16/625 - وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ
(وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ).
قِيلَ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُ الأَمْرَانِ المَذْكُورَانِ مُفْتَرِقَيْنِ, وَأَنَّهُ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ؛ لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ صَائِماً فِي إحْرَامِهِ إذَا أُرِيدَ إحْرَامُهُ وَهُوَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ إذْ لَيْسَ فِي رَمَضَانَ, وَلا كَانَ مُحْرِماً فِي سَفَرِهِ فِي رَمَضَانَ عَامَ الفَتْحِ وَلا فِي شَيْءٍ مِنْ عُمَرِهِ الَّتِي اعْتَمَرَهَا وَإِن احْتَمَلَ أَنَّهُ صَامَ نَفْلاً إلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ.
وَفِي الحَدِيثِ رِوَايَاتٌ، وَقَالَ أَحْمَدُ: إنَّ أَصْحَابَ ابْنِ عَبَّاسٍ لا يَذْكُرُونَ صِيَاماً.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ:أَخْطَأَ فِيهِ شَرِيكٌ؛إنَّمَا هُوَ: احْتَجَمَ وَأَعْطَى الحَجَّامَ أُجْرَتَهُ.وَشَرِيكٌ حَدَّثَ بِهِ مِنْ حِفْظِهِ وَقَدْ سَاءَ حِفْظُهُ, فَعَلَى هَذَا الثَّابِتُ إنَّمَا هُوَ الحِجَامَةُ.
وَالحَدِيثُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ كُلِّ جُمْلَةٍ عَلَى حِدَةٍ وَأَنَّ المُرَادَ: احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي وَقْتٍ, وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ فِي وَقْتٍ آخَرَ, وَالقَرِينَةُ عَلَى هَذَا مَعْرِفَةُ أَنَّهُ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُ اجْتِمَاعُ الإِحْرَامِ وَالصِّيَامِ، وَأَمَّا تَغْلِيطُ شَرِيكٍ وَانْتِقَالُهُ إلَى ذَلِكَ اللَّفْظِ فَأَمْرٌ بَعِيدٌ وَالعَمَلُ عَلَى صِحَّةِ رِوَايَتِهِ مَعَ تَأْوِيلِهَا أَوْلَى.
وَقَد اخْتُلِفَ فِيمَن احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ,فَذَهَبَ إلَى أَنَّهَا لا تُفْطِرُ الصُّيَّامَ الأَكْثَرُونَ مِن الأَئِمَّةِ، وَقَالُوا: إنَّ هَذَا نَاسِخٌ لِحَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ وَهُوَ:
17/626 - وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى عَلَى رَجُلٍ بِالبَقِيعِ وَهُوَ يَحْتَجِمُ فِي رَمَضَانَ. فَقَالَ: ((أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ)). رَوَاهُ الخَمْسَةُ إلاَّ التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ.
(وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى عَلَى رَجُلٍ بِالبَقِيعِ وَهُوَ يَحْتَجِمُ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ: أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ لَهُ. رَوَاهُ الخَمْسَةُ إلاَّ التِّرْمِذِيَّ وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ) الحَدِيثُ قَدْ صَحَّحَهُ البُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ وَأَخْرَجَهُ الأَئِمَّةُ عَنْ سِتَّةَ عَشَرَ مِن الصَّحَابَةِ.
وَقَالَ الحافِظُ السُّيُوطِيُّ فِي الجَامِعِ الصَّغِيرِ: إنَّهُ مُتَوَاتِرٌ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الحِجَامَةَ تُفْطِرُ الصَّائِمَ مِنْ حَاجِمٍ وَمَحْجُومٍ لَهُ.
وَقَدْ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ إلَى ذَلِكَ, مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَتْبَاعُهُ؛ لِحَدِيثِ شَدَّادٍ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّهُ يُفْطِرُ المَحْجُومُ لَهُ وَأَمَّا الحَاجِمُ فَإِنَّهُ لا يُفْطِرُ, عَمَلاً بِالحَدِيثِ هَذَا فِي الطَّرَفِ الأَوَّلِ,ولا أَدْرِي مَا الَّذِي أَوْجَبَ العَمَلَ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ.
وَأَمَّا الجُمْهُورُ القَائِلُونَ: إنَّهُ لا يُفْطِرُ حَاجِمٌ وَلا مَحْجُومٌ لَهُ, فَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ شَدَّادٍ هَذَا بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ؛ لأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مُتَأَخِّرٌ؛ لأَنَّهُ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجِّهِ وَهُوَ سَنَةَ عَشْرٍ، وَشَدَّادٌ صَحِبَهُ عَامَ الفَتْحِ, كَذَا حُكِيَ عَن الشَّافِعِيِّ قَالَ:وَتَوَقِّي الحِجَامَةِ احْتِيَاطاً أَحَبُّ إلَيَّ. وَيُؤَيِّدُ النَّسْخَ مَا يَأْتِي فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الحَازِمِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِثْلَهُ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ: إنَّ حَدِيثَ: ((أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ)). ثَابِتٌ بِلا رَيْبٍ, لَكِنْ وَجَدْنَا فِي حَدِيثٍ,أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَن الحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ وَعَن المُوَاصَلَةِ وَلَمْ يُحَرِّمْهُمَا؛ إبْقَاءً عَلَى أَصْحَابِهِ.إسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَا يُؤَيِّدُ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي الحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ.وَالرُّخْصَةُ إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ العَزِيمَةِ فَدَلَّ عَلَى النَّسْخِ سَوَاءٌ كَانَ حَاجِماً أَوْ مَحْجُوماً.
وَقِيلَ: إنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الكَرَاهَةِ. وَيَدُلُّ لَهَا حَدِيثُ أَنَسٍ الآتِي, وَقِيلَ: إنَّمَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَاصٍّ وَهُوَ أَنَّهُ مَرَّ بِهِمَا وَهُمَا يَغْتَابَانِ النَّاسَ, رَوَاهُ الوُحَاظِيُّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِي الأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ))؛ لأَنَّهُمَا كَانَا يَغْتَابَانِ النَّاسَ.
وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ: إنَّهُ أُعْجُوبَةٌ؛ لأَنَّ القَائِلَ بِهِ لا يَقُولُ: إنَّ الغِيبَةَ تُفْطِرُ الصَّائِمَ! وَقَالَ أَحْمَدُ: وَمَنْ سَلِمَ مِن الغِيبَةِ؟ لَوْ كَانَتِ الغِيبَةُ تُفْطِرُ مَا كَانَ لَنَا صَوْمٌ.
وَقَدْ وَجَّهَ الشَّافِعِيُّ هَذَا القَوْلَ, وَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ الإِفْطَارَ بِالغِيبَةِ عَلَى سُقُوطِ أَجْرِ الصَّوْمِ, مِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُتَكَلِّمِ وَالخَطِيبُ يَخْطُبُ: ((لا جُمُعَةَ لَهُ)) وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالإِعَادَةِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ سُقُوطَ الأَجْرِ, وَحِينَئِذٍ فَلا وَجْهَ لِجَعْلِهِ أُعْجُوبَةً كَمَا قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
وَقَالَ البَغَوِيُّ: المُرَادُ بِإِفْطَارِهِمَا تَعَرُّضُهُمَا لِلْإِفْطَارِ؛ أَمَّا الحَاجِمُ فَلأَنَّهُ لا يَأْمَنُ وُصُولَ شَيْءٍ مِن الدَّمِ إلَى جَوْفِهِ عِنْدَ المَصِّ, وَأَمَّا المَحْجُومُ لَهُ فَلأَنَّهُ لا يَأْمَنُ مِنْ ضَعْفِ قُوَّتِهِ بِخُرُوجِ الدَّمِ فَيَؤُولَ إلَى الإِفْطَارِ.
قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رحِمَه اللهُ فِي رَدِّ هَذَا التَّأْوِيلِ: إنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ لَهُ)) نَصٌّ فِي حُصُولِ الفِطْرِ لَهُمَا فَلا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَدَ بَقَاءُ صَوْمِهِمَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْبِرٌ عَنْهُمَا بِالفِطْرِ, لا سِيَّمَا وَقَدْ أَطْلَقَ هَذَا القَوْلَ إطْلاقاً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْرِنَهُ بِقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ, فَلَوْ جَازَ أَنْ يُرِيدَ مُقَارَبَةَ الفِطْرِ دُونَ حَقِيقَتِهِ لَكَانَ ذَلِكَ تَلْبِيساً لا بياناً لِلْحُكْمِ.انْتَهَى.
قُلْتُ: وَلا رَيْبَ فِي أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ لَهُ:
18/627 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا كُرِهَتِ الحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ, أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ((أَفْطَرَ هَذَانِ)) ثُمَّ رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ فِي الحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ. وَكَانَ أَنَسٌ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَوَّاهُ.
(وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَوَّلُ مَا كُرِهَتِ الحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ, أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَفْطَرَ هَذَانِ. ثُمَّ رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ فِي الحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ. وَكَانَ أَنَسٌ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَوَّاهُ) قَالَ: إنَّ رِجَالَهُ ثِقَاتٌ وَلا تُعْلَمُ لَهُ عِلَّةٌ. وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ مِنْ أَدِلَّةِ النَّسْخِ لِحَدِيثِ شَدَّادٍ.