دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > العقيدة الطحاوية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30 ذو القعدة 1429هـ/28-11-2008م, 03:01 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي الإيمان بالعرش والكرسي

وَالعَرْشُ وَالكُرْسِيُّ حَقٌّ.
وهو مُسْتَغْنٍ عن العرشِ وَمَا دُونَهُ.
مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ.
وقد أَعْجَزَ عن الإحاطةِ خَلْقَهُ.

  #2  
قديم 1 ذو الحجة 1429هـ/29-11-2008م, 05:08 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التعليقات على الطحاوية لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله ابن باز

[لا يوجد تعليق للشيخ]

  #3  
قديم 1 ذو الحجة 1429هـ/29-11-2008م, 05:10 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التعليقات المختصرة للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان

(1) وَالعَرْشُ وَالكُرْسِيُّ حَقٌّ.
(2) وهو مُسْتَغْنٍ عن العرشِ وَمَا دُونَهُ.
(3) مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ.
(4) وقد أَعْجَزَ عن الإحاطةِ خَلْقَهُ.




(1) اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ، وخَلَقَ الأَرْضَ، وخَلَقَ الكُرْسِيَّ، وخَلَقَ العَرْشَ، كُلُّهَا مَخْلُوقاتٌ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، السَّمَاوَاتُ فوقَ الأَرْضِ، وفوقَ السَّمَاوَاتِ البحرُ، وفوقَ البحرِ الكُرْسِيُّ، وفوقَ الكُرْسيِّ العرشُ، فهو أَعْلَى المَخْلُوقاتِ، وذلكَ كما جاءَ في الحديثِ: (إِنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ بِالنِّسْبَةِ لِلْكُرْسِيِّ كَسَبْعِ دَرَاهِمَ أُلْقِيَتْ فِي تُرْسٍ)، يَعْنِي: السَّمَاوَاتِ السبعَ وَعِظَمَهَا وما فيها – مُقَارَنَةً بالكُرْسِيِّ – كسبعةِ دراهمَ أُلْقِيَتْ في مثلِ الصحنِ الذي يَتَتَرَّسُ بهِ المُقَاتِلُ، فما نِسْبَةُ سبعةِ دراهمَ في تُرْسٍ مستديرٍ؟ نِسْبَتُهَا قليلةٌ، وفي ذلكَ قولُهُ تَعَالَى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (البَقَرَة: 255)، والعرشُ أعظمُ من الكرسيِّ، فالكرسيُّ بالنسبةِ إلى العرشِ كحَلَقَةٍ مُلْقَاةٍ في أرضٍ فَلاَةٍ، كما جاءَ في الحديثِ، فلو أَلْقَيْتَ حَلْقةً في أرضٍ واسعةٍ فما نِسْبَتُهَا إلى هذهِ الفلاةِ؟ لا شَيْءَ.

هذه مَخْلُوقاتٌ عظيمةٌ وواسعةٌ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

فالعرشُ أعلى المَخْلُوقاتِ، واللَّهُ سُبْحَانَهُ عَالٍ فَوْقَ عَرْشِهِ, فَوْقَ مَخْلُوقاتِهِ.

والكرسيُّ تحتَ العرشِ، وجاءَ في الأثرِ: أَنَّهُ مَوْضِعُ القَدَمَيْنِ، فالكرسيُّ مَخْلُوقٌ، ولَيْسَ المقصودُ بهِ العلمَ، كما نُسِبَ ذلكَ لابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ في قولِهِ: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} أي: عِلْمُهُ، أي: وَسِعَ عِلْمُهُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ. المعنى صحيحٌ، ولكنْ لَيْسَ هذا المقصودَ من الآيةِ، فالكرسيُّ مَخْلُوقٌ، والعلمُ صفةٌ من صفاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ليستْ من مَخْلُوقاتِهِ، فَيَجِبُ الإيمانُ بالعرشِ وبالكرسيِّ، هذا حَقٌّ على حقيقتِهِ، ولَيْسَ العرشُ كما يقولُهُ الأشاعرةُ - وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ – إِنَّ العرشَ هو المُلْكُ، فيقولونَ في قولِهِ تَعَالَى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (الأَعْرَاف: 54)، أي: اسْتَوْلَى على المُلْكِ، وهذا ضلالٌ، فالعرشُ مَخْلُوقٌ: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} (هُود: 7)، فالعرشُ تحتَهُ الكرسيُّ، والكرسيُّ تحتَهُ السَّمَاوَاتُ، والأَرْضُ تَحْتَالسماواتِ. في الحديثِ: (فَإِذَا سَأَلْتُم اللَّهَ الجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ الأَعْلَى، فَإِنَّهُ وَسَطُ الْجَنَّةِ وأَعْلَى الجَنَّةِ، وفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ)، فالفِرْدَوْسُ هو أَعْلَى الجِنَانِ وَفَوْقَه عَرْشُ الرَّحْمَنِ.

فعرشُهُ مَخْلُوقٌ ولهُ حَمَلَةٌ، وهم طائفةٌ من المَلاَئِكَةِ: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (الحَاقَّة: 17) قبلَ يومِ القيامةِ يَحْمِلُهُ أربعةٌ، فإذا جاءَ يومُ القيامةِ تَضَاعَفُوا وصَارُوا ثمانيةً، فكُلُّ واحدٍ من المَلاَئِكَةِ لا يُتَصَوَّرُ خَلْقُهُ وَعَظَمَتُهُ وَقُوَّتُهُ.
وهلْ يُقَالُ: إذا قِيلَ: إنَّ العرشَ هو المُلْكُ. إنَّ المُلْكَ تَحْمِلُهُ المَلاَئِكَةُ؟


(2) لا تَتَصَوَّرْ أنَّ معنى قولِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (الأَعْرَاف: 54) أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلى العرشِ كاستواءِ المَخْلُوقِ على المَخْلُوقِ، بل اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُسْتَوٍ على العرشِ، وهو غَنِيٌّ عن العرشِ وما دونَ العرشِ.

جميعُ المَخْلُوقاتِ مُحْتَاجَةٌ إلى اللَّهِ {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} (فاطِر: 41) فهو الذي يُمْسِكُ العرشَ، ويُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ، ويُمْسِكُ الأَرْضَ والمَخْلُوقاتِ، بِقُدْرَتِهِ وَعِزَّتِهِ، فهي المحتاجةُ إليهِ، وهو غَنِيٌّ عنها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

ولا يَلْزَمُ مِن كونِ الشيءِ فوقَ الشيءِ أنْ يكونَ الأعلى مُحْتَاجًا إلى ما تحتَهُ، فالسَّمَاوَاتُ فوقَ الأَرْضِ وليستْ محتاجةً إلى الأَرْضِ.


(3) محيطٌ عِلْمُهُ بكُلِّ شَيْءٍ، وهو فوقَ المَخْلُوقاتِ، فَعِلْمُهُ محيطٌ بكُلِّ شَيْءٍ {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ} (آل عِمْرَان: 5) وَإِحَاطَتُهُ بالأشياءِ: عِلْمُهُ بها، وَإِلاَّ فاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ في جِهَةِ الْعُلُوِّ.

(4) فاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِم وما خَلْفَهُم ولا يُحِيطُونَ بهِ عِلْمًا، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (البَقَرَة: 255) فاللَّهُ محيطٌ بكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (الطَّلاَق: 12).

  #4  
قديم 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م, 08:56 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي


وقوله: ( والعرش والكرسي حق ).

ش: كما بين تعالى في كتابه، قال تعالى: ذو العرش المجيد * فعال لما يريد. رفيع الدرجات ذو العرش. ثم استوى على العرش، في غير ما آية من القرآن: الرحمن على العرش استوى. لا إله إلا هو رب العرش الكريم. الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم. الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا. ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية. وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم. وفي دعاء الكرب المروي في الصحيح: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا هو رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم. وروى الإمام أحمد في حديث الأوعال عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تدرون كم بين السماء والأرض ؟ قال: قلنا الله ورسوله أعلم، قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة، وفوق السماء السابعة بحر [ بين ] أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، [ ثم فوق ذلك ثمانية أوعال، بين ركبهن وأظلافهن - كما بين السماء والأرض ]، ثم فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله فوق ذلك، ليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء. ورواه أبو داود و الترمذي و ابن ماجه. وروى أبو داود وغيره، بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، من حديث الأطيط، أنه صلى الله عليه وسلم قال: إن عرشه على سمواته لهكذا، وقال بأصابعه، مثل القبة. الحديث، وفي صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وفوقه عرش الرحمن. يروى وفوقه بالنصب على الظرفية، وبالرفع على الابتداء، أي: وسقفه.
وذهب طائفة من أهل الكلام إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه محيط بالعالم من كل جهة، وربما سموه: الفلك الأطلس، والفلك التاسع ! وهذا ليس بصحيح، لأنه قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة، كما قال صلى الله عليه وسلم: فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور. والعرش في اللغة: عبارة عن السرير الذي للملك، كما قال تعالى عن بلقيس: ولها عرش عظيم. وليس هو فلكاً، ولا تفهم منه العرب ذلك، والقرآن إنما نزل بلغة العرب، فهو: سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم، وهو سقف المخلوقات. فمن شعر أمية ابن أبي الصلت:
مجدوا الله فهو للمجد أهـل = ربنــــا في السماء أمسى كبيراً
بالناء العالي الذي بهر النا = س وسوى فوق السماء سريراً
شرجعاً لا يناله بصر العــ = ـين ترى حوله المــــلائك صوراً
الصور هنا: جمع: أصور، وهو: المائل العنق لنظره إلى العلو. والشرجع: هو العالي المنيف. والسرير: هو العرش في اللغة. ومن شعر عبد الله ابن رواحة رضي الله عنه، الذي عرض به عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته:
شهدت بأن وعد الله حـــــــق = [وأن] النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف = وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة شــــــداد = مــــلائكة الإله مسومينا
ذكره ابن عبد البر وغيره من الأئمة، وروى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش، إن ما بين [شحمة] أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام. ورواه ابن أبي حاتم ولفظه: ثخفق الطير سبعمائة عام.
وأما من حرف كلام الله، وجعل العرش عبارة عن الملك، كيف يصنع بقوله تعالى: ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية. وقوله: وكان عرشه على الماء. أيقول: ويحمل ملكه يومئذ ثمانية ؟! وكان ملكه على الماء ! ويكون موسى عليه السلام آخذاً من قوائم الملك ؟! هل يقول هذا عاقل يدري ما يقول ؟ !
وأما الكرسي فقال تعالى: وسع كرسيه السماوات والأرض. وقد قيل: هو العرش، والصحيح أنه غيره، نقل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره. روى ابن أبي شيبة في كتاب صفة العرش، و الحاكم في مستدركه، وقال: إنه على شرط الشيخين ولم يخرجاه، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، في قوله تعالى: وسع كرسيه السماوات والأرض، أنه قال: الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى. وقد روي مرفوعاً، والصواب أنه موقوف على ابن عباس. وقال السدي: السماوات والأرض في جوف الكرسي بين يدي العرش. وقال ابن جرير: قال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض. وقيل: كرسيه علمه، وينسب الى ابن عباس والمحفوظ عنه ما رواه ابن أبي شيبة، كما تقدم. ومن قال غير ذلك فليس له دليل إلا مجرد الظن. والظاهر أنه من جراب الكلام المذموم، كما قيل في العرش. وإنما هو- كما قال غير واحد من السلف: بين يدي العرش كالمرقاة إليه.

قوله: ( وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه).

