دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم الحديث الشريف > متون علوم الحديث الشريف > عمدة الأحكام > كتاب البيوع

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10 ذو القعدة 1429هـ/8-11-2008م, 03:25 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي [الوقف]

عن عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهُمَا قالَ: أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فأَتَى النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فقالَ: يا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًَا بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَال: ((إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا)) قالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلاَ يُورَثُ، وَلاَ يُوهَبُ، قالَ: فَتَصَدَّقَ عُمَرُ في الْفُقَرَاءِ، وَفِي الْقُرْبَى، وفي الرِّقَابِ، وَفي سبِيلِ اللهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ، لاَ جُنَاحَ عَلَى مَن وَلِيَهَا، أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَو يُطْعِمَ صَدِيقًا، غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ.
وفي لفظٍ: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ.


  #2  
قديم 14 ذو القعدة 1429هـ/12-11-2008م, 04:37 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي خلاصة الكلام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن البسام

بابُ الوَقْفِ


الْحَدِيثُ الثَّانِي والثَّمَانُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ
عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُمَا قالَ: ((أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا فقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَال: ((إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا)) قالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُوْرَثُ، وَلَا يُوْهَبُ، قالَ: فَتَصَدَّقَ عُمَرُ في الْفُقَرَاءِ، وَفِي الْقُرْبَى، وفي الرِّقَابِ وَفي سبِيلِ اللَّهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيهَا، أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَو يُطْعِمَ صَدِيقًا، غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ)).
وفي لفظٍ: ((غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ)).

المُفْرَدَاتُ:
قَوْلُهُ: (خَيْبَرَ). بلادٌ شمالَ المدينةِ لا تَزَالُ عَامِرَةً بِمَزَارِعِهَا، وكانتْ مَسْكَنًا لليهودِ حتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ عَنْهَا في خلافتِهِ.
قَوْلُهُ: (يَسْتَأْمِرُهُ). يَسْتَشِيرُهُ في التَّصَرُّفِ فيها.
قَوْلُهُ: (قطُّ). ظرفُ زمانٍ للماضِي، مُشَدَّدُ الطاءِ مَبْنِيٌّ على الضمِّ.
قَوْلُهُ: (أَنْفَسُ منهُ). النفيسُ الكريمُ الجَيِّدُ.
قَوْلُهُ: (لَا جُنَاحَ). لَا حَرَجَ وَلَا إِثْمَ.
قَوْلُهُ: (غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ). التَّمَوُّلُ اتِّخَاذُ الماءِ، أيْ: غَيْرَ آخِذٍ أَكْثَرَ منْ حاجتِهِ.
قَوْلُهُ: (غيرَ مُتَأَثِّلٍ). التَّأَثُّلُ اتِّخَاذُ أَصْلِ المالِ وجمعُهُ.

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: معنى الوقفِ: فهوَ تَحْبِيسُ الأصلِ وتَسْبِيلُ المنفعةِ.
الثَّانِيَةُ: أنَّهُ لا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ في الوقفِ بما يَنْقُلُ المِلْكَ كالبيعِ، أوْ يَكُونُ سَبَبًا في النقلِ كَرَهْنِ الأصلِ بلْ يَبْقَى لَازمًا.
الثَّالِثَةُ: أنَّ مَصْرَفَ الوقفِ الشرعيِّ هوَ جهاتُ البِرِّ والإحسانِ كالأقاربِ الفقراءِ والجهادِ والعِلْمِ.
الرَّابِعَةُ: أنَّهُ يَصِحُّ شَرْطُ الواقفِ الذي لا يُنَافِي الوقفَ، وأنَّهُ يَجِبُ تَنْفِيذُ شَرْطِهِ.
الْخَامِسَةُ: جوازُ أَكْلِ ناظرِ الوقفِ منهُ بالمعروفِ بحيثُ يَأْكُلُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ.
السَّادِسَةُ: فِيهِ فَضْلُ الوقفِ، وأنَّ الأفضلَ أنْ يكونَ منْ نفيسِ المالِ، وأنْ يُصْرَفَ في أَنْفَعِ وجوهِ البِرِّ والإحسانِ.


  #3  
قديم 14 ذو القعدة 1429هـ/12-11-2008م, 04:40 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تيسير العلام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن البسام

بَابُ الوَقْفِ (95)

الحَدِيثُ الرَّابِعُ والثَّمَانُونَ بعدَ الْمائَتَيْنِ
284- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَصَابَ عُمَرُ أَرْضاً بِخَيْبَرَ، فأَتَى النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأَمِرُهُ فِيهَا فَقَالَ: يا رَسُولَ الله، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضَاً بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: ((إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا)) قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلاَ يُوْرَثُ،قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ في الْفُقَرَاءِ، وَفِي الْقُرْبَى، وفي الرِّقَابِ، وَفي سبِيلِ اللهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ، لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقاً، غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ.
وفي لفظٍ: ((غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ)).(96)

95-

قالَ ابنُ فارسٍ في [مَقَايِيسِ اللُّغَةِ]: الواوُ والقافُ والفاءُ أصلٌ يَدُلُّ على تَمَكُّثٍ، ثُمَّ يُقَاسُ عليهِ. ثُمَّ قالَ: ولا يقالُ: أَوْقَفَ.
قلتُ: ومِنْ أصلِ التَّمَكُثِّ يُؤْخَذُ الوقفُ الشَّرْعيُّ فَإِنَّهُ مَاكِثُ الأصلِ.
وتَعْرِيفُهُ شَرْعاً: حَبْسُ مَالِكٍٍ مالَهُ المنتفَعِ بِهِ معَ بقَاَءِ عَيْنِهِ عَن التَّصَرُّفاتِ بَرَقَبَتِهِ، وتَسْبِيلِ مَنْفَعَتِهِ على شيءٍ مِن أنواعِ القُرَبِ ابتغاءَ وَجْهِ اللهِ تَعَالَى.

وحُكْمُهُ: الاستحبابُ. وقدْ ثبتَ بالسُّنَّةِ، لأحاديثَ كثيرةٍ.
مِنْهَا حديثُ أبي هُرَيْرَةَ: أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:((إذا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ؛ صَدَقَةٍ جَارِيةٍ…)). إلخ
وإِجْمَاعُ الصَّدْرِ الأوَّلِ مِن الصَّحابةِ والتَّابِعِينَ على جَوَازِهِ ولزومِهِ.
قالَ الشَّافِعِيُّ: ولمْ يَحْبِسْ َأهْلُ الجاهليَّةِ فيمَا عَلِمْتُهُ، وِإِنَّمَا حَبَسَ أهلُ الإسلام، وهذا إشارةٌ إلى أَنَّهُ حقيقةٌ شَرْعِيَّةٌ.
وقالَ التِّرْمِذِيُّ: [ لاَ نَعْلَمُ بينَ الصَّحابةِ والمُتَّقَدِّمِينَ مِن أهلِ العلمِ خِلافاً في جوازِ وَقْفِ الإرَضِينَ ] إِلاَّ أَنَّهُ نُقِلَ عن شُرَيحٍ القَاضِي أَنَّهُ أَنْكَرَ الْحَبْسَ.
وقالَ أبو حنيفةَ: لا يلزمُ، وخالفهُ جميعُ أصحابهِ.
قالَ جابرُ بنُ عبدِ اللهِ: [لمْ يكنْ أحدٌ مِن أصحابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَا مَقْدِرَةٍ، إِلاَّ وَقَفَ ].
وبهذا يُعْلَمُ إجماعُ القرنِ المُفَضَّلِ عليهِ، فَلاَ يُلْتَفَتُ إلى خِلافٍ بَعْدَهُ.

