قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ}. أيْ: لصلاةِ الْجُمُعَةِ مِن يومِ الْجُمُعَةِ، وسُمِّيَ اليومُ جُمُعَةً؛ لأنَّه جُمِعَ في هذا اليومِ خَلْقُ آدَمَ. وقدْ رَوَى بعضُهم هذا مَرفوعاً إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ.
وقولُه تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}. قَرَأَ عمرُ وابنُ مَسعودٍ وابنُ الزُّبَيْرِ: (فامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ).
قالَ ابنُ مسعودٍ: لو قَرأتُ: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}. لسَعَيْتُ حتى يَسقُطَ رِدائِي.
والمعروفُ: {فاسْعَوْا}. وقد رُوِيَ عن بعضِ التابعِينَ أنَّهم كانوا يَعْدُونَ.
قالَ ثابِتٌ البُنَانِيُّ: كُنْتُ عندَ أنَسِ بنِ مالِكٍ فنُودِيَ لصلاةِ الْجُمُعَةِ, فقالَ: قُمْ نَسْعَ.
والصحيحُ أنَّ السَّعْيَ ههنا بمعنى العمَلِ والفِعْلِ. قالَه مُجاهِدٌ وغيرُه، وحُكِيَ ذلكَ عن الشافعيِّ, واستَشْهَدَ بقولِه تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}. أي: إلاَّ ما عَمِلَ، وكذلكَ قولُهُ تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} وأمثالُ هذا، وقدْ قالَ الشاعرُ:
أَسْعَى عَلى جُلِّ بَنِي مالِكٍ = كُلُّ امْرِئٍ في شَأْنهِ سَاعِي
فالسَّعْيُ ههنا بمعنَى العمَلِ والتصَرُّفِ.
وعن الحَسَنِ وقَتَادَةَ: أنَّ المرادَ مِن قولِه: {فَاسْعَوْا} هو النِّيَّةُ بالقلْبِ والإرادةُ لها.
وقالَ عبدُ اللَّهِ بنُ الصَّامِتِ: كُنْتُ أَمْشِي معَ أبي ذَرٍّ إلى الجُمُعَةِ فسَمِعْنَا النِّداءَ للصلاةِ، فرَفَعْتُ في مَشْيٍ، فجَذَبَنِي جَذْبَةً، وقالَ: ألَسْنَا نَسْعَى؟
وقولُه: {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} فيه قَولانِ: أحَدُهما: أنَّه الْخُطْبةُ، والآخَرُ أنَّه الصلاةُ، وهو الأَصَحُّ.
وقولُه تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ}. أيْ: واتْرُكُوا البَيْعَ.
ويُقالُ: المرادُ منه: إذا دَخَلَ وقْتُ الصلاةِ, وإنْ لم يُؤَذَّنْ لها بعدُ.
ويُقالُ: إنَّه بعدَ سَماعِ النداءِ. والأوَّلُ أحسَنُ.
ومَن قالَ بالثاني قالَ: النداءُ هو الأذانُ إذا جَلَسَ الإمامُ على الْمِنْبَرِ، وهو الذي كانَ في زَمانِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، وأمَّا الأذانُ الأوَّلُ أحْدَثَه عُثمانُ رَضِيَ اللَّهُ عنه حينَ كَثُرَ الناسُ.
والمرادُ مِن قولِه: {وَذَرُوا الْبَيْعَ}. أي: البَيْعَ والشراءَ وكُلَّ ما يَشْغَلُ عن الْجُمُعَةِ.
واخْتَلَفَ العُلماءُ أنَّه لو باعَ هل يَجوزُ ذلك البَيْعُ؟ فذَهَبَ أكثرُهم إلى أنَّ البيعَ جائزٌ، والنَّهْيَ نَهْيُ كَراهةٍ، وذَهَبَ مالِكٌ وأحمدُ إلى أنَّ البَيْعَ لا يَجوزُ أصْلاً.
وحَكَى بعضُهم عن مالِكٍ أنَّه رَجَعَ مِن التحريمِ إلى الكَراهةِ.
والقوْلُ الأوَّلُ أَوْلَى؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى قالَ: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. جَعَلَ تَرْكَ البيعِ خَيْراً، وهذا يُشيرُ إلى الكَراهةِ في الفعْلِ دُونَ التحريمِ، ولأنَّ النَّهْيَ عن العَقْدِ للاشتغالِ عن الْجُمُعَةِ لا لِعَيْنِ العَقْدِ.
قولُه تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ}. أيْ: فُرِغَ منها.
قولُه تعالى: {فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}. هو أمْرُ نَدْبٍ, لا أمْرُ حَتْمٍ وإيجابٍ، مِثلُ قولِه تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}.
وعن ابنِ مُحَيْرِيزٍ قالَ: يُعجِبُنِي أنْ يَكُونَ لي حَاجةٌ بعدَ الجُمُعَةِ فأَنْصَرِفَ إليها، وأَبتغِيَ مِن فضْلِ اللَّهِ منها.
وعن عبدِ اللَّهِ بنِ بُسْرٍ: أنَّه كانَ يَخرُجُ مِن الْمَسجِدِ إذا صَلَّى الْجُمُعَةَ، ثم يَعودُ ويَجلِسُ إلى أنْ يُصَلِّيَ العَصْرَ.
وفي بعضِ الأخبارِ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ في معنَى قولِه تعالى: {فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}. قالَ: ((لَيْسَ هُوَ طَلَبَ دُنْيَا، وَإِنَّمَا هُوَ عِيَادَةُ مَرِيضٍ، أَوْ شُهُودُ جِنَازَةٍ, أَوْ زِيَارَةُ أَخٍ فِي اللَّهِ)). والخبرُ غريبٌ.
وقولُه: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. ظاهِرُ المعنَى.
قولُه تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا}. سببُ نُزولِ هذه الآيةِ: أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ كانَ على الْمِنْبَرِ يَخطُبُ، وقدْ كانَ أصابَ أهْلَ المدينةِ غَلاءٌ ومَجاعةٌ، فقَدِمَتْ عِيرٌ تَحْمِلُ الطعامَ - ويُقالُ: كانَتْ لدِحْيَةَ بنِ خَلِيفةَ الكَلْبِيِّ - فنَزَلُوا عندَ أحجارِ الزيتِ، وضَرَبُوا بالطبْلِ ليَعلَمَ الناسُ,فسَمِعَ المُسلمِونَ ذلكَ في المسجِدِ فذَهَبُوا إليها, وبَقِيَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ معَ اثْنَيْ عشَرَ نَفَراً, فيهم أبو بَكْرٍ وعُمَرُ.
وأوْرَدَ البُخارِيُّ خَبَراً في هذا, وأَوْرَدَ هذا العددَ, وقيلَ: في ثمانيةِ رِجالٍ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ فأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى هذه الآيةَ.
والتجارةُ معلومةٌ، وهي التجارةُ في الطعامِ وتَحصيلُها, واللَّهْوُ هو الطبْلُ. قالَه مُجاهِدٌ.
ويُقالُ: هو الْمَزامِيرُ, وكانَ الأنصارُ يَستعمِلُونَ ذلك إذا زَفُّوا امْرَأةً إلى زَوْجِها، وذلك مِثلُ الدُّفِّ والطبْلِ وما يُشبِهُه.
فعلى هذا القولِ سَمِعَ المسلمونَ صَوْتَها في السُّوقِ - وكانوا يَزُفُّونَ امرأةً - فذَهَبُوا إليها. والأوَّلُ هو المشهورُ وهو الثابتُ.
وقولُه: {وَتَرَكُوكَ قَائِماً}؛ لأنَّه كانَ يَخطُبُ، وفيهِ دليلٌ على أنَّ السُّنَّةَ أنْ يَخْطُبَ قائماً، وأوَّلُ مَن خَطَبَ قاعداً مُعاويةُ وتَبِعَه على ذلكَ مَرْوَانُ. والسُّنَّةُ ما بَيَّنَّا.
فإنْ قالَ قائلٌ: كيفَ قالَ: {انْفَضُّوا إِلَيْهَا}. وقدْ تَقدَّمَ سَببانِ: التِّجارةُ واللَّهْوُ، ولم يَقُلْ: انْفَضُّوا إليهما؟
والجوابُ: أنَّ مَعناهُ: وإذا رَأَوْا تِجارةً انْفَضُّوا إليها, وإذا رَأَوْا لَهْواً انْفَضُّوا إليه. فاكتَفَى بأَحَدِهما عن الآخَرِ، وقدْ ذَكَرْنا مِن قَبلُ أنَّ العرَبَ قدْ تَذكُرُ شَيئَيْنِ وتَرُدُّ الكنايةَ إلى أحَدِهما، والمرادُ كِلاهُما؛ قالَ الشاعرُ:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنا وأَنْتَ بِمَا = عِنْدَكَ رَاضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
ويُقالُ: في الآيةِ تَقديمٌ وتأخيرٌ. ومَعناه: وإذا رَأَوْا تِجارةً انْفَضُّوا إليها أو لَهْواً. والانفضاضُ هو الذَّهابُ بسُرعةٍ.
وقولُه: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ}. أيْ: ذِكْرُ اللَّهِ تعالى والاشتغالُ في الصلاةِ خيرٌ مِن اللَّهْوِ والتجارةِ.
وقولُه: {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}. قالَ الزَّجَّاجُ: مَعناه: أنَّه يَرْزُقُكم ولا يُمْسِكُه عنكم, فلا تَشْتَغِلوا بطَلَبِه عن الصلاةِ وعن ذِكْرِ اللَّهِ.
ويُقالُ: الرزْقُ مُسْجَلَةٌ للبَرِّ والفاجِرِ.
ورَوَى الحسَنُ البَصْرِيُّ, أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قالَ حِينَ نَفَرَ الناسُ إلى العِيرِ وبَقِيَ في اثْنَيْ عشَرَ رَجُلاً: ((لَوْ لَحِقَ آخِرُهُمْ أَوَّلَهُمْ لاَضْطَرَمَ الْوَادِي عَلَيْهِمْ نَاراً)).
وقدْ وَرَدَ أخبارٌ كثيرةٌ في فضْلِ الْجُمُعَةِ وَثوابِها؛ منها ما رَوَى سعيدُ بنُ المُسَيِّبِ، عن جابرٍ, عن عبدِ اللَّهِ, أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمُوتُوا، وَبَادِرُوا بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ أَنْ تُشْغَلُوا، وَصِلُوا الَّذِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ بِكَثْرَةِ ذِكْرِكُمْ لَهُ وَالصَّدَقَةِ فِي السِّرِّ وَالْعَلاَنِيَةِ, تُنْصَرُوا وَتُجْبَرُوا وَتُرْزَقُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْجُمُعَةَ فِي مَقَامِي هَذَا, فِي يَوْمِي هَذَا, فِي شَهْرِي هَذَا, فِي عَامِي هَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ تَرَكَهَا فِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدَ مَوْتِي وَلَهُ إِمَامٌ عَادِلٌ أَوْ جَائِرٌ؛ اسْتِخْفَافاً بِهَا وَجُحُوداً لَهَا, أَلاَ فَلاَ جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ، وَلاَ بَارَكَ لَهُ فِي أَمْرِهِ, أَلاَ لاَ.....)).
وروَى مالِكٌ عن سُمَيٍّ, عن أبي صالِحٍ, عن أبي هُريرةَ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قالَ: ((مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ, ثُمَّ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشاً أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا شَرَعَ الإِمَامُ طُوِيَتِ الصُّحُفُ، وَحَضَرَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ)).
قالَ رَضِيَ اللَّهُ عنه: أخْبَرَنا بذلكَ أبو الحُسَيْنِ بنُ النقورِ، أخْبَرَنا أبو طاهرٍ المُخْلِصُ, أخْبَرَنا يَحْيَى بنُ محمَّدِ بنِ صاعِدٍ، أخْبَرَنا أبو مُصْعَبٍ, عن مالِكٍ الخبرَ.
ووَرَدَ أيضاً بروايةِ عِمرانَ بنِ الْحُصينِ, عن أبي بكرٍ الصدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عنه, أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قالَ: ((مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسِلَتْ ذُنُوبُهُ وَخَطَايَاهُ, فَإِذَا رَاحَ كَتَبَ اللَّهُ بِكُلِّ قَدَمٍ عَمَلَ عِشْرِينَ سَنَةً، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ أُجِيزَ بِعَمَلِ مِائَتَيْ سَنَةٍ)). والخبَرُ غريبٌ جِدًّا.
والخبرُ الثالثُ: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قالَ: ((مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَلَبِسَ مِنْ صَالِحِ ثِيَابِهِ، وَمَسَّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى، وَزِيَادَةُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ)). ذكَرَه البُخاريُّ في كِتابِه.
ووَرَدَ أيضاً في بعضِ الأخبارِ, أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قالَ: ((مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ, طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ)). واللَّهُ أعْلَمُ.