قوله: (وإن كان حكماً شرعياً) الظاهر أن هذا معطوف على قوله: (ثم الجامع إن كان وصفاً... فهو علة لا خلاف في ثبوت الحكم به..) ثم قال:
(وإن كان حكماً شرعياً فالمحققون تجوز عليته) لأنه ذكر أن الجامع يكون وصفاً وفَصَّلَ القول فيه، ثم ذكر أنه يكون حكماً، وهذا التفصيل فيه، فيجوز أن يكون الحكم الشرعي علة لحكم شرعي، وهذا قول المحققين، ونسبه ابن اللحام إلى الأكثر[(962)].
وذلك كقولنا: من صح طلاقه صح ظهاره، وتحرم الخمر فلا يصح بيعها كالميتة، فالعلة الجامعة بينهما التحريم، وهو حكم شرعي عُلِّل به حكم شرعي، وهو فساد البيع.
قوله: (لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أرأيت لو كان على أبيك دين»[(963)] ، «أرأيت لو تمضمضت»[(964)] ) هذا الدليل على جواز كون العلة حكماً شرعياً، فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم نبّه بحكم شرعي، وهو وجوب قضاء دين المخلوق، على حكم شرعي، وهو قضاء دين الخالق. وفي الثاني: نبَّه على جواز القبلة للصائم بجواز المضمضة له؛ وكلاهما حكم شرعي.
وأمَّا التعليل فقالوا: إن أحد الحكمين قد يكون دائراً مع الحكم الآخر وجوداً وعدماً، والدوران يفيد ظن العلية، فإذا حصل في الحكم الشرعي حصل ظن العلية.
فمثلاً: جواز رهن المشاع[(965)] يوجد مع جواز بيعه وجوداً وعدماً، فما صح بيعه صح رهنه، وما لم يصح بيعه لم يصح رهنه، فيكون جواز بيع المشاع علة لجواز رهنه.
ولأن عِلَلَ الشارع مُعَرِّفات، فللشارع أن ينصب حكماً دليلاً على حكم آخر، كما ينصب النجاسة التي هي حكم شرعي دليلاً على تحريم البيع، أو على تحريم الأكل، وكلاهما حكم شرعي، ويدل لذلك ما تقدم في الحديث.
قوله: (وقيل: لا) هذا القول الثاني: وهو أنه لا يجوز تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي، وما ورد منه فهو قياس دلالة، لا علة فيه، ويُعزى هذا إلى بعض المتكلمين، وابن عقيل[(966)].
قالوا: لأن الحكم شأنه أن يكون معلولاً، فلو صار علة لانقلبت الحقائق، ولأن الحكمين متساويان في أن كل واحد منهما حكم شرعي فليس جعل أحدهما علة للآخر بأولى من العكس.
وأجيب عن الأول: بالمنع؛ فإنه لا يمتنع أن يكون الحكم معلولاً لعلته، وعلة معرّفةً لحكم آخر غير علته.
وأجيب عن الثاني: بأن المناسبة تعيّن أحدهما للعلية، والآخر للمعلولية، كما تقول: نجس فيحرم، وطاهر فتجوز به الصلاة، فإن النجاسة مناسبة للتحريم، والطهارة مناسبة لإباحة الصلاة، ولو عُكِسَ هذا فقيل: حرام فينجس، لم ينتظم، فإنه قد يحرم بيعه لغصبه، أو للعجز عن تسليمه، أو غير ذلك.
والقول الأول أرجح؛ لقوة مأخذه، والله أعلم.