أمَّا فَضْلُهُ، فهوَ مِن أفضلِ الصَّدَقَاتِ التي حثَّ اللهُ عليهَا، ووعدَ عليها، بِالثَّوابِ الجزيلِ؛ لأَنَّهُ صدقةٌ ثابتةٌ دائمةٌ في وجوهِ الخيرِ.
وقدْ وردَ في فضلِهِ آثارٌ خاصَّةٌ، لحديثِ عمرَ، وخالدٍ، وعَمَلِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهمْ أجمعينَ.

وهذهِ ِ الأحاديثُ الواردةُ في أصلِهِ وفضلِهِ، وهذا الفضلُ الجزيلُ الْمُتَرَتِّبُ عليهِ، هوَ إذا كانَ وَقْفاً شرعيّاً حقيقيّاً واقعاً في موقعهِ، مقصوداً بهِ وجهُ اللهِ تَعَالَى، مُوَجَّهَةً مَصَارِفُهُ إلى وجُوهِ القُرَبِ وأبوابِ الْبِرِّ والإحسانِ، مِن بناءِ المساجدِ والمدارسِ النَّافعةِ، والمشاريعِ الخيريَّةِ، وصَرْفِهِ إلى أهلِهِ مِن ذَوِي القربَى والرَّحِمِ، والفقراءِ والمساكينِ، والعاجزينَ، والمنقطعينَ، ومساعدةِ أهلِ الخيرِ والصَّلاَحِ، ونحوِ ذَلِكَ.

أَمَّا أَنْ يُحْجَرَ على أولادِهِ وَوَرَثَتِهِ باسمِ الْوَقَفِ حَتَّى لاَ يَبِيعُوهُ، أو تَكْثُرَ عليهِ الدِّيونُ فَيَقِفُ عَقَارَهَ خشيةَ أَنْ يُبَاعَ لأصحابِ الْحُقُوقِ، أو يَقِفُهُ على أولادِهِ، فَيَحْرِمُ بعضَهُمْ ويُحَابِي بعضَهُمْ، كأَنْ يجعلَ نصيبَ البَنَاتِ لَهُنَّ ما دُمْنَ على قَيْدِ الحياةِ، أو يُفَضِّلَ بعضَ الأولادِ على بعضٍ لغيرِ قَصْدٍ صحيحٍ أو يَقِفُهُ على جهةٍ مِن الجهاتِ التي لا بِرَّ فيها ولا قُرْبَةَ، ونحوِ ذَلِكَ. فهذا كُلُّهُ ليسَ بوقفٍ صحيحٍ،بل هوَ تَحْجِيرٌ باسمِ الْوَقْفِ.
ومثلُ هذا لا يُعْطَى حُكْمَ الوقفِ مِن اللُّزُومِ والثَّوَابِ والفضلِ والأحكامِ.
وبهذا يدخلُ في أبوابِ الظُّلْمِ، بدلاً مِن أبوابِ الْبِرِّ؛ لأَنَّهُ ليسَ على مُرَادِ اللهِ، وكلُّ مَا أُحْدِثَ في غيرِ أمرِ اللهِ فهوَ ردٌّ. أيْ: مردودٌ.
وبمَا تقدَّمَ تعرفُ الحكمةَ الجليلةَ مِن الوقْفِ، فهوَ إحسانٌ إلى الموقوفِ عليهمْ وبِرٌّ بِهِمْ، وهمْ أولى النَّاسِ بِالْبِرِّ والإحسانِ، وذَلِكَ إِمَّا لَحَاجَتِهِمْ كالْفُقَرَاءِ والأيتامِ والأراملِ والْمُنْقَطِعِينَ، أو للحاجةِ إليهمْ كالْمُجَاهِدينَ والمعلمينَ والمُتَعَلِّمِينَ والعاملينَ–تبرُّعاً- في خدمةِ الصَّالِحِ العامِّ.
وفيهِ إِحسانٌ كَبِيرٌ وبِرٌّ عظيمٌ للواقِفِ إذْ يَتَصَدَّقُ بهذهِ ِ الصَّدَقَةِ المؤبَّدَةِ التي يجرِي عليهِ ثَوَابُهَا بعدَ انقطاعِ أعمالهِ وانتهاءِ آمالِهِ، بِخُرُوجِهِ مِن دنياهُ إلى أُخْرَاهُ.
96- الْغَرِيبُ:
أرضاً بِخَيْبَرَ: بلادٌ شماليَّ المدينةِ تبعُدُ عنها 160 كم، لاَ تزالُ عامرةً بالمزارعِ والسُّكَانِ، وكانتْ مسكناً لليهودِ حَتَّى فتحَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامَ سَبْعٍ، فَأَقَرَّهُمْ على فِلاَحَتِهَا حَتَّى أَجْلاَهُمْ عمرُ في خلافَتِهِ.
وأرضُ عمرَ هذهِ ِ، اسمُهَا ((تَمْغٌ)) بفتحٍ فسكونٌ اشترَاهَا مِن أرضِ خَيْبَرَ.
يَسْتَأْمِرُهُ: يستشيرُهُ في التَّصَرُّفِ بِهَا.
قَطُّّ: ظرفُ زمانٍ للماضِي، مشدَّدُ الطَّاءِ، مبنيٌّ على الضمِّ.
أَنْفَسُ مِنْهُ: يعني أجودُ مِنْهُ، والنَّفِيسُ: الشَّيْءُ الكريمُ الجَيِّدُ الْمُغْتَبَطُ بِهِ.
لا جُنَاحَ: لا حَرَجَ، ولا إثِْمَ.
غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ، غيرَ مُثَأَثِّلٍ, التَّمَوُّلُ: اتِّخَاذُ المالِ أَخْذاً أكثرَ مِن حاجَتِهِ.
و((التَّأَثُّلُ)): اتِّخَاذُ أَصْلِ المالِ وجَمْعُهُ حَتَّى كأَنَّهُ قديمٌ عندَهُ.

المَعْنَى الإِجْمَالِيُّ:
أصابَ عمرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِي اللهُ عنهُ أرضاً بِخَيْبَرَ، قَدْرُهَا مائةُ سَهْمٍ، هيَ أَغْلَى أموالِهِ عندَهُ، لِطِيبِهَا وَجَوْدَتِهَا، وكانُوا - رَضِي اللهُ عنهمْ - يَتَسَابَقُونَ إلى الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ.
فجاءَ رَضِيَ اللهُ عنهُ إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَمَعاً في الْبِرِّ المذكورِ في قولِهِ تَعَالَى:{لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْقِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } يَسْتَشِيرُهُ في صفةِ الصَّدَقَةِ بِهَا لوجهِ اللهِ تَعَالَى، لِثِقَتِهِ بكمالِ نُصْحِهِ.
فأشارَ عليهِ بأحسنِ طُرُقِ الصَّدَقَاتِ، وذَلِكَ بأَنْ يَحْبِسَ أَصْلَهَا, ويَقِفَهُ فَلاَ يَتَصَرَّفُ بهِ ببيعٍ، أو إهداءٍ، أو إِرْثٍ، أو غيرِ ذَلِكَ مِن أنواعِ التَّصَرُّفاتِ، التي مِن شَأْنِهَا أَنْ تَنْقُلَ المِلْكَ، أو تكونَ سَبَباً فِي نقلِهِ، ويَتَصَدَّقَ بِهَا في الفقراءِ والمساكينِ، وفي الأقاربِ والأرحامِ، وأَنْ يَفُكَّ مِنْهَا الرِّقَابَ بِالْعِتْقِ مِن الرِّقِّ، أو بتسليمِ الدِّيَاتِ عن المستوجبينَ، وأَنْ يساعدَ بِهَا المجاهدينَ في سبيلِ اللهِ لإعلاءِ كلمتِهِ ونصرِ دينِهِ، وأَنْ يُطعمَ المسافرَ الذي انقطعتْ بهِ نفقتُهُ في غيرِ بلدِهِ، ويُطْعِمَ مِنْهَا الضَّيفَ أيضاً، فإكرامُ الضَّيفِ مِن الإيمانِ باللهِ تَعَالَى.
بِمَا أنَّهَا في حاجةٍ إلى مَن يقومُ عليها ويَتَعَاهَدُهَا بالرَّيِّ والإصلاحِ، فقدْ رُفِعَ الحرجُ والإِثْمُ عَمَّنْ وَلِيَهَا أَنْ يأكلُ مِنْهَا بالمعروفِ، فيأكلُ مَا يحتاجُهُ، ويُطْعِمُ مِنْهَا صديقاً غيرَ مُتَّخِذٍ مِنْهَا مالاً زائداً عن حاجتِهِ، فهيَ لمْ تُجْعَلْ إِلاَّ للإنفاقِ في طُرُقِ الخيرِ والإحسانِ، لا للتَّمَوُّلِ والثَّرَاءِ.

مَا يُسْتَفَادُ مِن الحديثِ:
1- يؤخذُ مِن قولِهِ:((إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا )) معنى الوقفِ الذي هوَ تَحْبِيسُ الأصلِ وتسبيلُ المنفعةِ.
2- يؤخذُ مِن قولِهِ:((غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يباعُ أَصْلُهَا، ولاَ يُوهَبُ، ولاَ يُورَثَُ)). حُكْمُ التَّصَرُّفِ في الوقْفِ، فإنَّهُ لا يجوزُ نَقْلُ المِلْكِ فيهِ، ولا التَّصَرُّفُ الذي يُسَبِّبُ نقلَ الْمِلْكِ، بل يَظَلُّ باقياً لازِماً، يعملُ بهِ حَسْبَ شَرْطِ الواقفِ الذي لا حَيْفَ فيهِ ولا جَنَفَ.
3- مكانُ الوقفِ، وأَنَّهُ العينُ التي تَبْقَى بعدَ الانتفاعِ بِهَا.
فأَمَّا مَا يَذْهَبُ بالانتفاعِ بهِ، فهوَ صدقةٌ، وليسَ لهُ موضوعُ الوقْفِ, ولا حُكْمُهُ.
4- يؤخذُ مِن قولِهِ:((فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ..إلخ)) مَصْرَفُ الوقفِ الشَّرْعِيِّ، وأَنَّهُ الذي يكونُ في وُجُوهِ الْبِرِّ والإحسانِ العامِّ أو الْخَاصِّ، كَقَرَابَةِ الإنسانِ، وفكِّ الرِّقَابِ، والجِهَادِ في سبيلِ اللهِ، والضَّيْفِ، والفقراءِ، والمساكينِ، وبِنَاءِ المدارسِ والملاجئِ والمستشفياتِ ونحوِ ذَلِكَ.
5- يؤخذُ مِن قَوْلِهِ: ((لاَ جُنَاحَ عَلَى مَن وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ)).صِحَّةُ شَرْطِ الواقفِ الشُّرُوطَ التي لا تُنَافِي مُقْتَضَى الوقفِ وغايَتَهُ،والتي ليسَ فيها إثِْمٌ ولا ظُلْمٌ.
فَمِثْلُ هذهِ ِ الشُّروطِ لا بأسَ بِهَا؛ لأنَّ لِلْوَاقِفِ فِيهَا منفعةً بِلاَ جَوْرٍ على أحدٍ.
فإذا شُرِطَتْ مِثْلُ هذهِ ِ الشُّروطِ نُفِّذَتْ، ولَوْلاَ أنَّهَا تُنَفَّذُ، لَمْ يَكُنْ في اشتراطِ عمرَ فائدةٌ.
6- في قَوْلِهِ: ((وَلاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا …)) إلخ جَوَازُ أَكْلِ نَاظِرِ الوقفِ منهُ بالمعروفِ بحيثُ يأكلُ قَدْرَ كفايتِهِ وحاجتِهِ، غيرَ مُتَّخِذٍ مِنْهُ مَالاً، وكذَلِكَ لهُ أَنْ يُطْعِمَ منهُ الصَّدِيقَ بِالْمَعْرُوفِ.
7- فيهِ فضيلةُ الوقفِ، وأَنَّهُ مِن الصَّدَقاتِ الجاريةِ والإحسانِ الْمُسْتَمِرِّ.
8- وفيهِ أنَّ الأفضلَ أَنْ يكونَ مِن أطيبِ المالِ وأنفسِهِ، طَمَعاً في بِرِّ اللهِ وإِحْسَانِهِ الذي جَعَلَهُ للذينَ ينفقونَ مِمَّا يُحِبُّونَ.
9- وفيهِ مُشَاوَرَةُ ذَوِي الفضلِ، وهمْ أهلُ الدِّينِ والعِلْمِ، وكلُّ عَمَلٍ لهُ أرْبَابٌ يَعْلَمُونَهُ.
10- وفيهِ أنَّ الواجبَ على المستشارِ أَنْ يَنْصَحَ بِمَا يَرَاهُ الأفضلَ والأحسنَ، فالدِّينُ النَّصِيحَةُ.
11- وفيهِ فضيلةُ الإحسانِ والْبِرِّ بِذَوِي الأرحامِ، فإنَّ الصَّدَقَةَ عليهمْ صدقةٌ وصِلَةٌ.
12- يؤخذُ مِن الحديثِ أنَّ الشُّروطَ في الْوَقْفِ لاَبُدَّ أَنْ تكونَ صحيحةً على مُقْتَضَى الشَّرْعِ، فَلاَ تكونُ مِمَّا يخالفُ مقتضَى الْوَقْفِ مِن الْبِرِّ والإحسانِ، ومِن العدلِ والْبُعْدِ عن الْجَوْرِ والْجَنَفِ والظُّلْمِ.
ونَسُوقُ هُنَا خلاصةَ ما قالَهُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ في ذَلِكَ فقدْ ذَكَرَ حديثَ عائشةَ: ((مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِعِ اللهَ فَلْيُطِعْهُ …)) وحديثَ بَرِيرَةَ: ((كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ في كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ … وَالْمُسْلِمُونَ على شُرُوطِهِمْ ….)) ثُمَّ قالَ:
مَن اشترطَ في الْوَقْفِ أو الْعِتْقِ أو الهبةِ أو البيعِ أو النِّكَاحِ أو الإجارةِ أو النَّذْرِ أو غيرِ ذَلِكَ شروطاً تُخَالِفُ مَا كتبهُ اللهُ على عبادِهِ، بحيثُ تَتَضَمَّنُ تلكَ الشُّروطُ الأمرَ بِمَا نَهَى اللهُ عنهُ، أو النَّهْيَ عَمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ، أو تَحْلِيلَ مَا حَرَّمَهُ، أو تَحْرِيمَ مَا حَلَّلَهُ، فهذهِ ِ الشُّرُوطُ باطلةٌ باتفاقِ المسلمينَ في جميعِ العقودِ، الْوَقْفِ وغيرِهِ، ولكنْ تَنَازَعُوا في العقودِ وَالْمباحاتِ كالبيعِ والإجارَةِ والنِّكَاحِ، هلْ معنى الحديثِ مَن اشترطَ شرطاً لمْ يثبتْ أَنَّهُ خالفَ فيهِ الشَّرْعَ، أو مَن اشترطَ شرطاً يعلمُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا شَرَعَهُ اللهُ.
هذا فيهِ تنازعٌ؛ لأنَّ قَوْلَهُ آخِرَ الحديثِ:((كِتَابُ اللهِ أَحَقُّ وشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ )). يَدُلُّ على أنَّ الشَّرْطَ الباطلَ مَا خالفَ ذَلِكَ.
وقولُهُ: ((مَن اشْتَرَطَ شَرْطاً لَيْسَ في كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ )). قد يُفْهَمُ مِنْهُ مَا ليسَ بمشروعٍ،
وصاحبُ القولِ الأوَّلِ يقولُ: مَا لم يَنْهَ عنهُ مِن الْمُبَاحَاتِ فهوَ مَا أَذِنَ فيهِ، فيكونُ مشروعاً بكتابِ اللهِ، وأَمَّا مَا كانَ {مِن} العقودِ التي يُقْصَدُ بِهَا الطَّاعَاتُ كالنَّذْرِ، فلاَبُدَّ أَنْ يكونَ المنذورُ طاعةً، فَمَتَى كانَ مُبَاحاً لمْ يَجِبِ الوفاءُ بهِ.
ثُمَّ تَحَدَّثَ شيخُ الإسلامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عن البدعةِ، وبَيَّنَ أنَّهَا جَمِيعاً مَذْمُومَةٌ في الشَّرْعِ، وبَيَّنَ أَنَّ مَا فُعِلَ بعدَ وفاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن جَمْعِ الْمُصْحَفِ، وجَمْعِ النَّاسِ على قارئٍ وَاحِدٍ في قيامِ رمضانَ، وطَرْدِ اليهودِ والنَّصَارَى مِن جزيرةِ العربِ، ليسَ بِدْعَةً، وإِنَّمَا هوَ شِرْعَةٌ؛ لأنَّ أقلَّ مَا يقالُ فيهِ أَنَّهُ مِن سُنَّةِ الخلفاءِ الرَّاشِدِينَ رَضِي اللهُ عنهمْ.
وعَقَّبَ على ذَلِكَ بقولِهِ: وبالجملةِ فَلاَ خلافَ بينَ العلماءِ أَنَّ مَن وَقَفَ على صلاةٍ أو صيامٍ أو نحوِ ذَلِكَ مِن غيرِ الشَّرْعيِّ لمْ يصحَّ وقْفُهُ، والخلافُ في المباحاتِ. وهذا أصلٌ عظيمٌ وهوَ التَّفْرِيقُ بينَ المباحِ الذي يُفْعَلُ؛ لأَنَّهُ مباحٌ، وبينَ ما يُتَّخَذُ دِيناً وعِبَادَةً وطاعةً وقُرْبَةً، فَمَنْ جعلَ ما ليسَ مَشْرُوعاً ديناً وقُرْبَةً، كانَ ذَلِكَ حراماً باتِّفَاقِ المسلمينَ.
ثُمَّ قالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: القسمُ الثَّالِثُ عَمَلٌ مباحٌ مستوى الطَّرَفَيْنِ. فهذا قالَ بعضُ العلماءِ بوجوبِ الوفاءِ بهِ، والجمهورُ مِن أهلِ المذاهبِ المشهورةِ وغيرِهِمْ على أنَّ شرطَهُ باطلٌ، فلاَ يَصِحُّ عندَهمْ أَنْ يُشْرَطَ إِلاَّ مَا كانَ قُرْبَةً إلى اللهِ تَعَالَى، وذَلِكَ لأنَّ الإنسانَ ليسَ لهُ أَنْ يَبْذُلَ مالَهُ إِلاَّ لِمَا لَهُ فيهِ منفعةٌ في الدِّينِ والدُّنْيَا، فَمَا دامَ الإنسانُ حَيّاً فَلَهُ أَنْ يَبْذُلَ مَالَهُ في تحصيلِ الأغراضِ المباحةِ؛ لأَنَّهُ ينتفعُ بذَلِكَ، فأَمَّا الميِّتُ فمَا بَقِيَ بعدَ الموتِ ينتفعُ مِن أعمالِ الأحياءِ إِلاَّ بعملٍ صالحٍ قدْ أمرَ بهِ، أو أعانَ عليهِ، أو أَهْدَى إليهِ، ونحوِ ذَلِكَ، فأَمَّا الأعمالُ التي ليستْ طاعةً للهِ ورَسُولِهِ فَلاَ ينتفعُ بِهَا الميِّتُ فإذَا اشترطَ المُوصِي أو الواقفُ عملًا أو صفةً لا ثوابَ فِيهَا كانَ السَّعْيُ في تَحْصِيلِهَا سعياً فيمَا لا يَنْتَفِعُ بِهِ في دنياهُ ولا في آخرتِهِ، ومِثْلُ هذا لاَ يجوزُ.


اختلافُ العلماءِ:
شَذَّ الإِمَامُ أبو حنيفةَ رَحِمَهُ اللهُ فأجازَ بيعَ الْوَقْفِ ورجوعَ الواقفِ فيهِ، ومَذْهَبُهُ مخالفٌ لنصِّ الحديثِ, ولذا قالَ صاحبُهُ أبو يوسفَ: لوْ بلغَ أَبَا حنيفةَ هذا الحديثُ {حديثُ عُمَرَ} لقالَ بهِ، ورجعَ عن بيعِ الْوَقْفِ.

وقالَ الْقُرْطُبِيُّ: الرُّجُوعُ في الْوَقْفِ مخالفٌ للإجماعِ، فَلاَ يُلْتَفَتُ إليهِ.
وذهبَ مالكٌ والشَّافِعِيُّ إلى لزومِ الْوَقْفِ وعَدَمِ جوازِهِ، وَصِحَّةِ بيعِهِ بحالٍ، أخذاً بعمومِ الحديثِ:((غيرَ أَنَّهُ لا يُبَاعُ أَصْلُهَا.)) إلخ.
وذهبَ الإِمَامُ أحمدُ ِإلى قولٍ وَسَطٍ، وهوَ أَنَّهُ: لا يجوزُ بيعُهُ ولاَ الاستبدالُ بهِ إِلاَّ أَنْ تَتَعَطَّلَ مَنَافُعُهُ بالكليَّةِ، ولمْ يُمْكِنِ الانتفاعُ بهِ، ولا تعميرُهُ وإصلاحُهُ، فإنْ تَعَطَّلَتْ منافعُهُ، جازَ بَيْعُهُ واستبدالُهُ بغيرِهِ، استدلَّ على ذَلِكَ بفعلِ عمرَ حينمَا بَلَغَهُ أنَّ بيتَ المالِ الذي بالكوفةِ نَقِب.
فكتبَ إلى سَعْدٍ:[أَن انْقُلِ المسجدَ الذي بالتَّمَّارِين، واجعلْ بيتَ المالِ في قبلةِ المسجدِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ في المسجدِ مُصَلٍّى].
وكانَ هذَا العملُ بمشهدٍ مِن الصَّحابةِ، فلمْ يُنْكَرْ، فهوَ كالإجماعِ.
وشَبَّهَهُ بِالْهَدْيِ الذي يَعْطَبُ قبلَ بُلُوغِهِ مَحَلَّهُ، فَإِنَّهُ يُذْبَحُ بِالْحَالِ، وتُتْرَكُ مُرَاعَاةُ المَحَلِّ لِإِفْضَائِهَا إلى فواتِ الانتفاعِ بِالْكُلِيَّةِ.
قالَ ابنُ عَقِيلٍ رَحِمَهُ اللهُ: {الْوَقْفُ مُؤَبَّدٌ، فإذَا لمْ يمكنْ تَأْبِيدُهُ على وجهِ تخصيصِهِ، اسْتَبْقَيْنَا الغرضَ، وهوَ الانتفاعُ على الدَّوَامِ في عينٍ أخرى، وإيصالُ الإبْدَالِ جَرَى مَجْرَى الأعيانِ، وجُمُودُنَا على العينِ معَ تَعَطُّلِهَا تَضْيِيعٌ لِلْغَرَضِ } ا. هـ.

قالَ شيخُ الإسلامِ ((ابنُ تَيْمِيَّةَ)) رَحِمَهُ اللهُ:{ومعَ الحاجةِ يجبُ إبدالُ الْوَقْفِ بمثلِهِ، وبِلاَ حاجةٍ يجوزُ بخيرٍ مِنْهُ، لِظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ}.
وذَكَرَ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّهُ يجوزُ إبدالُ الْوَقْفِ، ولوْ كانَ مَسْجِداً بِمِثْلِهِ أو خيرٍ منهُ، وكذَلِكَ إبدالُ الْهَدْيِ والأضحيةِ والمَنْذُورِ، وذَلِكَ بأَنْ يُعوَّضَ فيها بالبدلِ، أو تُبَاعَ ويُشْتَرَى بِثَمَنِهَا، إِلاَّ المساجدَ الثَّلاثةَ فَمَا يجوزُ تغييرُ عَرْضَتِهَا، وإِنَّمَا يجوزُ الزيادةُ فيها. وإبدالُ البناءِ بغيرِهِ، كمَا دلتْ عليهِ السُّنَّةُ وإجماعُ الصَّحابةِ.

وذكرَ شيخُنَا عبدُ الرَّحْمَنِ آلُ سَعْدِيٍّ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّهُ إذا نَقَصَ الموقوفُ أو قَلَّتْ مَنَافِعُهُ، وكانَ غيرُهُ أَصْلَحَ منهُ، وأنفعَ للموقوفِ عليهمْ، ففيهِ عن الإِمَامِ أحمدَ روايتانِ، أشهَرُهُمَا المنعُ، أيْ: منعُ بَيْعِهِ واستِبْدَالِهِ.
والثَّانيةُ، الجوازُ، وهيَ اختيارُ شيخِ الإسلامِ، وعليها العملُ في محاكمِ المملكةِ العربيَّةِ السُّعُودِيَّةِ، فإذا ثبتَ عندَ القاضِي أنَّ في بيعهِ واستبدالِهِ غِبْطَةً أو مصلحةً أَجَازَهُ، وأَذِنَ لناظرِهِ بذَلِكَ، و إِلاَّ فَلاَ.
ولكنْ في هذهِ ِ الحالِ لا ينبغِي أَنْ يستقلَّ النَّاظِرُ في بيعِهِ، بل يرفعَ الأمرَ للحاكمِ، ويجتهدَ في الأصلحِ؛ لأَنَّهُ في هذهِ ِ الحالِ يدخلُهَا في الهُدَى والخطأِ، ما يحتاجُ إلى رفعِهِ، ورفعِ المسئوليَّةِ عنهُ بالحاكمِ. واللهُ أعلمُ.ا. هـ.

وهذا هوَ الجارِي في محاكمِ المملكةِ، فإنَّهُ لا يُبَاعُ وَقْفٌ إِلاَّ بإذنٍ مِن الحاكمِ الشَّرْعيِّ، بل حَتَّى تَطَّلِعَ هيئةُ القضاءِ في محكمةِ التَّمْيِيزِ على حُكْمِ القاضِي، وتراهُ مُوَافِقاً للْوِجْهَةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَتُجِيزُهُ، وبدونِ هذا فإنَّ الْوَقْفَ لا يُتَصَرَّفُ فيهِ بِمَا يَنْقُلُ المِلْكَ.


  #4  
قديم 14 ذو القعدة 1429هـ/12-11-2008م, 04:41 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي إحكام الأحكام لتقي الدين ابن دقيق العيد

285

- الحديثُ الخامسُ: عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ قَالَ: ((أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ؟ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا. قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلاَ يُوهَبُ، وَلاَ يُورَثُ، قَالَ: فَتَصَدَّقَ عُمْرُ فِي الْفُقَرَاءِ، وَفِي الْقُرْبَى، وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبيلِ اللهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ، لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا، غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ)). وَفِي لفظٍ: ((غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ)).

الحديثُ دليلٌ عَلَى صحَّةِ الوقفِ والحبسِ عَلَى جهاتِ القُرُبَاتِ، وَهُوَ مشهورٌ مُتَدَاوَلُ النقلِ بأرضِ الحجازِ، خلفًا عن سلفٍ، أعني الأوقافَ، وَفِيهِ دليلٌ عَلَى مَا كَانَ أكابرُ السلفِ والصالحينَ عَلَيْهِ، من إخراجِ أنفَسِ الأموالِ عندَهم للهِ تَعَالَى، وانظرْ إِلَى تعليلِ عمرَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لمقصودِه بكونِه ((لم يُصِبْ مالاً أنفسَ عندَه مِنْهُ)).
وقولُه: ((تَصدَّقْتُ بِهَا))، يَحْتَمِلُ أن يكونَ راجعًا إِلَى الأصلِ الْمُحْبَسِ، وَهُوَ ظاهرُ اللفظِ، ويَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مَا تَكَلَّمَ فِيْهِ الفقهاءُ من ألفاظِ التحبيسِ، التي مِنْهَا ((الصدقةُ))، ومن قَالَ مِنْهُمْ بأنَّه لابدَّ مِن لفظٍ يَقْتَرِنُ بِهَا، يدلُّ عَلَى معنى الوقفِ والتحبيسِ، كالتحبيسِ المذكورِ فِي الحديثِ، وكقولِنا: ((مُؤَبَّدَةٌ)) ((مُحَرَّمَةٌ)) أَوْ ((لاَ تُبَاعُ وَلاَ تُوهَبُ))، ويَحْتَمِلُ أنْ يكونَ قولُه: ((وتصدَّقْتُ بِهَا)) راجعًا إِلَى الثمرةِ، عَلَى حذفِ المضافِ، ويبقى لفظُ ((الصدقةِ)) عَلَى إطلاقِه.

وقولُه: ((فتصدَّقَ بِهَا، غيرَ أَنَّهُ لاَ يباعُ... إلخ)) محمولٌ عندَ جماعةٍ - مِنْهُمْ الشَّافعيُّ - عَلَى أنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ شرعيٌّ ثابتٌ للوقفِ، من حَيْثُ هُوَ وقفٌ، وَيُحْتَمَلُ من حَيْثُ اللفظُ أن يكونَ ذَلِكَ إرشادًا إِلَى شرطِ هَذَا الأمرِ فِي هَذَا الوقفِ، فيكونُ ثبوتُه بالشرطِ لاَ بالشرعِ، والمصارفُ التي ذكرَها عمرُ، رَضِيَ الله عَنْهُ، مصارفُ خيراتٍ، وَهِيَ جهةُ الأوقافِ، فَلاَ يُوقَفُ عَلَى مَا لَيْسَ بقربةٍ من الجهاتِ العامَّةِ.
و((القُرْبَى)) يرادُ بِهَا ههنا قُرْبَى عمرَ ظاهرًا، و((الرقابُ)) قَدْ اخْتُلِفَ فِي تفسيرِها فِي بابِ الزكاةِ، ولابدَّ أن يكونَ معناها معلومًا عندَ إطلاقِ هَذَا اللفظِ، وَإِلاَّ كَانَ المَصْرَفُ مجهولاً بالنسبةِ إليها، و((فِي سبيلِ اللهِ)) الجهادُ عندَ الأكثرينَ، وَمِنْهُمْ مَن عدَّاه إِلَى الحجِّ، و((ابنُ السبيلِ)) المسافرُ، والقرينةُ تقتضي اشتراطَ حاجتِه، و((الضيفُ)) مَن نزلَ بقومٍ، والمرادُ قِرَاهُ، وَلاَ تقتضي القرينةُ تخصيصَه بالفقرِ.
وَفِي الحديثِ دليلٌ عَلَى جوازِ الشروطِ فِي الوقفِ واتِّباعِها، وَفِيهِ دليلٌ عَلَى المسامحةِ فِي بعضِها، حَيْثُ عَلَّقَ الأكلَ عَلَى المعروفِ، وَهُوَ غيرُ مُنْضَبِطٍ.
وقولُه: ((غيرَ مُتَأَثِّلٍ)) أي: مُتَّخِذِ أصلِ مالٍ، يقالُ: تَأَثَّلْتُ المالَ، اتَّخَذْتُهُ أصلاً.


  #5  
قديم 14 ذو القعدة 1429هـ/12-11-2008م, 04:42 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح عمدة الأحكام لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله ابن باز (مفرغ)

المتن :

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
قال المؤلف ، رحمه الله تعالى : في
باب الرهن وغيره
وعن عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما قال : أصاب عمر أرضا بخيبر ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها ، فقال : يا رسول الله إني أصبت أرضا بخبير ، ولم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه ، فما تأمرني فيه ؟ ) ، قال : (( إن شئت حبست أصلها ، وتصدقت بها )) ، قال : ( فتصدق بها عمر غير أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب ، قال : فتصدق بها عمر في الفقراء ، وفي القربى ، وفي الرقاب ، وفي سبيل الله ن وابن السبيل والضيف ، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ، أو يطعم صديقا غير متمول فيه ، وفي لفظ غير متأثل.

وعن عمر ، رضي الله عنه قال : ( حملت على فرس في سبيل الله ، فأضاعه الذي كان عنده فأردت أن اشتريه ، وظننت أنه يبيعه برخص، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : (( لا تشتره ولا تعد في صدقتك ، وإن أعطاكه بدرهم ، فإن العائد في هبته كالعائد في قيئه )) وفي لفظ فإن الذي يعود في صدقته كالكلب الذي يقيء ثم يعود في قيئه

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( العائد في هبته كالعائد في قيئه ))

الشرح :
الحمد له وصلى الله وسلم على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، أما بعد :
فهذه الأحاديث الثلاثة ، الأول منها ما يتعلق بالوقف ، والثاني والثالث يتعلقان بالعود في الصدقة ، قصة عمر أنه أصاب أرضا بخبير لما فتحت خيبر قسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين المسلمين ، صار لعمر نصيبه من ذلك ، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم ، ماذا يفعل بنصيبه ، وهو نصيب نفيس ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن شئت حبست أصلها ، وتصدقت بها ))
أصلها أي جعلت أصلها حبيساً ، وقفا لا يباع ، ولا يشترى ولا يوهب ولا يورث ، وغلته في سبيل الله ، وهذا هو الوقف ، إذاً الوقف هو تحبيس الأصل ، وتسبيل المنفعة لوجوه الخير ، من عقار أو منقول ، ففعل عمر رضي الله عنه ذلك ، فحبس الأرض ، وجعل غلتها للفقراء والمساكين ، والقربى وابن السبيل والضيف ، أي جعلها لوجوه البر وأعمال الخير ، وهذا من الأوقاف الصالحة والطيبة ، وهو داخل في حديث : (( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ، صدقة جارية ، وهذا صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له )) ، فإذا حبس أرضاً أو نخلاً أو منزلاً أو دكاناً ، حانوتاً ، وغير ذلك ، على أن يتصدق بغلته ، بأجرة الأرض ، وثمرة النخل ، وثمرة البستان ، بما فيه من أنواع الأشجار ، وهذا صدقة وقربة والأصل يبقى ، ويعم أيضا المنقول ، لو وقف دابة ، كناقة ، يتصدق بنسلها وذريتها، ولبنها ، وكذلك لو وقف بقرة أو شاة صح ذلك، ثم قال : لا جناح على من وليها أن يأكل بالمعروف غير متأثل، وغير ممتول ، يعني يأكل بالمعروف من غير إسراف ، ولا يتخذ له عقاراً منها ، ولا أموالا منها بل يأكلها ، في مقابل تعبه وعمله ، ويجوز أن يُعطى شيئا معيناً عن تعبه ، هذا الناظر ، والوكيل من الواقف ....... أو من جهة الحاكم الشرعي ؛ فإذا رضي بأن يأكل منها كفى ، وإن طلب أجرة جاز أن يُعطى أجرة على تعبه ، كخمسة في المائة ، عشرة في المائة أو شيء معين في مقابل تعبه ، لا بأس أن يهدي منها للفقراء والمساكين ، والأقارب على حسب من نص عليهم الموصي الواقف ، يلتزم بما نص عليه الواقف، ويؤدي الأمانة ويحرص على النصح ليحفظ أصلها ، وينميها ويتق الله في ذلك ، ويكون له تغطية معينة أو المشاركة في الأكل منها .


  #6  
قديم 13 محرم 1430هـ/9-01-2009م, 07:28 AM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي شرح عمدة الأحكام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين (مفرغ)

القارئ:
الحمدُ للهِ وصلى الله وسلم علي نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: .
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: أصاب عمر أرضا بخيبر , فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه , فما تأمرني به ؟ فقال: ((إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها)) , قال: فتصدق غير أنه لا يُباع أصلها ولا يوهب ولا يورث , قال: فتصدق عمر في الفقراء وفي القربى وفي سبيل الله وابن السبيل و الضيف , لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ، أو يطعم صديقا غير متمول فيه . وفي لفظ: غير متأفل .

الشيخ:
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على محمد .
هذا حديث يتعلق بالوقف , الوقْف هو تحبيس الأصل وتسبيلُ المنفعةِ, ويكون في كل عين ينتفع بها مع بقاء عينها , فهو من أفضل القربات .
في هذا الحديثِ أنَّ عمرَرضي الله عنه اشترى هذه الأرض وأعجبته ؛ لكونها ذات غلة ، وذات منفعة, وأحبَّ أن يقدمها لآخرته ، فأشار عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق بها , ولكن صدقة لا تباع ولا تبدل ولا تنقل ، بل ينتفع بها مع بقاء عينها ، ولا تجري فيها سهام المواريث ولا يتصرف فيها المالك تصرفا في ملكه المطلق ، بل ينتفع بها مع بقاء أصلها ويتصدق بغلتها , وهذا هو شأن الوقف , جعل غلتها في كل شيء ينفع في الآخرة , جعلها في الفقراء , يعني يُتصدق به على الفقراء والمستضعفين ؛ لأنهم مستحقون وفيهم الأجر لسدِّ حاجتهم ، وكذلك المساكين وهم أخف أمرا من الفقراءِ ، الفقراءُ هم الذين دخلهم أقل من النصف ، والمساكين غالبا دخلهم أكثر من النصف ودون الكل ، والجميع يحتاجون إلى تمام الكفاية ، كذلك ابن السبيل المسافر المنقطع به الذي لم يجد ما يوصله إلى بلدِه ولو كان له في بلده مال ، لكنْ سافر وطال سفره , نفد ما معه أو سُرقت نفقته ، أو طال سفره ولم يكن يظنُّ أنه يطول ، أو ظن أنه يجد ما يرجع به إلى أهله فلم يجد فأصبح منقطعا , ويقالُ له:ابن السبيل ؛ لأن السبيل هي الطريق ، وهو كأنه لملازمته لها ابنا لها . وكذلك الضيف الذي ينزل على أهل القرية له حق الإكرام , أن يقروه , جائزته يومه وليلته . وهكذا أيضا الوجوه العامة الخيرية يصرف فيه الوقف .
فهذا مصرف وقْف عمر أنه جعله في هؤلاء , وكأنه يفضل الأقارب من الفقراء والمساكين ؛ لأن لهم زيادة حق , والصدقة عليهم تسمى صدقة وصلة, ورد في الحديث يقول صلى الله عليه وسلم:((صدقتك على المسكين صدقة , وعلى ذي القربىاثنتان: صدقة ، وصلة)) فلذلك جعل عمر فيها حقا لذوي القربى .
هذا هو مصرف الصدقة , فتكون في غلةِ الشيءِ الذي يمكن استغلاله مع بقاء عينه ، فإذا كان الوقف أرضا تُغل يعني تزرع مثلا ويحصل من زرعها ما يزيد على نفقتها ، فهذا الزائدُ هو الذي يصرف للفقراء والأقارب والمعوزين ، و إذا كان فيها شجر كنخل وعنب ورمان وتين وما أشبهه مما له ثمر ينتفع به يُؤكل أو يباع أو نحو ذلك فثمرته تصرف إما بعد بيعها وإما قبله للمعوزين والمحتاجين , ويكون لصاحبها الذي أوقفها أجر بقدر ما انتُفع بها .
وإذا كان الوقف مثلا دارا جعلها مسكنا , مسكنا للمستضعفين أو غيرهم , صدق عليها أنها وقف , قد ثبت أن الزبير رضي الله عنه أوقف دارا وجعلها للمردودة من بناته يقول: المطلقة من بناته تسكن في هذه الدار ولا تورث ولا تباع .
وكذلك إذا جعل الإنسان دارا موقوفة للمحتاج من أولاده ، أو أولاد أولاده , ذو الحاجة الشديدة ، فهذا ايضا من الوقف الذي ينتفع به مع بقاء عينه ويكون للموقف أجر وهو المراد بالصدقة الجارية , يقول النبيصلى الله عليه وسلم: ((إذا مات ابن آدم انقطع عملُه إلا من ثلاث: صدقة جارية , أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له)) فبدأ بالصدقة الجارية ، وهي مثل ما ذكرنا , فالدار التي تؤجر ويتصدق بأجرتها صدقة جارية , والأرض التي فيها شجر مثلا أو لها أجرة ، أو فيها ثمرة ، أو نحو ذلك- يتصدق بثمرها وغلتها , هذه صدقة جارية ، وكذلك الأعيان التي ينتفع بها تعتبر أيضا صدقة جارية ، ولو لم يكن فيها غلة ، ولكن ينتفع بها .
فالمساجد مثلا التي يُتعبَّد فيها , إذا بنى الإنسان مسجدا فإنه يعتبر صدقة جارية , وكذلك جيمع المنافع التي يرتفق بها تعتبر من الصدقات الجارية ، فمثلا فُرُش المساجد يرتفق بها المصلون تعتبر من الأوقاف الجارية النافعة , ومكيفاتها مثلا ومرواحها وأنوارها ، ونحو ذلك من الصدقات الجارية .
وهكذا الكتب التي ينتفع بها من الصدقات الجارية ؛ وذلك لأنها باقية ينتفع بها من يقرأ فيها ، أو يسمع منها ، أو نحو ذلك مع بقاء عينها ، فلذلك اعتبرت من الأعمال الخيرية التي يجري أجرها لمن سبلها .
ويقال كذلك في كل الأشياء التي يمكن أن ينتفع بها .كانوا في قديم الزمان يوقفون الأجهزة التي ينتفع بها في المنافع العامة أو الخاصة , فيوقف مثلا الإنسان الأسلحة التي يقاتَل بها في سبيل الله ويرجو بذلك الأجر من الله ، ومنهم خالد بن الوليد رضي الله عنه , يقول فيه النبيصلى الله عليه وسلم لما قيل أنه منع الزكاة قال:((إنكم تظلمون خالدا ؛ إنه قد حبَّس عتاده)) ، وفي رواية:((وأعبده وسلاحه في سبيل الله)), كان عنده أسلحة قالوا له: أعطنا زكاة هذه الدروع وزكاة هذه الرماح وزكاة هذه السيوف وزكاة هذه الخناجر ونحوها , فامتنع وقال: هذه في سبيل الله , إذا غزونا أعطيت كل سيف أو كل رمح أو كل قوس مَن يقاتل به , فتصبح كأنها غير مملوكة له , ولو كانت في بيته ، فلذلك كان يريد أجرها , فهذه مما ينتفع بها مع بقاء عينها .
كذلك أيضا كانوا يوقفون العتاد لمن يحج إذا كان عاجزا عن الحج ، فيركبونه على الفرس مثلا أو على الراحلة كالناقة الراحلة من الإبل أو نحوها , يقولون: هذه الراحلة هذا البعير مسبل للمجاهدين أو للحجاج ، وكذلك هذا الرحل , الرحال التي كانوا يجعلونها على ظهور الإبل الركائب يسبلونها أيضا لمن ينتفع بها .
وكذلك أيضا الأشياء التي يحتاج إليها في البلد كانوا يوقفونها ، ولا تزال , لا يزال موجودا في هذه البلد أشياء موقوفة ، وإن كان قد قلَّ الانتفاع بها , فيوجد عن القدامى من أهل البلد يوجد عندهم مثلا قدورٌ مسبَّلة لمن يطبخ فيها مثلا، أو أرحية لمن يطحن عليها وهي موقوفة ، أو أسلحة لمن يحتاج إليها ، أو ما أشبه ذلك , فهذه من الأوقاف .
وتجدد أشياء أيضا وقامت مقامها وأصبح يمكن إيقافها ويمكن تسبيلها ، فمثلا بدل ما كانوا يوقفون القربة أصبحوا يوقفون البرادات ونحوها , تقوم مقامها في كونها يحصل بها تبريد المياه لمن يشرب بدل ما يشرب ماء حارا ، كذلك بدل ما كانوا يوقفون المراوح اليدوية أصبحوا يوقفونها كهربائية مراوح كهربائية أو مكيفات أو ما أشبهها , يحصل بها الكفاية ويحصل لمن أوقفها الأجر ، والأجهزة كلها أصبحت فيها أجر .
...ويحصل لمن أوقفها الأجر ، والأجهزة كلها أصبحت فيها أجر حتى مثلا هذه الطاولة التي أوقفها له أجر مثلا , وهذا الجهاز هذه الأجهرة المكبرة ونحوها الذي أوقفها له أجر ، وهذه الفرش في هذه المساجد وهذه الأنوار ونحوها الذي أوقفها يحتسب بذلك الأجر , يجري عليه أجرها مادام ينتفع بها .
المدارس الخيرية التي يدرس فيها القرآن ونحوه ، وكذلك فيها المصاحف والرسائل ونحوها لا شك أيضا أن فيها أجر؛ حيث أنه ينتفع بها , ويلحق بذلك بالرسائل ونحوها , الأشرطة الإسلامية إذا سبلها الإنسان اعتبر له أجر ما دام ينتفع بها,وهكذا يقال .
نقول: هذا الوقف يسمى وقفا منجزا , ليس له أن يرجع فيه ؛ وذلك لأنه أخرجه لله , وإذا أخرجه فإنه يخرج من ملكيَّتِه , سمعنا في آثار عمر أنه قال: غير أنه لا يباع أصلُها , فإذن لا يجوز الرجوع فيها متى أوقفها , لو أن مثلا إنسانا أوقف مكيفات في مسجد ثم إن ذلك المسجد هُدم وألغي لطريق مثلا طرقه أو حاجة إلى توسعة أو نحو ذلك , فهذه الأدوات التي فيه تنقل في مسجد آخر , فليس له أن يرجع في مكيفاته ولا في نوافذه , ولا في فرشه ، ولا في أبوابه ، ولا في مكبره أو الأشياء التي تبرع بها ، لا يجوز له أن يعود فيها ؛ وذلك لأنه أخرجها لله ، فتُصرف إما للوكالة التي تولى ذلك وهي في هذه الأزمنة وزارة الأوقاف ، فإنها التي تتولى غِلال الأوقاف: أشجارا أو عقارا أو ما أشبه ذلك , وإمَّا أن ينقل إلى مسجد آخر أو مرتفق آخر يُنتفع بها , ولا يجوز لصاحبها أن يتملكها .
الإنسان مثلا إذا قال: أُشهدكم أن بيتي هذا وقفٌ منجز , ولكن أسكن فيه ما دمت حيا ، أو يسكن فيه المحتاج من ولدي ، ثم بعد ذلك بدا له أن يعود فيه وأن يبيعه , نقول: لا يجوز لك أن ترجع فيه , لا يجوز لك أن تبيعه ، ولا أن تتملكه؛ لأن كل ما كان وقفا خرج عن ملكية الواقف وأصبح ملكا للمنتفعين به ، أو ليس بملك لأحد ، ولكن غلته لمن ينتفع به ، أو لمن جعل له ، أو يصرف لمن يستحقه .
يجوز أن يتأكدأن يجعل على الوقف ناظر ، الناظر هو الوكيل , إذا كان الوقف مثلا عقارا احتاج إلى ناظر , هذا الناظر هو الذي يؤجره ، وهو الذي يقبض الأجرة , وهو الذي مثلا يستغله ، وهو الذي يعمر منه وهى وما فسدويصلحه ، وهو الذي يصلحه إذا خرب , إذا كان جهازا من الأجهزة يحتاج إلى إصلاح فلابد أن يكون له ناظرا ، هذه الناظر قد يلقى مشقة وتعبا , فلذلك يستحق أن يجعل له جزء من الغلة , فعمر رضي الله عنه في هذا الأثر ذكر أن الذي يليه يجوز له أن يأكل ، ويجوز له أن يطعم صديقه ، أو يطعم زواره ، ولكنَّه لا يتمول منه مالا إنما يأكل منه بقدر نفقته ، أو بقدر تعبه وعمله , وإذا زاره أصدقاؤه أو نحوهم أطعمهم من غلة هذا , من ثمرة هذا الشجر , من فاكهته مثلا , من خضرته ، أو ما أشبهها .
أما أن يتخذ منه مالا فلا , فإذا لم يجدْ إلا بأجرة جاز , جاز أن يقول مثلا: لك من غلته ثلاثة في المائة مثلا أو خمسة في المائة أو ما أشبه ذلك على أن تصلح ما وهى منه , إذا تصدعت حيطانه تصلحها مثلا , إذا وهى سقفه تتعاهده , إذا خربت مثلا أدواته تصلحها أو ما أشبه ذلك , فإذن غالبا أنه بحاجة إلى من يقوم عليه .
فالحاصل أن الذي يوقف هذه الأوقاف يريد بذلك استمرار الأجر ، يأتيه أجرها بعد موته ، ويستمر العمل الصالح له وهو ميت حيث يُنتفع بهذه الأدوات أوبهذه الغلات ، أو ما أشبهها , ويدعو له أيضا الذين ينتفعون بذلك ويترحمون عليه، فيحصل بذلك على أجر , فلذلك كان الصحابة رضي الله عنهم كلُّهم أو أكثرهم جعلوا أوقافا وأحباسا , وعرفت بأحباسهم في مكة وفي المدينة وفي البصرة والكوفة وفي غيرها من المدن والقرى , واستمر الانتفاع بها أزمانا عديدة إلى أن اضمحلت المنفعة بها أو تلاشت وقلَّت , فعند ذلك نقلت إلى غيرها , ولا يزال هناك أوقاف تعرف بأوقاف كذا وكذا , وقد تُجعل في جهة خاصة كأن يقال مثلا: هذا البيت وقْف على هذا المسجد يُعمر به ، أو نحو ذلك ، أو تابع له كوقف على من يصل به ، أو من يؤذن فيه ، أو ما أشبه ذلك ، أو يقال: وقف على الكعبة كالذي يوقف أمواله (غير مسموع) الكعبة ، أو على المسجد الحرام وهي أوقاف كثيرة , أو في شيء خاص كانوا يوقفون مثلا على الأدوات التي يحتاج إليها تابعة للمسجد كمياه الشرب أو مياه الطهارة والوضوء , إما أبارا يحفرونها أو مياها يجرونها لمن يتطهروا في هذا المسجد ، أو ما أشبه ذلك , كل ذلك يلتمسون به بقاء الأجر واستمراره بعد الوفاة .

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الوقف

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:19 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir