علْمُ البديعِ(1)
البديعُ(2) علْمٌ(3) يُعرَفُ به(4) وجوهُ تحسينِ الكلامِ(5) المطابِقِ لِمُقْتَضَى الحالِ(6).
وهذه الوجوهُ(7) ما يَرجِعُ منها(8) إلى تحسينِ المعنى(9) يُسمَّى(10) بالمحسِّناتِ المعنويَّةِ(11).
كقولِك لشخصٍ يَضُرُّ الناسَ: خيرُ الناسِ من يَنفعُهم(1).
وما يَرجِعُ منها إلى تحسينِ اللفظِ(1) يُسمَّى(2) بالمحسِّناتِ اللفظيَّةِ(3).
_____________________
(1) علْمُ البديعِ
آخِرُ علومِ البلاغةِ الثلاثةِ.
(2) (البديعُ) لغةً المُخْتَرَعُ الموجودُ على غيرِ مثالٍ سابقٍ, أو الغريبُ من بَدُعَ الشيءُ بضَمِّ الدالِ إذا كان غايةً فيما هو فيه من علْمٍ أو غيرِه حتى صارَ غريباً فيه لطيفاً, واصطلاحاً.
(3) (علمٌ) أي: مَلَكةٌ حاصلةٌ من ممارَسةِ مسائلِه المقرَّرةِ.
(4) (يُعرَفُ به) أي: بسببِ هذا العلْمِ.
(5) (وجوهُ تحسينِ الكلامِ ) أي: الوجوهُ والمزايا التي يَصيرُ بها الكلامُ حسَناً، والمرادُ بالمعرفةِ هنا مطلَقُ الإدراكِ بمعنى أننا نتصوَّرُ بهذا العلْمِ وبالملَكةِ الحاصلةِ من ممارسةِ مسائلِه معانيَ تلك الوجوهِ المحسِّنَةِ, ونُصَدِّقُ بأعدادِها وتفاصيلِها بقدرِ الطاقةِ، وليس المرادُ بها الإدراكاتِ الجزئيةَ المتعلِّقةَ بالفروعِ المستخرَجةِ من القواعدِ كما سَبقَ في عِلْمَي المعاني والبيانِ؛ لأنه لا قواعدَ لهذا العلْمِ حتى يُستخرَجَ منها فروعٌ فتَدبَّرْ.
(6) (المطابِقِ لمقتضى الحالِ) أي: مع وضوحِ دَلالتِه على معناه، فلا تُعَدُّ تلك الوجوهُ محسِّنَةً للكلامِ إلا بعدَ رعايةِ الأمرين: الأمرُ الأوَّلُ مطابقةُ الكلامِ لِمُقْتَضَى الحالِ, وهذه تُعرَفُ بعلْمِ المعاني, والأمرُ الثاني وضوحُ دَلالتِه وهذا مُبَيَّنٌ في علْمِ البيانِ وإلا كانت تلك الوجوهُ كتعليقِ الدُّرِّ في أعناقِ الخنازيرِ, وليس رعايتُهما قَيْداً في تعريفِ علْمِ البديعِ، بل ذُكِرا فيه لبيانِ أن رعايتَهما شرطٌ في كون الوجوهِ المبحوثةِ فيه محسِّنةً لا في معرفتِها. وأما واضِعُه فهو الخليفةُ عبدُ اللهِ بنُ المعتَزِّ بنِ المتوكِّلِ العباسيُّ المتَوَفى سنةَ 296، فهو أوَّلُ من ألَّفَ فيه, ثم اقْتَفى أثرَه قُدامةُ بنُ جعفرٍ الكاتبُ, ثم أَلَّفَ فيه كثيرونَ, كأبي هِلالٍ العَسْكَريِّ وابنِ رُشَيقٍ القَيْرَوانيِّ وصَفِيِّ الدينِ الْحُلِّيِّ وابنِ حُجَّةَ الْحَمَوِيِّ وغيرِهم.
(7) (وهذه الوجوهُ) أي: وجوهُ تحسينِ الكلامِ الحاصلِ بعدَ الرعايةِ السابقةِ مبتدأٌ أوَّلٌ.
(8) (ما يرجِعُ منها) أي: من هذه الوجوهِ مبتدأٌ ثانٍ.
(9) (إلى تحسينِ المعنى) أوَّلاً وبالذاتِ.
(10) (يُسَمَّى) أي: هذا النوعُ.
(11) (بالمحسِّناتِ المعنويَّةِ) وإن كان بعضُ أفرادِه قد يُفيدُ تحسينَ اللفظِ أيضًا, لكن ثانياً وبالعَرَضِ
(1) (كقولِك لشخصٍ يَضُرُّ الناسَ: خيرُ الناسِ من يَنفعُهم) كِنايةً عن نفي الخيريَّةِ عن الذي يَضُرُّ الناسَ؛ لأن حصْرَ الخيريَّةِ فيمن يَنفعُ الناسَ مِن لازِمِه انتفاؤها عن كلِّ مَن يَضُرُّهم وهذا هو المعنى الكِنائيُّ, ويُفهمُ منه بطريقِ التعريضِ الذي هو الإفهامُ بالسياقِ أنَّ هذا الشخصَ المعَيَّنَ انتَفَتْ عنه الخيريَّةُ, هذا وقد يكونُ التعريضُ حقيقةً, وقد يكونُ مَجازاً, فالأوَّلُ كقولِك: لستُ أتكلَّمُ أنا بسُوءٍ فيَمْقُتَني الناسُ, وأردْتَ إفهامَ أنَّ زيداً ممقوتٌ؛ لأنه تَكلَّمَ بسُوءٍ فالكلامُ حقيقةٌ, ولكنه لما سِيقَ عندَ تَكلُّمِ زيدٍ بالسوءِ كان فيه تعريضٌ بمقتِه, وفُهِمَ هذا المعنى من السياقِ لا من الوضْعِ. والثاني: كقولِك: رأيتُ أُسُوداً في الحمَّامِ غيرَ كاشفين العورةِ, فما مُقِتُوا, ولا عِيبَ عليهم, تعريضاً بمن حضَرَ منهم أنه كَشَفَ عورتَه في الحمَّامِ, فمُقِتَ وعِيبَ عليه, فالكلامُ مَجازٌ ولكنه فُهِمَ منه هذا المقصودُ من السياقِ لا من المعنى المَجازيِّ, وبهذا ظهَرَ أن التعريضَ يكونُ لفظُه تارةً حقيقةً, وتارةً مَجازاً وأخرى كِنايةً فتدَبَّرْ أعني بالتبعيَّةِ لتحسينِ المعنى كالمشاكَلَةِ, وهي ذكْرُ الشيءِ بلفظِ غيرِه لوقوعِه في صُحبتِه, كالتعبيرِ عن الخِياطةِ بالطبخِ لوقوعِها في صحبتِه، فاللفظُ حسَنٌ؛ لما فيه من إيهامِ المجانَسةِ اللفظيَّةِ؛ لأن المعنى مختلِفٌ، واللفظَ متَّفِقٌ، لكنَّ الغرَضَ الأصليَّ جعْلُ الخياطةِ كطبخِ المطبوخِ لوقوعِها في صحبتِه.
(1) (و ما يَرجِعُ منها إلى تحسينِ اللفظِ) أوَّلاً وبالذاتِ.
(2) (يُسَمَّى) أي: هذا النوعُ.
(3) (بالمحسِّناتِ اللفظيَّةِ) وإنْ كان بعضُ أفرادِه قد يُفيدُ تحسينَ المعنى أيضاً لكن بطريقِ التَّبَعِ والعُروضِ لتحسينِ اللفظِ. هذا وقد أَجمعوا على أن المحسِّناتِ كلَّها وخصوصاً اللفظيَّةَ لا تَقعُ موقعَها من الحُسْنِ إلا إذا طلَبَها المعنى, فجاءتْ عفْواً بدونِ تكلُّفٍ وإلا فمُبْتَذَلةٌ.