ش: أما قوله: وهو مستغن عن العرش وما دونه. فقال تعالى: إن الله لغني عن العالمين. وقال تعالى: والله هو الغني الحميد. وإنما قال الشيخ رحمه الله هذا الكلام هنا، لأنه لما ذكر العرش والكرسي، ذكر بعد ذلك غناه سبحانه عن العرش وما دون العرش، ليبين أن خلقه العرش لاستوائه عليه، ليس لحاجته إليه، بل له في ذلك حكمة اقتضته، وكون العالي فوق السافل، لا يلزم أن يكون السافل حاوياً للعالي، محيطاً به، حاملاً له، [ ولا ] أن يكون الأعلى مفتقراً إليه. فانظر إلى السماء، كيف هي فوق الأرض وليست مفتقرة إليها ؟ فالرب تعالى أعظم شأناً وأجل من أن يلزم من علوه ذلك، بل لوازم علوه من خصائصه، وهي حمله بقدرته للسافل، وفقر السافل، وغناه هو سبحانه عن السافل، وإحاطته عز وجل به، فهو فوق العرش مع حمله بقدرته للعرش وحملته، وغناه عن العرش، وفقر العرش إليه، وإحاطته بالعرش، وعدم إحاطة العرش به، وحصره للعرش، وعدم حصر العرش له. وهذه اللوازم منتفية عن المخلوق.
ونفاة العلو، [أهل التعطيل]، لو فصلوا بهذا التفصيل، لهدوا إلى سواء السبيل، وعلموا مطابقة العقل للتنزيل، ولسلكوا خلف الدليل، ولكن فارقوا الدليل، فضلوا عن سواء السبيل. والأمر في ذلك كما قال الإمام مالك رحمه الله، لما سئل عن قوله تعالى: ثم استوى على العرش وغيرها: كيف استوى ؟ فقال الاستواء معلوم والكيف مجهول. ويروى هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: محيط بكل شيء وفوقه، وفي بعض النسخ: محيط بكل شيء فوقه، [بحذف الواو] من قوله: فوقه، والنسخة الأولى هي الصحيحة، ومعناها. أنه، تعالى محيط بكل شيء وفوق كل شيء. ومعنى الثانية: أنه محيط بكل شيء فوق العرش. وهذه - والله أعلم - إما أن يكون أسقطها بعض النساخ سهواً، ثم استنسخ بعض الناس من تلك النسخة، أو أن بعض المحرفين الضالين أسقطها قصداً للفساد، وإنكار لصفة الفوقية ! وإلا فقد قام الدليل على أن العرش فوق المخلوقات وليس فوقه شيء من المخلوقات، فلا يبقى لقوله: محيط - بمعنى: محيط بكل شيء فوق العرش، والحالة هذه: معنى ! إذ ليس فوق العرش من المخلوقات ما يحيط به، فتعين ثبوت الواو. ويكون المعنى: أنه سبحانه محيط بكل شيء، وفوق كل شيء.
أما كونه محيطاً بكل شيء، فقال تعالى: والله من ورائهم محيط. ألا إنه بكل شيء محيط. ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطاً. وليس المراد من إحاطته بخلقه أنه كالفلك، وأن المخلوقات داخل ذاته المقدسة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وإنما المراد: إحاطة عظمته. وسعة علمه وقدرته، وأنها بالنسبة إلى عظمته كخردلة. كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن - إلا كخردلة في يد أحدكم. ومن المعلوم - ولله المثل الأعلى - أن الواحد منا إذا كان عنده خردلة، إن شاء قبضها وأحاط قبضته بها، وإن شاء جعلها تحته، وهو في الحالين مباين لها، عال عليها فوقها من جميع الوجوه، فكيف بالعظيم الذي لا يحيط بعظمته وصف واصف. فلو شاء لقبض السماوات والأرض اليوم، وفعل بها كما يفعل بها يوم القيامة، فإنه لا يتجدد به إذ ذاك قدرة ليس عليها الآن، فكيف يستبعد العقل مع ذلك أنه يدنو سبحانه من بعض أجزاء العالم وهو على عرشه فوق سماواته ؟ أو يدني إليه من يشاء من خلقه ؟ فمن نفى ذلك لم يقدره حق قدره. وفي حديث أبي رزين المشهور الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في رؤية الرب تعالى: فقال له أبو زرين: كيف يسعنا -يا رسول الله - وهو واحد ونحن جميع ؟ فقال: سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله: هذا القمر، آية من آيات الله، كلكم يراه مخلياً به، والله أكبر من ذلك، وإذا أفل تبين أنه أعظم وأكبر من كل شيء. فهذا يزيل كل إشكال، ويبطل كل خيال.
وأما كونه فوق المخلوقات، فقال تعالى: وهو القاهر فوق عباده. يخافون ربهم من فوقهم. وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال المتقدم ذكره: والعرش فوق ذلك، والله فوق ذلك كله. وقد أنشد عبد الله بن رواحة شعره المذكور بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأقره على ما قال: وضحك منه. وكذا أنشده حسان بن ثابت رضي الله عنه قوله:
شهدت بإذن الله أن محمداً = رسول الذي فوق السماوات من عل
وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما = لــــه عمل من ربـه مـتقبل
وأن الذي عادى اليهود ابن مريم = رسول أتى من عند ذي العرش مرسل
وأنا أخا الأحقاف إذ قام فيهم = يجاهد في ذات الإله ويعدل
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا أشهد. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: أن رحمتي سبقت غضبي وفي رواية: تغلب غضبي رواه البخاري وغيره. وروى ابن ماجه عن جابر يرفعه، قال: بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا إليه رؤوسهم، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة، سلام عليكم، ثم قرأ قوله تعالى: سلام قولاً من رب رحيم. فينظر إليهم، وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه. وروى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، في تفسير قوله تعالى: هو الأول والآخر والظاهر والباطن بقوله: أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء. والمراد بالظهور هنا: العلو. ومنه قوله تعالى: فما اسطاعوا أن يظهروه، أي يعلوه. فهذه الأسماء الأربعة متقابلة: اسمان منها لأزلية الرب سبحانه وتعالى وأبديته، واسمان لعلوه وقربه. وروى أبو داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي، فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس [وضاعت العيال] ونهكت الأموال، [وهلكت الأنعام]، فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك ! أتدري ما تقول ؟ وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك ! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك ! أتدري ما الله ؟ إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته، وقال بأصابعه ! مثل القبة [عليه]، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب. وفي قصة سعد بن معاذ يوم بني قريظة، لما حكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات. وهو حديث صحيح، أخرجه الأموي في مغازيه، وأصله في الصحيحين. وروى البخاري عن زينب رضي الله عنها، أنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات. وعن عمر رضي الله عنه: أنه مر بعجوز فاستوقفته، فوقف معها يحدثها، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، حبست الناس بسبب هذه العجوز ؟ فقال: ويلك ! أتدري من هذه ؟ أمرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة التي أنزل الله فيها. قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله أخرجه الدارمي. وروى عكرمة عن ابن عباس، في قوله: ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، قال: ولم يستطع أن يقول من فوقهم، لأنه قد علم أن الله سبحانه من فوقهم.
ومن سمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام السلف، وجد منه في إثبات الفوقية ما لا ينحصر. ولا ريب أن الله سبحانه لما خلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة، تعالى الله عن ذلك، فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فتعين أنه خلقهم خارجاً عن ذاته، ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات، مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم، لكان متصفاً بضد ذلك، لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده، وضد الفوقية: السفول، وهو مذموم على الإطلاق، لأنه مستقر إبليس وأتباعه وجنوده.
فإن قيل: لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها. قيل: لو لم يكن قابلاً للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها، فمتى أقررتم بأنه ذات قائم بنفسه، غير مخالط للعالم، وأنه موجود في الخارج، ليس وجوده ذهنياً فقط، بل وجوده خارج الأذهان قطعاً، وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو: إما داخل العالم وإما خارج عنه، وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى وأظهر من الأمور البديهيات الضرورية بلا ريب، فلا يستدل على ذلك بدليل إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه، وأوضح وأبين. وإذا كان صفة العلو والفوقية صفة كمال، لا نقص فيه، ولا يستلزم نقصاً، ولا يوجب محذوراً، ولا يخالف كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً، فنفي حقيقته يكون عين الباطل والمحال الذي لا تأتي به شريعة أصلاً. فكيف إذا كان لا يمكن الإقرار بوجوده وتصديق رسله، والإيمان بكتابه وبما جاء به رسوله -: إلا بذلك ؟ فكيف إذا انضم إلى ذلك شهادة العقول السليمة، والفطر [المستقيمة]، والنصوص الواردة المتنوعة المحكمة على علو الله على خلقه، وكونه فوق عباده، التي تقرب من عشرين نوعاً: أحدها: التصريح بالفوقية مقروناً بأداة: من، المعينة للفوقية بالذات، كقوله تعالى: يخافون ربهم من فوقهم. الثاني: ذكرها مجردة عن الأداة، كقوله تعالى: وهو القاهر فوق عباده. الثالث: التصريح بالعروج إليه نحو: تعرج الملائكة والروح إليه. وقوله صلى الله عليه وسلم: يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم. الرابع: التصريح بالصعود إليه. كقوله تعالى: إليه يصعد الكلم الطيب. الخامس: التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه، كقوله تعالى: بل رفعه الله إليه. وقوله: إني متوفيك ورافعك إلي. السادس: التصريح بالعلو المطلق، الدال على جميع مراتب العلو، ذاتاً وقدراً وشرفاً، كقوله تعالى: وهو العلي العظيم. وهو العلي الكبير. الله عليم حكيم. السابع: التصريح بتنزيل الكتاب منه، كقوله تعالى: تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم. تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم. تنزيل من الرحمن الرحيم. تنزيل من حكيم حميد. قل نزله روح القدس من ربك بالحق. حم * والكتاب المبين * إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم * أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين. الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده، وأن بعضها أقرب إليه من بعض، كقوله: إن الذين عند ربك. وله من في السماوات والأرض ومن عنده. ففرق بين من له عموماً وبين من عنده من ملائكته وعبيده خصوصاً. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي كتبه الرب تعالى على نفسه: أنه عنده فوق العرش. التاسع: التصريح بأنه تعالى في السماء، وهذا عند المفسرين من أهل السنة على أحد وجهين: إما أن تكون في بمعنى على، وإما أن يراد بالسماء العلو، لا يختلفون في ذلك، ولا يجوز الحمل على غيره. العاشر: التصريح بالاستواء مقروناً بأداة على مختصاً بالعرش، الذي هو أعلى المخلوقات، مصاحباً في الأكثر لأداة: ثم الدالة على الترتيب والمهلة. الحادي عشر: التصريح برفع الأيدي إلى الله تعالى، كقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً. والقول بأن العلو قبلة الدعاء فقط - باطل بالضرورة والفطرة، وهذا يجده من نفسه كل داع، كما يأتي إن شاء الله تعالى. الثاني عشر: التصريح بنزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا، والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى سفل. الثالث عشر: الإشارة إليه حساً إلى العلو، كما أشار إليه من هو أعلم بربه وبما يجب له ويمتنع عليه من جميع البشر، لما كان بالمجمع الأعظم [الذي لم يجتمع لأحد مثله، في اليوم الأعظم، في المكان الأعظم، قال لهم: أنتم مسؤولون عني، فماذا أنتم قائلون ؟ قالوا. نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فرفع أصبعه الكريمة إلى السماء رافعاً لها إلى من هو فوقها وفوق كل شيء، قائلاً: اللهم أشهد. فكأنا نشاهد تلك الأصبع الكريمة وهي مرفوعة إلى الله، وذلك اللسان الكريم وهو يقول لمن رفع أصبعه إليه: اللهم أشهد، ونشهد أنه بلغ البلاغ المبين، وأدى رسالة ربه كما أمر، ونصح أمته غاية النصيحة، فلا يحتاج مع بيانه وتبليغه وكشفه وإيضاحه إلى تنطع المتنطعين، وحذلقة المتحذلقين ! والحمد لله رب العالمين. الرابع عشر: التصريح بلفظ: الأين كقول أعلم الخلق به، وأنصحهم لأمته، وأفصحهم بياناً عن المعنى الصحيح، بلفظ لا يوهم باطلاً بوجه: أين الله، في غير موضع. الخامس عشر: شهادته صلى الله عليه وسلم لمن قال إن ربه في السماء - بالإيمان. السادس عشر: إخباره تعالى عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء، ليطلع إلى إله موسى فيكذبه فيما أخبره من أنه سبحانه فوق السماوات، فقال: يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا. فمن نفى العلو من الجهمية فهو فرعوني، ومن أثبته فهو موسوي محمدي. السابع عشر: إخباره صلى الله عليه وسلم: أنه تردد بين موسى عليه السلام وبين ربه ليلة المعراج بسبب تخفيف الصلاة، فيصعد إلى ربه ثم يعود إلى موسى عدة مرار. الثامن عشر: النصوص الدالة على رؤية أهل الجنة له تعالى، من الكتاب والسنة، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يرونه كرؤية الشمس والقمر ليلة البدر ليس دونه سحاب، فلا يرونه إلا من فوقهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: بينا أهل الجنة في نعيمهم، إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة، سلام عليكم، ثم قرأ قوله تعالى: سلام قولاً من رب رحيم. ثم يتوارى عنهم، وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم رواه الإمام أحمد في المسند، وغيره، من حديث جابر رضي الله عنه. ولا يتم إنكار الفوقية إلا بإنكار الرؤية. ولهذا طرد الجهمية الشقين، وصدق أهل السنة بالأمرين معاً، وأقروا بهما، وصار من أثبت الرؤية ونفى العلو مذبذباً بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ! وهذه الأنواع من الأدلة لو بسطت أفرادها لبلغت نحو ألف دليل، فعلى المتأول أن يجيب عن ذلك كله ! وهيهات له بجواب صحيح عن بعض ذلك !
وكلام السلف في إثبات صفة العلو كثير جداً: فمنه: ما روى شيخ الإسلام أبو اسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق، بسنده إلى مطيع البلخي: أنه سأل أبا حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض ؟ فقال: قد كفر، لأن الله يقول: الرحمن على العرش استوى وعرشه فوق سبع سماواته، قلت: فإن قال: إنه على العرش، ولكن يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض ؟ قال: هو كافر، لأنه أنكر أنه في السماء، فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر. وزاد غيره: لأن الله في أعلى عليين، وهو يدعى من أعلى، لا من أسفل. انتهى. ولا يلتفت إلى من أنكر ذلك ممن ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة، فقد انتسب إليه طوائف معتزلة وغيرهم، مخالفون له في كثير من اعتقاداته. وقد ينتسب إلى مالك و الشافعي و أحمد من يخالفهم في [بعض] اعتقاداتهم. وقصة أبي يوسف في استتابة بشر المريسي، لما أنكر أن يكون الله عز وجل فوق العرش -: مشهورة. رواها عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره.
ومن تأول فوق، بأنه خير من عباده وأفضل منهم، وأنه خير من العرش وأفضل منه، كما يقال: الأمير فوق الوزير، والدينار فوق الدرهم -: فذلك مما تنفر عنه العقول السليمة، وتشمئز منه القلوب الصحيحة ! فإن قول القائل [ابتداء]: الله خير من عباده، وخير من عرشه: من جنس قوله: الثلج بارد، والنار حارة، والشمس أضوأ من السراج، والسماء أعلى من سقف الدار، والجبل أثقل من الحصى، ورسول الله أفضل من فلان اليهود[ي]، والسماء فوق الأرض ! ! وليس في ذلك تمجيد ولا تعظيم ولا مدح، بل هو من أرذل الكلام وأسمجه وأهجنه ! فكيف يليق بكلام الله، الذي لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لما أتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ؟! بل في ذلك تنقص، كما قيل في المثل السائر:
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
ولو قال قائل: الجوهر فوق قشر البصل وقشرالسمك ! لضحك منه العقلاء، للتفاوت الذي بينهما، فإن التفاوت الذي بين الخالق والمخلوق أعظم وأعظم. بخلاف ما إذا كان المقام يقتضي ذلك، بأن كان احتجاجاً على مبطل، كما في قول يوسف الصديق عليه السلام: أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار. وقوله تعالى: آلله خير أما يشركون. والله خير وأبقى.
وإنما يثبت هذا المعنى من الفوقية في ضمن ثبوت الفوقية المطلقة من كل وجه، فله سبحانه وتعالى فوقية القهر، وفوقية القدر، وفوقية الذات. ومن أثبت البعض ونفى البعض فقد تنقص، وعلوه تعالى مطلق من كل الوجوه. فإن قالوا، بل علو المكانة لا المكان ؟ فالمكانة: تأنيث المكان، والمنزلة: تأنيث المنزل، فلفظ المكانة والمنزلة تستعمل في المكانات النفسانية والروحانية، كما يستعمل لفظ المكان والمنزل في الأمكنة الجسمانية، فإذا قيل: لك في قلوبنا منزلة، ومنزلة فلان في قلوبنا وفي نفوسنا أعظم من منزلة فلان، كما جاء في الأثر: إذا أحب أحدكم أن يعرف كيف منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلة الله في قلبه، فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه. فقوله: منزلة الله في قلبه: هو ما يكون في قلبه من معرفة الله ومحبته وتعظيمه وغير ذلك، فإذا عرف أن المكانة والمنزلة: تأنيث المكان والمنزل، والمؤنث فرع على المذكر في اللفظ والمعنى، وتابع له، فعلو المثل الذي يكون في الذهن يتبع علو الحقيقة، إذا كان مطابقاً كان حقاً، وإلا باطلاً. فإن قيل: المراد علوه في القلوب، وأنه أعلى في القلوب من كل شيء. قيل: وكذلك هو، وهذا العلو مطابق لعلوه في نفسه على كل شيء، فإن لم يكن عالياً بنفسه على كل شيء، كان علو، في القلوب غير مطابق، كمن جعل ما ليس بأعلى أعلى.
وعلوه سبحانه وتعالى كما هو ثابت بالسمع، ثابت بالعقل والفطرة، أما ثبوته بالعقل فمن وجوه: أحدها: العلم البديهي القاطع بأن كل موجودين، إما أن يكون أحدهما سارياً في الآخر قائماً به كالصفات، وإما أن يكون قائماً بنفسه بائناً من الآخر. الثاني: أنه لما خلق العالم، فإما أن يكون خلقه في ذاته أو خارجاً عن ذاته، والأول باطل: أما أولاً: فبالاتفاق، وأما ثانياً: فلأنه يلزم أن يكون محلاً للخسائس والقاذورات تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. والثاني يقتضي كون العلم واقعاً خارج ذاته، فيكون منفصلاً، فتعينت المباينة، لأن القول بأنه غير متصل بالعالم وغير منفصل عنه - غير معقول. الثالث: أن كونه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه -: يقتضي [نفي] وجوده بالكلية، لأنه غير معقول: فيكون موجوداً إما داخله وإما خارجه. والأول باطل فتعين الثاني، فلزمت المباينة.
وأما ثبوته بالفطرة، فإن الخلق جميعاً بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم عند الدعاء، ويقصدون جهة العلو بقلوبهم عند التضرع إلى الله تعالى. وذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين، وهو يتكلم في نفي صفة العلو، ويقول: كان الله ولا عرش وهو الآن على ما كان ! فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا ؟ فإنه ما قال عارف قط: يا الله، إلا وجد في قلبه ضرورة طلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع بهذه الضرورة عن أنفسنا ؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل ! وأظنه قال: وبكى ! وقال: حيرني الهمداني حيرني ! أراد الشيخ: أن هذا أمر فطر الله عليه عباده، من غير أن يتلقوه من المرسلين، يجدون في قلوبهم طلباً ضرورياً يتوجه إلى الله ويطلبه في
العلو.
وقد اعترض على الدليل العقلي بإنكار بداهته، لأنه أنكره جمهور العقلاء، فلو كان بديهياً لما كان مختلفاً فيه بين العقلاء، بل هو قضية وهمية خيالية ؟ والجواب عن هذا الاعتراض مبسوط في موضعه، ولكن أشير إليه هنا إشارة مختصرة، وهو أن يقال: إن العقل إن قبل قولكم فهو لقولنا أقبل، وإن رد العقل قولنا فهو لقولكم أعظم فإن كان قولنا باطلاً في العقل، فقولكم أبطل، وإن كان قولكم حقاً مقبولاً في العقل، فقولنا أولى أن يكون مقبولاً في العقل. فإن دعوى الضرورة مشتركة، فإنا نقول: نعلم بالضرورة بطلان قولكم، وأنتم تقولون كذلك، فإذا قلتم: تلك الضرورة التي تحكم ببطلان قولنا هي من حكم الوهم لا من حكم العقل ؟ قابلناكم بنظير قولكم، وعامة فطر الناس، - ليسوا منكم ولا منا - موافقون لنا على هذا، فإن كان حكم فطر بني آدم مقبولاً ترجحنا عليكم، وإن كان مردوداً غير مقبول بطل قولكم بالكلية، فإنكم إنما بنيتم قولكم على ما تدعون أنه مقدمات معلومة بالفطرة الآدمية، وبطلت عقلياتنا أيضاً، وكان السمع الذي جاءت به الأنبياء معنا لا معكم، فنحن مختصون بالسمع دونكم، والعقل مشترك بيننا وبينكم.
فإن قلتم: أكثر العقلاء يقولون بقولنا ؟ قيل: ليس الأمر كذلك، فإن الذين يصرحون [بأن] صانع العالم شيء موجود ليس فوق العالم، وأنه لا مباين للعالم ولا حال في العالم -: طائفة من النظار، وأول من عرف عنه ذلك في الإسلام جهم ابن صفوان وأتباعه.
واعترض على الدليل الفطري: أن ذلك إنما لكون السماء قبلة للدعاء، كما أن الكعبة قبلة للصلاة، ثم هو منقوض بوضع الجبهة على الأرض مع أنه ليس في جهة الأرض ؟ وأجيب على هذا الإعتراض من وجوه:
أحدها: أن قولكم: إن السماء قبلة للدعاء - لم يقله أحد من سلف الأمة، ولا أنزل الله به من سلطان، وهذا من الأمور الشرعية الدينية، فلا يجوز أن يخفى على جميع سلف الأمة وعلمائها.
الثاني: أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة، فإنه يستحث للداعي أن يستقبل القبلة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل القبلة في دعائه في مواطن كثيرة، فمن قال إن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة، أو أن له قبلتين: إحداهما الكعبة والأخرى السماء -: فقد ابتدع في الدين، وخالف جماعة المسلمين.
الثالث: أن القبلة: هي ما يستقبله العابد بوجهه، كما تستقبل الكعبة في الصلاة والدعاء، والذكر والذبح، وكما يوجه المحتضر والمدفون، ولذلك سميت وجهة. والإستقبال خلاف الإستدبار، فالإستقبال بالوجه، والإستدبار بالدبر، فأما ما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه أو جنبه فهذا لا يسمى قبلة، لا حقيقة ولا مجازاً، فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها، وهذا لم يشرع، والموضع الذي ترفع اليد إليه لا يسمى قبلة، لا حقيقة ولا مجازاً، ولأن القبلة في الدعاء أمر شرعي تنبع فيه الشرائع، ولم تأمر الرسل أن الداعي يستقل السماء بوجهه، بل نهواً [عن] ذلك. ومعلوم أن التوجه بالقلب، واللجأ والطلب الذي يجده الداعي من نفسه أمر فطري، يفعله المسلم والكافر والعالم والجاهل، وأكثر ما يفعله المضطر والمستغيث بالله، كما فطر على أنه إذا مسه الضر يدعو الله، مع أن أمر القبلة مما يقبل النسخ والتحويل، كما تحولت القبلة من الصخرة إلى الكعبة. وأمر التوجه في الدعاء إلى الجهة العلوية مركوز في الفطر، والمستقبل للكعبة يعلم أن الله تعالى ليس هناك، بخلاف الداعي، فإنه يتوجه إلى ربه وخالقه، ويرجو الرحمة أن تنزل من عنده. وأما النقض بوضع الجبهة فما أفسده من نقض، فإن واضع الجبهة إنما قصده الخضوع لمن فوقه بالذل له، لا أن يميل إليه إذ هو تحته ! هذا لا يخطر في قلب ساجد. لكن يحكى عن بشر المريسي أنه سمع وهو يقول [في سجوده]: سبحان ربي الأسفل ! ! تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً. وإن من أفضى به النفي إلى هذه الحال حري أن يتزندق، إن لم يتداركه الله برحمته، وبعيد من مثله الصلاح، قال تعالى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة. وقال تعالى: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم. فمن لم يطلب الإهتداء من مظانه يعاقب بالحرمان. نسأل الله العفو والعافية.
وقوله: وقد أعجز عن الإحاطة خلقه - أي لا يحيطون به علماً ولا رؤية، ولا غير ذلك من وجوه الإحاطة، بل هو سبحانه محيط بكل شيء، ولا يحيط به شيء.

  #5  
قديم 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م, 12:04 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح العقيدة الطحاوية لمعالي الشيخ: صالح بن عبد العزيز آل الشيخ (مفرغ)


القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم , الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
قال العلامة الطحاوي رحمه الله تعالى:
والعرش والكرسي حق , وهو مستغن عن العرش وما دونه , محيط بكل شيء , وفوقه , وقد أعجز عن الإحاطة خلقه .

الشيخ: بارك الله فيك , قال رحمه الله تعالى: "والعرش والكرسي حق" قدمت لك معنى قوله: "حق" فيما سبق , وأن معنى ذلك أن العرش والكرسي يؤمن به على ظاهره , كما جاء في النصوص , وأنه ليس بالباطل بل هو موجود , كما وصف الله جل وعلا فهو حق ثابت لا مرية فيه .

قال هنا رحمه الله تعالى: "والعرش والكرسي حق" سبب إدخاله هذه المسألة في العقائد أن أهل البدع خالفوا أهل السنة في تفسير العرش , وفي تفسير الكرسي , فلما كانوا مخالفين لما دل عليه الدليل , وكان عليه الصحابة , ومن تبعهم بإحسان , رضي الله عن الصحابة ومن تبعهم , فإنهم قد خالفوا في أمر غيبي , ومن خالف في أمر غيبي فقد خالف ما يجب معه عقد الإيمان؛ لأن من سمة المؤمن بما أثنى الله جل وعلا عليه أن يعلم الغيب قال جل وعلا في الثناء على خاصة عباده: ] ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * [ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [ فوصف المتقين بأخص صفاتهم]* وهي الإيمان بالغيب , وهذه صفة أهل الإيمان , جعل الله جل وعلا أهل الإيمان لا يرتابون في الكتاب , وسبب ذلك أنهم يؤمنون بالغيب , فمداره على التسليم لذلك؛ فإن المخالفين للكتاب الذين عقدوا ألوية البدعة , فإنهم تأولوا وحرفوا أكثر الأمور الغيبية كما سيأتي بيانه , لهذا كان لإدخال الإيمان بالعرش والكرسي في هذه العقيدة المختصرة كان له مأخذه .

ولا شك أن الإيمان بالعرش والكرسي حق على ما جاء في ظاهر الأدلة , دل قوله: "والعرش والكرسي حق" على أن معتقد أهل السنة والجماعة أن العرش غير الكرسي , فالعرش شيء والكرسي شيء آخر وكلاهما حق .
إذا تبين هذا كتقرير لهذه الجملة فإن بحثها يمكن أن يكون في هذه المسائل:

المسألة الأولى:

أن العرش حق؛ لأن الله جل وعلا ذكره في كتابه في آيات كثيرة , فقال جل وعلا: ] إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [ ووصف العرش بأنه عظيم فقال: ] رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [ ووصف عرشه جل وعلا بأنه مجيد , ووصف عرشه بأنه يحمل فقال سبحانه: ] الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ [ ووصف عرشه أيضاً بأنه يستوي عليه جل وعلا , وأن عرشه جل جلاله موصوف بصفات العظمة التي فاق بها سائر العروش .

فإذن العرش وصف بهذه الصفات , وجاءت في السنة مزيد في وصفه بأن العرش له قوائم تحمله الملائكة , كما قال عليه الصلاة والسلام: ((يصعق الناس فأكون أول من يفيق فإذا بموسى باطش , أو قال: آخذ بقائمة من قوائم العرش)) .
فالعرش إذن مخلوق من مخلوقات الله جل وعلا العظيمة , ومن عظمه أنه قال فيه عليه الصلاة والسلام: ((مثل السماوات السبع في العرش كمثل حلقة ألقيت في فلاة , ومثل الكرسي للعرش كذلك)) يعني كحلقة ألقيت في فلاة , وهذا الحديث صححه وقواه جمع من أهل العلم , وروي من طرق كما ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى والبحث يقتضي ذلك.

وصف العرش في النص جاء بأنه مجيد , يعني أنه ذو سعة وأنه ذو جمال , وجاء بأنه عظيم يعني أنه أعظم من غيره , وجاء في وصف العرش أنه كريم , يعني أنه فاق جنس العروش والمخلوقات في البهاء والحسن والعظمة؛ لأن لفظ كريم في اللغة تعني أنه فاق غيره في الأوصاف التي يحمد فيها , فقول العرب للإنسان الجواد الذي يبذل الندى , ويبذل الطعام للأضياف: إنه كريم داخل في قاعدة كبيرة في معنى كلمة كريم في لغة العرب , لهذا من فاق غيره في الأوصاف فإنه كريم .

ومن أسماء الله جل وعلا الكريم الذي بلغ المنتهى في علو صفاته وحسن أسمائه بحيث لا يشابهه ولا يماثله شيء فيما وصف به جل جلاله , ووصف النبي عليه الصلاة والسلام بأنه كريم لذلك , بل وصف في القرآن أن النبات كريم؛ لأجل ذلك فقال سبحانه: [وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ كريم] * يعني الأزواج التي تفوق غيرها وجنسها في النضرة والبهاء , وما خلقه الله جل وعلا؟

فإذن يقتضي وصف العرش النص بأنه كريم ] رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [ في الحديث يقتضي ذلك أن العرش من جنس العروش , لكنه يعني أن له صفة العروش , يعني أنه عرش على ظاهره , لكنه فاقها في جميع الصفات التي توصف بها العروش , فإذن هو عرش على الحقيقة ليس على المعنى , هو عرش على الحقيقة , وفاق جنس العروش , والله جل وعلا في القرآن ذكر العرش عرش المخلوقين , وعرش الملوك في آيات كثيرة فقال مثلاً في قصة يوسف -u-: ] وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً [ وقال سبحانه في وصف عرش بلقيس قال: ] إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [ وقال سبحانه: ] نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا [ ونحو ذلك .

فإذن العرش هذا معناه فيما جاء في الأدلة , وهذا عرش الرحمن ووصف في الأدلة في الكتاب والسنة بهذه الأوصاف, وأن العرش يحمل , وأن له قوائم , وأنه يدار حوله من الملائكة , وأنه مقبب ((كالقبة فوق سماواته)) كما جاء في الحديث الذي في السنن , واعتمد ما دل عليه في جهة العرش أهل العلم لما جاء عن الصحابة في تقوية ذلك بأن عرشه على سماواته هكذا , وأشار بيديه مثل القبة , فقال أهل العلم: إن العرش مقبب , وكونه مقبب لا يعني أنه أصغر كما يدل عليه النظر العقلي مثل تقبيب سطح الأرض على مستوى النصف فيها , فإنه مقبب عليها وهو أعظم منها فكيف بالعرش؟

المسألة الثانية:

في معنى العرش في اللغة , العرش في اللغة مأخوذ من الرفع والارتفاع , كما قال جل وعلا في ذكر فرعون: ] وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ [ يعني يبنون ويرفعون من الأبنية , وقال جل وعلا: ] جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ [ المعروشات يعني التي جعل لها البناء الذي يسمى تعريشا , أو العريش , ولأجل هذا الارتفاع والعلو سمي العرش عرشاً , فكلمة عرش والتعريش ونحو ذلك مأخوذة أو أصلها الارتفاع , ولهذا حتى في أكل اللحم إذا أراد أن يأخذ اللحم إلى فيه ويأكله بفيه بدون أن يقتطع منه يقال: عرشه , عرش اللحم أو عرش اللحم مع العظم على العظم ونحو ذلك؛ لأنه يرفعه على هذا النحو .

فإذن مادة العرش في اللغة ترجع إلى الارتفاع , وهذا التحليل اللغوي المختصر يفيدك في الرد على المخالفين في مسألة العرش .

المسألة الثالثة:

إن العرش دلت الأدلة على هذا الوصف , أما المخالفون فلهم في العرش أقوال:

القول الأول: أن العرش هو فلك من الأفلاك , وهو نهاية الأفلاك مستدير حولها , وهذا هو قول أهل الكلام المدون في كتبهم , ويسمونه الفلك التاسع , عندهم الأطلس يعني الذي ليس فيه خروق (ولا) نجوم , وقالوا وهو المسمى في الشريعة العرش؛ لأجل علوه وارتفاعه على سائر الأفلاك وهذا على أصلهم؛ لأنهم جعلوا الأفلاك سبعة , ثم الثامن , ثم التاسع , وهو الفلك الأطلس , ولأجل علوه وارتفاعه جمعوا ما بين الشريعة والفلسفة , فقالوا: هو هذا الفلك التاسع الذي تسميه الفلاسفة وأهل الهيئة , وهم جزء من الفلاسفة يسمونه الفلك التاسع , أو الأطلس هو العرش . وهذا القول يرد عليه بردود واضحات , وهو أن أهل الهيئة سموا فلكهم التاسع أطلس , ولم يزعموا يعني قبل الإسلام أنه هو العرش , والعرش في النصوص له صفة أخرى غير صفة الفلكية , فوصف بأن له قوائم , وأن الملائكة تحمله , وأنه على السماوات على هذه الصفة , وأنه مفضل على العروش ... إلى آخره , فدل على أنه ليس مفلك , والفلك مسار من المسارات , وكرة من الكرات التي تكتنف الأفلاك الأخرى , فإذن من جهة دلالة النص تبطل هذه الدلالة .

الثاني من الرد عليهم , أن الدلالة العقلية أيضاً تبطل ذلك , ودليله أن أهل الهيئة والفلاسفة لم يقدموا باتفاقهم برهاناً قطعياً على أنه ليس وراء الفلك التاسع كما سموه شيء أو فلك , وإنما قالوا: هذا نهاية ما رأينا بوضع الخسوفات , وتقدم هذا على هذا إلى آخره , فرتبوها بحكم مشاهدة , ولم يقولوا: إنه ليس وراء الفلك التاسع فلك , لكن على هذا رتبوا , ولهذا لم يقولوا يعني بالبرهان القاطع , وإنما قالوا: إن الفلك التاسع هذا هو آخر الأفلاك بحكم ما شاهدنا , لكن قد يكون ثم شيء آخر وراءه , وهذا يخالف ما فهموه من كلمة العرش؛ لأنهم أرادوا أن يجعلوا صلة بين العرش وبين كلام الفلاسفة , والعرش هذا الذي ذكر في النصوص لا يوافق هذا المبدأ؛ لأنه آخر المخلوقات , والعرش أعظم المخلوقات , وما تحته صغير بالنسبة إليه وليس دائرياً كما ذكروا .

فإذن كلامهم من الجهة العقلية لما لم يأتوا ببرهان يدل على أنه ليس وراء الفلك التاسع شيء ببرهان قطعي عقلي , وإنما قالوا هذا الذي يظهر من جهة النظر , فإن هذا يدل على أن تسمية الفلك التاسع بالعرش أنه ليس بصواب , وهذا واضح لكن لأنك قد تجده في بعض كتب التفسير فانتبه من ذلك .

القول الثاني في العرش: أن العرش هو عبارة عن الملك , ولكن عبر عن الملك بالعرش لتلازمهما , فكما أن لملوك الأرض عرشاً يجلسون عليه فإن الله جل وعلا جعل لنفسه عرشاً , وهذا العرش هو ملكه , لكن من قبيل تعظيم الأمر . وهذا القول أيضاً باطل ومردود؛ لأن الملك , ملك الله جل وعلا لا يوصف بتلك الصفات في الشريعة؛ فإن الملك لا يحمل , والملك ليس له قوائم , والملك ليس ثم ملائكة تدور حوله ونحو ذلك , والملك لا يأتي يوم القيامة محمول ] وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [ إلى آخره . أيضاً الملك مرتفع معنى , والعرش مرتفع حسًّا يعني من جهة دلالة اللغة , وهذا فرق بيّن .

القول الثالث: أن حقيقة العرش هي الكرسي , وأن الكرسي والعرش شيء واحد , وأن الكرسي الذي وسع السماوات هو العرش , هذا قول هنا هو قول في أقوال الكرسي يأتي بيانه إن شاء الله تعالى , وهذا القول منسوب إلى الحسن البصري وهو قول ضعيف؛ لأن الله جل وعلا وصف العرش بصفات ليست هي صفات الكرسي , ثم مادة العرش غير مادة الكرسي , يعني من جهة الاشتقاق , ثم الآثار عن السلف , هذا الوجه الثالث , الآثار عن السلف متضافرة في أن العرش شيء , والكرسي شيء آخر .

ولهذا عطف الطحاوي الكرسي على العرش فقال: "والعرش والكرسي حق"؛ لأن العطف بالواو يقتضي المغايرة , مغايرة الذوات بين الكرسي والعرش , أما الكرسي فإن . . أو قبل ذلك بالنسبة للعرش نذكر لكم كثيراً من مذهب الأشاعرة والماتريدية ومن نحا نحوهم؛ فإنهم في العرش مضطربون , ليس لهم مذهب واضح , منهم من ينحو منحا أهل الكلام , ومنهم من يقول: العرش مخلوق من مخلوقات الله لا نعرف حقيقة تكوينه ولا معنى الاستواء عليه ونحو ذلك , ومنهم من يقول: إن العرش هو الملك , ومنهم من يقول: العرش تمثيل أصلاً ليس فيه عرش , وليس ثم شيء وإنما هو تقريب وتمثيل للأفهام .

أما الكرسي فإن الله جل وعلا ذكر الكرسي في آية واحدة في القرآن سميت بآية الكرسي؛ لقوله جل وعلا فيها: ] وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [ , وهذه الآية هي أعظم آية في كتاب الله , قال عليه الصلاة والسلام لأبي ((أي آية في كتاب الله أعظم؟)) فقال: ] اللَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [ فقال: ((ليهنك العلم))؛ لأن هذا يعني أنه فقه معنى هذه الآية؛ لأنه لا يدرك كون هذه الآية أعظم ما في القرآن , إلا أنه علم معانيها , ولا شك أن هذه تعني علماً عظيماً , وفي السنة جاء بيان حجم الكرسي بالنسبة للسماوات؛ لأن




الـوجـه الـثـانـي

السماوات السبع بالنسبة للكرسي كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض , والكرسي بالنسبة إلى العرش مثل ذلك .
وجاء في أثر عن ابن عباس موقوف يصح عنه موقوفاً , وروي مرفوعاً ولا يصح مرفوعاً وهو قوله -t-: "الكرسي موضع القدمين لله جل وعلا" , وهذا يعني أن الكرسي مخلوق من مخلوقات الله عظيم جداً جعله بهذا العظم , وأنه وسع السماوات والأرض , وأكثر من ذلك فالسماوات صغيرة بالنسبة لكرسي الرحمن جل جلاله .

المسألة الثانية:

أن كلمة كرسي من جهة اللغة مأخوذة من الكَرْسي , والكَرْس هو الجمع في اللغة , ويقال للكُرْسي المعروف: إنه كُرْسي؛ لأجل أن أعواده تجمع على هيئة ما , فالكرسي يختلف عن المقعد الآخر؛ بأنه أعواد مجموعة في اللغة , ومنه سمي أيضاً العلماء كراسي؛ لأجل أنهم جمعوا العلم , لأجل معنى الجمع , وأيضاً قيل للورق المجموع على نحو ما كراسة؛ لأنها أوراق جمعت , فمادة الكرس تعود إلى الجمع ويقال: تكرس فلان بالشيء إذا جمعه , أو تكرس فلان الشيء إذا جمعه إلى صدره , أو جمعه إليه .

فإذن مادة الكرسي مأخوذة من الجمع , وهذا يدل على أن كرسي الرحمن جل جلاله وتقدست أسماؤه له من الصفات العظيمة ما يختلف به عن صفة العرش؛ لأن الله جل وعلا سمى العرش عرشاً , وهذه لها دلالتها في اللغة , وسمى الكرسي كرسياً وهذه لها دلالتها في اللغة .

المسألة الثالثة في الأقوال في الكرسي , الناس لهم في الكرسي أربعة أقوال , يعني غير أهل السنة:

أما القول الأول: فهو قول الحسن , وهو أن الكرسي هو العرش , وهذا قول ضعيف الآثار , ترده كما ذكرت لك.

القول الثاني: أن الكرسي لما ذكر في آية واحدة هي آية الكرسي في سورة البقرة أنه تمثيل وأنه ليس ثم حقيقة للكرسي , ولكن هو تمثيل لتقريب عظمة الله جل وعلا , وهذا هو قول الذين ينفون كثيراً من الصفات التي تدل على عظمة الله وقدرته كقوله: ] وَالأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [ ونحو ذلك , فيقولون: إن هذا كله تخييل , بل قالوا: إن كل نص جاء في الكتاب والسنة من هذا القبيل فإنه لأجل التخييل لا تقصد حقائقه , وإنما المقصود تعظيم الناس لله جل وعلا , وإلا فهذه ليست على حقائقها , وهذا القول معروف من أقوال المعتزلة وطائفة من الأشاعرة , ومن المعاصرين , قرره في تفسيره سيد قطب في ظلال القرآن , وجعله قاعدة كلية في آخر سورة الزمر عند قوله تعالى: ] قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [ وفي الحقيقة إن القول بأن هذا كله على جهة [التخييل]* إلغاء لكل الدلالات الشرعية للألفاظ , وإلغاء لكل الغيبيات؛ لأنه يكون المقصود في كل هذا التمثيل , وهذا القول قدمه الزمخشري في الكشاف , وكأنه يميل إليه وعلى قاعدتهم في أن كل النصوص من هذا الباب على وجه التوهم والتخييل , وهذا القول كما ذكرت لك غلط عظيم؛ لأن معناه نفي كل الأمور الغيبية , هذه على هذه القاعدة فما كان من الأمور الغيبية يدل على عظمة الله , وكان فيها تمثيل بأشياء موجودة عند البشر فتنفى , ويكون المقصود والتمثيل لا الحقيقة .

القول الثالث: أن الكرسي هو العلم , فكرسي الرحمن جل وعلا هو علمه , وقوله:] وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [ يعني وسع علمه السماوات والأرض , وهذا القول مروي عن ابن عباس , ولكن الصحيح عن ابن عباس خلاف هذا القول , ويرد على هذا القول بأمور: الأول منها أن مادة الكرسي للجمع والعلم شيء آخر , هذا من جهة اللغة , والثاني أن الله جل وعلا ذكر أن الكرسي وسع السماوات والأرض , ولكن علمه جل وعلا وسع كل شيء , قال سبحانه: ] رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً [, وقال جل وعلا: ] وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [, وعلم الله جل وعلا يشمل علمه بذاته جل وعلا , وبأسمائه وصفاته وأفعاله , وعلمه جل وعلا الذي يسع السماوات والأرض , وعلمه جل وعلا الذي يسع الجنة والنار , وعلمه جل وعلا بعد تغير السماوات والأرض وقبل خلق السماوات والأرض .

فإذن تفسير الكرسي بأنه العلم هذا يضاد أن العلم يسع كل شيء ] وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً [ , وأما كرسي الرحمن جل وعلا فقال: ] وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [ .

الجواب الثالث: أن قولهم: إن الكرسي هو العلم , وإن مادة التكرس هي راجعة للعلم والعلماء سموا كراسي؛لأجل العلم ونحو ذلك من الاحتجاجات , واحتجاجهم بقول الشاعر يصف قنصه لفريسته قال:(فلما احتازها تَكَرَس) يعني قالوا يعني: علم , فهذا من الجهة اللغوية فيه ضعف؛وذلك أن العلم ليس راجعاً إلى الجمع , والعلماء صحيح أنهم جمعوا علومهم, لكن العلم من حيث هو يحصل بتلقي المعلوم ثم العلم به والمعرفة به , فليس كل علم ناتجاً عن جمع , بل يكون ناتجا عن تصور الخبر , فيكون معلوماً له , وهذا هو المقرر في اللغة وعند أهل نظرية المعرفة؛فإن المرء يعلم بدون جمع , والله جل وعلا وصف الصغير بقوله: ] وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [ , فكلما علم الصغير شيئاً صار عالماً به , ولو لم يجمعه إلى غيره , فمادة الجمع غير مادة العلم , مادة الكرس غير مادة العلم , والعلم ما صار علماً للجمع , وإن كان العلماء سموا كراسي لأجل جمعهم العلم .

فإذن راجع تفسير كلمة التكرس إلى كلمة الجمع , واحتجاجهم بقول الشاعر كما ساقه ابن جرير الطبري في تفسيره (فلما احتازها تَكَرَّس) يدل على أن التكرس بمعنى الجمع , لا بمعنى العلم , لم؟ لأنه قال: (فلما احتازها) يعني: صارت في حوزته , (تكرس) وهو علم بأنه قنصها لما صارت في حوزته , يكون تكرسه شيئاً جديداً زائداً على ما حصل له من الحيازة , فالحيازة بها علم , وزاد بعد الحيازة أن ضمها وجمعها إليه , فإذن من حيث اللغة فإن دلالة التكرس على العلم دلالة ضعيفة , بل الصواب أن التكرس ومادة كرس راجعة إلى الجمع في اشتقاقاتها جميعاً .
كم ذكرنا من الأقوال؟ (كلام غير مسموع) لا كم قول؟ ثلاثة , ثلاثة أقوال .

القول الرابع: أن الكرسي عبارة عن الملك , كما قالوا في العرش , وقالوا: إن الكرسي إذا قيل: إن كرسي الملك واسع , فهذا يدل على سعة ملكه , وعلى علو شأنه وقوته , فيقولون: الله جل وعلا قال: ] وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [ يعني أن سلطانه وملكه وسع السماوات والأرض , وهذا ليس بجيد أيضاً؛ لأن الكرسي من جهة دلالة اللغة غير دلالته على الملك , والثاني: أن الكرسي موصوف في السنة وفي آثار السلف بأنه غير الملك , فدل ذلك على أن تفسيره بالملك تفسير حادث , والتفسير الحادث بعد زمن الصحابة رضوان الله عليهم لا يصار إليه في تفسير القرآن .

هذه بعض المباحث المتعلقة بقوله: "والعرش والكرسي حق" , وثم مباحث زائدة يعني قد تدخل في مباحث الكلام المذموم , والذي يهمنا هو تقرير ما دل عليه الكتاب والسنة وما يجب اعتقاده من أن العرش والكرسي حق؛ لأن العرش موصوف بتلك الصفات , والكرسي موصوف بتلك الصفات , وأن الأقوال الباطلة في العرش والكرسي متعددة , والجواب عليها , وأسأله جل وعلا لي ولكم التوفيق والسداد .

المسألة الأخيرة الرابعة:

هي غير متصلة بالكرسي , هي بالعرش والكرسي جميعا , وهي راجعة أثر الإيمان بالعرش والكرسي , فالمؤمن إذا آمن بأن عرش الله جل وعلا حق , وأن هذه التي ذكرت هي صفة العرش , وأن عرش الله عظيم جداً , وأنه مجيد , وأنه كريم , وأن النبي صلى الله عليه وسلم حدث عن أحد حملة العرش , بأن مسيرة ما بين عاتقه إلى شحمة أذنه مسيرة خمسمائة عام , وأن السماوات بالنسبة إلى الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض , وأن الكرسي بالنسبة إلى العرش كذلك , وأن الكرسي موضع قدمي الرحمن جل وعلا , فلا شك أن هذا يؤول بالمؤمن الحق إلى اعتقاد عظمة الله جل وعلا , وإلى أن الله سبحانه تتناهى المخلوقات عنده في الصغر , وأنه جل وعلا كما وصف نفسه بقوله: ] وَالأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [ وجاء في الأثر في تفسير ذلك أنه يجعلوها يوم القيامة كما . . أو يرمي بها يوم القيامة كما يرمى الصبي بالكرة , فيقول: أنا الله الواحد , أنا الملك ... إلى آخره , فمعرفة صفة الكرسي وصفة العرش , ويبتدئ المرء من نفسه التي يعظمها , وكيف هو على هذه الأرض العظيمة جداً , وهو صغير جداً جداً على هذه الأرض , حتى إن المدن الكبار إذا صعدت في .. بالطائرة تراها صغيرة جداً , وهي تحوي ملايين الناس , فكيف بالفرد؟والأرض هذه بالنسبة للسماوات صغيرة , والسماوات السبع على سعتها وعظم ما فيها من الأفلاك والنجوم والسيارات بالنسبة للكرسي صغيرة , كحلقة ملقاة في فلاة في الأرض , والكرسي بالنسبة إلى العرش كذلك , والله جل وعلا فوق العرش , مستغن عن العرش , وكل شيء محتاج إليه , والله سبحانه محيط بكل شيء إحاطة سعة وقدرة وذات وشمول جل جلاله , وتقدست أسماؤه .

فإن المرء ولا شك يصيبه , بل يحصل له في قلبه نوع عظيم من الذل عظيم لله جل وعلا , ونوع عظيم من احتقار النفس , ومعرفة قدر الإنسان كيف هو؟ وأنه شرف أعظم تشريف أن جعله الله جل وعلا عبداً له سبحانه , فلهذا ينظر المرء إلى عظم المخلوقات هذه , ويؤمن بها , فيعظم الله جل وعلا .

حقيقة الإيمان بأسماء الله جل وعلا وبصفاته يثمر ثمرات عملية في القلب من وجل القلوب , من إجلال الله جل وعلا , وحب القلوب لجمال الله جل وعلا , وأنواع ما يحدث في القلب من الإيمان , ومدارج الإيمان التي تتصل بالإيمان بالأسماء والصفات , كذلك الإيمان بالجنة والنار , كذلك الإيمان بالعرش والكرسي لمن تأمله , فإنه يجعل القلب خاضعاً لربنا جل جلاله , ويجعل القلب مخبتاً منيباً لله جل وعلا , فإن غفل جاءه تعظيمه وإيمانه وعقيدته بالإنابة السريعة وبالاستغفار الحق.

إذن حين نبحث هذه المباحث في العقيدة ليست كما يبحثها أهل الكلام المذموم في كونها أشياء لا ثمرة لها على الإيمان والعمل الصالح , وتعبد المرء لله جل وعلا؛فإن كل شيء وصفه الله جل وعلا لنا من الأمور الغيبية لم يقصد إيماننا به واعتقادنا له من جهة الوجود دون جهة الإيمان , وما يثمر منه , بل قصد الإيمان به يعني بوجوده وأثر الإيمان الذي يحدثه في النفس؛ لأن المقصود إصلاح القلوب لله جل وعلا , وأنت سمعت قول أولئك من المعتزلة وطوائف من المبتدعة: إن هذه الأشياء تمثيل لأجل إصلاح الناس وإيمانهم بعظمة الله جل وعلا .

والواقع أننا إذا قلنا بما جاء في الأدلة من الكتاب والسنة , فإنها في تحصيل الإيمان , وفي إحداث الإيمان في النفوس , وتقوية الإيمان أعظم من أن تكون للتمثيل؛ لأن ذكرها على الحقيقة وعلى هذه الصفات يجعل المرء على الحقيقة يتصور كيف هذه المخلوقات جميعاً , والأرض هذه الكبيرة وما فيها , ثم السماوات , ثم الكرسي بعد ذلك , ثم العرش , ثم الملائكة الحافين من حول العرش , لا شك يحدث له أنواع من الإيمان والوجل والخوف وحب الله جل وعلا وتعظيمه والإنابة إليه , وهذا لا شك كله من المقاصد الشرعية .

فإذن الإيمان بهذه يحتاج منك إلى تأمل وتدبر في أن تعمل في قلبك هذه الأشياء , وتتذكر عظمة الله جل وعلا , عسى الله جل وعلا أن يجعلني وإياك من الناجين . اللهم اغفر لنا جمّا , اللهم اغفر لنا جمّا , اللهم اغفر لنا جمّا , وعلمنا من نعوت جلالك وأوصاف ذاتك ومخلوقاتك ما يعظم به إيماننا وتذكو به عقيدتنا , اللهم فأجب وأنت سميع قريب , وأنت أرحم الراحمين .

وفي هذا القدر كفاية , عسى الله - جل وعلا – أن يرحمنا برحمته , وأن يجعلنا من المنيبين إليه المتقين , وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .

[كلام ليس له فائدة علمية]نكتفي بهذا القدر ولا تنسونا من صالح الدعاء .





محاضرة جديدة/ بعنوان:
من ثمرات العلم

بسم الله الرحمن الرحيم . إن الحمد لله , نحمده ونستعينه ونستغفره , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمداً عبده ورسوله , أما بعد..,

فيسرنا في هذه الليلة المباركة أن نلتقي بفضيلة الشيخ/ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى ورعاه , ونشكر له سعيه إلى هذا المكان , وتجشمه لهذه الخطى , ونسأل الله تعالى أن يجعلها في موازين حسناته , ونشكركم أيضا على حضوركم , ونسأل الله تعالى أن يجعل ما يقوله الشيخ في موازين حسناته , وأن ينفعنا بما يقول , وعنوان محاضرتنا لهذا اليوم هي بعنوان (ثمرات العلم) فليتفضل بارك الله في علمه .

الشيخ: جزاك الله خيرا, أحسنت .
بسم الله الرحمن الرحيم , الحمد لله رب العالمين , أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله , فهو المتوحد باستحقاق جميع أنواع المحامد , فالحمد له كثيراً كما أنعم كثيراً , وأسأله سبحانه أن يجعلني وإياكم ممن يحمده ويشكره كما يحب ويرضى , وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمداً عبده ورسوله , صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً , أما بعد..,

فأسأل الله جل جلاله لي ولكم أن يجعلنا ممن إذا أعطي شكر , وإذا ابتلي صبر , وإذا أذنب استغفر , كما أسأل المولى جل جلاله أن يجعلني وإياكم ومن نحب من عباده وأوليائه الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون , وأسأله أن يبارك لنا في أعمالنا وأعمارنا , وأن يجعل قليل علمنا حجة لنا لا حجة علينا , ثم إن العلم , والحرص عليه من علامات محبة الله - جل وعلا – للعبد , وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) , فدل الحديث بمنطوقه على أن من تفقه في الدين ,وكان فقهه نافعاً له , أنه من علامات إرادة الله - جل وعلا – به الخير , ودل بمفهومه مفهوم المخالفة على أن من ترك العلم وسعى عنه إلى غيره , فإنه ممن لم يرد الله به خيرا؛لأنه ولا شك العلم يرفع العبد كما قال جل وعلا: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}.

فأهل الإيمان مرفوعون عن غيرهم , وأهل العلم من أهل الإيمان أعلى من عموم أهل الإيمان بدرجات {ولا الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا} فلله - جل وعلا – الحمد على أن وفق من وفق منا إلى الإقبال على العلم والحرص عليه , فنسأل المولى جل جلاله أن يثبتنا على هذا السبيل , وأن يجعلنا ممن يرد حوض النبي عليه الصلاة والسلام غير مغيرين ولا مبدلين , ولا محدثين , إنه سبحانه جواد كريم .

موضوع هذه المحاضرة (ثمرات العلم) ولا شك أن العلم له ثمرات , ودل على ذلك قول الله جل وعلا: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} , فمن ثمراته المنصوص عليها في القرآن أن أهل العلم مرفوعون درجات , ومن ثمراته المذكورة في القرآن ما جاء في سورة النساء في قوله جل وعلا: {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتا وإذن لآتيناهم من لدنا أجرا عظيماً ولهديناهم صراطاً مستقيماً ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين...} الآية , فدلت الآية على أن الذي يعلم وعمل فإن هذا خير له في دنياه وخير له في آخرته , وأنه إن أورثه العلم الطاعة فإنه مع الأنبياء والصديقين , والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً .

وفي القرآن لم يأمر الله - جل وعلا – نبيه أن يسأل المزيد من شيء إلا من العلم , فقال سبحانه في سورة طه:{وقل ربي زدني علماً} , وهذا مما يدلك على جلالة قدر العلم , أن الله - جل وعلا – خص به أنبياءه وخص به أولياءه , فإن العبد كلما كان أكثر علماً وأورثه العلم ثمراته من العمل وغيره , فإنه أقرب إلى ربه جل وعلا, وقد قال سبحانه: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} , يعني أن أحق الناس خشية لله - جل وعلا – الذين يعلمون الرب - جل وعلا – بذاته وأسمائه وصفاته , وما جاء في شريعة أنبيائه عليهم الصلاة والسلام .

لا شك إذن أن للعلم ثمرات , وثمرات العلم لا تستقصها مثل هذه المحاضرة , ولا بد لكل أحد منكم أن يسعى إلى العلم أولا , ثم أن يتفطن لنفسه إن سعى إلى العلم , هل حصل ثمرات العلم؟أو هل ناله من ثمرات العلم ما ناله العلماء من ذلك الذي؟ أم لم ينل من ذلك شيئا؟ أم كان متوسطا؟إلى آخره .

لهذا نقول: لا شك أن العلم الذي يعتني به الناس قسمان: كما هو ظاهر في حياة الناس , العلم الذي يعتني به الناس قسمان: علم يراد للدنيا , وعلم يراد للدين , والدنيا يعطيها الله - جل وعلا – من يحب ومن لا يحب , ولكن الدين لا يعطيه الله - جل وعلا – إلا من يحب , وهذا كما جاء مأثورا فإنه من معنى قوله عليه الصلاة والسلام: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) , ومن معنى قوله: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) .

والعلم لما كان منقسماً إلى علم يراد للدنيا وإلى علم يراد للدين , فإن العلماء نظروا في التفضيل بينهما , كما قال الشافعي رحمه الله: لما أردت طلب العلم نظرت , فإذا العلم علمان: علم لصلاح الأبدان , وعلم لصلاح الأديان , فنظرت فإذا العلم الذي لصلاح الأبدان لا يعد الدنيا , وإذا العلم الذي هو لصلاح الأديان للدنيا والآخرة , فأقبلت على الفقه , وتركت الطب . وكان هو ممن نال طرفاً من علوم مختلفة من الطب والأدب والفراسة إلى آخره .

لهذا إذا قلنا: ثمرات العلم , فنعني بها العلم الذي هو أعظم فائدة , وأجزل عائداً , وهو الذي يراد للدنيا والآخرة , الذي يصلح الله جل وعلا به الدنيا , ويصلح الله جل وعلا به الآخرة , دنيا العبد طالب , العبد طالب العلم في نفسه وآخرة العبد , طالب العلم لنفسه وكذلك دنيا غيره , والمجتمع , وكذلك آخرة الأمة جميعا كما سيأتي في ثمرات طلب العلم , لهذا قال العلماء:العلم علمان , علم نافع , وعلم غير نافع , أما العلم النافع فهو العلم بالله جل وعلا , يعني: علم الدين الذي يراد للآخرة الذي يصلح الله - جل وعلا – به دنيا العبد , ويصلح الله به آخرته .

وهذا العلم هو في الحقيقة النافع؛ لأنه نفع العبد في حياته كلها , وحياة العبد منقسمة إلى حياة أولى , وإلى حياة أخرى , فحقيقة العلم النافع النفع المطلق الكامل هو علم الشريعة علم الدين , العلم بالله جل وعلا , وبرسوله صلى الله عليه وسلم , وبما أنزل من حدود جل جلاله , لهذا لما تكلم بعض السلف في الأنساب سئل هل علم الأنساب من العلم النافع؟قال: هو جهالته لا تضر , يعني لا تدخر العبد في دينه , ولا تضر العبد في دنياه وآخرته معا , فوجه إلى أن يعتني طالب العلم بالعلم الذي ينفعه في دنياه وفي آخرته , وهذا العلم النافع هو العلم الموروث عن النبي عليه الصلاة والسلام , وقد صح عن النبي عليه الصلاة والسلام من حديث أبي موسى رضي الله عنه , كما في الصحيح أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( مثل ما بعثني الله به من العلم والهدى كمثل الغيث الكثير , أصاب أرضا فكانت منها طائفة نقية قبلت الماء وأنبت الكلأ والعشب الكثير , وكان منها أجازب أمسكت الماء , فاستقى الناس وشربوا , وزرعوا وكان منها طائفة إنما هي قيعان لا تنبت كلأ ولا تمسك ماء , فذلك مثل ما بعتني الله به من العلم والهدى , ومثل من علِم وعلَّم)) .

وهذا الحديث لا شك أنه يدل على أن العلم الذي خص الله - جل وعلا – به أنبياءه , وخص أعلىالأنبياء مقاماً محمداً عليه الصلاة والسلام بأعلى العلم , هو العلم الذي ورثه النبي عليه الصلاة والسلام , لهذا صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((العلماء ورثة الأنبياء؛ فإن الأنبياء لم يورثوا دينارا, أو لا درهما , وإنما ورثوا العلم , فمن أخذه أخذ بحظ وافر)).

لهذا العلم النافع هو الذي له الثمرات التي سيأتي الحديث عن بعضها , فإذن العلم علمان: علم نافع وعلم غير نافع , والعلم النافع هو علم الدين , وهو الذي تكلم عنه شمس الدين بن القيم رحمه الله تعالى , تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية , وناقل علمه وحافظ سيرته , حيث قال في نونيته في أبياته المشهورة , لما تكلم من عن الجهل والعلم قال:

والجهل داء قاتل وشفـاؤه = أمـران في الترتيب متفقان
نص من القرآن أو من سنة = وطبـيب ذاك العالم الرباني
والعلم أقسام ثلاثة ما لهـا = مـن رابع والحق ذو تبيان
علم بأوصاف الإله ونعتـه = وكـذلك الأسماء للديـان
والأمر والنهي الذي هو دينه = وجزاؤه يوم المعاد الثـاني
والكل في القرآن والسنن التي = جاءت عن المبعوث بالقرآن
والله ما قال امرؤ متحذلـق = بسواهما إلا من الهذيــان
... إلى آخر كلامه .

فجعل العلم النافع الذي يضاد الجهل , ويثمر الثمرات النافعة العظيمة في الدنيا والآخرة جعله ثلاثة أقسام: الأول: علم بأوصاف الإله ونعته أو وفعله , وهذا يعني به التوحيد , ولا شك أن التوحيد الذي هو حق الله على العبيد العلم به هو أعظم أنواع العلوم , بل هو أفضل العلوم , لم؟ لأن العلم يتنوع بتنوع المعلوم , والتوحيد يبحث في أي شيء , يبحث في أسماء الله جل وعلا, وفي صفاته , وفيما يستحقه جل وعلا , وفي حق الله جل وعلا على العبيد , وما يتصل بذلك , فإذن المعلوم بالتوحيد , المعلوم بعلم التوحيد هو ما يتصل بالرب جل جلاله , وما يضاف إليه من نعوت الجلال وأسماء الجمال والجلال .

فلهذا كان أفضل العلوم التوحيد , قال العلماء: لأن فضل العلم بفضل المعلوم , وشرف العلم بشرف المعلوم , ولهذا كان التوحيد أفضل العلوم وأشرفها , وأيضا التوحيد هو أفضل العلوم النافعة؛لأنه يصلح اعتقاد العبد ويصلح باطنه , والنبي عليه الصلاة والسلام قال في بيان تفضيله وعظم قدره عليه الصلاة والسلام: ((إني لأعلمكم بالله وأخشاكم لله وأتقاكم لله)) فكلما زاد العبد علما بالله جل جلاله وبما يستحقه وبما يضاف إليه - جل وعلا – كان لا شك أعلم , فهذا من جهة , ومن جهة أخرى فإن العلم بالله جل جلاله والعلم بالتوحيد يورث صلاح الباطن , يورث صلاح القلب , يورث صلاح العبد فيما بينه وبين الله جل جلاله .

ولهذا قال العلماء: إن عمل القلب متنوع , وقول القلب هو اعتقاده , واعتقاده في الله جل وعلا يعني: العلم بالتوحيد , وما يتصل بالاعتقاد , هذا قول القلب , والإيمان قول وعمل , ولا بد قول القلب واعتقاد القلب , وعمل القلب , وقول القلب , وعمل القلب يعني قول القلب هو اعتقاده , وعمل القلب متنوع , ولا بد من قول اللسان وعمل الجوارح في الإيمان , لهذا يعظم العبد إخلاصاً ونية إذا كان له الحظ الأكبر من هذا العلم النافع الذي هو توحيد الله جل وعلا , والعقيدة الصحيحة لهذا ينبغي لك أن تلحظ المعنى هذا في قوله عليه الصلاة والسلام: ((إنما الأعمال بالنيات , وإنما لامرئ ما نوى)) , وفي رواية أخرى: ((وإنما لكل امرئ ما نوى)) , وقوله عليه الصلاة والسلام:((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ,وإذا فسدت فسد الجسد كله , ألا وهي القلب)) والنية محلها القلب , فرجع الأمر إلى أن أعظم أنواع العلم النافع هو علم التوحيد الذي به صلاح القلب , والذي إذا صلحت صلح القلب , صلح الجسد كله .

فإذن العلم هذا هو أعظم ما تتوجه له في طلبك للعلم؛لأن العمل يأتي بعد , ولأن الصلاح يأتي بعد , فإذا صح قلب العبد وصحت نيته وصح علمه بربه جل جلاله , ومعرفته بالله جل وعلا , فإنه ولا شك لا بد أن يخشى , ولا بد أن ينيب إلى ربه , وإن حصل منه غفلة فلا بد أنه يرجع سريعاًَ , ولا يكون معرضاًَ عن الله جل وعلا .

العلم الثاني من العلوم النافعة بعد علم التوحيد , الذي يشمل توحيد العبادة وتوحيد الأسماء والصفات وتوحيد الربوبية ـ هو علم الأمر والنهي , وهو علم الحلال والحرام , علم ما يصح من عبادتك وما لا يصح , يعني علم الظاهر , وهذا هو الذي يسمى علم الفقه , وسمي علم الفقه , ظاهر قول الله جل وعلا: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم . . .}.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حق حمده، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لمجده، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله , ومصطفاه وخليله , صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد..,
فأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح , وأن يجعلنا من حملة العلم ومحصليه الذين نفعهم العلم، فحازوه وبثوه وعلموه وجاهدوا فيه، كما أسأله سبحانه أن يقيني وإياكم الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا من المقيمين للحق المستقيمين عليه , على نهج سلفنا الصالح رضوان الله عليهم , وهذه فاتحة الدروس في هذه السنة الدراسية لشرح العقيدة الطحاوية .

ولا شك أن الجميع ممن يهتمون بعلم التوحيد والعقيدة؛ لأنه أساس العلوم ولأن العلم به يُحتاج إليه في كل علم آخر، فإذا اطلعت على كتب التفسير تحتاج إلى التوحيد والعقيدة لمعرفة الصحيح من غيره فيما ورثناه من أقوال المفسرين , وكذلك في شرح الأحاديث , سواءٌ في الشروح المتقدمة أم في الشروح المتأخرة لكتب الحديث من الصحيحين وغيرها , تحتاج إلى علم العقيدة لتميز أقوال السلف من أقوال غيرهم في شرح سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك أيضاً في الفقه وفي الأصول , وفي جميع العلوم الأصلية والمساندة تحتاج فيها إلى علم العقيدة , فالتبحر فيه يقي المرء من الزلل في فهم كلام الله جل وعلا , وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام .

وثانياً: أن العلم الصحيح بالتوحيد والعقيدة يصح معه العمل , ويبارك الله جل وعلا به العمل وإن قل , وكلنا في هذا الزمن إلا من شاء الله قليل عمله كثير ذنبه , ونسأل الله جل وعلا لنا جميعاً العفو والعافية والمغفرة لنا ولإخواننا ولأحبابنا؛ فصلاح القلب واستقامته هي الأصل في قبول الأعمال , فإذا صلح القلب صلح الجسد كله , كما ثبت ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: ((ألا وإن في الجسد مضغة , إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله, ألا وهي القلب)) .

وقال أبو هريرة -t-: "القلب ملك والأعضاء والجوارح جنوده , فإن استقام الملك استقامت جنوده , وإن زل الملك زلّت جنوده" , وقوله عليه الصلاة والسلام أرفع وأعظم وأدل على المراد: ((إذا صلح القلب صلح الجسد كله , وإذا فسد فسد الجسد كله))، وليس الجوارح فحسب وإنما الجسد بأجمعه، لهذا أوصيكم جميعاً من حضر معنا ومن ابتدأ الحضور إلى الاهتمام بالتوحيد والعقيدة , دراسة وتأملاً وحفظاً لأدلتها ووضوحاً لمسائلها؛ لأنك تحتاج إليها في كل حال، فالأمور الغيبية ليست مبنية على العقل، ولا تدرك بالقياس , ولا تدرك بالتفكير , ولا تدرك أيضاً بمطالعة بعض , فيلحق ما لم يقرأ بما قرأ , وإنما لابد فيها من المعرفة التفصيلية لطالب العلم .
نبتدئ الدرس ونتركها إلى أن تجتمع الأسئلة إن شاء الله تعالى , كان العادة أننا نقدم بمقدمة في الدروس المنهجية، في فاتحة الفصل , لكن لما تأخرنا وسبقه محاضرة الأسبوع الماضي بعنوان (من ثمرات العلم) فيمكن أن تجعل مقدمة لهذه الدروس . نعم، اقرأ .

القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم , الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين , نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

قال العلامة الطحاوي رحمه الله تعالى:
وهو مستغن عن العرش , وهو مستغن عن العرش , وما دونه محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه , ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلا , وكلم الله موسى تكليماً , إيماناً وتصديقاً وتسليماً .
الشيخ: بارك الله فيك . قال العلامة الطحاوي في هذه النبذة المختصرة في وصف الله جل وعلا قال: "وهو مستغن عن العرش وما دونه , محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز الإحاطة خلقه" , يريد بهذا الكلام أنه لما أثبت عرش الرحمن جل وعلا , وأثبت الكرسي على ما جاء في النصوص , وما في ذلك من الاستواء على العرش , كما يليق بجلال الله جل وعلا , بين أن خلق العرش واستواء الرب جل وعلا على العرش كما يليق بجلاله وعظمته ليس لحاجةٍ من الله جل وعلا لما خلق للعرش , ولكن الله جل وعلا هو الغني سبحانه وتعالى، وهو مستغن عن جميع مخلوقاته , بل العرش وما دونه مفتقر إلى الربّ جل وعلا؛ إذ ربنا جل وعلا به تقوم الأشياء , فلا أحد يقوم , ولا شيء يقوم إلا بالربّ جل جلاله , والعرش من ذلك؛ فإنه مفتقر في قيامه وفي استمراريته , وفيما عليه شأنه , مفتقر إلى الرب جل جلاله، فالله سبحانه هو الذي يحفظه , وهو الذي بقدرته يحمله جل وعلا إلى غير ذلك .

فإذن استواء الربّ جل جلاله على العرش ليس استواءً كماً يظنه الجهلة وأهل البدع لما نفوا الاستواء , أنه .. أن ذلك يقتضي الحاجة إليه , لا وكلا , بل هذا فعل فعله الله جل وعلا , وصفة اتصف الله جل وعلا بها، والله سبحانه يتصف بما يشاء جل جلاله وتقدست أسماؤه , والعرش شرُف وعظُم بأن الله جل وعلا جعله مكاناً لاستوائه عليه سبحانه وتعالى؛ لأجل مخالفة المخالفين، قال: ولأجل الرد على جهالة الجاهلين .

قال الطحاوي هنا: "وهو مستغن عن العرش" يعني: أن الله جل وعلا موصوف بالغنى المطلق من كل وجه , كما وصف بذلك نفسه في القرآن , وهو مستغن عن أعظم المخلوقات وأعلى المخلوقات وفوق المخلوقات وهو العرش، فاستغناؤه جل وعلا عما دون ذلك الخلق العظيم وهو العرش، لا شك أنه من باب أولى , فقال رحمه الله هنا في وصف الله: "وهو مستغن عن العرش وما دونه؛ وذلك لكمال غنى الرب جل وعلا، وكمال جلاله وكمال قدرته سبحانه , وكمال قهره ولعلوّ ذاته سبحانه وتعالى , وأنه الحيُّ القيوم"

القيوم يعني أن كل شيء إنما قيامه بالله جل وعلا، فأي شيء في هذه الدنيا , بل أي شيء من مخلوقات الله جل وعلا لو تخلى ربنا جل وعلا عنه لباد ولهلك , ولما استقام له شأن , ولهذا كان من دعاء أعرف الخلق بربه , وأعلم الخلق بربه عليه الصلاة والسلام , كان من دعائه لربه أنه يقول: ((ولا تكلني لنفسي طرفة عين)) , فهذا فيه التخلي عن كل حول وقوة, وعن أن يوكل العبد إلى نفسه طرفة عين .

فإذن كل الخلق قيامهم بالله جل وعلا، وكل الخلق فقراء إلى الله جل وعلا , ومن ذلك العرش والرب سبحانه هو الغني الحميد المستغني عن كل ما عداه , والمفتقر إليه كل شيء سبحانه وتعالى .

قال: "محيط بكل شيء وفوقه" يعني: أن الرب سبحانه وتعالى موصوف بإحاطته بكل شيء، وأنه سبحانه فوق كل شيء، وهذه الإحاطة يأتي بيانها بالتفصيل , ومعناها: أن الرب جل وعلا محيط بصفاته بكل شيء بعظمته جل وعلا , وبقدرته , وبعلمه , فهو سبحانه بكل شيء محيط .

قال: "وفوقه" يعني: أن الله جل وعلا موصوف بالعلو المطلق , علو الذات والفوقية المطلقة , فوقية الذات له سبحانه, وكذلك علو وفوقية الصفات .

قال بعدها: "وقد أعجز جل وعلا عن الإحاطة خلقه" يعني أن الله جل جلاله لعظم قدرته , ولكماله في غناه , لا أحد ولا شيء يحيط به كما قال جل وعلا: ] لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [ , وقال جل وعلا لموسى: ] قَالَ لَن تَرَانِي [ في آية الأعراف: ] قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [ فإحاطة الرؤية بالله جل وعلا ممتنعة , وإحاطة العلم بالله جل وعلا ممتنعة، وإحاطة القدرة لله جل وعلا ممتنعة، فالعباد إذن مهما بلغ شأنهم فيما أعطاهم الله من القوة فإنهم أحقر , وأضعف وأذل لله جل وعلا من أن يحيطون به جل وعلا علماً , أو يحيطون به جل وعلا وصفاً، أو يحيطون به جل وعلا قدرة , إلى آخر ذلك , بل هو سبحانه المتصف بصفات الكمال .

وهذا من الطحاوي –رحمه الله تعالى- تقرير لعقيدة عظيمة من عقائد أهل السنة والجماعة , مخالفة للمعتزلة والخوارج والرافضة والأشاعرة , وطوائف كثيرة من الصفاتية ومن غيرهم . وفي هذه الجملة مسائل لبسط الكلام عليها:

المسألة الأولى:

قوله: "وهو مستغن عن العرش" مستغن من الغنى , وهو عدم الحاجة، والله جل وعلا سمّى نفسه بالغني كما في قوله سبحانه: ] وهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [ وفي قوله: ] إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [ وفي قوله: ] فإن الله غني عن العالمين [، وفي قوله أيضاً جل وعلا: ] وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً [ ونحو ذلك من الآيات , فهو سبحانه موصوف بالغنى، ومن أسمائه الغني، ومعنى هذا الاسم الذي هو من أسماء الجلال لله جل وعلا، ومن أسماء الجمال لله جل وعلا , معنى هذا الاسم أنه سبحانه الذي يحتاج إليه كل شيء، وهو المستغني عن كل شيء , وهذا الغنى غنى في القهر؛ فإن الله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى معين ليقهر من شاء، ويذل من شاء , كما أنه غنى في الملك , فالله سبحانه غنيٌ عن أن يعينه أحد في تدبير ملكه , ولكن يشرف من شاء من عباده ببعض ما يقومون به من عمل في ملكوت الله جل وعلا، كما يشرف الملائكة وبعض عباده الصالحين، وغناه أيضاً جل وعلا غنى لكمال قدرته سبحانه وتعالى، ومن هذا الأخير غناه عن العرش , فهو سبحانه بكمال قدرته واستغنائه بقدرته عن أحد من خلقه فإنه مستغن عن العرش، فإذن عموم غناه جل وعلا وإطلاق غناه جل وعلا، وأن الخلق جميعاً فقراء إليه سبحانه وتعالى هذا يشمل هذه المعاني جميعاً .

المسألة الثانية:

استغناؤه جل وعلا عن العرش وما دونه يقتضي , أن العرش وما دونه محتاج إليه , ومفتقر إلى الرب سبحانه وتعالى، وهذا له جهتان:

الجهة الأولى: أن العرش وما دونه مفتقر لله جل وعلا؛ لأنه لا قوامة له , ولا قيام له بنفسه , فهو محمول , له قوائم كما مر معنا في وصفه , وهو محمول , والذي يحمله خلق سخرهم الله جل وعلا لحمله , وأقدرهم على ذلك , فقدرتهم في حمل العرش واستقراره , وفي بقائه وقيامه إنما هو بقدرة الله جل وعلا، فهذا نوع من الحاجة .

والثاني أو الجهة الثانية: من افتقار العرش وما دونه إلى الله جل وعلا: أن كل شيء عبد لله جل وعلا، ومن ذلك العرش، فالعرش من مخلوقات الله التي تعبده وتسبحه وتذل له جل وعلا، وكذلك حملة العرش , وكذلك من في السماوات ومن في الأرض , وكذلك ما في السماوات وما في الأرض، وقد قال جل وعلا: ] إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَـنِ عَبْداً [ , وقال أيضاً: ] وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [ فقوله: ] وَإِن مِّن شَيْءٍ [ هذه نكرة جاءت في سياق النفي بإن؛ لأن إن هنا بمعنى ما، وإلا بعدها حاصرة أو قاصرة، فيكون المعنى: ما من شيء إلا يسبح بحمده، والعرش شيء وتسبيحه بحمد الله جل وعلا نوع من الذل والعبودية له سبحانه وتعالى، والعبودية والذل معنى من معاني الافتقار إلى الرب جل جلاله وتقدست أسماؤه .

وفي هذا تنبيه للعبد , للعباد بعامة , أن هذا المخلوق العظيم الذي الكرسي بالنسبة إليه كالحلقة الملقاة في فلاة من الأرض، والكرسي السماوات السبع بالنسبة إليه كما جاء في كلام أهل السلف كدراهم سبعة ألقيت في ترس , أو كحلقات ألقيت في ترس , والأرض صغيرة بالنسبة للسماوات، فإن هذا يعني أنك أيها العبد , أيها الإنسان المخلوق الضعيف الذي تعرف ضعفك تنظر إلى العرش الذي هو مفتقر إلى الله جل وعلا مسبح ذالٌّ منيب إلى ربه جل وعلا , كيف أنه لا يستغني عن مولاه، وكيف أنه يسبح ويحمد ويذل لله جل وعلا، فهذا المخلوق الضعيف جداً الذي هو الإنسان وابتلي بالتكليف لا شك أنه أولى بالذل لله؛ لأنه ضعيف جداً , ومفتقر للغاية .

فإذن النظر إلى العرش , وفقر العرش إلى الله جل وعلا، وأن قوامة العرش على عظمه وعظم خلق السماوات , وقلة أو ضعف نسبة خلق السماوات إلى العرش جدا، كيف الإنسان ينظر إلى نفسه؟ , لا شك أنه يستفيد من هذا في قلبه وعمله أنه أولى بالافتقار إلى الله , وأولى بالذل إلى الله , وأولى بالعبودية لله جل جلاله وتقدست أسماؤه، وهذا من ثمرات التفكر الشرعي والنظر في ملكوت السماوات والأرض، والنظر أيضاً فيما ذكر الله جل وعلا في كتابه من أنواع خلقه التي لم نر، ومنها عرشه جل جلاله وتقدست أسماؤه .

المسألة الثالثة:

قول المؤلف هنا في وصف الربّ جل وعلا: "محيط بكل شيء وفوقه" محيط هذا الوصف الإحاطة قد جاء وصف الله جل وعلا به في القرآن , في عدة آيات , كما في قوله سبحانه في آخر سورة فصلت: ] أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطُ [ وكذلك في قوله: ] وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً [ , وكذلك في قوله جل وعلا: ] وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ [ ونحو ذلك .

والإحاطة في اللغة: هي الإتيان للشيء من جميع جهاته , يعني من جميع الجوانب يكون مطوقاً، كما في قوله تعالى: ] وأَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا[ يعني جاءهم من كل جهة، وتفسير إحاطة الله جل وعلا بكل شيء .

السلف والمفسرون منهم من يمضي وهم الأكثر عن الدخول في هذا الوصف، يعني وصف الإحاطة , إحاطة الله جل وعلا بكل شيء , وكأنهم هربوا من أن يظن أن الإحاطة إحاطة ذات , كإحاطة الفَلَك بما فيه , وإحاطة السماوات بالأرض ونحو ذلك , ولا شك أن معنى إحاطة الذات ليس مراداً؛ فإن الله جل وعلا فوق مخلوقاته , والمخلوقات صغيرة بالنسبة لذات الله جل وعلا وجلاله سبحانه , ولهذا أعرضوا عن الخوض في تفسيرها , وفسرها طائفة من العلماء تفسيرا يوافق ما قاله السلف , وما يعتقده أئمة أهل السنة في ذلك , بقولهم إن الإحاطة أنواع:

إحاطة بمعنى أنها إحاطة عظمة لله جل وعلا، وبمعنى أنها إحاطة سعة، فالله سبحانه وصف كرسيه بأنه وسع السماوات والأرض , ووصف نفسه جل وعلا بأنه واسع سبحانه وتعالى , الذي وسع كل شيء , وإحاطة بمعنى أنها إحاطة صفات , إحاطة علم، إحاطة قدرة، إحاطة قهر، إحاطة ملك، إلى غير ذلك .

فهذه كلها من معاني إحاطة الرب جلا وعلا بعباده، ولهذا أين المفر؟ فكل أحد يُفَر منه إلى غيره , ولكن الله جل وعلا لإحاطته بخلقه , وإحاطته بجميع ملكوته سبحانه وتعالى إحاطة عظمة وسعة وقدرة وعلم , إلى غير ذلك , فإنه سبحانه إذا فررت منه فإنك لن تجد إلا أن تفر إليه سبحانه وتعالى: ] فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ [ ويقول القائل يوم القيامة: {أين المفر}؟ لا مفر من الله إلا إليه، وهذا إذا نظر إليه العبد مع التفكر وجد نفسه تتصاغر جدا أمام ربه جل وعلا، فيعظم الإيمان في قلبه , ويعظم اليقين , ويعظم توكله على الله , فيأنس بالله جل وعلا , وبما جاء من الله جل وعلا , حتى يصير راضياً بكل ما جاء من الله جل وعلا , ذالاً لربه سبحانه وتعالى .

وكلمة شيء في قوله: "بكل شيء" ذكرنا لكم أنها تفسر بأن الشيء ما يصح أن يعلم , أو يؤول إلى أن يعلم , والله سبحانه وتعالى إحاطته بالأشياء منها كما ذكرنا إحاطة علم، وإحاطة قدرة , فهو سبحانه وتعالى عالم بكل شيء , قدير على كل شيء، فإذن كلمة "كل شيء" هنا لأجل ما جاء في الآيات: {إن الله كان بكل شيء} , {وكان الله بكل شيء محيطاً} ونحو ذلك لأجل ما جاء في الدليل .

المسألة الرابعة:

وهي أعظم المسائل وأجلها في كلام الطحاوي هذا , وهي قوله في وصف الله جل وعلا: "محيط بكل شيء وفوقه" كما ذكرت لك أن الإحاطة قد يتبادر إلى بعض الأذهان أنها إحاطة ذات , بمعنى أن الأشياء جميعاً الله سبحانه بذاته محيط بها من كل جهة، وهذه قد نفاها العلماء , ولم يجعلوها تفسيراً للإحاطة , لهذا قال بعدها: "وفوقه" يعني: أنه مع إحاطته بكل شيء فهو فوق جميع الأشياء، والفوقية هنا هي المسألة المشهورة العظيمة في هذه الأمة , وهي مسألة علو الله جل وعلا على خلقه، وفوقية الرب جل وعلا على خلقه، والفوقية بمعنى العلو، فالآيات التي فيها تفسير الفوقية فيها ذكر الفوقية تفسر بالعلو , والآيات التي فيها العلو تفسر بالفوقية , ففوقية الرب جل وعلا هي علوه سبحانه على جميع خلقه .

المسألة الأولى:

أن العلو والفوقية ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

علو الذات .
وعلو القهر .
وعلو القدر والشرف .

وكذلك الفوقية:

فوقية الذات .
فوقية القهر .
وفوقية القدر والشرف .

وبعض أهل العلم يقسمها إلى قسمين:

1- إلى فوقية الذات .

2- وإلى فوقية الصفات .

علو ذات وعلو صفات , والأول هو الأكثر في تفسير أهل العلم الذين دوّنوا شرح عقائد أهل السنة والجماعة , ومعنى علو الذات وفوقية الذات , أن الله جل وعلا فوق جميع الأشياء , وأنه الأعلى سبحانه , وهذا هو الذي فسره به عليه الصلاة والسلام , ففسر الآية وهي آية سورة الحديد: ] هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [ فسر الظاهر وقال: ((وأنت الظاهر فليس فوقك شيء)) , سبحانه وتعالى , وفوقية القهر وعلو القهر يعني أنه سبحانه وتعالى لا يغلب ولا يرام جنابه , بل هو سبحانه وتعالى هو الذي يقهر من عداه , يملي ويستدرج ويقهر ويأخذ على غرّة ] وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [ فهو سبحانه عالٍ علو القهر , وهو فوق خلقه فوقية قهر وجبروت وعظمة للمولى جل جلاله .

والثالث علو وفوقية القدر , وهذا المعنى هو الذي يثبته المبتدعة من العلو , فلا ينازعون في علو القهر والقدر والشرف , فيقولون: معنى الله فوق خلقه كقول القائل: الملك فوق شعبه , أو الأمير فوق رعيته، يعني من جهة قدره وكقولهم: العلم فوق عامة الناس من جهة القدر، وكقول القائل: الذهب فوق الحديد , يعني من جهة المنزلة والقدر . وهذا تفسير ناقص كما سيأتي في هذه المسائل إن شاء الله تعالى .
المسألة الثانية:
يعني دخل بعضها في بعض ما يخالف؛ لأنها جميعاً متعلقة بالفوقية , العلو والفوقية لله جل وعلا ثابت دليل القرآن والسنة والعقل والفطرة , بل قال بعض العلماء: إن في القرآن والسنة ألف دليل لإثبات علو الله جل وعلا بذاته , وفوقيته بذاته على خلقه , وهذا يعني أن أمر العلو ومسألة العلو والفوقية من المسائل المتواترة العظيمة التي دلالتها صريحة , بل دلالتها نصية , فدلالتها إذاً قطعية .

لهذا دخل عدد من أهل العلم , بل صرح عدد من أهل العلم بتكفير من أنكر علو الله جل وعلا على خلقه لأجل عظم الأدلة في هذا , كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى , الأدلة التي دلت على علو الله جل وعلا على خلقه , وعلى أنه سبحانه فوقهم بذاته وصفاته كثيرة جداً , لهذا ابن القيم جعلها أنواع لأجل كثرتها جعلها ثمانية عشر نوعاً , كل نوع تحته جملة من الأدلة في الكتاب والسنة، ونذكر بعضاً منها , وترجعون إلى الباقي:

من ذلك أن الله جل وعلا صرح سبحانه , ونص على أنه فوق عباده , في قوله في سورة الأنعام: ] وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [ , ] وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ[ .

والنوع الثاني: أنه جاء التصريح بمن قبل الفوقية في قوله سبحانه في سورة النحل: ] يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [ ومن مقتضيات اللغة أن مجيء من بل الظرف فوق تدل بظهور على أن الفوقية فوقية ذات؛ لأن فوقية الصفة أو القهر أو القدر لا يؤتى فيها بمن لا يقال الذهب من فوق الحديد , ويعنى به في صفاته أو الملك من فوق الرعية، ويعنى بها من الصفات إذا أوتي بمن في اللغة قبل الظرف فوق؛ فإنها تدل على فوقية المكان أو فوقية الذات لله جل وعلا , يعني فوقية الذات لأي شيء، وفي الآية فوقية الذات لله جل وعلا , فإذاً قوله سبحانه لما وصف الملائكة بأنهم يسكنون السماء وأنهم يسبحون , قال: ] يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ [ يعني الذي هو فوقهم بذاته جل جلاله وتقدست أسماؤه.

النوع الثالث: أنه سبحانه ذكر أن الملائكة تعرج إليه فقال سبحانه: ] تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [ عروج الملائكة يعني صعودها , عروج الملائكة يعني ارتقاءها إلى أعلى , وإلى فوق , وهذا يدل فوقية الذات لله جل وعلا .

النوع الرابع: أنه سبحانه ذكر ونص على أن العمل الصالح يصعد إلى الرب جل وعلا , والأعمال الصالحة ترفع إليه سبحانه وتعالى , كما جاء في قوله تعالى في سورة فاطر: ] إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [ قوله: ] إليه يصعد [ يعني: لا إلى غيره؛ لأنه سبحانه هو المتفرد بعلو الذات على خلقه جميعاً .

الخامس من الأنواع: أن الله سبحانه ذكر أنه اختص بعض عباده بأن جعلهم عنده ومن ذلك الملائكة , فالملائكة في السماء , ولكن هم متنوعون أيضاً في سكناهم للسماء , فجعل جل وعلا بعضهم مختص بأنه عنده سبحانه , وهذه العندية هي عندية علو وفوقية كما في قوله سبحانه: [والذين عند ربك لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ]* ونحو ذلك من الآيات , فالعندية عندية الملائكة يعني كون الملائكة عند الله [والذين عند ربك]* * يقتضي أنه سبحانه شرفهم وخصهم بشيء وهو أنهم عنده يعني في علاه جل وعلا , وكذلك ما وصف الله جل وعلا به الشهداء في قوله: ] وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [ أحياء عند ربهم هم بين الخلق جسداً ولكنهم عند ربهم روحاً يعني في العُلى تكريماً لهم وتعظيماً لأجرهم وثوابهم .

النوع السادس: وهذه كلها ذكرها ابن القيم تحفظونها؛ لأنها نافعة في الاحتجاج ومجادلة من ينكرون علو الله جل وعلا , ما ذكر الله جل وعلا من تنزيله للكتاب من عنده , كقوله: ] تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [ وكقوله: ] تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [ وكقوله: ] تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ [ وكقوله سبحانه: ] قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ [ , ] نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ [ ونحو ذلك من الآيات والأنواع كثيرة يمكن أن تطلبوها، وفيها أقوى دلالة وأوضح برهان على أن الله سبحانه هو العالي فوق خلقه بذاته جل وعلا .


المسألة الثالثة:

دلالة السنة على فوقية الله جل وعلا , أيضاً جاءت الأدلة فيها كثيرة جداً كقوله عليه الصلاة والسلام: ((وأنت الظاهر فليس فوقك شيء)) وكقوله: ((والعرش فوق سماواته والله فوق ذلك)) في الحديث الذي مر معنا البحث فيه , وأن أهل السنة يستدلون منه بهذا القدر لثبوته في أدلة أخرى، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع يشير إلى السماء, ثم ينكت بإصبعه الأرض: ((اللهم هل بلغت اللهم فاشهد))، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الجارية لما سألها: ((أين الله؟)) قالت: في السماء . قال عليه الصلاة والسلام لسيدها: ((أعتقها؛ فإنها مؤمنة)) , والأدلة على علو الله جل وعلا في السنة كثيرة .

الرابعة: الدلالة العقلية , دلالة العقل على علو الله جل وعلا بذاته على خلقه , ودلالة العقل متنوعة وكثيرة , لكن نكتفي منها بدليل عقلي واحد , وهو أن الله جل وعلا موجود سبحانه وتعالى بالاتفاق , يعني كل من أثبت الله جل وعلا أثبت وجوده , حتى جهم الذي ينفي جميع الصفات يثبت وجود الله جل وعلا , فنقول لجميع هذه الفئات: إن الوجود قدر مشترك، فالله جل وعلا موجود , وخلق الله جل وعلا أيضاً موجودون , وهذان الوجودان إما أن يتمايزا وإما أن يتداخلا , فإن تداخلا يعني صار أحدهما داخل الآخر، إما أن يكون الخلق محيطين , والله جل وعلا في داخل خلقه، وإما أن يكون الله جل وعلا الخلق في داخله سبحانه وتعالى , خلق الله جل وعلا والكائنات منها أشياء مستقبحة ...


الـوجـه الـثـانـي

... ومستقذرة وقبيحة , مثل النجاسات ومثل القاذورات , ومثل الأشياء التي لا يصرح بها، ونحو ذلك , استقذاراً واستهجاناً , والمخلوقات , بعض المخلوقات السيئة ونحو ذلك , وهذه لا أحد من جميع من يبحث هذه المسائل يقول بجواز أن تكون في داخل الله جل وعلا , فإذاً [حصل الأمر إلى أنه يتعين أن يكون الله جل وعلا عالياً على خلقه؛ لأن] * الاختلاط يقتضي هذا المعنى العقلي الفاسد , وكون الله جل وعلا في داخل خلقه هذا فيه نقص لله جل وعلا , وهذا برهان عقلي صحيح؛ وذلك لأنه مبني على مقدمتين , وهاتان المقدمتان إثباتهما مشترك بين جميع الفئات:

المقدمة الأولى: وجود الله جل وعلا .

والمقدمة الثانية: تنزه الله جل وعلا عن أن يكون في داخله شيء مما يستقبح أو يستقذر .
البرهان الأخير أو (إيش)؟ المسألة الخامسة هذه في الدليل الفطري:

الدليل الفطري لعلو الله جل وعلا هو أنه: كل أحد يُحس من فطرته , سواء علم الدين أو لم يعلم الدين , عُلِّم أو لم يعلّم أن قلبه عند الحاجة , وعند الرغب إلى الله جل وعلا , وعند انقطاع الأسباب وبقاء لطف الله جل وعلا , أنه يتجه القلب إلى العلو , وهذا شيء فطري مغروس في الإنسان، ولهذا ذكر شارح الطحاوية , وقد نقله أيضاً غيره ذكروا قصة , قصة الزاهد الآثري الهمذاني مع أبي المعالي الجويني الذي يلقب بإمام الحرمين , حيث ذكر إمام الحرمين في درسه نفي علو الله جل وعلا على خلقه علو الذات , وأن المراد بذلك علو القهر وعلو القدر , فقال له الشيخ الهمذاني: يا أستاذ .
وكلمة أستاذ في الزمن الأول تطلق على من أجاد فنًّا من الفنون , وأما كلمة الشيخ فتطلق على من له مكانة وديانة وورع وخوف من الله جل وعلا .

فقال له: يا أستاذ؛ لإجادته فنَّ الكلام: أخبرني عن هذه الضرورة التي أجدها في نفسي , وهي أني أطلب العلو إذا احتجت إلى الله جل وعلا . فقال أبو المعالي: حيرني الهمذاني , حيرني الهمذاني . لأن قوله بنفي العلو لله جل وعلا هذا منافٍ للفطرة , فلما استدل عليه بالفطرة قال: حيرني الهمذاني .

وقد ذكر بعض من صنف في الرحلات , كما ذكرته لكم في هذه الدروس , ذكروا أنهم زاروا في وقد ذهب من الخليفة العباسي إلى روسيا يعني إلى بلاد الترك , (اللي) هي روسيا الآن، وقال: وجدنا أناساً لا يعبدون الله جل وعلا , وليس عندهم رسالة . يريدون أن يشرحوا لهم الإسلام , قال: ولكنّا وجدناهم أنهم إذا أصابتهم شدة وعوات , إما من المطر ونحوه , أو من قحط ونحو ذلك , خرجوا إلى الفلاة ورفعوا أيديهم إلى السماء , ونظروا إلى السماء يهمهمون كأنهم يطلبون الفرج ممن هو في السماء . وهذا أمر مركوز في الفطرة كما ذكرنا لك .

إذاً دليل علو الله جل وعلا , وفوقية الرب سبحانه وتعالى دليل من القرآن والسنة ومن العقل ومن الفطرة . نكتفي بهذا القدر ونكمل إن شاء الله تعالى ما يتصل بهذا البحث الأسبوع القادم بإذنه تعالى . نجيب على بعض الأسئلة:

سؤال: ذكرتم كثرة الأدلة على ثبوت علو الله جل وعلا بذاته , ومع ذلك فأكثر الفِرق تنكره وتصرفه إلى المعاني الأخرى , فما سبب ذلك؟
جواب: سببه: أن إثبات العلو عندهم علو الذات يقتضي إثبات الجهة , أن يكون الله جل وعلا في جهة , وإثبات الجهة يقتضي التحيز , والتحيز ممتنع عندهم عقلاً؛ لأنه من صفات الأجسام , فمنعوا العلو لأجل ذلك , يعني هذه شبهتهم .

سؤال: ذكر بعض العلماء في مقدمة قول: الحمد لله الواحد القهار العزيز الغفّار , يبسط كفه بالأسحار . فهل العبارة الأخيرة صحيحة؟
جواب: هذا أخذها من الحديث الصحيح , الذي في الصحيح , أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيئ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيئ الليل)) فالعبارة صحيحة؛ لأن السَّحَر بعض الليل .

سؤال: آية الأنبياء: ] فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ [ فهل هذه عندية الذات أم عندية القهر؟
جواب: لا , العندية عندية الذات , العندية لا تنقسم , العندية عندية ذات , يعني عند الله جل وعلا فوق سماواته هذا معناه , قوله تعالى يقول في سورة الأنبياء: ] وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ [ ليست بالفاء , ليست والذين عند ربك أو فالذين عند ربك ] وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ [، والآية الأخرى: [فإن استكبروا فالذين عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ]*

سؤال: ما معنى ذات في قولنا: ذات الله سبحانه؟
جواب: الذَّات في اللغة: تأنيث ذو , يقال: هذا الشيء ذو صفات , وهذه ذات صفات . هذا في الأصل , ولا تطلق إلا مضافة , ما تطلق الذّات مستقلة إنما تطلق مضافة , وقد جاءت في قول الصحابي -t- في شعره المشهور قال:

وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزع

استعمال كلمة ذات مضافة لله جل وعلا موجودة، وقد قال سبحانه: ] فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ [ استعملت بعد ذلك الذات ويعنى بها ما يقابل الصفات , فقُسم الشيء إلى صفة وإلى ذات , ذات وصفات , لم قسم هذا التقسيم؟ لأن الصفة تضاف إلى الموصوف , فكأنه قال القائل: الذات يعني الشيء الذي هو ذو الصفات , فالذات المتصفة بالصفات , فقسموها لأجل أن الذات كأنه نعتها بقوله: الذات الموصوفة بالصفات , فيكون تتمة الكلام محذوف، ثم استعمل يعني كلمة الذات هكذا بالتعريف , استعملت بدون إضافة ولا تنكير , معرفة الذات استعملت استعمالاً واسعاً في كلام أهل العقائد .

فإذاً نقول: الذات يعنى بها , الذات الموصوفة بالصفات، يعني ما يضاف إليه الوصف ويتصف به , طبعاً ربنا جل جلاله وتقدست أسماؤه لا نضيف إليه من شيء إلا إذا ثبت به الدليل بالكتاب أو السنة؟ وما يتوسع في الكلام في بيان العقيدة من الألفاظ أو التعابير الأولى، بل الذي ينبغي ويتأكد على طالب العلم أن يستعمل تعابير السلف؛ لأنها أبعد عن الخطأ في التعبير , بهذا يمرن طالب العلم نفسه على أن يعبر في هذه المسائل؛ مسائل التوحيد والعقيدة , بتعابير السلف؛ لأنهم أعلم وأحكم في هذه المسائل .

الله سبحانه وتعالى ينزه نفسه ويسبح له كل شيء , وتنزيه الله جل وعلا نفسه عن النقائص هو معنى تسبيح الله جل وعلا , هو معنى التسبيح , هذا جواب على سؤال صياغته ما كانت مناسبة , يمكن صاحبه يستفيد الجواب .

سؤال: أين ذكر هذه الأدلةَ ابنُ القيم؟
جواب: ذكرها في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية , وفي النونية , وفي غيرها , ذكرها شارح الطحاوية عندك .

سؤال: نرجوا إكمال شرح البلوغ في درس الخميس .
جواب: نرجوا إن شاء الله أن يتيسر له دورة أخرى نشرح فيها قطعة أخرى منه إنشاء الله تعالى .

سؤال: ما هو ضابط الاسم والصفة فيما ورد في الكتاب والسنة , مثلاً: [إن اللَّهُ كان غَنِيّاً حَمِيداً]* هل يقال: الغنى هنا صفة أم اسم؟ وهل المحسن من أسماء الله عز وجل؟
جواب: الجواب: كان غنياً هذا وصفه بالغنى , لكن والله هو الغني الحميد هذا اسم , وإذا أطلق الاسم فإنه يقتضي الاسم والصفة؛ لأن أسماء الله جل وعلا مشتملة على الصفات , وأما إذا جاءت الصفة فإنه لا يستقل ورود الصفة بإثبات الاسم بل قد ترد الصفة ولا نثبت لله جل وعلا الاسم الذي فيه الصفة , وهذه فيها يعني بحث أطول في وقته إن شاء الله .

ردا على سؤال غير مسموع: نعم، (هه؟) المحسن من أسماء الله جل وعلا؛ لأنه جاء في الحديث: ((إن الله محسن)) ومن أسماء العلماء من القديم عبد المحسن , وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وعلماء الدعوة أيضاً إذا ذكروا أسماء الله جل وعلا عدّوا فيها المحسن , والمحسن صفة كمال , والمحسن اسم متضمن لصفة كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه .

سؤال: يقول: في بعض الكليات في الجامعة يذكر بعض المدرسين أشياء خطأ في العقيدة، ولكنَّا لا نملك العلم الكافي لمجادلتهم , وكذلك هم لا يسمحون بالمجادلة، وكذلك نخشى إثارة الشبه , وكذلك نخاف أن يتسلط علينا بالدرجات ... إلى آخره؟
جواب: مسائل الدرجات ونحوها هذه ما هي بعذر؛ لأن من رضي الله عنه أرضى عنه الناس , وأنا أذكر مرة ما كنا في الجامعة حصل كان أحد الأساتذة يدرس , وكان عنده خلل في مسائل في الاعتقاد في مسائل الصحابة رضوان الله عليهم , والخلاف الذي حصل بين علي -t- ومعاوية , فذكرت له قول أهل السنة , وأن الصحابة يحب احترامهم وتعظيمهم وتوقيرهم , وأن هذا دين , الكلمات التي فيها تنقص أو تحتمل التنقص لا يجوز أن تقال , هذه ما يرضى بها من يعظم ويوقر الصحابة , حصل بحث ثم تركت الحضور إلى آخر العام إلى الاختبار , هذا يمكن عام من عشرين سنة 99 أو نحوها , أو 98 فـ ولله الحمد لا، يعني ما حصل لا حذف ولا درجات ولا تنقيص ولا حرمان مثل ما يقولون إلى آخره , مع أنه كان غياب مستمر .

المقصود أن العبد إذا نصر الله جل وعلا , ونصر دينه لابد أنه يحصل له ابتلاء , وقد يكرمه الله جل وعلا بأنه يحفظه , وهذا من نعمة الله جل وعلا وكرمه، فلهذا ينبغي أن يكون العبد واضحاً في هذه المسائل , إذا كان يعلم يبين له , لكن كيف يبين هل هو بإغلاظ أم يبين بالمجادلة المحمودة ] وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ وقال سبحانه: ] وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ فالأسلوب مهم , والصدع بالحق لا يعني الغلظة في الكلام حتى يكون معانداً متجبراً مكابراً, أو يغلظ هو كما أغلظ فرعون على موسى , فأغلظ عليه موسى بعد ذلك .

المقصود من هذا أن من عنده علم واجب عليه أن يبينه , ولا يجوز له أن يكتمه , لابد أن يبينه إذا كان عالماً، وكان حريا بـ .. والمسألة واضحة عنده لا شبهة عنده فيها لأجل أنه أحياناً يورث أيضاً المجادل شبهة أخرى أو يضعفك أمام الآخرين فتصبح حجته أقوى , ولهذا لا يدخل في المجادلة إلا المتمكن , في مثل هذه الحالات إذا خشي المرء أن يجادل أمام الناس يذهب معه في مكانه أو يناقشه على انفراد فهذا أولى، لكن السكوت مطلقاً ما يسوغ في أي مسألة , قد يرجح طالب العلم عدم الإنكار علناً مثلاً في بعض الأحيان لمصلحة شرعية , لكن السكوت مطلقاً بحيث أنه يمر المنكر أو فساد العقيدة أو نحو ذلك دون كلام فيه لا شك هذا من الذنوب .

سؤال: قلتم: من معاني العلو العندية , هل هذا المعنى لغوي أم شرعي؟
جواب: لا العلو معانيه نقول: علو ذات , علو قهر , علو قدر، علو ذات , علو صفات، ونحو ذلك , لكن العندية يعني فيما جاء من الأدلة فيه ذكر عند ربك , عند الله , فهذه دليل لعلو الله جل وعلا , ونوع من أنواع الأدلة في الكتاب والسنة , فلا نقول: إن معنى العلو العندية , لا , نقول: إنه قد تأتي عند ويراد بها العلو كما في قوله في الآيات التي ذكرنا لك: {الذين عند ربك} ونحو ذلك .

سؤال: الأخ كتب كتابة في أولها دعاء جزاه الله خيراً , ثم يقول: ولكن هناك بعض الدروس التي فاتت البعض ولم يتمكن من الحضور , وقد حاولنا أن نأخذ هذه الدروس من الأشرطة التي سجلت (إيش؟) ولكن رفضوا بحجة عدم الإذن , فنرجوا السماح للأشرطة .
جواب: الأشرطة إن شاء الله أنها يعني في طريقها , وأسأل الله جل وعلا أن يعفو عني الزلل وأن ينفعكم، لكن الأفضل أنها تنتهي يعني ينتهي الشرح ثم تنشر الأشرطة , هذا أفضل , وأنتم الآن استمروا معنا من الآن إلى آخر الطحاوية , الآن (إحنا) تقريباً تجاوزنا النصف , وأظن هذه السنة كافية إن شاء الله لننهي هذا الكتاب العظيم , ثم بعد ذلك تبدؤون من أولها .

سؤال: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيعتين في بيعة , فما صورة هذه المسألة؟ وهل تصح دليلاً لمن منع التقصير؟ وما حكم الزيادة مقابل الأجل إلى آخره؟
جواب: النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن بيعتين في بيعة , ونهى عن شرطين في بيع , ومعنى البيعتين في بيعة والشرطين في بيع , معنى الشرط هنا المشروط , وهو العقد , فالبيعة في البيعة يعني العقد في عقد , بيعتان في بيعة يعني عقدين في عقد , نهى عن شرطين في بيع , يعني عن عقدين في بيع , وهذا هو التفسير الصحيح لها .
صورة بيع التقسيط , بيع التقسيط لا يدخل في هذا؛ لأنه ينتهي المتعاقدان على أحد الصورتين، ولكن يدخل فيه لو تفرقا بدون تحديد أحد عقدي البيع , يعني هل هو آجل أم حاضر , يعني مثلاً يقول القائل: أنا أريد أن أشتري هذه السيارة فيقول له ذاك: لا بأس هي حاضر مائة وآجل بمائة وعشرين , فيقول الثاني: وافقت , اشتريت . فيقول: انتهينا . فيستلم السيارة , هنا ما تحددت الصورة , هل هو اشترى حاضراً أم اشترى آجلاً؟ فلهذا ذكر السلف كما جاء عن ابن مسعود -t- وعن غيره فيه عدم التحديد , تحديد صورة العقد هل هو آجل (ولا) حاضر؛ لأنه يختلف؛ لأن الضمان أيضاً يختلف , وثَم أشياء تترتب على ذلك .

أما إن تفارقا على صورة من صورتي العقد , على هذه أو هذه، فهذا يسمى بيع إما حاضر وإما آجل , أريد هذه السيارة . قال: بمائة حاضر وبمائة وعشرين آجل . قال أريدها حاضرة . تم هذا عقد مستقل , وشراء بعقد واحد غير متعدد, قال أريدها آجلة . قال: بمائة وعشرين , فكتبا العقد أو اتفقا على أن البيع آجل بمائة وعشرين بعد سنة , فهذا ليس بيعتين في بيعة – بيعتين في بيعة - يعني إما كذا وإما كذا , والمباع واحد , إما مائة حاضرة أو مائة وعشرين مؤجلة، والمثمن واحد , صار هناك، صار عقدان في عقد .

أما إذا تفارقا على صورة واحدة فهذا عقد واحد , قال: أريدها آجلة بمائة وعشرين , هذه صورة البيع الآجل , اختلف المعاصرون فيه وأتباع المذاهب الأربعة , والأئمة الأربعة متفقون على جوازه، وقد نقل الاتفاق الحافظ في فتح الباري , فقال: وقد اتفق العلماء على جواز البيع الآجل بازدياد الثمن لقاء الأجل إذا تفارقا على بيّنة , ولهذا نقول: الصحيح الذي هو قول جماهير أهل العلم وهو المتفق مع الأدلة وأقوال السلف ولا يخالفها ما جاء؛ لأنه يوجه للصورة التي ذكرنا من المفارقة دون تحديد أحد صورتي البيع .

نقول: الصحيح جواز بيع التقسيط , جواز البيع الآجل يعني أن يزيد في الثمن لقاء الأجل , وهذا ليس بربا , وليس ببيعتين في بيعة؛ لأن فيه إرفاق بالناس , والإرفاق مطلوب , وهذا جواب قوله: ما حكم الزيادة مقابل الأجل؟ الزيادة في المثمن في السلعة مقابل الأجل جائزة، ثم بعد ذلك هو يسلّم الثمن بعد انتهاء الأجل بعد السنة , بعد السنتين , يقول: بأشتري منك هذا البيت بخمسمائة ألف مليون ريال , متى تسدد؟ قال: بسدد لك بعد سنتين . قال: لا , بعد سنتين , تسدد لي بأجعل القيمة مليون ومائة . قال: ما يخالف , فيتفارقان ويكون التسديد بعد مضي المدة , لا بأس . إذا قال: لا بأس أنا اُأَجلها لك الثمن ولكن اجعله نجوماً لي , يعني اجعله أقساطاً , كلمة أقساط في الشرع في الأدلة في كلام السلف تسمى النجوم , مثلما نجوم الكتابة إذا أراد المكاتب أن .. إذا أراد العبد أن يعتق نفسه فإنه يُجعل عليه الثمن نجوماً , لا بأس؛ لأن المقصود أنه، المقصود في البيع , الأصل في البيع الإباحة إلا ما نهى عنه الشارع , لكن المطلوب ألا يكون عقداً ربوياً , لا يكون عقد غرر , وأن تتم الشروط الشرعية فيه .

سؤال: يقول: ما حكم قول القائل: مادة القرآن في وقت كذا؟
جواب: الجواب: أن القرآن كلام الله جل وعلا , وصفة من صفاته وتعظيمه واجب؛ لأنه أعظم شعائر الله جل وعلا التي أشعر عباده بتعظيمها وإجلالها، وقد قال جل وعلا في سورة الحج: ] وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [ فتعظيم شعائر الله واجب، وتعظيم حرمات الله جل وعلا واجب , والقرآن لا يساوى بغيره، ولا يجعل كغيره , فتجعل مادة من المواد كغيره , فتعظيم القرآن يقضي بألا يُجعل في تسميته كغيره من المواد , فيقال: مادة جغرافيا , ومادة انجليزي , ومادة قرآن، فهذا فيه عدم تعظيم , والله جل وعلا أمرنا بتعظيم كتابه .

ثم القرآن كلام الله , وكلام الله جل وعلا ليس بمادة؛ لأن المادة قد تطلق ويراد بها المادة المخلوقة , أو يراد بالمادة المخلوق، والقرآن كلام الله جل وعلا صفة من صفاته ليس بمخلوق .

نكتفي بهذا القدر , وأسأل الله جل وعلا لكم التوفيق والسداد والعلم والعمل، وأن يجمعنا على المحبة فيه , وعلى طاعته , وعلى نصرة دينه , إنه جواد كريم , وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .


مـجـلـس آخـر

بسم الله الرحمن الرحيم , الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمداً عبده ورسوله , صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد..,
نجيب على بعض الأسئلة فيما يجتمع الإخوة:

سؤال: هل يفهم من قوله تعالى: ] لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [ أن المؤمنين في الجنة إذا تجلى لهم الرب سبحانه وتعالى، أنهم لا يرون جميع ذات الرب سبحانه وتعالى؟
جواب: أولا: تعلمون أن الأصل في عقيدة السلف هو اتباع القرآن والسنة , وعدم تجاوز القرآن والحديث , وأن الكلام في الصفات والكلام في تقرير العقائد بتفصيل إنما جاء بعد فشو البدع , وكثرة كلام الضالين من الفرق في ذلك، فتوسع من توسع من أئمة السلف , لأجل أن المخالف توسع، والحق يقذف به على الباطل فيدفعه فإذا هو زاهق .

فالأصل أن المسلم السني المتبع لطريقة السلف , الراغب في الاعتقاد الحق , ألا يشغل نفسه بتفاصيل أسئلة في الصفات ليست على ظاهر الأدلة التي وقفنا عليها من سنة النبي عليه الصلاة والسلام , أو ما جاء في القرآن من آياته العظام , لهذا لا ينبغي تفصيلات الكلام في الصفات , بل قد يدخل ذلك في الكلام المذموم , إذا كان ليس ثم حاجة في تفصيل الكلام في الرد على أهل البدع , أو تقرير عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة، لهذا نقول ظاهر قول الله جل وعلا: ] لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [ أن الله جل وعلا لا تحيط به الأبصار , وأنه وإن رآه من شاء الله جل وعلا من عباده وشرفه بأن يرى الرب جل جلاله , فإنه يراه رؤية وليست بإحاطة .

فلذلك ظاهر الآية أن الإحاطة بالرب جل وعلا ممتنعة، سواء أكان ذلك في عرصات القيامة، أم كان ذلك بعد دخول أهل الجنة الجنة , جعلني الله وإياكم منهم .

سؤال: يدعو بعض الأئمة قائلاً: اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك , فهل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: ولا أقل من ذلك؟ وهل يعتبر هذا من التعدي في الدعاء؟
جواب: أما الحديث الذي أعلمه أنه مقتصر على طرفة عين , ((ربي لا تكلني لنفسي طرفة عين)) , وأما الزيادة (لا أقل) من ذلك تحتاج منكم إلى بحث , فأنا ما أحفظها الآن، وأما كونها تعد فليست من التعدي؛ لأنها من المبالغة في التذلل، والوقوف عند ما ورد في الحديث لا شك أنه أولى؛ لأنه كمال الذل لله جل وعلا , وكمال إظهار الفقر والحاجة والتبري من الحول والقوة .

سؤال: معلوم أن الإمام أحمد –رحمه الله تعالى- قال في مذهب المفوضة: "إنه من شر المذاهب" ومع ذلك وجد في كتب بعض أصحاب مذهبه بعض التفويض كما في كتاب المرداوي في شرح لامية لشيخ الإسلام , وفي لمعة الاعتقاد , فهل هناك فرق بين ما يقصد الإمام أحمد وما وقع فيه بعض أتباعه أم لا؟ نرجوا بسط القول في ذلك .
جواب: مذهب المفوضة مذهب كبير , والذين قالوا بالتفويض كثرة جداً , وليسوا بالقليل , سواء من المتقدمين يعني في عهد الإمام أحمد وما قبله إلى زماننا هذا , ثم رسالة طبعت مؤخراً بعنوان التفويض , فيها تفصيل الكلام على المذهب بما لا يمكن أن يقال في هذا الموضع ما يستحقه المقام , أو تستحقه المسألة، لكن الذي ينبغي أن تعلمه أن التفويض قسمان:

1- تفويض للكيفية 2- وتفويض للمعنى .

والذي ورد عن السلف فيمن قال منهم: إنهم يفوضون , أو نفوض هذا , أو نكل علمه إلى قائله، أو نحو ذلك مما يفهم منه التفويض ـ فيراد به تفويض الكيفية؛ لأن الكيفية من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله جل وعلا , كما قال سبحانه: ] هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ… [ إلى آخر الآية في الأعراف , وكذلك قوله: ] وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ [ عند الوقف على لفظ الجلالة , يدخل في التأويل ما تؤول إليه حقائق الأخبار ومنها: العلم بالكيفيات , فلا شك أن أحداً لا يعلم كيفية اتصاف الرب جل وعلا بصفاته , ولا كيفية الغيبيات على حقيقتها التي خلقها الله جل وعلا عليها؛ لأن هذا من علم الغيب الذي اختص الله جل وعلا به نفسه العلية جل جلاله وتقدست أسماؤه، فهذا النوع الأول تفويض الكيفية، فهذا نؤمن به , فنفوض كيفية الأمور الغيبية , ومن ذلك صفات الرب جل وعلا، ونعوت جلاله , ومعاني أسمائه , وما يتصل بذلك من أمور الغيب نفوض كيفيتها إلى ربنا جل وعلا .

القسم الثاني من التفويض: تفويض المعنى , يعني يقول: أنا أفوض العلم بالمعنى , أفوض المعنى ما أدري (إيش) معنى الرحمن الرحيم؟ ما أعرف (وإيش) معنى الرحمن {ثم استوى على العرش} لا أعلم معنى استوى , أفوض معناها إلى الله، فالاستواء ربما يكون معناه القهر , ربما يكون معناه العلو , ربما يكون معناه الرحمة , ربما يكون .. أي معنى، فيفوضون المعنى, فيقولون: لا نعلم معاني الغيبيات ولا أحد يعلمها، ولهذا ذهب إلى هذا المذهب قلة، يعني تفويض المعنى قلة من المتقدمين , يعني في القرن الثاني والثالث , وشاع عند طائفة من المتأخرين بسبب أنه قول للأشاعرة , وقد نظموه في عقائدهم، بقول القائل في جوهرة التوحيد:

وكل نص أوهم التشبيه أوِله أو فوض ورم تنزيها

فمذهب الأشاعرة له في الصفات قولان:

الأول: وهو الراجح عندهم والأقوى أن يؤول , تأول الصفات التي تتعارض مع الصفات السبع التي أثبتوها , تتعارض مع العقل .

والثاني: وهو صحيح عندهم , لكنه ليس بقول أهل العلم والحكمة , هو تفويض المعنى، وهذا التفويض تفويض المعنى حيث يقول: لا نعلم معنى الصفة , هذا موجود عند الأشاعرة من بعد أبي حسن الأشعري إلى وقتنا الحاضر، وهو أيضاً الذي راج على جملة من الحنابلة في كتبهم، حيث ظنوا أن ذم الإمام أحمد لمن فوض أنه تفويض الإثبات في أصله , يعني يقول: لا ندري نثبت أو لا .. لا ندري الصفة موجودة أو ليست بموجودة؟ أو نفي الصفة من أصلها، وفهموا أيضاً من قوله قول الإمام أحمد، وقول الشافعي ونحو ذلك: لا كيف ولا معنى، يعني في الصفات مثلما ساقها صاحب اللمعة، فهموا منه أنه التفويض، وفهموا أيضاً من قول الشافعي:

نؤمن بما جاء عن الله على مراد الله، ونؤمن بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم , أنه التفويض، هذا التفويض في الحقيقة تفويض المعنى هو الذي قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية وقال فيه غيره أيضاً: إن التفويض هو شر المذاهب؛ وذلك لأن تفويض المعنى يرجع إلى عدم العلم به، ولهذا صنفهم ابن تيميّة في أول درء التعارض , إلى أن من فوض فهو من أهل التجهيل، يعني الذين يقولون: إنه لا يوجد أحد يعلم معنى الصفات، ما يوجد أحد الصحابة يعلمون؟ لا هذه المعاني مجهولة , حتى إن بعضهم يقول: حتى النبي عليه الصلاة والسلام لا يعلم هذه المعاني، إنما هو إثبات ألفاظ دون معان لها، فنفوض المعنى؛ لأنه لا معنى معقول من هذه الصفات .

ولا شك أن مذهب المفوضة هو شر المذاهب؛ لأنه يقتضي تجهيل الصحابة رضوان الله عليهم، بل يقتضي أن في القرآن كلاماً , وآيات كثيرة لا أحد يعلم معناها، ومعلوم أن أكثر القرآن في الغيبيات، ولهذا جاء أول آية في القرآن في امتداح الذين يؤمنون بالغيب يعني في سورة البقرة: ] الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ[ والإيمان بالغيب يقتضي الإيمان بالكيفيات , والله جل وعلا أعلم بها , والإيمان بمعاني ما دلنا ربنا جل وعلا به على الغيب، نؤمن بها على ظاهرها يعني على ما دلت عليه لغة العرب، نعم معلوم أن المعاني في الشيء الواحد تتفاوت، فمثلاً إذا أخذت السمع، إذا أخذت البصر، إذا أخذت القوة، خذ القوة مثلاً والقدرة , الكائن الضعيف النملة لها قوة، ولها قدرة ولها نطق ولها سمع، ولها بصر , فأصل القوة موجود فيها، يعني إن معنى القوة موجود فيها ما هو أعلى منها في الخلقة، من جهة مثلاً الهرة , موجود عندها قوة لاشك موجود عندها بصر، موجود عندها سمع , موجود عندها قدرة على أشياء , خذ الأعلى منها الأعلى إلى أن تصل للإنسان , إلى أن تصل من الحيوانات إلى ما هو من جهة القوة والقدرة أقوى من الإنسان , يعني بذاته من جهة الحيوانات المفترسة كالأسد , ونحو ذلك مما ..

إذن القوة قدر مشترك , القوة قدر مشترك , لكن نقول: إنه ما دام في النملة مختلفة عن الإنسان نقول: لا، فالإنسان ما له قوة؛ لأن قوة النملة هذه , هذا تحديد للصفة ببعض أفرادها، ببعض من يتصف بها، وهذا جناية على المعنى , جناية على المعنى الكلي؛ لأن اللغة العربية كليّات، فيها كليّات المعاني , أما الذي يوجد في الخارج فيه الذوات , نعم نقول: جدار، جبل، يد، أشياء هذه تتصورها , لكن من جهة المعاني , المعاني تتصور هذا المعنى بالإضافة إلى من اتصف به , ولهذا شيخ الإسلام انتبه لقوة هذا المعنى في الرد على المبتدعة من الصفاتية والجهمية وغيرهم فقرره في كتابه التدمرية كما تعلمون , إذن فتفويض المعنى , المعنى أصلاً متفاوت، فإذا فوضنا المعنى , معناه إنه .. لا نعلم أي قدر من هذا المعنى , وهذا لا شك أنه نفي وجهالة بجميع دلالات النصوص على الأمور الغيبية , وهذا باطل؛ لأن القرآن حجة , وجعله الله جل وعلا دالا على ما يجب له جل وعلا , وما يتصف به ربنا سبحانه وتعالى , من نعوت الجلال والجمال والكمال . التفويض يعني يحتاج إلى مزيد بسط لكن يمكن أن ترجعوا إليه في مظانّه .

وكثير من العلماء فهم وظن أن مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية والسلف هو التفويض , حتى إنهم ينقلون كلام شيخ الإسلام ويحملونه على التفويض , مثل السفّاريني , ومثل مرعي بن يوسف في أقاويل الثقات، وجماعة من المتأخرين ينقلون كلام شيخ الإسلام، وفهموا إن مذهب الإمام أحمد ومذهب شيخ الإسلام ومذهب السلف الذي هو أسلم , أنه التفويض وهذا ليس بصحيح , إذا كان المقصود تفويض المعنى، بحيث إنه لا نعلم معنى استوى , لا نعلم معنى {وهو العلي العظيم}، (إيش) معنى العلي؟ نقول: لا نعلم معناها , ما نعرف العلو، ما نعرف هنا العلي , قد يكون بمعنى الرحيم، قد يكون بمعنى القدير , قد .. فهذا تجهيل وجهالة , بل ربما آل إلى طعن في القرآن .

سؤال: هل الشيطان أو الجن يعلم ما في نفس ابن آدم؟ ,
جواب: هذا يحتاج إلى مراجعة وتأمل ما أدري ,

سؤال: ما منهج أهل السنة في الرؤى والمنامات من حيث الاعتماد عليها؟
جواب: هذه لا يتميز بها أهل السنة عن غيرهم , هذه مسألة من مسائل الفقه والأدب يعني الآداب العامة .

سؤال: كنت مسافراً فأردت أن أجمع بين الظهر والعصر، فصليت مع جماعة خلف إمام , فعلمت بعد أن قام إلى الركعة الثالثة أنه مقيم , لكني لم أقم معه إلى الثالثة , فجلست ثم سلمت، وبعدها دخلت معه مرة أخرى بنية صلاة العصر، فما حكم ذلك؟
جواب: يجب عليك أن تعيد الظهر والعصر؛ لأنك صليت خلف إمام مقيم , والواجب عليك .. الفرض عليك أن تصلي صلاة المقيم , قد صح عن ابن عباس -t- أنه قال: من السنة إذا ائتم المسافر بالمقيم أن يصلي صلاة مقيم . هذا هو الواجب عليه، فلو صلى صلاة مسافر فإنه يؤمر بالإعادة؛ لأن الواجب عليه أن يصلي صلاة مقيم , فهذا سلم ثم دخل أيضاً، فصارت صلاته الثانية من أصلها ومفارقته ليست واقعة موقعها، فلذلك الواجب عليه أن يعيد الظهر والعصر .

سؤال: ما الفرق بين الهداية والتوفيق عند أهل السنة؟ وهل بينهما عموم وخصوص؟ بينوا لنا ذلك .
جواب: الهداية لفظ يشمل الدلالة على ما فيه، أو ما الحاجة إليه، فأنت محتاج إلى طريق , تحتاج إلى من يهديك الطريق، تحتاج في مسألة إلى إيضاح , تحتاج من يهديك في هذه المسألة، فأصل الهداية الدلالة فيها دلالة وإيضاح، في القرآن ...
الشيخ: العامة، وهي هداية المخلوق إلى ما فيه بقاء حياته، وحسن معاشه، والدليل على هذه المرتبة قوله جل وعلا: ] الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [ يعني هداه إلى ما فيه مصلحته في دنياه , إلى آخر ذلك، فالله جل وعلا هدى الرضيع كيف يلتقم الثدي ويحتاج إليه، وهدى الطائر لمصلحته، وهدى الحيوان لمصلحته , إلى آخر ذلك .

النوع الثاني: الهداية بمعنى الدلالة والإرشاد , دلالة وإرشاد من آخر لما فيه المصلحة، مصلحة العبد في دنياه أو في آخرته أو فيهما معاً , وهذه هي الأكثر في القرآن، الهداية بهذا المعنى , وهي هداية الدلالة والإرشاد، وهي التي جاءت في مثل قوله جل وعلا: ] وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [ يعني دال يدلهم على الطريق .

الثالث: هداية التوفيق , وهي أخص من الأولى , يعني: أخص من التي قبلها، هداية التوفيق , وهذه خاصة بالله جل وعلا , هو الذي يوفق ويلهم، فالرسل هداة بمعنى أنهم يدلون ويرشدون , لكن هداية التوفيق هذه من الله جل جلاله: ] وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ [ هذا حصر , التوفيق من الله جل وعلا دونما سواه لها نفاها ربنا جل وعلا عن نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: ] إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ [ فنفي عنه الهداية في هذه الآية , وجعلها لله جل وعلا، مع إثباتها لنبيه عليه الصلاة والسلام في قوله جل وعلا في آخر سورة الشورى: ] وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [ فالنبي صلى الله عليه وسلم يهدي ولا يهدي, يهدي بمعنى أنه يدل ويرشد ويعلم إلى آخر هذه المعاني .

ولا يهدي بمعنى هداية التوفيق، لا يوفق , بل الذي يوفق ويعين العبد ويصرف عنه السوء , ويعينه على الطاعة , ويصرف عنه الشياطين حتى يهتدي , بمعنى حتى يستقيم على أمر , لا, هذا رب العالمين جل جلاله وتقدست أسماؤه .

الهداية الرابعة: التي في القرآن , هي التي جاءت في سورة محمد , وهي هداية أهل النار للنار , وهداية أهل الجنة للجنة , فهداية أهل الجنة للجنة في قول جل جلاله: ] وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ [ هذه الهداية وقعت بعد القتل , وما بعد القتل الهداية إلى أي شيء؟ الهداية إلى الجنة، لهذا قال بعدها: ] سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [ قال العلماء: يهديهم يعني إلى الصراط وإلى طريق الجنة، وهداية أهل النار إلى النار، كقوله في سورة الصافات: ] فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ [ .

إذن فتبين من هذا أن التوفيق مرتبة من مراتب الهداية , والذي يتصل بالإيمان بالقضاء والقدر وفعل العبد من هذه المراتب المرتبتان الثانية والثالثة، هداية الدلالة والإرشاد، وهداية التوفيق والإلهام، لذلك شاع عند العلماء أن الهداية قسمان:
ـ هداية دلالة وإرشاد .
ـ وهداية توفيق وإلهام .

لأن هذين النوعين هما اللذان نحتاج إليهما في أعظم المسائل المتعلقة بالهداية، مسألة القضاء والقدر، والهداية والضلال، أما الهداية العامة وهداية أهل الجنة الجنة , وأهل النار النار، هذه متفق عليها معلومة عند الجميع، نكتفي بهذا القدر . اقرأ .
المسألة الخامسة: مما يتعلق بقوله في وصف الرب جل وعلا:"محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه" .
المسألة الخامسةهي: أن نفاة العلو عن .. لربنا جل وعلا يُعنى بهم من ينفي علو الذات لله سبحانه وتعالى، أما علو القهر والقدر فهذا يثبته الجميع، فإذا قيل: نفاة العلو فيعنى بهم من ينفي علو الذات لله جل وعلا، والذين نفوا علو الذات لربنا جل وعلا خالفوا الأدلة التي ذكرناها لكم من الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة، وأيضاً احتجوا هم بأدلة عقلية؛ لنفي علو الله جل وعلا تعالى الله عن قولهم، والدليل العقلي الذي من أجله نفوا صفة العلو لله سبحانه وتعالى قالوا: إن علو الذات , يعني أن الله جل وعلا عال على خلقه بذاته هذا يقتضي أن يكون في جهة؛ لأن العلو أحد الجهات الست، والجهات الست هي أمام، خلف، يمين، شمال، تحت , وفوق، فإثبات الفوقية وإثبات العلو يقتضي أن يكون الرحمن جل وعلا في جهة من الجهات , وإثبات الجهة على أصلهم يقتضي أنه جسم .

(طيب) إذا كان جسماً عندكم بحسب تأويلكم , هل هذه النهاية؟ قالوا: لا , إذا كان جسما , إذا وصلنا إلى هذا فمعناه أننا نبطل الدليل الذي أثبتنا به وجود الرب جل جلاله , ما معنى هذا الكلام؟ معناه أن الجهمية والمعتزلة ومن نحا نحوهم أثبتوا وجود الرب جل جلاله، عن طريق حلول الأعراض في الأجسام، وقالوا: إن جعل الجسم محدّثاً , له محدث , إنما تبيناه , بأن أثبتنا أنه جسم، وكيف أثبتنا أنه جسم؟ قالوا: بحلول الأعراض فيه , حلول الأعراض فيه، (إيش) معناها؟ معناه إن هذا الجسم يتصف بصفات لا ترى , يحل فيه أشياء تغيره , تسمى الأعراض , تعرض له وتزول عنه , فمثلاً البرودة هذا عرض على حد كلامهم , والحرارة عرض أيضاً , الانتقال عرض، التقدم والتأخر عرض , الانخفاض عرض , العلو عرض , فهذه الصفات يجعلونها أعراضا، وهذه الأعراض إنما تقوم بالأجسام , فلما كان الجسم لا يقوم بنفسه يحتاج إلى أعراض حتى تميزه، وحتى يكون فاعلاً استدللنا على أنه يُفعل به؛ لأن هو لم يجلب الأعراض لنفسه الجسم، وإنما جلبت إليه، فمعناها أنه محتاج فقير يفعل به .

فإذن ثَم فاعل , وثَم محدث إلى آخره , فاستقام لهم بهذا أن جميع الأجسام الموجودة ثبتت جسميتها بحلول الأعراض فيها، وما دام أنه حلت الأعراض فيها , فثم من أحل الأعراض فيها، وأوجد الأعراض فيها والتي منها العلو، والنزول، والتقدم والتأخر , والمشي والهرولة , والأخذ والرد , إلى آخره .

فلهذا جعلوا هذا قاعدة تنتبه لها , فيما نفوا من الصفات يقولون: الدليل العقلي يبطل الاتصاف بهذه الصفة , أي دليل عقلي؟ هو الدليل العقلي الذي هو حلول الأعراض في الأجسام الذي به أثبتوا أن الله جل وعلا موجود .

فإذن قالوا: لو أثبتنا العلو , لو أثبتنا أن الله عال بذاته جل وعلا لعاد هذا الإثبات على دليلنا بالإبطال , يعني (إحنا) أثبتنا حدوث الأجسام بالأعراض , (طيب) هذا عرض , وهذه صفة تدل على أنه في جهة , وإذا صار في جهة معناه أنه متحيز، وإذا صار متحيزا معناه أنه جسم، وإذا صار علو أيضاً عرض حل في جسم معناه إذن إذا صار جسماً معناه أن ثمة شيء فعل به، فهذا إبطال للربوبية وتوحد الله جل وعلا بالخلق، ولهذا نفوا كل صفة من الصفات تكون من الأعراض، أو تكون من الحوادث , لهذا يتسم الصفاتية عموماً بل وجهم قبلهم، وهو الذي أنشأ هذا البرهان الباطل , يتسمون بهذه السمة؛
وهي أنهم يقولون: الدليل العقلي يمنع الاتصاف بهذه الصفة , ويعنون به الدليل العقلي على إثبات وجود الله جل وعلا، وهذه الجملة اليسيرة فصلتها لكم أظن في أحد الشروح , يمكن في شرح الواسطية بتفصيل , وهي سبب ونشأة القول بنفي الصفات , كيف طلع القول بنفي الصفات؟ لماذا اختلفت الأمة؟ وما هو منشأ الضلال فيها؟ وكيف تفرعت؟ ذكرناها لكم أظن في دروس الواسطية أو في غيرها .

إذن فالشبهة التي من أجلها نفوا العلو , هي أن العلو جهة , وكون الرحمن في جهة معناه أنه متحيز , إذا كان متحيزاً فمعناه أنه جسم , إلى آخره .

وهذه كلها ناشئة من اعتقادهم صحة الدليل الأول، والدليل الأول (اللي) هو إثبات وجود الرب جل وعلا عن طريق حلول الأعراض في الأجسام لا نسلمه , نقول: هذا دليل أصلاً باطل، ودليل غير صحيح، ولا يستقيم لإثبات وجود الرب جل وعلا .

بل أعظم إثبات لوجود الرب جل وعلا هو الدليل القرآني , وهو قول الرب جل وعلا في كتابه: ] أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ [ ليس ثَم إلا احتمالين:
ـ إما أن تكون خالقا . ـ أو مخلوقاً .

والسماوات والأرض إما أن تكون خالقة أو مخلوقة , تكون خالقة هذا ممتنع لأدلة كثيرة , فلابد أن تكون مخلوقة . كذلك الشجر، كذلك النبات، كذلك المياه، كذلك أجزاء بدنك، كذلك كل تنظيم تراه ثم احتمالين؛ إما أن يكون خالقاً وإما أن يكون مخلوقاً، والأدلة على إثبات وجود الله جل وعلا وأنه سبحانه المتفرد بتصريف الملك أكثر من أن تحصر , وفطرة الإنسان تأبى أن يقول بغير ذلك .

المقصود هذه شبهة من نفى العلو، ولهذا نقول: لو إنهم بنوا بنيانهم هذا على شفا جرف هار , بنوه على قاعدة باطلة , وعلى مقدمة باطلة , فيرد عليهم بإبطال مقدمتهم .

المسألة .. يعني هذا من جملة أدلتهم العقلية . ثم أدلة متنوعة (اللي) يريد المزيد يرجع لها في المطولات .

المسألة السادسة: ثم الكلمة عند المتكلمين وطائفة من نفاة العلو , وهي أنهم يقولون: إن السماء قبلة الدعاء , السماء قبلة الدعاء , إذا قال لهم قائل: إن فطرة الإنسان إنه إذا أراد أن يدعو اتجه إلى السماء . قالوا: هذا؛ لأن السماء قبلة الدعاء . وهذه الكلمة ربما رددها بعض المنتسبين إلى السنة , قالوا: إن السماء قبلة الدعاء . وهذا باطل , الكلمة هذه باطلة؛ فالسماء ليست قبلة الدعاء، فأعظم الدعاء الصلاة، والصلاة سميت صلاة لما فيها من دعاء العبادة، ودعاء المسألة , ومع ذلك جعلت قبلة الصلاة إلى بيت الله جل وعلا الحرام، فقبلة الدعاء هي قبلة الصلاة , وهي قبلة الميت التي يوجه إليها عند احتضاره , ويوجه إليها عند دفنه , وهي مكة أو الكعبة التي شرفها الله جل وعلا .

فإذن لا يصح أن يقول: إن السماء قبلة الدعاء؛ بل المشروع للداعي أنه إذا أراد أن يدعو أن يتوجه إلى القبلة , فهذا أكمل حالات الدعاء , إذا دعى أن يتوجه إلى القبلة، ثم إذا رفع يديه، فإنه يرفعها ويتجه ببصره وقلبه إلى القبلة , يتجه يعني بوجهه وبصره إلى القبلة، قد يرفع وجهه إلى السماء . مثلما حصل , النبي صلى الله عليه وسلم في بدر , رفع يديه شديداً حتى سقط رداؤه عن منكبيه , قال له أبو بكر: يا رسول الله مهلاً بعض مناشدتك ربك؛ فإنه منجز لك ما وعدك . ورفع وجهه وهذا لأجل الإلحاح في طلب الفرج من الله جل وعلا , وليس لأجل أن السماء قبلة؛ لأن أكثر دعاء النبي عليه الصلاة والسلام لا يرفع فيه وجهه إلى السماء , بل في الصلاة وهي دعاء , قال فيها عليه الصلاة والسلام .. أو نهى فيها نبينا عليه الصلاة والسلام عن رفع البصر إلى السماء . [كلام ليس له فائدة علمية]

المسألة السابعة:

قول الطحاوي رحمه الله: "قد أعجز عن الإحاطة خلقه" .
الإحاطة: المقصود بها إحاطة الخلق بالله جل وعلا، فالخلق لا يحيطون بالله جل وعلا , لا بذاته ولا بصفاته .

والإحاطة: لا تعني عدم العلم بالشيء، وإنما تعني العلم الكلي به , أو الإحاطة به من جميع جهاته، سواء كان من الصفات أم من غيرها , فالله جل وعلا أعظم وأجل أن يحيط به أحد من خلقه سبحانه وتعالى , لا في ذاته ولا في صفاته , بل هو الذي يحيط بكل شيء سبحانه , ولا يحيط به شيء , بل أعجز عن الإحاطة خلقه , يعني في قوله سبحانه: ] لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [ ونحو ذلك من الأدلة .
الإحاطة ذكرنا لكم معناها أظن في أول الكلام , وحاصل المعنى: أن الإحاطة يعني في اللغة: هي إدراك الشيء من جميع جهاته , وقد يكون الشيء هذا معنى , وقد يكون ذاتاً، الله سبحانه ذكر أن عباده لا يحيطون به علماً , وهذا لكمال صفاته سبحانه، وعجز البشر عن أن يدركوا تمام صفاته، ومن جهة اللغة إحاطة الذات كما في قوله جل وعلا: ] وأَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [ يعني صار من جميع الجهات , فإدراك الشيء من جميع جهاته المعنوية أو الذاتية يقال له في اللغة العربية: إحاطة , ولهذا سمى بعض علماء الاختصاص سموا البحار العظيمة محيطات؛ لأجل المعنى اللغوي في أنها تحيط ببقع كبيرة من الأرض من جميع جهاتها , الإعجاز كونه جل وعلا أعجز عن الإحاطة خلقه، هذا في الدنيا وفي الآخرة، فالخلق لا يحيطون بالله جل وعلا علماً في الدنيا، وكذلك المؤمنون إذا رأوه يوم القيامة فإنها رؤية بصر , رؤية عين وليست رؤية إحاطة: ] لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [ سبحانه وتعالى .


* ما بين المعقوفتين غير مسموع في الشريط .
* الآية الصحيحة: ] وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ , أو ]أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [
* ما بين المعقوفتين غير مسموع في الشريط .
* الآية الصحيحة: ]وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)[ أو: ]إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [
* * الآية الصحيحة: ]إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [
* ما بين المعقوفتين غير مسموع في الشريط .
* الآية الصحيحة: ]فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ [ أو:]إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [ .
* الآية الصحيحة: ] وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً [ .


  #6  
قديم 5 ربيع الأول 1430هـ/1-03-2009م, 10:38 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح العقيدة الطحاوية للشيخ: يوسف بن محمد الغفيص (مفرغ)


الإيمان بالعرش والكرسي
قال المصنف رحمه الله: [والعرش والكرسي حق، وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه] . العرش والكرسي ثابتان بإجماع أهل السنة، وإن كان بعض الطوائف يتأولون ذلك، وقد تواتر ذكر العرش في الكتاب والسنة، وذكر الله في سبعة مواضع من كتابه أنه استوى على العرش، فقال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه:5] فأهل السنة والجماعة يثبتون استواءه سبحانه وتعالى استواءً يليق بجلاله، وأن العرش هو أعلى المخلوقات وهو سقفها.

أقوال المتكلمين في العرش
قال طائفة من أهل الكلام: العرش هو الملك، وهذا غلط من جهة اللسان وغلط من جهة أدلة الشريعة نفسها؛ فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}[هود:7] ، ولو كان المراد بالعرش الملك لما صح هذا، وكذلك قال سبحانه: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}[الحاقة:17] فلو كان هو الملك لما صح هذا السياق؛ مما يدل على أنه حقيقة ماهيته مخلوقة، وهو أعظم مخلوقاته سبحانه وتعالى. وقال طائفة من المتكلمين: إنه مستدير؛ لأنهم جعلوه فلكاً، وقد انعقد الإجماع على أن سائر الأفلاك مستديرة، وإنما النظر في كون العرش فلكاً، فظاهر كلام أهل السنة المتأخرين - وإن كان متقدموهم لم يفصحوا بتفصيل في ذلك - أن العرش هو كالقبة فوق العالم، وأنه ليس مستديراً من كل جهة.
معنى الكرسي
وقوله: (الكرسي حق): هو المذكور في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] وأجود ما جاء في تفسيره قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (الكرسي موضع القدمين لله سبحانه وتعالى)، وهذا الجواب المأثور عن ابن عباس هو الذي عليه عامة أهل السنة والحديث؛ فإنهم يذكرون في تفسير الكرسي ما نقل عن ابن عباس وأصحابه، وهو المأثور عن جمهور السلف. وقوله: (محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه). أي: أنه سبحانه وتعالى محيط بكل شيء، وأنه فوق كل شيء كما جاء صريحاً في كتاب الله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}[النحل:50] ، وفي قوله سبحانه: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}[الأعلى:1] وقد ذكر سبحانه استواءه على عرشه، ومن معاني استوائه: علوُّه عليه، فإذا كان عليَّاً على عرشه فإن غير العرش من المخلوقات من باب أولى.
أول المخلوقات
والعرش سابق في الخلق للقلم، وأما حديث عبادة رضي الله عنه: (أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب) ، فإن المراد به: إنه عند أول خلقه أُمر بالكتابة وليس المقصود أن القلم هو أول المخلوقات، كقولك: أول ما دخل زيد قيل له: اجلس. أي: أنه عند أول دخوله أُمر بالجلوس. وإن كان بعض المعاصرين من أهل العلم يرجحون أن القلم هو أول المخلوقات على الإطلاق، وهو قول طائفة من أصحاب الأئمة من أهل السنة المتأخرين؛ لكن جماهير السلف وعامتهم على أن العرش متقدم عليه، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله:
والناس مختلفون في القلم الذي = سبق القضاء به من الديَّان
هل كان قبل العرش أو هو بعده = قولان عند أبي العلا الهمداني
والحق أن العرش قبل لأنه = قبل الكتابة كان ذا أركان
ثم أراد أن يبين معنى حديث عبادة فقال:
وكتابة القلم الشريف تعاقبت = إيجاده من غير فصل زمان
أي: أنه عند أول خلقه أمر بالكتابة.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الإيمان, بالعرش

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:28 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir