(صفاتُها جَهْرٌ ورِخْوٌ مُسْتَفِلْ = مُنْفَتِحٌ مُصْمَتَةٌ والضِّدَّ قُلْ)
بابُ صفاتِ الحروفِ:
الصفةُ: ما قامَ بالشيءِ مِن المَعْاني كالعلمِ والسوادِ، وقد تُطْلَقُ الصفةُ ويرادُ بها النعتُ النحويُّ، والمرادُ بها هنا: عوارضُ تَعْرِضُ للأصواتِ الواقعةِ في الحروفِ من الجهرِ والرَّخاوةِ والهمسِ والشدَّةِ وأمثالِ ذلكَ، فالمَخْرَجُ للحرفِ كالميزانِ يُعْرَفُ به ماهِيَّتُه وكِمِّيَّتُه، والصفةُ كالمَحَكِّ والناقدِ, يُعْرَفُ بها هيئتُه وكيفيَّتُه وبهذا يتميَّزُ بعضُ الحروفِ المشتركةِ في المَخْرَجِ عن بعضِها حالَ تأديتِه، ولولا ذلكَ لكانَ الكَلاَمُ بمنزلةِ أصواتِ البهائمِ التي لها مَخْرَجٌ واحدٌ وصفةٌ واحدةٌ فلا يُفْهَمُ منها المَرامُ، وهذا معنى قولِ المازنيِّ: إذا هَمَسْتَ وجَهَرْتَ، وأَطْبَقْتَ، وفَتَحْتَ اختلفتْ أصواتُ الحروفِ التي مِن مَخْرَجٍ واحدٍ، وقالَ الرُّمَّانِيُّ وغيرُه: لولا الإطباقُ لصارتْ الطاءُ دالًا؛ لأنَّه ليسَ بينهما فرقٌ إلا الإطباقُ، ولصارتْ الظاءُ ذالًا، ولصارت الصادُ سينًا، فسبحانَ مَن دَقَّتْ في كُلِّ شىءٍ حكمتُه، رُوِيَ أنَّ الإمامَ أبا حنيفةَ رحمَهُ اللهُ تعالى ناظرَ مُعْتَزِلِيًّا فقالَ له: قلْ: (با), فقالَ:با ثُمَّ قالَ: قلْ: (حا)، فقالَ: حا, فقالَ له: بَيِّنْ مَخْرَجَهُمَا. فبيَّنهُما فقالَ: إنْ كنتَ خالقَ فَعْلِكَ فأخرجِ الباءَ مِن مَخْرَجِ الحاءِ فَبُهِتَ المُعْتَزِلِيُّ.
وصفاتُ الحروفِ منها ماله ضِدٌّ، ومنها ما ليسَ له ضدٌّ، كما سيأتي بيانُهمَا، وإنَّما ذكرَ الشيخُ رحمَهُ اللهُ هنا صفاتِهما المشهورةَ اللائقَةَ لمقدَّمَتِه المُخْتَصَرَةِ، وإلا فقدْ ذكَرَ بعضُهم أنَّ لها أربعةً وأربعينَ صفةً، وزادَ بعضُهم عليها كما في الكتبِ المبسوطةِ، فذكرَ المصنِّفُ مِن صفاتِها سبعةَ عشَرَ نوعًا: منها الجَهْرُ، والرِّخْوَةُ، والاستعلاءُ، والانفتاحُ، والإصماتُ، بحسبِ ما اتُّفِقَ له مِن الوزنِ تارةً بلفظِ المصدرِ، وأُخْرَى بصيغةِ الوصفِ، وستأتي معَانيها معَ أضْدَادِها في مَحَلِّها اللائقِ بها.
وقولُ: (والضدَّ قُلْ) أي: واذْكُرْ أضدادَ هذه الصفاتِ الخمسةِ بِالْمُقَابَلَةِ المُرَتَّبَةِ كما قالَ: (مَهْمُوسُها فَحَثَّهُ شخصٌ سكتْ) فإنَّ الأشياءَ تَتَبَيَّنُ بأضدادِهَا، وبِتَعْدَادِ حروفِ بعضِ الأضدادِ تُعْرَفُ سائرِ الأضدادِ من جهةِ الأعدادِ، ولمَّا كانت الحروفُ المهموسةُ وأمثالُها قليلةً قابِلَةً لسرعةِ ضبطِها وحفظِها بيَّنها وترَك بيانَ ضدِّها لما يُعْرَفُ من مفهومِ ما عيَّنَها.
والحاصلُ أنَّ الحروفَ المهموسةَ مجتمعَةٌ في كلماتٍ مُرَكَّبَةٍ منها، عبَّرَ عنها بقولِه "فحثَّه شخصٌ سكتْ" وهي عشرةٌ: الفاءُ، والحاءُ المُهْمَلَةُ، والثاءُ المُثَلَّثَةُ، والهاءُ، والشينُ، والخاءُ المُعْجَمَتَانِ، والصادُ، والسينُ، والكافُ، والثاءُ المُثَنَّاةُ مِن فوقٍ، فالحثُّ بمعنى الحَضِّ، والشخصُ معْروفٌ، وسكتَ فعلٌ ماضٍ مِن السكوتِ، ثمَّ الهمسُ في اللغةِ: الخَفَاءُ، ومنه قولُه تعالى [فلا تَسْمَعُ إلا هَمْسًا] والمرادُ به حسُّ مشيِ الأقدامِ إلى المَحْشَرِ، أو حسُّ كَلاَمِ أهلِه مِن هولِ ذلكَ المنظرِ، وممَّا يناسبُ المعنى الأَوَّلَ قولُ الشاعرِ:
وهنَّ يَمْشِينَ بنا هَمِيسًا = إنْ يَصْدُق الطيرُ نَكُ لِمِيسَا.
وسُمِّيَت مهموسةً؛ لجريانِ النَّفَسِ معَها؛ لضعفِها ولضعفِ الاعتمادِ عليها عندَ خروجِها، وضدُّها المَجْهُورَةُ، والجهرُ في اللغةِ الصوتُ القويُّ الشديدُ، وسُمِّيَت مَجْهُورةً؛ لمنعِ النَّفَسِ وحَصْرِه أنْ يجريَ معَها لقوَّتِهَا وقوَّةِ الاعتمادِ عليها عندَ خروجِها، والتحقيقُ أنَّ الهواءَ الخارجَ مِن داخلِ الإنسانِ إنْ خرجَ بدفعِ الطبعِ يُسَمَّى نَفَسًا بفتحِ الفاءِ، وإنْ خرجَ بالإرادةِ وعَرَضَ له تَمَوُّجٌ بتصادمِ جسمينِ يُسَمَّى صوتًا، وإذا عرضَ للصوتِ كيفياتٌ مَخْصُوصَةٌ بأسبابٍ مَعْلُومَةٍ يُسَمَّى حُرُوفًا، وإذا عَرَض للصوتِ كيفياتٌ أُخَرُ عارِضَةٌ بسببِ الآلاتِ تُسمَّى تلكَ الكيفياتُ صفاتٍ، ثمَّ إنَّ النَّفَسَ الخارجَ الذي هو صِفَةُ حرفٍ إنْ تكيَّفَ كُلُّه بكيفيَّةِ الصوتِ حتَّى يحصُلَ صوتٌ قويٌّ كانَ الحرفُ مَجْهُورًا، وإنْ بَقِيَ بعضُه بلا صوتٍ يجري معَ الحرفِ كانَ الحرفُ مَهْمُوسًاَ، وأيضًا إذا انحصرَ صوتُ الحرفِ في مَخْرَجِه انحصارًا تامًّا فلا يجري جريانًا سهلًا يُسَمَّى شِدَّةً فإنك لو وقفتَ على قولِكَ: (الحجُّ) وجَدْتَ صوتَكَ راكِدًا مَحْصُورًا حتى لو رُمْتَ مدَّ صوتِكَ لم يمكنْكَ، وأمَّا إذا جرى الصوتُ جريانًا تامًّا ولا يَنْحَصِرُ أصلًا يُسَمَّى رِخْوَةً كما في (الطشِّ) فإنَّكَ إذا وَقَفْتَ عليها وَجَدْتَ صوتَ الشينِ جاريًا بِمَدَّةٍ إنْ شئتَ، وأمَّا إذا لم يتمَّ الانحصارُ ولا يجري يكونُ مُتَوَسِّطًا بينَ الشِّدَّةِ والرِّخْوَةِ كما في (الظلِّ) فإنَّكَ إذا وقفتَ عليها وجدتَ الصوتَ لا يجري مثلَ ذلكَ يعني مثلَ جريِ (الطشِّ) ولا ينحصرُ مثلَ انحصارِ (الحجِّ) بلْ يخرجُ على حدِّ اعتدالٍ بينهما، فإذا عرفتَ ذلكَ تبيَّنَ لكَ أيضًا معنى قولِه (شديدُها لفظُ أَجِدْ قَطٍ بَكَتْ) فأَجِدْ أَمْرٌ مِن الإجادةِ، وقَطٍ مُنَوَّنٌ مجرورٌ مُخَفَّفٌ بمعنى حَسْبُ، وبَكَتْ مُجَرَّدُ التبكيتِ، يقالُ: بَكَتَه إذا غَلَبَه بالحُجَّةِ، والمرادُ بها هنا أنَّ الحروفَ المُتَّصِفَةَ بالشَدَّةِ مجموعةٌ فى الكلماتِ الثلاثةِ مُرَكَّبَةٌ منها، وهي الهمزةُ، والجيمُ، والدالُ المُهْمَلَةُ، والقافُ، والطاءُ المُهْمَلَةُ، والباءُ الموحَّدةُ، والكافُ، والتاءُ المُثَنَّاةُ مِن فوقٍ، فما عداها وما عدا الليِّنَةَ التي ذكرَها في قولِه (وبينَ رَخْوٍ والشديدِ) أي: وما بينَهما حروفٌ خمسةٌ يجمعُها تركيبٌ (لِنْ عُمَر) وكُلُّها حروفٌ رِخْوَةٌ، والشدَّةُ في اللغَةِ: القوةُ، وسُمِّيَت شديدةً؛ لمنعِها الصوتَ أنْ يجريَ معَها؛ لأنَّها قَوِيَتْ في مواضِعِها فلَزِمَتْها الشدَّةُ، والرِخْوَةُ: مُثَلَّثَةُ الراءِ، والكسرُ أشهرُ، والرِّخَاوَةُ في اللغةِ اللَّينُ، وسُمِّيَت بذلك لجريِ النفسِ والصوتِ معَها حتى لانَتَ عندَ النطقِ بها وضعفِ الاعتمادِ عليها، ثُمَّ الحروفُ التي بينَ الرخوةِ والشدَّةِ خمسةٌ يجمعُها قولكُ "لِنْ عُمَرْ" بِكَسْرِ اللامِ أمرٌ مِن لاَنَ يَلِينُ وعُمَرُ منادى بحذفِ حرفِ النداءِ، وهذا التركيبُ أَوْلَى مِن جمعِ بعضِهم في (لم نرعْ) وممَّا وقعَ في الشاطبيَّةِ مِن قولِهِ (عُمَرنَلْ) معَ ما فيه من خلوصِ المبنيِّ وخلاصةِ المعنى كما لا يخفىَ، وهي اللامُ، والنونُ، والعينُ المُهْمَلَةُ، والميمُ، والراءُ، وإنَّما وُصِفَتْ بذلكَ؛ لأنَّ الرخوةَ إذا نُطِقَ بها في نحوِ: اجلسْ، وافرشْ، جرى معَها الصوتُ والنَّفَسُ عندَ سكونِهما، والشدِيدةُ إذا نُطِقَ بها في نحوِ: اضْرِبْ، واقْعُدْ، وانحبسَ الصوتُ والنَّفَسُ معَها ولم يَجْرِيا، والتي بينَ الرِّخوةِ والشديدةِ إذا نُطِقَ بها في نحوِ: أَنْعِِمْ واعْمَلْ لم يجرِ الصوتُ والنَّفَسُ معَها جريانَهما معَ الرخوةِ ولم ينحبسْ انحباسَهما معَ الشديدةِ، وهذا وقدْ قالَ ابنُ الحاجبِ في (الشافيةِ): المجهورةُ ما ينحصرُ أي: ينقطعُ جريُ النفسِ معَ تَحَرُّكِهِ، والمهموسةُ بخلافِها، وخالفَ بعضُهم فجعلَ الضادَ والظاءَ والذالَ أى: المُعْجَمَاتِ، والزايَ والعينَ والغينَ والباءَ أي الموحَّدَةَ مِن المهموسةِ، والكافَ والتاءَ أي: المَنْقُوطَةَ بنقطتينِ من فوقٍ مِن المجهورةِ، ورأَى أنَّ الشدَّةََ تُؤَكِّدُ الجهرَ، والشديدةُ: ما ينحصرُ جريُ صوتِه عندَ إسكانِه في مَخْرَجِه فلا يجري، قالَ شارحُها النظاميُّ: والجهرُ انحصارُ النَّفَسِ معَ تَحَرُّكِه، فقد يجري النفَسُ ولا يجري الصوتُ كالكافِ والتاءِ المنقوطةِ بنقطتينِ مِن فوق, وقد يجري الصوتُ, ولا يجري النفسُ كالضادِ والغينِ المُعْجَمتينِ، فظهرَ الفرقُ بينهما, واللهُ أعلمُ.
(وسبعُ عُلْوٍ) بِضَمِّ العينِ ويُكْسَرُ (خُصَّ ضَغْطٍ قِظْ حَصَر) أي: حصرُ سبعِ عُلْوٍ حروفُ (خُصَّ ضَغْطٍ قِظْ) فَقِظْ أمرٌ مِن قاظَ بالمكانِ إذا أقامَ بهِ في الصيفِ، والخُصُّ بضمِّ الخاءِ المُعْجَمَةِ البيتُ مِن القَصَبِ، والضَّغْطُ الضيِّقُ، والمعْني: أقِمْ في وقتِ حرارةِ الصيفِ في خُصٍّ ذي ضغطٍ، أي: اقْنَعْ مِن الدنيا بمثلِ ذلكَ وما قاربَه واسْلُكْ طريقَ السلفِ الصالحِ وما وافقَه، فقد جاءَ عن أبي وائلٍ شَقِيقِ بنِ سلمةَ وهو مِن أكابرِ التابعينَ مِن أصحابِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه نحوٌ مِن ذلكَ، قالَ عبدُ الملكِ بنُ عُميرٍ: كانَ لأبي وائلٍ خُصٌّ مِن قصبٍ يكونُ فيه هو ودابَّتُه، فإذا غزا أَنْقَضَه، وإذا رجعَ بَنَاهُ. كذا ذَكَرَهُ أبو شامةَ رَحِمَهُ اللهُ، فقولُ الشارحِ: * (خُصَّ) فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمفعولِ بمعنى اختصَّ "صُحِّفَ عَلَيْهِ، والمرادُ هنا أنَّ حروفَ الاستعلاءِ سبعةٌ انْحَصَرَتْ في مُرَكَّبَاتِ هذه الكلماتِ، وهي الخاءُ المُعْجَمةُ، والصادُ المُهْمَلَةُ، والضادُ، والغينُ المُعْجَمتانِ، والطاءُ، والقافُ، والظاءُ، وسُمِّيَت مُسْتَعْلِيَّةً؛ لاستعلاءِ اللسانِ عندَ النطقِ بها إلى الحنكِ الأعلى وما عداها مُسْتَفِلَةٌ لانْخِفَاضِ اللسانِ عن الحنكِ عندَ لفظِها. (وصادُ ضادٌ طاءُ ظاءٌ مُطْبَقَهْ) بفتحِ الباءِ ويجوزُ كسرُها، وَيَتَّزِنُ البيتُ بتنوينِ الثاني والرابعِ، وإنَّما لمْ يُرَكِّبْ هذه الحروفَ الأربعةَ المُطْبَقَةَ على قياسِ سائرِها؛ لعدمِ حصولِ مَعْنيً في تركيبِها ولثِقَلِها على اللسانِ بخلافِ غيرِها، والحاصلُ أنَّ حروفَ الإطباقِ أربعةٌ الصادُ والضادُ والطاءُ والظاءُ وهي مِن جملةِ الحروفِ المُسْتَعْلِيَةِ وأخصُّ منها، وسُمِّيَت بها لإطباقِ ما يُحاذِي اللسانَ مِن الحنكِ على اللسانِ عندَ خروجِها، وهو أبلغُ مِن الاستعلاءِ، وهو لغةً: الإلصاقُ، وضدُّهَا المُنْفَتِحَةُ، وسُمِّيَتْ بها؛ لانْفِتَاحِ ما بينَ اللسانِ والحَنَكِ وخروجِ الريحِ مِن بينِهما عندَ النطقِ بها، وهو لغةً: الافتراقُ، ومِن الغريبِ أنَّ قولَه تعالى: }حَصَبُ جَهَنَّمَ{ قُرِيءَ بجميعِ حروفِ المُطْبَقَةِ، ولم يجتمعْ في كلمةٍ غيرِها.
(وَفَرَّ مِن لُبِّ الحروفِ المُذْلَقَهْ) أي: والحروفُ المُذْلَقَةُ مجموعُ حروفِ (فَرَّ مِن لُبِّ) وهو بِضَمِّ اللامِ وحذفِ التنوينِ للوزنِ، على أنَّ (مِن) حرفُ جرٍّ، واللبُّ الذي هو العقلُ بمعنى الفاعلِ، والمعنى: هربَ الجاهلُ مِن العاقلِ، ويمكنُ أنْ يكونَ المعنى فَرَّ مَنْ فَرَّ مِن الخلقِ مِن عَقْلٍ له به عَرَفَ الحقَّ، ففيه إيماءٌ إلى قولِه تعالى: }فَفِرُّوا إلى اللهِ{ وقولِه سبحانَه: }وَتَبَتَّلْ إليه تَبْتِيلًا{. والحاصلُ أنَّ الفاءَ، والراءَ، والميمَ، والنونَ، واللامَ، والباءَ الموحَّدةَ، يقالُ لها (المُذْلَقَةُ) لخُرُوجِها مِن ذَلْقِ اللسانِ والشفَةِ، أي طرفيهما، والمرادُ أنَّ خروجَ بعضِها مِن ذلقِ اللسانِ، وهي الراءُ، واللامُ، والنونُ، وبعضِها مِن ذلقِ الشفةِ، وهي الباءُ، والفاءُ، والميمُ، وما عداها مُصْمَتَةٌ؛ لأنَّها مِن الصمتِ وهو المنعُ، قالَ الأخفشُ: لأنَّ مَن صمتَ منعَ نفسَه الكَلاَمَ والمرادُ بها هنا أنَّهَا ممنوعةٌ مِن انفرادِها أصولًا في بناتِ الأربعةِ والخمسةِ، بمعنى أنَّ كُلَّ كلمةٍ على أربعةِ أحرفٍ أو خمسةٍ أصولًا لا بدَّ أنْ يكونَ فيها معَ الحروفِ المُصْمَتَةِ حرفٌ مِن حروفِ المُذْلَقَةِ، وإنَّما فعلُوا ذلكَ لخفَّتِها، فلذلكَ عادلُوا بها الثقيلةَ،ولأجلِ ما ذُكِرَ حَكَمُوا بأنَّ (عَسْجَدًا ) اسمُ الذَّهبِ أعجميٌّ؛ لكونِه من بناتِ الأربعةِ وليسَ فيه حرفٌ مِن حروفِ المُذْلَقَةِ، وقالَ مكيٌّ في (الرعايةِ): إنَّ الألفَ ليستْ من المُذْلَقَةِ ولا مِن المُصْمَتَةِ؛لأنَّها هوائيَّةٌ لا مُسْتَقَرَّ لها في المَخْرَجِ، وبهذا تَمَّتْ أضدادُ الصفاتِ الخمسةِ المذكورةِ، فشرَعَ في ذكرِ صفاتٍ اخْتُصَّتْ ببعضِ الحروفِ دونَ بعضِها مِن غيرِ تحَقُّقِ وجودِ أضدادِها فقالَ: (صفيرُها صادٌ وزايٌ سينُ) أي: حروفُ الصفيرِ ثلاثةٌ: صادٌ مُهْمَلَةٌ، وزايٌ، وسينٌ مُهْمَلَةٌ، ولم يُرَكِّبْ لما سبقَ في المُطْبَقِ، وجعلَ الروميُّ ضميرَ صفِيرِها إلي الصفاتِ فيحتاجُ إلي تكَلُّفٍ في صَحَّةِ الحملِ بأنْ يُقَالَ: حروفُ صفيرِها، والمعنى أنَّ هذه الحروفَ موصوفةٌ بصفةِ الصفيرِ، وهو صوتٌ زائدٌ يخرجُ مِن بينِ النفَسِ يَصْحَبُ هذه الحروفَ عندَ خروجِها، وهو لغةً صوتٌ يُصَوَّتُ به للبهائمِ، ثمَّ اعلمْ أنَّ السينَ حرفٌ مهموسٌ مِن حروفِ الصفيرِ ويمتازُ عن الصادِ بالإطباقِ وعن الزايِ بالهمسِ كما في القاموسِ.
(قَلْقَلَةٌ قُطْبُ جَد واللينُ) أي: حروفُ الْقَلْقَلَةِ ويقالُ لها: الْقَلْقَةُ: خمسةٌ يجمعُها قولُكَ (قُطْبُ جَدٍّ) وهي القافُ، والطاءُ المُهْمَلَةُ، والباءُ الموحَّدَةُ، والجيمُ، والدالُ المُهْمَلَةُ، وإنَّما وُصِفَتْ بذلكَ؛لأنَّها حينَ سكونِها لا سيَّمَا إذا وقفَ علَيها تُقَلْقِلُ المَخْرَجَ حتى يُسْمَعَ له نَبْرَةٌ قويَّةٌ، لمَا فيها مِن شِدَّةِ الصوتِ الصاعدِ بها معَ الضغطِ دونَ غيرِها، وهي في اللغةِ: التحرُّكُ والاضطرابُ، والقُطْبُ: بِتَثْلِيثِ القافِ، والضمُّ أشهرُ، ما يدورُ عليه الأمرُ، ومنه قُطْبُ الرَّحَى، والجَدُّ: البَخْتُ والعظمةُ، وخُفِّفَ للوزنِ، ثمَّ قولُه: (واللِّينُ) أي: حروفُه اثنانِ (واوٌ وياءٌ سَكَنَا وانْفَتَحَا) بألفِ الإطلاقِ أي: وقعَ الفتحُ (قبلَهُمَا والانحرافُ صُحِّحَا) بصيغةِ المجهولِ، والألفُ للإطلاقِ أي: إذا سُكِّنَ الواوُ والياءُ وانْفَتَحَ ما قبلَهَمَا يُسَمَّى لَيِّنًا، لِقَلَّةِ المدِّ فيهما بالنسبةِ إلى حروفِ المدِّ التي حركةُ ما قبلَها مِن جنسِها، وذلكَ لأنَّ في حرفِ المدِّ مدًّا أصليًّا، وفي حرفِ اللينِ مدًّا ما يُضْبَطُ بالمُشَافَهَةِ كُلٌّ منهما، كما ذكرَه الجُعْبُرِيُّ.
ولذا أُجْرِي حرفا اللينِ مُجْرَى حروفِ المدِّ واللينِ، حتى إذا وقعَ بعدَهما ساكنٌ بوقفٍ أو إدغامٍ جازَ المدُّ، والتوسُّطُ، والقصرُ، إلا أنَّ هذا الترتيبَ أولى في المدِّ، وعكسُه في اللينِ، وقد رُجِّحَ قَصرُ وَرْشٍ في نحوِ (شيء)ٍ (وسوءٍ) على التوسُّطِ والتوسُّطُ على الطولِ بهذا لمعنى، ووَصْفُ الانحرافِ صُحِّحَ ثبوتُه (في اللامِ والرا) مقصورًا (وبتكريرِ جعلَ) وإنَّما اللامُ والراءُ مُنْحَرِفَانِ؛لأنَّ اللامَ فيه انحرافٌ ومَيْلٌ إلى طَرَفِ اللسانِ، والراءَ فيه انحرافٌ إلى ظهرِ اللسانِ وميلٌ قليلٌ إلى جهةِ اللامِ، ولذلكَ يجعلُها الألْثَغُ لامًا، والضميرُ في (جُعِلَ) راجعٌ إلى الراءِ، والمعنى أنَّ الراءَ يُوصَفُ بالتَّكْرَارِ أيضًا كما وُصِفَ بالانحرافِ، والتَّكْرَارُ: إعادةُ الشيءِ وأقلُّهُ مَرَّةٌ على الصحيحِ، ومعنى قولِهم إنَّ الراءَ مُكَرَّرٌ هو أنَّ الراءَ له قَبُولُ التكرارِ، لارتعادِ طَرَفِ اللسانِ به عندَ التلفُّظِ، كقولِهم لغيرِ الضاحكِ: إنسانٌ ضاحكٌ، يعنى أنَّهُ قابلٌ للضَّحِكِ، وفي الجَعْلِ إشارةٌ إلى ذلكَ، ولهذا قالَ ابنُ الحاجبِ: لِمَا تُحِسُّه مِن شبهِ ترديدِ اللسانِ في مَخْرَجِهِ، وأمَّا قولُه: ولذلكَ جَرَى مَجْرَى حرفينِ في أحكامٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فليسَ كذلكَ، بل تكريرُه لحنٌ فَيَجِبُ مَعْرِفةُ التحفُّظِ عنه للتحفُّظِ به، وهذا كمَعْرِفةِ السِّحْرِ لِيُجْتَنَبَ عن تضرُّرِه، ولِيُعْرَفَ وجهُ دفعِه قالَ الجُعْبُرِيُّ: وطريقةُ السلامةِ أنَّهُ يُلْصِقُ اللافِظُ ظهرَ لسانِه بأعلى حنكِه لصقًا مُحْكَمًا مرَّةً واحدةً، ومتى ارْتَعدَ حَدَثَ مِن كُلِّ مرَّةٍ راءٌ، وقالَ مكيٌّ: لابدَّ في القراءةِ مِن إخفاءِ التكريرِ، وقالَ: واجبٌ على القارئِ أنْ يُخْفِيَ تكريرَه، ومتى أظهرَ فقدْ جعلَ مِن الحرفِ المُشَدَّدِ حروفًا ومِن المُخَفَّفِ حرفينِ. ا هـ.
ثمَّ قولُ ابنِ الحاجبِ: "في أحكامٍ مُتَعَدِّدَةٍ" بَيَّنَه أبو شامةَ حيثُ قالَ: فَحَسُنَ إسكانُ (يَنْصُرْكُمْ) و (يُشْعِرْكُمْ) ولم يَحْسُنْ إسكانُ (بِقَتْلِكِمْ) و (يُسْمِعُكُمْ) وحَسُنَ إدغامُ مثلِ }وإنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ{ أحسنُ مُنه في }إنْ يَمْسَسْكُمْ{ ولم يُمِلِ (طالبٌ) و (غانمٌ) وأُمِيلَ (طاردٌ) و (غارمٌ) وامتنعُوا مِن إمالةِ (راشدٍ) ولم يَمْتَنِعُوا مِن إمالةِ (ناشدٍ) وكُلُّ هذه الأحكامِ راجِعَةٌ في المنعِ والتسويغِ إلى التكريرِ الذي في الراءِ. (وللتَّفَشِّي الشينُ ضادًا اسْتَطِلْ) التفَشِّي: الانْبِثَاثُ والانتشارُ، والكَلاَمُ مِن بابِ القلبِ أي صفةُ التفشِّيِ ثابتةٌ للشينِ، والمعنى: أنَّ الشينَ موصوفٌ بانتشارِ الصوتِ عندَ خروجِها حتى تَتَّصِلَ بحروفِ طَرَفِ اللسانِ، منها مَخْرَجُ الظاءِ المُشَالَةِ، والحالُ أنَّ مَخْرَجَها حافَةُ اللسانِ مِن مُحَاذَاةِ وسَطَهِ، وقولُه: (اسْتَطِلْ) أَمْرٌ مِن الاستطالةِ وهي لغةً: أبعدُ المسافتينِ، والمرادُ منها هنا: الامتدادُ مِن أَوَّلِ حافَةِ اللسانِ إلى آخرِها كما قالَه الجُعْبُرِيُّ، والمعنى صفةٌ بالاستطالةِ.
والحاصلُ أنَّ الضادَ حرفٌ مستطيلٌ، وإنَّما وُصِفَ بالاستطالةِ؛ لأنَّه يستطيلُ حتى يتَّصِلَ بمَخْرَجِ اللامِ، وللتحَيُّزِ بينَ المَخْرَجينِ باعتبارٍ واحدٍ صَعُبَ اللفظُ بها، وقد أَلْحَقَ المتقدِّمُونَ الثاءَ المُثَلَّثَةَ بالشينِ في التفشِّى، وقالُوا: إنها تَفَشَّتْ حتى اتَّصَلتْ بمَخْرَجِ الفاءِ؛ ولذا تُبْدَلُ منها، فيقالُ: جَدَفَ وجَدَثَ، قالَ ابنُ المصنِّفِ: وسبيلُ تسهيلِ النطقِ بها قطعُ النظرِ عن الحيِّزِ المُقَابِلِ وتَمْكِينُهَا في مَخْرَجِها وتحصيلُ صفاتِها المميِّزَةِ لها عن الظاءِ، قالَ الجُعْبُرِيُّ: والفرقُ بينَ المُسْتَطِيلِ والمَمْدُودِ أنَّ المُسْتَطِيلَ جرى في مَخْرَجِه والمَمْدُودَ جرى في نفسِه.
ثمَّ اعلمْ أنَّ خَمْسًا مِن الصفاتِ العْشرِ المُتَقَابِلَةِ قويَّةٌ، وخمسًا منها ضعيفةٌ، فالقويَّةُ: الجهرُ، والشدَّةُ، والاستعلاءُ، والإطباقُ، والإصماتُ. والضعيفةُ الخمسُ المقابلةُ، وهي: الهمسُ، والرخاوةُ، والاسْتِفالةُ، والانفتاحُ، والذَّلْقُ، وأمَّا السبعُ المفردةُ فكُلُّها قويَّةٌ إلا اللينَ، ثمَّ كُلُّ حرفٍ من التسعةِ والعشرينَ لابدَّ أنْ يَتَّصِفَ بخمسٍ من الصفاتِ العشْرةِ، فما جَمَعَ جميعَ الصفاتِ القويَّةِ، كالطاءِ المُهْمَلَةِ، فهو أقوى الحروفِ، وما جَمَعَ جيمعَ الصفاتِ الضعيفةِ، فهو أضعفُها، كالهاءِ، والفاءِ، وما اجتمعَ فيه الأمرانِ فهو مُتَوَسِّطٌ فيها، وضعْفُه وقوَّتُه بحسبِ ما تَضَمَّنَهُ منها.