دينارًا على أن تمكنه من نفسها فقبلت، فلما هم بها بكت. قال: هل أكرهتك؟ قالت: لا، إلا أنني والله ما [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/175] فعلت هذا من قبل ولكنها الحاجة، ألجأتني. قال أنا بهذا أولى. فعف عنها وترك لها المال. فأماته الله من ليلته. وأصبح الناس، فوجدوا مكتوبًا على بابه: قد غفر لذي الكفل. وهذه الأحاديث وأمثالها – وإن صحت – لا يصح حملها على «ذي الكفل» المسمى في القرآن، لأن الرجل المجعول له هذا الحديث – إن صح – الذي عاش حياته لا يتورع عن ذنب، ثم كف نفسه عن الزنا بامرأة سعى إليها بماله وعف عنها أريحية وسخاء نفس، لم تعفه تقوى الله عز وجل، فأماته الله على صالحته مغفور الذنب، مثل هذا الرجل مهما أطنبت في حسن صنيعه لا يصح أن يذكر في القرآن بالاسم، ناهيك بأن يذكر في القرآن مجموعًا إلى لفيف من النبيين صلوات الله عليهم، فالقرآن لا يخلط الأنبياء بغيرهم، لا ملك ولا ولي ولا صديق، فما بالك بداخل في عفو الله عز وجل، أميت على صالحته؟ أما أن «ذا الكفل» ورد في القرآن مجموعًا إلى أنبياء لا تشك قط في نبوتهم، فيكفيك أنه جاء مجموعًا إلى إسماعيل واليسع في الآية 48 من سورة ص التي تلوت توًا. وقد جاء ذكر إسماعيل واليسع في طائفة من الأنبياء ختم الله الحديث عنهم بقوله عز وجل فيهم: {أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين} [الأنعام: 89 – 90]. «ذو الكفل» عليه السلام نبي بصريح القرآن إن تمعنت. ولا يصح مع صريح القرآن تفسير – أيًا كان قائله – يخالف صريح القرآن. ولا يصح لمسلم في الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم قبول حديث – أيًا كان رواته – يخالف صريح القرآن لا مجال لصرفه عن معناه. هذا أصل نفيس، لو عض المفسرون عليه بالنواجذ لخلص عملهم الجليل من شائبة دكناء كالهنة في الثوب الأبيض. أما المستشرقون المنكرون الوحي على القرآن فقد توقفوا في «ذي الكفل» لا يدرون عمن يتحدث محمدٌ صلى الله عليه وسلم وكان ليس عندهم سمى في [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/176] «توراة الأنبياء والكتبة»، فقالوا إن لفظ «ذي الكفل» العربي يحتمل عدة معانٍ لا يُستطاعُ القطع بأيها المعنى. وكان هذا أيضًا هو موقف الأحبار من أهل الكتاب الذي يتكئ عليهم المفسرون وأصحاب السير، فقد تكتموا علم ما علمهم الله، لا يروى عنهم قول في «ذي الكفل» الذي سماه القرآن، من يكون في أنبياء بني إسرائيل وصلحائهم. وأما لماذا يتعين أن يكون «ذو الكفل» من بني إسرائيل لا من غيرهم، فقد علمت من القرآن في قوله عز وجل: {ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون} [الحديد: 26] إن النبوة من بعد إبراهيم محصورة في نسله لا تخرج عنهم إلى غيرهم حتى خاتم النبيين صلوات الله عليهم أجمعين. ولو كان «ذو الكفل» من بني إسماعيل شأنه شأن محمد صلى الله عليه وسلم لا من بني إسحق ويعقوب لتوقعت من القرآن أن يشير إليه، ولكن القرآن ينص على عكسه، لاختصاصه محمدًا صلى الله عليه وسلم بلقب النبي الأمي في مثل قوله عز وجل: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل}[الأعراف: 157]، يصف النبي الذي يتعين على أهل الكتاب الإيمان به حين يهل زمانه بأنه «أمي» والأمي عند اليهود ليس هو كما تظن، الذي يجهل القراءة والكتابة، وإنما هو «الذي من الأمم»، أي ليس منهم وإنما من الأمم الذين من حولهم، فهو كل أجنبي عنهم. واللفظة العبرية هي «جوى»، مفرد «جويم»، وأيضًا «أمي»، «أمييم»، أي هو النبي الذي من غير اليهود. وقد كان الخطاب بهذه الآية لموسى في أعقاب فتنة العجل: {قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/177] كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} [الأعراف: 156 – 157]. وقد وصى بها موسى قومه في التوراة التي بين يديك: يقيم لك الرب إلهك نبيًا من وسطك من إخوتك مثلي، له تسمعون!» (تثنية 18/ 15). والمخاطب بقوله: «يقيم لك الرب إلهك» على المفرد المذكر، إسرائيل، مرادًا منه «بنو إسرائيل»، والترجمة العربية «من وسطك» مضللة، لأنها في الأصل العبراني: «مقربخا» يعني لا «من وسطك» وإنما من «صميمتك»، والذي من صميمة إسرائيل من إخوته هم بنو إسماعيل لا بني إسرائيل بالطبع، وقد خفيت هذه على المسلمين الذين جادلوا أهل الكتاب بها. ووصى بها عيسى أيضًا أهل الإنجيل في الأناجيل التي بين يديك: «إن لي أمورًا كثيرة لأقولها لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية» (يوحنا 16/ 12 – 13). وروح الحق بالعبرية التي تكلم بها المسيح هي «روح إمت» في الترجمة العبرية لهذه الأناجيل، و«إمت» عبريًا مصدرٌ من الجذر العبري «أمن»، فهو الأمانة على معنى قول الحق، والأمين لقبه صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، لا يقول إلا حقا. أما علماء النصارى فقد قالوا من بعد إن المعنى بروح الحق هو «الروح القدس»، يعنون جبريل صلوات الله عليه، وليس بشيء، لأن جبريل عندهم إله، ثالث الثلاثة في مثلث التثليث، فلا يصح ولا يليق أن يقال فيه «لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به» شأن النبي يوحى إليه، موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم في هذا سواء، ولكنك لا تهدي من أحببت. والذي يجب أن تعلمه هو أن «الأمي»، «الأميين»، من مستحدثات القرآن، لا علم بهما للعرب قبل القرآن، ولا شاهد لهما في كلام العرب من دونه. وهو نسبة إلى الأمة لا إلى الأم. وقيل «أمي» ولم يقل «أممي» لأن العربية – أعني عربية القرآن – لا تنسب. أي لا تضيف ياء النسب إلى اللفظ في صورة الجمع وإن كان المراد هو النسبة إلى الجمع، وإنما تعيد اللفظ الجمع إلى صورته في المفرد ثم تنسب إليه، كما نقول نحن الآن «دولي» ولا نقول «دولي» على الجمع من «دولة»، وإن كان مقصود النسب هو النسبة إلى مجموع الدول لا إلى «الدولة». ولكن مفسري القرآن، وتابعهم علماء العربية، فسروا الأمي والأميين في القرآن بأنه نسبة إلى «الأم» لا إلى «الأمة»، [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/178] يُريدون الذين هم على حال «أمهم» في جهالة الفطرة. واستنبطوا من هذا أن «الأمي» هو العيي الجافي، الجاهل، الذي لا يقرأ ولا يكتب. فسروها بهذا على التخمين، لا على التأصيل، فليس لهذا التفسير أصل في العربية يرد إليه، والنسبة إلى الأم لا تقتضي هذا الذي قالوه، والذي لم يسمع من العرب قبل القرآن. أما أن العرب عند اليهود «أميون» فهذا لا خلاف عليه، لا لأن العرب أمة أمية، لا يقرءون ولا يكتبون، وإنما لأنهم «جويم»، «أمييم»، أي من الأمم، لا من بني إسرائيل. وقد ورد في توراة الأنبياء والكتبة – وهذا جديد لم تقرأه من قبل – في التنديد ببني إسرائيل على ألسنة أنبيائهم، ما يلي: «لأن الرب قد سكب عليكم روح سبات وأغمض عيونكم. الأنبياء والرؤساء الناظرين غطاهم. وصارت لكم رؤيا الكل مثل كلام السفر المختوم الذي يدفعونه لعارف الكتابة قائلين اقرأ هذا فيقول لا أستطيع لأنه مختوم. أو يدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة ويقال له اقرأ هذا فيقول لا أعرف الكتابة» (إشعياء: 29/ 9 – 13). ربما تجد في هذا – وأنت محق بالطبع – إشارة إلى المعنى بها ليلة القدر في غار حراء، جبريل ومحمد صلوات الله وسلامه على ملائكته وأنبيائه، يقول له اقرأ، فيقول ما أنا بقارئ. ولكن الذي يعنينا في هذا السياق هو أن العبرية لا تعرف لفظة «الأمي» بمعنى الذي يجهل القراءة والكتابة، وإنما تقول: «أشير لو يديع هسفر» أي الذي لا يعرف السفر، يعني لا يعرف الكتابة. أما العبرية المعاصرة التي تستعير أحيانًا من العبرية فلم تستعر منها لفظة «الأمي» بمعنى الذي لا يعرف القراءة والكتابة، وإنما قالت في الذي لا يقرأ ولا يكتب «بور» يعني «الجاهل»، من «البوار» عربيًا أي الأرض التي تخلى فتبور. وهي لم تستعر «الأمي» من العربية خشية اختلاطها في العبرية بمعنى الأجنبي الغريب الذي ليس من اليهود. وأما لماذا «خمن» المفسرون – وتابعهم عليها علماء العربية من بعد – أن «الأمي» يعني الذي لا يعرف القراءة والكتابة، فهو علمهم القاطع الذي لا خلاف عليه أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن قبل نزول القرآن عليه يعرف القراءة والكتابة، لا بدلالة قوله في غار حراء لجبريل: ما أنا بقارئ! ليس لهذا فحسب، وإنما لقوله عز وجل مخاطبًا نبيه: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذن لارتاب المبطلون} [العنكبوت: 48]، وكانت هذه من آيات نبوته صلى الله [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/179] عليه وسلم وحجة له على من ادعوا عليه القراءة في الكتب السابقة والاستنساخ منها. ولكن ليس فيها دليلُ على أن وصفه صلى الله عليه وسلم بالنبي «الأمي» من هذا، أي لعدم معرفته القراءة والكتابة. أما الحديث المروي عنه صلى الله عليه وسلم: نحن أمةُ أمية، لا نقرا ولا نحسب! ففيه نظر، لا من جهة رواته بالذات، وإنما من جهة المتن، أي من جهة دلالته ومعناه، لأنه يخالف الواقع. لا يصح أني قال إن «العرب» سموا أميين: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم} [الجمعة: 2] لأنهم على حال أمهم من جهالة الفطرة لا يقرءون ولا يكتبون، فقد قرأ العربُ وكتبوا، دليلك في هذا تلك الصحيفة التي علقها كفار قريش حين قطعوا ما بينهم وبين بني هاشم، ودليلك فيه أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمْلَى هذا القرآن إملاءً على نفر من الكتبة العرب فكتبوه بالخط العربي لا بالخط العبراني، بل ودليلك فيه كذلك من القرآن نفسه، أعني من تلك الآية في سورة العنكبوت: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذن لارتاب المبطلون} [العنكبوت: 48] التي تفيد أن في العرب قارئين كاتبين لستَ منهم. ولا يصح أن يقال أيضًا أن العرب سموا «أميين» على معنى الجهل بالقراءة والكتابة، تسمية بالمجمل، لأن معرفة القراءة والكتابة لم تكن فاشية فيهم فشوها في الشعوب من حولهم: الواقع أن «فشو» العلم بالقراءة والكتابة لم يكن من سمات العالم القديم عصر نزول القرآن، بل إن شيوع «الأمية» في أهل البوادي والنجوع قد كان – ولا يزال إلى حد كبير في أيمانا هذه – هو القاعدة، آفة لا يسلم منها بدرجة أو بأخرى إلا أهل المدن، ولم تكن مكة، ولا يثرب، بادية أو نجعا، حتى يقال في أهلها «أميون» بهذا المعنى، أو حتى تلتصق هذه الصفة بالعرب فتكون علما عليها من دون شعوب الأرض، تطلق فلا يفهم منها غيرهم. الصحيح أن اليهود هم الذين أسموا العرب – كما أسموا غيرهم ممن ليسوا من أنفسهم – أميين، أي الذين من «الأمم» على معنى الأجنبي، لا على معنى الذي يجهل القراءة والكتابة. والذي ينبغي أن تتوقف عنده أن القرآن لا يستخدم لفظة «الأميين»، وقد وردت في القرآن أربع مرات فحسب، إلا في سياق حديث مع أهل [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/180] الكتاب أو عن أهل الكتاب، على المغايرة منهم (راجع الآيات: البقرة 78، آل عمران 20 و 75، الجمعة 2)، وهو أيضًا لا يستخدم لفظة «الأمي»، وقد وردت في كل القرآن مرتين فحسب في آيتين متتابعتين من سورة الأعراف (157 و 158) نعتًا للنبي صلى الله عليه وسلم في خطاب لأهل الكتاب يُرادُ منه النبيُّ الذي ليس منكم، أي ليس من بني إسرائيل، إلا في هذا المعنى وحده. على أنك لا تحتاج مع القرآن إلى قول لقائل. فقد حدد القرآن بأجلى بيان مقصوده من لفظ «الأميين» في قوله عز وجل: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل} [آل عمران: 75]، أي نستبيح في غيرنا ما هو محرم علينا. وليس المعنى بالطبع «نستغفلهم لأنهم لا يعرفون القراءة والكتابة» وإنما المعنى لا حرج علينا في أكل أموالهم بالباطل لأنهم من «الأمم»، ليسوا منا. وهذا من عقائد اليهود الثابتة في التوراة التي بين يديك: لا حرمة لأجنبي عنهم. ها قد علمت أن «الأمي» في ألفاظ القرآن هو الذي ليس من بني إسرائيل، لا الذي يجهل، أو العيي الجافي، أو من لا يعرف القراءة والكتابة. هذا شائن، لا يصح في حق أفصح الناس وأرقهم حاشية بإطلاق، الذي علمه الله فهو أعلم الناس. ولكن لا بأس بهذا الخطأ الشائع، الذي أكسب اللغة العربية لفظًا جديدًا يُغني بذاته عن جملة طويلة (الأمي = الذي يجهل القراءة والكتابة). فقط عليك أن تحترز من أن تحترز من أن تفهم من هذا اللفظ المحدث ما فهمه المفسرون الأوائل في نعت الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} [الأعراف: 158]. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/181] ولأن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو النبي الوحيد المنحدر من صلب إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام، ولأن الأنبياء جميعا من بعد إبراهيم كلهم من نسل إبراهيم، فلم يبق لك في نسب نبي الله ذي الكفل إلا أن تأخذ بأحد خيارات ثلاثة: 1- إما أن ذا الكفل نبيٌ سابقٌ على إبراهيم نفسه، عاش ما بين آدم إلى نوح شأن إدريس عليه السلام، أو ما بين نوح وإبراهيم شأن هود وصالح على ما مر بك في تضاعيف هذا الكتاب. 2- وإما أنه نبي من بني إبراهيم خلاف إسماعيل من غير بني إسرائيل، شأنه شأن شعيب عليه السلام (حمى موسى على ما يرجح المفسرون ونحن معهم). 3- وإما إنه نبيٌ من بني يعقوب، أي من بني إسرائيل. والذي نرجحه نحن من هذه الخيارات الثلاثة ونأخذ به، هو الخيار الثالث، أي أن «ذا الكفل» نبيٌ من أنبياء بني إسرائيل، لا لوروده في القرآن بعد اليسع خلف إلياس، في إحدى الآيتين المذكور اسمه فيهما: {واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل} [ص: 48]، فقد ورد في الآية الأخرى بعد إدريس: {وإسماعيل وإدريس وذا الكفل} [الأنبياء: 85]، بل لا يُراعى القرآن دائمًا الترتيبَ الزمني في سرده أسماء الأنبياء، ولا بدلالة دخوله في زمرة «الأخيار» إبراهيم وإسحق ويعقوب في قوله عز وجل عنهم: {وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار} [ص: 47 – 48] التي يفهم منها للوهلة الأولى إلحاق هؤلاء الأخيار بأولئك، فقد ترى أنت أن هذا دليل على أن نبي الله ذا الكفل من بني إبراهيم فحسب لا عبر يعقوب (إسرائيل) بالضرورة. ولكن الدليل عندي على أن «ذا الكفل» من أنبياء بني إسرائيل هو اسمه هذا الذي سمى به في القرآن على الترجمة: ذو الكفل، ومعناه بالعبرية هو «حلقيا»، وهو علم جار في أعلام العهد القديم، أشهر من تسموا به اثنان: والد إرميا النبي، واسمه إرميا بن حلقيا، والثاني هو «حلقيا» الكاهن على عصر يوشيا ملك يهوذا، الذي عثر أثناء ترميم الهيكل في عهد ذلك الملك على سفر شريعة الرب (أي توراة موسى) بخط موسى نفسه (راجع في هذا الإصحاح 22 من سفر الملوك الثاني، والإصحاح 34 من سفر أخبار الأيام الثاني) والملقب في العهد القديم بلقب «الكاهن العظيم». [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/182] والذي أرجحه أنا – والله أعلم بغيبه – أن ذا الكفل المعنى في القرآن هو هذا «الكاهن العظيم» حلقيا، لا يقدح في هذا قولهم كاهن لا نبي، فالعهد القديم يخلط بين النبي والكاهن والرائي، دليلك في هذا من العهد القديم نفسه: «كلام إرميا بن حلقيا من الكهنة الذين في عناثوث في أرض بنيامين» (إرميا 1/ 1) الذي تفهم منه أن إرميا كاهن من الكهنة، بينما إرميا عند اليهود نبي بإجماع. أما لماذا لم يفطن المفسرون إلى «حلقيا» هذا سمي ذي الكفل العبراني، فهذا باديء بدء لأن رواتهم من أهل الكتاب تكتموه عليهم، وثانيا – وهو الأهم – لأن المفسرين الأوائل حتى وإن علموا بوجود «حلقيا» في العهد القديم ما كان لهم أن يعلموا معناه في لغته ليطابقوه على «ذي الكفل» سميه في القرآن، فما كانوا يعلمون من عبرية التوراة القدر الكافي لتحليل معاني أعلامها. أما «حلقيا»، ذلك الاسم العبراني، فهو اسم مزجي: حلقي + يا، من الجذر العبري «حلق» بالحاء غير المنقوطة، مكافئ «خلق» العربي بالخاء المنقوطة من فوق، ومن معانيه في العبرية والعربية معًا، «الخلاق» بتخفيف اللام، أي الكفل والحظ والنصيب والقسم بمعنى القسمة، كما تجد في قوله عز وجل: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة} [آل عمران: 77] أي لا نصيب لهم ولاحظ في نعيم الآخرة. أي لا كفل لهم من هذا النعيم ولا «يقسم» لهم منه شيء. واصل هذا الاسم «حلقياهو»، ثم اختصر إلى «حلقيا»، كما اختصر «إلياهو» إلى «إيليا»، ومعنى «حلقياهو» على أصلها المزجي هو «خلاقه» أي خلاق الله، يعني قسمه الذي قسم، فهو خلاق منه عز وجل، أي كفل من به، والمسمى به «ذو كفل» أي المعطي كفلاً. هذه هي ترجمة القرآن المعجز للاسم العبراني «حلقيا»: لا أجمل ولا أدق ولا أبين. أما لماذا عدل القرآن عن تعريب هذا الاسم إلى ترجمته، فلأنه إن تركه على أصله العبري بالحاء غير المنقوطة التبوس معناه عند القارئ العربي بمعاني الجذر العربي «حلق» غير المرادة من التسمية، ولو عدل به عن الحاء إلى الخاء على جهة التعريب [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/183] المفسر للمعنى، لا نبهم على القارئ العربي المراد منه، أهو «الخلق» أم «الخلق»، أم «الخلاق»، وأبعدها عن الذهن هو هذا الأخير رغم أنه وحده المراد. ولكن للقرآن سببًا آخر أوجب العدول عن تعريب «حلقيا» إلى ترجمته، هو عندي السبب الأوجه والأقوى، وهو الجرس القرآني. قارن أنت واحكم بنفسك: أي اللفظين أليق بجرس القرآن، «حلقيًا» أم «ذو الكفل»؟ وسبحان العليم الخبير). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 175-184] |
(48) يونس:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (48) يونس «يونس» في القرآن، اسم نبي الله يونس بن متى عليه السلام، هي تعريب «يونا» العبرية في العهد القديم، التي شهرت بيونانيتها في أصول الأناجيل “Ionas” «يوناس» (مضافًا إليها سينُ الرفع اليونانية) وجاءت في ترجمات الأناجيل العربية «يونان» (بإضافة نون المنصوب في اليونانية أيضًا)، ولكنها شُهِرت عند العرب بصورتها السريانية المأخوذة عن اليونانية «يونس» بكسر النون، فعربها القرآن على ما شهرت به عند العرب، ولكن بضم النون، منعًا لشبهة فهمها من الأنس والإيناس، إن تركها على وزن «يفعل» اليوناني، أو على وزن «يفعل» السرياني. وقد مر بك هذا في تحليلنا اسم نبي الله يوسف عليه السلام، فارجع إليه. وقصة يونس عليه السلام ترد في «العهد القديم»، أي «توراة الأنبياء والكتبة» في سفر مستقل معنون باسمه. ولأنك لا تجد ترجمة عربية لهذا العهد القديم في مجلد قائم برأسه أشرف عليها اليهود أنفسهم، وإنما تجد الترجمة العربية للعهد القديم مجموعة في مجلد واحد مع «العهد الجديد» في ترجمة عربية أشرف عليها المسيحيون العرب، فستجد سفر يونس هذا في ترجمته العربية المنقولة عن العبرية معنونًا – كما يجب أن تتوقع – لا باسم سفر يونس كما هو لفظه العربي، ولا باسم سفر يونا على أصله العبري، وإنما تجده معنونا باسم «سفر يونان» على ما شاع به اسم هذا النبي عند المسيحيين العرب: «يونان». وبهذا الاسم ديونان» ستجيء الإشارة إلى مقتبساتنا من هذا السفر عند الضرورة. والذي ينبغي التنبيه إليه في هذا السياق، هو فضل المسيحية الضخم على ديانة اليهود: لولا إيمان المسيحيين بهذا «الوحي» الذي في توراة الأنبياء والكتبة، واعتبارهم المسيح عليه السلام مكملاً ومتممًا لهذا «الناموس» الذي يمثله العهد القديم، ولولا حاجتهم إلى استقصاء ما في العهد القديم من «بشارات» بمقدم المسيح [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/185] وأوصافه وصفاته وإعجاز مولده إعمالاً لوصيته في الأناجيل: (فتشوا الكتب وهي تشهد لي)، بل قال اختصارًا لولا اتكاء العهد الجديد على العهد القديم، لما قامت المسيحية بهذا الجهد الضخم في دراسة أسفار توراة الأنبياء والكتبة، وترجمتها، ونشرها في بقاع الأرض بكل اللغات، ولو ترك الأمر لليهود أنفسهم لما ضربوا فيه بسهم، لا لكسل فيهم، وإنما لأنهم «يضنون بالخير على غير أهله» في وهمهم، أي على العالم كله من دونهم، لأنهم وحدهم «شعب الله» لا حاجة به إلى غيرهم، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. وأنت بالطبع تحمد للمسيحية فضلها في خدمة أسفار اليهود، بحثًا وترجمة ونشرًا، إذ لولا المسيحية لبقيت تلك الأسفار حبيسة خزائنهم. ولكنك تحترز وأنت تقرأ أسفار اليهود في غير أصلها العبراني من شبهة تطويع الأصل لهوى المترجم في كل نص يراد منه الاستشهاد للمسيح أو لعقيدة التثليث، مثلما تحترز كل الاحتراز من شبهة «التشيع» في تفاسير القرآن والحديث. تحترز من المغالاة هنا وهناك، لأن المغالاة إسفاف، والإسفاف منزلق إلى الإثم الكبير. قال صلى الله عليه وسلم: «لا تفضلوني على يونس بن متى». وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم، فقد قال عز وجل: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} [البقرة: 253]، أي فضلنا كلا بمأثرة. وقال في خاتم النبيين: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} [النساء: 113]، وقال فيه عز وجل أيضًا: {إن فضله كان عليك كبيرا} [الإسراء: 87]. حسبك أنه خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، الذي ختمت به النبوة والرسالة، والذي يختم به هو الأعلى لا الأدنى. ولكنك تفهم أيضًا من هذا الحديث – فوق دلالته على تواضعه صلوات الله عليه – أن الأنبياء جميعًا سواء في «فضل النبوة» لوحده الرسالة والقصد، ووحدة المرسل جل وعلا. وتلمح في هذا الحديث أيضًا صدى قوله عز وجل: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} [البقرة: 285]. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/186] ولكن الله عز وجل يقول لخاتم النبيين: {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم فاجتباه ربه فجعله من الصالحين} [القلم: 48 – 50]، أي لا تكن أنت كصاحب الحوت ذي النون – والنون في العربية يعني الحوت – يونس بن متى عليه السلام الذي لم يصبر لحكم ربه فالتقمه الحوت وهو مليم – والمليم هو الذي أتى ما يلام عليه – حين ذهب مغاضبًا، أي هاجر وتباعد: {وذا النون إذ ذهب مغاضبًا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} [الأنبياء: 87]. وهو أيضًا يونس في قوله عز وجل لموسى وقد ولى مدبرًا ولم يعقب حين ألقى عصاه عن أمر الله فرآها تهتز كأنها جان: {فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدى المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا من بعد سوء فإني غفور رحيم} [النمل: 10 – 11]، أي يا موسى أنت معي آمن، فلا يخاف في حضرتي أنبيائي. ولكنه عز وجل علم أنه سيكون من يونس ما كان، أي سيفر يونس من وجهه عز وجل لا إليه سبحانه، فكان يونس بهذه «المغاضبة» ظالمًا، مليمًا أتى ما يلام عليه، ومن معاني الظلم في العربية أن تكون غير محق، تضع الشيء في غير موضعه، فلا يفر من وجه الله إلا ظالم، فما بالك بنبي وضع الله عز وجل عليه كنفه، أفيفر من كنف الله أحد؟ استثنى الله عز وجل من أنبيائه الذين لا يخافون في حضرته يونس الذي ظلم: ذكر ملامته، وذكر توبته، وعقب بمغفرته ورحمته، ولم يولد بعد يونس. فسبحان الذي ما فرط في الكتاب من شيء، الذي أحكم في القرآن كل قول قاله. ولكن مفسري القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 11 من سورة النمل) تهيبوا القول بأن يكون في رسل الله من ظلم، فقال بعضهم إن الاستثناء بالذي ظلم استثناء منقطع، يعني إلا الذين ظلموا من عباده غير الأنبياء. وهذا ضعيف لا يتعمق معنى الآية، لأن خشية الله عز وجل وقر واقر في قلب كل مؤمن، نبي وغير نبي، والنبي بهذا أقمن وأجدر، فلا يخشى الله حق خشيته إلا عالم، ولا عالم كنبي، وليس هذا هو الذي لام الله عليه موسى، ولكنه ليم لأنه وهو في كنف الله عز وجل خشى على نفسه من ثعبان فولى مدبرًا ولم يعقب، ونسى أنه في حضرته عز [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/187] ورجل آمن مؤمن، فذكره الله بها، فالمستثنى منه إذن في الآية هم الأنبياء حال كونهم في حضرته عز وجل، لا في عموم شأنهم وأحوالهم، والمستثنى هو يونس لأنه «غاضب» ففر من وجه الله عز وجل ولم يفر إليه سبحانه. أما الآخرون فقالوا إن الاستثناء لا شك متصل، أي أن من الأنبياء من ظلم، ولكنهم لم يخصوا بها يونس، وإنما عمموها في هفوات الأنبياء صلوات الله عليهم، من مثل غفلة آدم الذي نسى فأكل مما نهى عنه، وفتنة داود حين وقعت في قلبه امرأة صاحب جنده فأراده على تطليقها ليتزوج هو منها، وأيضًا يونس الذي أتى ما يُلاُم عليه حين ذهب مغاضبًا، والصغيرة من النبي في حكم الكبيرة من غيره. وليس هذا أيضًا هو معنى هاتين الآيتين من سورة النمل، لأن مقصودهما كما مر بك هو اللوم على خوف النبي في حضرة الله عز وجل حيث الأمن الذي ليس فوقه أمن، لا خوف النبي من ذنب أتاه، وهذا لم يفعله يونس، فلم يفر من وجه الله عز وجل لذنب أتاه، وإنما كان الذنب الذي ظلم به هو هذا الفرار نفسه. وقال بعض المفسرين أيضًا إن «الذي ظلم» في الآية لا يبعد أن يكون هو موسى نفسه، يذكره الله بذنبه حين وكز ذلك الرجل المصري فقضى عليه، وهذا ضعيف ممعن في الضعف، لأنه يتأدى بك إلى معكوس الاستثناء في قوله عز وجل «إلا من ظلم»، فيكون المعنى أنت وحدك يا موسى الذي تخاف في حضرتي غير آمن، لفعلتك التي فعلت، فلماذا لامه الله إذن على فراره مدبرًا لم يعقب؟ على أنك لا تعد موسى قاتلاً مرتكب كبيرة، فلم يرد قتل هذا المصري، وإنما قتله عفوًا بوكزة من يده في مدافعته عن رجل من قومه كاد المصري في اقتتالهما أن يبطش بالذي «من شيعته»، ولكن موسى عد هذا القتل غير العمد إثمًا بليغًا: {قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين}، {قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم} وعاهد موسى ربه وقد تاب عليه ألا يكون من بعدُ ظهيرًا لمجرم ولو كان من شيعته: {قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرًا للمجرمين} (راجع الآيتين 15 و 16 من سورة القصص)، فقد تاب الله عز وجل على موسى ومحا عنه إثم هذه الفعلة وتأثمه منها الذي حاك في صدره: {وقتلت نفسا فنجيناك من الغم} [طه: 40]، قبل أن يبعث موسى إلى فرعون بعشر سنين قضاها موسى في مدين. وتستطيع أن تقول أيضًا إن الفرار من ثعبان مبين كالذي صارت إليه عصا موسى أمر طبيعي في حق البشر وإن كانوا [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/188] أنبياء، وليس هذا هو الذي ليم عليه موسى، وإنما ليم موسى لأنه «ولى مدبرًا ولم يعقب» يعني أدبر موسى فرارًا من هذا الثعبان لما وقع في قلبه من الخوف منه، وهذا طبيعي في حق البشر، ولكنه «لم يعقب»، أي لم يقفل راجعًا إلى ربه يلتمس الأمن من هذا الخوف عند السلام المؤمن المهيمن جلا وعلا. على أن يونس عليه السلام أقر بظلمه في قول الله عز وجل على لسانه: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} [الأنبياء: 87]، وليس بعد هذا قول لقائل. قد «ظلم» إذن يونس صلوات الله عليه. فكيف ظلم يونس؟ كانت نينوى – وتقع أطلالها اليوم قُبالة مدينة الموصل شمالي العراق – لا عاصمة الآشوريين وإنما عاصمة الشرق الأدنى القديم كله ما بين القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد. كانت آشور تحكم بابل، فهي عاصمة آشور وبابل، ولم يكن قد بزغ بعد نجم الفرس الذين كان عليهم أن ينتظروا حتى الربع الأخير من القرن السادس قبل الميلاد. أما مصر فلم تعد لها اليد الطولى في أحداث الشرق الأدنى القديم منذ مهلك فرعون (رمسيس الثاني كما علمت) في خليج السويس أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد، بل استطاع «أسرحدون» الأشوري اقتحام مصر على عهد «طهرقا» (689 – 663 ق.م) وطارده حتى جنوبيها، ولقب نفسه ملك آشور وبابل ومصر، فأصبحت نينوى عاصمة العالم القديم كله دون منازع. ولكن هذه العظمة لم تدم طويلاً لنينوى، لأن بابل هبت من كبوتها فأسقطت آشور وفتحت عاصمتها نينوى حوالي سنة 607 ق.م، فكان هذا هو آخر عهد نينوى بالعظمة، بل بالوجود كمدينة، فلم يبق البابليون منها إلا خرائب وأطلالا. وإلى نينوى هذه أرسل يونس عليه السلام كما تقرأ في العهد القديم: «وصار قول الرب إلى يونان بن أمتاي قائلاً: قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة وناد عليها لأنه قد صعد شرهم أمامي» (يونان 1/ 1 – 2). ولكن يونان – أي يونس – شق عليه الأمر، وكأنما خشى على نفسه من مصاولة هذه المدينة العظيمة وفيها ملك جائر (كما فرق موسى من قبل من مواجهة فرعون في مصر فقال هو وأخوه هرون: {قالا ربنا [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/189] إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى} [طه: 45]، على نحو ما تقرأ في العهد القديم: «فقام يونان ليهرب إلى ترشيش من وجه الرب فنزل إلى يافا ووجد سفينة ذاهبة إلى ترشيش فدفع أجرتها ونزل فيها ليذهب معهم إلى ترشيش من وجه الرب» (يونان 1/ 3)، فكان من أمره مع أصحاب السفينة ما تعلم: عصفت بهم الريح وهاج البحر هياجا لم يعهدوا مثله، فظنوا أنه من ركابها ظالم آبق، واقترعوا على ركاب السفينة أيهم الظالم الآبق، فكان يونس، فألقوه في البحر، فهدأت الريح وسكن البحر، واستقامت لهم السفينة بعد خلاصهم منه. أما يونس فقد التقمه حوت كأنما كان ينتظره. ولكن الله أمر الحوت ألا يمس منه شعرة. ومكث يونس في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، وهو قائم يستغفر ويسبح. حتى أمر الله الحوت أن يلفظه إلى البر سليمًا معافى: «ثم صار قول الرب إلى يونان ثانية قائلاً: قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة وناد لها المناداة التي أنا مكلمك بها» (يونان 3/ 1 – 2)، فذهب يونان من فوره إلى نينوى وقال لأهلها: «بعد أربعين يومًا تنقلب نينوى» (يونان 3/ 4) ولكن أهل نينوى، على غير دأب الذين تبعث فيهم الرسل، آمنوا بيونس، وصدقوا وعيد الله على يديه، الملك والرعية، فرجعوا عما هم فيه من ضلالتهم: «ونادوا بصوم ولبسوا مسوحًا من كبيرهم إلى صغيرهم» (يونان 3/ 5)، وقالوا: «لعل الله يعود ويندم ويرجع عن حمو غضبه فلا نهلك» (يونان 3/ 9). «فلما رأى الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم فلم يصنعه» (يونان 3/ 10). أما يونان فقد اغتم لهذا غمًا شديدًا، وكأنه قال في نفسه فيمَ إذن كان هذا العناء، وفيم كانت بعثتي إلى هؤلاء والله يرق ويرحم: «فغم ذلك يونان غمًا شديدًا فاغتاظ وصلى إلى الرب قائلاً آه يا رب، أليس هذا كلامي إذ كنت بعد في أرضي. لذلك بادرت إلى الهرب إلى ترشيش لأني علمت أنك إله رؤوف رحيم وبطيء الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر، فالآن يا رب خذ نفسي مني لأن موتي خير من حياتي» (يونان 4/ 1 – 3). ترى هل كان يونان يتمنى إيقاع الوعيد بأهل نينوى رغم توبتهم كيلا يقال أوعد يونان فأخلف الله وعده؟ هذا هو ما يقوله لك السفر: «وخرج يونان من المدينة وجلس شرقي المدينة وصنع لنفسه هناك مظلة وجلس تحتها في الظل حتى يرى ماذا يحدث في المدينة» (يونان 4/ 5). ثم تفهم من السفر أن الله عز وجل أراد أن يبرر ليونان سبب تجاوزه عن [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/190] إيقاع العذاب بأهل نينوى: إنه الرحمة والشفقة منه تبارك وتعالى لا التوبة من جانبهم «فأعد الرب الإله يقطينه فارتفعت فوق يونان لتكون ظلاً على رأسه لكي يخلصه من غمه. ففرح يونان من أجل اليقطينة. ثم أعد الله دودة عند طلوع الفجر في الغد فضربت اليقطينة فيبست. وحدث عند طلوع الشمس أن الله أعد ريحًا شرقية فضربت الشمس على رأس يونان فذبل، فطلب لنفسه الموت وقال موتي خير من حياتي. فقال الله ليونان هل اغتظت بالصواب من أجل اليقطينة؟ فقال اغتظت بالصواب حتى الموت. فقال الرب أنت شفقت على اليقطينة التي لم تتعب فيها ولا ربيتها، التي بنت ليلة كانت وبنت ليلة هلكت. أفلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي يوجد فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من الناس الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم وبهائم كثيرة؟» (يونان 4/ 6- 11). بهذا التبرير لتجاوز الله عن إيقاع العذاب بأهل نينوى بعد توبتهم، ينتهى سفر يونان في العهد القديم. وبغض النظر عن بعض العبارات التي تنبو عن أدب الحديث في جنب الله عز وجل، من مثل «الله يندم» (في الأصل العبراني «وينحم ها إلوهيم» من الجذر العبري «نحم) التي تفرق منها أذن المسلم وإن ألفتها أسماع أهل التوراة، وبغض النظر أيضًا عن سمات في أسلوب هذا السفر تذكرك بأساليب كاتب سفر التكوين حتى تكاد تظن الكاتب في السفرين واحدًا، وتهبط بكتابة سفر التكوين إلى عصر متأخر عن أحداثه، كما مر بك في تضاعيف هذا الكتاب. بغض النظر عن هذا وذاك، فإن وقائع سفر يونان تتقارب كل التقارب مع قصة يونس في القرآن، ولكن ترتيب هذه الوقائع في السرد القرآني مختلف. وهو اختلاف بالغ الخطورة، لأنه هو الذي يحدد لك كيف «ظلم» يونس، وفيم كانت ملامته. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/191] يقول لك سفر يونان إن ملامة يونس التي استحق بها عقابَ الحبس في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، كانت هي نكوله عن حمل أعباء الرسالة إلى أهل نينوى، أشفق منها وفر هاربا من وجه الله عز وجل. ولا يفعل هذا نبي اختاره الله على علم. ويقول لك القرآن أن ملامة يونس التي قذفت به إلى بطن الحوت هي أنه ذهب مغاضبًا: {وذ النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه} [الأنبياء: 87]، أي أنه عليه السلام غضب فغاضب، وبديهي أنه لم يغضب من الله عز وجل لإنزاله الرسالة عليه فهجر الله وتباعد عنه، وهذا معنى المغاضبة في اللغة، وإنما المعنى أنه عليه السلام لم يَصْبِر لحكم الله عز وجل في أهل نينوى، أي إمهالهم حتى يتوبوا ثم يرفع العذاب عنهم، ليكونوا مضرب المثل في قوله عز وجل: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين} [يونس: 96 – 98]، ولكن يونس غضب من هذا، وكأنما ساءه عفو الله بمحض التسبيح والتوبة عن قوم أرسل لهدايتهم لا لإيقاع العذاب بهم، فخرج من المدينة مغاضبًا، أي هجر وتباعد، فكان من أمره في السفينة وفي بطن الحوت ما تعلم، كي يعلمه الله عز وجل أن التوبة والتسبيح هما وحدهما السبيل إلى الرحمة والعفو: حبسه في بطن الحوت لا ملجأ له من الله إلا إليه، يقر بذنبه، فيسبح ويستغفر، مثلما فعل قومه حين سمعوا وعيد الله على يديه، لم يصروا على ما فعلوا، وأيضًا لم يقنطوا. بهذا نفسه نجى يونس: {فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين} [الصافات: 143 – 148]. كان مجيء يونس إلى قومه قبل التقام الحوت إياه، لا بعده كما تجد في سفر يونان. وكان إنبات اليقطينة عليه عقيب أن لفظه الحوت إلى البر مباشرة لحاجته إلى ظلها في العراء وهو سقيم، لا لينام مستروحًا في ظلها ينتظر إيقاع العذاب بأهل نينوى ليتشفى فيهم كما يقص عليك الكاتب في العهد القديم، فقد صنع لنفسه من قبل مظلة يتظلل تحتها كما يروى [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/192] الكاتب. وإنما احتاج الكاتب إلى هذا بعد أن خلط في أحداث القصة، وفاته درس الحوت الذي استنفده في عقاب يونس على رفضه الرسالة إلى نينوى – وهو محال في جنب رسل الله كما مر بك – فافتعل من عنده «درس اليقطينة» التي فرح بها يونان فرحا شديدًا لا تدري لماذا، ثم أماتها في ليلة فحزن لموتها يونان أيضًا حزنًا شديدًا، بل واغتاظ لموتها حتى طلب لنفسه الموت، وأنت الذي تغيظك هذه المبالغات والتهاويل، كي يقول له الله في النهاية مسكنا غيظه على اليقطينة التي أحبها حتى الموت إنه أقمن بالشفقة على عباده، مائة وعشرين ألف خلق من خلقه صنعهم بيديه، عدا بهائم كثيرة في المدينة، وكأنه عز وجل – تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا – يعتذر لنبيه عن إشفاقه على أهل نينوى، الذين رحمهم لكثرتهم لا لتوبتهم. فأين درس اليقطينة في هذا السفر من درس الحوت في القرآن؟ بل ما الحكمة من إرسال الرسل إذا كان الله يرحم العصاة في هذه الدنيا من أجل كثرتهم فلا يهلكهم بذنوبهم؟ بل هذا هو ما قاله يونان لله في ذلك السفر يبرر بها نكوله عن تلقي الرسالة إلى نينوى حين نكل، وكأنما يعاتبُ اللهَ بها، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا: «آه يا رب! أليس هذا كلامي إذ كنت بعد في أرضي؟ لذلك بادرت إلى الهرب إلى ترشيش، لأني علمت أنك إله رؤوف ورحيم وبطيئ الغضب وكثير الرحمة ونادمٌ على الشر. فالآن يا رب خذ نفسي مني لأن موتي خيرٌ من حياتي» (يونان 4/ 2 – 3) يعني أن يونان لم يُخطيء في فراره من تلك الرسالة لأنها عَبَثٌ في عبث، فسيرحم الله في النهاية، كما كان عبثًا في عبث حبسه في الحوت. ولكنك لا تتوقف لتناقش يونان في هذا القول الذي قاله، فلا يقول نبيٌ هذا الكلام، والذي في السفر من هذا وأمثاله لا يدخل في وحي الله على رسله، وإنما هو عبث انساق إليه قلم الكاتب. أما قصة يونس في القرآن، فتجد مجملها في قوله عز وجل: {وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين} [الصافات: 139 – 148]. والإمتاع في اللغة هو الاستبقاء، أي آمنوا فأبقينا عليم ولم نهلكهم، فالإيمان يجب ما قبله كما قال الصادق المصدوق [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/193] صلى الله عليه وسلم لمن شَرَطَ عليه العفو عما سلف من ذنوبه قبل إسلامه فقال له: الإسلام يجب ما قبله، أي يسقطه، ولكن غلب «التمتع» في التنعم، وكلاهما «مراد» في الآية. أما «فمتعناهم إلى حين» فهي من إعجاز القرآن، لأن نينوى ضلت وأفسدت من بعد، فأرسل الله عليها البابليين فاستأصلوا شأفتها، مثلما بعثهم الله على بني إسرائيل بعد هذا ببضع سنين فدمروا أورشليم على أهلها. وربما قيل لك: فماذا تقول في هذا السرد الذي في سورة الصافات الذي يفهم منه أن مجيء يونس إلى «مائة ألف أو يزيدون» - أي إلى أهل نينوى – قد كان بنص القرآن بعد انتباذ الحوت إياه «بالعراء وهو سقيم»: {فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} [الصافات: 142 – 147]، قد التقمه الحوت إذن قبل أن يصدع بأمر الله فيذهب إلى نينوى منذرًا متوعدًا، تماما كما في سفر يونان، فماذا تقول في هذا؟ الرد بسيط. هذا المعترض يغفل مفتتح الآيات الإحدى عشرة من سورة الصافات التي تقص بعثة يونس، وهي: «وإن يونس لمن المرسلين»، ثم يستطرد النسق القرآني المعجز إلى ما كان من أمر يونس حين «أبق»، ليعود فيقص عليك ما كان من شأن القوم الذي كان يونس رسولا إليهم قبل إباقه: كانوا مائة ألف أو يزيدون، وكأنه يرد على تساؤلك: إذا كان يونس من المرسلين، فإلى من أرسل يونس؟ إلى مائة ألف أو يزيدون! ثم ينتهي السرد المعجز لينبئك بمصير المرسل إليهم: آمنوا بيونس فمتعهم الله إلى حين: كي تظل هذه الحكمة واقرة في أذنك، لأنها الحكمة المقصودة من قصة يونس، كي تقارن مصير من كفر من الأمم بمصير من آمن. أما درس الحوت فهو موعظة للأنبياء من بعد يونس، لا لك أنت، فليس لك في هذا نصيب. وقد كان خاتمُ النبيين في قومه أرفق النبيين، لا يستعجل لهم قط العذاب، وقد لقى منهم أشد ما لقى نبي من قومه، فلا يزيد على أن يقول: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون». رغم هذا فقد وعظ خاتم النبيين بموعظة يونس: {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت} [القلم: 48]. كانت هذه بالضبط ملامَة يونس: لم يصبر لحكم ربه، أي شق عليه قضاء الله في قومه برفع العذاب عنهم، فذهب مغاضبًا وأبق إلى الفلك المشحون، وقلما يقال [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/194] «أبق» في العربية إلا في العبد الآبق من مولاه، وكان يونس هو هذا العبد الآبق من عفو الله عن قومه فضيق الله عليه في ظلمات البحر والحوت، حتى فهم الدرس، ثم أعاده إلى قومه هاديًا مرشدًا، يرجو لهم الرحمة ولا يطلب لهم الضيقة، فقد ضيق الله عليه من قبل في بطن الحوت: {إذ نادى وهو مكظوم} [القلم: 48]. والذي يجب أن تعلمه هو أن «يونا» اسم نبي الله يونس عليه السلام في العبرية يعني بذات لفظه العبري أيضًا «الذي ظلم ولم يعدل» (إي صدق «عبريا) التي جانس عليها القرآن قول يونس: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} [الأنبياء: 87]، أي ما أنصف يونس في إباقه من رحمة ربه، يفسر بها أحد معنيي هذا الاسم العبراني «يونا»، كما سترى، وسبحان العليم الخبير. لفظة «يونا» في المعجم العبري معناها «الحمامة» الطائر المعروف. وعلماء التوراة على أن الاسم العبراني العلم «يونا» (يعني يونس) من هذا: يونس = حمامة. والذي يجب أن تعلمه أن هذا الاسم العلم «يونا» اسم لم يتسم به قبل يونس أحد قط من أعلام التوراة، فهو اسم غير مسبوق، وكأنه موضوع له بالذات فشا من بعد في بني قومه نسبة إليه، كما رأيت من قبل في يوسف وموسى وهرون. أما الذي لا نعلمه أنا وأنت وعلماء العبرية وعلماء التوراة، فهو المعنى الذي قصده متى أبو يونس (وأصل «متى» هو «أمتاي» يعني عبريًا «الأمين» قائل الصدق من «إمت» العبرية بمعنى الأمانة والحق والحقيقة) من تسمية ابنه «يونا»: هل أراد معنى «الحمامة» أم أراد معنى آخر من هذا اللفظ «يونا»، يتطابق رسما ونطقا في الخط العبراني مع لفظ «يونا» بمعنى «حمامة»؟ لستُ في هذا جادًا بالطبع، ولكني أقرب لك المعنى الذي أريد أن أصل بك إليه: الوزن «يونا» وأمثاله في العبرية (المختوم بهاء خاملة لا عمل لها إلا إشباع المد بالفتح قبلها) هو زنة الفاعل على التأنيث، ولئن جاز في العلم المذكر التسمية بالمؤنث، فهو المؤنث اللفظي لا المعنوي، فتسمى ابنك مثلاً «حمامة» أو «نخلة» أو «شمس»، لا تنعته بمؤنث، وإنما تنظر إلى صفات الحمامة أو النخلة أو الشمس، على التشبيه، [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/195] ولكن لا يجوز لك قط تسمية المذكر بنعت مؤنث، فتسمي ابنك مثلاً «جميل»، ولا تسميه قط «جميلة». وليست في العبرية قط نعت يطابق «يونا» في الرسم والنطق ويغايره في المعنى، إلا النعت المؤنث «يونا» يعني «ظالمة»، ومنه «عير يونا»، يعني «قرية ظالمة» كالتي بعث فيها يونس، وبعث في مثلها الأنبياء من قبله. لا يصح إذن في معنى العلم العبراني المذكر «يونا» إلا معنى واحد هو «حمامة». ولكن القرآن المعجز، الأفقه بالعبرية من أهلها، ينظر إلى المعنى الآخر الذي في النعت المؤنث «يونا»، اسم الفاعل المؤنث من الجذر العبري «يناج، أي «الظالمة» حين جانس على اسم «يونس»، «الحمامة التي ظلمت»، مشيرًا إلى إباق يونس حين أبق: {إلا من ظلم ثم بدل حسنا من بعد سوء فإني غفور رحيم} [النمل: 11]، وأيضًا في قول يونس وقد أقر بظلمه في بطن الحوت: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} [الأنبياء: 87]، التي تترجمها إلى العبرانية هكذا: كي مي يونيم أنى. كفاك بهذا إعجازًا في فقه العبرية دونه كل إعجاز، وسبحان الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 185-196] |
(49) أيوب:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (49) أيوب ليس «أيوب» عند بني إسرائيل بنبي، بل هو عندهم من الرؤساء الصديقين. تجد هذا في مفتتح «سفر أيوب» بالعهد القديم «كان رجل في أرض عوص اسمه أيوب. وكان هذا الرجل كاملاً ومستقيمًا، يتقي الله ويحيد عن الشر. وولد له سبعة بنين وثلاث بنات. وكانت مواشيه سبعة آلاف من الغنم وثلاثة آلاف جمل وخمس مائة فدان بقر وخمس أتان وخدمه كثيرين جدًا. فكان هذا الرجل أعظم كل بني المشرق» (أيوب 1/ 1 – 3) ثم يطنب الكاتب في غنى أيوب وتقواه، ثم ينزلق به القلم كما انزلق من قبل بأخيه الذي في سفر التكوين، فيصطنع أساليب قصاص اليونان في خرافات آلهة الأولمب، ويقول: «وكان ذات يوم أنه جاء بنو الله ليمثلوا أمام البر، وجاء الشيطان أيضًا في وسطهم، فقال الرب للشيطان من أين جئت؟ فأجاب الشيطان الرب وقال: من الجولان في الأرض والتمشي فيها، فقال الرب للشيطان هل جعلت قلبك على عبدي أيوب؟ لأنه ليس مثله في الأرض، رجل كامل ومستقيم يتقي الله ويحيد عن الشر» (أيوب 1/ 6 -9)، وكأن الله يفاخر الشيطان بعبده أيوب. ويرد الشيطان بأن استقامة أيوب وتقواه ليستا من ذات نفسه، فقد أغناه الله وحفظه وبارك عمل يديه، ولو شدد الله عليه، وأزال نعمته وامتحنه في أهله، لسخط على خالقه، ويصاب أيوب في ماله وولده جميعًا، ولكن أيوب يصبر ويحتسب: «عريانًا خرجت من بطن أمي وعريانًا ثم أعود. الرب أعطى والرب أخذ [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/197] تبارك اسم الرب!» (أيوب 1/ 21). ويعود الله فيفاخر الشيطان بعبده أيوب الذي امتحن بكل هذا فصمد للامتحان ولم يكفر. ولكن الشيطان لا ييأس، بل يستأذن الرب في إيقاع الأذى بأيوب في جسده: «ولكن أبسط الآن يدك ومس عظمه ولحمه فإنه في وجهك يجدف عليك. فقال الرب للشيطان ها هو في يدك. ولكن احفظ نفسه. فخرج الشيطان من عند الرب وضرب أيوب بقرح رديء من باطن قدمه إلى هامته، فأخذ لنفسه شفقة ليحتك بها وهو جالس في وسط الرماد. فقالت له امرأته أنت متمسك بعد بكمالك؟ بارك الله ومت! فقال لها تتكلمين كلاما كإحدى الجاهلات؟ أنقبل الخير من عند الله ولا نقبل الشر» (أيوب 2/ 5 – 10). ويسمع ببلاءات أيوب أصحابه فيجيئون لزيارته ويهولهم ما هو فيه، كما يهولهم أيضًا صبره واحتسابه، ولكن أيوب في تصابره يبدو لهم وكأنه يفاخر الله بصبره، ويذكر الله بأنه لا إثم فيه ولا ذنب حتى ينزل به كل هذا العذاب، فيذكرونه بأن الله يفعل ما يشاء، ويحاورهم ويحاورونه بحوار يطنب فيه الكاتب، يتفاوت متانة وعمقًا وجزالة، وترتفع المأساة إلى الذروة حين يطل الله على أيوب من السحاب، يعلمه الحكمة. وأخيرًا يرفع الله البلاء عن عبده أيوب، ويرد عليه ما أخذ منه ومثله معه. وقد ذهب بعض المفسرين، وذهب معهم أيضًا باحثون وكتاب، إلى أن أيوب رجلٌ عربي. استدلوا على هذا بأن اسمه «أيوب» مشتق من الأوب والتوب، فهو التائب الآيب على المبالغة. والصحيح أنه ليس نبي عربي من نسل إبراهيم إلا خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كما مر بك. والعربية التي نعنيها هنا هي عربية اللسان، أعني عربية القرآن، فإسماعيل نفسه بهذا المعيار ليس بعربي، دليلك في هذا اسمه: يشمع إيل، العبراني، أي «سمع الله» أو «سميع هو الله» على ما مر بك في موضعه. بل أيوب عليه السلام من بني إسرائيل، شأنه شأن يونس وشأن الأنبياء من بعد داود وسليمان، أعني من الأسباط أبناء يعقوب، بدليل حرص اليهود على إدراج سفر أيوب ضمن أسفار توراة الأنبياء والكتبة (يعضونه في النص العبراني بين أسفار الكتبة لا الأنبياء). أما دليلك من القرآن على أن أيوب من ذرية الأسباط بني يعقوب أي بني إسرائيل، فهو [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/198] النص في القرآن على أنه من ذريتهم، {وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهرون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما} [النساء: 163 – 164]، ولا مبرر لاستبعاد أيوب وحده من زمرة أنبياء من نسل الأسباط بلا خلاف ذكروا معا في نفس الآية. أما أن أيوب عليه السلام نبي بنص القرآن، على خلاف قول أهل الكتاب فيه، فلورود اسمه في لفيف من الأنبياء ختم الحديث عنهم بقوله عز وجل: {أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}[الأنعام: 89 – 90]. على أن «أيوب» ليست اسمًا عربيًا من الأوب والتوب كما ظن مفسرون وباحثون وكتاب. فهو ممنوع من الصرف في كل القرآن لا لعلة إلا العجمة، ولو كانت «أيوب» عربية من الإياب والأوب، على مثال «قيوم» وأمثالها، لصرفت. وقد أماتت العبرية الجذر العربي «آب/ يؤوب»، واستعاضت عنه بمقلوبه العربي «باء/ يبوء». فليست «أيوب» عبرانيًا بهذا المعنى الذي ظنه المفسرون والباحثون. وإنما معنى «أيوب» - وتنطق في العبرية «إيوب» مكسورة الهمزة البادئة مشددة الياء مع إشباع المد بالضم لا بالواو – معنى آخر، بعيد كل البعد عن الإياب والأوب. وقد علم القرآن هذا المعنى الآخر ففسر به اسم «أيوب» كما سترى. وسبحان العليم الخبير. في العبرانية الجذر «أيب/ يئيب» ، وهول يس «آب/ يؤوب» العربي، ولكنه مبدل من مادة «ويب» العربية التي أميت فعلها في العربية وبقى منه اسم الفعل فقط، أي «الويب» بمعنى «الويل»، يعني حلول البلاء والشر. تقول منه في العربية: ويب له! تريد: ويل له! لا فرق بينهما، ولكنها نادرة الآن، لا تعثر عليها إلا في المعاجم. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/199] أما الفعل «أيب» العبري فهو حي في العبرية إلى الآن، ومعناه «شنأه»، «كرهه)، «أبغضه»، وأيضًا «ضاده» يعني كان له «ضدا»، أي عدوًا مناوئا، واسم الفاعل من هذا الفعل العبراني «أي» (بمد الكسر في الياء) يعني الشانئ المناوئ العدو، واسم المفعول منه: «أيوب» (بتخفيف الياء لا بتشديدها) يعني المكروه البغيض. ومن المعاجم الإنجليزية من فطن إلى هذا المعنى، فقال في ترجمة «أيوب» Loath يعني البغيض المقيت. وعلماء التوراة، وأيضًا علماء العبرية، يرون أن الاسم العبراني «إيوب» (بكسر الهمزة وتشديد الياء ممدودة بالضم لا بالواو كما نطقت «جيوم» Guillaume الفرنسية) مأخوذ من هذه المادة العبرية «أيب»، على المضعف المشدد (فعل العبري وهو فعل العربي)، فهو عندهم على زنة «فعول» العبري (الذي يكافئ «فعيل» العربي» والأصل فيه الدلالة على الفاعل، ولكنه في اسم «أيوب» جاء على الندرة بمعنى المفعول المشدد من «أيب» العبري، فهو البغيض الكريه المكروه، المشنوء المناوأ. أما إن استحييت مادة «الويب» العربية بمعنى الويل فهو – كما نقول نحن – الذي شدد الويب عليه. أما المعجم العبري الآرامي لألفاظ التوراة (وهو من مراجع هذا الكتاب) وهو موضوع بالإنجليزية كما مر بك، الذي يمثل وجهة نظر علماء التوراة، فهو يترجم «إيوب» العبرية إلى الإنجليزية بلفظة Persecuted يعني المضهود المضطهد. وقد جاءهم هذا الفهم من تغليبهم معنى العداوة على معنى الكراهة اللذين في «أيب» العبري، ففهموا «إيوب» بمعنى الذي ضايقه عدوه وشدد عليه، ربما لأنهم يقرءون في سفر أيوب أن الشيطان (ساطان العبري) ومعناها «العدو» كما مر بك، هو الذي أ،زل بأيوب عذاباته، فهو المضهود من عدوه، أي من الشيطان. ولا باس بهذا بالطبع، ولكنه يحوم حول المعنى ولا يصيبه في صميمه. فأنت تعلم أن لفظة To Persecute الإنجليزية تُفيد في أصل معناها «الملاحقة» بالتشديد والتضييق والضر والأذى. ولكن المنظور إليه في «أيب» العبري ليس هو «الملاحقة» بالذات، وإنما هذا الضر والأذى. صحيح أن العداوة من الكراهة قريب، لأن العدو شانئ مبغض. ولكن التأصيل اللغوي لا يصح على التقريب، وإنما يصح بالمرادف الدقيق. والذي يدلك [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/200] على أن «أيب» العبري أصله من «ويب» العربي بمعنى الويل والضر والمكروه، أن المعجم العبري/ عبري «هملون هحداش لتناخ»، يعني «المعجم الحديث لألفاظ توراة الأنبياء والكتبة»، وهو من مراجعنا المتخصصة في هذا الكتاب الذي نكتب، يشرح مادة «صرر» (بمعنى الضر والضرر، أبدلت العبرية من ضادها صادًا لانعدام الضاد في العبرية) فيقول إن «صار» (ضار العربية) اسم الفاعل من «صرر» العبري هي «أويب» فاعل «أيب» العبري، وهذا يدلك بشهادة شاهد من أهلها على أن «أيب» العبري يجيء بمعنى الضر والأذى وإيقاع الشر أي «المكروه»، فهو الضرير المتأذى. وهذا هو أصل معنى مادة «ويب» العربية. من هنا تقول آمنا جازما مطمئنًا أن «إيوب» العبرية، اسم نبي الله أيوب عليه السلام معناها الضرير المضرور الذي «ويب»، أي شدد «الويب» عليه. أما القرآن المعجز فقد علم هذا كله قبل أن يعلمه غيره، ففسر اسم «أيوب» بالمرادف الدقيق في قوله عز وجل: {وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين} [الأنبياء: 83 – 84]. ولا يفوت القرآن وهو يفسر معنى هذا الاسم تقريظ «صبر أيوب» إمام المبتلين، فيعقب في الآية التالية مباشرة بقوله عز وجل: {وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين} [الأنبياء: 85]، يجعل لأيوب كفلاً من الصبر مع هؤلاء الذين صبروا مثله ولم يجزعوا، وحسبك صبر إسماعيل في البلاء المبين. وسبحان العليم الحكيم. ولا يفوتنا نحن في سياق تفسير هذا العلم الأعجمي أيوب، التنبيه مرة أخرى إلى خطورة التعجل في تفسير هذه الأعلام من القرآن بالقرآن – على منهجنا في هذا الكتاب الذي نكتب – بقرينتي التشابه والتجاور فقط، فتقول مثلاً أن «أيوب» من «الأوب»، تقتنصها دون تحرز من قوله عز وجل في أيوب: {نم العبد إنه أواب} [ص: 44]، فتظن متعجلاً دون تثبت أن المراد هنا هو تفسير اسم أيوب بأنه «أواب»، [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/201] وتعتقد أن اسم «أيوب» مفسر في القرآن بالتعريب، لأن الأيوب والأواب في العربية واحد، زنتا مبالغة من «آب/ يؤوب». ولا يصح هذا، لأن سليمان أيضًا وصف في نفس السورة بذات العبارة: {ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب} [ص: 30]، وليست «سليمان» هي «أيوب» بالطبع. شرط التصدي للتفسير بالقرآن من القرآن في العلم الأعجمي هو أولاً استقصاء معنى الاسم العجمي في لغة صاحب الاسم العلم، ثم تمضي مستعينًا بهداية الله وتوفيقه في تلمس اللفظ أو العبارة اللذين يفسر بهما القرآن معنى هذا الاسم، فلا يصح في القرآن لمسلم أن يكون هجامًا. اللهم ارزقنا الصواب واجنبنا الزلل، وباعد بيننا وبين اللغو في كتابك الكريم. فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. اللهم قد أحسنت فيما مضى، فأحسن لي فيما بقى، لك وحدك الفضل والمن. ومنك وبك التوفيق). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 197-202] |
(50) عزير:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (50) عزير ورد الاسم «عزير» مرة واحدة في القرآن في قوله عز وجل: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة: 30]. وتقرأ «عزير» بالتنوين في قراءة عاصم، التي نقرأ بها في مصر، وتقرأ أيضًا ممنوعة من الصرف في غيرها لا لعلة العجمة فحسب وإنما أيضًا إرادة اختلاس الهمزة في «ابن» فتنطقها: عزيرين، كما تنطق: عمر بن الخطاب على سبيل المثال، تدغم هذا في ذاك، فيسمع منك: عمربنلخطاب. والرأي عندي – لا تعصبًا فالتعصب ممقوت – أن قراءة عاصم التي نقرأ بها في مصر أفصح وأبين، لأنها تجعل عبارتي «عزيز ابن»، «المسيح ابن» على المبتدأ والخبر في قولي اليهود والنصارى، لا على البدل، والخبر يصدق ويكذب، أما البدل فهو إثبات محض، كما تقول عمر بن الخطاب، تنبئ سامعك بأن عمر، الذي هو ابن الخطاب، قال كذا وكذا أو فعل كذا وكذا، عالمًا أن سامعك يتفق معك في أن عمر هو ابن الخطاب. والقرآن بالطبع لا يتفق مع هذا القائل، وإنما يستنكر مقولته ويندد بها، فيقول {قاتلهم الله أنى يؤفكون}، أي ما لهم يلبس عليهم هذا الإفك، أي هذا الكذب. وقراءة عاصم كما ترى أقمن باستبعاد هذه الشبهة. على أن تنوين الأعجمي الذي يخف وزنه، مثل «عزير»، مسموع في العربية غير منكور. وهذه الآية كما ترى من إعجاز القرآن. فهو ينبك بأن مقولة النصارى في بنوة المسيح لله ليست بدعًا ابتدعوه، وليست أيضًا «كشفا» كشف لهم عنه في الأناجيل التي بين يديك كما قالوا من بعد في تبرير الانتقاض على توراة موسى عليه السلام المتشددة في توحيد الواحد الأحد، وإما هم في هذه المقولة مسبوقون، سبقهم بها كتبة العهد القديم، الذين تبذلوا وترخصوا فقالوا كما مر بك إن الملائكة أبناء الله، وإن آدم ابن الله (التي نقلها عنهم لوقا في إنجيله)، حتى رخص القول وابتذل، فلم [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/203] يستنكف بعض اليهود أن يخلعوا على عزير المسمى في القرآن لقب «ابن الله» فيما يحكي القرآن عنهم. ربما قالوها تعظيمًا وتبجيلاً لا يدرون مغبتها فيمن جاء بعدهم، ولكنهما التعظيم والتبجيل المؤذنان بالسقوط في هاوية الكفر والهلكة. بل ينبئك القرآن المعجز بأن اليهود والنصارى أيضًا، أي كلتا الملتين معًا، مسبوقتان بمقولتيهما هاتين، فهما تضاهئان مقولة قوم قد كفروا من قبل، ولا يقول القرآن المعجز هذا إلا وهو يعلم ما يقول. وقد ظن مفسرو القرآن الأوائل (راجع تفسير القرطبي للآية 30 من سورة التوبة) أن المعنى بالذين «كفروا من قبل» هم كفار قريش في قولهم أن الملائكة بنات الله، وأن اللات والعزى ومناة بنات الله، ولا يصح هذا لأن اليهود والنصارى لا يُضاهئون مشركي قريش، وإنما يضاهئون بالذات (أليهود أولا والنصارى من بعد) شرك المصريين، الذين أضاعوا عقيدة التوحيد الخالص قبل عصر التاريخ المدون واستبدلوا بها خرافات الكهنة، وخيالات الفلاسفة الذين كان آخرهم «أفلطوين» المصري الأسيوطي (وهو من أعلام القرن الثالث الميلادي) صاحب نظرية الفيض والانبثاق عن الذات الإلهية، وأيضًا تهاويل الأساطير، يكفيك منها أسطورة إيزيس وأوزوريس، التي تلمح الكثير من ظلالها في عقيدة التثليث. ويكفيك أيضًا أن أول من أصل هذه البنوة على مبادئ فلسفة «أفلوطين» المصري الأسيوطي، مصري آخر من الإسكندرية، هو أسقفها «أثناسيوس»، قال بها وناضل عنها حتى استصدر بها في مجمع نيقية عام 325م مرسومًا من القيصر البيزنطي «قسطنطين»، يؤله المسيح على البنوة لله بعد ثلاثة قرون من رفع المسيح. نعم، قد كان مولد المسيح عليه السلام بغير أب معجزة كبرى، ولكنها معجزة لله عز وجل لا للمسيح، شأنها شأن خلق آدم من تراب، لا أب لآدم ولا أم. بل هما معا دون خلق السموات والأرض: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس} [غافر: 57]. وأنت تعلم بيقين أن الله عز وجل هو صانع هذا الميلاد الإعجازي، فتعظم الفاعل ولا تعظم المفعول. إنه آية من آيات الله عز وجل يضربها للناس ليعرفوه بها ويعظموه، لا ليعظموا غيره وصنع يده: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت: 43]. وكأنما كان عليه السلام يتنبأ بما سيقال من بعده فقال في الأناجيل التي بين يديك، يُناجي ربه وقد دنت ساعة رحيله عن هذا العالم: «وهذه هي الحياةُ الأبدية، أن يعرفوك، أنت الإله الحقيقي [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/204] وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته» (يوحنا: 17/ 3)، يريد بالحياة الأبدية الحياة الآخرة، لا نصيب فيها لأحد ممن أرسل إليهم إلا من آمن بالإله الواحد، الإله الحقيقي وحده، وبيسوع المسيح رسولاً منه لا ابن. ولا تظن أن المسيح في الكتاب المقدس هو وحده المرفوع إلى السماء حيًا، فقد سبقه بها «إيليا» أي إلياس (الملوك الثاني 2/ 11 – 12)، ولا تحسب أيضًا أن المسيح في الكتاب المقدس هو وحده الذي أحيا الميت، فقد سبقه بها «اليشع» أي اليسع (الملوك الثاني 4/ 17 – 37)، ولكن اليهود لم يؤلهوا إيليا ولم يؤلهوا اليشع. ولا تحسب أيضًا أن المصريين انفردوا بأساطير البنوة لله، فهذا قديم في خرافات من أشرك، قالت به عقائد الهند، وتغنت به أساطير الأولمب، وغير هذين في شرك الأقدمين كثير. ولا يقال لك أن القدم أصالة، فالوسواس الخناس أيضًا قديم. وإنما تأصل هذا القول عند من ابتدعه على تلك المناكحة بين السماء والأرض لاستيلاد الخلق، على مثال المطر والزرع، وهو قول شعراء يتبعهم الغاوون، فالماء من صميم مادة هذه الأرض، من الأرض يخرج وإلى الأرض يعود. إن قلت كما يقول البعض إن قدم التثليث والبنوة لله وشيوعهما في عقائد الأقدمين إرهاص بالتثليث المسيحي ودليل على صحته، فقد قلت شططًا كمسيحي، لأنك تعدد أبناء الله، فلكل عقيدة من تلك العقائد ابن، فلا يعود المسيح ابن الله الوحيد في قول من قال. هؤلاء وأولئك – آباء هذه المقولة في أمم قد خلت من قبل – هم الذين يعنيهم القرآن بقوله: {يضاهئون قول الذين كفروا من قبل} [التوبة: 30]. وسبحان العليم الخبير، فما عرف الناس هذا إلا في هذا العصر، بعد تأسيس علم مقارنة الأديان. أما «عزير» المسمى في القرآن فليس في العهد القديم الذي بين يديك «عزير» ادعى عليه اليهود تلك البنوة لله، أو لقبوه بها على مجرد التعظيم والتبجيل. وإنما [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/205] الصحيح الذي نرجحه أن القرآن يحكي هاهنا مقولةَ يهود غير مسطورة في أسفار العهد القديم الذي بين يديك، تناقلها اليهودُ بعد عودتهم من سبى بابل، وربما لهج بها يهود في مكة أو يثرب، بدليل أنهم لمي نكروا على القرآن قوله هذا في قومهم، بل تواروا من هذه المقولة خجلاً، فموسى بلا شك عندهم بهذه المقولة أولى من هذا العزير المسمى في القرآن. أما وفد نصارى نجران فقد جاهروا بمقولتهم في المسيح وجادلوا بها خاتم النبيين في مسجده صلى الله عليه وسلم، لأن مقولتهم هذه هي صلب عقيدتهم، لو تراجعوا فيها قيد أنملة لما بقي لهم عذر في البقاء على مسيحيتهم، ولدخلوا في دين الله أفواجا، شأن الكثرة الكاثرة من أقباط مصر، والجم الغفير من نصارى الشام. أما نجران وتغلب وأضرابهما من العرب فقد قصرت بهم قبليتهم. ولكن الذي نعني به في مقاصد هذا الكتاب الذي نكتب هو «عزير» نفسه، لا مقولة بعض اليهود فيه. الذي نعني به هو معنى اسمه، ومن يكون في أعلام بني إسرائيل. «عزير» من بني إسرائيل بلا شك، لقوله عز وجل: {وقالت اليهود عزير ابن الله}، فهو منهم. وهذا الاسم حين ترده إلى أصله العبري، يجيء من الجذر العبري «عزر» المشترك في العبرية والآرامية والعربية على معنى العون والتأييد والنصرة. والقرآن لا يستخدم «عزر» إلا في هذا المعنى وحده. أما «عزره» بمعنى «لامه»، ومنه يجيء التعزير بمعنى التأديب أو العقاب بما دون الحد في اصطلاح الفقهاء، فليس في الجذر «عزر» العبري من هذا شيء، وإنما هو فقط بمعنى نصره وأيده وأعانه، تمامًا كما في صنوه العربي المضعف «عزر» الذي تجده في قوله عز وجل: {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبوحه بكرة وأصيلا} [الفتح: 8 – 9]. واسم الفعل في العبرية من هذه المادة، يعني العون والتأييد والنصر والنصرة، له صورتان: «عزر» (بكسرتين متتابعتين)، «عزرا» بكسر فسكون فراء ممدودة بالألف). أما اسم الفاعل منه، أي العازر الناصر المؤيد المعين، فهو «عزير» التي تشبه [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/206] «عزير» التي في القرآن، ولكنها لا تنطق مثلها على زنة التصغير العربية «فُعَيْل» مثل «عُمَيْر» مصغر عمرو، «عبيد» مصغر عبد، وإنما تنطق ياؤها على الإمالة مكسورة الزاي قبلها، كما لو نطقت «زيد» العامية تريد «زيد» الفصحى، الاسمُ العَلَم. وليس في أعلام العهد القديم من تسمى باسم الفاعل من «عزر» العبري، أي باسم «عزير» هذه الممالة الياء المكسورة الزاي. فلا يقال أن القرآن عرب «عزير» هذه على «عزير» مفتوحة الزاي ساكنة الياء، زنة العربية «فعيل» مثل عمير وعبيد، كما وهم المستشرقون المنكرون على القرآن، الذين تفكهوا في هذا المقام سخرية من «عزير» الذي في القرآن لمجيئه على زنة التصغير العربية، التي أولها بها العرب حتى قالوا في تصغير فرعون: فرى! وإنما الذي في أعلام العهد القديم من مادة «عزر» العبري الثلاثي المجرد هو «عزر»، «عزرا» تسمية بالمصدر واسم الفعل من «عزر»، أي «العزر» بمعنى النصر والنصرة. ولكنك لا تحتاج إلى تقصي كافة من تسموا في العهد القديم بهذين الاسمين «عزر عزرا»، كي تقع على أيهم «عزير» المعنى في القرآن، فليس فيهم جميعًا نابه الذكر غير خامل، إلا علم واحد، هو «عزرا» صاحب السفر المعنون باسمه في العهد القديم، من أعلام القرن الخامس قبل الميلاد، كاتب شريعة الله، الذي قاد مسيرة اليهود في عودتهم إلى أورشليم من سبى بابل. والمروي عنه في مأثورات اليهود التي نقلها عنهم مفسرو القرآن الأوائل (راجع تفسير القرطبي للآية 30 من سورة التوبة) أنه كان أحفظ الناس لتوراة موسى، يتلُوها عن ظهر قلب أيام سبيهم في بابل، ويستنسخها من الذاكرة، فلما عاد إلى أورشليم وطابقوا كتابته على نسخة عثروا عليها تحت أطلال هيكل سليمان الذي خربه البابليون من قبل، وجدوا كتابته مطابقة لتلك النسخة حرفًا بحرف، فقيل «عزير ابن الله». ولئن كان الأصل في معنى الاسم العلم «عزرا» أنه تسمية بالمصدر لا باسم الفاعل، أعني أنه بمعنى «نصر» لا بمعنى «ناصر»، فإن علماء التوراة يقولون لك إن المراد من التسمية ليس المصدر وإنما اسم الفاعل، فهو «عزر» بمعنى «عازر»، أي أنه عبريًا «عزرا» بمعنى «عزير» (المعربة على «عزير» في القرآن). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/207] وقد مر بك من قبل أن القرن الخامس قبل الميلاد (قرن «عزرا» الكاتب) شهد غلبة الآرامية في ربوع فلسطين على عبرية التوراة، حتى كان جزء لا يستهان به من سفر عزرا هذا نفسه مكتوبًا بهذه الآرامية التي بات يتكلمها الناس، وحتى انبهمت توراة موسى على المتعبدين بها في نصها العبراني فلا يفهمون ما يُتْلَى عليهم حتى يفسره لهم اللاويون والكتبة. وقد كان هذا بتأثير السبى في بابل حيث الآرامية لغة الحديث والكتابة، يعني لغة السادة. وما عاد سبى بابل إلى أورشليم بقيادة عزرا الكاتب إلا وقد رانت على ألسنتهم جميعًا رطانة آرامية، ولم يأت القرن الثالث قبل الميلاد حتى بات عامة إسرائيل آراميي اللسان، فتقطع جازمًا آمنا مطمئنًا بأن هذه الآرامية قد كانت هي لغة المسيح ولغة إنجيله ولغة حوارييه وليس عبرية التوراة. وهذا يفسر لك فساد تلاوة الناس من أسفار هذه التوراة غير المضبوطة بالشكل والنقط، حتى جاء أمثال جماعة أهل الأثر (بعلى ماسورا) منذ القرن الثاني لميلاد المسيح يحاولون ضبطها بالشكل والنقط بعد أن فسدت ألسنة الناس. وهو يفسر لك أيضًا استغراق هذه المحاولة ثمانية قرون كاملة حتى تمت في القرن العاشر الميلادي، لا لسبب بالطبع إلا اختلاف الناس عليهم، يعني لم يكن على «قراءتهم» إجماع، حتى كُتِبَ لهم النصرُ أخيرًا على منتقديهم فصارت لقراءتهم السيادة على ما عداها. والذي يعنينا هنا من هذا كله هو أن اسم «عزرا» هذا العائد من سبى بابل، تأثر بدوره بهذه الآرامية التي فشت على ألسنة الناس وأقلامهم، فهو مختوم في الرسم بألف مد، لا بتلك الهاء الخاملة «العبرانية» التي ختم بها «عزرا» آخر، صنوه في المعنى، أي على المصدرية من الجذر العبري: «عزر». هذه الصورة «الآرامية» المرسوم بها اسم «عزرا» الكاتب المعنى، ربما توحي لك بآرامية العلم التوراتي الذي عاش مع سبى اليهود في بابل يتلو عليهم من توراة موسى ويفسر لهم باللسان الآرامي ما يغمض عليهم، أعني أن اسمه اتخذ في السبى صورة آرامية. وقد مر بك أن أداة التعريف في الآرامية هي «ألف مد» يختم بها الاسم ولا تبدؤه وكأنها ألف المنصوب في العربية. فتقول الآرامية «ملكا» تعني «الملك»، وتقول «كاتبا» تريد «الكاتب»، وتقول أيضًا «عازرا» (دون تنوين بالطبع في هذا كله) تعني «العازر» اسم الفاعل في الآرامية من «عزر»، فهو عربيًا العازر الناصر، لا العزر والنصر. والذي يجب أن تعلمه هو أن الرسم «عزرا» لا يفهم آراميًا إلا على معنى [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/208] اسم الفاعل مزيدًا بأداة التعريف الآرامية (أي بألف المد في آخره)، ولا يفهم آراميًا على المصدرية من «عزر» الآرامية، لأن مصادر الثلاثي المجرد في الآرامية تجيء على زنة «مِفْعال». وقد مر بك أن جماعة «بعلى ماسورا» في ضبطهم نطق أسفار التوراة (أعني العهد القديم) بالشكل والنقط، ما كان لهم من سلطان على «أحرف» هذا النص المقدس، فما كان لهم بالطبع تغيير ألف المد في اسم «عزرا» الكاتب إلى الهاء الخاملة العبرانية، لأن عملهم كما تعلم اقتصر على «التشكيل» فقط. ولم يكن التشكيل عشوائيًا بالطبع، بل هو متأثرٌ بأستاذيتهم في عبرية التوراة، ينقونها مما علق بها من شوائب تلك الآرامية التي لحن بها الناس في قراءتهم النص المقدس. ومن هنا لا تحيل عليهم أن يجانسوا ضبط اسم «عزرا» الكاتب المختوم بألف المد الآرامية على صنوه، «عزرا» الآخر المختوم بالهاء الخاملة العبرانية، فيئول نطق «عازرا» (ويرسم في الخط العبري – الآرامي بغير ألف بعد العين أي «عَزِرا») إلى نفس نطق سميه «عزرا» الآخر المختوم بالهاء الخاملة العبرانية، فيظن أنهما واحد في المعنى. وهذا يفسر لك لماذا استجاز علماء التوراة فهم معنى اسم «عزرا» هذا وسميه الآخر، على معنى اسم الفاعل من «عزر»، لا على المصدرية منه. أيُّما صح هذا أو ذاك – أعني آرامية اسم «عزرا» الكاتب أو عبرانيته – فالراجح عندي أن القرآن لم يأت بهذا الاسم «عزير» من فراغ، وإنما جاء به على نحو ما نطق به هذا الاسم يهود يثرب، الذين فهموا من هذا الاسم معنى اسم الفاعل من «عزر» العبري، فجاءوا به على الأصل العبري لزنة اسم الفاعل في العبرية «عزير» مضمومة العين مكسورة الزاي بعدها ياء ممالة. ولكن العربية الفصحى، وأمها عربية القرآن، لا تعرف هذا الوزن (أعني «عزير» الممالة الياء) وإنما تعرفه فقط العربية العامية في نطقها أمثال «حسين»، «عبيد». هذا الوزن العبري «عزير» الممالة الياء لا يتزن على أوزان العربية إلا إذا جئت به على أقرب الأوزان العربية إليه، وهو الوزن «فُعَيْل»، فتئول «عزير» الممالة الياء إلى «عزير» التي في القرآن. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/209] جاءت إذن «عزير» في القرآن على التعريب لا على التصغير كما وَهِمَ أدعياء الاستشراق. وهو أيضًا تعريب مفسر لا يحتاج من القرآن إلى تفسير آخر لمعنى هذا العَلَم الأعجمي لوحدة المادة اللغوية المنحوت منها لفظ «عزرا» العبري – الآرامي ولفظ «عزير» الذي في القرآن: غاية ما تفهمه من «عزير» إن حاولت فهمه عربيًا أنه «العزر» مصغرًا فهو «عزير» جاء نطقًا ومعنى على مثال «نصر» و«نصير» الفاشيين في أعلام العرب. وقد صاغت العربية أسماء نادرة على فعيل لا تريد منه التصغير، أشهرها «لجين» التي تفهم منها معنى «الفضة» لا «الفضيضة. والاسم «عزير» في القرآن بهذا أشبه. ومن إعجاز القرآن الذي لم يلتفت إليه أحد، أنه يحدد لك شخص «عزير» المعنى بأنه «عزرا» الكاتب لا غيره. تستظهر هذا من قوله عز وجل معقبًا على «دعوى النبوة» التي أسبغت على عزير وعلى المسيح: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا منق بل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 30 – 31]، يعني كانت البنوة المدعاة لصنفين: عزير «الحبر»، والمسيح عبد الله ورسوله. وليست «الحبر» هي العالم بإطلاق على ما شهرت به، وإنما هي أيضًا «الكاتب» يحبر كتابته، شأن كتبة التوراة، وأحبار اليهود هم حفاظ التوراة وكتابها. وقد كان عزير (أعني عزرا الكاتب) عند اليهود هو هذا الكاتب الحبر. ولمي كن عزرا عند اليهود كاتبًا فحسب، ولكنه أيضًا كاهن كاتب «كوهين سوفير» (راجع في هذا النصين العربي والعبراني: نحميا 8/9). بل هو الأستاذ المعلم: «وفي اليوم الثاني اجتمع رؤساء آباء جميع الشعب والكهنة واللاويين إلى عزرا الكاتب ليفهمهم كلام الشريعة» (نحميا 8/ 13)، مهيبًا جليلاً: «ووقف عزرا الكاتب على منبر الخشب الذي عملوه له لهذا الأمر، ووقف بجانبه متثيا وشمع وعنايا وأوريا وحلقا ومعسيا عن يمينه، وعن يساره فدايا وميشائيل وملكيا وحشوم وحشبدانة وزكريا ومشلام. وفتح عزرا السفر أمام كل الشعب، لأنه كان فوق كل الشعب» (نحميا 8/ 4 – 5). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/210] أما قائل هذا الكلام، نحميا صاحب هذا السفر المعنون باسمه ضمن أسفار العهد القديم، فليس نبيًا ولا كاهنًا، وإنما هو والي فارس على إقليم «اليهودية» في فلسطين الذي آلت إليه «مملكة يهوذا» بعد الاحتلال البابلي وورثته فارس فيما ورثت عن بابل. ورغم سلطان نحميا في أورشليم المستمد من سلطان فارس، تراه وهو يهودي مثل عزرا يقول عن عزرا إنه «فوق كل الشعب» يسمع له نحميا ويطيع. وما ذاك إلا لأن ملك فارس، أرتحشتا ملك الملوك، سمع لعزرا واستجاب لكل سؤله حتى لتكاد تظن أنه انخلع من دينه ودخل في دين عزرا: «عزرا هذا صعد من بابل وهو كاتبٌ ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله إسرائيل، وأعطاه الملك حسب يد الرب إلهه عليه، كل سؤله (عزرا 7/ 6)، بل أعطاه تفويضًا على بياض: «من أرتحشنا ملك الملوك إلى عزرا الكاهن كاتب شريعة غله السماء الكامل، إلخ. (عزرا 7/ 12)، يقول فيه: «ومني أنا أرتحشتا الملك، صدر أمر إلى كل الخزنة الذين في عبر النهر إن كل ما يطلبه منكم عزرا الكاهن كاتب شريعة غله السماء فليعمل بسرعة إلى مائة وزنة من الفضة، ومائة كر من الحنطة، ومائة بث من الخمر، ومائة بث من الزيت والملح من دون تقييد» (عزرا 7/ 21 – 22). ومن كانت هذه حظوته عند ملك الملوك: «قد صدر مني أمر أن كل من أراد في ملكي من شعب إسرائيل وكهنته واللاويين، أن يرجع إلى أورشليم معك، فليرجع. من أجل أنك مرسل من قبل الملك ومشيريه السبعة لأجل السؤال عن يهوذا وأورشليم حسب شريعة إلهك التي بيدك، ولحمل فضة وذهب تبرع به الملك ومشيروه لإله إسرائيل الذي في أورشليم مسكنه. وكل الفضة التي تجد في كل بلاد بابل من تبرعات الشعب والكهنة المتبرعين لبيت إلههم الذي في أورشليم. لكي تشتري عاجلاً بهذه الفضة ثيرانا وكباشا وخرافا وتقدماتها وسكائبها وتقربها على المذبح الذي في بيت إلهكم في أورشليم. ومهما حسن عندك وعند إخوتك أن تعملوه بباقي الفضة والذهب فحسب إرادة إلهكم تعملونه. والآنية التي تعطي لك لأجل خدمة بيت إلهك فسلمها أمام إله أورشليم. وباقي احتياج بيت إلهك الذي يتفق لك أن تعطيه فأعطه من بيت خزائن الملك» (عزرا: 7/ 13 – 20)، أقول من كانت هذه حظوته عند الملك، بل من كانت الشريعة بيمناه والمال بيسراه وسلطان الملك من ورائه، فلا تستكثر عليه أن يلهج الناس بحمد وتعظيمه حتى الإغراق، والمغالاة كما مر بك إسفاف لا تؤمن مغبته. وقد حدث. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/211] شح العلم والعلماء في زمن عزرا الكاتب، فانفرد وحده بالكلمة في بني إسرائيل. لم يكن نبيًا، نعم. ولكنه كان أخطر من نبي. فإلى عزرا هذا وحده يعزي النص المقدس الذي استنسخه من ذاكرته لتوراة موسى التي بين يديك الآن، والذي لا تبعد به أبعد من قرن عزرا الكاتب، القرن الخامس قبل الميلاد، بعد وفاة موسى عليه السلام بنحو سبعة قرون. تُرى إلى أي مدى صدقت ذاكرة عزرا، وكم حفظت أو ضيعت؟ علم هذا لله وحده. ألا ليت عزرا الكاهن الكاتب كان نبيًا تأتمنه على وحي الله، معصومًا بعصمة أنبيائه في البلاغ والتبليغ عن الحق تبارك وتعالى. إذن لجاءتك توراة موسى عليه السلام بنفس نصها المسطور في الألواح! لا عليك. حسبك القرآن المصدق المهيمن وفيه الكفاية، الذي تعهد الله بحفظه كاملاً غير منقوص إلى قيام الساعة، لا يتحرف أو يتبدل في الصدور، ولا يتصحف على يد النساخ. ولا ينقضي القول في عزرا أو عزير قبل الإشارة (راجع تفسير القرطبي للآية 259 من سورة البقرة) إلى ما قيل من أعن عزيرا هذا هو ذاك الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه: {أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير} [البقرة: 259]. جاء القرآن بهذه المعجزة الكبرى في الإماتة والإحياء، يمهد بها للآية التالية مباشرة (البقرة: 260) في سؤال إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الله الموتى، فأمر بذبح أربعة من الطير ثم يجعل لحمها أخلاطًا يفرقها في قمم أربعة جبال ثم يدعوهن فيأتينه سعيًا، قد جمع الله كل جزء إلى جزئه، ثم نفخ فيهن الحياة. كانت كلتا المعجزتين أكبر من أختها، ولكن المعجزة التي أراها الله إبراهيم كان شاهدها إبراهيم وحده، أما الأخرى فكانت «آية للناس»، لأن الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه عاد إلى قومه [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/212] يحدث بها، لم تنل المائة السنون من نضارته شيئًا، فلا يستطيع تكذيبه من بلغ به الكبر من قومه، الذين عرفوا فيه ذلك الفتى يوم خرج من قريتهم على حماره هذا نفسه يحمل طعامه وشرابه فافتقدوه مائة عام. ومن الناس من تكون آيات الله عليه عمى، المكذب والمسف سواء، فقيل «ابن الله» كما يحكي مفسرو القرآن. ولا يصح أن يقال إن عزرا الكاتب هو هذا الرجل – إن قلت إن عزرا الكاتب هو نفسه عزير المسمى في القرآن – فتكون قريته هي تلك القرية الخاوية على عروشها التي خربتها بابل، أي أورشليم، إذن لكانت ميتته في أورشليم نفسها، ولما صعد منها في سبى بابل وعاد إليها بقومه يوم عادوا إلى أورشليم من هذا السبى، أو لعاد قومه إلى أورشليم وما زال عزرا في الميتة التي أميتها مائة عام، لم يشهد معهم إعادة بناء الهيكل الذي جاءوا من بابل لإعادة بنائه فور عودتهم، وعزرا الكاتب لم يشهد فقط إعادة بناء هذا الهيكل، وإنما شارك في إعادة بنائه مشاركة القائد الرئيس، بل الممول عن أمر ملك فارس. ولو كانت تلك الآية الكبرى في عزرا الكاتب لما فاتت على اللاهجين بمآثره في سفرى عزرا ونحميا على ما مر بك. بل ليس في العهد القديم كله، أو في الكتاب المقدس بشطريه، إشارة إلى شخص أماته الله مائة عام ثم بعثه. وقد مر بك أن القرآن في «عزير» يكاد ينص بالاسم على عزرا الكاتب الحبر، في تعقيبه على دعوى البنوة لله. {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله} [التوبة: 31]، فلا يترجح لديك قول بغيره. ليس ما يمنع من أن يكون الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه رجلاً من غير بني إسرائيل لم يحيطوا به خبرا، ولكنهم علموه من القرآن فاصطنعوه كدأبهم لأنفسهم ثم حدثوا بقصته (المليئة بالتهاويل في تفاسير القرآن) مفسري القرآن الآخذين عنهم، الذين وجدوا فيها المبرر لانزلاق اليهود إلى دعوى البنوة على عزير، ابن الله في قول من قال. الصحيح أن الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه فكان من آيات الله كالفتية أصحاب الكهف، رجل لم يسمه القرآن، كما لم يسم أصحاب الكهف. وكل خبر في القرآن واقع لا محالة قد وقع. ولكن القرآن سرد الخبر وتكتم الاسم، فهو من غيب الله لا يخاف فيه، والله عز وجل بغيبه هو وحده العالم الأعلم). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 203-213] |
(51) لقمان:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (51) لقمان ورد اسم «لقمان» في القرآن مرتين اثنتين في سورة سميت باسمه. وليس له سَمِيٌ أو نظير في أعلام الكتاب المقدس بشطريه، وإنما انفرد القرآن بذكره على غير سابقة في التوراة والإنجيل. ولقمان حكيم من الحكماء، ليس بنبي، بل صديق أو ولي، قال فيه عز وجل: {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد} [لقمان: 12]. وقد شرف لقمان أي شرف بذكر اسمه في القرآن في سورة سميت باسمه، ولم ينل هذا الشرف من دون الأنبياء إلا مريم أم عيسى. بل قد شرف لقمان الشرف كله بالنص على وصاياه لابنه وهو يعظه في قرآن متلو يتعبد الناس بتلاوته إلى يوم القيامة. ربما لم تأت في القرآن بذات اللفظ الذي نطق به لقمان، ولكن يكفيه أن الله عز وجل أجراها على لسانه نابضةً بلباب الحكمة: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13]، ظلم للفطرة، وظلم للنفس، وظلم للعقل، وظلم للحواس. وقوله: {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير} [لقمان: 16]، لا ملجأ منه إلا إليه سبحانه. وقوله: {يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} [لقمان: 17 – 19]. هذه الوصايا القصار الثقال ليست هي لباب الحكمة فقط، وإنما هي جماع الإيمان والعمل الصالح، أثقلها في جنب الله عز وجل قولُ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأثقلها في حق العباد وفي حقك أنت أن تأمر في مجتمعك بالمعروف وتنهي عن المنكر، وهذا هو جماع القول في سياسة الدولة والمجتمع: تستقيم على ما أمرت به [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 214] في كتاب ربك وسنة نبيك لا تحيد عنهما إلى غيرهما، فتكون كما أرادك الله أن تكون في قوله عز وجل للملائكة: {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30]. أي جنديًا لله في أرضه، يطعم من رزقه، ويعمل في طاعته، ويأتمر بأمره، والله من فوقك رقيب حسيب لا يعزب عن علمه مثقال ذرة، فإما رضوان الله أو سخطه، نعوذ بالله من سخطه. بهذه الوصايا القصار الثقال، أثبت القرآن للقمان لباب الحكمة، وسبحان العزيز الحكيم: {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} [البقرة: 269]. وقد مر بك من قبل من قول الله عز وجل انحصار النبوة والكتاب في ذرية إبراهيم من بعد نوح {ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب} [الحديد: 26]، فليس نبي من بعد إبراهيم، ولا كتاب، إلا في نسل إبراهيم، لتمنيه على الله عز وجل حين عقد له لواء الإمامة يوم البلاء المبين، أن يجعل إمامة الناس في ذريته من بعده، فاستجاب له عز وجل، واستثنى الظالمين: {وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} [البقرة: 124]، أي هذا لك على عهد لا يدخل فيه من ظلم وأفسد، لا ينالهم ولا يصل إليهم. وقد نال هذا الشرف أنبياء أئمة: إسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وجملة أنبياء بني إسرائيل، وختمت الإمامة بمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين صلوات الله عليهم أجمعين. وليس نبي قص القرآن عليك نبأه إلا هؤلاء فيمن جاء بعد إبراهيم. أما شعيب الذي جاء بعد إبراهيم بنص القرآن، وليس من أنبياء بني إسرائيل بالقطع، على ما مر بك في موضعه، الذي نرجح أنه حمو موسى كما يقول جمهور المفسرين، فالراجح أنه من بني إسحق غير يعقوب، أو من نسل بني إبراهيم غير إسماعيل وإسحق، فليس نبي من بني إسماعيل إلا خاتم النبيين. ولكن القرآن لم يعد لقمان في عداد من تحدث عنهم من الأنبياء من ذرية إبراهيم، فتقول ربما كان نبيًا ما بين نوح وإبراهيم، أو ما بين آدم ونوح شأنه شأن إدريس – وقد قال يتقدم لقمان على عصر إبراهيم مفسرون – أو تقول كما نقول ويقول الجمهور إن لقمان حكيم ليس بنبي، فليس هو بالضرورة من بني إبراهيم أو بني إسرائيل، بل تقول مصيبًا غير مخطئ أنه لو كان من أهل الكتاب لما سكت عنه أهل الكتاب، وقد خلا الكتاب المقدس بشطريه من ذكر لقمان. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/215] ولعلك تتفق معي أن اقتصار القرآن في الحديث عن لقمان على موعظة لقمان لابنه دليلٌ على أن لقمان لم يكن نبيًا في قومه، وإنما كان رجلاً فاضلاً في أهله وذويه، آتاه الله الحكمة ولم يؤته النبوة، بلغ من حكمته أن يسجلها له الله عز وجل في قرآن يتلى، فهو حكيم الحكماء. وليس كل حكيم بنبي، وإن كانت الحكمة من أشراط النبوة، فليس نبي إلا حكيم. وإذا كان عز وجل قد حصر النبوة والكتاب من بعد إ براهيم في ذرية إبراهيم، فالحكمة من فضل الله عز وجل يؤتيها من يشاء، ليست قصرًا على ذرية إبراهيم. من هنا يتسع لك باب البحث عمن كان لقمان، لا تحصره في أمة بعينها، ولا تشترط أن يكون اسمه على أصله عبريًا كالعبرانيين. ولكنك تثبت للقمان ما أثبته له القرآن، أعني رتبة الصديق على ما تقدم ذكره في حواشي هذا الكتاب: قد خوطب لقمان على ملائكة الله عز وجل بقوله: {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله} [لقمان: 12] على الأمر منه عز وجل، والمخاطب على ملائكة الله عز وجل صديق وإن لم ينبأ، على القول الذي به نقول، شأن امرأة فرعون وامرأة عمران، وأم موسى وأم عيسى، رضي الله عنهم جميعًا ورضوا عنه. ها قد اتسع أمامك باب البحث عمن كان لقمان. ولكن ماذا قالوا في لقمان؟ أما المستشرقون المنكرون على القرآن، فقد أسفوا أيما إسفاف في لقمان، لأنهم كما مر بك لا يتصورون أن يكون في القرآن شيء لم يتسقطه من أهل الكتاب أو أقاصيص أهل الكتاب. قالوا إن الاسم لقمان يجيء في العبرية من الجذر «لقم» يعني «بلع»، فهو سمي ملك أدوم في سفر التكوين «بالع بن بعور» (تكوين 36/ 32) – وأصله في العبرانية «بلع» على المصدرية واسم الفعل من الجذر العبري «بلع» بمعنى ابتلعه أو أتَى عليه وأفناه – فجاء به القرآن على «لقمان» أو هو «بلعام بن بعور» - على زنة «فعلام» من نفس الجذر العبري «بلع» - نبي من غير بني إسرائيل عاصر موسى عليه السلام (عدد 22/ 5). وقد تظن أن هذا جهد علمي يليق [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/216] بمستشرقين علماء، والواقع أنهم اتكأوا فيه كدأبهم على أصحاب التفاسير والسير الذين ائتمنوا الرواة من أهل الكتاب، فقد قال ابن إسحق أن لقمان، هو بالع بن بعوراء (انظر تفسير القرطبي للآية 12 من سورة لقمان) وما كان لابن إسحق أن يعلم علم بالع هذا إلا من رواته من أهل الكتاب الذين فطنوا إلى هذا الجناس المعنوي بين بالع ولقمان. أما بالع ملك أدوم فلا تحدثك التوراة عنه بشيء، حكيمًا استطارت حكمته أو غير حكيم. وأما بلعام بن بعور الذي عاصر موسى عليه السلام فقد كان عند اليهود «نبيا لعانا» استأجره بالاق بن صفور ملك موآب ليلعن له بني إسرائيل حتى ينكسروا أمامه في حربه معهم، ولكن الله كان يحول لعنات بلعام فترتد على جيش الموآبيين وحلفائهم (راجع الإصحاح 22 من سفر العدد)، ولو كان مفسرو القرآن وأصحاب السير يقرءون في أسفار هذه التوراة فعلموا حقيقة «بلعام» لأحجموا عن مساواته بلقمان الذي في القرآن. قال هؤلاء المستشرقون أيضا، إن موعظة لقمان لابنه شبيهة بما في أساطير السريان عن «أحيقار» (وهي «أخو الوقار» بمعنى ذي الوقار) الذي يعظ ابنه بما معناه: يا بني طأطئ رأسك وألن قولك وغض بصرك، فلو كان بيت يبنى بجهارة الصوت لبني الحمار بيتين في يوم وهذا ضعيف كما ترى، يدلك على مدى هزل هؤلاء المستشرقين، يأخذون وجه الشبه من نهيق الحمار في الموعظتين أما مطاطأة الرأس والإنة القول وغض البصر، فهذا من الشائع المأثور الذي لا تخلو منه موعظة مرب، وليس هذا هو لب مواعظ لقمان، وإنما أدناها. على أن لقمان يأخذ على الحمار نكر الصوت، أما «أحيقار» السرياني فيقول إن جهارة الصوت شأن صوت الحمار، لغو لا طائل من ورائه. على أن سوء التشبيه بين «أحيقار» السرياني ولقمان الذي في القرآن يكفي بذاته للمباعدة بينه وبين مقولة هذا القائل فتستبعد «أحيقار» السرياني كما استبعدت من قبل «بلع»، «بلعام». وقد استبعدهم أيضًا Joseph Horovitz الذي ننقل عنه هذا الكلام. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/217] قالوا أيضًا فيما يرويه عنهم هذا المستشرق إن الاسم اليوناني «الكميون»، وشبهه «الكمان (“Alkmaion, “Alkman”) فيه شيء من «لقمان» الذي في القرآن مشيرين إلى تردد هذا الاسم اليوناني «في دوائر واسعة بالمشرق». وليس على هذا دليل كما عقب هذا المستشرق نفسه فقال إنه إن كان لا بد من يونانية «لقمان» فهو يؤثر الاسم اليوناني «لقيان» “Lucian” المحفوظة أقوال له في مدونات سريانية، مشيرًا إلى يسر تصحيف «لقيان» بالياء إلى «لقمان» بالميم في رسم المصحف، وهي فرية مضحكة مبكية لا يخجل من اصطناعها أدعياء الاستشراق الذين لا يحيلون التصحيف على المصحف الإمام يسدون بها الثغرة في تهافت حجاجهم مع القرآن، وكأنهم يقيسون المصحف الإمام على «توراة الأنبياء والكتبة» التي تراوحت عليها أقلام النساخ، فيفتضحون بجهلهم القديم بتاريخ القرآن، وجمع القرآن، وتدوين القرآن. ولكن هذا المستشرق يعود أيضًا فيستدرك على نفسه وقد أعياه البحث عن «لقمان» عند أهل الكتاب وعند السريان وعند اليونان، فيقول إنه ليس على هذا كله دليل، والراجح عنده في النهاية أن لقمان اسم عربي أصيل عرفه العرب قبل القرآن، فقد ذكره من شعرائهم أمثال طرفة والأعشى وزهير وامرئ القيس والمخبل وأفنون، وغيرهم، فضلاً عن أساطير العرب في «لقمان بن عاد». أما مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 12 من سورة لقمان) فقد تفاوتت أقوالُهم في لقمان. وقد مر بك ما حكاه القرطبي عن ابن إسحق في «بالع»، «بلعام»، ولكن ابن غسحق رحمه الله تكتم مصادره فلم ينص على «بلع»، «بلعام»، وإنما قال في المرتين «لقمان بن باعوراء»، وباعوراء – التي هي «بعور» في التوراة – تكشف مصادر ابن إسحق بجلاء. وقال السهيلي كان لقمان نوبيًا من أهل إيلة (وما أبعد البون ما بين أرض النوبة وأرض فلسطين!)، وقيل أيضًا عن سعيد بن المسيب إن لقمان أسود من سودا ن مصر ذو مشافر (يعني عظيم الشفتين) وعظم الشفتين في هذه الرواية وأمثالها محاولة لتفسير معنى «لقمان» بأنه عظيم اللقمة، تلقامة تلقام (وهو فهم غير دقيق لأصل معنى الجذر العربي «لقم» كما سوف ترى). وقال وهب ومقاتل والزمخشري كان لقمان ابن أخت أيوب أو ابن خالته (وهي محاولة لتأصيل [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/218] عروبة لقمان على عروبة أيوب في قول بعض المفسرين وهذا غير صحيح بناء على ما قلناه في تحليل اسم «أيوب» وإنه من بني إسرائيل على الصحيح) وقيل كان لقمان من أولاد آزر أبي إبراهيم، عمر ألف سنة فأدرك داود. وروى عن ابن عباس أن لقمان كان رجلاً حكيمًا بحكمة الله تعالى قاضيًا في بني إسرائيل أسود مشقق الرجلين ذا مشافر يعني عظيم الشفتين كما مر بك. فتعجب كيف يكون قاضيًا في بني إسرائيل نوبي أو من سودان مصر. ربما تجد في هذا الإصرار على سواد بشرة لقمان دليلاً على أنه ليس من بني إسرائيل – ولكن سواد بشرته ليس مانعًا من أن يكون لقمان عربيًا من العرب، وعربية لقمان أليق بعربية اسمه. أما القول بأنه مصري أو من سودان مصر، أو من أهل النوبة، فليس ما يمنع من هذا بالطبع، فقد سكت القرآن والحديث الصحيح عن نسب لقمان في أمة بعينها. ولكن القول مرسل ليس عليه دليل. ولا يصح أني كون الاسم «لقمان» عَلَمًا أعجميًا من المصرية القديمة بالذات، لأن المصرية القديمة تفتقد حرف «اللام» - الحرف الباديء في «لقمان» - وتضع في موضعه حرف «النون»، وأحيانًا قليلة حرف «الراء» ومن أمثلة ذلك في جذور المصرية القديمة المشتركة مع الساميات: اللام النافية ولام الملك ولام الاتجاه، المعبر عنها في المصرية القديمة بالحرف «نـ» ولفظه «لب» العربية العبرية الآرامية بمعنى القلب والفؤاد المعبر عنها في المصرية القديمة باللفظ «رب» وغيره كثير. وإذا كان «لقمان» قد أعيا المستشرقين والمفسرين البحث عمن يكون، وليس في القرآن والحديث الصحيح ما يدل عليه، فليس شخص لقمان هو الذي يعنينا بالدرجة الأولى في مباحث هذا الكتاب الذي نكتب، وإنما الذي نهتم له فحسب هو معنى هذا الاسم «لقمان» وتفسيره من القرآن بالقرآن، مقصدنا الأول في هذا الكتاب. والقرآن كما سوف ترى يفسر هذا الاسم على أصل عربي، فتقطع بعربية الاسم والشخص، وسبحان العليم الخبير. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/219] ليس معنى الجذر العربي «لقم» هو «البلع» كما يبدو لك للوهلة الأولى، وكما استشعر المفسرون الذين وصفوه بعظم الشفتين مجانسة على ما فهموه من معنى «لقمان». وقد ظنوه كما ترى زنة مبالغة من «لقم» فهو صنو «تلقام»، «تلقامة» يعني «عظيم اللقمة»، وهذا يحتاج إلى سعة الفم وغلظ الشفتين. وقد جرهم هذا الفهم على ما أرجحه أنا إلى التورط دون دليل في القول بسواده ونوبيته أو سودانيته، يعنون «زنجيته»، لشيوع غلظ الشفتين فيهم. ولكن معنى «لقم» الرئيسي على أصله ليس كذلك، وإنما هو بمعنى سده فأحكم سداده حتى غص به. تقول من هذا: لقم الطريق، يعني سد فم الطريق على من يريد الخروج منه. وأيضًا: ألقمه حجرًا، يعني أسكته وأفحمه، والحجر هنا للتقوية، لأن «ألقمه» بذاتها كافية. وليست «لقم» بذاتها يعني «بلع» كما ظن ذلك المستشرق وأضرابه، وإنما اللقم هو الأخذ بجمع الفم، أعني ملء الفم، ويجيء البلع بعد ذلك. واللقمة على ما يسد الفم سدًا، أي التي تملؤه. ولا تزال «اللقمة» لقمة ما بقيت بالفم لا تجاوزه إلى «البلعوم». والتقم الطفل ثدي أمه، من هذا، فهو لا يبتلعه، ولكنه يأخذه بجماع فيه.ومن هذا أيضًا قوله عز وجل في يونس: {فالتقمه الحوت وهو مليم} [الصافات: 142]، ليس معناها ابتلعه، كما تجد في بعض المعاجم ومنها «المعجم الوسيط» الصادر عن مجمع اللغة العربية بمصر، وإنما معناها أن الحوت أخذ يونس بملء فيه، أي كان يونس للحوت لقمة امتلأ منها فوه، ثم جاء الابتلاع بع ذلك فصار في بطن الحوت، فهو مكظوم: {ولا تكن كصحاب الحوت إذ نادى وهو مكظوم} [القلم: 48]، أي مضيق عليه مكتوم. حدث هذا في بضع ثوان، ريما استجمع الحوت عضلات بلعومه لابتلاع يونس بعد التقامه، فلا ابتلاع إلا بعد التقام. ولكنه التصوير الفني المعجز الذي عهدته في القرآن، لا يريد أن تفوتك اللحظة الهائلة: لحظة التقام الحوت يونس. والعامية المصرية تبدل من قاف «لقم» في معنى الكظة والاكتظاظ، كافًا، تقول منه بالعامية المصرية «اتلكمت»، «ملكوم» وأصلها الفصيح «ملقوم» والمعنى «كظظت» فأنا «مكظوظ»، لا «ابتلعت» ولا «مبلوع». كما تجد نظير هذا في تلك الحلواء الشامية، «اللكوم» («الملبن» في مصر)، وأصلها الفصيح «اللقوم» من اللقم، فهي «اللاقمة»، سداد الفم، وربما سداد النفس أيضًا من شدة حلوها. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/220] أما العبرية والآرامية فقد أميت فيهما الجذر العربي «لقم» وإن بقيت أثارة منه بالمعنى الذي ذكرناه، السد والانسداد، في عبرية التوراة، وهي لفظة «لقوم» (سفر يشوع 19/ 33) اسم موضع لسبط نفتالي، يفسر علماء التوراة معناها من الجذر العربي «لقم» بمعنى سداد الطريق، فيقولون أن لقوم = الحصن، الحائل المانع. أما «الحكيم» في العربية فهي بمعنيين: الذي يحكم هوى نفسه أي الذي يعقل نفسه عن الهوى، والآخر هو الحكيم قائل الحكمة، يحكم قوله فيسد على سامعه منافذ القول، لا مقولة بعده لقائل، الذي أسكت خصمه وأترج عليه، يعني سد فمه، أي ألقمه، ويقول العرب كظ فلان خصمه يعني ألجمه حتى لا يجد مخرجًا، وكظه بمعنى ألقمه. وأصل معنى الجذر العربي: «حكم» هو المنع والصرف، ومنه «الحكمة» بفتحتين، تلك الحديدة في فم الفرس التي تلجمه بها فتحكمه عن السير على هواه، وأحكم الفرس يعني جعل للجامه حكمة. وأصل الحكم والحكمة من هذا. وكل معاني الحكم والحكمة متفرعة على هذا الأصل، مجازًا وتوسعًا، فتجيء الحكمة بمعنى العلم والفقه، لأن العلم شرط في الحكمة، لا حكيم إلا عالم قد أحكمه العلم عن اللغو، ويقال من الصمت حكمة، والمراد صمت العالم، لا صمت الجاهل، ويقال أحكمه بمعنى أتقنه، والأصل ضبطه، وهكذا. والاسم «لقمان» في القرآن من هذا: إنه الحكيم قائل الحكمة، اللاقم سامعه، أوتي الحكمة، يعني فصل الخطاب، لا يملك سامعه على قوله تعقيبًا، فقد «ألقمه». وليست «لقمان» - وهي عربية كما ترى – ممنوعة من الصرف في القرآن للعجمة وإنما منعت من الصرف للعلمية المزيدة بالألف والنون، شأنها شأن «عثمان» التي لا يختلف على منعها من الصرف أحد. وإذا كانت العرب عصر تصنيف تفاسير القرآن لم تعرف في «لقمان» معنى الحكيم قائل الحكمة، فهذا كما تعلم من أساطير العرب في «لقمان بن عاد» لأن لقمان عند العرب قديم – بل متطاول القدم – فهو من العربية الأولى، عربية عاد قوم هود. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/221] قال عز وجل يفسر «لقمان» بالمرادف المطابق اللصيق: {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر الله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غنى حميد} [لقمان: 12]. فسر القرآن إذن «لقمان» بمعنى الحكيم قائل الحكمة. وقد غلب لفظ الحكيم على لقمان، حتى ليكاد يغني ذكر أحدهما عن الآخر، فهو علم عليها وهي عليم عليه. وأصل معنى الشكر في اللغة الامتلاء من رى أو سمن، ثم استعير للامتلاء من النعمة. ثم استعير من بعد لظهورها، وأيضًا إظهارها بعرفانها والثناء عليها. وهذا المعنى الأخير هو وحده المشهور المعروف المستعمل في العربية المعاصرة. والشكور من الإنسان والحيوان والنبت، هو الذي تبدو عليه آثار النعمة لا يكتمها، وإنما يبديها ويحدث بها. وفي الآية التي تلوت توًا جناس معنوي خفي بديع: أي لقمت يا لقمان الحكمة حتى ملئت منها، فعظ بها. فكانت عظات لقمان لابنه في القرآن لباب الحكمة. وسبحان العزيز الوهاب، يؤتي الحكمة من يشاء، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم. والحمد لله رب العالمين). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 214-222] |
الفصل التاسع: المصدق والبشير:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( الفصل التاسع المصدق والبشير [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/223] يتناول هذا الفصل في ختام مباحث هذا الكتاب تفسير ما بقي أمامنا من العلم الأعجمي في القرآن، وهي عشرةُ أعلام: زكريا – يحيى – عمران – مريم – عيسى – الإنجيل – النصارى – الصابئون – المجوس – الروم. والأعلامُ السبعة الأولى (زكريا، يحيى، عمران، مريم، عيسى، الإنجيل، النصارى) هي أعلام المسيحية. فزكريا أبو يحيى، ويحيى ابن خالة مريم، ومريم ابنة عمران هي أم عيسى، رضي الله عنهم جميعًا ورضوا عنه، أنبياء وصديقين، أما الإنجيل فهو وحي الله على عيسى، وأما النصارى فهم المسيحيون أتباع المسيح. أما الأعلامُ الثلاثة الأخرى (الصابئون، المجوس، الروم) فهم من أعلام المسيحية قريب. فقد قيل في الصابئين إنهم بقية من أتباع يحيى بن زكريا عليهما السلام، وقيل غير ذلك. وأما المجوس فهي علم على أتباع ديانة فارس أو الزرادشتيين أتباع زرادشت، ولعلك قرأت في الإنجيل أن مجوسًا رأوا في السماء نجم المسيح فجاءوا من بلادهم يحضرون مولده عليه السلام ويقدمون له «هدايا ذهبًا ولبانًا ومرًا» (متى 2/ 11). وأما الروم فالمعنى بها في القرآن هم البيزنطيون وقيصرهم هرقل عصر نزول القرآن، وقد تسمى بها البيزنطيون في آسيا الصغرى والبلقان لأن ملوكهم كانوا سلالة من قياصرة روما قبل انهيار الإمبراطورية الرومانية على أيدي القوط، بل قد كان من البيزنطيين من خلع اسم «روما» (عاصمة إيطاليا اليوم) على بيزنطة (وهي استامبول اليوم في تركيا)، تحنانًا إلى ذكرى روما الأولى (روما يوليوس قيصر وأوكتافيوس أوجستس ومركس أنطنيوس) أيام مجده القديم. ولم نجد أنسب من هذا الفصل موضعًا للحديث عن الصابئين والمجوس والروم في سياق تحليلنا معاني أعلام المسيحية وتفسيرها من القرآن بالقرآن، فقد جاء «النصارى» مجموعين إلى الصابئين والمجوس في قوله عز وجل: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/224] القيامة إن الله على كل شيء شهيد} [الحج: 17]. أما الروم فلأنهم الذين آل إليهم منذ القرن الرابع لميلاد المسيح صولجان المسيحية وسلطانها. وليس من مقاصدنا المباشرة في هذا الكتاب الذي نكتب نقد المسيحية في صورتها التي نقضها القرآن من قبل، أعني عقيدة التثليث والخلاص بالمسيح، فادى البشر بدمه المسفوح على الصليب، فقد تكفل القرآن بالنقد والنقض معًا، وليس بعد القرآن مزيد لمستزيد، الذي جاء بها ناصعة بينة في جواب المسيح ربه يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا، إنك أنت علام الغيوب: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} [المائدة: 116 – 117]، وقوله عز وجل، المتفرد بالالوهية والملك: {لن يستنكف المسيح أني كون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا} [النساء: 172]، ويدخل في الملائكة المقربين جبريل روح القدس صلوات الله عليه، ثالث الثلاثة في عقيدة التثليث. من هنا تستظهر أن المسيحية يوم رفع المسيح ليست هي تلك المسيحية التي جادل بها أساقفة نجران خاتم النبيين، التي صيغت أصولها في المجامع، بدءًا بمجمع نيقية عام 325م، بعد رفع المسيح بنحو ثلاثة قروة، الذي أله المسيح على البنوة لله، ثم أعقبه بنحو خمسين سنة مجمع آخر فصل القول في ألوهية روح القدس جبريل، فاكتمل الثالوث الأقدس: الآب والابن والروح القدس، ثلاثة في واحد. ولكن مقولة المسيحيين في المسيح هي التي تفرض نفسها على كل بحث لغوي صرف يريد تحليل معنى علم المسيحية الأكبر، عيسى ابن مريم صلوات الله عليه، كما سترى، وأيضًا لفظة «إنجيل»، لأن مقولة المسيحيين في المسيح هي التي صنعت التفسير اللغوي الشائع لهاتين اللفظتين: «عيسى» («يشوع» عبريًا)، «إنجيل» المقول بيونانيتها ترتيبًا على يونانية الإناجيل. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/225] والذي ينبغي التنبيه إليه فما مضى من مباحث الكتاب وفيما سوف يلي، أننا حين يلجئنا موضوع البحث إلى النقد، فهو النقد الرصين، نريد به وجه الحق تبارك وتعالى، فنختصم المقولة ولا نشجب القائل، فالهدى هدى الله عز وجل، ولو شاء لهدى الناس أجمعين، ولله وحده الفضل والمن: {قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} [الحجرات: 17]. ومن فضل الله على المسلم أنه معصوم بعصمة الله عز وجل عن الخوض في مقام أنبيائه: {لا نفرق بين أحد من رسله} [البقرة: 285] ولا تستقيم لغير المسلم مع المسلم حجة إلا بالخوض في نبوة خاتم النبيين. ومن فرائد إعجازات القرآن في غيوب القرآن قوله عز وجل في الآية التي تلوت توًا: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد} [الحج: 17]، أي سيظل من هؤلاء وهؤلاء فرق يفصل بينهم الله يوم القيامة، يوم يجيء كل أناس بإمامهم. أما أنبياء الله ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، فسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 223-226] |
(52) زكريا:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (52) زكريا «زكريا» عليه السلام نبيٌّ بنص القرآن لمجيئه على نحو ما مر بك من قبل في لفيف من ذرية يعقوب معقب عليهم بقوله عز وجل: {أولئك الذين آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة} [الأنعام: 89]، وإن كان في الأناجيل التي بين يديك مجرد كاهن: «كان في أيام هيردوس ملك اليهودية كاهن اسمه زكريا من فرقة أبيا وامرأته من بنات هرون واسمها اليصابات. وكانا كلاهما بارين أمام الله سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم. ولم يكن لهما ولد إذ كانت اليصابات عاقرًا، وكانا كلاهما متقدمين في أيامهما»: (لوقا 1/ 5 – 7)، ثم يمضي الكاتب في قصة ولادة يحيى بن زكريا عليهما السلام (المرسوم في أصول الأناجيل اليونانية وترجماتها جميعًا «يوحنا» على ما سيجيء في موضعه). وغلى صلاح آل زكريا عليه السلام يشير القرآن بقوله عز وجل: {وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين} [الأنبياء: 89 – 90]. وقد كان إعجاز ميلاد يحيى لزكريا وقد بلغ به الكبر عتيا شبيهًا كل الشبه بمولد إسحق لإبراهيم وسارة: كلتا المرأتين عجوزٌ عاقر، وكلا الرجلين شيخٌ كبير، ولكن الفاطر المبدع الباري الذي لا يعجزه شيء يقضي ما يشاء ويفعل ما يريد. ولو شاء الله خلق يحيى على مثال آدم بغير أب أو أم لفعل، ولكنه أراد النسبة إلى زكريا، كما أراد من بعد في خلق عيسى النسبةَ إلى مريم، وأراد قبل هذا وذاك النسبةَ إلى آدم أبى البشر جميعًا، كيلا يضل أحدُ في دعوى البنوة لله عز وجل، ولم يغفل عنها لحظة عيسى عليه السلام في نفس هذه الأناجيل التي بين يديك، لا يسأم من تكرارها على سامعيه حتى باتت علمًا عليه: إنه ابن الإنسان (وهي في العبرية «بن أدام») يعني آدمي من بني آدم. والقرآن لا يجيء [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/227] بذكر مولد يحيى إلا ويعقبه بذكر مولد عيسى (ولوقا يفعل نفس الشيء في إنجيله)، يمهد لإعجاز بإعجاز، فكلتا الولادتين آية تنقطع دونها رقاب البشر: إخصاب بويضة الأنثى بغير مخصب، أو خلق هذه البويضة مخصبة ابتداء، أو إخصابها بكلمة منه عز وجل نفخًا من روح القدس جبريل كالذي تجد في القرآن وفي الإنجيل، والأخرى شأنها شأن الاستحياء من عدم، في زوج زكريا، كما تجد في قوله عز وجل الذي تلوناه توا: (وأصلحنا له زوجه)، يعني استحيينا فيها، وهي العجوزُ العقار، آلة الحمل والولادة، وسبحان الخلاق العلمي. فلما عجب زكريا من هذا، قيل له: {قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا} [مريم: 9]، يذكره بخلقه وبالخلق الأول، وعن هذا يضل كثيرون، يعظمون المفعول ولا يعظمون الفاعل. ولم يكن هذا موقف لوقا في إنجيله، بل هو يعقب على مولد يحيى وعيسى عليهما السلام بتسابيح لله العلي القادر. على أن أخبار زكريا في القرآن لا تقتصر على أبوته ليحيى، وإنما هو أيضًا كافل مريم عليها السلام على ما تقرأ في القرآن، وليس في الأناجيل التي بين يديك من هذا شيء، وهي أيضًا لا تقص عليك شيئًا من أنباء خدمتها في الهيكل، وقال عز وجل: {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون} [آل عمران: 44]، وسبحان علام الغيوب. أما الاسم «زكريا» فيجيء في العبرانية من جزأين: زكر + يا (وينطق عبريًا «زخريا» على ما مر بك من تحول النطق في العبرية بعد متحرك أو معتل من الكاف إلى الخاء). أما المقطع الأول «زكر»، فهو الجذر العبري «زكر» المكافئ في كل معانيه للجذر العربي «ذكر»، أبدلت ذاله زايا، وأما المقطع الثاني «يا» فهو مختصر من «يهوا»، اسم الله عز وجل في العبرية. على هذا يكون معنى «زكريا» هو «ذكر الله» بالضم في لفظة «الله» على الفاعلية للفعل العبري «زكر»، أو هو «ذكر الله» بالفتح في لفظة «الله» على المفعولية [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/228] من «زكر»، لأن العبرية ليس فيها إعراب فلا تستطيع القطع بأيهما المراد. وقد اختار علماء أهل الكتاب – بغير موجب من نحو اللغة العبرية – الوجه الأول «ذكر الله» على معنى «الذي يذكره الله». وهم في هذا – أعني علماء المسيحية – ينظرون لا إلى أصل التسمية فقد تسمى بالاسم «زكريا» من قبل في العهد القديم كثيرون أشهرهم بالطبع «زكريا بن برخيا» صاحب السفر المعنون باسمه في توراة الأنبياء والكتبة، وإنما هم ينظرون إلى دلالة الاسم على المسمى المعني في العهد الجديد، الذي تمنى على الله الولد وقد بلغ من الكبر عتيا فذكره الله في وحدته وضعفه وشيخوخته فاستجاب دعاءه. وهذا جيد لا غبار عليه في حق زكريا المعنى في الإنجيل وفي القرآن. ولكنه تحيز بغير موجب من نحو اللغة العبرية كما مر بك لأحد الوجهين دون الآخر. بل الوجه الثاني، أعني «ذكر الله» بالفتح في لفظة «الله» على المفعولية لهذا الذاكر، فيكون المعنى «ذاكر الله»، أوجه وأبين في منطق اللغة العبرية – وأيضًا غير متعارض مع نحوها – لأنك في الوجه الأول تحتاج إلى تفسير «ذكر» من الله عز وجل على معنى «استجاب»، أما في الوجه الثاني فالفعل «ذكر» من هذا الذاكر يظل على أصل معناه، والتفسير بالأصل أولى من التفسير بالمؤول. على أن الوجه الثاني أيضًا، «ذاكر الله» لا يبعد بك عن دلالة التسمية على المسمى في حق «زكريا» المعنى في الإنجيل والقرآن، العبد الذاكر الخاشع لقوله عز وجل: {فاذكروني أذكركم}[البقرة: 152] يعني يجيء الذكر من العبد أولا، يذكر الله فيذكره الله، لا يصح العكس في جنب الله عز وجل. وهذا بالضبط الذي حدث لزكريا. «ذاكر الله»: ذكر الله فذكره الله، كما تجد في هذا الجناس المعجز: {كهيعص ذكر رحمة ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا} [مريم: 1 – 3]. «زكريا» إذن على القول الذي به نقول، يعني «ذاكر الله». وقد عرب القرآن «زكريا» طبق الأصل من صورتها الشائعة في الأناجيل اليونانية، وهي Zacharia «زخريا» (الذي تضاف في آخره سين الرفع اليونانية حال وقوعه مرفوعًا كما مر بك): خالفوا العبرية بفتح الزاي البادئة بدلاً من كسرها وشددوا الياء بدلاً من تخفيفها. وهو نفس النطق العربي لهذا الاسم في القرآن، لولا إرجاع الخاء العبرية كافًا على أصلها. فقد علم العرب من قبل أن خاءات العبرية كاف كلها فلا تكاد تجد لمعرباتهم من تلك اللغة لفظًا لم تبدل خاؤه كافًا. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/229] ولكن العرب – أعني مفسري القرآن كما تجد في تفسير القرطبي للآية 37 من سورة آل عمران – لم يفطنوا إلى أن «زكريا» من الذكر، فقالوا بعجمته ولم يتصدوا لتفسيره، أعني لم يفطنوا إلى أن الزاي البادئة فيه مبدلة من الذال، وتكتم عليهم معنى الاسم رواتهم من أهل الكتاب، وما كان لديهم من عبرية التوراة القدر الكافي لتحليل معاني أعلام التوراة والإنجيل. ورغم أن القرآن – على منهجنا في هذا الكتاب – فسر الاسم زكريا بأجلى بيان في موضعين اثنين كما سترى، فما كان لديهم هذا المنهج الذي هدانا الله إليه بفضل منه ونعمة، له وحده الفضل والمن سبحانه. فسر الاسم «زكريا» في القرآن مرتين: التفسير بالمشاكلة – وقد مر بك في مقدمة هذا الكتاب – تجده في قوله عز وجل: {كهيص ذكر رحمة ربك عبده زكريا} [مريم: 1 -2]، وكأنها: ذكرت رحمة ربك عبده ذاكر الله، لا تجد جناسًا أبين من هذا ولا أدق ولا أجمل. ولكن روعة النغم المصاحب لجلال المعنى المنظوم في الآية يأخذ بمجامعك، فتلتفت إلى الجناس اللفظي فقط بين «ذكر»، «زكريا»، وتفوتك المجانسة المعنوية بين اللفظين التي استبانت لك الآن: زكريا = ذاكر الله. وسبحان العليم الخبير، القائل بكل اللغات. أما في المرة الثانية فقد جاء الاسم «زكريا» مفسرًا بالمرادف الدقيق في قوله عز وجل: {هناك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار} [آل عمران: 38 – 41]. وكأنه عز وجل يقول: أذكر ربك يا ذاكر الله. والتفسير هاهنا بالمرادف كالشمس وضوحًا، وسبحان الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/230] والذي يجب التنبيه إليه في ختام الحديث عن نبي الله زكريا عليه السلام أن الصوم عن الكلام ثلاثة أيام سويا (وسويا يعني سليمًا معافَى لم يفقد القدرة على الكلام بمرض أو آفة) أصاب زكريا فور بشراه بيحيى: {فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا} [مريم: 11] وأن هذا العجز المؤقت عن الكلام استمر معه ثلاثة أيام فقط كما تقرأ في القرآن. وكان زكريا قد سأل ربه آية يعلم بها تحقق البشرى، أي تحقق حمل زوجته بالغلام المبشر به. والقارئ المتعجل يظن أن الآية هي إمساك زكريا عن الكلام. والصحيح أن الآية هي انفكاك لسانه في ختام الأيام الثلاثة، يعني لما حدث الحمل انفك لسانه. لا يصح القول الأول، لأن زكريا كان لا يزال قائمًا في المحراب لحظة أصابه العجز عن الكلام، لم يخرج بعد إلى زوجه كي تحمل منه. وإنما حملت منه أثناء هذه الأيام الثلاثة الموقوتة له من الله عز وجل. وإلا لقلت إن الحمل حدث قبل أن يدعو ربه، وإن الله بشره بشيء حدث لا بشيء سيحدث. وهذا يضعف المعجزة فلا يعود لها معنى. مُنِيَ زكريا إذن بالعجز عن الكلام ثلاثة أيام فحسب، أوتي خلالها – وخلالها فحسب أيضًا – القدرة على الإنجاب، فقد عاد زكريا من بعدها مباشرة نفس الشيخ الذي كانه، الواهن العظم، البالغ من الكبر عتيا، لا ينجب من بعد، شاهدًا على إعجاز الله فيه وفي زوجه. هذا أوجه وأبين، ولكنك لا تقرأ مثله في التفاسير التي بين يديك، فهو من الجديد الذي من الله علينا به. والذي في إنجيل لوقا بشأن هذا الصوم عن الكلام أن زكريا طلب علامة على تحقق البشرى فاختار له الملك آية العجز عن الكلام على وجه التأديب، لأنه لم يصدق البشرى التي زفت إليه. ويقول أيضًا أن هذا العجز عن الكلام استمر مع زكريا منذ أن خرج على قومه من المحراب وطوال حمل زوجته بيحيى حتى وضعته، أي تسعة أشهر لا ثلاث ليال، فلم ينفك لسان زكريا إلا يوم ختان يحيى، أي اليوم الثامن من مولده: «وفي اليوم الثامن جاءوا ليختنوا الصبي وسموه باسم أبيه زكريا. فأجابت أمه وقالت لا بل يسمى يوحنا. فقالوا لها ليس أحد في عشيرتك تسمى بهذا الاسم. ثم أومأوا إلى [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/231] أبيه ماذا يريد أن يسمى. فطلب لوحًا وكتب قائلاً اسمه يوحنا. فتعجب الجميع. وفي الحال انفتح فمه ولسانه وتكلم وبارك الله» (لوقا 1/ 59 – 63). ولا يصح هذا لأن تحقق البشرى يكفي فيه حدوث الحمل، فلا معنى لإسكات زكريا من بعد حتى يولد يحيى، إلا إذا قلت كما قال لوقا إن هذا الصمت الجبري كان من عند الله عز وجل على وجه التأديب، لا على وجه التبشير، أو قلت مجانبًا الصواب أن زكريا ما كان ليؤمن بتحقق البشرى إلا أن تضع زوجته حملها بالفعل، غلامًا يختنه ويسميه. ولكنك تستبقى من قول لوقا في هذا الموضع من إنجيليه جملةً على جانبٍ كبيرٍ من الخطورة وهي: «فقالوا لها ليس أحدٌ من عشيرتك تسمى بهذا الاسم»، يعني «يوحنا» ومصداقه من القرآن: {يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا} [مريم: 7]، فتفهم – مسيحيًا كنت أو مسلمًا – أن هذا الاسم المعطي لهذا المولود (يوحنا في الإنجيل أو يحيى في القرآن) اسمُ قد جاء على غير سابقة في أعلام العبرانيين. وإذا علمت أن الاسم «يوحنا» - وأصله العبراني «يوحنان» - اسم فشا في أعلام اليهود قبل مولد يحيى عليه السلام بقرون، عجبت كيف يعجب قوم زكريا من هذا الاسم «يوحنا» وهو فاش في أعلامهم، وقلت جازمًا مصيبًا غير مخطيء إن زكريا وزوجه اليصابات لم يقولا في تسمية ابنهما هذا الاسم «يوحنا» الذي عجب له سامعوه، وما كان لهم أن يعجبوا، وإنما قال زكريا واليصابات اسمًا آخر أمر به زكريا في المحراب لحظة البشرى بيحيى واتفق عليه الزوج وزوجه منذ تحقق البشرى بحدوث الحمل وقبل مولد يحيى، وأصرا عليه في مواجهة إنكار السامعين عليهما. هذا يفسر لك لماذا قال القرآن «يحيى» التي يعجب لها علماء المسيحية، ولم يقل «يوحنا»، رغم علمه القاطع بأن المسيحيين يقولون «يوحنا» ولا يقولون «يحيى»، بدلالة نصه على معنى «يوحنا» الذي لم يفطن إليه المفسرون. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 227-232] |
(53) يحيى:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (53) يحيى اخترنا عنوانًا لهذا الفصل كما رأيت: «المصدق والبشير»، وهما أبرز أعلام هذا الفصل، وأيضًا أبرز أعلام المسيحية أجمع الذين نختتم بهم هذا الكتاب. أما «المصدق» فهو يحيى عليه السلام، المصدق بعيسى الذي هو كلمة من الله، لقوله عز وجل في يحيى: {فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقًا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين} [آل عمران: 39]. وأما «البشير» فهو المسيح ابن مريم، عيسى صلوات الله عليه، المبشر بخاتم النبيين، لقوله عز وجل: {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} [الصف: 6]. وفي الأناجيل التي بين يديك أن مريم عليها السلام حملت بعيسى عقيب حمل خالتها المعجز بيحيى، فكان يحيى وعيسى ابني خؤولة متعاصرين، بعث يحيى أولاً ثم أعقبه عيسى، فشهد كل منهما للآخر بالنبوة، يعني كان يحيى مصدقًا بعيسى على نحو ما تقرأ في القرآن. ولكنك لا تقرأ في الأناجيل التي بين يديك بشارة من المسيح باسم خاتم النبيين صريحًا، محمدًا أو أحمد، وإنما تقرأ في الأصول اليونانية لتلك الأناجيل أن المسيح بشر بإنجيل الله (مرقس 1/ 14) Kerusson to euaggelion tou theou (لا بملكوت الله كما تقول الترجمة العربية في نفس الموضع كما مر بك). وأنت تعلم بالطبع أن eudaggelion اليونانية (المحلاة في النص اليوناني بالبادئة eu- ومعناها الخيرة) تفيد معنى «الرسول»، فتفهم كمسلم – على ما يأتي في موضعه – أن «إنجيل الله» الذي بشر به عيسى في هذا [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/233] النص اليوناني euaggelion tou theou هو «رسول الله» الخيرة، أي صفوة الرسل وإمامهم، محمد بن عبد الله، الذي ختمت به النبوة والرسالة، صلوات الله وسلامه على جميع رسله وأنبيائه، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. ولكن الذي نتوقف عنده في هذا السياق هو إعجاز النبوءة التي تضمنتها البشرى بيحيى عليه السلام ولم يولد بعد عيسى ولم يحمل به: إنها بشارة صريحة لزكريا بمولد عيسى عليه السلام، أسبق من بشرى جبريل لمريم بمولده، وأيضًا إنباء بأن محور رسالة يحيى هو التصديق بعيسى، كالذي كان، وسبحان علام الغيوب. ولا تفوتك تلك الصياغة المعجزة التي في قوله عز وجل «مصدقا بكلمة من الله»، فهو كلمة منه سبحانه، لا كلمة الله، ولا «الكلمة» على التعريف الذي يفيد الحصر، كما يخطيء فيها كثيرون، مسلمون وغير مسلمين، عرب وغير عرب، والفرق كما ترى بين المعنين جدٌّ كبير. تجيء «يحيى» عربيًا على مضارع المفرد المذكر الغائب من الجذر العربي «حيا» فمعنى الاسم «يحيى» الذي في القرآن هو إذن – عربيًا - «الذي يحيي». وللجذر «حيا» العربي (ويرسم أيضًا «حيى/ يحيى» كما يرسم «حيا/ يحيا») معنيان: المعنى الأول من الحياة نقيض الموت، تقول: لن أنسى لك هذا الصنيع ما حييت! يعني ما دمت حيًا لم أمت. والمعنى الثاني للجذر العربي «حيا» من الحياء بالهمزة، أي الاحتشام. تقول بهذا المعنى الثاني: حييت منه، تريد استحيت وخجلت. وأصله – أي الحياء – من الانقباض والانزواء، ومنه قيل للأفعى حية، لأنها تنقبض حين تستدير على نفسها كهيئة القرص. والراجح عندي أن حيا حياءً لا حياة، مبدل من الجذر العربي الآخر «حوى» بالواو، الذي يقال منه: تحوت الحية، أي تجمعت واستدارت، فهي في الأصل «حوية» أبدلت «حية». والذي يعنينا الآن هو: إذا كان الاسم «يحيى» في القرآن من الجذر «حيا» فبأي المعنيين هو، أبمعنى الحياء أم بمعنى الحياة؟ [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/234] نص القرآن على أن الاسم «يحيى» من الحياء، لا من الحياة، بقوله عز وجل {إن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا} [آل عمران: 39]، فهو عليه السلام الحيي بمعنى الحصور، أي الحيي الذي يحيا حياءَ. ولفظة الحصور في اللغة لها وجهان: الذي يكف نفسه عن شهوة النساء مع وجود القدرة، والثاني هو المكفوف عن النساء بآفة تقطع فيه هذه الشهوة. ويحيى بالمعنى الأول، لا بالمعنى الثاني، لأنه الذي يحيا، والذي يحيا إنما يحيى حياءً لا عجزًا، والعنين المجبوب لا يجد الشهوة أصلاً حتى يحيا ويعف. وما كان لنبي أن تكون به آفة، فما بالك بآفة يسميه الله بها فضلاً وتشريفًا، على ما مر بك من أن الله عز وجل هو الذي سمى، على غير سابقة سمعت في أعلام العبرانيين: {يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا} [مريم: 7]. بل قد تقدمت على صفة «الحصور» في يحيى صفة «السيد»، في قوله عز وجل {وسيدا وحصورا} [آل عمران: 39]، وما كانت الناس لتسود عنينا أو مجبوبًا، حاشا لأنبياء الله أن تكون. والذي قلناه الآن بمنطق اللغة فحسب، أي أن الذي يحيا إنما يحيى حياء، كاف بذاته لقطع دابر إسفاف الرواة – الذي حكاه عنهم القرطبي رحمه الله في تفسيره الآية 39 من سورة آل عمران – ولا عليك من إسفاف الرواة. بل كان يحيى صنو عيسى عليهما السلام: كلاهما بعث في ريعان الشباب ورئيه وحسيناه. ولم يلبثا في قومهما إلا قليلاً حتى قبضهما الله إليه، لا زوج ولا أبناء، فقد شغلا بصر الرسالة عن هذا وذاك. وربما قلت عن الله شاء برحمته ألا تكون لأيهما ذرية يفتتن بها الناس، أو كي لا يقال إن اللاهوت في المسيح على قول من قال يمنع من إتيان النساء، فقال له قد كان يحيى أيضًا على هذا المثال، أي كان يحيى وعيسى كلاهما حصورًا، لا يحيى وحده، وهذا مقطوع به عند المسيحيين جميعًا بلا خلاف، ودعك من تخرص المُجان بأقاصيص يحيى وسالومي، وخوضهم في المسيح والمجدلية، فهذا من عورات هذه الحضارة، التي تطاولت فاستباحت باسم «حرية القول» الاجتراء على مقام النبوة والنبيين. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/235] هذا هو اسم «يحيى» عليه السلام في القرآن، عربي ليس فيه شبهة عجمة، جاء بصورة مضارع المفرد الغائب المراد منه اسم الفاعل كما جاءت يثرب ويزيد، فهو الحيي حياء. وقد عجب علماء المسيحية لمجيء القرآن بهذا الاسم، وهو عندهم «يوحنا» كما مر بك. ولكن «يوحنا» هذه نفسها أيضًا منكره عند آل زكريا أبي يحيى، الذين راجعوه في تسميته بالاسم يوحنا لأنه عندهم اسمٌ لم يتسم به من قبل أحد في عشيرتهم كما يروى لوقا في إنجيله، وقد مر بك. وقد عجبت أنت أيضًا لإنكارهم هذا الاسم «يوحنا»، رغم فشوه في أعلام العبرانيين بصورة أخرى هي «يوحنان». وعلماء المسيحية يقولون لك أن «يوحنا» هي نفسها «يوحنان»، دليلك في هذا أنهم في ترجماتهم الأناجيل إلى العبرية لا يقولون قط «يوحنا»، وإنما يقولونها على أصلها العبري «يوحنان». وهم أيضًا يفسرون معنى «يوحنا» بنفس معنى «يوحنان»، البادئة المشتركة فيهما «يو» مختصر «يهوا» اسم الله في العبرية، أما «حنان» و«حنا» فهما كلتاهما مصدر من الجذر العبري – الآرامي «حنن» (نفس الجذر العربي «حن») والمعنى أنه «حنان من الله»، تمامًا كالعلم العبري الآخر «حنانيا»، أي هو يو + حنان، قدم فيه اسم الله عز وجل على التعظيم. ترى أكان عجب آل زكريا لهذا الاسم «يوحنا» لأنهم لم يدركوا أن «حنا» معناها «حنان»؟ كيف، وعندهم «حنا» بمعنى «حنان» (وترسم أيضًا في الترجمات العربية «حنة») اسم خالة يحيى أم مريم عليها السلام؟ لا منطق في هذا القول بالطبع. وإنما كان عجب آل زكريا من هذا الاسم «يوحنا» حين أملته عليهم اليصابات أم يحيى، أنهم سمعوه منها بنطق مغاير لم يطرق آذانهم من قبل: سمعوه «يوحنى» بالكسر في الياء على الإمالة، لا بالفتح، تماما كما أثبتها بالكسر في الياء كتبة الأناجيل في الأصل اليوناني Ioannes يُوَنّس، لا Ioannas يُوَنِّس (السين في الحالتين هي سين الرفع اليونانية). ولا يصح لك العدول عن هذا النطق الإنجيلي الأصلي في لغته الأصلية، فهو العمدة في هذا الباب – أعني الأسماء الأعلام بالذات، فهم رواة المسيحية الأوائل، سمعوا أو عاينوا، بل قد كان منهم – لا سيما متى الحواري ومرقس تلميذ بطرس رئيس الحواريين – من عاصروا يحيى عليه السلام وسمعوا منه ونادوه. نعم، قد ذهبت حاء «يوحنى» في الرسم اليوناني، لأن اليونان لا يستطيعون الحاء، ولكن ما العلة في عدولهم عن المد بالألف إلى الإمالة [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/236] بالكسر، وقد قالوا في يونس Ionas ولم يقولوا Iones؟ لا علة بالطبع إلا أنهم سمعوه هكذا: يوحنى لا يوحنا. أما الذي نتوقف عنده لنسبح معًا العليم الخبير القائل بكل اللغات، فهو أن «يوحنى» هذه (التي تستطيع أن ترسمها أيضًا «يحنى») بالكسر على الإمالة في آخره لا بالفتح، تفيد في العبرية – الآرامية معنى «الله أحصر» فهو الحصور التي في القرآن. في عبرية التوراة، وفي العبرية المعاصرة، وفي الآرامية أيضًا، الجذر «حنا» غير مشدد النون، تقول منه عبريًا وآراميًا على سبيل المثال: «حنا على عير» («عير» يعني المدينة)، أي ضرب عليها الحصار. فهو بمعنى حصره وصراه وضيق عليه. والمشدد من هذا (أي زنة فعل العربي) هو «حنى» بكسر الحاء في العبرة وبفتحها في اللهجة الآرامية التي غلبت على ألسنة الناس في ربوع فلسطين منذ ما قبل عصر المسيح بثلاثة قرون على الأقل. والمعنى هو «شدد الحصر عليه». على هذا يكون معنى «يو + حنى» (بإضافة «يو» مختصر اسم الله عز وجل في العبرية) هو «الله أحصر» بمعنى «الذي أحصره الله»، فهو الحصور التي في القرآن. والذي يدلك على أن «يوحنا» لا تصح عبريًا بمعنى «يوحنان» الاسم العلم الفاشي في أعلام العبرانيين، أن علماء العبرية المسيحيين لم يستجيزوا «يوحنا» في موضع «يوحنان» عندما ترجموا الأناجيل اليونانية الأصل إلى العبرية، بل رفعوا «يوحنا» ووضعوا في موضعه «يوحنان». أعني أنهم فهموا «يوحنا» بمعنى «يوحنان» فترجموا «يوحنا» إلى «يوحنان» عبريًا بعبري، فهم قد قرءوها في النص اليوناني «يوحنى»، فاستشكل عليهم المعنى كما استشكل من قبل على آل زكريا يوم أملته عليهم اليصابات على الحرف الذي سمعه زكريا من الملائكة في المحراب، فقربوه إلى [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/237] «يوحنا» وترجموا «يوحنا» إلى يوحنان، العَلَمِ العبرانِّي المألوف لهم، تمامًا كما فعل السريان في أناجيلهم التي ترجموها كما تعلم عن اليونانية مباشرة، ولكن المنطق السرياني يستسيغ «يوحنا» لختامها بألف المد، التي تبدو كأنها أداة التعريف الآرامية كما مر بك، فأخذوها على أنها تَرخيم «يوُ + حَنانَ + أ»، تؤول إلى «يوحننا» فإلى «يوحنا». ولعلك تجد معنى الحصور الذي أحصره الله في قول المسيح عليه السلام: «فقال لهم ليس الجميع يقبلون هذا الكلام بل الذين أعطى لهم. لأنه يوجد خصيان ولدوا هكذا من بطون أمهاتهم. ويوجد خصيان خصاهم الناس. ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات. من استطاع أن يقبل فليقبل» (متى 19/ 11 – 12) وهذا من معنى «يوحنى» أي يحيى علي السلام جد قريب، ولكن لم يلتفت إليه في تفسير معنى هذا الاسم أحد. ولكن القرآن المعجز الذي علم هذا كله من قبل، جاء بالاسم «يحيى» على الترجمة لمعنى الحصور الذي في «يوحنى» التي في الأناجيل اليونانية. ولم يفته أيضًا معنى الاسم الشارع عند معاصريه: يوحنا = يوحنان = حنان من الله. فقال عز وجل: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا} [مريم: 12 – 13] وقد فاتت على مفسري القرآن «حنانًا من لدنا» هذه التي هي طبق الأصل من «يوحنان» المبدلة من «يوحنا»، فقد روى القرطبي في تفسيره للآية 13 من سورة مريم عن ابن عباس رضي الله عنه قوله: «لا أدري ما الحنان»، يعني لا يدري موضعها ووجه دخولها في الآية، أما أنت فلا أحسب أنها تفوتك الآن، بل ولا أظنها تفوتك أيضًا عبارة «وكان تقيا» في الآية، وهي من معنى يحيى الحي الحصور قريب، وسبحان العليم الحكيم. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 233-238] |
(54) عمران:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (54) عمران «عمران» المعنى في القرآن هو والد مريم أم عيسى، يعني جد المسيح صلوات الله عليه. ولكن الأناجيل التي بين يديك لا تنص على اسم أبي مريم. والمشهور أنه مات قبل مولدها عليها السلام، فلم يشهد ولادتها ولم يسمها بل سمتها والدتها كما تقرأ في القرآن، ولكن الله عز وجل {كفلها زكريا} [آل عمران: 36 – 37]، وزكريا هو أبو يحيى، زوج اليصابات، خالة مريم. ولأن الأناجيل لم تحفظ لك اسم أبي مريم، لا تقول عمران، ولا تقول أيضًا باسم له غير عمران، فقد عجب أدعياء الاستشراق المنكرون الوحي على القرآن لقوله: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} [التحريم: 12]. فمن أين جاء القرآن باسم أبي مريم ولم تسمه الأناجيل؟ لا بد قد شبه له ولبس عليه! لأن القرآن عند هؤلاء الأدعياء ليس متهمًا بالنقل عن أهل الكتاب فحسب ولكنه أيضًا – كبرت كلمة تخرج من أفواههم – متهم على الأخص بالخط والتخليط: قد علم محمد صلى الله عليه وسلم باسم عمران أبي موسى وهرون في التوراة (واسمه عمرام في النص العبراني) فأسقط اسم عمران أبي موسى على أبي مريم، التي خلط من قبل بينها وبين «مريام» ابنة عمران، أخت موسى وهرون، فقال على لسان قوم مريم أم عيسى عليهما السلام: {يا أخت هرون} [مريم: 28] يحسبها أختًا لموسى وهرون ابني عمران (عمرام في النص العبراني) وبين موسى وعيسى ثلاثة عشر قرنًا على الأقل. ولا يليق هذا بمستشرقين «علماء» يظن بهم العلم وتفترض فيهم نزاهة البحث فيتتلمذ عليهم الناس، ناهيك بمن اتخذوهم أئمة مطلع القرن العشرين في مصر بالذات. فقد مر بك من قول لوقا في إنجيله، صف اليصابات زوج زكريا أبي يحيى: «وامرأته من بنات هرون واسمها اليصابات» (لوقا 1/ 5)، ولم يقل أحد بالطبع أن اليصابات زوج زكريا أبي يحيى – التي يفصل بين حملها بيحيى وبين حمل مريم [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/239] بعيسى ستة أشهر فقط كما سطر لوقا في إنجيليه (لوقا 1/ 26 – 36) – كانت ابنة لهرون أخي موسى ابني عمران، لقول لوقا إن اليصابات كانت من «بنات هارون»، وإنما فهم أهل الإنجيل على الفور من عبارة لوقا «بنات هرون» هذا الذي استغلظ على أدعياء العلم فهمه من عبارة القرآن «أخت هرون»، فهم يقرءون في سفر الخروج بالعهد القديم أن الكهانة جعلت ميراثًا في سبط هرون أخي موسى، حتى صارت الهارونية علمًا على السالكين في سلك هرون أصحاب الكهنة والسدانة. ولا تستطيع أن تقول أن أدعياء الاستشراق المنكرين على القرآن قوله «أخت هرون» جهلوا هذا، فهم إما يهود وإما نصارى وإما ملحدون ولدوا في إحدى هاتين الملتين، وإنما تقول جازمًا مصيبًا غير مخطئ، أنهم دلسوا عليك، فدلسوا على أنفسهم. وتلك من العالم بالذات زلة لا تغتفر، لأنها تمنعك من التتلمذ عليه وأخذ العلم عنه. وقد كان أدعياء الاستشراق هؤلاء كلهم هذا العالم المدلس، كلما خاضوا في القرآن بقول أو أرادوا سوءًا بأهله. وكانوا يظنون أن عبثهم هذا بمنجاة أن يفتضح، فقد جمعوا بين ضغنهم القديم على القرآن وبين الاستهانة بأهله، لا يرونهم أهلاً لحجاجهم أو تحقيق مقولتهم، ولكن الله عز وجل يقيض لهذا القرآن إلى يوم القيامة من أهله في كل قرن من يذب عنه، له الفضل والمن، والحمد لله وحده. وقد كان عُذر التلاميذ الذي افتتنوا بهؤلاء «الأساتذة» مطلع هذا القرن هو ضخامة الجهد الذي بذله هؤلاء المستشرقون في أبحاثهم، إن أنكرت بعضه فلا تملك إلا أن تجل بعضه، فأصابت التلاميذ الفسولة، وقعدت بهم همتهم عن تتبع مقولة المستشرقين في مصادرهم. فلما شب التلاميذ عن الطوق، واستقلوا بأبحاثهم، كان الوقت قد فات، فقد ترسخت مقولة الاستشراق وتحصنت بما يشبه القداسة. وربما عز على الأشياخ في مجتمعك من بعد أن يراجعوا أنفسهم فيما نقلوه من قبل عن هؤلاء المستشرقين وكتبوه، بل وطنطنوا به في صدر الشباب وزهوه، وشرته. بل لا تزال في مجتمعك بذرة من هؤلاء التلاميذ، ورثوا تعظيم الاستشراق، يحاجون عنه في الغث والسمين ويلتمسون لأهله العلة، ويدفعون عنهم ظن السوء والتهمة. وربما عز على هؤلاء ما نقوله الآن، وأبوا عليك اتهام المستشرقين المنكرين على القرآن قوله في مريم [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/240 ] أم عيسى «أخت هرون»، بالتدليس. ولكنك ما أن تعفى من تهمة التدليس هذا المستشرق وأضرابه الذين أنكروا على مريم أم عيسى «أخوة هرون»، حتى تضطر اضطرارًا إلى اتهامه هو وإخوته بالجهل الفاضح، لأنه لم يفهم معنى «أخوة هرون» عند أهل التوراة الذين ينقل القرآن مقولتهم لمريم عليها السلام أم المسيح صلوات الله عليه. والجهل أهون من تعمد التدليس، ولكن الجهل من عالم أو مدعي علم يصرفك عن التتلمذ عليه، أو الاعتداد بمقولته، إلا أن تراجعه فيها، فترده إلى جادة الصواب إن أخطأ وتقبل منه إن أصاب. ولكنك لا تأخذ من هذا العالم أو مدعي العلم شيئًا قط يقوله في القرآن، الذي يحاج القرآن بالتوراة والإنجيل، ولا يعلم علم ما في التوراة والإنجيل. بل لا يعلم هذا المدعي العلم علم ما في القرآن الذي تصدى لحجاجه، وإنما هم يأخذون منه نتفًا من هنا أو هناك كيفما اتفق، ولو قرءوا القرآن كما تجب قراءة القرآن لخجلوا من أنفسهم كيف ادعوا عليه الجهل ببعد ما بين موسى وعيسى عليهما السلام حتى يخلط ما بين مريم ابنة عمران أم عيسى وبين «مريام» ابنة عمران أخت موسى وهرون، وهو يعلم أن رسول المسيحية جاء بالإنجيل بعد ما جاء موسى بالتوراة، فكيف يتعاصران. بل كيف يتعاصران وبينهما جم غفير من الرسل: {ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} [البقرة: 87] وقوله عز وجل في عيسى آخر رسل الله إلى بني إسرائيل: {ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم} [الحديد: 26 – 27] أي قفينا بعيسى ابن مريم ختامًا لجميع أنبياء بني إسرائيل، فكيف يكون موسى هو خاله؟ الذي يبلغ من فقهه بديانة اليهود أن يعلم معنى «أخت هرون» ومدلولها في مصطلحات اليهود ومواضعاتهم، لا تستكثر على واسع علمه أن يعلمك من قد كان أبو مريم أم عيسى عليهما السلام، عمران غير المذكور بالاسم في الأناجيل. قد قالها القرآن «عمران» ولم يقلها غيره، عالم الغيب والشهادة، أبصر به وأسمع. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/241] ليس أمام المنكرين أبوة عمران لمريم عليها السلام أم المسيح صلوات الله عليه، إلا أن يأخذوا من القرآن اسم أبي مريم، فلا مصدر أمامهم في هذا غير القرآن، والقرآن لو علموا مصدر أي مصر. أو يأتوا لعمران جد عيسى عليه السلام باسم آخر، حررًا موثقًا، وإلا فليصمتوا هم والمنكرون أخوة هرون على مريم بعد نشر هذا الكتاب، صمتًا طويلاً. من بين ما يستوقفك في القرآن – والذي يستوقفك في القرآن كثير – أنه لا يجيء قط باسم نبي من الأنبياء على النسب لأبيه، كأن يقول مثلاً: موسى بن عمران، وإنما يقول موسى فقط، أو هودًا فحسب، لا ينسب هذا أو ذاك، لأن النبي أشهر من أن يعرف بأبيه، ولأن القرآن لا يهتم أصلاً للنسب، خلافًا لما تقرأ في العهد القديم، إلا أن تعلم من القرآن اسم الأب في سياق حديث الابن فيه نبي صنو أبيه، كما في داود وسليمان، وكما في إبراهيم وبنيه، إلا أن يريد القرآن الإدلال بعلمه وإعجازه، فيسمي لك «آزر» أبا إبراهيم: {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر} [الأنعام: 74]، وما كان أغناه عن «آزر» هذه، ولو أسقطها من سياق الآية لجاز، ولما اختل وزن أو نظم، ولكنه أراد منها إعلام أهل الكتاب ما لم يعلموه، أو يفسر لهم بها معنى «تاريح» اسم أبي إبراهيم في سفر التكوين. ومن هذا أيضًا قوله: {ومريم ابنة عمران}[التحريم: 12]، لا يريد منها إلا الإدلال بعلمه وإعجازه، يسمى لهم بها أبا مريم – جد عيسى عليه السلام – غير المذكور بالاسم في الأناجيل. أما المسيح عليه السلام فهو استثناء وحيد من كل هذا الذي قلناه: قلما يجيء به القرآن إلا منسوبًا إلى والدته «أمة الرب» مريم الصديقة «أخت هرون»، الهارونية، أي السالكة في سبط هرون، الكهنة سدنة هيكل الرب، فلا ينفك القرآن يقول: عيسى ابن مريم، حتى في خطاب الله عز وجل إياه: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم} [المائدة: 116]. وما ذاك إلا على التشريف لمريم عليها السلام، التي صدقت بكلمات ربها يوم نفخ فيها جبريل، وإذكارًا بإعجاز مولى عيسى: أنه ابن مريم فحسب، لا أب له سواها ولا أم. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/242] والذي أريد أن أصل بك إليه هو أن القرآن لا يدلك على اسم أبي موسى وهرون، المدعو «عمرام» في النص العبراني لأسفار التوراة، فلا تقطع من القرآن بلفظ هذا الاسم لو عربه القرآن، أيجيء على أصله العبري في التوراة «عمرام»، أم يصير إلى «عمران» فيكون سميا لجد عيسى عليه السلام في القرآن؟ لا سبيل إلى هذا بالطبع من القرآن لأنه لم يسم أبا موسى وهرون. ولكنك لا تتلبث طويلاً عند هذا، فقد قرأت من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم تسمية أبي موسى وهرون: «وأيم الله لو سمع بي موسى بن عمران لما وسعه إلا اتباعي!» فتوقن أن الاسمين واحد، عمران التي في هذا الحديث، ومرام التي في التوراة. وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك بالفعل، فهل جاءت «عمران» على ألسنة العرب تعريبًا للاسم العبراني «عمرام»، أعني أن «عمرام» هي الأصل الذي جاءت منه عمران، أم العكس، أي أن «عمران» هي الأصل الذي تحور على ألسنة العبرانيين إلى عمرام؟ إذا كانت عمران هي الأصل فهذا يعني أن عمران التي في القرآن عربية، تفسر بالعربية وحدها. أما إذا كانت عمرام اسم أبي موسى في التوراة هي الأصل فهذا يعني أحد أمرين: إما أن عمران التي في القرآن عربية أيضًا يترجم بها القرآن عمرام التي في التوراة ومن ثم تفسر أيضًا بالعربية وحدها، وإما أن عمران التي في القرآن ليست عربية وإنما هي تعريب لفظي لصنوها في التوراة «عمرام» فلا يتسنى تفسير عمران التي في القرآن إلا بفهم صنوها العبري «عمرام». ولأن عمران جد عيسى عليه السلام في القرآن رجل من بني إسرائيل، بل هو من سبط لاوي بالذات، سبط موسى وهرون ابني عمرام الذي في التوراة، فأنت تقطع بأن اسمه كان يلفظ بين أهله وعشيرته عمرام، لا عمران التي جاءت في القرآن إما على الترجمة وإما على التعريب. لهذا يتعين استقصاء وجوه معنى عمران العربية قبل الانتقال إلى فهم معنى عمرام، اسم أبي موسى وهرون، عند علماء العبرية وعلماء التوراة. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/243] وردت «عمران» في القرآن ثلاث مرات فحسب، كلها في جد عيسى عليه السلام، لا في أبي موسى وهرون. وهي في المرات الثلاث لم تأت قط منفردة وإنما على الإضافة فحسب: «آل عمران»، «امرأة عمران»، «ابنة عمران». تجد هذا في قوله عز وجل: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم}[آل عمران: 33 – 34]، سميع لدعوة إبراهيم في إمامة الناس من بعده، عليمٌ بالصالح من ذرية إبراهيم لهذه الإمامة. وقوله عز وجل: {إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم} [آل عمران: 35]، أي نذرت ما في بطني لخدمة الرب، خالصًا لهذه العبادة، فتقبل مني النذر الذي تعلم إخلاصي فيه، فأنت السميع لما أعلنت، العليم بما أسررت. وقوله عز وجل يزكي مريم عليها السلام مع امرأة فرعون مثلاً للذين آمنوا: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} [التحريم: 12]. ولقد قال مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 33 من سورة آل عمران9، إن «عِمْران» عربية، مُنِعَت من الصرف فقط لزيادتها بالألف والنون، فهي من الجذر العربي «عَمَرَ» الذي تعددت أعلام العرب منه: عمرو (وأصلها «عَمْر» زيدت بالواو في الرسم لا في اللفظ فارقًا بينها وبين «عمر»)، عمر (وهي زنة مبالغة من «عامر»)، عامر، عمارة، عمير، وأيضًا «عمران» هذه نفسها التي سمعت في أعلام العرب قبل القرآن. وفي العربية أيضًا الاسم العلم «عمار» (ومنه عمار بن ياسر رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين). ولكن مفسري القرآن – ترتيبًا على عربية «عمران» - لا يفسرون لك معنى هذا الاسم العلم في العربية، شأنهم في كل علم عربي ورد في القرآن، لأنهم يفترضون فيك العلم بمعناه، تستخلصه من كافة معاني مادة ع/ م/ ر العربية، تنتقي منها الوجه الذي تشاء في تفسير الاسم «عمران» جد عيسى صلوات الله عليه. ربما قلت إنه من «العُمْر» بمعنى مدة الحياة، وربما قلت إنه من العُمران ضد الخراب، أو من المأهول نقيض القفر، إلى آخر ما تعلم من وجوه معاني هذه المادة العربية «عمر». ولكنك وقد علمت أن عمران التي في القرآن هي كفء عمرام التي في التوراة – لا تستطيع أن [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/244] تأخذ من «عَمَر» العربية في تفسير عمران التي في القرآن إلا بمعنى واحد فقط، هو المعنى الذي يشترك فيه هذا الجذر العربي مع صنوه من نفس مادته في العبرية أي الجذر العبراني «عَمَرْ»، وإلا امتنع عليك مقابلة عمران بعمرام. هذا المعنى الوحيدُ الذي يلتقي فيه «عَمَرَ» العربي صنوه العبراني «عَمَرْ» هو معنى واحد، لسبب بسيط وهو أن «عَمَرْ» العبراني ليس له إلا معنى واحد، وهو «السدانة» والسادن هو خادمك الذي يلازمك، استيعرت لخدمة المسجد أو المعبد خاصة. أما أن «عَمَرَ» العربية تجيء بهذا المعنى، فحسبك قول الله عز وجل في نعيه على مشركي قريش اعتدادهم – على كفرهم – بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين} [التوبة: 19]، بعد أن مهد لها بقوله عز وجل: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} [التوبة: 17 – 18]. أي لا تصح عمارة المسجد إلا لمؤمن بالله واليوم الآخر، متعبد فيه بما تعبده به الله، لا يخشى غيره، لا لمشرك مكذب باليوم الآخر، يشهد على نفسه بالكفر إذ يتعبد في الكعبة وما حولها لغير الله عز وجل وهو يدعى سدانة بيته. وقد تفاوت قول المفسرين الذي حكاه القرطبي رحمه الله في تفسيره لهذه الآيات الثلاث حول معنى عمارة المسجد: اقتربوا ولم يستوفوا. لم يفتخر كفار قريش بأنهم يؤمون المسجد الحرام للعبادة فيه كما تفهم أنت اليوم من «عمار المساجد» الملازمين الصلاة فيها. وليست العمارة هي إعمار المسجد أي كونه عامرًا بهم. وليست هي فحسب معاهدة المسجد والقيام بمصالحه، أو تعهده بالتنظيف والإصلاح والصيانة. هذا كلام مطول يجمعه قولك: «السدانة»، وهي بالذات التي تباهي بها كفارُ قريش. والسادنُ كما مر بك هو [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/245] في الأصل خادمك الذي يلازمك، أو هو حاجبك الآذن كما في معجمك العربي. والمعنى الباقي في «عَمَرْ» العبراني هو هذا نفسه: «عُمير» العبري (بالإمالة في الياء) يعني «الخادم»، جاءت منه عبرية التوراة بالاسم العلم «عُمْرى»، ملك من ملوك بني إسرائيل، واصله «عُمْريًّا» يعني «خادم الله»، أي خادم بيته، فهو السادن. وعمير العبري هي اسم الفاعل عبريًا من «عَمَرْ» العبري، فهي مكافئ «عامر» العربي. ولئن كانت عبرية التوراة (والعبرية المعاصرة أيضًا) قد أماتتا «عَمَرْ» العبري في ثلاثيه المجرد، فقد استبقتاه كلتاهما في صيغة «هتفعل» (نظيرة تفعله واستفعله العربية) فتقولان «هتعمر» تعنيان تعبده وتخدمه وتمهنه، فتقطع بأن «عَمَرْ» العبري كان معناه في ثلاثيه الممات: خدم وعبد، وأن الاسم منه هو الخادم العابد. لا معنى له غير هذا من مختلف معاني «عَمَرَ» العربي. «عَمْرام» العبرية، اسم أبي موسى وهرون في التوراة من هذا لا من غيره – مع الاعتذار الواجب لعلماء العبرية وعلماء التوراة الذين ليسوا على هذا الرأي. عَمْرام العبرية على القول الذي به نقول هي نفسها عمران العربية جذرًا ومعنى: السادن، خادم المسجد أو المعبد. وربما قلت: فكيف يجيء معنى السدانة والخدامة من الجذر العربي «عَمَر» وهو في أصل معناه البقاء والحياة؟ وأقول لك إن العكس هو الصحيح: الأصل البعيد وراء كل معاني الجذر العربي «عَمَر» هو الملازمة، التي تفسر كل ما تفرع عنه من معان: المكث الذي جاء منه العُمر بمعنى مدة الحياة، والسكنى التي تجيءُ منها عمارة المكان، والتعهد الذي تجيء منه عمارة المال وتعميره، والقبوع الذي يجيء منه اسم لباس الرأس مثل «العمارة» بمعنى «العمامة»، إلى آخر ما تعلم. أما الذي قد لا تعلمه لندرته فهو أنه من مادة «عَمَر» العربية هذه تجيء في العربية لفظة «العَمْر» بمعنى الدين والملة، ومن هذه يجيء الاسم «عمار» بمعنى الكثير الصلاة والصوم، يعني الملازم العبادة، فيكون العامر بمعنى العابد. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/246] ومن هذه الملازمة استبقت العبرية «عُومِر» العبرانية بمعنى الحُزمة والربطة كما استبقت أيضًا الفعل المضعف العبري «عِمِّر» بمعنى حَزَم. أما علماء العبرية وعلماء التوراة فهم يقولون أن «عَمْرام» ليست لفظة وحيدة الجذر، لا من «عَمَرْ» ولا من غيره، وإنما هي اسم مزجي مركب من شقين: عَمْ + رام، «عَمْ» بمعنى الشعب أو الأمة، «رام» بمعنى علا أو تعالى (فعل ماض) أو هي اسم الفاعل منه أي عَلِيٌّ أو مُتعالٍ. من هنا فهم فريقٌ منهم هذا الاسم على معنى الفاعل وفعله، فقالوا إن معناه هو «الشعب علا» أو «تعالى الشعب». أما الفريق الآخر فقد فهم الاسم على معنى المضاف والمضاف إليه فقال بل هو «شعب العلي»، يريد «شعب الله». وكلا الوجهين كما ترى مفتعل. لأنهما كليهما لا يصلحان اسمًا لرجل، إذ ما معنى أن تسمى ابنًا ولد لك «شعب الله» أو «تعالى الشعب»؟ أهي النبوءة بأنه سيخرج من صلب عمرام الرجل الذي سيتعالى به الشعب، موسى الذي سيقود خروج بني إسرائيل من مصر ويصنع منهم «شعب الله»، أو هي محاولة تعظيم موسى عن طريق التفخيم في اسم أبيه؟ الملاحظة الأولى على هذا أن الاسم العلم عمرام لم يقع في أعلام العبرانيين قبل أبي موسى، وإن فشا من بعده في أعلام إسرائيل نسبة إليه. وقد تزوج عمرام أبو موسى من «أم موسى» أيام محنة بني إسرائيل في مصر. وحتى إن سلمت بأن مولد عمرام وتسميته كانا سابقين على هذه المحنة، أي سبقا بسنوات انقلاب فرعون مصر عليهم، فلا يذهبن بك الظن إلى أن قوم موسى كانوا قبل هذا الانقلاب مباشرة – وهم [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/247] ضيوف إن لم تقل دخلاء على أهل مصر – يستطيعون مباهاة المصريين بقولهم «تعالى الشعب» أو «الشعب علا» في وصف أنفسهم، فضلاً عن أن يتسموا بها في أبنائهم، آمنين ألا ينكر المصريون عليهم، أو في أقل القليل أن يتخذ المصريون من اسم هذا المولود الذي سيتعالى الشعب به مزحة يتندرون بها، فلم تكن العبرانية بعد قرون من مقام بني إسرائيل في مصر طلاسم مطلسمة في آذان المصريين، وحتى إن بقيت طلاسم مطلسمة في آذانهم، فما كانوا ليعدموا من يفسر لهم معنى هذا الاسم من بين خلطائهم العبرانيين المتقربين إليهم بالمودة على حساب بني قومهم. والملاحظة الثانية هي أن فكرة «شعب الله» لم تنبت في أدمغة بني إسرائيل إلا من بعد موسى، فكيف ينحت منها اسم أبيه؟ والملاحظة الثالثة هي أن اختلاف علماء العبرية وعلماء التوراة حول معنى هذا الاسم عمرام، وانقسامهم في تفسيره بين «تعالى الشعب»، «شعب الله» يدلانك على أنه ليس له أي تفسير معروف في مأثورات بني إسرائيل، على نحو ما مر بك من شغف كتبة التوراة بتفسير الأسماء الأعلام أو مناسبة التسمية، مثلما فسروا اسم موسى بن عمران، ولو كان للاسم عمرام تفسيرٌ مأثور، معلوم، مستقر عليه، لما انقسم في تفسيره علماء العبرية وعلماء التوراة، ولكنها اجتهادات لهم، كل يدلي بدلوه، لا تلزمك. ولم لا يقال إن «عمْ + رام» (مكسور العين في «عم» يعني «مع») يراد بها «مع العلي»، أي «مع الله» لا «شعب الله»، يعني السالك مع الله (هوليخ عم رام عبريًا) اختصرت إلى «عم + رام»، كما قالوا «عمانوئيل» أي الله معنا، ثم تحورت كسرة العين إلى الفتح؟ تستطيع أن تقول هذا وأمثاله فلا تنتهي، ولكنك تتوقف عند عمرام بمعنى عمران، الملازم العبادة، أو السادن خادم المعبد، تستخلص معناه مباشرة من الجذر «عَمَر» دون حاجة إلى افتراض «مزجيات» لا داعي لها. وقد مر بك من قبل انه حين يستعصى فهم لفظ في الساميات فلا بد من التماسه في أمها، أي في العربية، وقد عرف العرب «عمران» قبل الإسلام بقرون وتسموا به، لم ينقلوه عن العبرية المختلف فيها على معناه. دليلك في هذا أني هود مكة ويثرب قالوا في اسم أبي موسى وهرون [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/248] «عمران» يعنون «عمرام» الذي في التوراة، عالمين أن اللفظين واحد. ودليلك فيه أيضًا ورود هذا الاسم بالنون لا بالميم في كتابات Lucian وهو من أعلام القرن الثاني للميلاد، ووروده بالنون أيضًا في نقش حوراني باليونانية Emranes «عمرانس» (السين للرفع)، فتقطع بعربية «عمران» كما قطع بها المستشرق الذي ننقل عنه هذا الكلام. ولكن هذا المستشرق لا يريد الإقرار بأن «عمران» العربية هي الأصل وراء عمرام التي في التوراة، وأن بني إسرائيل في مصر استعاروا «عمران» من جيرانهم الساميين فآلت على لسانهم إلى «عمرام» مع وحدة الجذر والمعنى. وإنما هو يقول ما تفهم منه أن القرآن شاكل عمران العرب يعلى عمرام العبري يظنهما واحدًا، لأن هذا المستشرق وأضرابه لا يحققون معاني الأسماء الأعلام، وإنما يهتمون فحسب للتقارب اللفظي، يظنون أن القرآن كدأبهم هم يأخذ نتفًا من هنا ونتفًا من هناك دون تثبت، وفاتهم كما مر بك أن اليهود في مكة ويثرب قالوا هم أنفسهم «موسى بن عمران» ولم يقولوا «موسى بن عمرام». على أن هذا المستشرق وإخوته يقعون رغم أنفهم، أو قل بتعسفهم النعي على القرآن، فيما ينقض دعواهم: إذا كانت عمران عندهم عربية الأصل من الجذر «عمى» (ولا يصح اشتقاق في عمران إلا من عمر) فليس هي إذن «عَمْ + رام» العبرية المفترض معناها «تعالى الشعب»، أو «شعب الله»، ومن ثم فليس الاسمان واحدًا، ولا وجه بالتالي للقول بأن القرآن يخلط بين عمران جد عيسى وبين عمرام أبي موسى وهرون. ولئن كانت «عمران» عربية، لا تدخل في مقاصد هذا الكتاب الذي نكتب، فقد أدخلناها في مباحث الكتاب للرد على المستشرقين المنكرين الوحي على القرآن، من جهة، ومن جهة أخرى لأن القرآن الذي فسر الاسم عمران على المشاكلة مع عمرام الذي في التوراة لم يكتف بذلك، وإنما فسر معنى هذا الاسم أبين تفسير بالمرادف، بل [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/249] قد جانس عليه في تفسير معنى الاسم «مريم»، فهو العامر العابد، وهي أمة الرب، وسبحان العليم الخبير القائل بكل اللغات. قال عز وجل: {إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم} [آل عمران: 35]، والمنذور لله عز وجل محررًا، هي نفسها «عمران»، الملازم العبادة، الملازم بيت الرب، وكأنها رضي الله عنهما أرادت عمران آخر سميًا لزوجها عمران، وكأنها لو وضعته ذكرًا لأسمته عمران على اسم أبيه. ولكنها رزقت بالأنثى، مريم عليها السلام، فأسمتها بالمؤنث منه: مريم، يعني أمة الرب. وقال عز وجل أيضًا: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} [التحريم: 12]، يعني كانت ابنة عمران صنو أبيها، اسمًا على مسمى، وهل القانت إلا العامر العابد عمران، وهل أمة الرب من هذا ببعيد؟ وربما قلت: وما وجه الإعجاز والقرآن عربي وعمران عربية، فهو يفسر عمران على أصل معناها في لغته؟ وهذا صحيح. ولكن الإعجاز الذي أريد أن أدلك عليه هو أن القرآن الذي علم معنى «عمران» من العربية، يجانس عمران العربية هذه على «مريم»، أمة الرب، ومريم اسم آرامي بحت كما سوف ترى. فأي إعجاز وأي علم!) [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 239-250] |
(55) مريم:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (55) مريم «مريم» أم عيسى عليهما السلام، اسم آرامي مزجي مرخم، أصله: ماري + أما، المقطع الأول يعني بالآرامية «الرب»، والمقطع الثاني «أما» يعني بالآرامية أيضًا نفس ما تعنيه «الأمة» عربيًا، فاسمها عليها السلام يعني «أمة الرب»، قدم فيه المضاف إليه على المضاف، تعظيمًا لاسم الرب تبارك وتعالى، مثلما رأيت في «يو + حنان» المبدلة من يوحنا وهو يحيى بن زكريا عليهما السلام. وكان حقه أن ينطق: ماريأما، كاملا، ولكن المزجية سهلت الهمزة، أصبح: ماريما، ثم رخم بحذف ألف المد الخاتمة، فأصبح «مريم» طبق الأصل من نطقه اليوناني Mariam في الأناجيل اليونانية، وهو نفس نطقه في القرآن. أما «ماري» الآرامية بمعنى «الرب» فهي تجيء من اللفظة العربية «إمرؤ» (تنصب على «إمرأ» وتجر على «إمرئ»)، وأيضًا «مرء»، ومن هذين يجيء المؤنث «امرأة» وأيضًا «مرأة». وأصل معنى «إمرؤ» العربية ليس هو مطلق الرجولة أو الذكورة، وإنما أصله من «السيادة»، ومنه جاءت «المروءة» يعني خلق السادة، أي الشهادة، فالمرأة يعني في الأصل «السيدة» مؤنث «مرء» بمعنى السيد، ولكن المرء والمرأة أميتتا بهذا المعنى في العربية، ولم تبق منهما إلا هذه الدلالة المبهمة على آحاد الناس: المرء مفرد الناس، والمرأة مفرد النسوة، لا يدلك على أصل ما كانا عليه إلا هذا المصدر منهما: المروءة. وأما لماذا أماتت الآرامية لفظة «راب» بمعنى السيد الرب، واستعاضت عنها بلفظة «ماري» (وأيضًا «مار» بدون ياء) بمعنى الرب والسيد، فلأنها – أي الآرامية – أماتت «راب» بمعنى الرب، واستبقت منها معنى «الربو» أي الكبر والزيادة، فآلت «راب» في الآرامية إلى معنى كبير أو عظيم، ومنها «ربربان» الآرامية بمعنى الكبراء الأكابر، ومن هنا لم تعد «راب» الآرامية صالحة للاستعمال بمعنى السيد الرب، لا في [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/251] حق البشر، ولا في حق الله عز وجل من باب أولى. وقد خصصت الآرامية لفظة «ماري» (المختومة بالياء) لله عز وجل بمعنى «الرب» لا تقال في غيره، وأفردت «مار» بدون الياء للسادة من البشر، ومن هذا: مار مرقس، يعني السيد مرقس، والمؤنث منه «مرت» بتاء التأنيث الآرامية، إن أضفت في آخره ألف المد التي هي أداة التعريف الآرامية كما مر بك، أصبحت Martha مرتا، وهي بضم الميم أفصح آراميًا) العلم الشائع في نساء المسيحيات، ومعناه الحرفي من الآرامية هو «السيدة». وربما ظن من لا يعرفون معنى الاسم «مريم» أنه من هذا، فيفهم من «السيدة مريم» أن «السيدة» هنا ترجمة لاسمها عليها السلام، والصحيح أنه أضيف إلى اسمها على التوقير والتبجيل لمقام تلك التي قال فيها عز وجل: {يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين} [آل عمران: 42]. على أن الآرامية – شأنها شأن العبرية – تستعمل لفظة «آب» (الأب المعروف) في الإشارة إلى الله عز وجل – تلك التي ضل بها كثيرون ممن لا يفقهون مجاز اللغات السامية – ولكن الآرامية – لغة المسيح عليه السلام مع عشيرته وحوارييه – تختم اللفظ بألف المد على التعريف، فتؤول إلى «أبا»، أي الأب بمعنى الرب لا بمعنى الوالد الذي ولد. وتجوز أيضًا على النداء والمناجاة: ربي لا يا أبي. أما أن «الآب»، «الأب»، معناها «الرب» في الآرامية والعبرية، فدليلك الدامغ فيه باختصار – وقطعًا للطريق على من قد يتعجلون فيتورطون في نقد مقولاتنا اللغوية في هذا الكتاب – هو ذلك العلم العبراني «أبياهو» بن رحبعام بن سليمان بن داود، الذي سبق مولده مولد المسيح بسبعة قرون على الأقل، وهو اسم مركب من شقين «أبي + يهوا» (يهوا هو اسم الله في العبرية من بعد موسى كما مر بك)، لا يصح أن تتصور ولو للحظة أن معنى الاسم الذي سماه به رحبعام بن سليمان بن داود هو «الله أبي» أعني أبي الذي ولدني، إذن لذبحه اليهود فور هذه التسمية على مرأى من أبيه، إن لم يذبحوا أباه معه، وإنما فهم اليهود وأراد رحبعام الأب بمعنى الرب في مصطلحهم، فالمعنى هو «الله ربي»، لا «الله والدي» كما يفهمها علماء أهل الكتاب الذين لا يفقهون مجاز الساميات. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/252] أما الدليل الثاني فهو قولُ المسيح عليه السلام في الأناجيل التي بين يديك: «إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم» (يوحنا 20/ 17) يرادف الأولى بالثانية، أي أن أبي وأباكم هو إلهي وإلهكم، لا يريد بالطبع إني أصعد إلى والدي ووالدكم الذي هو إلهي وإلهكم، وإنما أراد إني أصعد إلى ربي وربكم الذي هو إلهي وإلهكم، كلانا مربوب لله عز وجل، والمأبو آراميًا وعبريًا يعني المربوب عربيًا. لا تصح «الأب» عربيًا بمعنى «الرب»، وإنما اضطرت الآرامية والعبرية إلى هذا المجاز لاستنفادهما لفظة «راب» في معاني أخرى ليس منها «الرب» الإله، وهي معنى الكبير، الرئيس، لإمام، المعلم المربي. أما العربية فهي لا تحتاج إلى هذا المجاز المؤذن بالخلط والتخليط، وإنما تقول ربي، حين تريد «إلهي»، وتقول أبي، تعني «والدي الذي ولدني». وقد فهم القرآن المعجز مراد المسيح من قوله بالآرامية «أبي وأبوهم» فلم يقل على لسان المسيح «أبي وأبوكم» على الترجمة الببغائية، وإنما قال عز وجل على لسان عبده ورسوله عيسى ابن مريم في خطاب قومه: {وأن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [مريم: 36]، أي أن مربوبية المسيح والبشر جميعًا لله عز وجل الواحد الأحد هي الصراط المستقيم، لا صراط غيره. عليك إذن كلما قرأت في الأناجيل لفظة «آب»، «أب»، حين تعرف بالألف واللام، أو حين تضاف إلى المسيح: «أبي» - وأنت تعلم مسيحيًا كنت أو مسلمًا أن المسيح غير ذي أب – أن المراد منها هو «الرب»، «ربي»، فتفهم منها ما أراده المسيح على وجه القطع واليقين، لا ما فهمه الذين ألهوا المسيح على البنوة لله عز وجل في مجمع نيقيه عام 325م فبنواص رح مقولتهم في المسيح على خطأ لغوي بين، لا يصح من عالم فقيه. كان عذر الحواريين الذين كتبوا هذه الأناجيل أو كتبت عنهم باليونانية، هو ظنهم أن «الأب» تصح بمعنى «الرب» في كل اللغات، لا في الآرامية والعبرية وحدهما، ووحدهما فقط، فكتبوها باليونانية Pater (نظير Father الإنجليزية بمعنى الوالد الذي ولد)، وعن هذه الأناجيل نقلت كل الترجمات. ولكن يشاء ربك لهذه الكلمة اليونانية الأصل Pater (يعني الأب) ونظائرها في كل اللغات أن تكتسب بمحض الاستعمال على لسان المسيحي في بقاع الأرض – أيًا كانت لغته – كل معاني القداسة الواجبة لله عز وجل وحده تقرؤها في وجه هذا المسيحي وهوي قرأ في صلاته: [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/253] «أبانا الذي في السموات»، فتقطع بأنه لا يريد بها «أبانا الذي ولدنا» ولا «أبا المسيح الذي في السموات»، وإنما هو يمثل أمامك في صلاته رجلاً آراميًا – عبرانيًا يريد بها ما كان يريده الرجل الآرامي – العبراني في زمن المسيح: الأب = الرب، لا إله غيره. وإذا كانت «الأب» تعني في حق الله عز وجل آراميًا وعبريًا – لسان المسيح عليه السلام ولسان قومه – الرب الإله فقط لا غير، لا الأب الوالد، فكيف جاز فهمها في المسيح وحده على معنى «أبوة» الله إياه؟ كيف يجيء المسيح بلفظة الأب فيما ترويه الأناجيل من قوله: «وأما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك، لكي لا تظهر للناس صائما بل لأبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية» (متى 6/ 17- 18) فلا يفهم السامع «المابو» من لفظة «أبيك» في هذا الكلام إلا معنى «الرب»، أما إن سمعها من المسيح يناجي بها ربه: «أيها الآب، نجني من هذا الساعة!» (يوحنا 12/ 7) فهذا السامع يفهم منها في حق المسيح وحده لا الرب، وإنما الأب الوالد؟ لم يكن هذا بالطبع هو موقف كتبة الأناجيل اليونانية التي بين يديك ترجماتها، وإلا لأوقعت كتبتها في التناقض، ولكنه كان موقف الذين استعانوا بهذه الأناجيل اليونانية في تأليه المسيح على «البنوة» لله عز وجل في مجمع نيقية عام 325م، بعد رفع المسيح بنحو ثلاثة قرون. نعم، قد أجرى الله على يد المسيح معجزات تنقطع دونها رقاب البشر، كان أبرزها إحياء الميت. ولكن «اليشع» الذي في العهد القديم سبقه بمثلها، ولم يؤله اليهود اليشع لأنهم علموا أن «الفاعل» في هذا الإحياء هو الله عز وجل لا نبيه اليشع. ورفع الله المسيح إليه جسدًا حيًا لم يَمُت، ولكن «إيليا» الذي في العهد القديم سبق المسيح بمثلها، ولم يؤله اليهود إيليا لأنهم يؤلهون «الرافع» لا المرفوع. ولو قد اقتصرت معجزات المسيح على أمثال لها في العهد القديم لما كانت ثمة حجة البتة شبهة ألوهيته. ولكن المسيح عليه السلام انفرد من دون الخلق جميعًا بمعجزة غير مسبوقة، هي ولادته لأم بغير أب، فشبه لمن شبه له أنها البنوة لله، وجاءت دعوى [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/254] الألوهية ترتيبًا على هذه البنوة المدعاة، ولم يفطنوا إلى أن الله عز وجل الذي يخلق ما يشاء ويختار، أي يخلقُ ما يشاء على الوجه الذي أراد، إنما أرادها آية للناس، وهو على أمثالها قادر في كل حين. وقد عجبت مريم عليها السلام حين جاءها جبريل بالنبأ، فذكرها جبريل بإعجاز الله في حمل خالتها بيحيى من قبل وقال: «لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله» (لوقا 1/ 37). فهمت مريم أن الله هو خالق هذا الجنين الذي في بطنها، فلم تؤله المولود الذي ولدته. إنها معجزة من الله عز وجل يضربها آية للناس الذين يمرون على آيات الله عميانا، فما الخلق من الأب والأم معًا بأهون في إعجاز الخلق من ولادة عيسى بغير أب، ولكنه خرق العادة والإلف، كي يلتفت الناس إلى إعجاز العادة والإلف. ولا فضل في هذه المعجزة لجبريل أو المسيح، حتى تتأصل عليها ألوهية المسيح وجبريل، أو حتى يتميز أي منهما بميزة ترفعه عن أصل طبيعته وكينونته: جبريل ملك من ملائكة الله، والمسيح بشر ممن خلق. والذي لا يلتفت إليه كثيرون أن هذه المعجزة، قبل أن تكون معجزة في المسيح، هي معجزة في مريم نفسها الوالدة العذراء لم يمسسها بشر، اجتمع فيها للمسيح الأب والأم معًا، فهي صنو المسيح في الآية والمعجزة: {وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} [المؤمنون: 50]. قال عز جل في خطاب مريم على لسان جبريل يسكن من روعها ويقطع عليها عجبها لقضاء قضاه الله: {قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرًا مقضيا} [مريم: 21]. وقالت مريم لجبريل: «هو ذا أنا أمة الرب، ليكن لي كقولك» (لوقا 1/ 38). كانت مريم عليها السلام اسمًا على مسمى، المصدقة بكلمات ربها، المذعنة لقضائه فيها: إنها مريم، أمة الرب، ماري + أما. وقد علم مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 36 من سورة آل عمران) معنى هذا الاسم «مريم»، فقالوا إن معناه «خادم الرب» بلغة قومها، وخادم الرب هي نفسها أمة الرب. وهم لم يعلموا هذا من حديث أو سنة، فليس في صحيح [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/255] الحديث من هذا شيء، وإنما علموه من رواتهم من أهل الكتاب، النصارى لا اليهود، السريان لا العبرانيين، لأن هذا الاسم «مريم» لا يصح تفسيره من العبرية بمعنى خادم الرب أو أمة الرب، لأن «ماري» بمعنى الرب ليست عبرانية، وإنما هي آرامية بحت (والآرامية هي السريانية لغة هؤلاء النصارى السريان)، والعبرانيون لا يفسرون بها اسم «مريام» أخت موسى وهرون، وإنما يقولون كما مر بك أن «مريام» أخت موسى وهرون من المراء والمرية، فتقطع بأن هذين الاسمين ليسا واحدا، وأن القرآن لا يخلط من ثم بين «مريم» أم عيسى وبين «مريام» أخت موسى وهرون كما وهم أدعياء الاستشراق المتطفلون على مباحث اللغة. والذي تأخذه على الترجمة العربية لأسفار العهد القديم التي بين يديك هو أنها ترسم الاسم «مريام» أخت موسى وهرون بالرسم «مريم» فيظن القارئ، كما ظن أدعياء الاستشراق من قبل، أنها سمية «مريم» أم عيسى، وهو خطأ محض لا تقع فيه الترجمات الإنجليزية مثلاً التي ترسم اسم أخت موسى وهرون Miriam أي «مريام»، بينما يرسم بالإنجليزية اسم والدة عيسى عليهما السلام Mary «ماري»، لا شبهة خلط بينهما. وأما لماذا لم يلتفت أدعياء الاستشراق إلى معنى اسم «مريم» أم عيسى عليهما السلام الذي قاله مفسرو القرآن نقلاً عن رواتهم السريان – وهو قاطع في آرامية الاسم مانع من عبرانيته – فيتعلموا من هذه التفاسير علم ما جهلوه أو خلطوا فيه من مثل خلطهم بين «مريم»، «مريام»، فذلك لأن آرامية الاسم «مريم» وعبرانية الاسم «مريام» وبعد ما بين معنييهما من ثم، دليل على فساد مقولتهم في خلط القرآن بين مريم أم عيسى وبين مريام أخت موسى وهرون، ولأن صاحب الهوى الأحمق يبصر الحق ولا يراه، بل يشاء له نحسه ألا يتصيد من تلك التفاسير إلا أخطاء وقع فيها المفسرون أو دلست عليهم، من مثل قولهم بعجمة فردوس وعدن وجهنم وإبليس والصراط وقسطاس – وقد مر بك – يتصديها من تلك التفاسير وينسبها لنفسه فرحًا فخورًا ثم يختال بها على قرائه وتلاميذه المبهورين بعلمه، الذين ائتمنوه أن قد حقق وتثبت، فينقلون عنه أمثال أن القرآن نحت «قسطاس» من «جستيس Justice لا من «قسط» العربية، فتعذرهم بجهلهم أن هذه اللفظة اللاتينية المدعاة Iustas تنطق «يوستس» بالياء لا بالجيم، وأن الياء اللاتينية في هذه وأمثالها لم تتحور إلى الجيم في [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/256] الإنجليزية والفرنسية والإيطالية (دون غيرها من اللغات الأوروبية) إلا بعد نزول القرآن بقرون، وأن لفظة «قسط» أقدم في الساميات من مولد اللاتينية نفسها. أما النحس الأكبر الذي وقع فيه هؤلاء المستشرقون – لم يتصيدوه من تفاسير القرآن وإنما استأثروا بشرف الوقوع عليه – فهو قولهم إن القرآن سمى مريم أم عيسى أختًا لموسى وهرون، بقوله على لسان قومها: يا أخت هرون، فاخطأ القرآن وخلط! فتقطع بأنهم وهم أهل كتاب لم يقرءوا في (إنجيل لوقا 1/ 5) قوله إن اليصابات أم يحيى خالة مريم أم عيسى كانت «من بنات هرون»، لا يعني بالطبع أن اليصابات كانت ابنة أخي موسى وبينهما ثلاثة عشر قرنًا كما وهموا أن القرآن قد فعل، وإنما يعني أن اليصابات خالة مريم كانت «هارونية» من سبط هرون أصحاب الكهانة والسدانة في بني إسرائيل من بعد موسى، يعني «لاوية» خادم معبد، كالذي كانته مريم أم عيسى عليه السلام، أو تقطع بأن هؤلاء المستشرقين الذين ولدوا في اليهودية أو النصرانية لا يعلمون شيئًا من اللغة العبرية التي يتصدون للكلام في أعلامها، أو لا يعلمون شيئًا من مواضعات اليهود ومصطلحاتهم كالذي علمه القرآن بقوله في مريم: يا أخت هرون! أو تقطع أخيرًا بأنهم علموا هذا وذاك ولكنهم تعمدوا التدليس عليك، حسدًا من عند أنفسهم. صحيح أن مفسري القرآن لم يصيبوا في فهم مدلول «أخت هرون» لأنهم لم يعلموا مدلولها في مواضعات اليهود ومصطلحاتهم، وجهله أيضًا رواتهم من أهل الكتاب أو تكتموه عليهم، ولكن مفسري القرآن لم يخوضوا في علم ما لم يعلموه، واكتفوا بأنها «صنو هرون في الصلاح»، ولكن ما عذر أولئك المستشرقين الأدعياء المتطفلين على مباحث اللغة وهم يهودُ أو نصارى؟ الراجح عندي – عن كان هؤلاء المستشرقين أبرياء بجهلهم – أن الذي جرهم إلى هذا هو اشتباه «مريم» عليهم بمريام، ولم يتثبتوا، واشتباه «عمران» عليهم – التي في القرآن – بعمرام أبي موسى ومريام في التوراة، فتأدوا من هذين إلى خطأ ثالث هو أن القرآن بقوله: أخت هرون، يخلط بين «مريامين»، لا بين «مريم»، «مريام». [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/257] ولو قد كانت لدى هؤلاء المستشرقين وتلاميذهم ذرة من تؤدة العالم وأناته، أو قل لو كانت لديهم مسحة من إنصاف العالم المدقق الذي يدعونه، لسجلوا للقرآن بقوله: يا أخت هرون، إعجازًا فوق إعجاز. لم يعلم القرآن فقط مدلول «أخت هرون» في مواضعات اليهود ومصطلحاتهم، أي «الهارونية» اللاوية، «خادم الهيكل» الذي كانته أمة الرب، مريم ابنة عمران، أم عيسى صلوات الله عليه، وهذا بذاته إعجاز، ولكن القرآن المعجز بواسع علمه يجانس بأخت هرون هذه على «مريم»، أمة الرب آراميًا، فيفسر بها هذا العلم الأعجمي بالمرادف القريب من معناه في قوله عز وجل: {قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هرون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا} [مريم: 27 – 28]، أي يا من اسمك أمة الرب، يا من أنت أخت هرون ساكنة المحراب، يا ابنة عمران وامرأة عمران العامر العابد، كيف فعلت ما فعلت؟ انظر معي إلى تصاعد التقريع في هذا النسق القرآني المعجز الذي لا يستطيعه إلا قائله عز وزجل، واعجب معي للمتطاولين على هذا العلم المحيط. فسر القرآن على منهجنا في هذا الكتاب الاسم الآرامي «مريم» - يعني أمة الرب – تفسيرًا مباشرًا بالمرادف اللصيق في قوله عز وجل: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} [آل عمران: 43]، وقوله أيضًا في مريم: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} [التحريم: 12]، ومعنى «قنت» في اللغة العربية هو «ذل له وخضع وانقاد» فهو العبد: قال عز وجل متحدثًا عن ذاته {وله من في السموات والأرض كل له قانتون} [الروم: 26] أي كل له منقاد ذلول وإن جحد وبطر. وقال عز وجل في خطاب أمهات المؤمنين: {ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين} [الأحزاب: 31] أي من تخضع لأمر الله ورسوله مهما شق وعظم. ووصف بها إبراهيم في البلاء المبين، يفعل ما يؤمر وإن كان ذبح إسماعيل: {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله} [النحل: 120]، وليس بعد هذا عبد قانت. وإنما استعير القنوت في التعبد لأن [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/258] الإقرار بالعبودية هو لب العبادات جميعًا. وليس في الأمثلة التي سقتها لك من القرآن مثل واحد يفهم فيه القنوت بمعنى «القنوت في الصلاة» أي العبادة، وإنما هو العبودية على معنى الطاعة والخضوع والانقياد. وهل كانت مريم «أمَةَ الرب» إلا هذا يوم بشِّرت بالمسيح فحملت به؟ رضيت بالتهمة والظنة وهي أطهرُ عذراء لأن المولى هكذا شاء وقدر. قد علمت أنها أمَةُ الرب، لا تملك من أمر نفسها شيئًا. قالت لجبريل أنا أمَةُ الرب، ليكن لي كقولك. فلما أجاءها المخاض إلى جذع النخلة توجعت كما يتوجع النساء، بل أكثر مما يتوجع النساء، وهي تلد ابنها وحيدة منزوية عن أهلها تتكتم أمرها خشية ألسنة الناس، عالمة أنها ما أن تنتهي أوجاع الولادة وتضع حملها حتى تنفجر التهمة الظالمة فتقتحمها أعين الناس وتقرعها ألسنة السوء، أو يرجموها بناموس التوراة. وإن كانت هي وابنها آية للناس: {فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا} [مريم: 23 -26]. هنا قرت عين مريم: ها هو جدول رقراق يجري ماؤه تحت قدميها ولم يك ثمة جدول. وهذا الجذع الأجوف الذي ألجأها المخاض إليه، ها هو يهتز ويربو وقد حيت النخلة، ما أن تضمه إليها حتى يتساقط جناه. قد علمت مريم من قبل أن الله يأتيها برزقها في كل حين: {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أني لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} [آل عمران: 37]. ولكن هل تدرك أنت كم هي فرحة أم بمولود لها تضعه فيكلمها في قماطه؟ لا يناغيها وتناغيه فيسرى عنها، ولا يناجيها فيذهب همها، ولا يبكي كما يبكي الرضيع، ولكنه ينطق ليطمئنها أنه هو الذي سيحمل عنها عبء مواجهة الناس يوم تأتي به قومها تحمله: {فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/259] أبعث حيا} [مريم: 30 – 33]، بدأ بأنه عبد الله، يعظ بها من سيغالون في تعظيمه، وقال برًا بوالدتي، ولم يقل برًا بوالدي كما قيل عن يحيى في نفس السورة قبله، يخرس بها من سيفترون عليها البهتان. هنا خرست ألسنة السوء أمام المعجزة الكبرى. هذه الآيات من سورة مريم إعجازٌ في أنباء القرآن لا يعدله إعجاز، ولكنها فاتت على كتبة الأناجيل فلم يسجلوها، لأنهم اكتفوا بشهادة المجوس الذين جاءوا ليسجدوا للمسيح في المذود، ويقدموا له ولأمه هدايا ذهبًا ولبانًا ومُرًا، بين جُوق من الملائكة يسبح ويهلل، وترانيم يصدح بها رعاة تصادف وجودهم، لا تدري من أين جاءوا، ولا من أوحى لهم بأن المولود مسيح من الله. كل هذا لا يفسر لك لماذا سكت قوم مريم على مريم يوم أتتهم برضيعها تحمله، ولماذا لم ينبسوا في مواجهة هذه الفضيحة ببنت شفة؟ نعم، قد قال لوقا في إنجيليه (لوقا 2/ 8- 19) إن ملكًا ظهر للرعاة، كما قال متى في إنجيليه (متى 2/1- 2) إن نجمًا ظهر للمجوس، ولكن من سيصدق الرعاة أو يصدق المجوس؟ وقالت الأناجيل أيضًا (متى 1/18- 24) إنه لما بدت أعراض الحمل على مريم فكر خطيبها يوسف النجار في تخليتها سرًا، لولا أن تراءى له ملك الرب في حلم فبرأ مريم، وصدق يوسف بالرؤيا وضم مريم إلى كنفه، ولكن من سيصدق يوسف؟ الأحرى أن يتهموه. بل هذا هو الذي يقصه عليك لوقا بالنص: «ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة وهو على ما يظن ابن يوسف بن هالي ... إلخ» (لوقا: 3/ 22)، يدعم بها نسب المسيح إلى داود عبر يوسف النجار الذي من نسل داود، هذا النسب الذي أنكره المسيح من بعد، وما كانت به إلى هذا النسب من حاجة، فلا أبَ للمسيح إلا أمه مريم ابنة عمران، ليس هو من نسل داود وليس من سبط يهوذا، بل هو من سبط والدته، وجده عمران، سبط لاوي، وكذبت نبوءة كاتب سفر التكوين على لسان يعقوب في اختصاص سبط يهوذا بالنبوة والملك، فكان أول ملوك بني إسرائيل شاؤول (طالوت) الذي من سبط بنيامين، وكذبت نبوءته أيضًا في ترذيل سبط لاوي، فكرم الله هذا السبط الذي جاء منه موسى وهرون، وختم خير ختام بالمسيح ابن مريم، صلوات الله وسلامه على جميع رسله وأنبيائه. تورط إذن متى ولوقا في استمساكهما بتأصيل نسب المسيح إلى داود استنادًا إلى هذا الخيط الواهي عبر يوسف النجار خطيب مريم. وليس في عبارة لوقا: «وهو – أي المسيح – فيما [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/260] يظن ابن يوسف ابن هالي ... إلخ» إلا تفنيد هذا النسب في واقع الأمر، فما بالك بتكذيبه على لسان المسيح نفسه في الأناجيل؟ هذا التعلق بالنسب إلى داود يشوش على عذرية مولد المسيح صلوات الله عليه – وإن يكن من متى ولوقا بالطبع غير مقصود. ولكنهي سجل لك ظن الناس ظن السوء بمريم وابنها عليهما السلام منذ مولده وقبل مبعثه صلوات الله عليه، فلماذا سكتوا على مريم ويوسف؟ الراجح عندي لا يصح غيره أن خطبة مريم ليوسف ما كانت لتحدث قبل حملها الإعجازي بالمسيح، لقول القرآن فيها: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا} [التحريم: 12] وإحصان الفرج هنا كناية عن التبتل والانقطاع لعبادة الله لا زوج ولا ولد، وما كان لبتول أن تقبل خطبة الرجال، لا يوسف النجار ولا غيره. وإنما خطبها يوسف – خلافًا لقول الأناجيل – بعد حملها، وربما بعد ولادتها. مصدقًا مؤمنًا بالآية والمعجزة، لتكون مريم وابنها في كنفه ورعايته لا غير، فهو أبٌ بالتبني فحسب إن جاز التعبير. أما لماذا خرست ألسنة السوء عن مريم وابنها يوم أتت به قومها تحمله، فلم تزن بريبة، ولم يتعرض لهما الكتبة والفريسيون بسوء، منذ مولد المسيح وحتى مبعثه، فلا مبرر لهذا من العقل والمنطق وأخلاق اليهود وناموسهم، إلا هذه المعجزة الكبرى التي سجلها القرآن العظيم وفاتت على كتبة الأناجيل فلم يعنوا بتسجيلها، أعني كلام المسيح في المهد، ينطق وهو الرضيع بالبراءة القاطعة لوالدته عليها السلام، فتنقلب التهمة إلى شرف أي شرف، إعجاز الله فيها وفيه، وينقلب الغمز واللمز والتجريح إلى تسبيح وتهليل، وتتناقل الألسنة حديث الطفل المعجز من سيكون. ولكن الذي نطقت الملائكة بلسانه وهو في المهد فصيحًا بليغًا، يصمت من بعد حتى تأتي سنه لينطق كما ينطق الطفل. وتمضي به الأيام وينسى ما كان كما يُنسى كل شيء بعد حين، إلا منه هو نفسه ومن خاصته وأهل بيته، وإلا من والدته عليها السلام التي أنبئت يوم حملها به أن الله جاعله آية لبني إسرائيل. والذي ينبغي التنبيه إليه أن القرآن العظيم لا ينعي على اليهود قولهم البهتان في مريم عليها السلام، وإنما هو يكفرهم بهذا القول: {فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا وبكفرهم وقولهم على [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/261] مريم بهتانا عظيما} [النساء: 155 – 156]. وإنما قال اليهود هذا البهتان على مريم بعد مبعث المسيح لا قبله، قاله منهم مكذبوه وشانئوه وطالبو دمه، يطعنون في نسبه طعنًا في نبوته، لعنوا بما قالوا. ولكن الله عز وجل ما كان ليكفر قائلي هذا البهتان على مريم – وهو لا يتجاوز القذف – لمجرد قولهم هذا، وإنما كفرهم الله عز وجل لأنهم شهدوا الآية المعجزة، ثم كفروا بما شهدوا وعاينوا. لم يكن مولد المسيح الإعجازي سرًا بين مريم وابنها، أو بين مريم ويوسف، أو بين مريم وخاصة بيتها، أو بين مريم وبين نبي الله زكريا أبي يحيى كافلها وراعيها، الشاهد لها بالرزق يأتيها به الملائكة في المحراب، وإنما استعلن الله بهذه الآية لبني قومها جميعًا {ولنجعله آية للناس} على لسان هذا المتكلم في المهد الذي نطق بنسبه الصحيح: «وبرًا بوالدتي»، ليس له والد غيرها. سمع الناس منه هذا وشهدوا وعاينوا، وما كان لهم بعد هذه الآية إلا أن يؤمنوا بما شهدوا وعاينوا. ولكنهم كفروا بها. ومن يكفر بآيات الله فقد كفر بالله عز وجل. هذا القرآن ينطق بالحق ويهدي للتي هي أقوم، فما ضرهم لو آمنوا به مصدقًا لما معهم، حفيظًا عليه، محققًا مهيمنًا؟ ولكن ليس عليك هداهم، بل يهدي الله لنوره من يشاء، حين يشاء، وهو أعلم بالمهتدين. أما أنت أيتها الصديقة مريم، أمَةُ الرب، فعليك صلوات الله وسلامه مع النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيق)ا. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 251-262] |
(56) عيسى:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (56) عيسى «عيسى» هو الاسم المسمى به المسيح عليه السلام في القرآن، بينما هو في أصول الأناجيل اليونانية يجيء على Iesou (يِسُو) تضاف إليه السين في حالة الرفع وتضاف إليه النون في حالة النصب فيصبح Iesous أو Iesoun (يِسُوس أو يِسُون). والمجمعُ عليه أنه من العبرية «يشوع». ذهبت عينها الخاتمة عند اليونان وانقلبت شينُها سينًا. ومن «يشوع» العبرية هذه جاء الرسم «يسوع» بالسين الذي تقرؤه اسمًا للمسيح في الترجمات العربية للأناجيل اليونانية الأصل، استئناسا بأن الشين تنقلب إلى سين في العربية، غالبًا، وهذا صحيح بالنسبة إلى الاسم العبري «يشوع» بالذات لأنه من المادة العبرية «يشع» التي تكافئ «وسع» العربية. والمحقق الثابت أن العرب لم يسمعوا من نصرانييهم هذا الاسم عيسى الذي جاء به القرآن، وإنما سمعوها منهم «يسوع» بالسين على اللفظ الذي ينطق به نصارى السريان تحولاً عن الشين التي في «يشوع» العبرانية إلى السين التي في Iesous اليونانية في أصول الأناجيل. أما لماذا قال القرآن «عيسى» ولم يقل «يسوع» التي عرفها العرب اسمًا للمسيح، فهذا من فرائد إعجاز القرآن في أعلامه الأعجمية: لو قالها «يسوع» على ما شاعت به، لفهمها العرب من العربية على معنى «الذي ساع» من ساع يسوع سوعًا، يعني ضاع وهلك، ولم يهلك المسيح على الصيب كما يؤمن الذين شبه لهم، فما قتلوه وما صلبوه، بل توفاه الله رافعًا إياه إليه، أي توفاه بأن رفعه إليه، سليمًا معُعافى لم تهلك منه شعرة، ولم يخدش منه ظفر، جسدًا حيًا ولم يزل، لا يموت إلا والساعة قريب، فهو من أعلام الساعة وأشراطها، ينزل في الناس بالحق الذي جاء به القرآن فيه ويصحح مقولة الذين شبه لهم، ثم يموت على دين خاتم النبيين كما مات الرسل من قبله ليبعث معهم يوم يقوم الأشهاد: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا} [النساء: 159]. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/263] وليس في أصل معنى «التوفي» في اللغة هو الإماتة، كما يخطئ مفسرون، وإنما «التوفي» في أصل معناه، بل وفي معناه القرآني بالذات، هو «الاستيفاء»، أي «الاستخلاص» كاملاً غير منقوص، تقول منه: وفيته حقه، وتوفي هو حقه، يعني أخذه كاملاً، ومن هذه قوله عز وجل: {وإنما توفون أجوركم يوم القيامة} [آل عمران: 185]. ومنه أيضًا: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} [الزمر: 42]. وإنما جاز «التوفي» بمعنى الإماتة لأن الموت مترتب عليه، أعني الذي مات إنما مات لأن الله «توفى» نفسه أي قبضها إليه، أي استخلصها من هذا الجسد. والذي في المسيح ليس من هذا، وإنما هو في المسيح على أصل معناه: التوفي بمعنى الاستخلاص كاملاً غير منقوص، دليلك في هذا قوله عز وجل: {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي} [آل عمران: 55]، لو فهمتها بمعنى «إني مميتك ورافعك إلي» لما كان لكلامك معنى، فالله لا يرفع إليه جسدًا ميتًا، وهو أيضًا لا يرفع إليه نفسًا أميت جسدها بالتوفي، أي بتوفي النفس، وإنما هو يقبض الأنفس ولا يرفعها. وحتى إن سوغت لك نفسك هذا الفهم السقيم فقلت أن «الرفع» هاهنا بمعنى «القبض» فقد أمات الله إذن المسيح على هذه الأرض وقبض نفسه كما يقبض الله الأنفس، فماذا يبقى لديك من معنى الآية، وقد تقدمها مباشرة قول الله عز وجل: {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين} [آل عمران: 54] أي أرادوا صلبه وأراد الله بالمسيح شيئًا آخر؟ أفيصح أن يكون هذا الشيء الآخر هو أن يميت الله عيسى كيلا ينالوه حيًا، وكأن المعنى لم يقتلوه ولم يصلبوه وإنما أمتناه نحن بأيدينا لا بأيديهم؟ فما الإعجاز في هذا؟ أفي هذا إنجاء وتخليص؟ وما قيمة هذا في جنب مكر الله عز وجل وتدبيره وهو «خير الماكرين»، هذا هراء بالطبع لا يصح أن تقع فيه إن وقعت على مثله. وخلاصة قول المفسرين في هذا (راجع تفسير القرطبي للآية 55 من سورة آل عمران) أن المسيح عليه السلام رفع بجسده ونفسه معًا، أي رفع جسدًا حيًا، وأنه لم يزل كذلك، إلى أن يهبطه الله إلى الأرض ليموت عليها كما مات الأنبياء وكما يموت البشر وكل ذي نفس، لأن كل نفس ذائقة الموت كما أخبر القرآن. أما قولهم في التوفي ففريق على أنه بمعنى القبض، أي إني قابضك إلي ورافعك إلي، وكأن الرفع هو التوفي. وهذا من الحشو الذي لا يضيف جديدًا، فأنا وأنت ننزه القرآن عنه. أما الفريق الآخر الذي يصر على أن التوفي بمعنى الإماتة، فهو يقول أن في الآية تقديمًا وتأخيرًا، أي إني رافعك إلي [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/264] ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد ذلك، أي حين يعيده إلى الأرض مرة أخرى ليشهد على الذين خاضوا في عبده ورسوله. وليس هذا أيضًا – أي التقديم والتأخير – بمقبول، لأنه يعكس ترتيب الأحداث منذ الرفع إلى التوفي وبينهما فجوة اتسعت حتى يومنا هذا لحوالي عشرين قرنًا من الزمان والله أعلم متى تلتئم الفجوة، ولا يصح في هذا تقديم وتأخير، وإنما هو خلط وتخليط ننزه أنا وأنت القرآن عنهما: لا حيلة لمن أراد التوفي في الآية بمعنى الإماتة إلا أن يسلم بخطئه، إن وقع التوفي بمعنى الموت أولاً على الترتيب الذي جاء به القرآن، فقد امتنع الرفع والتطهير، وإن افترض فيه تقديمًا يراد به التأخير، أي أراد معكوس الترتيب الذي في القرآن، فلا يصح له هذا إلا بافتعال لا يليق بجلال القرآن. على أن هناك من قال كما نقول نحن أن التوفي في الآية هو بمعنى الاستيفاء على أصل معناه، ولكنه لم يوفق إلى استجلاء مراد القرآن من هذا الاستيفاء: قال إن الله عز وجل وقد رفع عيسى إليه حيًا لم يمت، إنما استوفى عمره في الدنيا، أي استكمله له، أي استوفى حياته على الأرض بين الناس. ولا يصح هذا من وجهين، الأول أن المسيح المرفوع لم يستكمل حياته على الأرض، بل سيعود إليها ليستوفي ما بقي له من عمره. والوجه الثاني أن هذا القول لا يصح في اللغة، لأن المفعول في «متوفيك» هو المسيح نفسه، لا عمر المسيح ولا حياته، فالمستوفي (بفتح الفاء) الذي استوفاه الله هو المسيح لا عمر المسيح، واستيفاء المسيح يعني استخلاصه مما أرادوه به، أي القتل والصلب، فهو الإنجاء والتخليص، الذي فسره القرآن المعجز بقوله عقيب هذا مباشرة: {ومطهرك من الذين كفروا} أي أسلك منهم كما يسل الحق من الباطل، وكما ينفض الوسخ عن الثوب. وقد ظن المفسرون – ولم يوفقوا – أن التطهير في الآية يعني إبراؤه من ذنب ما قالوه فيه، إله أو ابن إله، ولا يصح هذا أيضًا لأن قالة هذه المقالة ما كانوا قد ولدوا بعد، بل حتى إن سلمت كما يؤمن النصارى بأنهم قالوها وهو بين ظهرانيهم فما كانوا هم الذين طلبوا قتله على الصليب. أما الذي لم يعلمه المفسرون جميعًا فهو أن القرآن المعجز يفسر بالتوفي، أي الاستنقاذ والتخليص، هذا الاسم العَلَم «عيسى» («يِشُوع» عبريًا) كما سترى، وسبحان العليم الخبير. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/265] ينص القرآن على أن الله هو الذي سمى المسيح ابن مريم، لا والدته وذووه: {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين} [آل عمران: 54]، كما سمى الله يحيى من قبل لأبيه. والذي تلاحظه من هذه الآية في سورة آل عمران أن القرآن لا يسميه بالاسم عيسى فحسب، وإنما يلقبه أيضًا بهذا اللقب الذي غلب عليه من بعد: «المسيح». وهو لا يسميه ويلقبه فحسب، وإنما هو أيضًا ينسبه: «ابن مريم»، إن أردت أن تدعوه بأبيه فلا أب له غيرها. أما اللقب، «المسيح» (مَشيح عبريًا)، فمعناهُ في مصطلح اليهود الممسوحُ، يريدون الذي مسح بدهن البركة (زيت الزيتون)، أي الذي صب الدهن على رأسه، ملكًا كان أو كاهنًا أو نبيًا، فيصير بهذه المسحة «قديسا»، يعني صديقا في لغة أهل القرآن وإن لغط بعض أهله في هذا العصر بالقديس والقديسين متابعة لأهل الكتاب الذين يقرءون لهم ولا قداسة ثم، وإنما هي الصديقية لا غير. وقد كانت هذه المسحة طقسًا من طقوس اليهود في كهنوتهم، يرسم بها الكاهن كاهنًا مثله، أو يرسم بها نبيًا «اعتمد» الكهنوت نبوته، أو يرسم بها الكاهن أو النبي ملكًا نصبوه على بني إسرائيل، أو يرسم النبي نبيًا يخلفه في النبوة، فهي الرسامة، أي التنصيب في الكهانة أو الملك أو النبوة. وقد آل اللفظ في مجاز العبرية إلى معنى «الصديق» وإن لم يرسمه كاهن أو نبي، فهو المبارك. ومسحاء الرب، يعني أولياؤه ومباركوه. «المسيح» إذن عربية بلفظها فقط، ولكنها أعجمية بمعناها، رغم التقارب اللفظي الشديد بين «مسيح» العربية وبين «مَشيح» العبرية – الآرامية، لغة المسيح ولغة أهله وعشيرته وحوارييه، لتخصيص معنى «المسح» بما ليس فيه عند أهل الكتاب، فينبهم عليك المعنى المراد من هذا الوصف، إلا إن كنت متضلعًا من مصطلحات اليهود العبرانيين، ناهيك بأن تكون لغتُك غير سامية، فلا تدري ما المراد من Messiah أو Messie، والانبهام يؤدي إلى التوهم والتضخيم فتذهب بك التوهمات كل مذهب في مدلول لقب «المسيح» دون أن تدري أن قد خَلَت من قبله المسحاءُ في بني إسرائيل بالألوف: إنه فحسب المبارك أو الصديق. وقد فسر القرآن لفظ «المسيح» على معنى «المبارك» على لسان عيسى يوم أنطقه الله في المهد ليستعلن بنسبه ويتحدث بآلاء الله عليه: {قال إني عبد الله [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/266] آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا} [مريم: 30 – 33]. وتسمية القرآن عيسى ابن مريم بالمسيح يوم البشرى به لمريم، تفيد أنه مسيح من الله، أي مبارك منه جل وعلا، وإن لم يرسمه كاهن أو نبي، بل ولد «مسيحا»، تلك التي غلبت عليه، تعرفه بها وحدها دون أن يسمى لك بالاسم «عيسى» أو عيسى ابن مريم، فهو المسيح بإطلاق. وهي في المسيح عيسى عليه السلام لا تجيء إلا معرفة بالألف واللام، دالة على علميتها فيه وحده، فهي اللقب الذي اختص به. والذي يدلك على اختصاص عيسى ابن مريم صلوات الله عليه بلقب «المسيح»، اجتزاء القرآن في ثمانية مواضع اجتزاءً مطلقًا عن الاسم «عيسى» بلقبه، «المسيح»، وهي: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله} [النساء: 172]، {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير} [المائدة: 17]، {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} [المائدة: 72]، {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون} [المائدة: 75]، {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 30 – 31]. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/267] والذي يستوقفك هنا أن هذه المواضع الثمانية بالذات هي الآيات التي شددت النكير على من قالوا إن المسيح إله على البنوة لله، وقد تعمد القرآن المعجز الاجتزاء فيها عن اسم عيسى بلقبه الملازم له، «المسيح»، لينبه من لم ينتبه إلى أن «الممسوح» يقتضي «ماسحا» يمسحه، وأن «المبارك» يقتضي من «يباركه» وأن الذي هو من جوهر الله على قول من قال، لا يحتاج إلى هذه «المسحة» أو هذه البركة من الله بالذات، ناهيك بأن يحتاج إليها من غيره، أو أن يسعى إليها عند يحيى بن زكريا ليعمده في ماء نهر الأردن شأن الساعين إلى هذا العماد على يد يحيى، فلما التقى النبيان امتنع عليه يحيى بتواضع الأنبياء قائلاً له: «أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي غلي؟ فأجاب يسوق وقال له اسمح الآن، لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر» (متى 3/ 14- 15). وقد اعتل تلاميذ يحيى من بعد على تلاميذ المسيح باعتماد عيسى منه، ولم يعتمد يحيى من المسيح، فيحيى إذًا ارفع رتبة من عيسى وإلا لما احتاج إليه المسيح. ولكن الأناجيل ترد على هذا بأن عيسى لم يباشر مهام نبوته ولم يستعلن بها للناس إلا بعد مقتل يحيى: «وبعد ما أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله ويقول قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» (مرقس 1/ 14 – 15)، وهذا منطقيٌّ تمامًا، فلا يصح لمن يدعوان بنفس الدعوة أن يشوش أحدهما على الآخر بنفس المقولة: «وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهود قائلاً توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات» (متى 3/ 1- 2). ولكن التاريخ لم يحفظ لك ما كتب تلاميذُ يحيى في سيرة معلمهم مثلما حفظ لك في تلك الأناجيل ما كتبه تلاميذُ عيسى في سيرة يحيى والمسيح معًا. وقد حرص كاتبو الأناجيل – وكأنهم يردون على تلاميذ يحيى الذين ضاعت كتابتهم – حرصًا شديدًا على إثبات ما يعلي رتبة المسيح ابن زكريا، وبالغوا في هذا إلى حد الإغراق، من مثل قولهم [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/268] على لسان يحيى إنه ليس أهلاً لحمل حذاء عيسى (متى 3/ 11) ولا يجمل هذا بالأنبياء حتى في تواضعهم، بل هو اتضاع مقيت لا يليق البتة بمن اعتمد منه المسيح وشهد له بالنبوة ووصفه في تلك الأناجيل بأنه لم يقم في المولودين من النساء من هو أعظم من يوحنا (متى 11/ 9- 12)، ولكنه يستدرك فيقول في نفس الموضع «ولكن الأصغر في ملكوت السموات أعظم منه»، يعني نفسه في قول شراح المسيحية، وحتى إن سلمت هذا فلا يصح أن ترتب عليه أن يحيى ليس أهلاً لحمل حذاء عيسى، لأنه تصاغر يسلب يحيى نبوته، ولأنه لا يصح الاتضاع ويكرم إلا لله عز وجل، فلا يصح اتضاع الأنبياء لغيره جل وعلا، ولا يصح أيضًا تفاخرهم على الناس أنبياء وغير أنبياء. وقد كان عيسى عليه السلام غاية في التواضع، يأبى على أتباعه أن يعظموه: «وفيما هو خارج إلى الطريق ركض واحد وجثا لهو سأله أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية. فقال له يسوع لماذا تدعوني صالحًا. ليس أحد صالحًا إلا واحد وهو الله» (مرقس 10/ 17- 18). الذي يقول هذا لا تنتظر منه أن يعظم نفسه. غالت الأناجيل إذن في تعظيم المسيح حتى أشرفت على المنزلق الخطر. ومن هذا حذر النبي الخاتم: «لا تفضلوني على يونس بن متى!» فالنبوة من الله عز وجل، يرفع درجات من يشاء، والموحي واحد، الفضل له والمنن فلا فاضل ولا مفضول. وقد جرت هذه المغالاة في المسيح كما تعلم إلى شر كبير. أما الاسم «عيسى» فقد جاء في القرآن على الإبدال من «يشوع» العبرية التي نطقها نصارى السريان للعرب على اللفظ «يسوع» تبركًا بسين «يشوع» التي في الرسم البياني في أصول الأناجيل، واحتفظت بها الترجمات العربية فقالت هي أيضًا «يسوع». وأنت لا تظن بالطبع أن الملائكة يوم بشرت مريم بالمسيح كانوا يخاطبونها بهذا اللفظ العربي الذي في القرآن: «اسمه المسيح عيسى ابن مريم» وإنما خاطب الملائكة [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/269] مريم بلسان مريم، أي بالعبرية – الآرامية، فيقولون لها بالعبرية مثلاً: «ويقرا شمو همشيح يشوع بن - مريم»، أو يقولون لها بالآرامية: «شميه مشيحا يشوعا بار - مريم»، لم ينطقوها عيسى بالقطع، وإنما قالوها «يشوع». قد علم القرآن هذا، كما علم أيضًا أن نصارى العرب يقولونها «يسوع». فلماذا تحول بها إلى «عيسى»؟ مر بك في تضاعيف هذا الكتاب أن القرآن يرفض التعريب حين يسيء التعريب إلى المعنى. أي حين تلتبس صورة الاسم في لفظه المعرب بلفظ عربي يغاير معناه معنى الاسم الأعجمي في لغة صاحبه، فما بالك بتعريب يفيد الضد من معناه؟ لم يرتض القرآن إذن هذا التعريب الذي وجده جاهزًا عند نصارى العرب ونصارى السريان: يشوع = يسوع. لأن «يسوع» هذه تعني في العربية «السائع الهالك» وما كان الله ليسمي المسيح بهذا المعنى المذموم يوم البشرى به، فلا يصح هذا في نبي مرسل من الله، بل لا يصح من آحاد الناس في مواليد الناس، وإلا لانقلبت البشرى إلى فاجعة. بل لا يصح هذا التعريب الببغائي أصلاً، لأن الله سماه بالعبرانية «يشوع» المراد منها العكسُ الصريح السائع الهالك الذي في صنوها اللفظي «يسوع» عربيًا. ومر بك أيضًا أن القرآن حين يعدل عن التعريب فهو يعدل عنه إلى الترجمة. أفتكون «عيسى» هي الترجمة العربية لمعنى الاسم العبراني «يشوع»؟ فما معنى عيسى عربيًا وهي لم تقع قط في كلام العرب؟ لا يصح اشتقاق عيسى عربيًا إلا من فعل ثلاثي أجوف معتل الوسط بالواو أو بالياء، عاس/ يعوس أو عاس/ يعيس. أما عاس/ يعوس بالواو فمعناه طاف بالليل، وعاس على عياله يعني كد وكدح عليهم، وعاس ماله يعني أحسن القيام عليه، وعوس يعوس عوسًا فهو أعوس، يعني دخل شدقاه عند الضحك. وأما عاس/ يعيس بالياء فالمستعمل منه «أعيس» (الزرع) أي لم يكن فيه رطب، «تعيست» (الإبل) يعني صار لونها أبيض تخالطه شقرة، فهي عيس. وليس في أي من هذه المعاني جميعًا – كما سترى – شيء يقارب، ناهيك بأن يطابق، معنى الاسم العبراني «يشوع»، وأصله «يهوشوع»، أي يهوا خلاص، أي خلاص الله. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/270] قال بعض الصوفية أيضًا أن «عيسى» تجيء من «عسى»، ذلك الفاعل الناقص الذي يفيد الرجاء، فهو المرجو الذي فيه الرجاء. وفي هذا القول جمال كما ترى، ولكنه خطأ محض من حيث اللغة، فلا تصح عيسى التي بالياء بعد العين إلا من فعل أجوف معتل الوسط بالواو أو الياء كما مر بك، ولا تجيء قط من فعل معتل الآخر فحسب كالفعل «عسى». هذا الصوفي إن تمعنت، ينسق مقولته على تفسير النصارى لمعنى الاسم «يشوع»، التي يقولون إن معناها «المخلص» الذي يكون به الخلاص. وهذا أيضًا – على الجانب المسيحي – تفسير صوفي يفسر الاسم، لا بمعناه في اللغة، وإنما بما يراد له أن يكون. لم تجيء «عيسى» إذن في القرآن على الترجمة من «يشوع»، ولم تجيء أيضًا على التعريب لبعد ما بين الصورتين «عيسى»، «يشوع» («يسوع» في الأناجيل العربية التي نطق بها نصارى العرب قبل القرآن). فمم جاءت «عيسى»؟ الصحيح أن القرآن لم يعتمد هذه الصورة المعربة «يسوع» التي نطق بها نصارى العرب، التي وجدها جاهزة عند نزوله، لأنها – إن حسبت عربية – تجيء من ساع/ يسوع يعني ضاع وهلك، فهو السائع الهالك، على الضد من معنى «يشوع» العبرانية، خلاص الله أي الذي يخلصه الله وينجيه، فجاء القرآن بالاسم «عيسى» على غير مثال في العربية، مقلوبًا لاسم «يسوع» لإفادة عكس معناه: ليس هو السائع الهالك وإنما هو المخلص الناجي. وأصل المقلوب التام لاسم «يسوع» نطقا هو «عوسى» (بفتح السين وسكون الياء) وليس من أوزان العربية، فعدل به القرآن إلى «عيسى»، زنة «سيما»، اكتفاءً في القلب بدلالة نقل عين «يسو» الخاتمة من آخر الاسم إلى أوله. وبقيت «عيسى» أعجمية غير عربية، تمامًا كأصلها العبري «يشوع»، يفسرها القرآن بالمرادف: «يا عيسى إني متوفيك» أي مستخلصك. لم يتسم المسيح عليه السلام بالاسم «يشوع» على غير سابقة في أعلام العبرانيين وإنما تقدمه أكثر من يشوع، أول وأبرز من تسمى به قبله عَلَمُ سبق مولد المسيح بنحو ثلاثة عشر قرنا، هو «يشوع بن نون» فتى موسى في سورة الكهف، الذي خلف موسى على رأس بني إسرائيل. كان اسم يشوع بن نون في الأصل (عدد 13/ 8) «هوشيع»، ولكن موسى عليه السلام لم يرتضه له فأبدله منه (عدد [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/271] 13/ 16) الاسم «يهوشوع»، ثم تخفف «يهوشوع» فصار إلى «يشوع» اختصارًا، وهذه الصورة الأخيرة «يشوع» هي المعتمدة في الترجمة العربية للعهد القديم (سفر يشوع) لاسم فتى موسى يشوع بنون نون. هذه الصور الثلاث: هوشيع – يهوشوع – يشوع، منحوتة كلها من الجذر العبري «يشع» (المبدل من «وسع» العربي)، ومعناه من الإيساع والسعة، مقصورًا في العبرية بالذات على معنى واحد، وهو الخروج من الضيق إلى السعة، يعني الخلاص والتخليص، وبهذه المادة العربية (الخلاص والتخليص) يترجم المترجم العربي للعهد القديم كل مشتقات مادة «يشع» العبرية في توراة الأنبياء والكتبة. أما الصورة الأولى «هوشيع» (التي لم يرتضها موسى اسمًا لفتاه فأبدله منها يهوشوع) فهي – أي «هوشيع» - تسمية بالمصدر من «يشع» بعد تعديته عبريًا بالهاء (وهي التعدية بالهمزة في العربية) فيكون المعنى «إيساع» أي التخليص والإنجاء، فهو خلاص ونجاء. وأما الصورة الثانية «يهوشوع» فقد نحتها موسى عليه السلام من مقطعين عبريين هما: يهو + شوع، الأول مختصر يهوآ، اسم الله عز وجل في العبرية منذ موسى عليه السلام كما مر بك، والمقطع الثاني «شوع» مصدر بمعنى السعة، أي الخلاص والنجاء، فيكون معنى هذا التركيب المزجي هو «الله خلاص ونجاء». أراد موسى عليه السلام بهذا التعديل الذي أدخله على اسم فتاه يشوع بن نون التنبيه إلى أن الله عز وجل هو «الفاعل» في هذا الخلاص وهذا النجاء، أي لست يا «هوشيع» خلاصًا ونجاء، وإنما بالله عز وجل الخلاصُ والنجاء، فالله هو مخلصك ومنجيك. ولأن الصورة الثالثة لاسم فتى موسى (أعني صورته بالرسم «يشوع») هي نفسها الاسم «يهوشوع» مختصرًا كما يقول علماء العبرية وعلماء التوراة، فهي لا تحتاج إلى مزيد بيان: إنها نفسها «يهوشوع» التي نحتها موسى عليه السلام، «الله خلاص ونجاء» يعني الله مخلصه ومنجيه. هذا هو معنى «يشوع» عبريًا، اسم المسيح عيسى عليه السلام: «الله مخلصه ومنجيه». وهي من الله عز وجل تسميةٌ على النبوءة، لأنه هكذا كان: {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا} [آل عمران: 55]. وقد تقدم [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/272] ورغم أن علماءَ المسيحية يعلمون كما تعلم أنت الآن أن «يشوع» المسيح عليه السلام سمى لفتى موسى يشوع بن نون، وأن معنى يهوشوع قبل اختصاره إلى يشوع هو «الله خلاص ونجاء» أي أن الله مخلصه ومنجيه، فقد نحوا منحى آخر في تفسير اسم يشوع المسيح من دون كل «يشوع»: قالوا إنه ليس من «يهوا + شوع»، ولكنه «يهى – يهى + شوع» يعني «هو – يكون - خلاصا» أي هو المخلص الذي يكون به الخلاص، وهو تفسير مفتعل، لأن هذا بالذات هو الذي نعاه موسى على اسم فتاه «هوشيع» كما مر بك. ولو أريد للمسيح أن يكون بذات اسمه «يشوع» هو الخلاص والنجاء، تسمية بالمصدر، فهو المخلص المنجي، لسمى «هوشيع» على ما كان عليه اسم فتى موسى «هوشيع بن نون» قبل تعديله إلى «يهوشوع» التي آلت إلى «يشوع» كما يقول علماء العبرية وعلماء التوراة، دون الحاجة إلى افتعال إضمار «يِهِيِ – يِهيِ» (أي «هو يكون») قبل المقطع «شوع». ثم لماذا ينفرد «يشوع المسيح» بهذا الإضمار المخصوص «يِهِي – يِهي» من دون كل «يشوع» سبقه أو تلاه، بل وما الدليل على هذا من التسمية؟ ألأن «ملك الرب» الذي ظهر ليوسف النجار في الحلم قال له: «فستلد ابنًا وتدعو اسمه يسوع. لأنه يخلص شعبه من خطاياهم» (متى 1/ 21)؟ فلماذا لم يسمه جبريل لمريم على أصل هذا المعنى «هوشيع» أي الخلاص، أو يسمه «المخلص» مباشرة أي «موشيع» زنة الفاعل؟ ولكن لم يلتفت أحد لقول الملك ليوسف النجار عقيب هذا مباشرة: «وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا» (متى 1/ 22- 23). أفليست «عمانوئيل» هذه تعني «الله معنا» كما قال متى؟ فما معنى الله معنا؟ أليس معناها الله ناصرنا ومؤيدنا؟ ألا يقترب هذا كل الاقتراب من معنى «يشوع» التي أصلها «يهوشوع» أي الله خلاصه ونجاؤه؟ ولكن اللاهوت المسيحي لا يرى هذا وإنما يرى أن هذا الطفل المبشر به هو نفسه «الله»، يولد من العذراء ويعيش معنا زمنًا فهو نفسه «الله معنا». وهذا هو التفسير بالعقيدة لا التفسير بمحض اللغة. على أن النبوءة لم تقل إن الله سيعيش معنا، وإنما قالت تحمل العذراء وتلد مولودًا «يسمونه» الله معنا [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/273] فحسب، لا أن الله سيجيء إلينا ليكون معنا. إذا قلت لك: الله معك! فلا يصح أن تفهم عني أن الله معك بذاته، أو أنك أنت من ذات الله، وإنما الذي تفهمه ببساطة أني أدعو لك الله أن تصحبك عنايته، لا أكثر ولا أقل، ولكن هكذا كان. والذي يعنينا هنا في مقاصد هذا المبحث هو أن نعرف لماذا لم يرد علماء المسيحية – خلافًا لعلماء العبرية – أن يكون معنى الاسم «يشوع» في المسيح وحده هو نفس معناه في غيره، ناهيك بأول من تسمى به: يشوع بن نون، الذي سماه موسى عليه السلام بالاسم «يهوشوع» المختصر من بعد إلى «يشوع»، التي فشت في أعلام العبرانيين من بعده، حتى سمى بها المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام. أراد علماء المسيحية من المسيح أن يكون بذاته هو الخلاص «هوشيع» الذي يكون به الخلاص، فهو فادى البشر بدمه المسفوح على الصليب، لم يخلصه الله من الصلب كما في القرآن، فلا يصح أن يكون اسمه بمعنى الذي يخلصه الله وينجيه «يهوشوع». أسقط علماء المسيحية إذن اسم الله «يهوا» المضمر في «يشوع» (التي أصلها «يهوشوع» أي «يهوا + شوع» كما مر بك)، فبقيت «شوع» فأضمروا قبلها – لا يهوا اسم الله في العبرية – وإنما «يِهِي – يِهِي» (أي «هو يكون») فأصبح معناه عندهم «هو يكون الخلاص»، يريدون هو «المخلص المنجي»، لا «المخلص الناجي» كما فسر القرآن هذا الاسم في قوله عز وجل: {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا} [آل عمران: 55] يعني الله مستخلصك (وهي نفسها – عبرانيًا – يهوشوع التي جاء منها «يشوع» اسم عيسى في الآية) أي مستوفيك كاملاً غير منقرص. لم ير علماء المسيحية ضيرًا في هذا «الإبدال»، لأن «الابن» عندهم من جوهر «الآب»، وإذن فهو هو. بل إن الكلمة (أي المسيح) كما قال يوحنا في إنجيليه «كان عند الله، وكان الكلمة الله» (يوحنا 1/1). وقد كفر القرآن قاله هذه المقولة كما تعلم، وتبرأ منها المسيح عليه السلام في القرآن: {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فيما توفيتني [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/274] كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} [المائدة: 117]، لم يدع إليها هو، ولم تقل له وهو بين ظهرانيهم، ولكنها قيلت بعده. فلماذا وكيف، تبدل الناس قولاً غير الذي قيل لهم؟ بعث عيسى عليه السلام ابن ثلاثين سنة رسولاً إلى بني إسرائيل حوالي سنة ست وعشرين ميلادية، وفلسطين يومئذ ولاية رومانية تحكمها روما مباشرة، وروما يومئذٍ والعالم القديم كله، وثني مشرك، إلا بني إسرائيل، الشعب الذي يعبد الواحد الأحد منذ إبراهيم. وقد تندهش كيف يبعث الله الرسل إلى شعب موحد، بل وكيف يخصه بجم غفير من رسله وأنبيائه، فلا يكاد يخلو منهم جيل إلا وقد كان معه طبيب يطببه ويداويه. ولكنك تستدرك على نفسك فتقول أن داء العارف الجاحد أعتى من ضلالة حائر يلتمس من يهديه. كانت رسالة المسيح إذن – شأنه شأن من سبقه – قاصرة على هذا الجيل الضال من «بني الأنبياء» الذين حار فيهم طب النبوة، لا تعدوهم إلى غيرهم من أهل الأرض وثنيين ومشركين. نص المسيح على هذا في الأناجيل بعبارة قاطعة لا تحتملُ التأويل: «لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة» (متى 15/ 24). لهذا، لم تكن رسالة المسيح إلى قومه رسالة إلى التوحيد، لأن دعوة التوحيد نداء واقر في سمع هذا الشعب من قديم، لا يحتاجون إلى من يدلهم عليه. وإنما كانت دعوته عليه السلام في قومه دعوة إلى توحيد من نوع آخر دأبوا على مخالفته والخروج عليه: التوحيد بين الظاهر والباطن، بين القلب والقول، بين الفكر والجوارح، بين الإيمان وبين العمل على مقتضى هذا الإيمان. كان عليه السلام في دعوته – كما تنطق بهذا أقواله في الأناجيل – يبني على ما جاء به الذين تقدموه، موسى وإبراهيم، وما كان لك أن تنتظر غير هذا ممن قال ما جئت لأهدم الناموس والأنبياء، وإنما جئت لأكمل، ناهيك بأن تنتظر منه مقولة غير مسبوقة في توحيد الله عز وجل تضيف إليه عيسى وجبريل، كالتي صبغت من [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/275] بعده مرحلة بعد مرحلة في المجامع، مجمعًا بعد مجمع، تثلم هذا التوحيد الخالص الذي جاء به موسى وإبراهيم، فتبعض ذات الواحد إلى آب وابن وملك. والذي ينبغي التنبيه إليه، أيا كان الدين الذي به تدين، أن كلمة الرسول في لب العقيدة وجوهرها لا تؤخذ من فم الشراح، تلاميذ وغير تلاميذ، كهنوتا وغير كهنوت، وإنما تؤخذ من فم صاحب الرسالة نفسه، يقولها جلية بينة فيفهم عنه سامعوه مباشرة، دون وسيط، عالمهم وجاهلهم سواء، ثم يتناقلونها من بعده خلفًا عن سلف، اللفظة باللفظة، والحرف بالحرف، لأن النبي لم يقل لهم هذا الكلام من عنده وإنما من عند الذي أرسله، أي من الله عز وجل، لا يجوز فيه التبديل، ولا تجوز فيه الإضافة ولو بقصد التفسير والتوضيح: النبي الذي يحتاج فهم مقولته إلى تفاسير شراح يجيئون بعده بقرون، يتفقون ويختلفون، ويتجادلون ويتناظرون، ثم يقترعون بأغلبية الأصوات في المجامع أيهم المخطيء وأيهم المصيب، ليس بنبي، لأنه لم يحسن تبليغ الرسالة كما أنزلت إليه. لم يكن هذا بالطبع حال المسيح عليه السلام، حاشاه أن يكون. الذي أبلغ فأدى. يكفيك من محكم قوله في تأصيل عقيدة التوحيد الخالص «لا إله إلا الله» قوله المحفوظ في الأناجيل التي بين يديك حين سُئِل عن أعظم الوصايا في توراة موسى فأجاب: «إن أول كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولى. وثانية مثلها هي: «تحب قريبك كنفسك. ليس وصية أخرى أعظم من هاتين»، فقال السائل: «جيدا يا معلم، بالحق قلت، لأنه الله واحد وليس آخر سواه». علم المسيح أن قد اطمأن قلب السائل فقال له: «لست بعيدا عن ملكوت الله»، ولم يجسر أحد بعد ذلك القول الفصل أن يسأله (راجع مرقس 12/ 28 – 34) فقد جاء المسيح على دين موسى. استحسن السائل قول المسيح، واستحسن المسيح تعقيب السائل فبشره بأنه من الجنة قريب وكأنه يزكيه لقومه، من كان له مثل إيمان هذا السائل فعمل به، فدخل [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/276] الجنة: توحيد الله عز وجل والإحسان إلى الجار، ولو أحسن كل جار إلى جاره لكانت الحسنى في الخلق جميعًا. بالتوحيد المطلق «لا إله إلا الله» قال المسيح كما رأيت من نص كلامه في هذه الأناجيل، وبالتثليث قال منتسبون إليه في المجامع، فأي الفريقين أولى بالاتباع؟ ولكنك لا تعدم من يقول لك إن التثليث أيضًا توحيد، لأن الآب والابن والروح القدس ثلاثة في واحد. إنهم ثلاثة أوجه للذات الإلهية أو ثلاثة أقانيم، تتمايز لنا نحن البشر، وتجتمع في الله الواحد. وليس هذا من وحي الله في شيء، وإنما هو من تهافت متفلسفة اللاهوت، يرقعون قولاً بقول، جرهم إليه القول بآب وابن وملك. وما كان بهم إلى هذا من حاجة لولا أنهم حكموا المتشابه في المحكم ولم يقيدوه به، ولولا إساءتهم فهم لفظتي الآب والابن العبرانيتين – الآراميتين كما سوف ترى. وهل أحكم من قوله عليه السلام يردد قول موسى في التوراة: اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد؟ أفيقول هذا لمن سأله عن الوصية الأولى والعظمى، وهو يضمر في نفسه أنه وجبريل إلهان إلى جوار الله عز وجل؟ أليس قد وعد المسيح هذا السائل بالجنة إن مات على توحيد الله عز وجل؟ فماذا لو قيل لهذا السائل من بعد المسيح إن الله ثالث ثلاثة؟ أفيصدقهم هم ويكذب المسيح؟ فمن يضمن له الجنة بقولهم؟ أفالضمان عليهم؟ فكيف يترك ضمان المسيح إلى ضمانهم هم؟ ب لمن يضمن لهؤلاء القائلين الجنة وقد خالفوا الوصية الأولى والعظمى التي لقنها المسيح هذا السائل؟ بل علام اتكأ القائلون هذه المقولة؟ أفي الأناجيل الأربعة التي بين يديك قول واحد قاله المسيح ينص على أن الله ثالث ثلاثة، أو ينص على أن الثلاثة في واحد؟ وإذا كان الثلاثة واحدًا، فلماذا يقال أصلاً ثلاثة وهم في النهاية واحد؟ وإذا كان الله اثنين فقط في مقولة أصحاب مجمع نيقية عام 325م، فلماذا، تثلث بإضافة جبريل بعد مجمع نيقية بخمسين سنة؟ وما شأن من قال باثنينية الآب والابن وناضل عنها وجادل بها ومات عليها قبل أن يتأله جبريل أيضًا؟ بل ما شأن موسى والنبيين من قبل ومن بعد الذين تقدموا المسيح وقد دعوا إلى التوحيد الخالص وماتوا عليه؟ أليسوا مع المسيح في الجنة؟ فلماذا تكتم الله [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/277] التثليث عليهم وعلى من بعثوا فيهم فاستجابوا لهم وماتوا على ما دعوا إليه فدخلوا الجنة؟ أفقد ارتضى الله التوحيد الخالص من الخلق أجمع قبل عيسى، ثم أغلظ على الخلق من بعده فاشترط عليهم التثليث لدخول الجنة؟ وإذا كان القول بالتثليث هو وحده المدخل إلى الجنة كما يقول علماء المسيحية، فلماذا تكتمه المسيح على الناس؟ أفقد جاء ليضلهم عنه أم ليهديهم إليه؟ أفقد تكتمها على هذا السائل عن الوصية الأولى والعظمى، وأسرها في آذان بعض تلاميذه ليستعلنوا بها للناس من بعده؟ أفهو النبي أم هم الأنبياء؟ وهب أنه أسرها لتلاميذه وحوارييه ليعلنوها للناس من بعده، فكيف لم يسجلوها هم أو الآخذون عنهم في هذه الأناجيل وقد كتبت كلها بعد رحيله، أو يحذفوا منها جواب المسيح على هذا السائل عن الوصية الأولى والعظمى: «اسمع يا إسرائيل! الرب إلهنا رب واحد» وتعقيب السائل وقد اطمأن قلبه بهذا الجواب: «بالحق قلت، لأنه الله واحد، وليس آخر سواه!»؟ أليست هذه هي نفسها شهادة المسلم: «لا إله إلا الله»؟ فكيف خفيت على مجمع نيقية وعلى المجامع من بعد نيقية؟ بل كيف خفيت على أساقفة نجران في حوارهم ثلاث ليال مع خاتم النبيين في يثرب؟ هذا الذي أنكر أن يقال له «أيها المعلم الصالح» فقال «ليس صالحًا إلا واحد وهو الله»، الذي أبى أن يكون صالحًا مع الله، كيف يظن به أنه الله أو إله مع الله؟ الذي قال: «أيها الآب! كل شيء مستطاع لك، فأجز عني هذه الكأس! ولكن ليكن لا ما أريد أنا، بل ما تريد أنت» (مرقس 14/ 36)، الذي سجلت الأناجيل له هذا الكلام، الذي يبتهل إلى «الآب» (وهو الرب كما قد علمت) ويسأله ويدعوه ويستغيثه، ثم يفوض الأمر إليه ويذعن للمشيئة، كيف يقال إنه «ابن الآب» وإنه والآب واحد، إله في الله، أو إله مع الله؟ هب أن المسيح صلب بالفعل وقبر ثم قام من قبره في اليوم الثالث كما يؤمن المسيحيون جميعًا، فلمن معجزة القيامة من بين الأموات؟ أللمقبور في قبره، الذي قال على الصليب: «يا أبتاه (يعني يا رباه كما قد علمت) في يديك أستودع روحي» (لوقا 23/ 46)، ولا فعل لميت، أم المعجزة لله الذي لا غله إلا هو الحي الذي لا يموت؟ [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/278] ولماذا يؤله المسيح وحده بهذه المعجزة؟ أليس سيقوم الخلق جميعًا، برهم وفاجرهم، يوم القيامة لله الواحد القهار؟ ولماذا لم يؤله «لعازر» الذي أحياه عيسى بإذن الله فانشق عنه القبر وخرج يدب على قدميه مدرجًا في أكفانه؟ ولماذا لم يؤله أيضًا عيسى يوم «أحيا» لعازر؟ ولماذا أيضًا لم يؤله نبي الله اليشع (اليسع) والصبي الذي «أحياه» كما تقرأ في العهد القديم (الملوك الثاني 4/ 17- 37)؟ ألأن المسيح ارتفع جسدًا حيًا أمام أعينهم إلى السماء؟ فلماذا لم يؤله أحد نبي الله إيليا (إلياس) الذي تقرأ في العهد القديم (الملوك الثاني 2/ 11- 12)، أنه ارتفع إلى السماء جسدًا حيًا تحت سمع وبصر تلميذه نبي الله اليشع (اليسع)؟ نعم، ثم فرق بين رفع إيليا ورفع المسيح: «أخذ» الله إيليا قبل أن يأخذه أعداؤه، لم يمسوه بسوء، أما المسيح في رواية الأناجيل فقد مكن الله منه أعداءه الذين رفعوه على الصليب حتى الموت، ثم دفن، ليبعثه الله من بعد يطمئن تلاميذه، ثم يأخذه الله إليه. ولكن أيهما أليق وأكرم؟ أفي صلب الأنبياء كرامة؟ ناهيك بأن يقال إن المسيح إله أو ابن إله، فكيف يصلب «الإله» أو يترك «ابنه» للصلب على أيدي بشر ممن خلق؟ لا بد لهذا من علة، هكذا قال مؤلهو المسيح على البنوة لله: شاءت محبة الله الفائقة للبشر الذين عصوه ويعصونه منذ أبيهم آدم، أن يكفر عنهم بقربان يعدل جسامة هذا العصيان، فلم يجد قربانا أكرم من المسيح يبذله فداء للبشر، فضحى بابنه الوحيد فداءً للخلق. وتستطيع أن ترد على هذا بقولك: فلماذا خلق الله جهنم للعصاة وهو ينتوي افتداءهم بالمسيح؟ وإذا كان المسيح قربانًا من ذات الله لله، فمن المضحي وهو نفسه الأضحية؟ وهل يُكَفِّرُ اللهُ المعاصي بالقرابين شأن آلهة الأساطير أم يُكَفِّرُها بالتوبة والطاعة؟ وهل كان الذين صلبوا المسيح يقدمون لله قربانًا، أم أن الله هو الذابح والذبيح؟ وإذا كان المسيح لم يضره هذا الصلب، ولم يفسد له جسد بل انبعث بجسده من قبره لم يمسسه سوء فبم كان الفداء؟ أليس قد شبه الله عليهم؟ وهل يليق بجلال الله عز وجل الذي وسع كرسيه السموات والأرض أن يتحيز في جسد بشر، أو تكون له أم تحنو عليه وترضعه وتفطمه وتغذوه؟ ربما قيل لك إن الله عز وجل إذا ارتضى أمرًا فعله، لا يحد من قدرته شيء، وما جاز لمردة سليمان في [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/279] قماقمهم أهون على الله عز وجل، الذي اتخذ من مريم العذراء جسدًا تلبس به زمنًا على الأرض، لا يعجزه تصريف ملكه من محبسه وتدبير ملكوته، لأنه سبحانه كُلِّيُ القدرة، يتعاظم فلا تدركه الأبصار، ويتضاءل إن شاء فيتلبس بالنملة والهباءة. هذا من تلبيس إبليس، يزينه لأوليائه. أما أن قدرته عز وجل لا تحد، ما شاء فعل، فهذا مسلم مقطوع به في جنب الله عز وجل بمقتضى ذات ألوهيته. ولكنك تحيل على الله المحال، لأن المحال عدم، والعدم غير مقدور، يعني لا تتعلق به قدرة أو عجز. والمحال في حقه جل وعلا أن يكون إلهًا وغير إله، الخالق والمخلوق، أن يحده الزمان والمكان وهو خالق الزمان والمكان، أن يجلد ويصلب مريدًا بذاته العلية الذلة والمهانة وهو العزيز الجبار، أن يموت ولو للحظة الحي الذي لا يموت، أو يتضع لخلقه الكبير المتعال. ولماذا المحال؟ لأن محبته «الفائقة» للبشر قد غلبته؟ ألا لو ظن هذا البشر فسحقًا للبشر أجمع. ثم من قال أن الله «شاء» افتداء البشر من معاصيهم بقربان من ذاته يقدمه إليهم لا بقربان منهم يقدمونه إليه ثم يقال إن الله ما شاء فعل؟ من قال إن الله «شاء» هذا؟ لا يصح الخبر بمشيئة الله إلا لنبي، ولا يجوز التزيد على الأنبياء، فما بالك بخائضين في ذات الله يتركون محكم القول إلى متشابهه؟ قد قال المسيح في هذه الأناجيل أنه يأتي بعده أنبياء كذبة كثيرون تعرفونهم من ثمارهم، أي بما يدعون الناس إليه، بل وقال بالنص: «ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات. كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب، أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذ أصرح لهم أني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم» (متى 7/ 21- 23). ليس من يريب المسيح بداخل ملكوت السموات، وإنما يدخله «الذي يعمل إرادة أبي الذي في السموات»، يعني الذي يعمل مشيئة الله، الذي يأتمر بأمره وينفذ وصاياه، فكيف ينفذ وصايا الله الذي يخالف أولى وصاياه: اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا رب واحد، أي الله واحد وليس آخر سوه، كما قال ذلك السائل المسيح عن الوصية الأولى والعظمى وأخذها من فم المسيح نفسه، لا يسأل عنها أحدًا بعده، فمات عليها، فدخل الجنة. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/280] كان هذا كله بالطبع مثار جدل عنيف بين المسيحيين من بعد المسيح، مؤلهين وغير مؤلهين. وليس لديك شاهد على ما قاله غير المؤلهين بلسانهم، فلم يحفظ لك التاريخ إلا مقولة المؤلهة وحدهم، الذين استقرت مقولتهم بعد قرون من رفع المسيح، واتهم مخالفوهم بالهرطقة، أن قالوا ليس الابن من ذات جوهر الآب، وطورد قائلو هذه الهرطقة وحرقت أناجيلهم فلم يعد لديك دليل مقطوع به من كتابتهم، كالشأن في تلاميذ يحيى بن زكريا عليهما السلام. ولكن الدليل على مقالتهم المخالفة لمقولة مجمع نيقية المنعقد سنة 325م للفصل في الخلاف حول طبيعة المسيح بن المسيحيين أنفسهم هو مجمع نيقية نفسه، ولو لم يكن على طبيعة المسيح خلاف بين أتباعه لما كانت هناك حاجة أصلاً إلى انعقاد هذا المجمع وما تلاه من مجامع. هذا يدلك على حكمة الله عز وجل من فتنة الناس بالمسيح: أغزر على يديه الآيات منذ أنطقه في المهد مولودًا بغير أب، وتتابعت على يديه المعجزات حتى إحياء الميت، ثم شبه لهم قتله على الصليب حتى لم تبق لأحد شبهة في أنه الذي مات، ليتراءى لهم من بعد جسدًا حيًا يكلمهم ويؤاكلهم ثم يرتفع أمام أعينهم إلى السماء جسدًا حيًا. وقد مر بك في تضاعيف هذا الكتاب أن الله عز وجل يفتنُ الناس في هذه الدنيا بما شاء، وكيفما شاء، بل ويفتنهم بالملائكة رضوان الله عليهم كما رأيت من قبل في الفتنة بهاروتَ وماروت، ومر بك أيضًا أن الفتنة من الله عز وجل هي على أصل معناها في اللغة، اختبار وتمحيص، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيي من حي عن بينة. ولأن المسيح عليه السلام هو آخر رسل الله إلى بني إسرائيل، فقد شاءت حكمته عز وجل أن تكون الفتنة بالمسيح في شعب التوحيد منذ إبراهيم فتنة في هذا التوحيد نفسه الذي تعالوا به على جيرانهم من قديم، ولو كانت بعثة المسيح في شعب وثني يعدد آلهته لما كان لفتنهم بالمسيح من معنى أن أضافوا ابنا جديدًا لكبير آلهة الأولمب وذراريه. بل أراد الله عز وجل التمحيص الأخير لصدق إيمان الذين استتاب [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/281] موسى آباءهم من عبادة العجل في التيه. الذين قال لهم موسى: «اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد» (تثنية 6/ 4) فأجاب بها المسيح ذلك السائل عن الوصية الأولى في الناموس. لا يستقيم هذا مع قول من قالوا الآب والابن واحد، ثم أضافوا إليهما من بعد جبريل، ثلاثة أوجه في ذات الواحد أو ثلاثة أقانيم. ترى ماذا يبقى من المسيح الذي عرفوه وقد فنى في ذات الله وفنى جبريل؟ ليس بعد هذا التشبيه تشبيه. ليس هذا من قول المسيح في الأناجيل التي بين يديك، ومن ثم فهو لا يلزمك. فلا أحد يأخذ دينه من أفواه الفلاسفة أو الشعراء، وإنما يأخذه من فم صاحب الرسالة نفسه، المبلغ عن ربه، الذي قال في هذه الأناجيل يناجي ربه: «أنت الإله الحقيقي وحدك» (يوحنا 17/ 3). هذا هو الأصل المحكم الذي تقيس عليه كل أقوال المسيح في هذه الأناجيل التي بين يديك وإن شبه لك بعضها أو اشتبه عليك. ترى ما يقول المسيح في «مجيئه الثاني» لهؤلاء الذين شبه لهم؟ أينكر عليهم أن قالوا فيه ما لم يقل، أم يأخذهم بما استحفظهم إياه فنسوه؟ أما أمثال هذا السائل المسيح عن الوصية الأولى والعظمى: الله واحد وليس آخر سواه، فعضوا عليها بالنواجذ، أولئك الذين استمسكوا بالعروة الوثقى لا انفصام لها، فطوبى لهم وحسن مآب. كان موت المسيح على الصليب فتنة كبرى لمن شبه لهم وقوع الصلب على ذات المسيح، أعني جميع الذين شهدوا هذا الصلب: شانئو المسيح ومبغضوه وطالبو دمه، وأيضًا أنصاره ومحبوه الذين لو خيروا لافتدوه بأنفسهم وأبنائهم. فأما شانئو المسيح ومبغضوه وطالبو دمه فقد أخذتهم العزة بالإثم أن قتلوا بأيديهم المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، وتباهوا بها مستهزئين: {إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله} [النساء: 157]. وكم قتل اليهود من أنبياء العهد القديم، ثم ختموا بيحيى عليه السلام فيما تروى الأناجيل، فما قامت الدنيا وما قعدت، ولم يقل أحد في نبي قتل إنه أراد هذا القتل وسعى إليه وكان [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/282] محور رسالته، يُكَفِّر به عن خطايا البشر أو يفتديهم بدمه، كما قيل في المسيح، وإنما قال أتباع النبي المقتول إنه مات شهيدًا، دمه على قاتليه. وأما أنصار المسيح ومحبوه فقد كان موته على الصليب محنة لهم أي محنة، بل كان فاجعة كبرى لا تعدلها مصيبة: أفقد مات الذي قال لهم إن الله أرجأه إلى قُرب انقضاء الدهر؟ ها هم يرونه بأعينهم يساقُ إلى الصلب مُهانا، ثم يرفع على الصليب مثقوب اليدين والقدمين، ويسلم الروح مطعون الجنب، ليدفنوه بأيديهم. أفقد مات الذي أحيا الميت؟ فلماذا لم ينقذ هو نفسه من القتل على الصليب؟ نعم، قد قطعوا رأس يحيى قبله ولكن ابن زكريا ما أحيا ميتًا ولا أبرأ أكمه أو أبرص، ولم يقل لتلاميذه إنه لا يموت إلى قُرب انقضاء الدهر كما سمعوا هم المسيح يقول. فلماذا تركه الله يموت؟ لِمَ لمْ يَقْبل الله ضراعته: «أيها الآب، نجني من هذه الساعة» (يوحنا 12/ 7) فلم ينجه؟ لماذا يتركه يموت وهو يناديه: «إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟» (متى 27/ 46)، أفقد مات المسيحُ لا يدري بأي ذنب يقتل؟ أو يموت يتساءل لماذا تركه الله يموت؟ كلهم شك فيه، كما قال لهم ليلة القبض عليه كلكم تشكون في الليلة (مرقس 14/ 27). ترى لماذا شك التلاميذ في المسيح، وفيم كانت شكوكهم؟ أفي نبوته وقد علموا أن الأنبياء تقتل وتموت، وما رأس يحيى على طبق من الفضة ببعيد؟ أم شكوا في «ألوهيته» وقد علموا أن الآلهة خالدة لا تموت، ففيم الفاجعة إذن في «شبهة» إله يموت؟ أما الذي لم يشك فيه أحد، تلاميذ وغير تلاميذ، فهو أن الذي مات على الصليب هو نفسه المسيح. لم يرتب أحد ولو للحظة في أن المرفوع على الصليب ليس هو، وإنما هو يهوذا الذي أسلمه، شبه لهم. كان التشبيه غاية في الإتقان، لا يستطيعه إلا خير الماكرين: {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين} [آل عمران: 54]. هذا المائت على الصليب ليس هو المسيح، يكفيك في هذا قول القرآن وليس بعده قول لقائل {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/283] اختلفوا فيه لفي شك فيه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما} [النساء: 157 – 158]. أما إن أردت الدليل من هذه الأناجيل التي بين يديك، فهاك الدليل من قول المائت على الصليب: «إلهي، إلهي، لماذا تركتني!» (متى 27/ 46)، وقد حرص متى على إثبات هذه العبارة في إنجيليه بنصها الأصلي: «إيلي، إيلي، لما شبقتني» كأنه يؤكد للقارئ اليوناني أنها هكذا قيلت. وحرص أيضًا مرقس في إنجيله على إثبات نفس العبارة «إلهي إلهي لماذا تركتني» بنصيها الأصلي واليوناني (مرقس 15/ 34) وإن تحول مرقس بلفظة «إيلي» (أي إلهي) العبرية – الآرامية إلى نظيرتها العبرية القح «إلوهي» (بمد الكسر في الهاء وسكون الياء بعدها) ولكن قلمه اليوناني لم يستطع الهاء فحذفها «إلوي» التي مازلت تقرؤها في الترجمات العربية محذوفة الهاء تبركًا بالأصل اليوناني. وحرص الكاتبان كلاهما ألا يشتبه عليك مقصود المائت على الصيب فتظن أنه أراد «إيليا» (إلياس عليه السلام) ولم يرد «إيلي» أو «إلوهي» (أي إلهي) فقال كلاهما أن قوما من الحاضرين لما سمعوا العبارة ظنوا أنه ينادي إيليا (المرفوع حيًا قبله في العهد القديم) كي يأتي ويخلصه، وكأنهما يقولان لك لا تخطئ الفهم كما أخطأ هؤلاء، بل كان المصلوب ينادي «إلهه»! فطن لوقا ويوحنا – اللذان كتبا إنجيليهما بعد متى ومرقس – إلى خطورة هذا الذي أثبته متى ومرقس في إنجيليهما على دعوى ألوهية المصلوب: كيف يستغيث إلهه؟ أفللإله إله، بل كيف يستغيث من الصلب وهو يعلم أنه لهذا جاء ويعلمه؟ أما لوقا فقد حذف هذه العبارة من إنجيليه وأثبت في موضعها: «يا أبتاه، في يديك أستودع روحي» (لوقا 23/ 46)، وأما يوحنا فقد أسقط العبارة جملة ولم يثبت في موضعها شيئًا. أنا أنت فتفطن إلى أخطر مما خشيه لوقا ويحونا: هذا المائت على الصليب، الذي يستغيث الله ولا مغيث، ليس بنبي. ولا عليك أن يقال إله أو ابن إله. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/284] على أن المقبوض عليه عشاء فصح اليهود فحوكم وأدين، ليس هو أيضًا المسيح. دليلك في هذا من الأناجيل عبارة ندت عنه وهو يحاكم، أثبتها متى في إنجيله وهو لا يدري مدى خطورتها في تحديد هوية الذي حوكم فأدين: «وأيضًا أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان (يعني المسيح) جالسًا عن يمين القوة وآتيًا على سحاب السماء» (26/ 64) فكيف يكون الماثل أمامهم هو نفسه في عين الوقت الجالس عن يمين القوة الآتي في سحاب السماء؟ أليس قد أفلت الله المسيح قبل أن يحاكم أو يصلب؟ أفهل تفوتك عبارة «من الآن»؟ تجد مثل هذا في لوقا أيضًا أكثر وضوحًا: «إن كنت أنت المسيح فقل لنا. فقال لهم إن قلت لكم لا تصدقون. وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني. منذ الآن يكون ابن الإنسان جالسًا عن يمين قوة الله. فقال الجميع أفأنت ابن الله. فقال أنتم تقولون إني أنا هو»، (لوقا 22/ 67- 70). مرقس وحده فطن إلى خطورة ما يخطه قلمه، فاسقط «منذ الآن»، وزيادة في الحيطة غير ما قيل في متى ولوقا في جواب الذي حوكم حين سئل هل هو المسيح. قال متى «قال له يسوع أنت قلت» (متى 26/ 64) وقال لوقا «أنتم تقولون» (لوقا 22/ 70)، وقال مرقس «فسأله رئيس الكهنة أيضًا وقال له أأنت المسيح ابن المبارك. فقال يسوع أنا هو» (مرقس 14/ 61- 62). أما يوحنا فقد أسقط هذا وذاك. تُرىَ هل رُفِعَ المسيح لحظة جاءوا يقبضون عليه وشبه لهم يهوذا الاسخريوطي فأخذوه مكانه؟ هذا هو ما يقوله لك إنجيل برنابا الذي ينكره المسيحيون، ولكنك تجد مثله في إنجيل مرقس ولم يمحصه أحد: «وللوقت وفيما هو يتكلم أقبل يهوذا – واحدٌ من الإثنى عشر – ومعه جمع كثير بسيوف وعصى من عند رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ. وكان مسلمه قد أعطاهم علامة قائلاً الذي أقبله هو. أمسكوه وامضوا به بحرص. فجاء للوقت وتقدم إليه قائلاً يا سيدي يا سيدي. وقبله. فألقوا أيديهم عليه وأمسكوه. فاستل واحدٌ من الحاضرين السيف وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه. فأجاب يسوع وقال لهم كأنه على لصٍ خرجتم بسيوف وعصى لتأخذوني. كل يوم كنت معكم في الهيكل أعلم ولم تمسكوني. ولكن لكي تكمل [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/285] الكتب. فتركه الجميع وهربوا. وتبعه شابٌ لابسًا إزارًا على عريه فأمسكه الشبان. فترك الأزار وهرب منهم عريانًا» (مرقس 14/ 43- 52). والذي يتعين التنبيه إليه في خصوص هذا النص الإنجيلي المعتمد عند المسيحيين كافة، هو أن التلاميذ هربوا جميعًا لحظة القبض على المسيح، فلا تصح لهم شهادة على ما قاله المقبوض عليه للجند لحظة القبض عليه ولا على ما قيل له منذ لحظة القبض عليه، وما جرى له وما جرى منه أثناء المحاكمة التي جرت بين جدران مغلقة ولم تجر علنا، وكذلك ما قاله وقيل له عند هيرودس ملك اليهودية من قبل الرومان أو عند والي روما بيلاطس البُنطي كالذي تقرأ في الأناجيل الأربعة المعتمدة – وهو ما يفسر لك اختلاف الكتبة الأربعة لهذه الأناجيل اختلافًا كبيرًا فيما بينهم حول ما قيل أو حدث. لا تقبل شهادتهم لا لأنك تجرحهم، وإنما لأنهم كانوا عن هذا غائبين، والغائب لا يعتد بشهادته. ربما قلت أنهم أو بعضهم على الأقل شهد الجلد والصلب اللذين وقعا علنا. فتكتفي منهم بما سمعوا أو عاينوا منذ الجلد إلى الموت على الصليب. ولكنهم لم يسمعوا كل الذي قيل، دليلك في هذا تضاربهم فيما رووه، فتقطع بأنهم أكملوا ما لم يسمعوا، وكانت لكل منهم مصادره، وتفاوت قول الرواة، فتفاوتت أقوالهم. بل هناك ما تقطع بأنه لم يحدث، وإنما هو من قول الرواة، من هذا ومثله الحوار الهامس بين المائت على الصليب وبين زميليه، الذي انفرد به لوقا في إنجيله (لوقا 23/ 39- 42)، المختوم بقول المائت على الصليب للص التائب: الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس! أكان الثلاثة يتصارخون بهذا الحوار ليسمعه جمهور الحاضرين في الساحة مثلما صرخ المائت على الصيب لحظة أسلم الروح «يا أبتاه، في يديك أستودع روحي»، التي وقعت في سمع متى ومرقس بلفظ: «إلهي إلهي لماذا تركتني؟» تصور أنت المسافة بين المرفوعين على الصليب وبين الجند، ثم بين الجند وبين الجمهور، واحكم بنفسك. ولكن الذي نتوقف عنده هو هذا الشاب الذي رآه مرقس يتبع المقبوض عليه عريانًا إلا من إزار ائتزر به، فأرادوا إمساكه، ولكنه ترك إزاره في أيديهم ليفر عريانًا، ترى من كان هذا الشاب الواقف مباشرة خلف المقبوض عليه؟ أكان من التلاميذ؟ كيف وقد هربوا جميعًا كما يروى لك مرقس؟ أفكان من الجند؟ فكيف [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/286] أرادوا إمساكه؟ أكان هو يهوذا، فكيف يهرب منهم وهو الذي جاء بهم؟ أكان عابر سبيل دفعه الفضول إلى السير في موكب الجند والمقبوض عليه مثلما يسير الناس في موكب الشرطة والجناة، فما خشيته من الجند وما خشية الجند منه؟ أفقد أمسكوا بالمتجمهرين جميعًا؟ فلماذا يحاولون الإمساك به وحده؟ أليس لأنه استفز شكوكهم التصاقه بالمقبوض عليه وهيئته بزي اللابس إزارًا على عريه؟ أفقد لمسوا إزاره فسقط عنه أم جبذوه به فتفلت منه؟ وكيف يخرج من إزاره فيستفزهم عريه ولا يلحقون به؟ كيف انسل من أيديهم ولم يلاحقوه؟ أليس هو المسيح نفسه الذي حاجزت عن الملائكة بعد أن ألقي شبهه على يهوذا المقبوض عليه لحظة «القبلة» لا تدري من قبل من؟ ألم يأخذ الملائكة لباس عيسى فوضعوه على يهوذا، لم يُبقوا له إلا إزارًا يأتزر به، ثم يتركه في أيديهم ليتلبس رداءً من نور لا يبصره إلا ملائكة من نور، محجوبون عن أعين الناس؟ هكذا غاب الشاب عن أعين طالبيه الذين قبضوا على يهوذا مكانه. ربما قيل لك إن من مأثور المسيحيين غير المسطور في الأناجيل أن هذا الشاب اللابس إزارًا على عريه كان «يوحنا» التلميذ الذي كان المسيح يحبه. وليس بشيء لأن المكتوب في الأناجيل هو أن التلاميذ كلهم هربوا، لم يتبعه أحد منهم أو فكر في اتباعه لم يتبعه أحدٌ بعد هربهم ومضى الجند إلا بطرس الذي تبعهم من بعيد كما يقول لك متى ومرقس ولوقا. ولكن يوحنا يقول في إنجيله (وهو ليس يوحنا التلميذ المعني) إن بطرس لم يكن وحده، وإنما كان معه التلميذ الآخر (يُريد يوحنا) الذي كان معروفًا عند رئيس الكهنة فدخل مع يسوع إلى دار رئيس الكهنة (يوحنا 18/ 15)، ولا يصح أن يكون هذا والذي فر عُريانًا هو نفس الشخص، إذ كيف يدخل عُريانًا على رئيس الكهنة؟ وكيف يستعيد ثيابه ويلحق الموكب؟ هذه المعجزة الكبرى، معجزة تشبيه عيسى لطالبي دمه وقضاته ومحاوريه وللجمهور الذي شهد الصلب، لم يشاهدها من دون المسيح والملائكة أحد قط إلا واحد، هو يهوذا المشبه به. وكيف تعمى عليه والجند الذين جاء هم بهم وسار معهم وكلمهم وكلموه، يقبضون عليه لا يشكون لحظة أنه هو نفسه عيسى الذي دلهم عليه: خرج من صفوفهم ليقبل المسيح فتركوا المسيح وقبضوا عليه هو؟ أليس قد أحس يهوذا أنه لم يزل هو يهوذا ولكن الجند يرونه هو المراد القبض عليه؟ الذي أصبح صوته كصوته وهيئته كهيئته ويتكلم بمثل كلامه، فيظن الجميع أنه هو هو، حتى التلاميذ [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/287] الذين هربوا ظنًا منهم أن قد أخذ معلمهم؟ ولكنه لا يزال هو يهوذا لا شبهة عنده في ذلك، فما بال الناس قد سحروا؟ هناك يدرك يهوذا المقبوض عليه عمق الفاجعة: أغواه الشيطان فشك في نبوة معلمه، وزين له الشيطان أن يمتحن صدق المسيح في دعواه النبوة فدل عليه خصومه وطالبي دمه. قال في نفسه إن كان نبيًا فلن يمكنهم الله منه ويخلصه، وإن كان دعيًا محتالاً فبئس جزاء المحتال الدعي، وقد احتاط هو – يهوذا – لنفسه وحظى عند الكهنة. ويفجع يهوذا بالذي كان: أهكذا يخلص الله المسيح؟ أيخلصه ويوقعه هو في نفس المصير الذي أراده بمعلمه؟ أفقد أوقعه في الحفرة التي نصبها له؟ فمن ليهوذا بالذي يخلصه هو الآن وهو صفر اليدين مما أوتي عيسى، صاحب العجائب المعجزات؟ أفيقول له أنه ليس هو؟ فمن ذا يصدقه وهو هو عند كل من يراه أو يسمعه؟ ليس أمامه إلا أن يستسلم للمصير الذي أراده لمعلمه عساه يكفر بها عن عبث الشيطان به، ويرد سهمه في نحره. عساه بصمته يضيف تمويهًا إلى تمويه، فينجو المسيح بنفسه ويكتفوا هم به. عساه بافتدائه المسيح بنفسه أن تكتب له بها حسنة قد يمحو بها الله عنه إثم ما قد فعل. كانت لسان حاله عبارة حفظها لوقا في إنجيله حين سئل: إن كنت أنت المسيح فقل لنا! قال إن قلت لكم لا تصدقون، وإن سألت لا تجيبونني، ولا تطلقونني. ويمضون به ويمضي معهم، وفي أذنيه فقرة من مزمور لداود: «عتا يدعتي كي هوشيع يهوا مشيحو! (الآن عرفت أن الله مخلص مسيحه!)» (مزمور: 20/ 7). كيف خفيت هذه الفقرة السابعة من مزمور داود العشرين: «الله مخلص مسيحه»، على كتبة أناجيل جعلوا من مزامير داود نبوءات تحدث بسيرة المسيح ومصيره؟ أليس في هذه العبارة التي ترنم بها داود في المزمور «الله مخلص مسيحه»، التي هي بالعبرية «هوشيع يهوا مشيحو»، تحديدٌ لاسم هذا المسيح الذي يخلصه الله؟ أليست هوشيع يهوا هي مقلوب «يهوشوع» اسم المسيح «يشوع»؟ فلماذا لم يفطنوا إليها، بل قل لماذا أسقطوها؟ أليس لأنها على الضد مما يريدون الاستشهاد به على خذلان الله مسيحه؟ بل قل كيف خفى عليهم معنى الفقرات من مزمور داود الحادي والتسعين التي أثبتها لوقا في إنجيليه على لسان إبليس يغوي بها المسيح: «ثم جاء به إلى أورشليم وأقامه على جناح الهيكل وقال له إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا إلى أسفل، لأنه مكتوب أنه يوصي بك ملائكته لكي يحفظوك، وأنهم على أياديهم [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/288] يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك» (لوقا 4/ 9- 11)؟ أليس إبليس يستشهد هنا للمسيح بفقرات من هذا المزمور؟ أليس في هذا دليل على أن لوقا يعتبر هذا المزمور في المسيح، فلماذا لم يلتفت لوقا إلى بقية ما قيل: «لأنك قلت أنت يا رب ملجئي، جعلت العلي مسكنك. لا يلاقيك شر ولا تدنو ضربة من خيمتك. لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك. على الأيدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك. على الأسد والصل تطأ. الشبل والثعبان تدوس. لأنه تعلق به أنجيه أرفعه لأنه عرف اسمي. يدعوني فأستجيب له. معه أنا في الضيق. أنقذه وأمجده. من طول الأيام أشبعه واريه خلاصي» (مزمور 91/ 9- 16)؟ أليس قد رفع الله المسيح قبل أن يصلب؟ أليس هكذا كان خلاص الله مسيحه؟ أكانت هذه في المائت على الصليب أم في الذي رُفِع؟ يهوذا وحده هو الذي علم وعاين. ولكن يهوذا لم يقل لأحد ممن شبه لهم. كان يرجو بصمته أن يكتفي الله من عقابه بالإهانة والجلد، فمضى يحمل على كتفه صليبه وهو يردد: «اغفر لهم يا أبتاه، فإنهم لا يعلمون». نعم، لا يعلمون علم الذي يعلم. ولو علموه لشابت رؤوسهم، أو لخزيوا وذلوا أو لانفضوا من حوله وذهبوا يلتمسون المسيح الذي أفلت من أيديهم بآية من آيات الله. فليصطبر عليها. لا يئن وهم يثقبون بالمسامير يديه وقدميه، ولا يشكو وقد رفعوه على الصليب، ودماؤه تنزف، ونزع الموت يقترب. كانت ما تزال به نضاضة من أمل في عفو الله وقد احتمل ما احتمل. ولكن الأمل ينطفيء بمجيء ملك الموت يتراءى ليهوذا على الصليب فيصرخ يأسًا هو أفظع الألم: «إلهي، إلهي! لماذا تركتني!». أفقد غفر الله ليهوذا فعلته؟ أفقد شاء برحمته أن يحتسبها له شهادة؟ الله عز وجل وجل بغيبه أعلم. ولكنك تعلم الآن، وإن كنت غير مسلم لا يصدق بخبر القرآن ولا يعتد بأنباء القرآن، أن «يوشوع» قد كانت في المسيح «يشوع» اسمًا على مسمى، فقد خلص الله مسيحه ونجاه: إنه «المخلص الناجي»، لا الخلاص أو الذي يكون به الخلاص كما يفسره علماء أهل الكتاب. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/289] وسبحان العليم الخبير، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم. أما جثمان يهوذا الذي قُبِر، ففي إنجيل متى ما يفسر لك مصيره: «وفيما هما ذاهبتان إذا قوم من الحراس جاءوا إلى المدينة وأخبروا رؤساء الكهنة بكل ما كان (يعني أن المائت على الصليب قد قام من قبره الذي وجوده خاليًا من جثمانه). فاجتمعوا مع الشيوخ وتشاورا وأعطوا العسكر فضة كثيرة قائلين قولوا إن تلاميذه أتوا ليلاً وسرقوه ونحن نيام. وإذا سمع ذلك عند الوالي (أي إذا افتضح كذبكم أو حاسبكم على غفلتكم عنه) فنحن نستعطفه ونجعلكم مطمئنين. فأخذوا الفضة وفعلوا كما علموهم. فشاع هذا القول عند اليهود إلى هذا اليوم» (متى 28/ 11- 15). ما يدريك أن هذا بالضبط هو الذي حَدَث؟ ما دمت قد سلمت بأن المقبور هو يهوذا وليس المسيح؟ ولكن «السارقين» من اليهود يكتشفون المهزلة، فقد بطل التشبيه وعاد الجسد يهوذا الذي كان، فماذا يفعلون به، أفيعتلنون بفضيحتهم للناس أم يغيبون الجثمان بعيدًا عن القبر؟ ألقوا به من عل، ليظن أنه ندم فخنق نفسه كما قال متى، أو دفع بنفسه من حالق كما قال بطرس «وإذ سقط على وجه انشق من الوسط، فانسكبت أحشاؤه كلها» (أعمال الرسل 1/ 18). ونحن لا نجادل الأناجيل في كيفية الصلب الذي كان، فالصلب واقع وقع لقول القرآن: «ولكن شبه لهم»، أي حدث القتل وحدث الصلب، ولكنهما كانا في المصلوب الذي شبه لهم، لا في عيسى الذي رفع. ولا نجادل الأناجيل أيضًا في استشهادهم من المزامير على كيفية الصلب وما قاله المصلوب من مثل «ثقبوا يدي ورجلي»، «على ثيابي اقترعوا»، هذا كله في المصلوب، لا في شخصه. ولا يصح قصر «نبوءات المزامير» على المسيح وحده، بل منها ما هو في نجاته، ومنها في إيقاع الصلب على المشبه به، الذي أوقع به عند طالبي دمه فوقع إثمه على نفسه: «كرًا جبا، حفره، فسقط في الهوة التي صنع. يرجع تعبه على رأسه وعلى هامته يهبط ظلمه» (مزمور 7/ 15/ 16). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/290] ونحن أيضًا لا نجادل الأناجيل في أن المسيح تراءى لتلاميذه بعد الصلب، أعني بعد نجاته من الصلب، بل هذا هو الأقرب إلى الصواب، الأشبه بما في القرآن: «إني متوفيك ورافعك إلي». وقد مر بك أن التوفي في الآية من «الاسيتفاء» بمعنى الاستخلاص كاملاً غير منقوص، وقع الاستخلاص أولاً ممن جاءوا للقبض عليه والمحاجزة بينه وبينهم على نحو ما قص عليك مرقس في إنجيله من حديث الشاب المؤتزر بإزار على عريه، الذي اختفى عن أعين طالبي الإمساك به فانسل من ردائه ولم يروه بعد. وما كان الله عز وجل ليرفع المسيح إليه إلا على أعين الحواريين، ليكونوا على رفعه شهودًا، كما سبق أن استشهد الله الحواريين على إنزال المائدة إليهم ليحاسبهم إن كفروا من بعد، حاشا الحواريين أن يكفروا بما استشهدهم الله عليه. وفي إنجيل متى أنه واعد الحواريين قبل محاولة القبض عليه في أورشليم، أي قبل القبض والصلب، أن يلتقي بهم في الجليل، وأن الأحد عشر (أي خلا يهوذا بالطبع) ذهبوا إليه في الجليل، ذهبوا وبعضهم شاك حتى بعد أن رأوه، مما يدلك على أن معجزة التشبيه شبهت عليهم أيضًا (متى 28/ 16- 17) أي كانوا ممن قال القرآن فيهم: {وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن} [النساء: 157]، وكان لا بد للمسيح أن يرتفع إلى السماء أمامهم بعد أن كلمهم (مرقس 16/ 19) ليكونوا شهداءه على إعجاز الله في تخليص مسيحه. أما ما قاله المسيح لهم قبل أن يرفعه الله إليه، فهو في الأناجيل التي بين يديك مقولة الذين شبه لهم شخص المصلوب، وهو أيضًا يتفاوت بتفاوت ما أراد الكاتب إثباته على لسان المسيح احتجاجًا لرأي الذي كتب، إن صدقت بإنجيل فقد كذبت بإنجيل، على ما ترى من قولهم على لسان المسيح في آية «يونان النبي» (يعني يونس عليه السلام) حين طلب منه الكتبة والفريسيون أن يروا منه آية فقال لهم جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تعطى له إلا آية يونان النبي، ثم يمضي متَّى فيقول: «لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان (يعني المسيح) في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال» (متى 12/ 40). لا مفر لك إلا أن تقول إن متَّى أراد هنا الاحتجاجَ لصلب المسيح ودفنه في الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال يبعث بعدها حيًا. ولا يصح هذا لن الذي صلب بإجماع الأناجيل الأربعة حتى متَّى نفسه، إنما مكث في قبره ليلتين فقط (الجمعة والسبت) وخرج منه فجر الأحد. ولا [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/291] يصح أن يقال هذا أيضًا على التشبيه بما كان عليه يونس في بطن الحوت، لأن يونس لم يمت في بطن الحوت ولم يلتقمه الحوت جسدًا ميتًا كحال المصلوب. ولو تمهل متى والمستشهدون بقوله في «آية يونان» لما قالوها ولما نسبوها إلى نبي يوحى إليه لا يقول إلا حقًا. هذا ومثله كثير لا نتصدى له، لأنه يخرج عن مقاصد هذا الكتاب. على أننا نتصدى كما وعدناك لبعض تلك الشبه اللغوية الألصق بمباحث هذا الكاتب، والتي جرت في رأينا إلى ما جرت إليه، ولم يتوقف عندها أحد. أول هذه الشبه، شبهة «نحوية»، وهي أن الإضافة دليل على «المغايرة»، يعني أن المضاف ليس هو المضاف إليه، بل هو غيره. إن قلت مثلاً «ملاك الرب» فهذا يعني أن الرب ليس هو الملاك، والعكس بالعكس. فلا يترتب الملاك لأنه مضاف إلى الرب، كما رببوا «ملاك الرب» جبريل. كذلك إن قلت «ابن الله» فهذا دليلٌ على أن «الابن» ليس هو «الله»، وأن «الله» ليس هو «الابن». وإن قلت مثلاً في إبراهيم أنه «خليل الله» فليس معنى هذا أن إبراهيم هو الله، أن انتمى إليه بالخلة، بل يظل الله هو الله ويظل إبراهيم هو إبراهيم. وإذا قلت «نبي الله» فلا يصح أن تفهم أن للنبي شركًا في الألوهية يستمده ممن أرسله. الإضافة دليلٌ على المغايرة، إلا أن تكون الإضافة لغوًا، كأن تضيف الشيء إلى نفسه فتقول مثلاً «نهر النيل» وقد علمت من قبل أن النيل نهر اسمه النيل. وما أيسر أن تكتشف اللغو في هذه الإضافة، حين تقلب المضاف والمضاف إليه إلى مبتدأ وخبر فتقول: النيل نهر. إن صح لك هذا، وهو صحيح في «نهر النيل»، اكتشفت أن المضاف هو نفسه المضاف إليه، وأنهما معًا عبارةٌ عن ذات واحدة. ولكن لا يصح لك هذا في مثل «الرب ملاك»، «الله ابن»، «الله خليل»، «الله نبي»، لأن اللفظين متغايران، ليس الواحد هو الآخر. على أساس من هذه الشبهة النحوية قال أصحاب مجمع نيقية، الذين أخطأوا من قبل فهم عبارة «بار - أبا» بمعنى «ابن - الأب»، إن المسيح ابن لأب هو الله، وأسموه من بعد «ابن الله»، ورتبوا على هذا أن الابن من ذات جوهر الآب، وأنه والآب واحد، وهذا مرفوض بمنطق «النحو» وحده: من كان ابنا لله فليس هو الله، ناهيك بأن تلد الآلهة أو تولد. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/292] وكما أله مجمع نيقية المسيح على البنوة لله، وقع في نفس الشبهة النحوية المجمع التالي الذي أله جبريل على «الملائكية» لله، أن كان جبريل «ملاك الرب» النافث في مريم كما قال لوقا في إنجيله. وقد جانب هذا المجمع التوفيق جملة في تأليه جبريل على أساس من الأناجيل التي بين يديك، فليس فيها قط أيما شبهة في تأليهه كما وقعت الشبهة في المسيح بإساءة فهم عبارة «بار - أبا» كما سترى لأنه إن جاز لمجمع نيقية القول بأن المسيح هو «ابن الله الوحيد» ليخرج من البنوة لله «آدم» المسمى ابنًا لله في إنجيل لوقا هو الآخر، فليس بمستطاع القول بأن جبريل هو «ملاك الرب الوحيد» لأن ملائكة الرب أكثر من أن تحصى، ولا يعلم جنود ربك إلا هو، فلماذا يتخصص من دونهم جبريل بالتأله؟ وقد مر بك أن لفظة «الملاك» (وهي «ملاخ» العبرية – الآرامية) معناها الرسول المرسل على المفعولية من الجذر العبري – الآرامي «لأخ»، يعني أرسله برسالة، فكيف يكون المفعول هو الفاعل، أو يكون المخدوم هو الخادم، أو يكون العبدُ هو السيد، أوي كون الرسول هو نفسه الذي أرسله؟ وقد قال المسيح في هذه الأناجيل بالنص: ليس عبدٌ (يعني نفسه) بأعظم من سيده، وليس رسول بأعظم من الذي أرسله. وقال أيضًا: الآب أعظمُ من الابن. فكيف يقال إنه هو، المسيح أو جبريل. ولماذا اختير جبريل وحده من دون الملائكة ليكون هو من ذات جوهر الله؟ ألأن معنى اسمه كما مر بك هو «جبار الله» أو «رجل الله»؟ فماذا في «ميكائيل» الذي يقولون إن معنى اسمه «الذي هو كالله»؟ أليس ميكائيل بها أولى؟ ولكن ميكائيل لم يكن هو النافث في مريم. وقد ظنوا – وقد ألهوا «المنفوث» من قبل على البنوة لله – أن المنطق لا يستجيز أن يستعلى المنفوث على النافث، ولكن هل ألزمك أحد بتاليه المنفوث حتى تضطر إلى تأليه النافث؟ في مثل هذه الشبهة أيضًا وقع القائلون بتأليه مريم على المضاف والمضاف إليه، فهي «أم الله» - وإن سمعتها منهم «أم الإله» وكأنهم يخففون عليك من وقعها في أذنيك وكأن ألاله غير الله – ولكنك لا تستطيع أن تقول «الله أم» أو «الاله أم» فيمتنع التظنن في أن مريم هي الله أو الإله بمقتضى النحو وحده، ناهيك بامتناع الأمومة والبنوة في حق الله. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/293] وقد كان بالفعل أناس ألهوا مريم لمجرد أنها «أم عيسى» وقد ألهوه، فلا يصح أن تكون الوالدة أدنى من المولود. وقد أشار القرآن إلى هذا في نعيه على ما قيل في المسيح: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك} [المائدة: 116]، ولكن «عبادة مريم» لم تستقر طويلاً بعد نزول القرآن، بل نبذت واستبقيت لمريم كرامة الأمومة لله (mere de Dieu). ولو أنصفوا لفعلوا نفس الشيء في باقي أفراد الثالوث الأقدس، فاستبقوا لعيسى كرامة النبوة والرسالة، واستبقوا لجبريل كرامة الملك المقرب، وأفردوا الواحد الصمد لا إله غيره بالربوبية لهذين وللبشر أجمع. ولكنك لا تهدي من أحببت. إن قارعتهم بالمنطق قالوا لك وهل يؤخذ الدين من أفواه المناطقة؟ هذا هو الوحي الذي توارثناه كابرًا عن كابر. لا يؤخذ الدين من أفواه المناطقة. هذا صحيح. ولكن لا يصح في مقابله أن يقال ليس في الدين منطق. لأن الدين هو المنطق. وهل تعبد الله البشر من دون الخلق إلا به؟ والدين وحي الله على رسله، نعم. فهلا استمسكوا بما قال موسى وعيسى والنبيون من قبل ومن بعد، الله واحد، وليس آخر سواه؟ أما الشبهة الثانية، فهي شبهة لغوية: ظنوا بلغتهم اليونانية (وقد علمت يونانية هذه الأناجيل) أن «آب»، «أبا»، «أبي» لا تعني في لغة المسيح إلا أبي الذي ولدني، وهي في لغة المسيح تعني «الربُّ» حين يقصد بها الله عز وجل. لن أثقل عليك بالرجوع إلى معاجم اللغتين العبرية والآرامية لتستوثق مما أقوله لك أي لتقرأ فيها أن «الأب» في هاتين اللغتين تعني أيضًا الفاطر المبدع الباري، ولن أحيلك إلى قول المسيح في هذه الأناجيل اليونانية يكنى فيها عن الرب بالأب وقد مر بك، ولن أستشهد لك بتسمية حفيد سليمان بن داود «أبيا هو» أي «الله أبي» على معنى الله ربي التي تسمى بها أيضًا ابن لهرون أخي موسى عليهما السلام، وليس لك [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/294] أن تتصور قبول موسى هذا الاسم لابن أخيه، على معنى اللهُ أبي، وهرون هو أبوه. وإنما هي «الله ربي» لا يصح غيرها في اسم لابن أخي موسى. ولكني سألدك على الشاهد اليقين الذي لا تصح فيه مماحكة من قول موسى عليه السلام نفسه في هذه التوراة التي بين يديك ترجمتها العربية التي أشرف على ترجمتها مسيحيون لا تشك في مسيحيتهم: قال موسى في هذه التوراة التي بين يديك بلغته العبرية: ها ليهوا تجملوا – زوت عام نبال ولوحاخام؟ ها لو – هو أبيخا، قانيخا، هو عاسخا ويخونينخا؟ «وترجمته العربية المعتمدة»: «ألرب تكفائون بهذا يا شعبًا غبيًا وغير حكيم؟ أليس هو أباك ومقتنيك، هو عملك وأنشأك؟» (تثنية 32/6). ليس بعد هذا دليل، وموسى نفسه يجانس الأب على الرب. هذه هي الشبهة اللغوية الأولى. أما الشبهة اللغوية الثانية فهي ظنهم أن «بار» العبرية – الآرامية تعني الابن المولود لأب، وهي تعني أيضًا بذات لفظها ورسمها في الخط العبري – الآرامي كما تقرأ في معاجم هاتين اللغتين: البار المبرور على معنى الصفى المختار. لا يفهم أيهما المقصود (البار أو الابن) إلا من السياق وحده. ومتى قد انتفت الأب بمعنى الوالد في حق الله عز وجل، وإنما هو «الرب»، فلا يصح لك أن تفهم من «بار - الرب» أنه ابن الرب وإنما تقول أنه «مختار الرب»، فلا يصح لك أن تفهم من «بار - الرب» أنه ابن الرب وإنما تقول أنه «مختار الرب» حين تسمع بالآرامية «بار - أبا»، لأن «بار» العبرية – الآرامية هي من الجذر العربي – الآرامي «برر» يعني اصطفى وتخير، فهو الصفي المختار. ومن طريف ما تقرؤه في الأناجيل عبارة مرقس: «ولما رأى قائد المئة الواقف مقابله أنه (أي المسيح الذي على الصليب) صرخ هكذا وأسلم الروح قال حقًا كان هذا الإنسان ابن الله» (مرقس 15/39)، التي تجدها هي نفسها في لوقا: «فلما رأى قائد المئة ما كان، مجد الله قائلاً بالحقيقة كان هذا الإنسان بارًا» (لوقا 23/47). هذه المقابلة بين النصين في مرقس ولوقا تدلك بوضوح – والقائل هو القائل فيهما – على أن «بار» في مرقس فهمت بمعنى الابن، وفهمت على أصلها في لوقا بمعنى «البار». عليك إذن أن تنحو نحو لوقا في هذا الفهم كلما قرأت «الابن» أو «ابن الله» في الأناجيل التي بين يديك حتى لا يستشكل عليك مراد المسيح عليه السلام منهما إن [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/295] قالها أو خوطب بها أو قيلت فيه من بعده، فلن يستشكل عليك أن يكون المسيح عليه السلام صفي الله أو مختار الله، وهل أنبياء الله ورسله إلا أصفياؤه ومختاروه؟ فالحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى. والأطرف من هذا في الدلالة على أن «بار» المعنية ليست هي الابن، وإنما هي «البار» على معنى الصفي المختار، هو اسم ذلك الشقي «باراباس» الذي أبي اليهود طالبو دم المسيح افتداء المسيح به حين عرض عليهم بيلاطس البنطي أن يطلق لهم المسيح ويصلب «باراباس» مكانه. والذي قد لا تعلمه أن أصل هذا الاسم «باراباس» - لا تندهش – هو «ابن الله» على قول من قال إن «بار» يعني ابن، «أبا» يعني الرب: «باراباس» في أصلها الآرامي هي «بار – أبا». وأنت بالطبع مسيحيًا كنت أو مسلمًا لا تستجيز أن يكون معنى اسم هذا الشقي باراباس هو «ابن الرب» أو «ابن الآب» أو «ابن الله». عليك إذن أن تفهم معنى الاسم «باراباس» على أنه «مختار الرب»، أسماه به أبوه يوم ولد تيمنًا وتفاؤلاً، ثم خاب فيه فأله. قال المسيح عليه السلام في القرآن يتشفع عند الله عز وجل للذين بدلوا بعده: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} [المائدة: 118]. لن تستطيع – مهما حاولت – أن تقول أبلغ من هذا القول الذي قاله المسيح في القرآن: لم يقل إنهم «عبيدك»، فأنت وما شئت فيمن خلقت، ولكنه قال «عبادك»، وكأنه يومئ إلى أنهم وغن خاضوا في جلال ذاتك فإنهم يريدون وجهك. افتتنوا بي حتى سفهوا، فارتفعوا بي عن ذليل مقامي منك إلى عزيز مقامك. وأنت القاهر فوق عبادك، عن تغفر لهم فأنت عليها قادر. فماذا كان جواب العزيز الحكيم؟ قال يمتدح صدق المسيح في الذي قاله، ويتكتم على الخلق أجمع بماذا هو مجيبه: {قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم} [المائدة: 119]، أي هذا لك يا عيسى ولمن صدق بك على الأصل [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/296] الذي قلت لهم. وذر القضاء لصاحب الملك: {لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير} [المائدة: 120]. ألا هل بعد هذا بلاغ؟ فسبحان من بيده ملكوت كل شيء له الحمد وله الملك، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/263-297] |
(57) الإنجيل:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ((57) الإنجيل يضم «العهد الجديد» الذي يتعبد به المسيحيون قبيل نزول القرآن وإلى اليوم سبعة وعشرين سفرًا، وهي إنجيل متى وإنجيل مرقس وإنجيل لوقا وإنجيل يوحنا، وهي تحكي سيرة المسيح وأقواله وأفعاله ووصاياه منذ أن ولد حتى رُفِع، فهي أشبه بالسيرة النبوية عند المسلمين. بالإضافة إلى ثلاثة وعشرين سفرًا أخرى أولها «أعمال الرسل» أي أعمال الحواريين ومن دخلوا في عدادهم بعد رفع المسيح، وينسب هذا السفر إلى لوقا أيضًا، صاحب الإنجيل الثالث المسمى باسمه. تجيء بعد ذلك أربع عشرة رسالة تنسب إلى بولس (وهو من غير الحواريين بل لم يشهد المسيح ولم يسمع منه)، ثم رسالة تنسب إلى يعقوب الحواري، واثنتان منسوبتان إلى بطرس رئيس الحواريين، وثلاث منسوبة إلى يوحنا الحواري، واثنتان منسوبتان إلى بطرس رئيس الحواريين، وثلاث منسوبة إلى يوحنا الحواري، التلميذ الذي كان المسيح يحبه، وهو أصغر الحواريين سنًا، وليس هو صاحب الإنجيل الرابع المسمى بهذا الاسم، بل هو سمي له. ثم رسالة منسوبة إلى يهوذا الحواري (وهو غير يهوذا المتهم بخيانة المسيح). وأخيرًا «رؤيا يوحنا اللاهوتي»، وليس هو يوحنا الحواري على التحقيق. والأسفار الأربعة الأولى، أعني الأناجيل الأربعة، هي المعنية بلفظة الإنجيل على الإجمال، يكمل بعضها بعضًا وينقل بعضها عن بعض، هي المعنية بلفظة الإنجيل على الإجمال، يكمل بعضها بعضًا وينقل بعضها عن بعض، متساوية في الحجية عند المسيحيين. فلم تحفظ لك الكنيسة إنجيلاً آخر للمسيح غير هذه الأربعة. ويقول مؤرخو المسيحية إن الأناجيل لم تكن في الصدر الأول أربعة فقط، وإنما كانت بالمئات، نحو ثلاثمائة إنجيل، يروى كل ما شهد أو سمع، أو ينقل عمن شهد أو سمع، أو يقص ما يحتج به لمقولته في المسيح. ولكن الكنيسة – بعد استقرار عقيدة التثليث في القرن الرابع – استبقت من هذه الأناجيل أربعة فقط، هي تلك التي بين يديك الآن، وحظرت ما عداها، الذي طورد وأعدم، لمخالفته بلا شك لمقولة الكنيسة في المسيح. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/298] والمشهور أن مكتبة الفاتيكان احتفظت في خزائنها ببعض هذه الأناجيل المنكرة، المحظور تداولها بين الناس، وليس هذا بشيء وإن صح، لأنه ليس لك حجاج الكنيسة بالذي أنكرته من تلك الأناجيل. من هذه الأناجيل المنكرة عند الكنيسة الإنيجل المنسوب إلى برنابا الحواري كما يروى مكتشف هذا الإنجيل، الذي أنكرته الكنيسة غداة ظهوره في القرن الثامن عشر، ورمته بالزيف والانتحال، مكيدة كادها للكنيسة بعض خصومها وشانئيها. وليس لك أن تأخذ على الكنيسة إنكارها إنجيل «برنابا»، فهو يقول بمقالة القرآن في المسيح: أنه فحسب عبد الله ورسوله، ليس إلهًا أو ابن إله، بشر صريحًا بخاتم النبيين، وأرادوا قتله على الصليب فشبه لهم، ورفعه الله إليه جسدًا حيًا لا يموت حتى قُرْبِ الساعة، فينزل في الناس ليقطع شبهة الناس فيه. ولسنا من القائلين بحجية إنجيل برنابا في مواجهة الكنيسة، إذ ليس لك حجاج الكنيسة بما تنكره، بل كلا يولي الله ما تولى. فحسبك هذه الأناجيل الأربعة التي بين يديك، وفيها رغم كل شيء الكفاية كل الكفاية. وبعد، فليس برنابا الحواري إلا رواية بين رواة، كلهم كتب بغير لغة المسيح، لا تدري عن أي أصل نقل، ولا تدري هل أخطأ في الترجمة أم أصاب. والذي ينبغي التنبيه إليه أنه ليس في هذه الأناجيل الأربعة إنجيل منسوب إلى حواري شهد وعاين، إلا إنجيل متى وحده، الأول في ترتيب أسفار العهد الجديد، عن قلت إنه «متى العشار» (واسمه في الأصل «لاوي» المعدود بين الاثني عشر على ما تجد في إنجيله (متى 10/3). أما كاتب الإنجيل الثاني، مرقس، فهو من تلاميذ بطرس الحواري، سمع منه ولم يشهد أو يعاين، شأن التابع والصحابي عند أهل الإسلام، وأما الإنجيل الثالث، لوقا، فهو يفصح لك في مفتتح إنجيله عن أنه لم يشهد ولم يعاين: «إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا كما سلمها إلينا الذين كانوا في البدء معاينين وخدامًا للكلمة، رأيت أنا أيضًا إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق، أن أكتب إليك على التوالي أيها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحة الكلام الذي علمت به» (لوقا 1/1- 4)، فهو يوناني يكتب [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/299] إلى يوناني، والمشهور أنه سمع من بولس الذي تعلم بشهادته هو أنه لم يسمع ولم يعاين، فلوقا إذن ناقل عن ناقل. وأما الإنجيل الرابع، يوحنا، فقد قالت الكنيسة إنه يوحنا الحواري (التلميذ الذي كان المسيح يحبه)، كتبه وقد أسن قرب ختام المائة الأولى لميلاد المسيح، سألوه في كتابته ليرد على «بدع ظهرت» تجحد لاهوت المسيح، أو تنكر أن قد كان للمسيح وجود قبل مريم أمه، أو تلاميذ ليحيى بن زكريا يغالون به تلاميذ المسيح، فاستجاب لهم وكتب هذا الإنجيل إثباتًا للاهوت المسيح خاصة. وهذا يعني أن قد كان قبل كتابة هذا الإنجيل مسيحيون ماتوا مؤمنين بالمسيح رسولاً نبيًا ليس إلهًا أو ابن إله. وقد أصرت الكنيسة على نسبة هذا الإنجيل إلى يوحنا الحواري دعمًا لشهادته التي تجهر بتأليه المسيح. وليس هذا بصحيح، لا لأنك شهدت الكاتب الذي كتب هذا الإنجيل، وإنما ببساطة لأن الكاتب يُنْهي إنجيله بما تفهم منه صريحًا أنه ليس هو يوحنا الحواري، وإنما هو ناقل عن يوحنا: «هذا هو التلميذ (أي يوحنا) الذي يشهد بهذا وكتب هذا، ونعلم أن شهادته حق. وأشياء أخرى كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة» (يوحنا 21/24- 25)، غنه يؤمن على أستاذه لا أكثر ولا أقل، لأن الضمير في «نعلم»، «لست أظن»، قاطع الدلالة على المغايرة بين هذا المتكلم الشاهد ليوحنا وبين يوحنا المشهود له. والذي ينبغي التنبيه إليه أيضًا أن هذه الأناجيل الأربعة لم يكتب أي منها بلغة المسيح العبرية – الآرامية، وإنما كتبت كلها ابتداء بلغة يونانية متأخرة عرفت باليونانية الكنسية لاحتوائها ألفاظًا وتراكيب لم تسمع من اليونان قبل عصر المسيح، من مثل: إيفنجليون euaggelion يعني «الإنجيل»، فارقليط parakletos التي تترجم في الأناجيل العربية بلفظة «المعزي»، وليس كذلك، وإنما هي «أحمد» أو «محمد» كما سوف ترى. ولا يصح ما قيل من أنه قد كان لهذه الأناجيل اليونانية كلها أو بعضها أصل عبراني نقلت عنه، وبالذات إنجيل متى الذي كتبه كما يقال لليهود في فلسطين، ولكن هذا الأصل فقد. لا يصح هذا القول ليس فقط لأنه لا عبرة بأصل مظنون قد [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/300] فُقِد، وإنما أولا وبالأخص لأن مَتَّى بالذات، بل ومرقس أيضًا الناقل عن بطرس، ذكرا في إنجيليهما كما تعلم عبارات بلغة المسيح العبرية – الآرامية حرصًا كلاهما على ترجمتها إلى اليونانية، ولو كانا يكتبان أصلاً بلغة المسيح لقارئ بلغة المسيح لما احتاجا إلى هذه الترجمة لأن قارئهما لا يحتاج إليها. في هذه الأناجيل الأربعة إذن عناصر ثلاثة تحترز منها كل الاحتراز كي لا تسيء فهم ما نطق به المسيح الذي خاطب ربه في القرآن بقوله: {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم} [المائدة: 117]، وهذه العناصر الثلاثة هي: 1- عنصر الرواية، أعني صدق الراوي فيما روى، فلا تأخذ إلا بما أجمع عليه الرواة الأربعة، أو بما لا يتناقض مع ما أجمع عليه الرواة الأربعة. 2- عنصر الترجمة، أعني صحة الترجمة من لغة المسيح إلى لغة الأناجيل اليونانية، فتفهم «الآب» بمعنى «الرب» كما قالها موسى عليه السلام، وتفهم «الابن» بمعنى البار المبرور المتبرر أي «مختار الرب» لا ابن الرب، كما رأيت في تحليلنا لاسم ذلك اللص الذي رفض اليهود افتداء المسيح به، أعني «باراباس»، التي أصلها العبراني الآرامي «بار - أبا» يعني «مختار الرب» لا ابن الرب ولا ابن الأب. 3- عنصر الرأي، أي القول الذي زاده الكاتب من عنده يفسر برأيه شيئًا من قول المسيح أو فعله، أو يستشهد من العهد القديم بفقرات ينتقيها لإثبات مقولته هو في المسيح، مثلما مر بك في إنجيل متى من استشهاد في غير موضعه بيونس في بطن الحوت، أو يدبج بقلمه ديباجة يستعلن فيها برأيه هو في لاهوت المسيح كالذي تقرأ في مفتتح إنجيل يوحنا. ليس هذا من وحي الله على رسله، وإنما هو قول الكاتب، لا يلزمك. تفعل هذا كمسلم يقرأ في هذه الأناجيل. أما الكنيسة فقد احتاطت لحجية المكتوب في هذه الأناجيل بالكلمة والحرف، فقالت بأنه وحي الله على كاتبيه بذات اللغة التي كتبوا بها، تنزل عليهم به الروح القدس ثالث الثلاثة في عقيدة التثليث، يعني جبريل صلوات الله عليه. وقالت أيضًا أن ما اختلفوا فيه يكمل بعضه بعضًا. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/301] كل إنجيل يقص ما وعى مما سمع. أما حين يصعب التوفيق بين النقيض ونقيضه مثل «ابن الإنسان»، «ابن الله»، وهما «بار - أنشا»، «بار - أبا» الآراميتين، فعندئذ يقال لك: في المسيح ناسوت ولاهوت، أو «الكلمة صار جسدًا وحل بيننا»، أو يقال لك أخيرًا «عظيم هو سر التقوى»، يعني أن هذا فوق العقل، تؤمن به كما علمت. وتؤمن أيضًا بأن آباء الكنيسة الذين صاغوا لك «قانون الإيمان» القائل بأن الله ثالث ثلاثة، وبأن الثلاثة واحد أحد، إنما قالوا ما قالوه هم أيضًا بوحي من الروح القدس بعد رفع المسيح، فهم معصومون بعصمة الله عز وجل من الوقوع في الخطأ. هنا يمتنع الجدل ويمتنع الحوار. ولكنك تقول ما قاله الله عز وجل في القرآن: {من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا} [الكهف: 17]، أو تقول بقول القرآن: {قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون} [الزمر: 46]. وقد قال نقاد أناجيل مسلمون أن «الإنجيل» المَعْنِيَّ في القرآن ليس هو تلك الأناجيل الأربعة المعتمدة وحدها عند المسيحيين يوم نزول القرآن، بل ثمة «إنجيل» آخر كتبه المسيح أو أملاه، ولكن أتباع المسيح أضاعوه. وليس على هذا القول دليل، بل لديك من القرآن الدليلُ على عكسه، أعني أن القرآن ينظر إلى هذه الأناجيل الأربعة نفسها، التي فيها من وحي الله وفيها من قول الرواة، وأن الذي فيها من وحي الله على عيسى هو وحده المَعْنِيُّ بلفظة «الإنجيل» في القرآن، وما عداه ليس بإنجيل، لقوله عز وجل في هذا القرآن: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} [المائدة: 47]، وما كان الله ليعمي عليهم إنجيلاً غير الذي بين أيديهم، ولكنه طلب إليهم أن يتحروا ما أنزل الله فيه، وينبذوا ما زاد الرواة. فكيف تميز أنت كمسلم بين ما قاله الله عز وجل في هذه الأناجيل الأربعة وبين ما زاد فيها الرواة؟ قد علمت أن الله عز وجل يخاطب الخلق على لسان أنبيائه، لا على لسان صحابة أو تابعين، ولا على لسان حواريين أو رواة لحواريين. فالذي قاله الله عز وجل في الأناجيل هو الذي نطق به المسيح نفسه مبلغًا عن ربه. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/302] حيثما وقعت في الأناجيل على قول محكي عن المسيح أنه قاله، عليك أن تضعه بين قوسين، أو تخط تحته سطرًا، ودعك من الباقي، فليس هو من المسيح نفسه ضربة لازب، وإنما هو من قول الكاتب، يحتج به لمقولته في المسيح، لا يلزمك، لأنه ليس من وحي الله على رسله. خذ مثلاً تلك الديباجة الفخمة المفخمة التي افتتح بها يوحنا إنجيله، المكتوب بعد رفع المسيح بما لا يقل عن ستين سنة في أقرب التقديرات، يحتج به لعقيدته في لاهوت المسيح: «في البدء كان الكلمة. كان عند الله، وكان الكلمة الله. هذا كان عند الله. كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان. فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس. والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه» (يوحنا 1/1- 5)، ويمضي فيقول: «كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتيا إلى العالم. كان في العالم، وكون العالم به ولم يعرفه العالم. إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله. وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه. الذين لا من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل ولكن من الله ولدوا» (يوحنا 11/9- 13). هذا الكلام العويص المبهم المفخم الذي قاله يوحنا في مفتتح إنجيله – أيا كان رأيك فيه – ليس من وحي الله على رسله، لأن قائله ليس المسيح، وإنما القائل هاهنا هو يوحنا الكاتب، يستعلن بعقيدته في ألوهية المسيح، وأن الله والمسيح واحد (وكان الكلمةُ الله)، ناسيًا أنه سيقول بعد ذلك على لسان المسيح يُناجي ربه: «أنت الإله الحقيقي وحدك» (يوحنا 17/3)، أفتأخذ بقول يوحنا وتترك قول المسيح؟ [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/303] أما وقد استصفيت أقوال المسيح في هذه الأناجيل فخذ بأحسنها، كالذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، معيارك في ذلك ألا تترك محكم القول إلى متشابهه، بل تحكم المحكم في المتشابه فتقيده به، لا تحكم المتشابه في المحكم وتفسر المحكم بالمتشابه الذي يضطرك إلى قول المحال على الله عز وجل، كالذي قيل في مجمع نيقية وما تلاه من مجامع. وليس عليك بعد ذلك حرج أن كنت مسلمًا يقرأ في هذه الأناجيل، فقد وضح لك الطريق، واستبان المنهج. والذي يعنينا بالدرجة الأولى في مقاصد هذا الكتاب الذي نكتب، هو معنى لفظة «إنجيل». وقد قال علماء المسيحية إنها لفظة يونانية هي «أيفنجليون» euaggelion معناها الحرفي هو الخبر السار أو البشارة. ولكن بشارة بمن أو بماذا؟ أهي بشارة بشيء حدث أم بشيء سيحدث؟ إن كانت بشارة بشيء حدث فهي المسيح نفسه الذي «تنبأت الكتب» بمجيئه، فهو البشرى التي تحققت. ولكن علماء المسيحية لا يقولون بهذا، وإنما يقولون أن البشرى هي بشيء سيحدث، وأن رسالة المسيح هي البشارة بهذا الذي سيحدث. فما الذي جاء المسيح يبشر به؟ أعني ما هو الخبر السار الذي جاء يعلنه للناس، فسميت به الأناجيل «إنجيلا»؟ قال علماء المسيحية أن الذي جاء المسيح يبشر به في هذه الأناجيل هو قرب «ملكوت السموات»: «من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز ويقول توبوا! لأنه قد اقترب ملكوت السموات» (متى 4/17). هذه العبارة، ملكوت السموات، وتجيء أيضًا بلفظ ملكوت الله، من العبارات الهائمة المبهمة في مصطلحات الأناجيل، استعصى فهمها حتى على الحواريين أنفسهم فما فتئوا يسائلون عنها المسيح وما فتئ هو يضرب لهم المثل تلو المثل في شرحها، حتى فهموا أخيرًا أنه يعني بها الحياة الآخرة، فريق في الجنة وفريق في السعير. إنها البشارة بقرب قيام الساعة. ولكن لماذا تسمى الساعة ملكوتًا، فيقولون في صلواتهم: «أبانا الذي في السموات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك، كما في السماء فكذلك على الأرض» (متى 6/9- 10)؟ الذي يقرب لك المعنى إن كنت من أهل القرآن هو قوله عز وجل يوم يرث الأرض ومن عليها {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} [غافر: 16]. وربما [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/304] كني المسيح بلفظ «الملكوت» عن الجنة، فقال «أبناء الملكوت»، يعني الأبرار الداخلين في عفو الله ورحمته، المنعمين في رضوانه، أولئك «هم الوارثون» كما تجد في القرآن. ولكن، كيف تصح البشارة بقرب قيام الساعة؟ قد كان يظن عصر كتابة متى إنجيله أن الساعة على الأبواب، لقوله في مرقس: «متى رأيتم هذه الأشياء صائرة فاعلموا أنه قريب على الأبواب. الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله» (مرقس 13/29 – 30)، لا يلبث المسيح أن يرفعه الله إليه حتى يعود في مجيئه الثاني فتقوم الساعة. ولكن مضت القرون ولم تأت الساعة. وقد قال لهم المسيح في نفس الموضع: «وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلا الآب» (مرقس 13/32)، وكفى بهذا إقرارًا من المسيح بأنه لا يعلم إلا ما علمه الله، أما الساعة فعلمها عند ربي، لا يجليها لوقتها إلا هو، كالذي تقرأ في القرآن. فكيف يبشر المسيح بشيء لا يعلم موعده. لم يبشر المسيح باقتراب ملكوت السموات إذن، فقد مضت إلى اليوم قرون وقرون ولم تقم الساعة. بل لا يصح لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبشر بقيام الساعة. الأحرى أن ينذر بها ولا يبشر، فليست هي بالخبر السار إلا لمن ضمن الجنة، ولا يضمن أحد الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته، وإنما هو يرجو عفو الله ومغفرته، فكل عمل في جنب الله قليل لم يقل المسيح: تهللوا! فالساعة قريب. وإنما قال: توبوا! فقد اقترب ملكوت السموات. إنه هنا نذير لا بشير. لم يبشر المسيح إذن بملكوت السموات، إن فهمت ملكوت السموات بمعنى قُرب قيام الساعة، وإنما تستطيع أن تقول أنه أنذر بها. وقد قالها يوحنا قبله بنفس عبارته: «توبوا! لأنه قد اقترب ملكوت السموات» (متى 3/2). ومن ثم لا يصح اختصاص المسيح وحده بهذه البشارة، أعني النذارة، حتى يسمي بها وحي الله عليه «الإنجيل»، فلم يغفل عن قولها من قبل ومن بعد نبي. قيل أيضًا أن بشارة المسيح هي البشارة بمغفرة الخطايا، يعني أنه جاء خلاصًا للبشر من خطاياهم. وليس بشيء، لقوله في مرقس: «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها. من آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يدن» [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/305] (مرقس 16 15- 16)، فليس هو إذن خلاصًا للبشر أجمع، وإنما الخلاص لمن آمن. وهذا صحيحٌ فيه وفي سائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. فليست هي إذن بشارة تتخصص به. وقد دعا بها يوحنا قبله: «كان يوحنا يعمد في البرية ويكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا» (مرقس 1/4). فلا مغفرة إلا بالإيمان والتوبة، أتباع يحيى وأتباع المسيح في هذا سواء. وما العماد على يد يحيى أو عيسى إلا عهد على إخلاص التوبة. ها قد استبان لك بالتحليل النقدي وحده أن محور رسالة المسيح عليه السلام ليس هو البشارة بقيام الساعة – إن فهمت ملكوت السموات بمعنى يوم الحساب – فلا أحد يبشر بقيام الساعة ولا يطلبها في صلواته. وليس هو أيضًا «النذارة» بها، فهذا عامٌ في كل نبي لا يختص به المسيح وحده. بل حتى إن فهمت ملكوت السموات بمعنى الحياة الآخرة «الملك يومئذ لله»، فريق في الجنة وفريق في السعير، أو فهمت ملكوت السموات بمعنى الجنة فقط، فلا يستقيم لك هذا أو ذاك، لأن التبشير بالجنة والتنفير من النار هو قول الأنبياء جميعًا لم يغفل عن قوله نبي، ولا يختص به نبي دون نبي، لا يصح أن تنفرد به رسالةُ المسيح فيتسمى به «إنجيليه». ولا يصح أيضًا أن تكون رسالةُ المسيح هي «البشارة» بمغفرة الخطايا، فهذه هي بُشرى جميع الأنبياء من قديم لكل مؤمن تاب وأناب فأسلم وجهه لله مخلصًا له الدين. ولا يصح بالذات ما قاله اللاهوتيون من بعد في تأصيل نظرية البشارة بمغفرة الخطايا: قالوا بل من الخطايا مكتسب وأصلي. فأما المكتسب فهو الذي يجترحه البشر في هذه الدنيا ويصح تكفيره بالاستغفار والتوبة. وأما الخطيئة الأصلية فهي خطيئة يولدون فيها ولا حيلة لهم في دفعها لأنهم ورثوها ولم يجترحوها. إنها خطيئة أبيهم آدم يوم نسى فأكل من الشجرة المنهي عنها، فباء بإثمها البشر جميعًا، الذين يولدون في دنس هذه الخطيئة منذ أن طرد أبوهم من الجنة حتى مجيء المسيح «ببشارة» افتدائه البشر منها بدمه المسفوح على الصليب، لأن «الآب» لا يقبل قربانا يعدل معصية آدم إلا دمًا زكيًا لم يولد في دنس هذه الخطيئة، وهو المسيح، ابن الله الوحيد الذي ولد لخلاص العالم. ولا يصح هذا، ليس فقط لأن الله تاب على آدم وزوجه قبل إهباطهم إلى الأرض كما قال القرآن: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/306] عليه إنه هو التواب الرحيم} [البقرة: 37]، ليس هذا فحسب، وإنما أولاً وبالذات لأن الخطيئة لا تورث، بل كل امرئ محاسب فحسب بما قدمت يداه، لا يسأل بما فعل آباؤه، ولا يؤخذ بفعل ذراريه. وثانيًا لأن معنى هذه المقولة هو أن الأبرار قبل المسيح – وفيهم أنبياء الله ورسله وصديقوه – ماتوا كلهم في خطيئة آدم، لا حظ لهم في الآخرة. ولا يصح هذا أخيرًا وبالذات لأن المسيح لم يقله في هذا الإنجيل الذي بين يديك، ولا يجوز التزيد على أنبياء الله ورسله، ولا سيما في أمر هو عمود الدين عند أصحاب هذا اللاهوت. وقد جودل أصحاب هذه المقولة بمعظم هذا الذي قلناه، فأحيط بهم. ولكنهم استدركوا على أنفسهم فقالوا إن الأبرار قبل المسيح – وفيهم أنبياء الله ورسله وصديقوه ومنهم مريم عليها السلام – يُعفِيهم الله بسبق الاصطفاء من وزر الخطيئة الأصلية فلا يولدون في دنس خطيئة آدم، وإنما تحمل بهم أمهاتهم حملاً بريئًا من هذا الدنس، يرقعون كما ترى قولاً يقول، فما صح لهم هذا ولا ذاك، لأنه متى فسدت المقدمات فقد فسدت النتائج. إذا كان المسيح لم يبشر بالساعة، ولم يبشر بمغفرة الخطايا مجانًا، ولم يبشر بنسخ الولادة في دنس خطيئة آدم، فبماذا بشر المسيح إذن في إنجيله إذا كانت «الإنجيل» تعني يونانيً البشارة أو الخبر السار؟ يقول أهل القرآن أن بشارة المسيح إنما كانت بختام النبوات على يدي الذي يأتي بعده، لقول المسيح في القرآن ينص على هذه البشارة: {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} [الصف: 6]. لا تقرأ هذا أو قريبًا منه في أناجيل متى ومرقس ولوقا، وإنما انفرد به «يوحنا» الذي جمع بين النقائض: أله المسيح جهرة في مفتتح إنجيله، وختمه بالنص على أن المسيح رُفِع ولم يَقُل بعد كل الذي يجب أن يقال، كما يتبين لك من قول يوحنا على [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/307] لسان المسيح: «إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقولَ لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذلك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية» (يوحنا 16/12- 13). لم يرشد المسيح أتباعه إذن إلى «جميع الحق»، بل عليهم أن ينتظروا «الآخر»، متمم النبوات جميعًا، الذي يرشدهم إلى «جميع» الحق، فلا يبقى بعده من رسالات السماء شيء يقال. هذه في الأناجيل هي شهادة عيسى للقرآن ولمحمد صلى الله عليه وسلم قبل ختام النبوات به بعد ستة قرون من رَفْع المسيح، وهي بشارته بقائل جميع الحق. وهي كافية في ثبوت بشارة عيسى بخاتم النبيين، ولو قد تلبث عندها علماء المسلمين لكفتهم، ولكنهم أصروا على التماس اسم خاتم النبيين في الأناجيل صريحًا على لسان المسيح، وسيأتي. على أن علماء المسيحية لم يسلموا لعلماء المسلمين بالذي قالوا، وهذا بديهي، وإلا لدخلوا ودخل معهم الخلق جميعًا في دين الله أفواجا. وإنما يقول شراح المسيحية وعلماؤها ولاهوتيوها أن هذا الآخر الذي يأتي بعد رفع المسيح ليرشد الناس إلى جميع الحق، أي ليقول لهم ما لم يقله المسيح، لأنهم لا يستطيعون احتماله، الذي نعته المسيح بروح الحق، ليس هو بشرا من أنبياء الله ورسله، وإنما هو «الروح القدس»، ثالث الثلاثة في عقيدة التثليث، يعنون ملك الله جبريل صلوات الله عليه. وهذا القول – إن تمعنت – مردود بما في إنجيل يوحنا نفسه الذي تجد فيه بالنص من كلام المسيح لتلاميذه قبل القبض عليه: «وأما الآن فأنا ماض إلى الذي أرسلني وليس أحد منكم يسألني أين تمضي. لكن لأني قلت لكم هذا قد ملأ الحزن قلوبكم. ولكني أقول لكم الحق إنه خيرٌ لكم أن أنطلق. لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعَزّي (وهي الفارقليط Parakletos اليونانية). ولكن إن ذهبت أرسله إليكم» (يوحنا 16/5- 7)، وهذا صريح في أن المسيح وهذا الآتي من بعده لا يتعاصران على هذه الأرض. لا بدُ من رفع المسيح أولاً قبل مجيء هذا الآتي. بينما تقرأ في يوحنا أن هذا الروح القدس كان معهم قبل رفع المسيح، بل إن المسيح نفخ فيهم هذا الروح القدس قبل ارتفاع المسيح: «ولما قال هذا نفخ وقال لهم اقبلوا الروح القدس» (يوحنا 2/22). وهو مردود أيضًا بأن [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/308] «الروح القدس» عندهم إله (ولم يكن يوحنا يعلم بالطبع يوم كتب إنجيله أن جبريل سيتأله في الربع الأخير من القرن الرابع)، ولا يليق بإله ألا يتكلم من نفسه، بل ينتظر سماع ما يقال له ثم يقوله للناس، وإنما يصح هذا في أنبياء الله ورسله، يلقى إليهم وحيه فيتكلمون به، شأن محمد صلى الله عليه وسلم وهذا القرآن. بل لا يصح في جبريل بالذات وإن لم يتأله جبريل، لقول المسيح في يوحنا: «ومتى جاء المعزي (وهي الفارقليط Parakletos اليونانية) الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي» (يوحنا 15/36) لأن جبريل عليه السلام، ملك الله إلى أنبيائه ورسله قد سبق «انبثاقه»، لا ينتظر المسيح حتى يرسله من عند «الآب»، بل قد سبق انبثاقه مولد عيسى نفسه، لأنه النافخ في مريم، المؤيد للمسيح في المعجزات التي أجراها الله على يديه. ولو كان عيسى إلهًا بذاته لما احتاج إلى جبريل. ولو كان جبريل إلهًا بذاته لما احتاج إلى «السماع» من الآب ليتكلم بما يقوله له «آب» من ذات جوهره. ولو بقي جبريل ملكًا على أصله لما جاز أن يكون هو المبشر به، لأن الملائكة لا تتنزل على تلاميذ، وإنما تتنزل على أنبياء، كالشأن في جبريل ومحمد، صلوات الله وسلامه على ملائكته وأنبيائه. وأخيرًا – وهو الفاصل الحاسم – فإن هذا الذي تنزل على التلاميذ يوم الخمسين (أي بعد خمسين يوما من رفع المسيح كما تقرأ في سفر أعمال الرسل) لم يقل لهم شيئًا، لا من نفسه ولا سماعًا من الآب، كما قال المسيح في الآتي بعده، وإنما كان دوره هو تأييده ونصرتهم وإجراء العجائب على أيديهم كالذي تقرؤه في سفر أعمال الرسل. ليس هذا إذن هو الآتي بعد المسيح، الذي «شهد له»، وإنما الشاهد للمسيح هو هذا القرآن. أما لفظة «الفارقليط» Parakletos التي سمى بها المسيح هذا الآتي بعده، فهي من اليونانية الكنسية التي لم تسمع قط من اليونان قبل عصر المسيح، يعني أنها منحوتة نحتًا لتسمية هذا الآتي، وقد قال علماء المسيحية إنها يسهل اشتقاقها على المفعولية من الفعل اليوناني Parakalein بمعنى استغاثه واستنصره واستعانه فهو إذن المستغاث، المستنصر، المستعان: أخذوا Kalein اليونانية بمعنى ناداه واستدعاه، وأخذوا المقطع اليوناني Para بمعنى إلي حوالي، وكأنك تقول «هلم إلي». ولا تزال Parakalo في اليونانية المعاصرة تفيد معنى الطلب والرجاء (أرجوك!) هذا التفسير المسيحي للفظة الفارقليط Parakletos بمعنى النصير الشفيع، تفسير متأثر [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/309] بالدور الذي اضطلع به «روح القدس» من بعد رفع المسيح من نصرة التلاميذ وتأييدهم بالعجائب التي أجراها على أيديهم على نحو ما تقرؤه في سفر «أعمال الرسل»، وإن لم يقل لهم شيئًا مما قال المسيح إنه سيرشدهم إليه، الذي يقول لهم «جميع» الحق. ومن ثم لا يتفق هذا التفسير مع دور هذا «الآتي» من بعد المسيح، لأنه ليس المعني بها. ولا شك أن يوحنا الكاتب لهذا الإنجيل حين نص على أن الفارقليط هو نفسه روح القدس جبريل: «وأما الفارقليط الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم» (يوحنا 14/26)، كان متأثرًا بهذا الذي كان، فخلط قلمه بين «روح الحق»، «روح القدس» التي سمى بها الفارقليط مرة واحدة فقط في هذا الموضع وهي في كل المواضع الأخرى «روح الحق»، وليست روح الحق هي روح القدس كما ظن يوحنا المتأثر بالذي كان. والذي ينبغي التنبيه إليه أن ترجمات الإنجيل بكل اللغات استبقت لفظة فارقليط على أصلها، تحاشيًا من التورط في ترجمة معناها إلى اللغة المترجم إليها، فقالت الترجمة العربية حتى أوائل هذا القرن «فارقليط»، وقالت الترجمة العبرانية «برقليط»، وقالت الفرنسية le Paraclet، إلخ. ولكن من اللغات الأوروبية من تصدت لهذه الترجمة فقالت الألمانية «المدافع» أو «الشفيع» المتشفع به Fürsprecher وتابعتها الإنجليزية على هذا المعنى فقالت «الناصح المشير» Counsellor وكأنها المحامي، وقالت الإنجليزية أيضًا «المعزي» المواسي Comforter وأخذتها عنها الترجمة العربية المعاصرة فقالت «المعزي»، لا تجد اليوم غيرها في ترجمات الإنجيل العربية. وليس هذا كله بصحيح من حيث اللغة، لا سيما «المعزي»، وإنما هو التفسير بالعقيدة، لا التفسير باللغة، فليس في Parakalein اليونانية شيء من معاني العزاء والمواساة، وليس فيها أيضًا شيء من معاني الشفاعة والمدافعة والمشورة، وإنما هي – إن اشتققتها من Parakalein كما يقول علماء المسيحية – تعني فقط المستغاث المستنصر المستعان، أو الذي تتوجه إليه بالرجاء، على معناها الباقي في اليونانية المعاصرة. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/310] أما علماء المسلمين فقد دلهم بعض السريان من قديم على أن «فارقليط» هذه تعني في اليونانية «أحمد» التي في القرآن اسمًا لخاتم النبيين الذي بشر به عيسى قومه في القرآن. فذهب بعض المفسرين إلى أن «الفارقليط» من أسمائه صلى الله عليه وسلم. وقد جادل بها المسلمون أهل الكتاب إلى هذا العصر. وانتبه علماء المسيحية إلى خطورة هذا حين يقرؤه المسيحيون العرب الذي يعرفون على التحقيق معنى الاسم «أحمد» أو «محمد» في لغتهم العربية، ولا علم لهم بتلك اللغة اليونانية التي كتبت بها أصول الأناجيل وصيغت بها لفظة Parakletos هذه التي استبقيت على أصلها «فارقليط» في الترجمات العربية حتى أوائل هذا القرن العشرين، فلا يستطيعون لمقولة علماء المسلمين هؤلاء دفعًا. قال علماء المسيحية إذن أن Parakletos اليونانية لا تعني قط «أحمد» وإنما تعني «المعزي» فحسب، معقبين بأنها في الأصل اليوناني Parakletos، وليست Perikliots، «فليس في المتن شيء من معاني الحمد». وتوقفت ترجمات الإنجيل العربية عن استخدام لفظة الفارقليط، ووضعت في موضعها لفظة «المعزي» قطعًا للجدل حول شبهة معنى «الحمد» في الاسم على مثال ما فعلت الترجمة الإنجليزية Comforter. هذا الدفع «اللغوي» بأن الفارقليط لا تعني أحمد، دفع متأخر بطبيعة الحال، لم يعرف قبل مبعث خاتم النبيين المسمى «محمدا»، أو قل إنه لم يعرف قبل اطلاع الغربيين على معنى اسمه صلى الله عليه وسلم، فهبوا لمنع اشتباه اسمه باسم ذلك الآتي بعد المسيح، الذي إن لم ينطلق هو لا يجيء. ولكن هذا الدفع لم يطفيء الشبهة، بل زادها اشتعالاً: ها قد علم المسلمون أن في اليونانية «فريقليط» Periklitos بمعنى «أحمد» شبيهة كل الشبه بـ «فارقليط Parakletos المثبتة في الأصل اليوناني، فلم لا تكون هذه هي تلك، تحرفت على قلم يوحنا الكاتب في إنجيله؟ على أن علماء المسيحية أصحاب هذا الدفع اللغوي لم يوفقوا، فليس معنى فارقليط Parakletos اليونانية هو «المعزي» كما مر بك وكما يعلم دارسو اللغة اليونانية، ولا معنى للإصرار على أن الفارقليط يعني المعزي. وليس بصحيح أيضًا [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/311] أن Parakletos لا تعني «أحمد»، وأنها لو كانت أحمد لقيلت بلفظ Periklitos، بل Parakletos بذاتها ودون افتراض تحريف أو تحوير، تعني أحمد أيضًا، إن اشتققتها لا من Parakalein وإنما من Parakleiein، المقطع الأول Para بمعنى المبالغة وتجاوز الحد، والمقطع الثاني Kleiein فعل بمعنى مجده وحمده فهو المحمود أكثر من غيره، شأن «أحمد» التي جاءت في القرآن، وفي هذا تعليل لمجيئها على «أحمد» لا «محمد»، لأن القرآن ينظر إلى المكتوب في الأناجيل اليونانية لا إلى ما نطق به المسيح بلغته، وليس في اليونانية صيغة «مفعل» التي في العربية والعبرية، وإنما فيها المقطع Para الذي يفيد المبالغة وتجاوز الحد. والمحقق الذي لا يصح فيه جدل أن المسيح لم يقل فارقليط أو فريقليط، فهو لا يتكلم اليونانية، ولا يحدث تلاميذه بها، وإنما هي ترجمة من يوحنا الكاتب، لا تدري عما نقل، فلا تدري هل أخطأ أو أصاب. هذا إن قلت أن «فارقليط» يونانية. ولكنك تستطيع أن تقول أيضًا وهذا هو الذي أرجحه أنا – إن «فارقليط» ليست يونانية، وإنما هي عبرية – آرامية «برق + ليط» على ما نطق به المسيح بلغته ونقلها على حالها يوحنا الكاتب حسبما استقام له نطقها بلسانه اليوناني. الذي يدلك على هذا أن العبرية المعاصرة تستخدم «برقليط» هذه بمعنى المحامي، لا اسم عندها للمحامي غيره. وقد تقدم القول في تضاعيف هذا الكتاب أن لفظة «برق + ليط» العبرية – الآرامية معناها كاشف الغشاوة أو واضع الإصر، وهو نعته صلى الله عليه وسلم في القرآن: {الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [الأعراف: 157]. والإنجيل المعني في هذه الآية هو بلا شك هذا الإنجيل اليوناني الذي بين أيديهم، فما كان الله ليعمي عليهم إنجيلاً آخر، وما كان القرآن ليقول إلا حقًا، لأنه هاهنا يتحدى أهل الكتاب بهذا الحق: إنه عندكم مكتوب في إنجيلكم فتلمسوه فيه، باسمه أو بنعته، لقوله عز وجل مباشرة بعد ذكرى بشرى المسيح قومه بمحمد في الآية 6 من سورة الصف: {ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون} [الصف: 7 – 8]. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/312] هذا قاطع في بشارة الإنجيل بخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، سواء قلت إنه «الفارقليط» المتنازع عليها، أو قلت أنه قائل جميع الحق الذي لا يبقى بعده شيء يقال كما وصفه المسيح صريحًا في هذا الإنجيل الذي بين يديك. هذه هي «البشارة» إن قلت إن «الإنجيل» يونانيًا معناها البشارة. على أننا لا نتلبث طويلاً عند هذا، فقد مر بك في تضاعيف هذا الكتاب أن رسالات الله عز وجل – من آدم إلى محمد صلوات الله وسلامه على جميع رسله وأنبيائه – إنما تستمد الدليل على صدقها من ذاتها لا من خارجها، لا تحتاج إلى نبوءات وبشارات في الكتب السابقة كالذي ألح عليه كتبة الأناجيل الأربعة. القرآن غني عن ذلك، فلم يبق قولاً لقائل من بعده. ولو كان بعد خاتم النبيين نبي – وهذا من إعجاز القرآن في أنباء القرآن – لما عدم الناس نبيًا جديدًا يقطع هذه الفترة المتطاولة – أربعة عشر قرنًا حتى الآن – التي لا سابقة لطولها في تاريخ الأديان بين نبي ونبي، لا شأن لك بالطبع بمن تطفل واقتحم فجاء بنفسه لم يرسله أحد، من أمثال تلك البهائيات والقاديانيات التي لم تأت بجديد إلا محاولة «المصالحة» بين اليهودية والنصرانية والإسلام، فضيعت على نفسها هذا وذاك. على أن «الإنجيل» لا تعني يونانيًا البشارة أو الخبر السار كما سوف ترى: هذا على شهرته غير صحيح. المتفق عليه بين علماء المسيحية جميعًا هو أن «الإنجيل» تعريب «إفنجليون» اليونانية euaggelion مركبة من مقطعين: eu + aggelion الأول هو البادئة eu التي تُفيد التقريظ والتحميد، والثاني aggelion قالوا أنه بمعنى «الخبر»، فهو «الخبر السار». وقد حرصت جميع الترجمات على استبقاء euaggelion على أصلها، فقالت الإيطالية Evangelo وقالت الفرنسية Evangile وقالت الألمانية Evangelium، إلخ. وقالت العربية «إنجيل» كما تعلم، وقال السريان «أنجليون» (التي حكاها عنهم [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/313] القرطبي في تفسيره فرسمها بالكاف «أنكليون» لأن الجيم السريانية هي الجيم القاهرية، لا يصح عنده رسمها بجيم عربية القرآن). أما الإنجليزية فتصدت لترجمتها على ما شاعت به، فقالت Gospel (التي أصلها good + spell) بمعنى القول الطيب، تريد «البشارة». وأما الترجمة العبرانية للأناجيل اليونانية فقالت «بسورا» تعني البشارة حرفيًا. وهذا يدلك على أن ترجمات الأناجيل جميعًا ومنها العربية والسريانية استبقت اللفظ اليوناني على أصله، فيما عدا الإنجليزية والعبرانية اللتين تصدتا لترجمته، فأخطأتا كلتاهما كما سترى. هذا الخطأ الشائع الذي وقع فيه المترجمان الإنجليزي والعبراني منشؤه أنهما ترجما «المفهوم» الذي شاع، لا «الأصل» اليوناني في لغته اليونانية. لأن المقطع الثاني في هذه اللفظة (إن حسبتها يونانية) هو «أنجليون» aggelion وهو مأخوذ من «أنجليو» aggelio يعني «الرسالة» اشتقاقًا من «أنجلوس» aggelos يعني الرسول المرسل (ويطلقها اليونان أيضًا على الملك واحد الملائكة ومنها angle الإنجليزية، مثلما تفعل العبرية والآرامية في «ملآخ» التي تستخدم بمعنى الملك واحد الملائكة وبمعنى الرسول واحد الرسل). «أنجليون» إذن معناها الرسالة لا الخبر. أما المقطع الأول eu فهو بادئة يحلى بها ما بعدها («أنجليون») فتفيد التقريظ والتحميد كما في eu – genis يعنس حسن التربية فهو المهذب، وكما في eu – geustos يعني حسن المذاق، فهو السائغ الشهي، أو تفيد الخير كما في eu – logia أي قول الخير، يعني المباركة والتبريك، أو تفيد المبالغة في تحقق الصفة في الموصوف كما في eu- pathis يعني الشديد الحساسية، فهو الهش الرقيق. من هنا تتيقن أن هذا اللفظ اليوناني المركب «إفنجليون eu – aggelion ليس معناه الخبر السار أو الخبر الحلو أو الخبر الطيب، أو الخبر نعم الخبر، وإنما هو محض «الرسالة» حلاها كتبة الأناجيل بهذه البادئة eu التي تفيد التقريظ والتحميد، أو ما شئت من معاني هذه البادئة اليونانية على ما أوردناه آنفًا. وربما قيل لك أن «الرسالة» من معنى «الخبر» قريب، وما يدريك أن كتبة الأناجيل أرادوا معنى «الخبر» فقالوا في موضعه «رسالة»؟ ولا يصح هذا، أولا وقبل كل شيء لأنك تأخذ القائل بما قاله لا بما أبطنه. وثانيًا لأن الذي لا يفرق بين معنى الخبر ومعنى [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/314] الرسالة، لا يفقه من أمر لغته شيئًا، فلا تأتمنه على شيء مما كتب في هذه الأناجيل، وثالثًا لأنهم لو أرادوا الخبر الطيب أو الخبر السار لقالوا ببساطة kalo neo (مفرد kala nea اليونانية مكافئة good news الإنجليزية)، ولما تمحلوا هذه الصيغة المخصوصة euaggelion التي لم تسمع قط من اليونان قبل المسيح، ورابعًا، وهو الفاصل الحاسم، لأن «أفنجليون euaggelion هذه لو كانت تعني يونانيًا البشارة أية بشارة، أو الخبر السار أي خبر سار، لصلحت في اليونانية بهذا المعنى في غير اسم «إنجيل المسيح»، ولكنها جمدت في الاستعمال علمًا على ما جاء به عيسى، لا تصح في غيره كما يعرف علماء تلك اللغة. لن تحتاج بالطبع إلى أن أدلك على الفرق بين معنى الرسالة ومعنى الخبر: الرسالة تقتضي «مرسلاً، «رسولاً»، «مرسلاً إليه»، والخبر لا يحتاج إلى أي عنصر من هذه العناصر الثلاثة، فقد ينتقل الخبر بذاته، وقد ينتقل ممن يحرص على إخفائه فيذهب لمن لا يعنيه الخبر ولا يأبه به. والرسالة لا تتضمن خبرًا بالضرورة، بل بالأحرى طلبًا أو تكليفًا، وهي في الغالب الأعم تشترط ردًا، ولكنها في أقل القليل تنتظر «استجابة». وليس الخبر أو النبأ من هذا كله في شيء. وقد استشعر المترجم العربي حرجًا من إضافة «الإنجيل» إلى الله في مثل قول مرقس: «وبعد ما أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز بإنجيل الله» (مرق 1/14)، فقالت ترجمة الفاتيكان العربية «يكرز بإنجيل ملكوت الله»، أضافت من عندها لفظة «ملكوت» فاصلاً بين الإنجيل والله. أما ترجمة الكنيسة الأرثوذوكسية المصرية فقالت «يكرز ببشارة ملكوت الله»، رفعت «إنجيل» ووضعت في موضعها «بشارة» وأضافت هي أيضًا لفظة «ملكوت» فاصلاً بين «البشارة» (التي هي الإنجيل) وبين «الله». أما حين جاءت لفظة «الإنجيل» منفردة في الفقرة التالية مباشرة: «ويقول قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» (مرقس 1/15)، عندئذ تركت لفظة «الإنجيل» على أصلها في الترجمتين. هذا التحرج من إضافة «الإنجيل» إلى الله ناشيء عن فهمهم الإنجيل بمعنى الخبر السار أو البشارة، ولا يصح أن تكون لله بشارة، لأن عيسى هو «المبشر» لا الله، أو هو «الكاروز» أي البشير النذير آراميًا. ولو قد فهموا «إنجيل» بمعنى «الرسالة» على أصلها اليوناني، لاستقام الفهم واستقامت العبارة «يكرز برسالة الله». [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/315] ولولا أنني لا أقول بيونانية لفظة «إنجيل» على ما سيأتي بيانه، لقلت لك أن المعنى في عبارة مرقس «يكرز بإنجيل الله» يعني «يبشر بإنجيل الله»، هو البشارة التي في الأناجيل بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم، فتفهم من عبارة مرقس لا «يبشر بإنجيل الله» وإنما «يبشر برسول الله». ولكنني لا أحتاج إلى هذا، لأنني أقول بأن المعنى بعبارة «ملكوت الله» التي في مرقس وأمثالها: «قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله» (مرقس 1/15) هو «رسول الله» تسمية بالمصدر على المبالغة والتفخيم، لأن «ملكوت» عبريًا وآراميًا كما يعرف علماء هاتين اللغتين (مع إبدال كافها خاءً في النطق لا في الرسم) تعني «الرسالة» لا «الملك»، فلا يبعد أن تشتبه على كتبة الأناجيل بلفظة «ملكوت» المكسورة اللام بدلاً من فتحها، والتي تعني الملك والمملكة، فترجموها باليونانية حيثما وردت بلفظة Basileia يعني «المملكة» التي حسنتها الترجمات العربية فقالت «ملكوت». فقد أراد المسيح إذن أن الزمان كمل واقترب مجيء الرسول الخاتم. تجد مثل هذا في قولهم في صلواتهم: «أبانا الذي في السموات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك» أي فليأت رسولك، قائل جميع الحق، خاتم النبوات. عليك كلما قرأت في هذه الأناجيل لفظة «الملكوت» منسوبة إلى الله عز وجل أن تفهم منها مباشرة رسول الله محمدًا صلى الله عليه وسلم: إنها «أنجلوس» اليونانية في هذا الموضع بالذات Aggelos لا المملكة والملكوت Basileia. عندئذ يستقيم الفهم وتستقيم العبارة. لن يقبل هذا بالطبع علماء المسيحية، وإلا لآمنوا من قبل بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم. ولكنني أقول لك أنك كمسلم يقرأ في هذه الأناجيل ويريد أن يقع فيها على حقيقة وحي الله على عيسى، أقرب ما يكون إلى ما نطق به المبشر بخاتم النبيين. عليك فقط أن تفهم الأب بمعنى الرب، والابن بمعنى البار أو الصفي المختار، وأن الملائكة التي في الأناجيل تجيء أحيانًا بمعنى الرسل، وأن الملكوت حين يبشر بمجيئه واقتراب زمانه إنما هو «رسول الله» محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وأن تفهم لفظة euaggelion «الإنجيل» إن حسبتها يونانية لا بمعنى البشارة أو الخبر السار، وإنما بمعنى «الرسالة» أو «الرسول»، لا سيما أن زيادة النون في «أنجليو» التي أصبحت «أنجليون» تنسخ الاسمية على المصدر وتردها إلى الاسمية على الفاعل، فهي أقرب إلى الرسول منها إلى الرسالة. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/316] أما وقد وضح لك أن «أفنجليون» euaggelion لا تعني البشارة، وإنما تعني يونانيًا «الرسالة»، وهو المعنى الذي يقلب مفهوم «البشارة بمغفرة الخطايا» عند علماء المسيحية رأسًا على عقب، فليس أمامنا وأمامهم إلا القول بأن «الإنجيل» ليست في الأناجيل على الترجمة للفظ قاله المسيح بلغته، وإنما هي على أصلها العبري – الآرامي الذي نطق به المسيح، جاء في صورة يونانية. نعم. هذا هو القول الذي به نقول: ليست «إنجيل» يونانية، وإنما هي عبرانية، كما سترى. كان عيسى يتقن عبرية التوراة كما كان ينطقها موسى وهرون، صلوات الله عليهم أجمعين. وهذا من تعليم الله عز وجل إياه: {وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} [المائدة: 110]، فكان يجادل بالتوراة في الهيكل علماء التوراة وهو بعد حدث يافع. وهذا من آيات الله فيه، فقد فسدت عبرية التوراة على ألسنة الناس في فلسطين وآلت إلى رطانة آرامية على ما مر بك في تضاعيف هذا الكتاب. وهو أيضًا الذي نعنيه بأن لغة المسيح، ولغة «إنجيله» أيضًا، عبرية – آرامية، يختلط فيها هذا بذاك. وضح لديك الآن أن لفظ «البشارة» (وهي «بسورا» عبريًا) لا يصح اسمًا لوحي الله على عيسى، ولا يصح أيضًا لفظ «الرسالة» (وهي «ملآخوت» عبريًا وآراميًا)، لأن الرسالة هي منصبة عليه السلام، لا وحي الله عليه، وإلا لتساوى في الاسم التوراة والإنجيل والقرآن، التي هي أعلام على وحي الله على موسى وعيسى ومحمد كل على حدة صلوات الله وسلامه عليهم جميعًا. ومن ثم لا تصح «أنجليون» aggelion اليونانية، سواء أخذتها كما يقولون بمعنى البشارة أو كما نقول نحن بمعنى الرسالة، ولا معنى وراء هذين للفظة «أنجليون» اليونانية، اسمًا لوحي الله على عيسى. هنا تقطع بأن «أنجليون» اليونانية ليست يونانية، إن كانت هي اسم وحي الله على عيسى كما سماه الله أو سماه المسيح. لا يبقى لديك إذن إلا أن «أنجليون» هذه لفظة بلغة المسيح، اسمٌ لوحي الله على عيسى، نقلها كتبة الأناجيل على أصلها بالخط اليوناني كما سمعت من المسيح [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/317] نفسه، أخذوها على العلمية المجردة فلم يحتاجوا إلى تمحيص معناها في لغة المسيح، ولم يفسروها للقارئ مثلما فسروا «طاليثا قومي» (قومي يا صبية)، «إيلي إيلي لما شبقتني» (إلهي إلهي لماذا تركتني) وغيرهما، فبقيت لفظة «إنجيل» - كما بقيت التوراة وبقي القرآن – على أصلها في كل اللغات. إن صح هذا – وهو الصحيح الذي لا يصح غيره بعد كل الذي قلناه ولأنك لا تتصور أن يتسمى وحي الله على عيسى اسمًا علمًا بغير لغة المسيح – فما هي تلك اللفظة العبرانية التي نطق بها المسيح في تسمية «إنجيله» فآلت عند كتبة الأناجيل اليونانية إلى «أنجليون» اليونانية؟ قد علمت أن اليونان يهمسون الهاء فلا تكاد تبين، وأنهم أيضًا لا يستطيعون تشديد الجيم، فيستبدلون من الجيم الأولى نونًا، يكتبون gg وينطقون ng. ومر بك أيضًا في تضاعيف هذا الكتاب أن أداة التعريف في العبرية هي «ها»، تحذف ألفها عند الوصول ويشدد ما بعدها بديلاً من حذف الألف، كما تحذف أنت في العربية اللام من أداة التعريف «أل» وتشدد ما بعدها في مثل «ألشم» فتقول «أشمس». مثال ذلك في العبرية «تورا»: لا يقال عند التعريف «هاتورا» بل «هتورا». هكذا يفعل العبرانيون في مثل لفظة «جليون» حين تزاد فيها أداة التعريف: لا يقال «ها جليون»، وإنما يقال «هجليون». فكيف تنطق أنت «هجليون» العبرانية هذه إن كنت يونانيًا يهمس الهاء، ولا يشدد الجيم؟ تسقط الهاء، وتضع موضع الجيم المشددة الحرفين نج، ومن ثم تؤول عندك «هجليون» العبرانية أولاً إلى «أجليون» بإسقاط الهاء، ثم إلى «أنجليون» بتغيير الجيم المشددة (ج) إلى (نج)، فتكتب aggelion وتنطق angelion. هذا هو بالضبط ما فعله كتبة الأناجيل اليونانية حين أرادوا نطق «هجليون» العبرانية التي سمعت من المسيح في تسمية «إنجيله»، فقالوا «أنجليون» aggelion. أما البادئة (إفــ) eu التي ألصقوها بـ «أنجليون» فأصبحت «إفنجليون» وهي euaggelion التي تقرؤها في الأناجيل اليونانية، فهي على التقريظ والتحميد لوحي الله على عيسى، كما يقول المسلم على التمجيد في القرآن: «القرآن الكريم»، «القرآن العظيم»، ونحو ذلك. دليلك في هذا أن السريان حين أخذوا عن اليونان اسم [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/318] الإنجيل لم يقولوا «إفـ + أنجليون»، وإنما أسقطوا هذه البادئة تمامًا، وقالوها مباشرة على ما حكاه الثعلبي «أنجليون». أما «جليون» العبرية هذه فهي زنة «فعلون» العبرانية من الجذر العبري «جلا» على معنى التجلية والجلاء والتبيين، كما قالوا من «يثر» يثرون (حمو موسى) وكما يقولون من «علا» العبرانية «عليون» على المبالغة في العلو والتسامي. وفي العبرية المعاصرة «جليون» أخرى هي هي رسمًا ونطقًا، معناها «الصحيفة»، ومنها «جليون أشوم»، أي صحيفة الاتهام، يعني «بيان» التهم المسندة. وفي عبرية التوراة أيضًا «جليون» مثلها (وقعت في سفر أشعيا بصورة الجمع، أي «هجليونيم»)،معناها «المرآة»، لأنها الجالية المجلوة. ومن طريف ما ذكره «إنجيل برنابا» الذي أنكرته الكنيسة، قول المسيح لتلاميذه يصف إنجيليه وكأنه يفسر التسمية: «حينئذ قال التلاميذ حقًا إن الله تكلم على لسانك، لأنه لم يتكلم إنسان قط كما تتكلم. أجاب يسوع: صدقوني إنه لما اختارني الله ليرسلني إلى بيت إسرائيل أعطاني كتابا يشبه مرآةً نقية نزلت إلى قلبي حتى إن كل ما أقول يصدر عن ذلك الكتاب. ومتى انتهى صدور ذلك الكتاب من فمي أصعد عن العالم. أجاب بطرس: يا معلم هل ما تتكلم الآن به مكتوب في ذلك الكتاب؟ أجاب يسوع: إن كل ما أقوله لمعرفة الله ولخدمة الله ولمعرفة الإنسان ولخلاص الجنس البشري إنما هو جميعه صادر من ذلك الكتاب الذي هو إنجيلي» (برنابا 168/1 – 5). ليس بعد هذا بيان في تفسير معنى «إنجيل» عبريًا على لسان صاحب الإنجيل: إنه «الكتاب – المرآة»، «هجليون» المرآة الجالية المجلوة. ولا يقدح في استشهادنا بإنجيل برنابا أنه إنجيل أنكرته الكنيسة، فلا مدخل هاهنا لإقرار الكنيسة أو إنكارها، لأن خصوم إنجيل برنابا أنفسهم يعترفون لكاتب هذا الإنجيل – أيا كان كاتبه – بأنه فقيه من فقهاء العبرية، ضليع متضلع من عبرية التوراة خاصة، حتى اتهموه بأنه يهوديٌ أسلم. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/319] الإنجيل إذن هي «هجليون» العبرية من الجلاء والتبيين، آلت على قلم كتبة الأناجيل اليونانية إلى «أنجليون». وعلى معنى الجلاء والتبيين، فسرت لفظة «إنجيل» في القرآن كما سترى. فسبحان العليم الخبير، القائل بكل اللغات، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم. وردت لفظة «الإنجيل» في القرآن اثنتي عشرة مرة، هي: {وأنزل التوراة والإنجيل} [آل عمران: 3]، {ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} [آل عمران: 48]، {وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده} [آل عمران: 65]، {وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور} [المائدة: 46]، {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} [المائدة: 47]، {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل} [المائدة: 66]، {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل} [المائدة: 68]، {وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} [المائدة: 110]، {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} [الأعراف: 157]، {وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن} [التوبة: 111]، {ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار} [الفتح: 29]، {وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل} [الحديد: 27]. وأول ما تستظهره من هذه الآيات أن «الإنجيل» كتاب منزل، شأنه شأن التوراة والقرآن، ليس مجرد بشارة أو رسالة، لا تصح فيه معاني «أنجليون» اليونانية إن حسبتها يونانية، وقد مر بك نقضنا ليونانية «إنجيل»، وإنما هو مجمل وحي الله على عيسى، فيما بقى لك منه مما حفظته الأناجيل وصدقت فيه، أعني الذي صدقه القرآن والحديث الصحيح، ولا عليك مما ضاع منه، فحسبك القرآن المصدق المهيمن وفيه الكفاية. وليس معنى «الكتب المنزلة» أنها أنزلت «مكتوبة» في قراطيس، [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/320] وإنما المعنى أنها مكتوبة عند ربك في اللوح المحفوظ، يتنزل بها ملائكة الله على عباده الذين اصطفى. وثاني ما تستظهره من هذه الآيات أن «الإنجيل» نزيل على ذات القوم الذين أنزلت فيهم التوراة من قبل، قلما يجيء إلا على الإلصاق بالتوراة قبله أو على التجاور مع هذه التوراة التي أنزل الله على موسى مقصودًا بها بنو إسرائيل، فهو «ملحق» على الأصل، تكملة لوحي الله على بني إسرائيل. وقد قالها المسيح بالنص في هذه الأناجيل: «ما جئت لأهدم الناموس والأنبياء، وإنما جئت لكمل»، فلا يصح أن يقال أن الإنجيل ناسخ للتوراة، وإنما هو وهي واحد، وإنما الإنجيل جلاء وتبيين. على أن المسيح عليه السلام جاء رحمة لليهود، يخفف عنهم بعض الذي شدد الله عليهم، ريثما يجيء الرسول الخاتم، الرحمة المهداة للخلق أجمعين. فهو من هذا الوجه موطئ لخاتم النبيين. وثالث ما تستظهره من هذه الآيات أن «الإنجيل» الذي فيه هدى ونور، فيه أيضًا شريعة أحكام، لقوله عز وجل: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} ، وفي هذا لفتة بليغة إلى حظر الاعتداد بغير ما في الأناجيل من وحيه عز وجل، فلا عبرة بقول يقال من بعد رفع المسيح، كالذي قيل بإسقاط الختان واستحلال الخنزير، فلا وحي يتنزل على تلاميذ. أما معنى لفظة «إنجيل» التي في القرآن، فقد قال المفسرون (راجع تفسير القرطبي للآية 3 من سورة آل عمران) إنها عربية من «النجل» بمعنى الأصل، فالإنجيل على هذا القول أصل لعلوم وأحكام، وقيل هو من نجلت الشيء إذا استخرجته، فالإنجيل مستخرج به علوم وحكم، فقد استخرج الله به دارسًا من الحق عافيًا، وقيل من التناجل بمعنى التنازع، لتنازع الناس فيه. وليس هذا كله بشيء لما مر بك من عبرانية «إنجيل». وحكى الثعلبي فأصاب أنه في السريانية دإنكليون» (يريد «أنجليون» بالجيم القاهرية). ولكن المفسرين لم يقعوا على معنى «أنجليون» السريانية هذه، فلم يتصدوا لتفسيرها، لم يقولوا بشارة، ولم يقولوا أيضًا [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/321] رسالة. وهذا يدلك على أن معاصريهم من نصارى السريان، وفيهم من برع في الترجمة إلى العربية من اليونانية عبر السريانية عصر تفاسير القرآن، لم يحققوا أصل لفظة «أنجليون» هذه لا يونانيا ولا سريانيا، وإلا لذكره «الثعلبي» الذي حكى عنه القرطبي قوله بسريانية هذه اللفظة «أنكليون». وهو يدلك أيضًا على أن التفسير الذي نقوله نحن برد لفظة «إنجيل» إلى العبرانية «هجليون» على معنى الجلاء والتبيين، الكتاب – المرآة، الجالية المجلوة، تفسير جديد غير مسبوق، هدانا الله إليه بفضل منه ونعمة، له الفضل وله المن وحده. والذي ينبغي التنبيه إليه أن القرآن لم يعرب «إنجيل» على الأصل العبراني الذي نقول به: «هجليون»، وإنما عربه ناظرًا إلى صورته اليونانية الشائعة على ألسنة الخلق جميعًا عصر نزول القرآن: «أنجليون»، فقال «الإنجيل»، وبقيت «الإنجيل» أعجمية تحتاج من القرآن إلى تفسير على منهجنا في هذا الكتاب. فبماذا فسر القرآن «إنجيل»؟ فسره بأدق مرادف وأبنية: إنه «البينات»، أي «الجليات الواضحات»، وليس أقرب من هذا إلى العبرانية «جليون» الجلي المجلو. جاء بها القرآن بلفظ الجمع لإفادة إنزال الإنجيل على المسيح تباعًا، شأن القرآن، لا شأن التوراة المنزلة على موسى دفعة واحدة في الألواح. لم يفسر الإنجيل في القرآن بالترادف على التجاور، وإنما رفع القرآن لفظة «إنجيل» من الآية ووضع في موضعها «البينات»، وكأن «البينات» من أسمائه، وهذا أبلغ التفسير في القرآن بالمرادف. قال عز وجل في سورة المائدة: {وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور}[المائدة: 46]. وقال عز وجل يجانس البينات على إنجيل: {وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس} [البقرة: 87]، ومثلها بذات نصها في نفس السورة (البقرة: 253). وأما الحاسمة القاطعة في أن «الإنجيل» هو المعني بلفظ «البينات» فقوله عز وجل: {ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون} [الزخرف: 63]، يصف فيها عيسى «البينات» التي جاء بها بأنها الحكمة وبيان الذي [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/322] اختلفوا فيه، لا يصح فيهم البينات في هذه الآية بالذات بمعنى المعجزات التي أجراها الله على يديه بتأييد من روح القدس، وإنما هي وحي الله على عيسى الذي في الإنجيل، إذ لا يصح وصف المعجزات بأنها «الحكمة» أو بأنها «بيان الذي اختلفوا فيه». وقد أوتي عيسى أمرين: البينات، أي الإنجيل، ثم المعجزات التي «أيده فيها الله بروح القدس» ، لا يصح الخلط بين هذا وذاك. وقد فسر القرطبي في تفسيره الآية 87 من سورة البقرة لفظ البينات بأنه الحجج والدلائل، وهذا جيد، فليس وحي الله على رسله إلا هذا، ولكنه لم يعلم معنى «الإنجيل» في أصله الأعجمي «هجليون» الجلي المجلو، ولو علمه لما تردد في تفسير البينات بالإنجيل نفسه، كتاب الله على عيسى. ولكن، كيف تطلب من أهل التفسير على عهد القرطبي رحمه الله في القرن السابع الهجري أن يعلموا علم ما لم يعلمه أهل الإنجيل أنفسهم حتى كتابة هذا الكتاب الذي نكتب: معنى لفظة «إنجيل» في أصلها العبراني الذي نطق به المسيح عليه السلام؟ هذا الفضل من الله، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، والحمد لله رب العالمين). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 298-223] |
(58) النصارى:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (58) النصارى «النصارى» في القرآن (ومفردها «نصراني»، هم أتباع المسيح عليه السلام، نسبة إليه، لنعته في الأناجيل بأنه «يسوع الناصري»، أي الذي من «الناصرة» وهي بلدة في الجليل شمال فلسطين نشأ فيها المسيح، فيقال «الجليلي»، «الناصري». وقد كانت تقال فيه من خصومه على التحقير والاستهانة، لأنه «لا يأتي من الجليل شيءٌ صالحٌ. ولكن يشاء ربك بهذا الجليلي المبارك أن يستطير ذكر الجليل والناصرة خفاقًا في العالم، ولولا لما كان للناصرة في العالم ذكر. كان الأوروبيون قبل شيوع النصرانية فيهم يُومئون إلى المسيح عليه السلام بأنه ذلك الرجل الذي من الناصرة استخفافًا، يريدون الحط من شأنه ومن شأن أتباعه، فاصطبغ اللفظ عندهم بصبغة الذم. وعندما فشت النصرانية فيهم ودخلوا هم أنفسهم في دين «الناصري»، أنفوا أن يقال فيهم نصارى من تلك الناصرة، وآثروا الانتساب إلى المسيح نفسه، فقالوا «مسيحي»، «مسيحيون»، أتباع هذه «المسيحية» التي جاء بها المسيح. لم يكن هذا هو تاريخ لفظة نصارى ونصراني في المشرق، فقد تمسك أتباع المسيح في فلسطين بالانتماء إلى هذا الناصري الذي من الناصرة، بل قُل وجدوا فيها شرفًا لا يعدله شرف، يتحدون به المُعَرِّضَ والمستهزئ. ومن فلسطين شاعت اللفظة في كل شبه الجزيرة على أتباع المسيح، لا يُقال إلا نصارى، ونصراني، يعتنق «النصرانية»، منسوب إلى هذا الناصري المبارك، صلوات الله عليه. وقد ظلت لفظة نصارى ونصرانية علمًا على أتباع هذا الدين عند جميع الناطقين بالعربية حتى أوائل هذا القرن العشرين، خاصتهم وعامتهم، نصارى وغير نصارى، لا تعرف غيرها ألسنتهم وأقلامهم. ولكن، ما أن غلب هذا الشرق العربي على أمره تحت وطأة الغزو الأوروبي الكاسح ماديًا وفكريًا منذ أواخر القرن التاسع عشر، [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/324] وفشت في الناس لوثة التطبع بطباع الغالب، واطلع «المثقفون»، أو قل أدعياء الثقافة، على تاريخ لفظة «النصراني» في الغرب، حتى أنفوا منها هم أيضًا، فأمسكوا عن إطلاقها على أتباع المسيح، واستبدلوا منها «المسيحي»، «المسيحية»، لا تكاد تسمع اليوم غيرهما في موضع «نصراني» ونصارى، ونصرانية، حتى بات يقع اللفظ – أعني نصراني ومشتقاتها – في سمعك غريبًا، وربما جفل منه «المسيحي» حين يسمعه منك. وما ذاك إلا لأن فكر هذا الشرق العرب يالمغلوب على نفسه وعقله وفكره، بات فكرًا مترجمًا، ينطق بما يسمع لا بما يحس: يقرؤها Christian أو chretien فيقول «مسيحي»، ولو وقع فيما يقرؤه بلسانهم على Nazarene أو nazareen لقال «نصراني»، غير مبال. ولو فطن وفطنوا لأدركوا أن المسيح والناصري سواء، كلاهما منسوب إلى المسيح الناصري، عيسى ابن مريم صلوات الله عليه. لا مسيح سواه. والذي ينبغي التنويه به أن العبرية المعاصرة لم تفعل ما فعله العرب بلغتهم فلا تزال العبرية تقول «نوصري»، «نوصريم» (وأيضًا «نصراني»، «نصرانيم») تعني النصراني والنصارى. وتقول أيضًا «نصروت»، تعني النصرانية دين المسيح. أما القرآن فقد قال «النصارى»، على أصل ما نطق به أصحاب الملة أنفسهم: {الذين قالوا إنا نصارى} [المائدة: 82]. وقد علم مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 62 من سورة البقرة)، كما علم العرب جميعًا قبل نزول القرآن بستة قرون – أي منذ نشأة النصرانية – أن لفظة «النصراني» هي نسبة إلى بلدة «الناصرة» بالشام التي جاء منها المسيح وانتسب إليها أتباعه، ففسروا لفظ «النصارى»، «النصراني» في القرآن على هذا المعنى، الذي أصبح علمًا على دين المسيح، لا مجال للقول بغيره. على أن بعض المفسرين (راجع القرطبي في نفس الموضع) حاولوا اشتقاق لفظ «النصارى» من النصر والنصرة، ربما لأن «النصارى» تصلح جميعًا لــ «نصير»، مثلما تقول «ندامى» في جميع «نديم»، فهم «الأنصار»، الذين انتصروا للمسيح، فسعوا في نشر دينه بعد أن رفعه الله إليه. وربما أيضًا تنسيقًا على قوله عز وجل: {قال الحواريون نحن أنصار الله} [آل عمران: 52] فهم النصارى، أنصار الله. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/325] ولا يصح هذا من وجهين: الأول أنه لو كانت نصارى بمعنى أنصار لكان المفرد «نصير» أو «أنصارى»، لا «نصراني»، التي وردت في القرآن مرة واحدة في قوله عز وجل: {ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن كان حنيفًا مسلمًا} [آل عمران: 67]، والثاني الذي لم يعلمه هؤلاء المفسرون الذين لا يعرفون العبرية والآرامية – لغة الحواريين أتباع المسيح – أن الحواريين حين قالوا «نحن أنصار الله» التي في القرآن، لم يقولوها بالعربية، وإنما قالوها بلغتهم هم، فلم تقع في عبارتهم مادة «نصر» العبرية الآرامية، لأن «نصر» عبريًا وآراميًا ليس هو بمعنى «نصر» العربي من النصر والنصرة كما سترى، فلا يصح افتراض تطابق المعنى بين «نصارى»، «أنصار». على أن نصرة الله عز وجل لا تصح في تسمية ملة بعينها دون غيرها من الملل، كي تختص بها النصرانية فحسب، وإنما الانتصار لله عز وجل فرض على كل من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وقوله عز وجل في خطاب المسلمين: {يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله} [الصف: 14] لا يصح بالطبع فهمه على أنه دعوة للمسلمين إلى الدخول في النصرانية ترتيبًا على أن النصارى هم أنصار الله على قول هذا القائل، وإنما هي دعوة إلى الاقتداء بالذين قالوا نحن أنصار الله ثم عملوا بها فكانوا أنصار الله. لا يصدق هذا في كل الذين قالوا «إنا نصارى»، وإنما هو فحسب فيمن قالها واصطبر عليها فكان من أهلها، حواريًا وغير حواري، نصرانيًا وغير نصراني. ليس أنصار الله من صحابة عيسى – من صدق منهم ما عاهد الله عليه فعمل بها واصطبر عليها – إلا كأنصار يثرب، رضي الله عنهم جميعا ورضوا عنه. ولئن كانت «النصراني» في أصل اشتقاقها نسبة على الموضع، أعني إلى تلك «الناصرة» التي بالشام التي نشأ فيها المسيح فسمي المسيح الناصري، فليس مفهوم لفظة «النصراني» كذلك، وإنما هي نسبة إلى المسيح نفسه، فهي نسبة إلى «الناصري» لا إلى «الناصرة»، ومن هنا يفتقر مفهوم «الناصري» عن مفهوم «النصراني» التي لا تصح إلا في أتباع المسيح، وإن لم يكن «النصراني» ناصريًا من أهل الناصرة. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/326] والذي تتوقعه من القرآن – وفق منهجنا في هذا الكتاب – أن يفسر لفظة النصراني والنصارى لا على التبعية للمسيح الناصري، فهذا مفهوم معلوم لكل عربي يتلو القرآن أو يتلى عليه القرآن، وإنما الذي تتوقعه من القرآن أن يفسر «النصراني» ومشتقاتها على أصل مادتها التي نحتت منها في لغة المسيح العبرية – الآرامية، فيفسر لك معنى «الناصرة» ذاتها المنسوب إليها الناصري، أعني أن يفسر لك مادة «نصر» العبرية الآرامية، التي اشتق منها اسم «الناصرة». فماذا تعني مادة «نصر» عبريًا وآراميًا؟ ليست هي النصر والنصرة كما في العربية، وإنما هي بمعنى حرس وحفظ وراقب ورعى، فهي كفء «نطر» العربي بالطاء. ومن شواهد هذا، تقرأ في سفر أشعيا: «في ذلك اليوم غنوا للكرمة المشتهاة، أنا الرب حارسها» (أشعيا 27/2- 3) تجد حارسها في الأصل العبراني «نصراه». فكأن «نصير» (زنة الفاعل عبريًا من «نصر» العبري) يعني «الناطور» التي في شطر بيت المتنبي: «نامت نواطير مصر عن ثعالبها». وتجيء الرعاية أيضًا في «نصر» العبري بمعنى المراعاة والتقيد والالتزام والاتباع، ومنها «نصرى بريتو»، يعني «حفاظ عهده»، أي عهد الله وميثاقه، يعني المتبعون وصايا التوراة الذين يراعون تعاليمها. وبهذا المعنى الدقيق، الاتباع والمراعاة، حفاظ العهد، فسر القرآن الأصل الأصيل للفظة «النصارى» الذي في مادة «نصر» العبري. وسبحان العليم الخبير. وردت لفظة «النصراني» على المفرد مرة واحدة في القرآن كما مر بك. وجاءت لفظة «النصارى» على الجمع أربع عشرة مرة في القرآن. وليس في أي من هذه المرات الخمس عشرة تفسير لأصل مادة النصراني والنصارى. ولكنك تجد هذا التفسير جليًا بينًا في قوله عز وجل يصف أتباع عيسى ابن مريم: {ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/327] ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون} [الحديد: 27]. أي ما كتبنا عليهم من هذه الرهبانية التي ابتدعوها إلا ما كان منها يراد به ابتغاء رضوان الله. ولكنهم لم يرعوا هذه «الرهبانية» حق رعايتها، أي لم يحسنوا ابتغاء رضوان الله بها. فكأنهم أهدروها ولم يرعوها (وهي «لو نصروها» عبريًا). ليس بعد هذا بيان، فأي إعجاز وأي علم. ولا ينقضي القول في مبحث «النصارى» قبل التصدي لتأصيل معنى لفظة «الحواريين» التي سمى بها القرآن صحابة عيسى عليه السلام. وخلاصة قول المفسرين في هذا (راجع تفسير القرطبي للآية 52 من سورة آل عمران) - ولم يوفقوا فيه – هو اشتقاقها من «الحور» على معنى البياض، واخترعت في تأييد هذا روايات لا سند لها في المصادر المسيحية، قيل لبياض ثيابهم (وليس بلازم) وقيل كانوا «قصارين» صنعتهم تبييض الثياب (وليس بصحيح) وقيل كانوا صيادين (وهذا وإن صح لا يوجب التزام الثياب البيض) وقيل على المجاز لبياض قلوبهم أي نقاء سريرتهم (ولا يصح هذا في حق يهوذا الاسخريوطي بالذات الذي وشى بالمسيح). وقيل أيضًا أن الحواري هو الصاحب الناصر، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لكل نبي حواري، وحواري الزبير» وهذا الحديث وحده كافٍ في امتناع تأصيل معنى «الحواري» على «الحور» بمعنى البياض، بياض الثياب أو تبييض الثياب أو الاشتغال بصيد السمك، فلم يكن الزبير بن العوام رضي الله عنه هذا أو ذاك، ولا على المجاز من بياض القلب ونقاء السريرة، لا لمغمز – معاذ الله – في بياض قلب الزبير رضي الله عنه ونقاء سريرته وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وإنما لأنه واحد من كثير من صحابة رسول الله بيض القلوب أنقياء السرية فلا يصح أن ينفرد وحده بلفظ الحواري على هذا المعنى. ولا يصح أيضًا انفراده وحده بالتسمية على معنى الصاحب والناصر وصحابة رسول الله رضي الله عنهم جميعًا كانوا كلهم هذا الصاحب الناصر، فضلاً عن أن الصحبة والنصرة لا مجال لاشتقاقهما من الحور على معنى البياض. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/328] الصحيح أن «الحواري» مشتقة من حار / يحور، بمعنى رجع، ومنه في القرآن: {إنه ظن أن لن يحور} [الانشقاق: 14]، أي ظن الكافر أنه ليس براجع إلى ربه. وعلى هذا المعنى، قيل لولد الناقة منذ ولادته إلى أن يفطم وينفصل: «حوار» بضم ففتح، لأنه يلازم أمه لحاجة الرضاع، لا يبعد عنها قدر رمح في لهوه ومراحه حتى يثوب إليها، أي «يحور»، فهو «حوار». «الحواري» إذن منسوب إلى هذا «الحوار» على المماثلة، لأن صحابة عيسى عليه السلام كانوا فتيةً أيفاعًا، شأن الزبير رضي الله عنه يوم أسلم، وكانوا يلازمون «معلمهم» لا يفارقونه، يرتضعون منه نفحات علم النبوة. أما لماذا لم يقل القرآن «التلاميذ» (Mathetai اليونانية في أصول الأناجيل المترجمة إلى كل اللغات بلفظ «التلاميذ»، وهي في الترجمة العبرية «تلميذيم»)، وانفرد وحده بتسميتهم «حواريين» ولماذا أيضًا عدل القرآن عن ضم الحاء في «حوار» الناقة إلى فتحها في «الحواريين»، فهذا وذاك من إعجاز القرآن العلمي الذي لم يفطن إليه أحد، وامتن اللهُ علينا به سبحانه فضلاً منه ونعمة. في العبرية الآرامية (لغة المسيح وحوارييه) اللفظ الآرامي «حـﭭـار» بالفاء المثلثة وبجمع آراميا على «حـﭭـارين»، ومعناه الصاحب الرفيق المخالل (ومنه «حـﭭرون» العبرية اسم مدينة «الخليل»)، وهو في العبرية إلى الآن «حـﭭـير» وتجمع على «حـﭭـريم» بنفس المعنى، الصحبة والرفقة والخلة، على التصغير، أي «الصويحب». وكل هذا يكتب في الخط العبري – الآرامي بالباء المنطوقة ﭬـاء مثلثة على ما مر بك من قواعد النطق في هاتين اللغتين. وليس أقرب في عالم الصوتيات من الانتقال بتلك الـﭭـاء المثلثة الآرامية التي في «حـﭭـار»، «حـﭭـارين» إلى الواو العربية فتقول «حوار»، «حوارين». والقرآن كما تعلم لا يترجم عن يونانية الأناجيل التي لم ينطق بها المسيح وحواريوه، ولكنه يترجم عن «الأصل» الآرامي التي تنادى به أصحاب عيسى عليه السلام، فيقولون ويقال لهم بالآرامية «حـﭭـارين» (وعلى النطق العربي «حوارين»)، أما كتبة الأناجيل فقد آثروا النسبة إلى «المعلم»، فكتبوها Mathetai أي التلاميذ. وهم لمي فعلوا ذلك على الراجح عندي تواضعًا منهم، وإنما تسجيلاً للواقع وخطابا [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/329] للقارئ اليوناني بما يفهمه ولا يشتبه عليه، لاختلاط معنى Philos و Syntrophos إلخ. في اليونانية بمعاني أخرى لا تنطبق على الصاحب الملازم: «حـﭭـار» الآرامية، فضلاً عن أن «التلاميذ» أدل في اليونانية على معنى «المصاحب لطلب العلم» الذي كانه صحابة عيسى عليه السلام، أي حواريوه. «الحواريون» إذن في القرآن تعريب مفسر للفظة «حـﭭـارين» الآرامية (التي تنطق «حوارين» عربيًا)، جاء بها القرآن منسوبة على المماثلة إلى «حوار الناقة»، على ما مر بك من معناه، فأضاف ياء النسب في آخره فأصبحت «حواري»، وعدل عن ضم الحاء إلى فتحها فأصبحت «حواري»، التزامًا لأصلها الأعجمي. وسبحان العليم الخبير، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 324-330] |
(59) الصابئون:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (59) الصابئون وردت لفظة «الصابئين» في القرآن ثلاث مرات، هي بترتيب ورودها في المصحف: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم ع ند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 62]. {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [المائدة: 69]. {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد} [الحج: 17]. والقرآن في الآيتين الوليين، التي في «البقرة» والتي في «المائدة» يخاطب أربع فرق: المسلمين – اليهود – النصارى – الصابئين، فقد علمت أن الذين هادوا هم اليهود، أما «الذين آمنوا» فهي اصطلاح قرآني يراد به أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنهم الذين آمنوا به وبالنور الذي أنزل معه، أي هذا القرآن، فهم أهل القرآن، فهي على الصفة، لا على المدح، في هذا السياق بالذات وفي أمثاله في القرآن، يعني أنهم المسلمون، لا أكثر ولا أقل، برهم وفاجرهم. لذلك اشترط القرآن في الآيتين على أهل الفرق الأربع جميعًا – ومنهم المسلمون – لنيل الأجر والدخول في رضوان الله – شرطين: الإيمان بالله واليوم الآخر، ثم عمل الصالحات، شرطان متلازمان، لا يغني أحدهما عن الآخر، ولا يقبل شطر دون شطر، فليس الإيمان بالذي يكتن في السرائر، وإنما هو الذي تصدقه الجوارح من قول وعمل. لا إيمان [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/331] بغير عمل على مقتضى هذا الإيمان، ولا عمل يصح إن لم ترد به وجه الله عز وجل واليوم الآخر. لم يستثن القرآن من هذين الشرطين أنبياء الله ورسله، وهم المؤمنون سريرة ضربة لازب، فخاطبهم بقوله عز جل: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم} [المؤمنون: 51]. وليس معنى هذا أن القرآن يُقِرُّ أهل الكتاب والصائبين على ملتهم وقت نزوله أو أنه يسلم لمعاصريه من أهل الكتاب والصابئين وتابعي هؤلاء وهؤلاء إلى يوم القيامة بصواب ما هم عليه، أو أنه يترك لهم الخيرة من أمرهم إن شاءوا دخلوا في الإسلام وإن شاءوا بقوا على ملتهم، والكل ناجٍ، من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا! هذه سفسطات وأغاليط لا تنفع المحتج بها من غير أهل القرآن يوم يقوم الحساب لأنه يومئذ يحتج بآية أو آيتين من القرآن الذي أنكره هو من قبل وجحده، ومات وبعث على إنكاره وجحوده، شأنه شأن من يتقدم إلى مصرف بحوالة ينكر هو توقيع صاحبها، فلا يصرف له شيء، إن لم يضبط بتهمة التدليس. الذي يصدق بخبر القرآن في آية أو آيتين فقد لزمه القرآن كله، والذي يكفر بحرف واحد من القرآن فقد كفر به كله، فلا أحد يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، كالذي نعاه القرآن على بني إسرائيل: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون} [البقرة: 85]. وإذا كان هذا كذلك، وهو كذلك بالفعل، أفليس في القرآن: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} [آل عمران: 85]؟ وأليس يأمر الله في القرآن الخلق أجمع باتباع خاتم النبيين: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} [الأعراف: 158]؟ فما جزاء من يفرق بين الإيمان بالله وبين تصديق رسوله؟ استمع إلى قوله عز وجل: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/332] ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا} [النساء: 150 – 151]. قد قالها خاتم النبيين: «وأيم الله لو سمع بي موسى بن عمران لما وسعه إلا اتباعي» وقال أيضًا، وهي الحاسمة القاطعة: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم لم يؤمن بي إلا دخل النار». وقد علمت أن القرآن اشترط على هذه الفرق الأربع جميعًا لاستحقاق ثواب الله ورضوانه، الإيمان بالله واليوم الآخر وإتيان الصالحات. ومر بك أنه لا يصح إيمان بغير عمل، ولا يصح عمل بغير إيمان. ومن ثم تقطع بأن أهل هذه الملل الثلاث، اليهود والنصارى والصابئين – من سمع منهم بخبر القرآن ولم يأبه به – قد افتقدوا بعد القرآن شرطي الإيمان والعمل الصالح، فلا إيمان بالله عز جل لمكذب برسول الله، ولا يصح عمل بغير هذا الإيمان. فمن المخاطب إذن من أهل هذه الفرق الثلاث بهاتين الآيتين التي في سورة البقرة والتي في سورة المائدة؟ إنهم اليهود والنصارى والصابئون الذين لم يصل إلى أسماعهم نبأ البلاغ الخاتم: الذين تقدموه ولم يهل بعد زمانه، أو الذين أعقبوه فحيل بينهم وبينه أو تقطعت بهم الأسباب، فلا إلزام بغير تكليف، ولا تكليف بغير بلاغ. على أن هذا أيضًا لا يُعفى أهل هذه الملل الثلاث، الذين حيل بين أسماعهم وبين نبأ القرآن، من واجب تصحيح إيمانهم بالله واليوم الآخر بتنقيته مما لم تجئهم به رسلهم، لا يقال ثالث ثلاثة وعندهم في الإنجيل أن الله واحد وليس آخر سواه، ولا يقال نحن أبناء الله وأحباؤه لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة وعندهم في التوراة في الوعيد ما ترتعد له الفرائص وتشيب الرؤوس. أما الآية الثالثة – التي في سورة الحج – فهي تختلف عن الأوليين بأنها تضيف إلى الفرق الأربع، المسلمين واليهود والنصارى والصابئين، فرقتين أخريين، هما المجوس والذين أشركوا. وقد ترتب مباشرة على دخول المجوس والذين أشركوا في هذه الآية، ارتفاع الوعد بثواب الله ورضوانه لمن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا، ليحل محله [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/333] الوعيد بيوم الفصل: {إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد} [الحج: 17]، يوم يجيء كل أناس بإمامهم، أي يشهد عليم رسولهم وكتابهم فيحاجون بوحي الله عليهم، الذي حفظوه، والذي أضاعوا منه أو أنسوه. ولم يفت القرآن المعجز – وقد دخل المجوسي والمشرك – أن يدحض دعوى المحتج بالمشعوذ والعراف والكاهن. فقال عز من قائل: {إن الله على كل شيء شهيد} [الحج: 17]. أما لماذا ارتفع بدخول المجوسي والمشرك في الآية الوعد بثواب الله ورضوانه لمن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا، فلأنه لا رجاء عند الله عز وجل لمشرك، والمجوسي أيضًا كذلك لأنه «ثَنَوِيٌّ» كما سوف ترى في موضعه، يتقرب بالعبادة لإلهين، إله الخير وإله الشر، الضار والنافع، يضرب هذا بذاك. وربما قيل لك أن النصراني أيضًا مشرك، لأنه يعدد آلهته، فيقول ثلاثة. وهذا صحيح في ظاهره، غير صحيح في جوهره، لأن المشرك يعبد آلهة متفرقة، متضادة الإرادة، متعاكسة الفعل، يغيظ هذا بذاك، ويستعين على هذا بذاك، ويسترضي هذا بقربان لذاك. أما «الثالوث» عند النصراني فهو وحيد الإرادة، وحيد الفعل، المسيح عنده يصنع مشيئة «أبيه» الذي في السموات، والروح القدس جبريل لا يتكلم من عنده وإنما يتكلم بما يسمعُ من الآب، والصلاة عند النصراني صلاة للآب، لا لعيسى ولا لجبريل: «أبانا الذي في السموات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء فكذلك على الأرض»، والتقرب بالابن تقرب إلى الآب، و«موهبة» الروح القدس نعمةٌ من الآب، وخلق السموات والأرض وما بينهما خلق الآب، ولاملكوت ملكوت الآب، فهل بقى لعيسى وجبريل شيء أم هما ذات الآب؟ بل قل هل بقى من عيسى وجبريل شيء وقد فنيا أخيرًا في ذات الآب الذي انبثقا منه ليعودا إليه؟ هذا اللاهوت أخطأ الطريق إلى تبجيل عيسى وتعظيم جبريل، فوقع في المحال على الله عز وجل، والمحال على عيسى وجبريل، وما ذاك إلا لأنه تصدى لما لا يحسنه، فليس هو بالواقف عند وحي الله على عيسى شأن المؤمن المذعن، وليس هو أيضًا بالمتفلسف الجيد الذي يحكم مقولته فلا يقع في المحالات. هذا اللاهوت خائض في ذات الله عز وجل بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، بل الأدلة من [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/334] وحي الله عز وجل كلها ضده، ولكن ليس ثم إن تمعنت، جحود لذات الله أو إنكار، فالله الذي يعبده النصراني هو إله إبراهيم وإسحق ويعقوب والأسباب والنبيين من قبل ومن بعد، ولكن اللاهوت وقع في الإثم الغليظ فأضاف إليه عيسى وجبريل، ظانًا أنه يكرم بها عيسى وجبريل، فأضاع عيسى وجبريل. هذه الأغلوطة التي وقع فيها هذا اللاهوت اعتاصت عليه هو نفسه قبل أن تعتاص على من زينها لهم، فما برح يرقع قولاً بقول: إنه يريد التوحيد، لا يملك القول بغيره، فالله واحد وليس آخر سواه، ولو قال غير هذا لذبح القائل قبل أن يقوم من مقامه، ولكنه يريد أيضًا تأليه عيسى وجبريل، شأن الرومان في تأليه عظمائهم وملوكهم بعد رحيلهم، وكأنه مضطر إلى هذا لا يستطيع منه فكاكا، فلا تدري ما الذي اضطره إليه. إنها معضلة بلا شك، فماذا فعل اللاهوت مجمعًا بعد مجمع؟ أدمج عيسى وجبريل في ذات الله عز وجل فلم يعد لهما خارج ذات الله وجود، فاحتفظ بمقولة التوحيد في وجه المنكرين عليه، أو هكذا ظن، ثم أخرج من ذات الله عز وجل عيسى وجبريل يعملان الأعمال في زي نبي وملك. أفليس الأنبياء رسل الله؟ وأليس الملائكة جند الله؟ فما حاجة الله إلى التزيي بزي عيسى وجبريل؟ أسئلة لا تجد لها جوابًا عند النصراني المؤمن الذي لا التواء فيه، بل هو يحترز كل الاحتراز من مناقشتها بعقله الذي لا يحتمل كل هذا الخلط والتخليط: إنه فحسب يعبد الآب الذي في السموات، ويحب المسيح، ويعظم الروح القدس، على القرب من الله عز وجل قربًا يعلو على فهم البشر، ويترك التفصيل والتقعيد لأصحاب هذا اللاهوت. وقد علم القرآن هذا قبل أن يعلمه غيره فقال في خطاب أهل الكتاب مريدًا النصارى بالتحديد: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرًا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} [النساء: 171]، خاطب النصارى بيا أهل الكتاب، يذكرهم بكتاب موسى الذي يتعبدون به، وفيه الله واحد وليس آخر سواه، فكيف تقولون ثلاثة وإلهكم هو إله موسى؟ ويذكرهم أيضًا بأن قائل هذه المقولة كافر، وتوعد المصر عليها بالعذاب الأليم يوم يأتي كل أناس بإمامهم: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/335] مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم} [المائدة: 72: 73]. وينبههم أيضًا إلى أن هذا التوحيد المثلث غير مقبول، عبث عابث لا طائل من ورائه إلا الوقوع في الشرك الغليظ، يضاهئون به قول قوم قد كفروا من قبل، فضلوا وأضلوا. أما الذين تولوا كبره من قبل، ففي النار هم فيها خالدون. هنا تجد في الله رجاء للنصراني المؤمن الذي لا التواء فيه – لا لأصحاب هذا اللاهوت – إن هو نزه ذات الله عز وجل عما لا يليق بجلاله، وأصم أذنيه وقلبه عن سفسطة أصحاب اللاهوت، والله يهدي من يشاء بقرآن وبغير قرآن، وهو أعلم بالمهتدين. والذي تستنبطه من هذه الآيات الثلاث، فتقطع به جازمًا آمنًا مطمئنًا، هو أن دخول الصابئين في معيه اليهود والنصارى في الآيتين الأوليين التي في سورة البقرة والتي في سورة المائدة – الداخلين في الوعد بثواب الله ورضوانه لمن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا – يفيد أن الصابئين هم من اليهود والنصارى قريب، إن لم يكونوا بعض هؤلاء وهؤلاء «صبؤوا» عليهم. أعني أنهم يعبدون ذات الإله الذي عبده إبراهيم وإسحق ويعقوب والأسباط والنبيون من قبل ومن بعد، الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت، الله الذي لا إله غيره. وإلا لما جاز دخولهم مع اليهود والنصارى في جملة المؤمنين بالله واليوم الآخر، وثبوت الوعد للصابئين – من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا – بثواب الله ورضوانه، لم يرتفع في الآية الثالثة، التي في سورة الحج، إلا بدخول المجوس والذين أشركوا. وتلاحظ أيضًا من النسق القرآن في الآيات الثلاث جميعًا، توسط الصابئين بين اليهود والنصارى في الآيتين الثانية والثالثة، التي في المائدة والتي في الحج، [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/336] حيث قال عز وجل {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى} [المائدة: 69]، {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا} [الحج: 17]، بينما هم يجيئون بعد اليهود والنصارى مباشرة في الآية الأولى، التي في سورة البقرة: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين} [البقرة: 62]، فتستخلص من توسط الصابئين بين اليهود والنصارى في الآيتين الثانية والثالثة أن «الصابئين» فرقة من اليهود، سبقوا النصارى في الصبوء (أي الخروج) على توراة موسى القاطعة بتوحيد الله عز وجل لا ولي من دونه، لا «ابن» ولا «روح قدس»، وتستخلص من مجيئهم بعد اليهود والنصارى في الآية الأولى أن الصابئين أخلاط من هؤلاء وهؤلاء، أي من الصابئين من قد كانوا من قبل نصارى، أو أن عقائد الصابئة تجمع نتفًا من عقائد اليهود ونتفًا من عقائد النصارى. وربما استوقفك ما استوقف النحاة من قبل، أعني تعليل ارتفاع لفظ «الصابئون» في الآية 69 من سورة المائدة «إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون»، وهو في موضع نصب، عطفا بالواو على اسم «إن» الذي انتصف به «الذين آمنوا»، وقد علمت أن القرآن لا يخالف «ظاهر» النحو إلا لعلة. يعني أن ارتفاع لفظ «الصابئون» على خلاف ظاهر النحو، مقصود. وقد علمت أن الآية التي في المائدة، التي ارتفع فيها لفظ «الصابئون» على خلاف ظاهر النحو، هي آخر الآيات الثلاث نزولاً، لأن سورة «المائدة» من أواخر القرآن نزولاً، نزلت قطعًا بعد «البقرة» وبعد «الحج». والرأي الذي به أقول هو أن ارتفاع لفظ «الصابئون» في الآية التي في «المائدة» جاء ليلفت النظر إلى واقع تاريخي مقطوع به وهو أن «الصابئين» هم بعض الذين هادوا، سبق وجودهم نشأة النصرانية، أعني أنهم فرقة من الذين هادوا، لا فرقة من الذين قالوا إنا نصارى، وإن دخلت في عقائدهم من بعد عقائد نصرانية، أو دخل في زمرتهم من بعد نصارى «صبؤوا» على نصرانيتهم. ومن هنا تعلل ارتفاع لفظ «الصابئون» وهو في موضع نصب، بأنه ارتفاع على «القطع»، يعني على الاستدراك، كما لو قيل «إن الذين آمنوا والذين هادوا – والصابئون منهم – والنصارى، إلخ». والارتفاع على القطع هو التعليل الوحيد المقبول عند النحاة لتفسير مجيء الاسم مرفوعًا وهو معطوفٌ على غير مرفوع. «الصابئون» إذن تجيء في الآية التي في سورة المائدة رفعًا على الابتداء [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/337] بعد القطع، فلا يجوز تفسير الآية إلا به. وهذا عندي من دقيق القرآن في تحديد هوية «الصابئين» كما سترى. يجيء الجذر العبراني «صبا» (ويهمز قبل ضمائر الرفع كما في «صبئو»، «يصبئو» وأمثالهما) في أصله بمعنى «احتشد». بينما يجيء كفؤه العربي (صبأ، يصبأ، صبوءا) بمعنى برز وانتقل وخرج، وأيضًا هجم (وهذا الأخير باق في معاني «صبا» العبري). وغير بعيد عن هذا صبا / يصبو، صبوا، صبى / يصبي / صباء، العربيان بمعنى مال إليه وحن واشتاق، وتقول من «صبأ» العربي أيضًا «صبأت النجوم» يعني طلعت. ومن «صبا» العبري بمعنى احتشد وهجم، يجيء الاسم «صبا» (ويجمع عبريا على «صبؤوت») بمعنى الجيش والجند. وكثيرًا ما تلتقي في الترجمة العربية للعهد القديم بعبارة «رب الجنود» التي أصلها العبراني «إلوهي هصبؤوت»، مرادًا منها الله عز وجل، فلا تفهم على التحقيق – مسلمًا كنت أو أهل كتاب – المعنى المقصود من تلك «الجنود». والذي يقرب لك المعنى – إن كنت من أهل القرآن – قوله عز وجل: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} [المدثر: 31]، يعني «ملائكة» الله عز وجل، وهم جنده تبارك وتعالى. استعارت العبرية إذن لفظ «الجند» لمعنى «الملائكة»، تضع هذا في موضع ذاك. وفي العبرية كذلك «صبؤوت هشمايم» يعني «جند السماء» يعني الملائكة أيضًا. وكما استعارت العبرية لفظ الجند لمعنى الملائكة، استعارته أيضًا لمعنى «الأجرام السماوية»، أي الشمس والقمر والنجوم. هذا الخلط بين «ملائكة» السماء ونجومها يدلك بمحض اللغة على اختلاط عقيدة اليهود بديانة البابليين عبدة الكواكب، الذين «يشخصون» أجرام السماء يجعلون منها آلهة، مثل «مردوخ» (المريخ على الراجح كما [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/338] مر بك)، رقباء وحفظة، أو عتاة مردة، أو يجعلون منها في أقل القليل كائنات عاقلة مريدة، مؤثرة فعالة. من هذا في تراث أهل الكتاب تسميتهم إبليس «كوكب الصبح» Lucifer يعني «كوكب الزهرة»، وإبليس في عقائد أهل الكتاب كان رئيس الملائكة قبل سقطته في عداوة آدم. ويكفيك هذا مثلاً على توحيدهم بين الملائكة والكواكب. وهذا عندي هو أصل الاعتقاد بالتنجيم وبتأثير النجوم عمومًا ما دامت كائنات مشخصة مريدة فعالة، تضر وتنفع، لا ما يقال لك اليوم بتأثيرها جذبًا أو إشعاعًا في محاولة مغلوطة لتأصيل عقائد باطلة. ومما يدلك على عقائد البابليين عصر إبراهيم عليه السلام – وقد علمت أنه نشأ ببلدة «أور الكلدانيين» بنواحي بابل جنوبي العراق – ما يحكيه القرآن عن إبراهيم قبل أن يهديه الله إليه: {فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغًا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما افلت قال يا قومي إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} [الأنعام: 76 – 79]، وقوله «يا قوم إني بريء مما تشركون» يعني أن شركهم كان عبادة الكواكب. والذي ينبغي التنبيه إليه أن «الكواكب» في عربية القرآن – لا في عربية المعاجم العربية الحديثة – تشمل أجرام السماء جميعًا، نجمًا وغير نجم، المضيء بذاته والمستضيء بغيره، كما تستظهر من قوله عز وجل: {إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب} [الصافات: 6]. ومجيء الكوكب بصورة الجمع في هذه الآية يمنع من فهمها بمعنى القمر وحده وما في حكمه، أعني الأجرام السماوية «الترابية» التي تضيء ليلاً بانعكاس ضوء الشمس عليها، وإنما الكواكب هنا تعني هذا وذاك، فتدخل فيها النجوم النيرات خاصة. وقد كان لعقائد البابليين تأثير بالغ القوة في ديانات الشرق الأدنى القديم، لا عبرة بالذي «يحكم» في بابل، الآراميين أو الأشوريين أو الفرس، وقد اتسع نطاق هذا التأثير في العصر «الهليني» بعد غزوة الإسكندر المقدوني، فتسللت عقائد البابليين إلى أوروبا ذاتها، حيث اختلط الحابل بالنابل، واستطاع هذا الفكر البابلي أن [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/339] يغزو العقيدة المسيحية في قرونها الثلاثة الأولى. وتكونت من مرقعات هذا الفكر البابلي ملل ونحل، اشهرهم «الغنوصيون» (من gnosis اليونانية ومعناها «المعرفة») يعني معرفة الحكمة، وهي معرفة «لدنية» كما يقول المتصوفة، تهبط على أصحابها من «فوق» فيوضا. والغنوصية بلا شك ترجمة يونانية لمذهب «المندعيين» Mandaeanism أي المعرفيين، وهي من الآرامية «يداع» يعني «عرف» (والمصدر «ميدع»، «مندع»، فهو «مندعيا» أي «المعرفي»)، وقد مر بك غلبة الآرامية على أقطار الشرق الأدنى كله منذ القرن الثالث قبل الميلاد. وقد عانت المسيحية كثيرًا من هؤلاء الغنوصيين في بواكير نشأتها، فدانت بالغنوصية أو اتهمت بها طوائف مسيحية عديدة، طاردها المسيحيون من بعد بسيف قيصر بيزنطة الذي آل إليه منذ القرن الرابع سلطان المسيحية وصولجانها، وكان طبيعيًا أن تلجأ فلولها إلى تخوم نفوذ بيزنطة، حيث «الفرس» أعداء القيصر، فيتجمعون في جنوبي العراق حيث كانت «بابل». هذه الفرقة المسيحية «المندعية» أي المعرفية (أعني الغنوصية إن آثرت اللفظ اليوناني الشائع في كتب الفلسفة)، تسميها الكنيسة باسم «مسيحيي القديس يوحنا»، ليس هو بالطبع يوحنا الحواري أو يوحنا صاحب الإنجيل الرابع، وإنما هو يوحنا بن زكريا، يعني بقية من تلاميذ يحيى عليه السلام. ولا شك أن هذه الملل والنحل التي أضافت إلى وحي الله عز وجل ما لم ينزل به سلطانًا، خلطت سيئًا بصالح، تأخذ نتفا من هنا ونتفا من هناك، فأضاعت الأصل وجاءت بمسخ مشوه. مثلما فعلت تلك الفلسفات المتهافتة التي نشأت في مدرسة الإسكندرية فجمعت بين أساطير اليونان واباطيل البابليين، تحاول صهرها في بوتقة فكر أرسطو وأفلاطون فتكون النتيجة المحتومة فكرًا شائها غير متماسك، تلخصه لك فلسفة أفلوطين الأسيوطي الإسكندري. وتستطيع أن تقول أن عقيدة نيقية التي استمدت من عقائد المصريين في أسطورة إيزيس، لم تبرأ رغم نضالها الضخم ضد «هرطقات الغنوصيين». من تأثير بابلي قديم، يؤله النجوم، أو الملائكة، أي الوجهين شئت في فهم «صبا» العبرية – الآرامية، عندما ارتأت، بعد رفع المسيح بثلاثة قرون ونصف قرن، تأليه جبريل «النجم – الملك». [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/340] أما تلك الفرقة «الغنوصية» المنسوبة إلى يحيى بن زكريا، فقد وفدت في بابل على سلالة من بني إسرائيل تسموا بالصابئة من قبل، وسرعان ما اختلط هذا بذاك. فقد مر بك أن نبوخذ نصر ملك بابل اجتاح أورشليم وهدم هيكل سليمان أوائل القرن السادس قبل الميلاد (586 ق.م) وجعل أهلها أثلاثًا: ثلث في القتلى، وثلث استبقاه في أورشليم، وثلث أخذه سبيًا رجع به إلى بابل. فكان أول جلاءات بني إسرائيل. قضاء قضاه الله في بني إسرائيل جزاءً وفاقًا، مصداقًا لقوله عز وجل: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا} [الإسراء: 4 – 5]، أي كان هذا عقابًا على ظلمهم وإفسادهم. وكم بغى اليهود وأفسدوا من بعد سليمان على نحو ما تقرأ في كتبهم (العهد القديم: الملوك الثاني – أخبار الأيام الثاني): نبذوا عهد الله وراء ظهورهم، فاستحلوا ما حرم الله، واستعان بعضهم على بعض بعبدة النجوم والأوثان، وسجدوا لغير الله، وطاردوا أنبياء الله، بل وقتلوا أنبياء الله. كان منهم زكريا بن برخيا، الذي ذبحوه بين يدي المذبح في الهيكل، فكانت النازلة الكبرى في دينهم هدم هذا الهيكل على رؤوسهم، واقتلاعهم من أورشليم، وسبيهم في بابل، وبقي منهم من استبقاه البابليون في أورشليم يلطم على أطلالها وينوح، أو يطلب التقية فيتقرب إلى الغزاة بالمودة، وزاغ منهم من زاغ فشاركوا الغزاة عبادتهم وأضاعوا كتاب الله. أما سبى بابل، أساري نبوخذ نصر، فقد كان منهم من نجع فيه تأديب الله عز وجل فعكف على توراته، يستمسك بالعروة الوثقى، مؤمنًا بعدل الله عز وجل فيما أجراه على قومه، الذي جره بنو إسرائيل على أنفسهم بنبذهم هذه التوراة، لا مهرب من الله إلا إليه. وكان منهم أيضًا – كما تتوقع – الفريق الآخر، الذي يلتمس الرفعة بالذلة، فيرتضي الدنية في دينه، لينال الحظوة، فلاينوا واستلانوا، وكان لهم ما تمنوا، بل كان منهم من تسلل إلى بلاط الملك فكان بعض خدامه وحجابه وأعوانه، على ما رأيت في قصة «مردخاي» الذي دفع بابنة أخيه «إستير» إلى أحضان الملك [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/341] غير مبال متعللاً بأنه يستنقذ بها شعب بني إسرائيل في بابل من مكيدة كادها لهم عند الملك كبير بلاطه، فصارت بها «إستير» بطلة من أبطال اليهود، ليس هذا فحسب، بل سجل لها العهد القديم هذه البطولة في سفر باسمها في «الكتاب المقدس». والذي يجب التنبيه إليه أن هذا الاسم «مردخاي» معناه بالبابلية الآرامية «المريخي» عابد كوكب المريخ، وهذا يدلك على أن سبى بابل كان منه فريق استهوته عبادة البابليين، عبدة الكواكب، لا يأنف من الاعتزاء باسمه إلى بعض آلهتهم. وليس معنى هذا الذي قلناه، أن هذا الفريق المنافق من سبى بابل ارتد عن توراة موسى إلى عبادة البابليين، وإنما معناه أنهم مزجوا بتوراة موسى شيئًا من عقائد البابليين، عبادة الكواكب، أو تعظيم الكواكب، أو في أقل القليل الاعتقاد بتأثيرها وأنها فعالة. وقد مر بك أن الملك أذن من بعد لعزرا الكاتب بالعودة بهذا السبى إلى أورشليم لإعادة بناء الهيكل الذي هدمه من قبل نبوخذ نصر. وقد عاد عزرا بلفيف فقط من هذا السبى ولم يعد بهم جميعًا، لقول الملك في رسالته إلى عزرا: «كل من أراد في ملكي من شعب إسرائيل وكهنته واللاويين أن يرجع معك إلى أورشليم فليرجع» (عزرا 7/13). وقد حرص عزرا في سفره على تعيين العائدين معه إلى أورشليم بأسمائهم وأنسابهم. ولم يسم بالطبع الذين لم «يريدوا» الرجوع معه، الذين آثروا مصالحهم في بابل على الرجوع إلى أورشليم وإعادة بناء الهيكل. بقيت إذن باقية من هذا السبى في بابل. وكان لا بد مما ليس منه بد. فقد تسللت إلى عقيدة التوراة القاطعة بتوحيد الله عز وجل لا ولي من دونه، التي يدين بها هؤلاء الذين آثروا بابل على أورشليم، تأثيرات بابلية تعظم النجوم – أو الملائكة إن شئت – فجمعوا بين توحيد الله عز وجل وبين الاعتقاد بتأثير النجوم. والذي يجب أن تعلمه أن البقية الباقية من «الصابئين» في العالم لا تزال تعيش إلى الآن في جنوبي العراق، حيث كانت «بابل». إنهم إذن سلالة من «الذين هادوا» صبؤوا عليهم. والصابئ في العربية يعني الخارج على ملة آبائه، الذي انتقل من عبادة قومه إلى عبادة لم يعرفوها. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/342] ولا ينفع تحيد الواحد الأحد من عبد معه غيره، مهما عظم جرمه، أو مهما بلغ قربه من الله عز وجل، فكل ما عدا الله خلق من خلقه، لا معبود سواه، ولا توسل إليه إلا به، ولا ولي من دونه. أما اسمهم بلغتهم، فهو «صبائيين» آراميًا، «صبائيم» عبريًا، نسبة إلى «صبا» العبري – الآرامي يعني «النجم – الملك»، والنسبة إليه في الآرامية «صبائي» والجمع «صبائيين»، وفي العبرية «صبائي» والجمع «صبائيم». إنهم «النجوميون» أو «الملائكيون»، عباد الكواكب أو عباد الملائكة. وإلى هذا الخلط في مجاز العبرية – الآرامية بين الملائكة والنجوم في مادة «صبا» العبرية – الآرامية، يرجع فيما أرى تفاوت مفسري القرآن في عبادة الصابئين، فريق يقول عباد الكواكب وفريق يقول عباد الملائكة، لتفاوت من ترجم معنى «صبا» العبري – الآرامي لمفسري القرآن من رواتهم الآخذين من أفواه الصابئة هؤلاء أنفسهم. اختلف مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 62 من سورة البقرة) في عبادة الصابئين فقالت طائفة إنهم فرقة من أهل الكتاب (وهو الصحيح كما مر بك)، وقالت طائفة هم قوم يشبه دينهم دين النصارى (وهذا يؤكد لك اختلاط الصابئة بمسيحي القديس يوحنا الغنوصيين أو المندعيين المعرفيين) قبلتهم مهب الجنوب يزعمون أنهم على دين نوح (وقد علمت أن العهد القديم ينسب نوحًا إلى بابل)، وقيل دينهم يتركب من اليهودية والمجوسية لا تنكح نساؤهم ولا تؤكل ذبائحهم (وهذا يدلك على تأثر بعض الصابئة بدين سادتهم الفرس قبل الإسلام)، وقيل بل قوم يعبدون الملائكة يصلون إلى القبلة ويقرءون الزبور ويصلون الخمس (وليس بعد هذا تخليط ولكن الراوي ينقل بلا شك عن صابئة يتملقونه في أرض الإسلام). وانتهى القرطبي رحمه الله إلى أن خلاصة القول فيهم عند أشياخه هو أن الصابئين موحدون يعتقدون تأثير النجوم وأنها فعالة، وهذا كفرهم. هذا الخلط في أقوال رواة مفسري القرآن بين عبادة الصابئين النجوم وبين عبادتهم الملائكة، ناشيء بلا شك عن ازدواج معنى «صبا» العبري – الآرامي لدى [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/343] أصحاب الملة الذين نقل عنهم الرواة تفسير عبادتهم، طائفة تقول للراوي النجوم وطائفة تقول الملائكة، وهم في حقيقة الأمر يعنون شيئًا واحدًا، لأن الملك عندهم نجم والنجم ملك. قد جمع الصابئون إذن بين عبادة إله موسى وبين عبادة تلك النجوم التي في بابل، جند السماء، أو «صبؤوت هشمايم» في العهد القديم، وقد زين لهم التخفيف من غلظة عباد النجوم التي نعاها آباؤهم على بابل فألبسوا تلك النجوم ثياب الملائكة وفي وهمهم من مجاز عبرية العهد القديم أن النجم والملك واحد: «صبا»، «صبؤوت». وقد كفر الملائكة في القرآن من عبدوهم وتبرءوا منهم: {ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون} [سبأ: 40 – 41]. وها هنا يلتقي الصابئة بالنصارى الذين جمعوا إلى عبادة الله عز وجل عبادة روح القدس جبريل صلوات الله عليه وعلى ملائكة الله أجمعين. أما «الصابئون» التي في القرآن فهي عربية بلا شك، زنة جمع الفاعل من الجذر العربي صبأ / يصبأ / صبوءا، يعني انتقل، أي انتقل من عبادة آبائه إلى عبادة لم يعرفها آباؤهم. وقد قيلت لمحمد صلى الله عليه وسلم وصحابته على الاستنكار من مشركي قريش، فقيل صبا محمد، وصبأ عمر، إلخ. يعني خرج خاتم النبيين وأتباعه على عبادة قومهم مشركي قريش. وقائلها يقولها على الذم ولا يقولها قط على المدح، صح قول القائل أو لم يصح. وهو لم يصح بالطبع في خاتم النبيين المبعوث لهداية الخلق، ولكنه يصح في الصابئين، صابئة بابل، الذين صبؤوا بعبادة النجوم أو الملائكة على توراة موسى. وقد تقول فلماذا يفرد القرآن «الصابئين» بهذا الاسم، وقد صبأ من قبل ومن بعد كل خارج على دين القيمة، الذين تبدلوا قولاً غير الذي قيل لهم؟ مر بك أن العرب تقول من «صبأ» العربي: صبأت النجوم، يعني طلعت، من صبأ بمعنى برز، كماي قولون صبأ ناب الصبي يعني انشقت عنه لثته، فالصابئ بمعنى [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/344] البارز البازغ. وعباد النجوم لا يعظمونها وهي في محاقها، وإنما يعظمونها وهي صوابئ، على ما مر بك من قول إبراهيم عليه السلام في القرآن: {فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي} [الأنعام: 77]. على أن «النجم» في العربية تسمية بالمصدر من الجذر العربي «نجم» بمعنى ظهر وبزغ، فهو الذي «نجم» يعني الذي بزغ وصبأ، فالناجم والصابئ واحد حين تعني بها نجوم السماء، ولكن العربية اشتقت اسم النجوم من مادة «نجم، واشتقته العبرية – الآرامية من مادة «صبا». من هنا تستطيع أن تقول إن «الصابئين» هم الذين يعظمون نجوم السماء وهي صوابئ: يصبؤون إليها كلما صبأت. احتفظ القرآن بلفظ «صبائيين» الآرامي أو «صبائيم» العبري على ما أسمى به الصابئون أنفسهم، فجاء به على التعريب المفسر: إنهم الصابئة، أصحاب النجوم الصوابئ. وفي هذا التعريب المفسر أيضًا إضافة ومزيد بيان: ليسوا هم عباد النجوم بإطلاق شأن البابليين مخترعي هذه العبادة، ولكنهم الذين «صبؤوا» بعبادتهم على توراة موسى. وسبحان العليم الخبير). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 331-345] |
(60) المجوس:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (60) المجوس وردت «المجوس» مرة واحدة في كل القرآن، بين «النصارى» و«الذين أشركوا» في قوله عز وجل: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد} [الحج: 17] وقد مر بك. وهي من الأعجمي المعرب الذي نطق به العرب حوالي القرن الثالث الميلادي قبل نزول القرآن بأكثر من ثلاثة قرون، فهي ليست من معربات القرآن، وإنما هي من مواضعات العرب أنفسهم، يصفون بها جيرانهم الفرس عبدة النيران، وقد أجمع المفسرون (راجع تفسير القرطبي للآية 17 من سورة الحج) على عجمة هذه اللفظة، إلا من شذ منهم فقال على الذم والتحقير إن الميم في «مجوس» مبدلة من النون فهم «نجوس»، توصلاً إلى وصفهم بالنجاسة، وربما كان هذا القائل ينظر إلى قوله عز وجل: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28]، وهذا عام في كل مشرك، فلا يصح اختصاص المجوس به حتى يسموا على معنى «نجوس». وهو لا يصح أيضًا لأنه لم يسمع من العرب «مجس» بمعنى «نجس». ولا يصح أخيرًا لأن «مجوس» لفظة فارسية بلا مراء كما سترى – إن اعتبرت الميم فيها أصلية لا زائدة – لا أصل لها في العربية لأنه لا أصل لمادة «مجس» الثلاثية في اللغات السامية الثلاث: العربية والآرامية والعبرية. ومع ذلك، أي على الرغم من فارسية هذه اللفظة في أصلها، فهي تصلح من العربية ذاتها وصفًا للمجوس بعبادتهم، إن أخذتها على المفعولية من الجذر العربي جاس يجوس جوسا وجوسانا، وهو التردد بين الشيئين، وأجاسه يعني جعله يجوس، وأيضًا جاس به، فهو «مجوس» على معنى «مجوس به». ولب عقيدة المجوس كما تعلم هو التردد بين إلهين، إله الخير وإله الشر، يغدو المجوسي عليهما ويروح. ولكن لم [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/346] يفطن العرب إلى هذا يوم سموا المجوس مجوسًا، فلم يكن لهم علم بما رواه عبادة النيران، ومن ثم لم يفطن إليه أيضًا المفسرون. والذي ينبغي التنبيه إليه أن لفظة «المجوس» ليست اسم جنس يطلق على شعب أو أمة أو جيل من الناس، كما تقول المصريون والبابليون والفرس والهنود. فلا يجوز على سبيل المثال إطلاقه على شعب إيران اليوم بحسبانهم سلالة من هؤلاء الفرس الذين كانوا أول شعب غير عربي يعتنق الإسلام فيسهم في بناء حضارته إسهامًا ذا شأن. لا يجوز هذا ليس لأن آباء هؤلاء الإيرانيين أسلموا فحسن إسلامهم وكان منهم أئمة أمثال أبي حنيفة النعمان أقدم أئمة الفقه الأربعة، وإنما أولاً وبالأخص لأن «المجوس» ليست اسم الشعب الذي انحدروا منه وإنما اسم «الملة» التي كانوا عليها قبل إسلامهم، يعني كانوا «فرسا» قبل أن يكونوا «مجوسا» بل لم تكن المجوسية هي الملة التي خلقهم الله عليها، وإنما طرأت عليهم المجوسية حوالي القرن السادس قبل الميلاد، جاءهم بها «زرادشت»، فهم الزرادشتيون أتباع زرادشت، ولكن «الزرادشتية» لم يكتب لها انتشار خارج حدود موطنها عدا الذي أبق من أتباعها إلى الهند عقيب الفتح الإسلامي فرارًا بملتهم (وهم آباء طائفة Parsee «فارسي» التي لا تزال إلى اليوم في الهند يتعبدون النيران في معابد لهم)، ولذا شاعت لفظة المجوس عند العرب علما على الفرس أنفسهم، وصفًا لهم بملتهم. وقد وقعت لفظة «المجوس» بمادتها في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه». وهذا قاطع حاسم في أن المجوسية دين لا جنس. وبهذا المعنى أيضًا وردت لفظة «المجوس» في القرآن: إنهم إحدى الفرق الست (المسلمون واليهود والصابئون والنصارى المجوس والذين أشركوا) يفصل الله بينهم يوم القيامة. على أن «المجوس» أتباع هذه الديانة لم يسموا أنفسهم «مجوسًا» على الرغم من فارسية هذه اللفظة، وإنما أسماهم بها العرب قبل الإسلام، تسمية للديانة باسم كهنوتها. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/347] ولم تقع هذه اللفظة الفارسية في عبرية التوراة إلا مرة واحدة فقط، في عبارة وحيدة وردت في سفر إرميا الذي عاصر السبي البابلي: «ودخل كل رؤساء ملك بابل وجلسوا في الباب الأوسط، نرجل شراصر وسمجرنبو وسرسخيم رئيس الخصيان ونرجل شراصر رئيس المجوس وكل بقية رؤساء ملك بابل» (ارميا 39/3). وليست هي رئيس المجوس كما ترجمها المترجم العربي لأسفار العهد القديم متأثرًا بلفظة «المجوس» التي في القرآن، وإنما هي في الأصل العبراني لسفر ارميا «راب – ماج» أي «الماج الكبير» يعني كبير كهنة هذا الكهنوت الفارسي الزرادشتي الذي واحده في الفارسية القديمة «ماجو»، «ماجوس». ورغم وقوع كاتب هذا السفر في خطأ تاريخي بين، هو إقحامه رئيسًا لكهنة الفرس بين رؤساء ملك بابل في بلاط ملك بابل على عهد نبوخذ نصر ولم تكن بابل قد سقطت بعد في أيدي الفرس حتى يكون للفرس كهنوت في بلاط بابل، فالذي يعنينا هنا أن لفظة «ماج» العبرية المأخوذة من الفارسية «ماجو» لا تعني عنده «المجوس» أتباع زرادشت وإنما هي تعني فقط واحد هذا الكهنوت «الزرادشتي». وهذا «الماج» هو أيضًا الذي تجده على لسان متى في إنجيله: «ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في أيام هيرودس الملك، إذا مجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم قائلين أين هو المولود ملك اليهود. فإننا رأينا نجمه في المشرق وجئنا لنسجد له» (متى 2/1- 2). وقد جاء لفظ «مجوس» هذا في الأصل اليوناني بصيغة الجمع magoi على الجمع من magos (السين فيه زائدة للرفع) وهي الصورة اليونانية للفظة «ماج» العبرية المأخوذة من «ماجو» الفارسية. ورغم أن متى أخطأ هنا نفس الخطأ الذي وقع فيه كاتب سفر إرميا من قبل بخلطه بين كهنة بابل عبدة النجوم (فإننا رأينا «نجمه» في المشرق) وبين كهنة المجوس أتباع زرادشت عبدة النيران فالذي يعنينا هنا أن magos اليونانية لا تعني عنده وعند اليونان واحد المجوس أتباع زرادشت كما يقول العرب، وإنما هي تعني فقط – ولا تزال تعني في كل لغات الأرض عدا العربية وحدها - «الماج» واحد الكهنوت الزرادشتي لا غير. ورغم أن العبرية المعاصرة استعارت من العرب لفظة «مجوس» بعد تشيين السين كدأبها، فقالت «مجوش»، «مجوشيم»، فهي لا تعني بها واحد المجوس أتباع الملة، أو واحد الفرس عبدة النيران وصفًا للفرس بملتهم كما يقول العرب، وإنما تعني بها نفس الذي أراده منها [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/348] ارميا ومتى من قبل: الـ «ماج» واحد كهنوت المجوس، أي على أصلها عند الفرس لا على مجازها العربي الذي بات عَلَمًا على أهل الملة جميعًا، كهنوتًا وغير كهنوت. وهذا يدلك على أن العرب انفردوا بتسمية المجوس مجوسا، على معنى أهل الملة أجمع، لم يستعيروها من يهود أو يونان أو نصارى، وإنما أخذوها مباشرة على الراجح عندي من أفواه عرب الحيرة الواقعين من قديم في دائرة نفوذ فارس. أما «ماجو» الفارسية هذه، فمعناه في تلك اللغة «ذو الحول والحيلة»، اسم غلب على رتبة من هذا الكهنوت الزرادشتي برعت في الإتيان بالعجائب حتى نسبت إليهم الخوارق. ومن هذا الجذر البعيد تجيء في الألمانية مثلا mögen و Macht (وهما في الإنجليزية على الترتيب الفعل may والاسم Might على معنى القدرة والاستطاعة). ومن «ماجوس الفارسية» أيضًا واحد هذا الكهنوت ذي الحول والحيلة ولدت في اللغات الأوروبية جميعًا اللفظة الإنجليزية magic ونظائرها ومشتقاتها في أخواتها الأوروبيات بمعنى السحر الذي يعتمد على الحيلة فيخلب اللب، لا sorcery ونظائرها في اللغات الأوروبية بمعنى السحر الذي يعتمد على الجن والأرواح الشريرة، ولعله قد كان من حيل أولئك الكهنة المجوس تلك النيران التي لا تنطفيء في معابدها وأصلها – كما لعلك حدست الآن – سحابات غاز تتسرب من أرض تعج ولا تزال بالنفط الخام. ورغم انقطاع الصلة بين معنى الحَوْل والحيلة في «مجوس» على أصلها في لغة أهلها وبين مضمون العقيدة الزرادشتية الثنوية التي تتعبد لإلهي الخير والشر، فقد وفق العرب كل التوفيق – دون أن يدروا – في تسمية المجوس مجوسا. إذ ليس لديك شيء من تعاليم زرادشت «الحقيقي» الذي تنتسب إليه هذه الملة، إلا هذه الأﭬـستا (Avesta ومعناها النص الأصلي) التي شرع في كتابتها او تجميعها هذا الكهنوت في الربع الأول من القرن الثالث الميلادي بعد ثمانية قرون من وفاة زرادشت وانتهوا من تدوينها في القرن السابع الميلادي، لا تدري على وجه القين ما الذي في الأﭬـستا من قول الكهنة والذي فيها من قول زرادشت. ومن ثم يقتضي الإنصاف – وإن لم يتعمده العرب في هذه التسمية – نسبة أصول الملة إلى هذا الكهنوت نفسه، لا إلى معلمهم. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/349] ولعله لن يفوتك وقد علمت الآن أن الأﭬـستا كتاب دونه الكهنوت الزرادشتي ما بين القرنين الثالث والسابع الميلاديين، لم ينزل على نبي لهم، زرادشت أو غير زرادشت، مبرر آخر يضاف إلى ما ذكرناه في مبحث «التوراة» يقطع بامتناع إدخال «المجوس» ضمن أهل الكتاب المعنيين في القرآن، أي اليهود والنصارى فحسب، لا عبرة بمن يقول العكس. تقول عقيدة « الأﭬـستا» التي يدين بها المجوس، أن هذا الكون تحكمه قوتان، الخير والشر، أو النور والظلمة. الأول «هرمزدا» (وأصلها من الفارسية القديمة أهورا + مزدا) أي إله الخير، والثاني «أهرمن» (وأصلها أهرى + من) يعني روح الشر. لا تزال بينهما المغالبة والمدافعة، جولة هنا وجولة هناك، والشر أغلب، حتى ينتصر الخير في النهاية. والإنسان الذي زج به في هذا الصراع – أي هذا العالم – لا يدري علة ما يدور من حوله، إذ ليس هو طرفًا فيه، فهو صراع بين عمالقة. ولكن الضربات تكال له من حيث لا يحتسب، في ظلام دامس لا يدري من أين يؤتي، فهو يصانع هذا الإله وهذا الإله، يدرأ الواحد بالآخر: الأخيار يستعينون هرمزدا على أهرمن، والأشرار يستعينون أهرمن ليكف أذاه عنهم ويحقق أهواءهم. وربما قلت أن الأشرار أحصف وأحكم، لأنهم لا يريدون ما وراء هذه الحياة الدنيا فقد علمت أن الشر أغلب، وأن إله الخير أو النور «هرمزدا» لا يحقق انتصاره الحاسم إلا في نهاية العالم. ولكن الأﭬـستا تضع جائزة للأخيار: «الكمال والخلود» في حياة أخرى ينتقلون إليها بعد الموت، لا مكان فيها للشر والأشرار. ولن هرمزدا إله الخير مرموز إليه بالنور، كما يرمز بالظلمة إلى روح الشر أهرمن، فقد كان لا بد من تعظيم الشمس والقمر، ضياءً يطرد الظلمة ونورًا يخفف من حلكة الليل. وهاهنا فقط نقطة الالتقاء في مظاهر العبادة بين البابليين عبدة النجوم والكواكب وبين المجوس عبدة النور والنيران. وليست عبادة النيران التي شهر بها المجوس إلا شيئًا من هذا: إنها الاستضاءة، أي استحضار «الإله النور» الذي يطرد «الظلمة» أي روح الشر أهرمن. ولا يصلح في هذا بالطبع الاستعانة بضوء [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/350] مصباح ثابت اللهب، بل لا بد من نار تتأجج فتبعث «الحياة» في هذا الصراع المحموم بين هرمزدا وخصمه اللدود أهرمن. وتستطيع أن تقول أن المجوس أحرزوا بعض «التقدم» على الذين أشركوا، ليس فقط لأنهم اجتزءوا بإلهين اثنين عن العديد الذي لا يحصى من آلهة الشرك، ولا لأنهم صنفوا الآلهة في جبهتين، جبهة الخير وجبهة الشر، الضار والنافع، وإنما أيضًا وبالأخص هذا التنظير الذي استحدثوه في عبادات الشرك ليجعلوا لها مغزى، فقالوا بهذا «الصراع» بين إله الخير وإله الشر، يغالبه حتى يغلبه في نهاية العالم. ولكن المجوس بتجميعهم قوى الشر في واحد، جعلوا من أهرمن عملاقًا لا يغالب لا بد لهم من تعظيمه حتى يكف أذاه عنهم إن ضعف هرمزدا عن نجدتهم أو تباطأ. أما الذين أشركوا فهم يتعاملون مع آحاد آلهتهم فرادى، يضربون هذا بذاك، فضلاً عن أنهم لا يشخصون الخيرية أو الشرية في إله دون إله، ليس من آلهتهم خير بذاته أو شرير بذاته، بل الكل يقبلون الرشوة، أي الأتاوات والقرابين. والكل أيضًا خرب الذمة، لا يبالي إلا بمن يزايد عليه فيدفع أكثر. إنهم إن تمعنت جند مرتزقة لا آلهة تعبد، خدام لا سادة، ولا خير بالذات ولا شر بالذات، وإنما هما الضر والنفع الفرديان هاهنا والآن تختار لنفسك ما يحلو وبيدك الميزان، لا حاجة بك إلى هرمزدا أو أهرمن. المجوس إذن هم الثنوية، فرقة من الفرق الست يفصل الله بينهم يوم القيامة. ومن إعجاز القرآن في أنباء القرآن أنه يلخص لك في الآية 17 من سورة الحج عبادات الخلق جميعًا عصر نزوله وإلى يوم القيامة، لا تخرج عن هذه الفرق الست ملة من الملل، متدرجًا بهم من الذين آمنوا، أصحاب التوحيد الخالص، إلى الذين أشركوا أصحاب الآلهة المتعددة المتضادة، يحجرونها أوثانًا وأصنامًا، أو يتمثلونها في «قوى الطبيعة»، المياه والرياح والأفلاك والنجم والشمس والقمر، والبراكين والصخر والشجر والجبل، إلى آخر ما تعلم. ولا يخرج عن هذا بالطبع «المبطلون» الذين يقولون ليس البتة من إله بل هو العالم السائر بذاته، بمحض قوانينه، التدافع والتضاد والتفاعل، لأن إله هؤلاء المبطلين هو هذا «العالم» بكل أشتاته، ومن يُهِن الله فما له من مُكِرم. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/351] بين هذين الطرفين – الذين آمنوا والذين أشركوا – تجيء على التتابع الفرق الأربع: اليهود الذين هادوا ثم لم يهودوا، والصابئون الذين «ملأكوا» النجوم ثم جعلوها بينهم وبين الله وسائط، والنصارى الذين وحدوا ثم ثلثوا ثم قالوا ثلاثة في واحد، والمجوس الذين ثنوا فقالوا بإلهينِ اثنين على التضاد والتعاند. وهو ترتيب تنازلي للفرق الست، من قمة التوحيد إلى حضيض الشرك. والذي قضى على الثنوية والمعددة، أي على المجوس والذين أشركوا، بالحرمان من وعد الله دون وعيده – على ما مر بك في مبحث الصابئين – هو غفلتهم جميعًا عن مبدأ الخلق والإيجاد، الذي لا يصح فيه إلا خالق غير مخلوق، واحد أحد تفرد بالألوهية لتفرده بالملك، الرازق المانع، الضار النافع، المنشيء المعيد. ولكن الثنوي والمشرك اكتفيا بالعالم عن صاحبه، أي بالمصنوع عن الصانع، وإن كانت كل ذرة في أحياء هذا الكون وجماده تنطق بالذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، والذي أحكم فأمضى، القاهر فوق خلقه، لا ينازع سلطانه. كان أجدر بهذين – الثنوي والمشرك – وقد غفلا عن الخالق المالك واكتفيا بهذا العالم عن صاحبه، ألا يلتمسا غيره، آلهة من هذا العالم تلاعبهم ويلاعبونها. ولكن هذا أيضًا من آيات إعجاز الخالق فيمن خلق، الذي فطرهم على فطرة لا يملكون منها فكاكا: التماس «الإله» الذي يدينون له بالعبادة، حتى المبطل الذي قال ليس البتة من إله وهو محكوم بقوانين هذا العالم، يسير في إسارها ولا يملك الخروج عليها، فيؤله العالم. أولئك الذين استحبوا العمى على الهدى، فحقت عليهم الضلالة. لا شك أن فكرة الصراع بين الخير والشر فكرة ورثتها الأﭬـستا عن شعراء اليونان، الذين استهوتهم «مأساة» هذا الصراع الخالد المزعوم بين الخير والشر، يلونونها لك ألوانًا، ويحبرونها تحبيرصا، ويشخصونها لك حتى لتكاد تتوهم معهم أن في هذا الكون قوتين فاعلتين لا ثالث لهما، الخير والشر، ندان متصارعان، لا هم لأحدهما إلا إيقاع الضر بك، ولا شغل للآخر إلا السعي في دفع الأذى عنك، وكأن ليس في الكون إلا أنت، لعبة يتقاذفونها. وتبلغ المأساة عندهم ذروتها بانتصار قوى [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/352] الشر قدرًا مقدورًا، ويتوارى الخير مثخنًا بجراحه، يستجمع قواه لجولة قادمة، وقلما يكون الظفر من نصيبه. ومع أن الفلسفة والتفلسف ليسا من مقاصد هذا الكتاب، فلا بأس بقسط منهما لاستقصاء مدلول الخير والشر في أفهام الناس. فعند الذين آمنوا حق الإيمان يجيء الخير والشر بمعنى البر والإثم: البر هو إتيان ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه والإثم هو اجتراح ما نهى الله عنه وتعطيل ما أمر الله به. والخير والشر عند هؤلاء أيضًا، إن أخذته بمعنى الضر والنفع، أي النعمة والنقمة، ليسا هما بذاتهما هذه أو تلك، وإنما هما معًا ابتلاء من الله عز وجل: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء: 35]، من شكر في النعمة وصبر في النقمة فهو خير له، ومن بطر في النعمة وجزع في النقمة فهو شر له، ولكنه يسأل العافية، لقوله صلى الله عليه وسلم وهو يناجي ربه: «إلا يكن بك على غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي». وهذا هو منتهى الحكمة، لأن الغاية الأولى والعظمى لا غاية غيرها هي رضوان الله عز وجل، فالخير والشر بيده تبارك وتعالى، ولأن يرضى الله عنك في النعمة وأنت شاكر غير بطر أهنأ لك من أن يرضى الله عنك في النقمة صابرًا محتسبًا، قد جمعت في الأولى خير الدنيا وخير الآخرة. فلا شك أن الراحة أهنأ من التعب، والفرح أهنأ من الحزن، واللذة أهنأ من الألم، واليسر أهنأ من العسر. ولكن الله عز وجل أعلم بالذي هو خير لعبده المؤمن، فيبتليه بالذي هو خير له، القمينة نفسه بالصبر عليه نعمة أو نقمة، لقوله عز وجل: {إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان عباده خبيرًا بصيرا} [الإسراء: 30]. أما عند غير هؤلاء، فالخير والشر عند عامة الناس هما الضر والنفع، يعني مباهج هذه الحياة الدنيا أو مصائبها، مثل الغنى والفقر، والصحة والمرض، والقوة والضعف، والرفعة والضعة، والنصر والهزيمة، والسعادة والشفاء، واللذة والألم، والاستمتاع بالأهل والولد والصديق أو المصيبة في الأهل أو الولد أو الصديق، إلى آخر ما تعلم من خيرات هذه الدنيا وشرورها. أولئك هم أصحاب العاجلة، لا يفطنون إلى ما وراء هذه الحياة الدنيا، الذين نسوا الغاية من وجودهم فيها: لم يجيئوها للتلذذ والتنعم، وإنما جاءوها ليفتنوا فيها، ثم ليشهد كل على نفسه بما [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/353] قدمت يداه. قال عز وجل في أصحاب العاجلة: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا} [الإسراء: 28 – 20]. أصحاب العاجلة أقمن أن يضحوا بالخير الأعظم، رضوان الله عز وجل، ليشتروا به في هذه الدنيا ثمنا قليلا، قد غفلوا عن أن متاعها متاع الغرور، فالموت آت والحساب قريب، والساعة كلمح البصر أو هي أقرب. ومن الناس أيضًا فلاسفة شعراء، الخير والشر عندهم قضاءٌ أعمى، بل هم بالأحرى لا يرون في هذا العالم إلا شرًا، سواءٌ في هذا «الشر الكوني» من أمثال القحط والفيضان والمجاعات والزلازل والبراكين التي تهلك الحرث والنسل، أو «الشر الاجتماعي» المتمثل في إفساد الطغاة البغاة الظلمة. نسى هؤلاء أن هذا العالم مسير بقوانينه الطبيعية والاجتماعية، كل شيء فيه بقدر، أي موزون بميزان، مقصود متعمد، سلاسل أحداث يركب بعضها رقاب بعض، ويفضي بعضها إلى بعض. إن سخطت على «الشر الاجتماعي» أي الظلم والإفساد، فلا تنس أنهما بفعلك أنت ظالمًا كنت أو مظلومًا: إن كنت الظالم فما عليك إلا أن تكف النفس عن الظلم والإفساد. وإن كنت المظلوم المبغي عليه فلأنك تخاذلت وجبنت عن نصرة الحق والعدل أو تموت دونهما شهيد الحق والعدل. أما «الشر الكوني» الذي لا ترى غيره في هذا العالم، الذي تسميه كوارث طبيعية تهلك الحرث والنسل، فهو فعل «الكون» في نفسه، لا سائل ولا مسئول، بل يهلك الله بعض الناس بذنوبهم أو يتخذ منهم شهداء، ويرى الخلق آياته، لتتعظ أنت وتعتبر. ولكنك أيضًا جاحد، تغمط حق هذا «الكون» عليك وأنت بعض ترابه، المنعم في خيراته، تجار في الضراء، والسراء ملء حياتك. وما كان الله ليصنع هذا العالم على حسب دماغك، وإنما جاء بك إلى هذا العالم على ما هو عليه ليفتنك فيه، وما أنت فيه بمخلد، فلا تتبطر وابتغ إلى الله سبيلا. قال عز وجل: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة} [الحج: 11]. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/354] ثمة أيضًا فلاسفة يرون، لنكد فيهم، أن هذا العالم ليس هو أفضل العوالم الممكنة. يعنون أن الله كان يستطيع خلق هذا العالم أكثر كمالاً وأقل نقصًا، فالخير والشر عندهم بمعنى الكمال والنقص. ولا بأس بهذا بالطبع إن أريد به التنويه بقدرة الله عز وجل اللامتناهية على الخلق والإبداع، لا حدود لكلماته تبارك وتعالى، بل لا شك أن جنات عدن التي عَرْضُها السموات والأرض أفضل من هذا العالم بما لا يُقاس، كما أخبر عز وجل. ولكن هذا القائل وأمثاله لا يقصدون هذا، وإنما ينصبون أنفسهم نقادًا لإعجاز الله في خلقه فيقولون إن هذا العالم الذي نعيش فيه ليس مبرأ من النقص، بل مليء بعيوب كان يمكن تلافيها، بل لا يخلو من أوجه خلل تشوه النظام، ثم يتطاولون والكفر ملء أشداقهم بأنه لا يصح الاستدلال بهذا العالم على خالقه إن كان ثمة خالق، لأن الناقص لا يخرج من الكامل. وتستطيع بالطبع أن ترد بأن هذا القائل أعمى أو جاهل، وأن ما يراه هو نقصًا بضآلة علمه وكلال بصره ليس إلا محض الكمال والجمال والإحكام، على مقتضى مقصوده عز وجل، وأن هذا القائل بحاجة قبل غيره إلى قراءة القرآن وإن لم يكن من أهل القرآن، ليستدل على إعجاز الخالق فيما خلق، فليس في الكتب السابقة من هذا شيء، وليتوقف طويلاً عند قوله عز وجل: {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فأرجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير} [الملك: 1 – 4]. وتقول له أيضًا من القرآن: {هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه} [لقمان: 11]. ولكنك تعلم أن على قلوب هؤلاء غشاوة، فتختصر الطريق وتقول لهذا القائل: إن لم يعجبك هذا العالم فلتخرج منه. وما هو بخارج. فليس له بعد هذا العالم عالم. إلا النار وبئس مثوى الظالمين. وتستطيع أن تقول أن هذا العالم لو خلا من أحيائه فكان كوكبًا قفرًا كغيره من كواكب السماء، لما كان ثمة معنى لخير أو شر. فما شأن بركان يثور في كوكب الزهرة، أو زلزال تنقصف له الجبال في زحل؟ بل ما شأن ما وقع على هذه الأرض نفسها حقبًا متطاولة وهي تتشكل وتتهيأ لاستقبال الأحياء عليها؟ لا خير ولا شر [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/355] بالطبع، فليس هناك كائن يدرك ويحس، يتقي الضر ويتحرى النفع. بل ليس ثمة ذات تعقل خيرًا أو شرًا. الإنسان هو وحده المعني بالخير والشر. وتستطيع أن تقول أيضًا أن الخير والشر نسبيان، أي محكومان بالغاية والمآل، ما هو خير لهذا فهو شر لذاك، فالموت جهادًا في سبيل الله عز وجل خير لا شك فيه، بل هو الخير، والموت صدًا عن سبيل الله أو إعلاءً لباطل شرٌ لا شك فيه، وكلاهما موت. الذين آمنوا بالله عز وجل حق الإيمان، ثم اتقوه حق تقاته، هم وحدهم الذين فهموا حقيقة الخير والشر، إذا أمرهم صدعوا، وإذا نهاهم انتهوا: الخير في طاعته عز وجل، والشر في معصيته. وهم أيضًا أصحاب اليقين الثابت أن خالق كل شيء هو نفسه خالق كل فعل، لا فاعل في كونه غيره، ولا ولي من دونه، يبتليهم بالخير والشر فتنة، وإليه يرجعون. أما أصحاب الأﭬـستا فقد لبس عليهم إبليس أن يتقوا بأسه، لأنه رب الشرور في هذا العالم، فنصبوه إلهًا. وربما قيل لك أفليس «أهرمن» هذا عند المجوس هو نفسه «إبليس» في عقيدة المؤمنين بالواحد الأحد. وأليس «هرمزدا» إله الخير عندهم هو نفسه الله عز وجل، فماذا تنكر من عقيدة المجوس؟ لا مقارنة البتة. في المجوسية لا خالق ولا مخلوق، بل العالم مسرح لا يعرف صاحبه لمباراة بين ندين وفدا عليه، يتواثبان ويتغالبان، وباقي الخلق نظارة، يتقربون إلى هذا أو ذاك بالهتاف، أي بالخضوع والعبادة. ما كان الخاسيء الذليل، يوم خرج من الجنة مذءومًا مدحورًا، ليطمع من بني آدم في مثل هذا: أن يكون له نصيب في عبادتهم، إلهًا مع الله، أو يتصوروه لله ندًا يصاوله، ويبادله الضربات. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/356] كان منتهى أمله يوم انتصب لعداوة آدم وبنيه – ليس في جعبته سهم إلا الإيهام والتلبيس – أن يصيبهم ببعض سخط الله عليه، فلا يجد الله أكثرهم شاكرين: {قال أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين} [الأعراف: 14 – 17]، وإذا هم يجعلونه كفوًا لله عز وجل، ويتوجونه «أمير الظلام» رئيسًا لهذا العالم إلى نهاية العالم. أفقد كان إبليس يطمع في أفضل من هذا وقد علم من قبل أنه مقضي عليه، لاحظ له في الآخرة إلا العذاب الأكبر؟ هذه «الأﭬـستا» وثيقة استسلام للشيطان في هذا العالم يفعل فيه ما يريد. كان عصر تدوين الأﭬـستا وما قبله وتلاه، عصر شقاء وآلام طحنت في نفوس الناس كل أمل في خلاص قريب. ولو أنصفوا لعلموا أن هذا الشر من أنفسهم، والبغاة هم، والطغاة منهم، والعلاج بأيديهم. ولكن قعدت بهم همتهم، فجلسوا في الظل ينتظرون «المُخَلِّص»، ويثرثرون السلامة في التسليم للباطل، بحجة زينوها لنفسهم: تلك حرب بين الخير والشر، بين النور والظلام، بين هرمزدا وأهرمن، لا ناقة لنا فيها ولا جمل، فلينتصر هرمزدا لنفسه أو يدع، ولن ينتصر هرمزدا إلا في نهاية العالم. تجد قريبًا من هذا في الفكر الإنجيلي الذي ينتظر مجيء الملكوت: «أبانا الذي في السموات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء فكذلك على الأرض» (إن فهمت الملكوت بمعناها في الأصل اليوناني Basileia أي الملك والمملكة) أي قد انفرد الشر، إبليس أو أهرمن، بالملك والمشيئة في هذا العالم حتى مجيء الملكوت في نهاية العالم، وكأن ليس لله على هذه الأرض مشيئة. وقد رد القرآن على هذا بقوله عز وجل: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إليه} [الزخرف: 84]. تجد أيضًا في الأناجيل أثارةٌ من تعظيم إبليس في تسميته «رئيس هذا العالم» (يوحنا 14/30 و 16/11)، وفي الإشارة إليه بعبارة «سلطان الظلمة» (لوقا 22/53)، وهي قريبةٌ من وصف أهرمن روح الشر أمير الظلام. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/357] أفاستقت الأناجيل من الأﭬـستا أم استقت الأﭬـستا من الأناجيل؟ لا هذا ولا ذاك، بل شاعت في الناس فكرة «الخلاص المجاني» لا الخلاص بأيديهم هم، أي الخلاص بمخلص، لا الخلاص بالإيمان والعمل الصالح. ليس الخير والشر ذاتين حتى يتجسدا في آلهة أو غير آلهة بينهما صراع ونزال بل هما معًا فعلك أنت، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر. الخير بالذات هو الإيمان والعمل الصالح، والشر بالذات هو الكفران واجتراح السيئات. والصالحات هي ما أمرت به في وحي الله على رسله، والسيئات هي ما نهاك عنه هذا الوحي. وليس بعد هذا في الحياة الآخرة إلا رضوان الله أو سخطه. وليس للشيطان صراعٌ مع الله عز وجل، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. وإنما صراع الشيطان معك أنت، يضلك عن سبيل الله، فيعميك عن الحسنة ويزين لك السيئة، حتى إذا قُضي الأمر راح يبكت أولياءه الذين ينحون عليه باللائمة يوم الحساب، فقول لهم ما قاله القرآن على لسانه: {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل عن الظالمين لهم عذاب أليم} [إبراهيم: 22]، يعني أنه كافر بما أضلهم به، ينكر أن يكون ثمة إله مع الله. وكفى بهذا حسرةً وتحسيرًا. هذا الفكر الصبياني، أعني تصورك الله عز وجل طرفًا في صراع أو نزال بين الخير والشر – وإن جملته الأﭬـستا بانتصار الله («هرمزدا» إله الخير) في نهاية العالم – فكرٌ مريض، بل هو كفر صراح، لس لأن هذا العالم كما يراه المتفائلون خيرٌ كله أو كما يراه المتشائمون شرٌ كله، بحيث ينعدم التضاد فيمتنع الصراع، وإنما أصلاً وبالذات لأن الفاعل الأوحد في هذا الكون كله، النافذة فيه مشيئته، هو الله عز وجل وحده، له الخلق والملك والأمر، لا يقع في ملكه شيء دق أو عظم إلا بإذنه، يعني بعلمه وتمكينه وإنفاذه، إن شاء أمضى وإن شاء منع، لا حول ولا قوة إلا به. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/358] أما أنه عز وجل لا حول ولا قوة إلا به، فهذا لأنه تبارك وتعالى هو المخول الممكن، لا يقع فعل في هذا العالم إلا بوسائط وأدوات هو خالقها ومالكها ومانحها، يؤتيها من يشاء من خلقه وينزعها ممن يشاء، حتى البصائر والجوارح. وهي كما تعلم وسائط وأدوات مسخرة ذلول بتمكين الله عز وجل إياك: لا تعصاك قدماك إن مشيت بهما إلى طاعة أو معصية، ولا تعصاك يد بطشت بها باغيًا أو مددتها لتقيم معوجا، ولا يمتنع عليك لسان أسكته أو أنطقته حقًا أو باطلاً، ولا يمتنع عليك مالٌ وضعته في معروف أو ولغت به في منكر، ولا يمتنع عليك سلطان مكنت فيه أن تسخره في إعلاء كلمة الحق والعدل أو تعيث به في الأرض فسادًا تركب رقاب الناس ظلمًا وعلوًا. بل لا يمتنع عليك عقلك إن استهديته فهداك أو استغويته فغواك، ولا يمتنع عليك ضميرك إن استيقظته فسمعت له وأطعت ولم تحكم فيك هواك. أنت هنا فاعل مريد ذو اختيار، ممكن فيما مكنك الله. ولكن هذا كله – التمكين والإنفاذ – معلق بمشيئته عز وجل إن شاء أمضى وإن شاء منع: لا تتحقق للخلق في هذا الكون مشيئة إلا مشيئة شاء لها الله أن تتحقق، يعني لا يخرج فعل الخلق من حيز الفكر إلى حيز التحقق إلا بإمضاء الله عز وجل، على الوجه الذي أراده تبارك وتعالى. وهذا هو الفهم الجيد لقوله عز وجل: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما}[الإنسان: 30]، يعني لا «يتشيأ» شيء مما شئتموه إلا بتشيئة الله عز وجل إياه. فهل بقيت للخلق في هذا الكون إرادة؟ نعم، وبها وحدها أنت المحاسب المسئول: إرادة الخير الذي علمك الله في وحيه على رسله، تصر عليه وتبذل في سبيله قصارى جهدك، واتقاء الشر الذي نهيت عنه في وحي الله على رسله، تكف النفس عنه وتجاهده بما في وسعك. يعني أن تكون جنديًا لله عز وجل في أرضهـ تستهديه وتستعينه وتتوكل عليه. ولا عليك بما يحدثه الله من بعد: شئت وشاء الله، والله عز وجل بالغ أمره. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/359] وربما قال لك المُعاند: وهل بقي لي فعل في ظل هذا القهر العام؟ فماذا لو أردت الخير ولم يرد لي الله أن أريده؟ ماذا لو أردت الهدى وشاء لي الضلال؟ بل ماذا لو أردت طاعته واجتناب معصيته وأراد هو لي عصيانه والفسوق عن أمره؟ فهل لي من الأمر شيء؟ هذا القائل يغش نفسه، يجادلك أنت بها ولا يجادل ربه. فقد علم هو من قبل أنه ما أراد الخير قط واستعان الله عليه إلا أعانه، وما طلب الهدى مخلصًا قط إلا ثبت الله عليه قلبه، وما دخل مخلصًا في طاعة قط فأخرجه الله منها إلى معصية. إنما يقول هذا الذين يجترحون السيئات بعد أن يجترحوها، يزينون لأنفسهم سيئات ما عملوا. وهذا أقبح الفسوق والعصيان، لأن قائله لا يكتفي بركوب المعصية ولكنه أيضًا يستزيد من الإثم فينسب الأمر بالمعصية لله عز وجل، لا لنفسه وإبليسه. وهو افتراءٌ على الله عز وجل يراد به معذرة إبليس وأولياء إبليس. بل هي نفسها مقولة إبليس يوم فسق عن أمر ربه في فتنة الأمر بالسجود لآدم فحقت على إبليس اللعنة لمحض عصيانه، لا لخطئه في تفضيل نفسه على آدم، فما كان الله ليحاسب أحدًا من خلقه بضآلة علمه وكلالة بصره، وإنما هو يحاسبه بطاعته أو بعصيانه قال إبليس لما حقت عليه اللعنة: {قار ب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجميع} [الحجر: 39 – 42]. تجد إبليس هاهنا ينسب ضلالته إلى الله عز وجل، يعني أن الله كان يريد منه عصيانه فأغواه عن طاعته. ولو كان إبليس مصيبًا في قوله لكان مطيعًا لله في عصيانه، وكأنه قيل له: آمرك بالسجود يا إبليس فاعصني، أو اسجد يا إبليس ولا تسجد، أي الأمرين فعلت فأنت في طاعتي! وهذا هو العته بعينه. وإلا لكان إبليس مستحقًا ثواب الله بعصيانه، لا الطرد واللعن والإياس من رحمة الله كما أخبر القرآن. وقد علمك الله من نبأ إبليس ليكشف لك أمره كي تتعظ بمصيره إن كنت من عباد الله الملخصين الذين ليس لإبليس عليهم سلطان، لا لتردد قوله وتحذو حذوه وتأتم به، شأن الذين اتبعوه من الغاوين فكان موعدهم جهنم أجمعين، يحمل إبليس لواءهم إلى النار وبئس القرار. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/360] والذي ينبغي التنبيه إليه لا يمل من ترديده، أن الذين أكرمهم الله بوحيه لا يرون الخير خيرًا لخيرية فيه، ولا يرون الشر شرًا لشرية فيه، وإنما الخير بالذات صار عندهم خيرًا لأنه المأمور به، والشر بالذات صار عندهم شرًا لأنه المنهي عنه. والله عز وجل عند هؤلاء مؤتمن، لا يأمرهم إلا ما هو خيرٌ لهم، ولا ينهاهم إلا عما هو شرٌّ لهم. من هنا استقر عند الذين آمنوا حق الإيمان، أي عباد الله المخلصين الذين لا حيلة لإبليس معهم، أن الخير كل الخير في الطاعة، وأن الشر كل الشر في المعصية، قد سلموا بقوله عز جل: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة: 216]. إنه إسلام الوجه له، تصدع بأمره مريدًا غير كاره، تستهديه وتستعينه وتتوكل عليه. أولئك جند الله قد اختاروا قائدهم. هذا القائل «ليس من الأمر شيء» منافق لا يعبد الله مخلصًا له الدين. لو أراد الخير لالتمسه في الطاعة، ولو أطاع الله حق طاعته يسارع في أمره لأمن الضلالة، فالله عز وجل لا يخادع الذين آمنوا به حق الإيمان ولا يضل جنده، ليس لأن الذي بيده ملكوت كل شيء لا يملك الهدى والضلال، وإنما فحسب لوعده عز وجل: {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} [مريم: 76]، وقوله عز وجل: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} [محمد: 17]. يعني أن نقطة البداية هي الكفرُ أو الإيمان، وهي لك وحدك لقوله عز وجل: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29]. وما بعدها مترتب عليها، الذين كفروا يزيدهم الله ضلالاً إلى ضلالتهم: {ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا} [فاطر: 39] {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا} [البقرة: 10]، والذين آمنوا يزيدهم الله هُدَىً إلى هُداهم كما مر بك. وهو عز وجل لا يزيدهم هُدَىً فحسب، وإنما هو أيضًا «يؤتيهم تقواهم» كما رأيت في الآية 17 من سورة محمد، أي يسلحهم بما به يتقونه، أي الإخبات والخشية، لا يخشون إلا إياه، ولا يتقون سواه، فلا يضلوا من بعد. هذا هو مقطع الفصل في فهم قوله عز وجل: {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} [الأنفال: 24]، {من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا} [الكهف: 17]، {كذلك يضل الله من يشاء [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/361] ويهدي من يشاء} [المدثر: 31] وأمثالها في كل القرآن، الذي تشابه على المتفلسفة وأهل الكلام فخاضوا، وهو مقيد بما تلوناه عليك آنفًا، مفسر بقوله عز وجل: {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} [القلم: 7]. وفي هذا القدر كفاية، والحمد لله. أما أنت بالذات أيها القائل «ليس لي من الأمر شيء» فأنت وما قلت: ليس لك من الأمر شيء، إلا أن ترعوى فتندم وتتوب، ليس لك إلا هذا، وإلا فقد حقت عليك الضلالة. يترتب على ما تقدم أن إبليس، أو الشيطان، أو «أهرمن»، أو ما شئت من أسمائه، لا فعل له في هذا العالم إلا ما استمهل الله من أجله لا يملك غيره، أي الغواية والإضلال، لا سلطان له إلا على الذين اتبعوه، هو وهم في سواء جهنم. والذي ينبغي التنبيه إليه لا يمل من ترديده، الذي يذهل الناس عنه في خضم هذه الحياة وصخبها، أن هذه الدنيا ليست بدار شقاء أو دار نعيم، وإن شقى فيها بعض الناس أو نعموا، وإنما هي «دار الفتنة»، أي الاختبار والتمحيص، كلهم مفتون مختبر ممحص بما أوسع له الله أو ضيق، رفعه أو خفضه، عافاه أو أسقمه، سره أو أحزنه، أعطاه أو حرمه، بسط له في الرزق أو أمسك. ليس في هذا أو ذاك خيرٌ أو شر، فما جئت هذه الدنيا لهذا أو ذاك، وإنما جيء بك إليها لفتن بهذا أو ذاك فتخرج منها بما عملت فيها إلى دار البقاء. إن فهمت الخير والشر بمعنى النفع والضر في هذه الدنيا فأنت مخطيء، إلا نفع أو ضر ينفعك أو يضرك في دار البقاء. على أن النفع والضر بمفاهيم هذه الدنيا هم أيضًا بيد الله عز وجل: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله} [يونس: 107]. بل هما معا على سواء ابتلاء من الله عز وجل: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون} [الأنبياء: 35] قد شهد كل على نفسه وقامت البينة: {ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة} [الأنفال: 42]. يفتن الله من شاء بالنعمة، ويفتن من شاء بالنقمة، والمقصود في الحالتين هو الفتنة، أي الاختبار والتمحيص. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/362] وهو عز وجل أيضًا يفتن بعض خلقه ببعض خلقه: فتنةُ القوي بالضعيف وفتنة الضعيف بالقوي، فتنة العالم بالجاهل وفتنة الجاهل بالعالم، فتنة المظلوم بالظالم وفتنة الظالم بالمظلوم، وفتنة الذين آمنوا بالذين كفروا، وفتنة بني آدم بإبليس. وينفرد إبليس في هذه الحياة الدنيا من دون الخلق جميعًا (ولا تنس أن إبليس خلق من خلق الله) بأنه فاتن غير مفتون. فقد هلك إبليس من قبل في فتنته بآدم يوم فسق إبليس عن أمر ربه فتأبى على السجود، لا فتنة له من بعدها يفتتن بها، فقد تمحص واختبر وحوكم وأدين قضاء غير مردود، لا يملك الإتيان بصالحة تخفف عنه العذاب، لأن الله عز وجل لا يُجري الصالحات على يد كافر مُصر على عصيانه قد باء بالإثم الأكبر – عصيان الله عز وجل في حضرته كفاحًا دون وسيط فلا تزيده فتنته الخلق في هذه الدنيا إثما على إثمه ولا تزيده عذابًا وهو محكوم عليه بأشد العذاب. ما هو بنافع أولياءه وما هم بنافعيه، بل هو وهم سواءٌ في النار، قد أرجأ الله عذابه إلى يوم يبعثون، ليكون بعض أدواته عز وجل في فتنة الخلق بالخلق اختبارًا وتمحيصًا. وقد تمنى إبليس على الله هذه المهلة عالمًا أنها لا تُجديه شيئًا بعد ما حقت عليه اللعنة التي لا فكاك منها، وكأنه أراد ألا يسبق أولياءه إلى النار وإنما يدخلها مع الداخلين يحمل لواء العصاة، فكان له ما تمنى. وقد كان الله عز وجل، في تمحيص عباده بالخير والشر في هذه الدنيا غنيًا بالطبع عن هذا الدور الذي تمناه إبليس نفسه، فالله عز وجل قادرٌ على فتنة الخلق بما شاء وكيفما شاء، وقد فتن إبليس نفسه بغير إبليس. ولكنه عز وجل – رحمةً بعباده – شاء أن يكون «ريس فتنتهم» عدوًا افتضح عندهم بعداوته لأبيهم آدم: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} [الأعراف: 27]، إضعافًا لكيده، وفضحًا لفتنته، فيصموا الأذن عن وسواسه، إلا الذين يختانون أنفسهم، فلا عذر لهم عند الله عز وجل بعد الوحي ولا معذرة. إبليس في هذه الدنيا كالذي مات فانقطع عمله، مات يوم لعن. وإنما الذين يستحيونه هم الطوافون على قبره، المتعبدون في ضريحه، النافخون في رماده لتحرقهم ناره. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/363] وإذا كان لا فعل لإبليس في هذه الدنيا إلا الغواية والإضلال، فهو أيضًا فعل غير نافذ فيك إلا باستجابتك أنت إليه: {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} [إبراهيم: 22]، واستجابتك هي فعلك أنت، لا وزر فيها على إبليس، بل أنت بها وحدك المسئول المحاسب. لا تتمحك بإبليس وقد حذرك الله منه، ولقنك الاستعاذة بالله منه، وعلمك الله إن زللت فضللت بإبليس كيف تستغفر وتتوب، وسن لك العبادات التي تجعلك على ذكر من ربك لا يغيب، فتأمن الفتنة والضلال، وطمأنك بأنه لا سلطان لإبليس إلا على الذين يتولونه، لا سلطان له على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} [النحل: 99 – 100]. هذا «الشرك» المعني في الآية 100 من سورة النحل، هو تعظيم إبليس، اتقاء بأسه واستجداء رضاه، الذي لا يملك لك ولا لنفسه ضرًا أو نفعًا، إلا ما شاء الله الذي خلقك وخلق إبليس وخلق السموات والأرض وما فيهن من دابة، فتترك تقوى الله إلى اتقاء إبليس، وتترك عبادة الله الواحد الأحد إلى عبادة إبليس الذي وضعه الله أسفل سافلين: أهنت نفسك فأهانك الله، ومن يهن الله فما له من مكرم. هذا «الشرك» - الذي هو عبادة تلك المجوس أصحاب هرمزدا وأهرمن – هو أيضًا شرك كل متق غير الله، وكل متوسل بغير الله، وكل متوكل على غير الله، إنه شرك الذي يدعو من دون الله ما لا يضر ولا ينفع، بل يدعو من ضره أقرب من نفعه: {يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير} [الحج: 12 – 13]. ومن إعجاز القرآن في بيان القرآن – بعد تسمية الفرق الست الباقية إلى يوم القيامة – تبكيته الذين يعبدون مع الله إلهًا آخر وكل له ساجدون، فيحصر معبوداتهم في دائرة لا يخرج عنها مألوه ألهوه. قال عز وجل: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد ألم تر أن الله يسجد له من في السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/364] والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء} [الحج: 17 – 18]. ترى في هؤلاء الذين أهانهم الله، عبدة الملائكة والأنبياء، وعبدة إبليس، وعبدة الشمس والقمر، وعبدة النجوم والكواكب، وعبدة الصخر والجبل والشجر، وعبدة البقر والبهائم، وكل له داخرون. مر بك أن عبادة المجوس هي التردد على إلهين، هرمزدا وأهرمن، يغدو المجوسي عليهما ويروح، فهو «الجائس»، من جاس / يجوس / جوسًا وجوسانا، يعني الذاهب الجائي. وهو أيضًا «مجوس» به على المفعولية، لأن جوسانه ما بين هرمزدا وأهرمن إنما كان بتلبيس إبليس، فهو في هذا الجوسان ملبوس لبس عليه، كما يقال «مسعود» والمراد سعيد. ولكن العرب لم تنظر إلى هذا المعنى حين أسمت المجوس مجوسًا، وإنما أسمتهم باسم كاهنهم، «ماجوس» الفارسية، لا تدري أصل معناها في لغة الفرس، وهو ذو الحول والحيلة كما مر بك، تريد عبدة النيران، لا علم للعرب بما وراء هذه العبادة. ولأن «المجوس» ليست من معربات القرآن، بل نزل القرآن وهي من معربات العرب أنفسهم، تواضعوا عليها في تسمية جيرانهم الفرس عبدة النيران، فلا تصح نسبتها إلى القرآن حتى يقال أنها جاءت فيه مفسرة بالتعريب، بل لا يصح هذا أصلاً لأننا كما تعلم اشترطنا في التفسير بالتعريب اتحاد الجذر في اللفظ والمعنى بين لغتين من ذات الفصيلة اللغوية كالذي بين اللغات السامية، وليست الفارسية منها حتى يقال أن الجوس والجوسان – إشارة إلى تردد المجوسي أو جوسانه بين هرمزدا وأهرمن – تصح مقابلاً للفظة «ماجوس» الفارسية التي معناها ذو الحول والحيلة. بل لم يرد العرب هذا حين قالوه، فضلاً عن أنهم لم يريدوا بها «ماجوس» واحد كهنوت المجوس كما يقول الفرس، وإنما أرادوا بها أهل الملة جميعًا كهنوتًا وغير كهنوت. اللفظة إذن من مواضعات العرب أنفسهم، استقر معناها عندهم على ما وضعوها له قبل نزول القرآن بأكثر من ثلاثة قرون، لا تعتجم عليهم. وما كان القرآن ليفسرها لهم بأصل معناها في لغة الفرس – الحول والحيلة – وقد نقل العربُ هذا اللفظ [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/365] عن أصل معناه عند أصحابه. لهذا لم يفسر القرآن لفظة «المجوس» بأي من أدوات التفسير المعول عليها عندنا في منهج هذا الكتاب. ولكن القرآن المعجز لم يفته أن يقول لك من هم المجوس بمحض عبادتهم فخاطبهم بقوله: {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون} [النحل: 51]. والمخاطب هاهنا هم المجوس بلا مراء، فلا ثنوية إلا المجوس، وسبحان علام الغيوب. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 346-366] |
(61) الروم:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (61) الروم وردت الروم مرة واحدة فحسب في كل القرآن، في سورة افتتحت بهم فسميت باسمهم «الروم» قال عز وجل: {الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [الروم: 1 – 6]. وهذه الآياتُ الست كما ترى، من فرائد إعجازات القرآن في نبوءات القرآن. ولكن علماء القرآن الذين طالما استدلوا بهذه الآيات على إعجاز القرآن في نبوءات القرآن، لم يوفوا هذه الآيات حقها من الإعجاز، لأنهم تابعوا قدامى المفسرين (راجع تفسير القرطبي لهذه الآيات من سورة الروم) الذين احتفلوا لتحقق النبوءة بانتصار الروم في بضع سنين من نزول الآيات – والبِضْعُ هو من الثلاثة إلى ما دون العشرة، وقد تحققت النبوءة بالفعل، فتوقفوا عند هذا ولم يلتفتوا إلى أن الآيات لا تحتفل لانتصار الروم بعد هزيمتهم، فتوقفوا عند هذا ولم يلتفتوا إلى أن الآيات لا تحتفل لانتصار الروم بعد هزيمتهم، فلله الأمر من قبلُ ومن بعد، ولكنها توقت للمسلمين يوم انتصارهم في بدر، يوم ينصر الله المؤمنين فيفرحون بنصره، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم. أما «الروم» المعنيون في الآيات، فهم الروم البيزنطيون، أصحاب القسطنطينية (استانبول من بعد أو الآستانة)، الناطقون باليونانية، لا الروم الغربيون، أصحاب روما، الناطقون باللاتينية. فقد انهارت إمبراطورية الروم الغربية نهائيًا بسقوط روما في أيدي القوط عام 476م، ولم يَعُد من «الروم» عصر نزول القرآن مطلع القرن السابع الميلادي سوى رومُ المشرق، أعني روم «بيزنطة» التي ورثت [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/367] مجد روما القديم وخلفتها على أقاليمها في مصر والشام، بالإضافة إلى أراضيها الأصلية في البلقان، وآسيا الصغرى (الأناضول). ولأن حكام بيزنطة كانوا سلالة من قياصرة روما عند انقسام الإمبراطورية عام 395م إلى غربية في روما وشرقية في بيزنطة، فقد تسمى الملوك البيزنطيون أيضًا باسم القياصرة (المأخوذ من اسم قيصر كما تعلم): قيصر في روما وقيصر في بيزنطة. وما أن سقطت روما في أيدي القوط وآل فيها الحكم إلى أقوامٍ من غير الروم، حتى بات قيصر بيزنطة وحده هو القيصر، وباتت بيزنطة، أو القسطنطينية، الوريث الشرعي لمجد روما القديم. بل باتت بيزنطة هي «روما»، ليس فقط في أعين البيزنطيين أنفسهم، الذين لم يتردد بعضهم في إطلاق اسم روما مجازًا على عاصمتهم وإنما أيضًا وبالأخص في أعين أهل الأقاليم التابعة الذين لمي روا في انتقال تبعيتهم من روما إلى بيزنطة سببًا يدفعهم إلى تعديل مسمى الدولة التي يخضعون لها: إنهم القصير وولاة القيصر، وهم أيضًا «الروم»، لاتينيين بالأمس أو بيزنطيين اليوم، أصحاب «روما الأولى» أو أصحاب «روما الثانية». إنهم «الروم» في كل حال. لهذا كان العرب عصر نزول القرآن يقولون «الروم» يعنون «اليونان». بل ما زلت تسمع في العربية العامية لفظة «الرومي» في موضع «اليوناني». بل لم تعرف العربية الفصحى «اليونان» واليوناني إلا منذ العصر العباسي في سياق ترجمات فلاسفة «اليونان» إلى العربية. على أن العرب كانوا يتوسعون فيطلقون اسم «الروم» على سكان شمالي البحر الأبيض المتوسط (بحر «الروم» عند قدامى الجغرافيين العرب)، فهم إذن الأوروبيون بوجه عام. ورغم ذلك كله، فإن لفظة «الروم» هي في أصلها نسبة إلى «روما» بلا جدال، سواء أردت روما التي في إيطاليا، أو «روما» الثانية التي على ضفاف البُسفور، أي بيزنطة المعنية في الآيات. ويتعين من ثم عند التماس التفسير القرآني للفظة «الروم» على منهجنا في هذا الكتاب التماس معنى «روما» هذه في لغة أهلها، وسيأتي. أما الطرف الآخر في «المغالبة» المشار إليها في الآيات فهم الفرس، الذين لم تسمهم الآيات، اكتفاءً بذكر عدوهم اللدود الغالب يوم يفرح المؤمنون بنصر الله، ولاستفاضة شهرة هذا الصراع الأزلي بين قطبي العالم القديم: كسرى وقيصر. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/368] كانت الحرب بين هاتين الدولتين سجالاً بين كسرى وقيصر، يُدال من الروم للفرس ليُدالَ من الفرس للروم، في صراع طال أمده، منذ بدأ اليونان ينازعون الفرس – ورثة بابل وآشور ومصر – سلطانهم في هذا الشرق الأدنى القديم. استمر الصراع – جولة هنا وجولة هناك – منذ غارة الإسكندر في الربع الأول من القرن الرابع قبل الميلاد نحو ألف سنة حتى أواسط القرن السابع الميلادي، حيث أنهى «المؤمنون» الذين تتحدث عنهم الآيات هذا الصراع بقضائهم قضاءً باتًا على دولة الفرس، وطردهم الروم البيزنطيين، طردًا باتًا أيضًا، من مصر والشام، ليغزوهم من بعد في آسيا الصغرى ويناجزوهم حتى أبواب القسطنطينية، لينفردوا وحدهم بالسيادة المطلقة على أراضي طرفي النزاع معًا في هذه المنطقة من العالم. كان هذا الصراع بين الفرس والروم، يقتل بعضهم بعضًا ويثخن بعضهم في بعض، الذي طال أمده حتى شهد مبعث خاتم النبيين، مقدمة ضرورية لهزيمتهما معًا في وقت واحد، على أيدي «حفنة» من العرب يقلون عنهما عددًا وعدة بما لا يقاس، فيفعلون بالفرس في سنين قلائل ما لم يستطعه الروم في ألف سنة، ولا يكتفون بهذا وإنما يفعلون بالروم – أيضًا وفي نفس الوقت – هذا الذي طالما تمناه الفرس ولم يتحقق لهم: القضاء البات على أطماع الروم في الشرق الأدنى كله وحصارهم في عقر دارهم لا يخرجون منه إلا مناوشات لا طائل من ورائها. ورغم هذا كله، فأنت بإزاء معجزة فذة من معجزات التاريخ، لا تملك أن تغمط أولئك الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه أقدارهم. كانوا رجالاً أفذاذًا لم يشهد التاريخ أمثالهم من قبل ومن بعد. وتستطيع أن تقول أيضًا – من الناحية الاستراتيجية البحت – أن كرة الروم على الفرس كما تنبأت الآيات، أي عودتهم إلى اقتطاع سورية وفلسطين ومصر من نفوذ فارس، أعني عودة الدولتين إلى تقاسم السيادة على أرض الشرق الأدنى القديم، العراق في أيدي الفرس، ومصر والشام في أيدي الروم، هيأت مسرح الصراع المقبل بينهما وبين العرب، تهيئة مواتية للذين آمنوا، أفضل بما لا يقاس مما لو بقى الفرس في مواقعهم بمصر والشام يوم بدأ الفتح العربي لهذه الأقطار، يغالبون الفرس وحدهم عليها. كان العرب عندئذٍ – لو بقى الفرس في مصر والشام – سيلاقون عدوًا واحدًا متماسكًا متراصًا، تخضع جيوشه لقيادة فارسية موحدة في كل من العراق والشام ومصر، لا عدوين متناحرين يتربص كل منهما بالآخر – الفرس والروم – لا يأبه أي منهما بانتصار العرب على خصمه اللدود، ناهيك بالشماتة والاشتقاء. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/369] وإلى هذا تشير الآيات بقوله عز وجل: «لله الأمر من قبل ومن بعد» ، أي كانت هزيمة الروم أمام الفرس، لينتصر الروم من بعد عليهم، بقضاء منه عز وجل وتدبير، لأمر هو بالغه، والله بالغ أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. والذي غفل عنه أكثر من تكلموا في تفسير هذه الآيات فلم يوفقوا إلى فهمها على وجهها، أن «النصر» في اللغة هو العون والمظاهرة والتأييد، ليس هو بذاته كما يظن الأكثرون الفوز والفتح والغلب، وإنما هو العون والتأييد المؤديان إلى الفوز والغلب. ومن هنا تفهم عبارة «نصر الله» حيثما وقعت في كل القرآن بمعنى تدخله عز وجل بمدد من عنده، ملائكة وغير ملائكة، لنصرة فريق وتخذيل فريق، فتنقلب على الفور موازين القوى لصالح الفريق الذي «نصره الله»، يعني أيده وأعانه، فينتصر الذين كان نصر الله في معيتهم ليكونوا هم الغالبين. ومن دقيق القرآن أنه حين تحدث عما كان بين الفرس والروم: {الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ...} [الروم: 1 – 4] استخدم مادة «غلب» ولم يستخدم مادة «نصر»، لأن الغلب هنا وهناك كان بأمر الله، أي بقضائه وتدبيره: {لله الأمر من قبل ومن بعد} [الروم: 4]، ولم يكن بانتصاره عز وجل لفريق على فريق، أي بتدخله عز وجل لصالح فريق ضد فريق، بمدد من عنده، ملائكة وغير ملائكة. وإلا لقلت أن الله كان مع الفرس يوم غلبوا الروم، يعني كان راضيًا عن الفرس ساخطًا على الروم، ثم سخط على الفرس ورضي عن الروم فانتصر للروم عليهم، ولا يصح هذا لن الله عز وجل لا يجوز عليه البُداء، «يبدو» له الأمر فيمضيه، ويبدو له العكس من بعد فيمضيه، إن صح هذا في البشر – وهو مذموم لأنه تذبذب بين النقيض ونقيضه – فهو محال في حق العزيز الحكيم. وقد كان الفرس مجوسًا يوم كانت الكرة لهم، وكانوا مجوسًا أيضًا يوم كانت الكرة عليهم. وكان الروم أيضًا أهل كتاب يوم غلبهم الفرس المجوس، وبقوا أهل كتاب يوم أديل لهم من الفرس. أما حين تحدثت الآيات عن «نصر الله» فهي تريد انتصار الله عز وجل للمؤمنين الذين يفرحون بنصره. والمؤمنون كما مر بك في مبحث «الصابئين» اصطلاحٌ قرآني يُراد منه «المسلمون» أهل القرآن لا أهل الكتاب. وإنما ينتصر الله عز وجل لجنده فحسب، أي للذين آمنوا. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/370] والأصل في هذا أن الله عز وجل الذي لا ينصر باطلاً على حق، لا ينصر باطلاً على باطل، وإنما هو ينتصر فحسب للحق على الباطل: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} [الأنبياء: 18]. يعني لا يتعلق «نصر الله» حين ينسب الله النصر إليه تبارك وتعالى إلا بانتصاره عز وجل لجند هو قائدهم، أي بانتصاره للذين آمنوا. وقد انتصر الفرس من قبل، فلا يقال الله نصرهم، وانتصر الروم من بعد، فلا يقال قد نصرهم الله على الفرس، وإنما يقال – في المرتين – الذي قالته الآيات: {لله الأمر من قبل ومن بعد} [الروم: 4]. لم ينهزم الفرس لأنهم مجوس أصحاب هرمزدا وأهرمن، ولم ينتصر لأنهم نصارى أهل كتاب يرببون المسيح وجبريل، فالكفر كما تعلم ملة واحدة، وكلتا العبادتين عند الله باطل. وليس الباطل عند الله درجات بعضها دون بعض، بل الكل باطل، لا «يؤازره» الله بنصره، وإنما «يقضي» فيه قضاءه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فليس أهل الكتاب – يهود ونصارى – بأولياء للذين آمنوا حتى يفرح المؤمنون – كما تنبأت الآيات – بنصر الله يوم ينتصر الروم على الفرس المجوس كما توهم المفسرون. بل قد نهى الله الذين آمنوا عن توليهم: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [المائدة: 51]، يبين لك عز وجل علة النهي عن توليهم، أي لأنهم أولياء بعض، يعني أولياء بعض عليك، لا تستنصر بإحدى الطائفتين على أختها، ولا تستنصر بطائفة منهما على عدو لك، فلن يصدقوك الولاية، بل هم معًا عليك، لا يألونك خبالا. ومن يتولهم فقد ظلم، لأنه صار في معيتهم وبات منهم، فلا يهديه الله سبيلا، والله لا يهدي الظالمين. هذا النهي عن تولي أهل الكتاب من إعجاز القرآن في توجيهات القرآن، فلم يعرف التاريخ قديمه وحديثه – بل وحديثه بالذات – موقفًا انتصر فيه أهل الكتاب للمسلمين على عدوهم، وإنما هم ينتصرون لعدو المسلمين عليهم، أو ينتصرون لبعض المسلمين على بعض نكاية فيهم جميعًا، وإذكاءً للفرقة بينهم، ليفشلوا وتذهب ريحهم وأنت تعلم بالطبع أن توجيهات القرآن للذين آمنوا توجيهات عاملة، ماضٍ فيهم حكمها إلى يوم القيامة، لا تخص عصر التنزيل فحسب، بل انطباقها على هذا العصر أظهر وأبين. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/371] لن أذهب بك بعيدًا، فعندك من هذا في الانتصار لعدو المسلمين عليهم، مثل فلسطين. وعندك من هذا في الانتصار لبعض المسلمين على بعض، مثل حرب البسوس بين العراق وإيران. وعندك من هذا في التحريش بين المسلمين ثم التحريق عليهم. مثل حرب النفط في الخليج التي أتت على الأخضر واليابس في أرض المستغيث والمستغاث منه على السواء. المستجير بهم كالمستجير من الرمضاء بالنار، تحرقك كما تحرق أخاك المسلم الذي استنصرت بهم عليه، حليف الأمس وحليف اليوم، لا يرعون فيهما إلا ولا ذمة، فلا يبالون أين يصبون نيرانهم هنا أو هناك، يتبرون ما علوا تتبيرا، فينسفون الفريقين نسفًا ويدمرون عليهم. وتدفع أنت ثمن هذه النيران التي أحرقوا بها دارك ودار أخيك، وتدفع ليه أيضًا أجر تعمي رما خربوه بأيديهم، بل وتدفع أيضًا نفقات جيش الاحتلال الذي استدعيته ليفصل بينك وبين أخيك، فما جاءوا لتحرير الكويت كما قد تظن أو لصد العراق، فقد استنفدوا أغراض التفويض الذي استصدروه لأنفسهم بتحرير الكويت وتجاوزوه إلى تركيع العراق، وما زالت قواتٌ لهم ماضية في احتلال العراق ونحن نكبت ما نكتب، بحجة تأمين جيشهم في جنوبي العراق، وما خفي كان أعظم، وإن كان قد برح الخفاء. وليس بعد هذا غفلة. ولولا أن نخرج عن مقاصد هذا الكتاب لزدناك. وليست آفة المسلمين اليوم أنهم تشرذموا دولاً، فالقرآن لم يستبعد هذا ولم يؤثمه، لقوله عز وجل: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون} [الحجرات: 9 – 10]. افترض القرآن في «أخوة المؤمنين» انقسامهم طوائف، يعني دولا، وافترض في هذه الدول قتالاً بين دولة ودولة، كما حدث بين العراق وإيران، ثم بين العراق والكويت، وافترض فيهم أيضًا باغيًا ومبغيًا عليه. ولكنه افترض قبل هذا وذاك وجود «الجماعة» التي تنتصر للمبغي عليه وترد بالقسط والعدل على الباغي، أي «الجماعة» المأمورة في هاتين الآيتين [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/372] بإقامة القسط والعدل. التي تحمل غيرها على الفيء إلى أمر الله. وقد غابت هذه «الجماعة» كما تعلم في حرب العراق وإيران، بل قد ظاهر مسلمون لا تشك في إسلامهم هذا العراق الباغي على إيران، معتلين بشعوبية جاهلية تقسم المسلمين إلى عرب وأعاجم، قد نسوا قوله عز وجل آنفًا «إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم» لا فرق في هذه الأخوة بين مسلم ومسلم، بل الكل في «أخوة المؤمنين» سواء. وما أسرع ما استدار الباغي على حلفاء الأمس، فحسبك الله ونعم الوكيل. وإنما صار المسلمون اليوم إلى ما صاروا إليه لفقدانهم الإحساس بأنهم وحدهم من دون الخلق «أمة»، الجامع بينهم هو الإسلام وحده. وليس الإسلام شعارات وبطاقات هوية، ولكنه تحكيم القرآن والسنة في كل شأن من شؤون حياتك، لا تأخذ نتفًا من هنا ونتفًا من هناك – كالذين يكتفون بإقامة الحدود وتغليظ الحجاب على استحياء في هذا وذاك – وإنما هو أولاً وبالأخص تحكيم القرآن والسنة تحكيمًا باتًا في «القرار السياسي» الذي يحدد مسار المجتمع وغاياته وأهدافه، ويحدد ولاءاته وانتماءاته. الذي يؤثمه القرآن هو غياب هذه «الجماعة» المأمورة وحدها في هاتين الآيتين بإقامة القسط والعدل، العاملة بأمر الله في مجتمعاتها، تعرف ما هو، فتحمل غيرها من المجتمعات المسلمة على أن «تفيء إلى أمر الله». ولم تعد في المسلمين اليوم «الجماعة» المؤهلة لهذا الدور، لأنه لم يعد في المجتمعات المسلمة اليوم مجتمع واحد يحكم حقًا وصدقًا بالكتاب والسنة، يعني أولاً وآخرًا يحكم القرآن والسنة في «قراره السياسي» داخل المجتمع المسلم وخارجه، ناهيك بمن يرجمون الداعين إلى هذا أو يصمونهم بالرجعية والتخلف. الذين لا يرتضون تحكيم الكتاب والسنة في أنفسهم بحجة أن الاحتكام إلى الكتاب والسنة رجعية وتخلف، لا يقبل منهم التصدي للكلام بالإسلام في نزاع كلا طرفيه مسلم. وإنما يحتكم المسلمون اليوم في أنزعتهم إلى بطانة من غيرهم لا يألونهم خبالا، قد نبذوا من القرآن – فيما نبذوا – قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/373] إن كنتم تعقلون ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط} [آل عمران: 118 – 120]. هذه البطانة، الذين لا يألونك خبالاً، الذين تحبهم ولا يحبونك، الذين إن تمسسك حسنة تسؤهم وإن تصبك سيئة يفرحوا بها – إن لم يكونوا هم الساعين فيها المعينين عليها – الذين لا يودون إلا إعناتك وتعنيتك، هم هؤلاء الأوروبيون – الأمريكيون شرقًا وغربًا، ورثة الروم الذين في القرآن بالدم والفكر والتوجه جميعًا. شهدت هذا في مواطأتهم إسرائيل عليك، وما زلت تشهده، ولن تزال. حتى تواضعت أحلامك فبات منتهى أملك وقد سلمتهم أمرك أن يردوا عليك جزءا فحسب من فلسطين التي غصبوك عليها، متشفعًا لديهم بتلك «الشرعة الدولية» التي أعملوها فيك بهمة لا تعدلها همة يوم تداعوا عليك في الخليج كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها. وهيهات هيهات. إنها شرعتهم هم، ليس لك فيها نصيب. ما زلت تحلم حتى تفيق. ولن تفيق حتى يرد الله عليك بصرك. ولن يرد الله عليك بصرك حتى تفيء إلى إسلامك، أي تفيء إلى «أمر الله»، وإلا فما أنت بمسلم. وإذ لم تعد مسلمًا إلا شعارات وبطاقات هوية، فانتصر بمن شئت وما تشاء. قد خلى الله بينك وبين قوانين النصر والهزيمة، تفعل فيك فعلها، لا يؤازرك بنصره. وليتك وقد خليت لما اخترت، تعمل في إطار هذه القوانين فتتلمس أسباب النصر والغلبة، ولكنك لا تقلد غالبيك الذين فتنت بهم إلا في هزلهم ولهوهم ومباذلهم، لا شأن لك بجدهم وعلمهم وصنائعهم. قال عز وجل: {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} [الروم: 47]، أي قد تكفل الله بنصر الذين آمنوا حقا وصدقا فعملوا بإيمانهم. أما أنت فقد أسلمت ولم تؤمن. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/374] وإذا كان الله عز وجل لا ينصر المسلمين اليوم لأنهم فحسب يخالفون عن أمره، فما ظنك بمن توهم أن الله كان في نصر نصارى الروم على مجوس الفرس، وكلا الفريقين من غير جنده؟ قد قالت الفرس هرمزدا وأهرمن، وقالت الروم آب وابن وملك. لم ينتصر الله للفرس على الروم يوم كانت الغلبة للفرس، ولم ينتصر أيضًا للروم يوم تحققت نبوءة القرآن بكرة الروم عليهم. ولكنه عز وجل – في المرتين – أعمل في كلا الفريقين قوانين النصر والهزيمة، فانتصر الذي اتخذ للنصر عدته، وانخذل الذي قصر وتوانى. أي أنه عز وجل خلي بين الفريقين وبين تلك القوانين، ولم «يتدخل» لنصرة فريق على فريق، فيقلب موازين القوى لصالح أولئك الذين كان نصره في معيتهم، كما فعل مع المسلمين في «بدر». بل إن الله عز وجل الذي نصر المسلمين في بدر وهم أذلة: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة} [آل عمران: 123] يعني وهم مستضعفون لا يملكون من أسباب الفوز إلا هذا الإيمان الذي استحقوا به «نصر الله» على عدو يتفوق عليهم بالعدد والعدة، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم – القادر عليها في كل حين – لم ينصر هؤلاء المسلمين أنفسهم يوم أحد، وفيهم رسول الله، بل خلي بينهم وبين قوانين النصر والهزيمة، لا لشيء إلا لأن فريقا منهم – والمعركة دائرة وبوادر النصر تلوح – أطمعتهم الغنائم: {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة} [آل عمران: 152] فتركوا مواقعهم وخالفوا عن أمر رسول الله، وكانت العاقبة التي تعلم: {إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون} [آل عمران: 153]. قال عز وجل في أولئك الذين كانوا يوم أحد سببًا في هزيمة جند الله وجند رسوله: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم} [آل عمران: 155]. وإنما وسعهم حلم الله وغفرانه رحمة [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/375] منه عز وجل فلم يهلكهم بذنبهم، بل استتابهم من زلتهم، لا يعصون نبيهم من بعد. وكانت «أحد» هي الموعظة والعبرة. قال عز وجل يحذر الذين يخالفون عن أمر رسول الله الذي هو أمره تبارك وتعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور: 63]. والذي حدث في «حنين» قريب من هذا وإن اختلف السبب: كانت الهزيمة في أحد عاقبة العصيان، أي عاقبة المخالفة عن أمر رسول الله، وكانت الكسرة الأولى في حنين عاقبة الاستنصار بغير الله، أي الاستنصار بالعدد والعُدَّة، قالوا: لن نغلب اليوم من قلة! يعني أنهم في كثرة من العدد ووفرة من العُدَّة، لا يحتاجون إلى مدد من الله. فحجب الله عنهم نصره وخلى بينهم وبين قوانين النصر والهزيمة، لأنه عز وجل غنى عمن استغنى بنفسه. ولكنه لقنهم بها درسًا لا ينسونه من بعد. قال عز وجل يذكر بنصره الذين آمنوا إذ هم مستنصرون به، ويبكتهم بخذلانه إياهم يوم استغنوا بأنفسهم: {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين} [التوبة: 25]. ولو راجعت سجل هزائم المسلمين وانتصاراتهم على مدى التاريخ منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا العصر وإلى ما شاء الله، لما وجدت إلا هذين السببين وراء هزائمهم: الاستنصار بغيره عز وجل أو النكول عن أمره. عندئذ ينخلع «المسلم» من صفة «المؤمن»، الطاعة والتوكل. وإنما يتكفل الله عز وجل بنصر «المؤمنين» فحسب. انظر إلى بديع قوله تبارك وتعالى يشترط «الإيمان» على الذين آمنوا أنفسهم، كي يكون الله في نصرتهم: {وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 139]: قد علم أنه يخاطب الذين آمنوا، ولكنه يشترط عليهم الاستمساك بهذا الإيمان والعمل به، وإلا فلينتصروا لأنفسهم بأنفسهم إن استطاعوا. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/376] تستظهر من هذا أن الله عز وجل لا ينتصر لجند، أي لا يمدهم بمدد من عنده، إلا جندًا هو قائدهم. لا ينتصر لروم أو فرس، ولا ينتصر لعرب أو عجم، بل ولا ينتصر للمسلمين أنفسهم، وإنما ينتصر فحسب للمؤمنين «الذين آمنوا»، لا يصح فهم عبارة «نصر الله» في كل القرآن إلا بهذا المعنى وحده. وإذ قد تقرر هذا، فلا يصح فهم قوله عز وجل في الآيات الست من مفتتح سورة الروم «ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله» على أنه – كما توهم مفسرون – فرح المؤمنين بانتصار الروم على الفرس، وإنما النصر المبشر به نصر آخر، تتنبأ به تلك الآيات للمؤمنين – أي المسلمين – على عدوهم، مشركي قريش، فيفرح المؤمنون بنصر الله إياهم. دليلك في هذا – فوق ما تقدم – تعقيبه عز وجل على هذه البشرى بقوله: «ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم»، ولا معنى للرحمة هنا في انتصار يحرزه الروم على الفرس، وإنما كانت رحمته عز وجل بالمؤمنين، يوم قلب موازين القوى لصالح هؤلاء المستضعفين في بدر. أما القاطع الحاسم، فهو تعقيبه عز وجل يؤكد وعده: {وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [الروم: 6]، فلسي لروم أو فرس وعد عنده عز وجل، وإنما الوعد للمؤمنين الذين آمنوا. ولا يصح أيضًا – كما توهم مفسرون – فَهْمُ «الوعد» على أنه وَعْدٌ للمؤمنين بتحقق نبوءة القرآن بانتصار الروم على الفرس فيفرح المؤمنون في مواجهة المنكرين الوحي على القرآن بأن القرآن صدق. هذا تافهٌ لا يعتد به. فقد ظل مشركو قريش على تكذيب القرآن بعد تحقق النبوءة بانتصار الروم على الفرس في بضع سنين، وما كان ليعجزهم أن يقولوا في محمد صلى الله عليه وسلم: عراف يرجم بالغيب صدف. ولا يصح أخيرًا قول من قال أن المسلمين اغتموا لهزيمة الروم من الفرس لأن الروم أهل كتاب والفرس مجوس عبدة نيران أشبه بقريش عبدة الأوثان، الذين تهللوا لانتصار الفرس وعدوه انتصارًا لآلهة الشرك، أمثال آلهة قريش، وإن الآيات نزلت لتبشر المسلمين بأن فرحة قريش لن تدوم، فسينتصر الروم من بعد على الفرس، [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/377] ويومئذ «يفرح المؤمنون» وتغتم قريش. هذا الكر والفر بين الفرس والروم لغو يتنزه القرآن عن إنزال آيات فيه، فضلاً عن أن يحتفل له، ناهيك بأن يكون قضية تشغل بال النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، بل ما كان صلى الله عليه وسلم لينحاز إلى روم أو فرس، وكلاهما عدو للذين آمنوا. لو صح هذا لتحالف المسلمون مع الروم على الفرس، ولكن المسلمين الذين أجهزوا من بعد على الفرس، لم يفلتوا الروم. الصحيح أن موقع عرب شبه الجزيرة من المعارك بين الفرس والروم كان موقف المتفرج لا موقف المشارك، لا تستثنى من هذا إلا مناذرة الحيرة في العراق، موالي فارس، وغساسنة الشام، موالي الروم، وكلاهما على دين النصرانية، الغساسنة على مذهب قيصر بيزنطة آنذاك وأصحاب الحيرة نساطرة يخالفونهم في المذهب، ومن هنا تفهم حلف الغساسنة مع الروم، ولواذ المناذرة بالفرس، أعداء القيصر. أما قريش وغيرها من قبائل العرب فما كانوا يرون مصلحة لهم في هذا أو ذاك، وإنما وقفوا موقف المتفرج على حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، إلا لهو الحديث وتزجية الفراغ، ذلك الترف السياسي الذي ينعم فيه المتبطلون، شهود مباراة بين فريقين لا تكتمل لذتهم إلا بالشيع لهذا الفريق أو ذاك. وتستطيع أن تقول أنه قد كان من سادة مشركي قريش من كان هواه مع المناذرة موالي فارس، هللوا لانكسار الروم، أي هللوا لانتصار حزب المناذرة على حزب الغساسنة، وكلا الفريقين نصارى كما مر بك، لا مجس ولا أهل كتاب. بل لم تكن حرب الفرس والروم أصلاً حربَ تنصير أو تمجيس، وإنما كانت حربًا على السيادة والنفوذ في الشرق الأدنى القديم. دليلك في هذا أن الفرس يوم انتصروا لم يسعوا إلى نشر المجوسية في مصر والشام، وأن الروم لما انتصروا لم يسعوا في تنصير أعدائهم المجوس. وتستطيع أن تقول أيضًا أن هذا الفريق من سادة قريش الذين هللوا لانكسار الروم – كما تقرأ في كتب السيرة وكتب التفسير – أرادوا أن يغيظوا بها النبي وصحابته جادين أو هازلين: لو كان إله السموات والأرض، إله محمد وإله المسيح، هو الإله الحق، أفكان ينكسر أمام آلهة النيران؟ يخلطون بين ثالوث النصارى وبين الواحد الأحد لا إله غيره، ويظنون ظن الجاهلية في تصورها «آلهة» تمشي على الأرض تحارب على أتباعها، فهو صارع بين «الآلهة» لا صراع بين البشر. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/378] لم يكن هذا بالطبع موضع «الرهان» بين أبي بكر رضي الله عنه وبين هذا النفر من سادة قريش عقب نزول هذه الآيات من سورة الروم، أعني رهانه مشركي قريش على انتصار الروم من بعد على الفرس في بضع سنين من نزول الآيات. فلست ترتضي للصديق رضي الله عنه أن يغتم لانتصار آلهة النيران على ثالوث النصارى، أو أن يراهن على أن «الآب والابن والروح القدس» أقوى شكيمة من «هرمزدا وأهرمن». هذا عبث يتنزه عنه أبو بكر. وإنما قال هذا مفسرون ينسقون مقولتهم على أن بعض الشر أهون من بعض، ومن ثم فبعض الكفر أهون من بعض. ولا تصح هذه «النسبية» في الدين بالذات. لأن الكفر كما تعلم ملة واحدة. وقد كفر القرآن عباد المسيح وجبريل كما كفر عباد هرمزدا وأهرمن، فلا ينتصر الله لهذا الفريق أو ذاك. تسمع قريبًا من هذا ممن أفتاك أواسط هذا القرن بالوقوف مع الغرب «المسيحي» ضد الشرق «الملحد»، وكلاهما عدو للذين آمنوا. وهو كما ترى تنسيق على ما قاله المفسرون من قبل في تأصيل فهمهم تلك الآيات من سورة الروم، أي أن بعض الكفر أهون من بعض. وهو خطأ محض. فموقف المسلمين من غير المسلمين واحدٌ لا يتلون: إنهم سلم لمن سالمهم، حرب على من حاربهم: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} [التوبة: 7]. وإنما راهن أبو بكر مشركي قريش الذين هللوا لانكسار الروم على صدق قوله عز وجل: {وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد} [الروم: 3 – 4]، ولم يزد. وقد صدقت النبوءة بتمامها كما تعلم، وربح الرهان أبو بكر. الفهم الصحيح لهذه الآيات الست من سورة الروم هو أن الله عز وجل يعد جنده الذين آمنوا – وهم يومئذ قليل مستضعفون في الأرض – بالنصر على عدوهم مشركي قريش نصرًا ما كان أحدٌ من الذين «لا يعلمون» كما وصفتهم الآيات، يحسبه [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/379] ممكنًا بأي معيارٍ أردت، لولا أنه وعد من الله عز وجل لا يخلف الله وعده. وحددت الآيات لموعد هذا النصر علامة: ينتصر المسلمون يوم يبلغهم نبأ انتصار الروم على الفرس في بضع سنين من نزول الآيات. لم تقل الآيات «ينصر الله المؤمنين في بضع سنين» كيلا يقال أنه وعدٌ على التراخي في أي يوم شئت خلال تسع سنين (والتسعة أقصى غاية البضع)، ولكنها وقتت لانتصار المسلمين على عدوهم موعدًا ربطته بانتصار الروم على الفرس في بضع سنين من نزول الآيات، غير مقصود من الحديث عن المعارك بين الفرس والروم إلا هذا وحده. وأنت تعلم بالطبع أن رابطة السببية معدومة تمامًا بأي معيار أردت بين انتصار يحرزه هرقل قيصر بيزنطة على كسرى أبرويز ملك الفرس وبين أول انتصار يحرزه الذين آمنوا على مشركي قريش. بل الحدثان منفصلان كل الانفصال في المكان، منفصلان كل الانفصال في المقدمات والنتائج. لم يكن كسرى حليف قريش ولم يكن قيصر حليف الذين آمنوا، ولم تكن مكة أو المدينة داخلتين في استراتيجية الحرب بين الفرس والروم، حتى يكون ثم مجال للقول برابطة التداعي بين الحدثين، يؤذن وقوع أولهما بوقوع الثاني. أعني أن النبوءة بوقوع الحدث الأول وهو انتصار الروم على الفرس، لا تتضمن بذاتها النبوءة بوقوع الحدث الثاني وهو انتصار الذين آمنوا في بدر، تضمن السبب للنتيجة. وإنما هما نبوءتان منفصلتان، تجمع بينهما نبوءة ثالثة، هي التنبؤ بتزامن تحقق النبوءتين الأولى والثانية. وهذا هو لب الإعجاز في هذه الآيات، الذي يتحدى به القرآن منكري الوحي عليه. لو وقفت النبوءة عند «توقع» انتصار الروم على الفرس في بضع سنين لقيل حكيم حصيف، قدر أن الحرب بين الفرس والروم كر وفر، كالعهد بالحرب بين كسرى وقيصر، جولة هنا وجولة هناك، وأن كرة الروم على الفرس لن تتأخر بحساب الزمن سوى بضع سنين، يضمد فيها قيصر جراحه، ويستجمع قواه، ويعيد تنظيم فلول جيشه، ويعبيء حشوده، طالما أن القسطنطينية عاصمة الروم وقلب الإمبراطورية صمدت لهجمات الفرس وردتهم على أعقابهم. ليس هذا تنبؤًا يحتاج إلى وحي، وإنما هو تقدير حصيف يستطيعه خبراء الإستراتيجية العسكرية في كل العصور، بل ما كنت لتعدم من يقول به من العرب أشياع الروم في شبه الجزيرة، بل ما كنت لتعدم بين قادة جيوش الفرس أنفسهم من يحسب حسابه ويعد العدة لمواجهته. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/380] ولو قد توقفت النبوءة – من جهة أخرى – عند التنبؤ للذين آمنوا بالنصر على مشركي قريش في غد قريب، بضع سنين، والمسلمون يومئذ في قبضة قريش تنكل بهم وتسومهم العذاب ألوانا، لا أمل لهم في مغالبة قريش، إلا رجاء أن تكفكف قريش أذاها، لقلت أنها نبوءة جريئة بكل المقاييس، لا يتورطُ في مثلها من خبراء الإستراتيجية أحد. ولكنك تفوتك خصوصية النبوءة التي في هذه الآيات، فالقرآن من قبل سورة الروم ومن بعدها لا يخلو من مثلها، أعني لا يخلو من موعدة المسلمين بالنصر على عدوهم في غد قريب: {ألا إن نصر الله قريب} [البقرة: 214]، أما هذه الآيات من سورة الروم فهي توقت موعد هذا النصر على الجزم والتأكيد: «وعد الله لا يخلف الله وعده». ومع ذلك فما كنت لتعدم بين كفار قريش من يقول لك: وماذا في هذا؟ صحت النبوءة أو لم تصح، رجل (يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم) يستنهض همه أتباعه، فيمنيهم الأماني، ويعدهم بالمحالات. ولكن النبوءة التي في الآيات لم تتوقف عند هذا أو ذاك، ولكنها تنبأت بتزامن وقوع حدثين منبتي الصلة والأسباب، الأول وهو انتصار الروم على الفرس في بضع سنين، حدث محتمل غير مستبعد بمنطق مسار الصراع بين ندين متكافئين تدور الحرب بينهما سجالاً، يدال لهذا من ذاك، فتقول جازمًا مطمئنًا إن الكرة التي كانت اليوم للفرس ستكون في الغد للروم غير بعيد. أما الحدث الثاني، وهو انتصار المسلمين على مشركي قريش (في بدر)، فالتنبؤ به يوم نزلت الآيات تنبؤ بالمُحال في منطق الناس، خبراء وغير خبراء، لا يتورط في مثله عراف أو كاهن. وأبعد من هذا وذاك التنبؤ بتوقيت واحد لوقوع هذين الحدثين المنفصلين، المُمكن والمُستحيل. لم تقل الآيات ينتصر الروم في بضع سنين، وينتصر المؤمنون أيضًا في بضع سنين، كي تستجيز أن ينتصر الروم في خلال خمس سنين مثلاً وينتصر المؤمنون في خلال سبع سنين، أو العكس، والخمس والسبع كلتاهما داخلتان في «البضع»، ولكن الآيات تقول «ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله»، يعني ينتصر المؤمنون يوم يبلغهم نبأ انتصار الروم على الفرس، لا قبل ولا بعد. وقد حدث، فأي إعجاز وأي علم. الوحيد الذي فهم النبوءة على وجهها يوم أنزلت الآيات هو بالطبع الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يفسِّرها لصحابته على معنى التزامن بين [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/381] انتصار الروم في بضع سنين وبين «اليوم» الذي يفرح فيه المؤمنون بنصر الله، كما تستطيع أنت اليوم تفسيرها وقد تحققت النبوءة. وإنما فطن إلى هذا من فطن من المسلمين والمفسرين من بعد بدر. وكانت هذه حكمةً بالغة: لو فهم المسلمون النبوءة على وجهها وبتوقيتها يوم أنزلت الآيات لتهاونوا في مجاهدة قريش، ولقعدوا يتسقطون أنباء المعارك بين الفرس والروم، ينتصر المسلمون يوم ينهزم الفرس. وهذا يفسر لك لماذا اقتصر رهان أبي بكر على انتصار الروم في بضع سنين ولم يزد. وهو يفسر لك أيضًا احتفال المفسرين بربح أبي بكر الرهان وصدق نبوءة القرآن بانتصار الروم في بضع سنين، دون أن يلتفت أكثرهم إلى جوهر الإعجاز في نبوءة هذه الآيات: توقيت يوم انتصار المسلمين في بدر، يوم السابع عشر من رمضان في السنة الثانية للهجرة. ومما تقرؤه في كتب التفسير (ومنها تفسير القرطبي) أن جبريل عليه السلام نزل يوم بدر فأنبأ النبي بانتصار الروم على الفرس. هنا تفهم ما فهمه صلى الله عليه وسلم من هذه البشرى، ينتصر المسلمون يوم ينتصر الروم على الفرس، فما أن فارقه جبريل حتى خرج يستنجز ربه ما وعده في تلك الآيات من سورة الروم، وأكب في الدعاء حتى سقط عنه رداؤه: اللهم نصرك الذي وعدتني! وجاء نصر الله الذي كان فاتحة كل نصر يحرزه المسلمون من بعد، وصدق الله وصدق رسوله. أما المفسرون الذين لم يربطوا بين انتصار الروم وبين توقيت النبوءة لانتصار يحرزه المسلمون على قريش، وفاتهم من ثم جوهر الإعجاز في تلك الآيات، فقد اضطروا إلى تعليل «فرحة المؤمنين يومئذ بنصر الله» بأنها الفرحة لانتصار أهل كتابٍ على مجوس، وهو خطأ محض كما مر بك، لا سندَ له من قرآنٍ أو سنة، ولكنه كان التكأة التي يتكئ عليها الذين يفتونك اليوم بموالاة أهل الكتاب على غيرهم، مهما لقيت منهم أو شقيت بهم. وأما المفسرون الذين التفتوا إلى هذا الربط بين انتصار الروم وبين انتصار يحرزه المسلمون على عدوهم، فقد تفاوتوا في تحديد الغزوة التي انتصر فيها المسلمون يوم انتصر الروم على الفرس، لأنهم لم يعنوا بتحديد التواريخ الدقيقة لسجل المعارك بين الفرس والروم، كي يطابقوه على سجل المعارك بين المسلمين وبين قريش، فمن قائل [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/382] أنها غزوة بدر الكبرى في السنة الثانية للهجرة (وهو الصحيح كما سترى)، ومن قائل أنها غزوة الحديبية سنة ست، وهذا يتعارض مع قوله عز وجل في «بضع سنين» أي دون العَشْر، وما بين نزول سورة الروم وغزوة الحديبية حوالي ثلاث عشرة سنة، ولكن قائل هذا لم يتلبث، وربما زعم أن البضع السنين هي من موعد رهان أبي بكر قريشًا، وهو تخريج سقيم يناقض نص الآيات، فلا تلفت إليه. والذي لم يتلبث عنده أيضًا هؤلاء المفسرون هو قوله عز وجل «في أدنى الأرض»، يحدد مكان الموقعة التي انهزم فيها الروم من الفرس والمعنية في الآيات، والذي سيكون هو نفسه في بضع سنين مكان الموقعة التي سيدال فيها للروم من الفرس، لقوله عز وجل: «غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين»، أي غلبوا في أدنى الأرض وسيغلبون في أدنى الأرض أيضًا في بضع سنين من نزول الآيات. هذا هو الفهم المباشر لعبارة القرآن بمنطق اللغة العربية التي تجتزئ عن ذكر ظرف المكان في الشق الثاني بسبق النص عليه في الشق الأول حين يكون ظرف المكان في الشقين واحدًا، ولا سيما حين تكون مادة الفعل في الشقين هي نفسها «غلبت»، «سيغلبون»، والمسند إليه في الشقين واحد «الروم»، وذلك كراهية التكرار الذي هو حشو لا فائدة فيه. من ذلك قولك: «جئتك في دارك بالأمس، وسأجيئك غدا» فتفهم مني مباشرة أني سأجيئك غدًا في دارك أيضًا لا في غيرها، وإلا لنصصت لك على المكان الآخر الذي سأجيئك فيه غدا. بهذا وحده يكتمل فهم النبوءة بانتصار الروم على الفرس – المتزامن مع انتصار يحرزه المؤمنون فيفرحون به – فهما محددًا في المكان والزمان: في أدنى الأرض، وفي بضع سنين. أما إن تركت المكان غفلاً في النبوءة، فعندئذٍ تحتار في اختيار الموقعة من بين مواقع انتصر فيها الروم على الفرس بعد نزول الآيات، أهي انتصارهم على الفرس في مصر، أم الشام، أم في الأناضول، أم في أرض الفرس نفسها. ومن ثم يتفاوت قولك في تحديد الموقعة المتزامنة التي انتصر فيها المسلمون على عدوهم. على أن هذا الفريق من المفسرين اختلف أيضًا في مدلول «أدنى الأرض»، التي فهموها بمعنى «أقرب الأرض»، فمن قائل إنه أقرب الأرض إلى الفرس، ومن قائل أقرب الأرض إلى الروم، ومن قائل أقرب الأرض إلى العرب. هنا لا تدري على وجه القين أي مكان تعنيه الآيات بقولها «غلبت الروم في أدنى الأرض» فتحتار في اختيار الموقعة المعنية في سلسلة معارك [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/383] الفرس والروم التي انتصر فيها الفرس على الروم، وتخبط خبط عشواء في تحديد التاريخ الذي تبدأ منه البضع السنين. مفتاح فهم النبوءة على وجهها هو فهم معنى «أدنى الأرض» التي في الآيات لأنها هي التي تحدد لك مكان الموقعة المعنية في الآيات بين الفرس والروم كرًا وفرًا، الأولى والثانية، فتقطع بيقين لا شك معه بمبدأ ومنتهى الفاصل الزمني بينهما، الداخل في إطار المهلة المضروبة في القرآن لموعد كرة الروم على الفرس، الذي هو نفسه موعد انتصار المسلمين في بدر كما سترى. ولم يوفق المفسرون إلى فهم مدلول «أدنى الأرض» رغم أن منهم علماء في اللغة العربية، فتشبثوا بأن معنى «الأدنى» هنا هو «الأقرب» من دنا يدنو فهو دان، لا معنى له غير هذا. ولكن «الأدنى» كما يعلم هؤلاء المفسرون ويعلم علماء العربية جميعًا لا تجيء فقط بمعنى أفعل التفضيل من دناي دنو فهو دان، أي قريب، وإنما تجيء أيضًا على معنى الأسفل الوطيء. لا يقول العرب في أفعل التفضيل من «الدون» الأدون، وإنما يقولون «الأدنى»، وكأنها «الأدنأ» من دنوء يدنوء فهو دنيء، سهلت همزته. ومن هذا تجيء «الدنيا» التي نعيش فيها، مؤنث «الأدنى». ليست هي من القرب والدنو، وإنما هي من السفلية والتحتية والوطاءة، يعني التي أهبط إليها آدم. وقد استخدم القرآن لفظة «الأدنى» بالمعنيين كليهما، فجاءت على معنى الأقرب في مثل قوله عز وجل: {ذلك أدنى ألا تعولوا} [النساء: 3]، أي أقرب. وجاءت بمعنى الدون والأدنأ في مثل قوله عز وجل: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} [البقرة: 61]، أي الأرذل لا الأقرب بالطبع، وفي قوله عز وجل: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم} [المجادلة: 7]، يعني أقل أي دون. بل إن القرآن يستخدم أحيانًا مادة دنا يدنو نفسها لا بمعنى قرب، وإنما بمعنى هبط، في حديثه عن تنزل جبريل بالوحي: {ثم دنا فتدلى} [النجم: 8]، لا يصح فهمها بمعنى قرب فتدلى. واستخدمها أيضًا على معنى التحتية والدونية في قوله عز وجل: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن} [الأحزاب: 59]، يعني يرخينها إلى أسفل، وليس يقرينها من أجسادهن. الأدنى تجيء أيضًا بمعنى الوطيء الهابط قطعًا. والوطيء في اللغات العبرانية والآرامية [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/384] والكنعانية هي «كنعان»، التي تجد أثارة منها في مادة «كنع» العربية حين تقول «كنعت الشمس إلى المغيب» أي مالت. لم يوفق المفسرون إلى هذا المعنى الآخر في عبارة أدنى الأرض، لأنهم لم يعلموا أن القرآن يستخدم هذه العبارة لا على الصفة، وإنما على العلمية: إنها ترجمة القرآن المعجز لاسم فلسطين بلغة أصحاب الأرض «الكنعانيين» قبل أن يكون لبني إسرائيل في فلسطين وجود. إنها «كنعان» أو «إرص كنعان» (أرض كنعان)، يعني «الأرض الوطيئة». وسبحان العليم الخبير القائل بكل اللغات، الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم. نزلت تلك الآيات من سورة الروم ما بين السنتين السابعة والسادسة قبل الهجرة (614م – 615م)، فهي تشير بالقطع إلى تلك الموقعة التي انهزم فيها الروم أمام الفرس على أرض فلسطين سنة 614م، وكانت فاتحة لهزائم الروم أمام الفرس في سورية، وفي مصر وليبيا (سنة 619م)، وتراجع الروم في الأناضول حتى أسوار القسطنطينية. ومفهوم الآيات المباشر أن «البضع السنين» - أي ما دُون الشعر – تحسب منذ بدء صولة الفرس على الروم سنة 614م إلى مبدأ كرة الروم عليهم: «وهم من بعد غلبهم سيغلبون»، يعني لن تتأخر كرة الروم على الفرس إلى أبعد من سنة 624م قبل اكتمال عشر سنين، متوافقة مع نصر الله الذي يفرح به المؤمنون في بدر يوم السابع عشر من رمضان سنة 2هـ (إبريل سنة 624م). والثابت تاريخيًا أن الروم قبعوا وراء أسوار القسطنطينية حتى سنة 622م، لم يخرجوا لمناجزة الفرس إلا يوم خرج هرقل بجيشه في تلك السنة في أول حرب صليبية عرفها التاريخ، وهو يرتدي المسوح ويرفع صورة مقدسة للعذراء، تهلل له أجراس الكنائس، وتدوي من خلفه صلوات وترانيم، تدعو له بالنصر على الفرس المجوس، واستعادة المدينة المقدسة أورشليم، واسترداد «عود الصليب» الذي استلبه المجوس يوم استولوا على أورشليم. لم يكن الرجل قديسًا يؤازره الله بنصره على الفرس المجوس كما توهم مفسرون، أو كما تصوره لك بعض كتابات مؤرخي المسيحية، فقد علم الذين قرعوا [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/385] لمخرجه الأجراس وشيعوا جيشه بالصلوات والترانيم أن نكاح المحارم زنا صريح، وقد نكح هرقل «مارتينا» ابنة أخته فاستولدها تسعة بنين وبنات، وصحبته في حملاته وغزواته، ولكنها سياسة الملوك في استنهاض الهمم بالدين. لا تستثار نخوتهم لشأن من شؤون الدين إلا لهذا، يعصون الله ويتبجحون فيسألونه النصرة. لم تكن أمام هرقل يوم خرج لمناجزة الفرس سنة 622م سوى سنة وبضع سنة من المهلة المضروبة في الآيات لكرة الروم على الفرس في بضع سنين تبدأ من سنة 614م كما مر بك. ولكن المعارك بين الروم والفرس طالبت بين كر وفر حتى حقق الروم نصرهم الحاسم على الفرس في فبراير سنة 628م على أرض الفرس نفسها، فسلم لهم الفرس بالسيادة على أراضي الروم في آسيا الصغرى وفي الشام ومصر وما يليها، وأعادوا إليهم «عود الصليب». وليست هذه بالطبع هي الموقعة المعنية في الآيات – وإن توافقت مع غزوة الحديبية سنة ست هجرية كما قال مفسرون – أولاً لأنها تجاوزت المهلة المضروبة في القرآن بسنوات أربع، إن قلت بها فقد خطأت القرآن، أعني لم تحسن الفهم عنه، لأن القرآن يريد مبدأ كرة الروم على الفرس لا منتهاها، كما أراد مبدأ صولة الفرس على الروم سنة 614م لا منتهاها سنة 622م. وثانيًا لأن القرآن يريد معركة بعينها بين الفرس والروم يغلب فيها الروم الفرس مثلما غلبوهم في أدنى الأرض منذ بضع سنين. أعني معركة تدور على أرض فلسطين. ورغ اضطراب المؤرخين في تحديد التواريخ الدقيقة لمعارك الفرس والروم منذ سنة 622م، فالثابت تاريخيًا أنه قد كانت للروم على الفرس كرتان، انتهت أولاهما بدخولهم أرض الفرس سنة 624م ثم تراجعوا إلى الأناضول. وكر الفرس عليهم حتى ألجئوهم إلى ضفاف البوسفور سنة 626م، ولكن كرة الفرس كانت تشبه صحوة الموت، فما لبث الروم أن كروا عليهم كرتهم الثانية التي انتهت بانتصارهم الحاسم في فبراير سنة 628م. ولا شك أن القرآن يعني كرة الروم الأولى التي انتهت سنة 624م لا كرتهم الثانية، دليلك في هذا من القرآن «البضع السنين» محسوبة ابتداء من سنة 614م كما مر بك إلى أوائل سنة 624م ميلادية على الأكثر (سنة 2هـ) قبيل انتصار الذين آمنوا في بدر يوم 17 رمضان سنة اثنتين للهجرة (إبريل سنة 624م). وقد حفلت كرة الروم الأولى بانتصارات للروم على الفرس في القوقاز وأرمينيا والأناضول حتى نهر الفرات، وفي أرض الفرس نفسها حتى تبريز، ومنها الذي يعنينا هنا استعادة القدس أواخر 623م أو أوائل 624م، قبيل انتصار المسلمين في بدر (إبريل 624م). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/386] هذه النبوءة التي ربطت بين انتصار الروم على الفرس في أدنى الأرض وبين انتصار الذين آمنوا في بدر، أي بين الممكن والمستحيل في منطق الناس، هي نبوءة بغيب محض، لا يستطيعها إلا علام الغيوب. فسبحان عالم الغيب لا يظهر على غيبه أحد، إلا من ارتضى من رسول. أما لفظة الروم التي تعنينا في مباحث هذا الكتاب، فهي كما مر بك نسبة إلى «روما» الأصلية التي في إيطاليا وإن انتسب إليها البيزنطيون المعنيون في القرآن. وأنت تعلم بالطبع أن «روما» الأصلية في لغة أهلها اللاتين تكتب وتنطق Roma، ولكن الذي لا تعلمه إن كنت لا تعرف اليونانية، لغة البيزنطيين المعنيين في القرآن، فهو أن روما هذه نفسها في لغة اليونان تكتب وتنطق «رومي» Romi. وقد حار اللغويون في تفسير أصل معنى «روما» Roma في لغة أهلها، إذ لا اشتقاق لها ترد إليه في لغة اللاتين، فقيل أنها منحوتة من لغة أهل إتروريا، قوم في إيطاليا سكنوا قديمًا تُسكانيا وجزءًا من أمبريا على الساحل الغربي من إيطاليا، بادت لغتهم. وفي أساطير الرومان أن روما بناها حوالي 753 قبل الميلاد الأخوان رومولوس وريموس، فربما جاء اسم روما على النسب إلى هذين. وهذا عند اللغويين لا يقدم ولا يؤخر، لتعذر تفسير اشتقاق هذين الاسمين كذلك من اللغة الإترورية. ولكن القرآن المعجز يفطن إلى ما لم يفطن إليه أولئك اللغويون، فيدرك منذ أربعة عشر قرنًا أن تحول اليونان في لغتهم باللفظ Roma الإتروري إلى Romi اليونانية لم يأت من فراغ بل أرادوا إصابة المعنى الذي أراده الإتروريون من لفظة Roma في لغتهم، وهو القوة وشدة البأس. ذلك أن «رومي» Romi اليونانية كما تعني اسم مدينة روما تعني أيضًا في اليونانية بذات حرفها ولفظها «القوة وشدة البأس». قال عز وجل يجانس على «الروم» ذوي القوة وشدة البأس، يفسر معناها بالتقابل والترادف معا وفق منهجنا في هذا الكتاب: {الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون} [الروم: 1 – 3]، يعني غلب [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/387] الشديد القوي وسيغلب أيضًا، يكرر مادة الغلب في شأنهم ثلاث مرات، فعل القائل المتثبت، المتمكن مما يقول. لم يكن هذا موقف أصحاب المعاجم الذين تصدوا مؤخرًا لتفسير معنى «روما» الإترورية، تنسيقًا على «رومي» اليونانية، فقالوا متظننين غير متثبتين (?) Rome = strength (روما = القوة؟) يُتبعون تفسيرهم بعلامة استفهام، فعل المتردد الذي لا يقطع بيقين. أما القرآن الذي قالها قبل أن يقولوها بأربعة عشر قرنًا فهو يقولها قوله العارف المتيقن. ألا فسبح معي العليم الخبير، القائل بكل اللغات، الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم. والحمد لله رب العالمين. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 367-388] |
في ختام البحث :
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( في ختام البحث [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/389] الحمد لله ولي النعم: استهديناه فهدانا، واستعناه فأعان. بدأنا أول سطر في هذا البحث أوائل شوال سنة 1409هـ (مايو سنة 1989م)، وفرغنا منه بفضل الله وعونه وتوفيقه في أواخر رمضان سنة 1411هـ (إبريل سنة 1991م)، أي في عامين اثنين، بل في عامين لم يكتملا إن استبعدت نحو ستة أشهر صرفتنا خلالها عن هذا البحث صوارف لا تخلو من مثلها شواغل هذه الحياة. وكان متوسط ساعات العمل اليومي في البحث والكتابة والمراجعة نحوًا من أربع ساعات. وليس هذا بكثير على بحث بهذه الضخامة، وموضوع بهذه الجدية، ناهيك بما يقتضيه الكلام في كتاب الله عز وجل من تؤدة وأناة، ومن تحرز وتثبت. ولكنه توفيق الله تبارك وتعالى، له الحمد في الأولى وفي الآخرة. ولئن كان الجهد المبذول في هذا الكتاب شاقًا مضنيًا، فما شقينا به البتة، بل قد سعدنا به ونعمنا. بل قل كان لنا لذة لا تعدلها لذة: صحبة القرآن، والجلوس إليه، والتمعن فيه. وكان نعيمنا الأعظم لحظة يمن الله علينا باستجلاء إعجاز القرآن في تفسيره معنى هذا العلم الأعجمي أو ذاك، أو بانكشاف وجه جديد في فهم آيات من القرآن لم يفطن إليه قدامى المفسرين. وأنت تعلم بالطبع كيف تدمع العين ويخشع القلب لحظة يقال لك وجه من وجوه إعجاز هذا القرآن لم تعلمه من قبل، فما بالك بالذي ينكشف له قبس من هذا الإعجاز بفضل من الله ونعمة فيعاين هذا الإعجاز كفاحًا أول مرة؟ تلك لحظات قصار ثقال، كنا فيها وجهًا لوجه مع فتوح الباري جل جلاله، نقبس من فيوض آلائه: القلب يرجف في جلال كنفه، تسبيحًا وتحميدًا، والقلم يجري بما شاء له الله أن يجري، والدموع ملء المآقي. ما ذقت نعيما في هذه الدنيا كالذي عشته وأنا أكتب في ظل تلك اللحظات القصار الثقال. وما زال مذاقه يملأ كل وجداني، يغالبني الحنين إليه بين الفينة والفينة، فأعاود قراءة ما كتبته في لحظات التجلي، أستروح جلالها وجمالها، فيجيش القلب، وتدمع العين، وتتجدد النعمة. وما أعظمه من أجر في هذه الدنيا لقاء عمل ما أردته إلا خالصًا لوجهه عز وجل، أبتغي به رضوان الله في الآخرة، طامعًا في جزيل ثوابه، وواسع رحمته، [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/390] وكريم عفوه وغفرانه! أستقيلك رب من عثرات قلم لا يخلو من مثلها قول البشر، وأبوء إليك سبحانك بنعمة التوفيق فيما وفقت إليه. أما فكرة البحث نفسها فقد لاحت لي منذ نحو عشر سنين سبقت الشروع فيه، عشتها في مدينة جنيف بسويسرا أثناء عملي بالأمم المتحدة هناك. كانت الفكرة تومض وتخبو، تغدو وتروح. وربما سنحت لي أمثلة من «إعجاز القرآن في أعجمي القرآن» طرحتها على إخوة زملاء من أهل الفضل والعلم والفكر والأدب، كانوا لي نعم الظهير في كتابة هذا البحث. منهم الذي دفعني إلى الكتابة دفعًا وليس لي بالكتابة سابق عهد، ومنهم الذي يسعى معي على قدميه إلى المكتبات نقلب رفوفها بحثًا عن المراجع شديدة التخصص التي يرتكز عليها هذا البحث بل وتطوع فأمدني بذلك المعجم النفيس في ألفاظ «توراة الأنبياء والكتبة» (هملون هحداش لتناخ) عبري / عبري، المطبوع في إسرائيل، ليكون لي على مقولات هذا الكتاب شاهد من أهلها. وكان منهم أيضًا الذي حدثني عن كتاب أعيد طبعه لمستشرق يتصدى للعلم الأعجمي في القرآن، ينبهني إلى أنني قد أكون مسبوقًا فيما أنوى أن أكتب، يخشى أن يكون قد سبقني إليه هذا المستشرق، ولكن علمي بخبيئة أهل الاستشراق حين يتكلمون في القرآن منعني من تصور مستشرق يكتب في إعجاز القرآن غير مؤمن بأنه وحي الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. القرآن في آذان هؤلاء وقر، وعلى أعينهم عمى. ولكني صابرت النفس على قراءة الكتاب، وما أن فرغت منه حتى أدركت أنه من أنفس المراجع المضادة لمقولات هذا البحث، لأنه يلخص أبلغ تلخيص مقولة الاستشراق في أعلام القرآن، لا حاجة بك معه إلى غيره، إن أردت الاطلاع على غثاثة أولئك المستشرقين وفساد طويتهم حين يتكلمون في القرآن. وقد أغلظنا على هذا المستشرق وإخوته في تضاعيف هذا البحث، فكان لا بد من الإشارة إلى مؤلفه في حواشي هذا الكتاب وإدراجه في قائمة مراجعه. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/391] كان صحبة جنيف، الذين أدين لهم بالمودة والعرفان ما حييت، هم أول قراء هذا البحث، فقد حرصت على إقرائهم إياه تباعًا حتى اكتمل. وكان حماسهم البالغ لما أكتب، وتقريظهم الذين أعرف وزنه، وإلحاحهم الدؤوب علي بالإسراع في نشره فور الفراغ منه، دافعي إلى الخروج بهذا البحث على جمهور لم يقرأ بعد شيئًا لكاتبه. على أن تلك السنوات العشر التي قضيتها في جنيف قبل البدء في كتابة هذا البحث، لم تمض عبثًا. فقد كان في ذهني مشروع كتاب في تأصيل مفهوم الحكم بالإسلام في المجتمع المسلم، قطعت فيه شوطًا يقرب من ثلثيه أو نصفه، ثم أرجأت المضي فيه، نزولاً على نصح أولئك الأخوة الزملاء، إلى أن أفرغ من هذا الكتاب الذي بين يديك. ولن موضوع البحثين واحد – كتاب الله عز وجل – فقد شغلت طيلة تلك السنوات العشر بشيء واحد لا أعدوه إلى غيره إلا لماما، وهو تدارس القرآن في كتب التفسير، أبديء فيها وأعيد، فأقع على الدُرِّ الثمين، وأصطدم أيضًا بما هو دون ذلك، الذي تلقاه الخلف عن السلف دون تمحيص. فأنت تعلم بالطبع أن علم التفسير يحتاج ممن يتصدى له إلى جملة علوم، أولها بإطلاق علوم اللغة العربية وعلم الحديث، وثانيها التاريخ، وثالثها العلوم الطبيعية والاجتماعية. ولكنه يحتاج أيضًا ممن يتصدى له إلى القدرة على تحقيق النصوص التي يستشهد بها من خارج القرآن والحديث الصحيح عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، في مصادرها المدونة بلغة الأصل الذي كتبت به، فلا يسمع لرواة أهل الكتاب – الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني كما وصفهم الحق تبارك وتعالى – دون تمحيص، وإنما يحقق ما يروى له في مصادره الأصلية، أي في التوراة والإنجيل. ولم تكن على عصر تفاسير القرآن ثمة ترجمة عربية للتوراة والإنجيل كما تجد لهما اليوم ترجمات بكل اللغات. ولم يكن من أهل التفسير من يستطيع قراءة التوراة والإنجيل في نصهما الأصلي، العبراني واليوناني، فيمحص ما يلقيه إليه رواة أهل الكتاب ليعلم أن قد صدق الرواة أم كذبوا ودلسوا، أو اخترعوا بغية لهو الحديث. ومن هذه تلك الإسرائيليات التي دسها صغار رواة أهل الكتاب من يهود على أهل التفسير [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/392] وانخدع بها لفيف منهم، لا يخلو منها كتاب من كتب التفسير مهما جل قدر صاحبه، فيضل بها القارئ العام غير المتخصص، إلا من عصم ربك. وقد جرني هذا إلى تدارس «الكتاب المقدس» بشطريه – التوراة والإنجيل – في ترجماتهما العربية، ثم إلى مراجعة هذه الترجمة حين يُعضِل فهم وجه الصواب فيها، على الأصل العبراني للتوراة، والأصل اليوناني للإنجيل. كنت – دون أن أدري – أعد لمادة هذا البحث الذي بين يديك، وأجمع أدواته. ولكن العبرانية – أعني عبرية التوراة لا العبرية المعاصرة – واليونانية الكنسية – لغة الأناجيل – لا تكفيان وحدَهما في تاصيل مقولات هذا البحث، بل لا بد من دراسة الآرامية – لغة أهل فلسطين على عصر المسيح – وأيضًا المصرية الهيروغليفية التي لا بد منها في تحليل أسماء بعض أعلام القرآن، كما رأيت في موسى وفرعون ومصر وسيناء. وقد أكرمني الله عز وجل منذ الصبا بشيء لا أحسبه اليوم إلا إعدادي لكتابة هذا البحث بالذات، وهو شغفي الذي لم أبرأ منه بعد بالدراسات اللغوية، الأمر الذي يسر لي العلم بعدة لغات، علم الباحث لا علم المتكلم ذرب اللسان. وكانت هذه نعمة من الله عز وجل، أتاحت لي الغوص في تلك اللغات – ومنها بائد – التي احتاجت إليها مباحث هذا الكتاب. ولأن مقولة هذا الكتاب – القائلة بأن القرآن يفسر أعلامه الأعجمية في سياق الآيات بالترادف والتقابل والتعريب والترجمة والمشاكلة والسياق العام – مقولة جديدة غير مسبوقة، لا أعلم أحدًا لمح إليها من قبل، ناهيك بأن كتب فيها، فلن تجد بالطبع مراجع لهذا البحث في كتب سبقت، وإنما الأسانيد الأساسية لهذا البحث هي المراجع اللغوية فحسب، أي المعاجم المتخصصة. وقد عنيت في انتقاء هذه المراجع بما هو متاح منها في الأسواق، تيسيرًا على القاريء والناقد والخصم، ممن يودون التثبت من مقولات هذا الكتاب أو التصدي لها. وقد اجتزأت من تفاسير القرآن بأوسعها في هذا العصر انتشارًا، وهو أيضًا أحكمها وأشملها، أعني تفسير الإمام القرطبي رحمه الله «الجامع لأحكام القرآن» الذي [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/393] تتمنى ألا يخلو منه بيتُ مسلم. وفي هذا التفسير أيضًا فضيلة، هي اهتمامه بالتأصيل اللغوي، الذي يكمل النقص في معاجم اللغة العربية الحديثة المنتشرة في الأسواق، وأهما بالطبع «المعجم الوسيط» الصادر عن مجمع اللغة العربية بمصر. أما كتب الحديث النبوي الشريف، فإني أرشح لك «صحيح مسلم» (بشرح النووي)، تجتزئ به عن غيره من كتب الصحاح الستة، ليس فقط لأنه رائج في المكتبات، وإنما أيضًا لأنه أخصر الصحاح بإطلاق فتأمن الزيادة والتزيد. وهو أيضًا – فيما تضمنه من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم - أدقها متنًا وأضبطها إسنادًا، إن استشهدت منه بحديث فقلت: خرجه مسلم! فقد كفيت. على أننا في هذا الكتاب لم نرد الاستكثار من الحديث، بل كان همنا الاستشهاد للقرآن بالقرآن نفسه، على ما يجدر ببحث في «التفسير القرآني» للعلم الأعجمي في القرآن. أما القرآن كتاب الله عز وجل، فلديك مصحفك والحمد لله. وإني لأعوذ بوجهه الكريم أن يجنب هذا البحث هنات الطباعة في لفظ أو حرف من كلام الله عز وجل. وقد عينت في إيراد الآيات بذكر اسم السورة ورقم الآية، كي تراجعها معي على مصحفك فلا تتصحف عليك. ولا تفوتني الإشارة إلى «المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم» للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله، الذي يدلك – بكلمة واحدة تحفظها من الآية – على رقم الآية واسم السورة في كتاب الله عز وجل، فلا يستغني عنه دارس للقرآن في هذا العصر الذي شح فيه حفاظ القرآن عن ظهر قلب، جزاه الله عن أهل القرآن خيرًا. هناك أيضًا – على الجانب الآخر – التوراة والإنجيل، ولديك في المكتبات ترجماتهما العربية المعتمدة من السلطة الدينية المختصة. وتستطيع أيضًا – إن أردت – الرجوع إلى نصهما الأصلي العبراني واليوناني، وقد اثبت لك في قائمة المراجع اسم الناشر واسم المكتبة. وقد عنيت في كل نص استشهدت به من «الكتاب المقدس» بشطريه – أعني التوراة والإنجيل – بذكر رقم الإصحاح ورقم «الآية». والإصحاح من التوراة والإنجيل [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/394] يعني في مصطلح أهل الكتاب ما تعنيه «السورة» عند أهل القرآن، وهو أيضًا من معناها قريب، فهو مصدر من «الصحة» لا بمعنى السلامة من المرض والآفة، وإنما هو بمعنى الكمال والبراءة من النقص، فهو المكتمل غير مزيد فيه أو منقوص منه. أما «الآية» فقد استعاروها من مصطلحات أهل القرآن، وليست هي أصلاً بآية، وإنما هي السطر أو البيت في القصيد ونحوه verse أو هي العبارة أو الجملة المتكاملة. ولكنه تشبيه لا بأس به، يقرب المعنى إليك، كما يقربه إلى أهل الملة القارئين بالعربية لا يعرفون غيرها. وقد كان من شأن اختيارنا تفسر الأعلام الأعجمية في القرآن بترتيبها التاريخي، لا بترتيبها على حروف الهجاء، اهتمامُنا برسم الإطار التاريخي لصاحب الاسم العلم والتعريف به. وكان هذا ضروريًا لتحليل معنى الاسم العَلَم الذي فُسر به في القرآن، فهو يحدد لك اللغة التي صيغ منها الاسم الأعجمي العَلَم، كما رأيت في الاسم «موسى»، وهو أيضًا يحدد لك مناسبة التسمية وانطباقها على المسمى، كما رأيت على سبيل المثال في الاسم «إبراهيم» الذي لا تستطيع بعد قراءة هذا الكتاب إلا أن تفسر معناه بما فسره به القرآن: «إمام الناس» لا «أبو جمهور كثيرين»، كما يظن علماء العبرية وعلماء التوراة. وقد عرجنا أيضًا في سياق البحث على موضوعات وقضايا ربما يظنها القاريء المتعجل دخيلة على مباحث الكتاب، وهي منه في الصميم. ومن ذلك على سبيل المثال شرح عقيدة المسيحيين في المسيح، فما كان يمكن تفادي هذا الشرح إن أردت تحليل الاسم «عيسى» (يشوع العبرانية التي أصلها «يهوشوع») ولفظة «إنجيل» (التي رددناها إلى «هجليون» العبرانية بمعنى المرآة الجالية المجلوة) بحيث لا يصح لك بعد قراءة هذا الكتاب إلا أن تفسر الاسم «عيسى» بما فسره به القرآن: المُخَلِّصُ الناجي، لا المُخَلِّص المُنَجِّي كما يظن أصحاب الإنجيل، وإلا أن تفهم من لفظة «إنجيل» أنه المرآة الجالية المجلوة، أي «البينات» كما قالها القرآن، لا البشارة أو الخبر السار كما يظن عامةُ أهل الكتاب. وقد أفَضتُ في هذا شرحًا وتعقيبًا، كما أفضت في غيره من مباحث [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/395] الكتاب، لأني أحببت أن أوفر على من يتصدون لانتقاد مقولات هذا الكتاب مؤونة الكر والفر، فحرصت على أن أسد عليهم مقدمًا منافذ القول: بذلت في هذا قصاراي، وما أدعي الكما، فالكمال لله وحده، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. ولئن كان هذا البحث يتناول واحدًا وستين اسمًا علمًا – أعجميا أو مشتبهًا في عجمته – فقد تناولنا بالتفسير أيضًا أعلامًا أخرى غير منصوصٍ عليها في القرآن، عَرَضَت لنا في سياق البحث، وكان تناولها ضروريًا في الإطار التاريخي لصاحب الاسم العلم، ومن ذلك الاسم «حواء» أم البشر والاسم «يوكابد» أم موسى، والاسم «مريام» أخت موسى وهرون، وغيرها. كما تناولنا بالتفسير أيضًا ألفاظًا عربية من مثل «أخت هرون»، «السامري»، «ذي الأوتاد»، «الحواريين»، «أدنى الأرض»، وغيرها كثير، مما فات معناه على جميع المفسرين، وهدينا إليه بفضل من الله ونعمة. إلى هذا وذاك ترجع ضخامة هذا البحث، وإليه يُعزي أيضًا تفاوت حجم فصوله فيما بينها. بل قد شغلت فصوله الثلاثة الأولى التي تمهد لمباحثه نحوًا من خمس حجم الكتاب، ولكنها كما رأيت كانت ضرورية للدخول في مباحثه، على الأقل بالنسبة للقاريء العام غير المتخصص في موضوعه. على أننا حاولنا التخفيف من صرامة هذا التمهيد الجاف بطبيعته، فبثثنا فيه قسطًا من المرح، وشيئًا من التفكه، وكثيرًا من التشويق. أما انطبقا منهج هذا البحث على نتائجه، فهو بفضل الله عز وجل الانطباق التام: لا تنتهي من قراءة هذا الكتاب إلا وقد سلمت معي بمقولته الأساسية، وهي أن القرآن لم يترك علما أعجميا ورد به إلا وقد فسر معناه بإحدى أدوات التفسير الست المستخدمة في مباحثه. ولا تفرغ منه أيضًا إلا وأنت تسبح معي العلي الخبير، القائل بكل اللغات، ومنها البائد المنقرض. لم يخرج عن فرضية هذا البحث إلا لفظ واحد، هو «المجوس» التي لم تفسر في القرآن بأي من أدوات التفسير الست على منهجنا في هذا الكتاب، وقد بينا لك السبب في مبحث «المجوس». أما الاسم «هامان»، قرين فرعون موسى ورئيس كهنة آمون فيما نقول نحن، الذي تراوحنا فيه بين الترجيح واليقين، أهو في القرآن على الترجمة لاسم هذا الرجل [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/396] أو لقبه بمعنى «عظيم الهامة» ، أو هو تعريب غير مفسر من المصرية القديمة «ها + أمان» (هوة آمون) يعني «المدلف إلى آمنون»، فمرد توقفنا فيه يرجع كما مر بك في مبحث «هامان» إلى انعدام النظير الذي تقيس عليه مما عرف من تاريخ «فرعون موسى» وهو ما نرجو أن تجليه الأيام. أما فرائد إعجاز القرآن في تفسير أعلامه الأعجمية على منهج هذا الكتاب، فهي عديدة: أعظمها بإطلاق علم القرآن وقت نزوله بما لم يعلمه مخلوقٌ حتى أواسط القرن التاسع عشر لميلاد المسيح وأوائل هذا القرن، من مثل موسى وفرعون ومصر وسيناء بلغة آل فرعون. وثانيها في الترتيب مخالفة القرآن أهل الكتاب في تفسير معاني أعلامهم، من مثل آدم ونوح وإبراهيم وموسى وداود وعيسى وأيضًا «إنجيل»: أخطأ أصحاب اللغة وأصاب القرآن. وقد دأب لفيف من علماء القرآن في هذا العصر على التصدي لكل قائل بوجه من وجوه إعجاز القرآن «العلمي»، أعني سبق القرآن إلى هذه النظرية أو تلك مما ينكشف للعلم الحديث، يخشون أن تنهار «النظرية» فينهار وجه الإعجاز، فكم انتقل العلم بنظرياته في القرون الثلاثة الأخيرة من النقيض إلى النقيض. وقد بالغ بعضهم في هذا فرد القول بأن في الآية الكريمة: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون} [النحل: 88] ما يشهد لدوران الأرض حول محورها قبل أن يقولها جاليليو ويحاكم من أجلها في أوائل القرن السابع عشر، وهي الآن قانون لا يشك فيه أحد: آثروا الوقوف عدما قاله قدامى المفسرين فقالوا هذا من مشاهد يوم القيامة! وأهملوا تعقيبه عز وجل: «صنع الله الذي أتقن كل شيء» الذي لا يقال في مشاهد يوم القيامة. هذا التحرز، وإن حسنت النيات، مرذول، لأنه يطمس أعظم ما في القرآن: دليلُ العلم ودليل القدرة، الشاهدُ له عصرًا بعد عصر بأنه الحَقُ من الحَقِّ نزل: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} [فصلت: 53]. على أن هذا اللفيف من علماء القرآن – حَسِنِي النية – الذين يضربون على أيدي «العلميين» المعاصرين المسلمين ليزجروهم عن التفسير «العلمي» للآيات «العلمية» في القرآن بغير ما فسرت به في [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/397] كتب التفسير حتى عصر القرطبي في القرن السابع الهجري، لا يقفون من قُدامى المفسرين هؤلاء نفس الموقف، بل يغضون الطرف على اجتهادات أولئك المفسرين القدماء في فهم تلك الآيات العلمية في القرآن بحسب التصور «العلمي» الذي تحقق لهم في عصرهم. ولم يقل أحد أن انهيار قول المفسرين القدماء في تفسير هذه الآية أو تلك من الآيات العلمية في القرآن، قد نال من هيبة القرآن، فلا قداسة لقول إلا قول الله وقول رسوله: سقط التفسير القديم الذي صيغ في حدود التصور العلمي السائد في عصر هذا المفسر أو ذاك، وحل محله تفسير أصح منه، يطابق ما ارتقى إليه العلم. لا تثريب على هذا أو ذاك. والذي ينبغي التنبيه إليه أن تفاسير القرآن في كل عصر، إنما يعكس كل منها علوم عصره، أعني «حالة العلم» في العصر الذي كُتِبَت فيه. ومن عجائب القرآن في مقولاته «العلمية» تلك الصياغة التي اتسعت لكل التفاسير في كل عصر بمفهوم العصر، يأخذ كل عصر بحظه من فهمها، وهي مع ذلك صياغة غاية في الدقة، لا يرقى إلى إحكامها قول بشر، وليس الإعجاز «العلمي» في القرآن هو فحسب سبقه إلى هذه الحقيقة العلمية أو تلك، وإنما هو أيضًا وبالأخص انطباقٌ مقولة القرآن على كل مقولة يكتشفُها العلم، أو «يصححها» العلم، لا تستطيع البتة مهما تقدم العلم وتبدلت النظريات أن تخطيء القرآن في مقولة علمية واحدة قال بها، وإنما تخطيء تفسيرك «القديم» لهذه المقولة التي في القرآن: ما أن تنبذ مقولة علمية اكتشف العلم خطأها حتى ترجع إلى تفسيرك «القديم» فتكتشف خطأ هذا التفسير الذي تعجلت فيه، وتندهش كيف فاتك هذا اللفظ أو ذاك، أخطأت وأصاب القرآن، كلام الله القديم. هذا الإعجاز الدائم المستمر، دليل العلم الكلي المطلق، إعجاز يعظ به الله الذين آمنوا في كل عصر إلى قيام الساعة، فيزيدهم إيمانًا. أما الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم، فذرهم في جهالتهم، وما لهؤلاء نكتب هذا الكتاب. أما هذا الوجه الجديد من إعجاز القرآن الذي فتح الله علينا به في هذا الكتاب، فهو الإعجاز «المعجز»، لأنه إعجاز محسوم، مقطوع به، لا يستطيع المعاند له دحضا. [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/398] قد يجوز في مقولات القرآن العلمية أن يتصدى لك الجاحد المكابر فيقول لك: ومن أدراك أن مقولة القرآن التي صدقت في الماضي والحاضر ستصدق أيضًا في المستقبل وباب العلم مفتوح، وربما ينكشف للعلميين غدًا قول جديد يناقض مقولة القرآن؟ مثل هذا لا يجوز على مقولات هذا الكتاب الذي بين يديك، فلفظة «فرعون» على سبيل المثال («ﭘرعا» في المصرية القديمة) التي تعني عند علماء المصريات «البيت الكبير» (أو «الصريح» كما فسرت في القرآن) لا يمكن أن تعني غدًا أو بعد غد وإلى قيام الساعة شيئًا آخر غير البيت الكبير أو الصرح، أو أن المصريين القدماء يمكن أن ينقلوا هذا اللفظ عن معناه في لغته، كما يحدث في غيرها من اللغات، فقد انقرض المصريون القدماء وبادت لغتهم. قد انتهى الأمر، وأصبحت مقولة «فرعون = الصرح» حقيقة علمية لا تقبل التعديل إلى قيام الساعة، كحقيقة دوران الأرض حول محورها التي عاينها رواد الفضاء مثلما عاينوا الليل الذي ينسلخ منه النهار. وقد قالها القرآن «فرعون = الصرح» قبل ثلاثة عشر قرنًا من يوم كانت اللغة المصرية القديمة، والتاريخ المصري القديم، طلاسم مطلسمة، لم يأخذ من أهل التوراة أن معناها «الملك» كما وهموا، بل قد علم القرآن منذ متى كني المصريون القدماء عن ملوكهم بلقب «فرعون» فخص به فرعون موسى وحده، لم يسم بها فرعون إبراهيم أو فرعون يوسف كما قال كتبة التوراة، وإنما قال «الملك». ولم يكتف القرآن بهذا بل حدد لك من هو الفرعون المعني، فقال «فرعون ذو الأوتاد». هذا هو دليل العلم الكلي المطلق. ليس إلى نقضه من سبيل. والحمد لله رب العالمين. اللهم اجعل هذا العمل خالصًا لوجهك، نافعًا لعبادك، تهدي به من تشاء إلى صراطك المستقيم. الإسكندرية في 27 رمضان سنة 1411هـ 12 إبريل سنة 1991م). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 389-399] |
الساعة الآن 05:25 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir