فصل
قال ابن قيّم الجوزية: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزُّرعِيُّ الدمشقي (ت:751هـ) : (فصل
وأما الهجرة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فمعلم لم يبق منه سوى رسمه، ومنهج لم تترك منه بنيّات الطريق سوى اسمه، ومحجّةٌ سفت عليها السّوافي فطمست رسومها، وأغارت عليها الأعادي فغوّرت مناهلها وعيونها، فسالكها غريب بين العباد، فريد بين كل حيٍّ وناد، بعيد على قرب المكان، وحيد على كثرة الجيران، مستوحش مما [به] يستأنسون، مستأنس مما به يستوحشون، مقيم إذا ظعنوا، ظاعن إذا قطنوا، منفرد في طريق طلبه، لا يقرّ قراره حتى يظفر بأربه، فهو الكائن معهم بجسده، البائن منهم بمقصده، نامت في طلب الهدى أعينهم وما ليل مطيه بئائم، وقعدوا عن الهجرةٍ النبوية وهو في طلبها مشمّر قائم، يعيبونه بمخالفة آرائهم، ويزرون عليه إزراء على جهالاتهم وأهوائهم؛ قد رجموا فيه الظّنون، وأذكوا عليه العيون، وتربّصوا به ريب المنون. {فتربّصوا إنّا معكم متربّصون (52)}. {قال ربّ احكم بالحقّ وربّنا الرّحمن المستعان على ما تصفون (112)}.
نحن وإيّاكم نموت ولا ... أفلح عند الحساب من ندما
والمقصود أن هذه الهجرة النبوية شأنها شديد، وطريقها على غير المشتاق وعير بعيد.
[بعيدٌ على كسلان أو ذي ملالةٍ ... وأما على المشتاق فهو قريب]
ولعمر الله ما هي إلا نور يتلألأ ولكن أنت ظلامه، وبدر أضاء مشارق الأرض ومغاربها ولكن أنت غيمه وقتامه، ومنهلٌ عذب صافي ولكن أنت كدره، ومبتدأ له خبر عظيم ولكن ليس عندك خبره.
فاسمع الآن شأن هذه الهجرة والدلالة عليها، وحاسب نفسك بينك وبين الله هل أنت من المهاجرين لها أو المهاجرين إليها؟
فحدّ هذه الهجرة: سفر الفكر في كل مسألة من مسائل الإيمان، ونازلة من نوازل القلوب، وحادثةٍ من حوادث الأحكام، إلى معدن الهدى ومنبع النور المتلقى من فم الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى {إن هو إلّا وحيٌ يوحى (4)}، فكل مسألةٍ طلعت عليها شمس رسالته وإلا فاقذف بها في بحار الظلمات، وكل شاهد عدّله هذا المزكّي الصادق وإلا فعدّه من أهل الريب والتهمات؛ فهذا هو حدّ هذه الهجرة.
فما للمقيم في مدينة طبعه وعوائده، القاطن في دار مرباه ومولده، القائل: إنا على طريقة آبائنا سالكون، وإنا بحبلهم مستمسكون، وإنا على آثارهم مقتدون، وما لهذه الهجرة؟ قد ألقى كلّه عليهم، واستند في معرفة طريق نجاته وفلاحه إليهم، معتذرا بأن رأيهم له خير من رأيه لنفسه، وأن ظنونهم وآراءهم أوثق من ظنّه وحدسه.
ولو فتّشت عن مصدر هذه الكلمة لوجدتها صادرة عن الإخلاد إلى أرض البطالة، متولدة بين بعل الكسل وزوجته الملالة.
والمقصود أن هذه الهجرة فرض على كل مسلم، وهي مقتضى شهادة أن محمدا رسول الله، كما أن الهجرة الأولى مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله.
وعن هاتين الهجرتين يسأل كل عبد يوم القيامة وفي البرزخ، ويطالب بهما في الدنيا، فهو مطالب بهما في الدّور الثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار.
قال قتادة: "كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ ".
وهاتان الكلمتان هما مضمون الشهادتين، وقد قال تعالى: {فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجًا ممّا قضيت ويسلّموا تسليمًا (65)}؛ فأقسم سبحانه بأجل مقسم به -وهو نفسه -عز وجل-- على أنهم لا يثبت لهم الإيمان، ولا يكونون من أهله، حتى يحكّموا رسوله في جميع موارد النزاع، وهو كل ما شجر بينهم من مسائل النزاع في جميع أبواب الدين. فإن لفظة "ما" من صيغ العموم؛ فإنها موصولة تقتضي نفي الإيمان إذا لم يوجد تحكيمه في جميع ما شجر بينهم.
ولم يقتصر على هذا حتى ضمّ إليه انشراح صدورهم بحكمه، حيث لا يجدوا في أنفسهم حرجا -وهو الضّيق والحصر- من حكمه، بل يتلقّوا حكمه بالانشراح، ويقابلوه بالقبول، لا أنهم يأخذونه على إغماض، ويشوبونه على أقذاء، فإن هذا مناف للإيمان، بل لابدّ أن يكون أخذه بقبول ورضى وانشراح صدر.
ومتى أراد العبد أن يعلم منزلته من هذا فلينظر في حاله، وليطالع قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه، أو على خلاف ما قلّد فيه أسلافه من المسائل الكبار وما دونها، {بل الإنسان على نفسه بصيرةٌ (14) ولو ألقى معاذيره (15)}.
فسبحان الله كم من حزازةٍ في قلوب كثير من الناس من كثير من النصوص وبودّهم أن لو لم ترد؟
وكم من حرارة في أكبادهم منها؟.
وكم من شجى حلوقهم من موردها؟
ستبدو لهم تلك السرائر بالذي ... يسوء ويخزي يوم تبلى السّرائر
ثم لم يقتصر [سبحانه] على ذلك حتى ضمّ إليه قوله: {ويسلّموا تسليمًا (65)}؛ فذكر الفعل مؤكدًا له بمصدره القائم مقام ذكره مرتين، وهو الخضوع له، والانقياد لما حكم به طوعا ورضى، وتسليمًا لا قهرا ومصابرةً؛ كما يسلّم المقهور لمن قهره كرها، بل تسليم عبدٍ محب مطيع لمولاه وسيّده الذي هو أحبّ شيء إليه، يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليمه إليه، ويعلم بأنه أولى به من نفسه، وأبرّ به منها، وأرحم به منها، وأنصح له منها، وأعلم بمصالحه منها، وأقدر على تحصيلها.
فمتى علم العبد هذا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - استسلم له، وسلّم إليه، وانقادت كل ذرّة من قلبه إليه، ورأى أنه لا سعادة له إلا بهذا التسليم والانقياد.
وليس هذا مما يحصل معناه بالعبارة، بل هو أمر قد انشقّ [له] القلب واستقرّ في سويدائه، لا تفي العبارة بمعناه، ولا مطمع في حصوله بالدعوى والأماني.
فكلٌّ يدعون وصال ليلى ... ولكن لا تقرّ لهم بذاكا
وفرقٌ بين علم الحبّ وحال الحبّ؛ فكثيرا ما يشتبه على العبد علم الشيء بحاله ووجوده.
وفرق بين المريض العارف بالصحة والاعتدال وهو مثخنٌ بالمرض، وبين الصحيح السليم وإن لم يحسن وصف الصحة والعبارة عنها.
وكذلك فرق بين وصف الخوف والعلم به، وبين حاله ووجوده.
وتأمّل تأكيده سبحانه لهذا المعنى المذكور في الآية بوجوه عديدة من التأكيد:
أولها: تصديرها بلا النافية، وليست زائدة كما يظنّ من يظنّ ذلك، وإنما دخولها لسرٍّ في القسم، وهو الإيذان بتضمّن المقسم عليه للنّفي، وهو قوله: {لا يؤمنون}.
وهذا منهج معروف في كلام العرب، إذا أقسموا على نفي شيء صدروا جملة القسم بأداة نفي، مثل هذه الآية، ومثل قول الصديق - رضي الله عنه -: "لاها الله، لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله؛ فيعطيك سلبه".
وقال الشاعر:
فلا وأبيك ابنة العامر ... يّ لا يدّعي القوم أنّي أفرّ
وقال الآخر:
فلا والله لا يلفى لما بي ... ولا للديهم أبدا دواء
وهذا في كلامهم أكثر من أن يذكر.
وتأمّل جمل القسم التي في القرآن المصدّرة بحرف النفي، كيف تجد المقسم عليه منفيا ومتضمنا لنفي، ولا يخرم هذا قوله: {فلا أقسم بمواقع النّجوم (75) وإنّه لقسمٌ لو تعلمون عظيمٌ (76) إنّه لقرآنٌ كريمٌ (77)}. فإنه لما كان المقصود بهذا القسم نفي ما قاله الكفار في القرآن: من أنه شعر، أو كهانة، أو أساطير الأولين، كيف صدّر القسم بأداة النفي، ثم أثبت له خلاف ما قالوه، فتضمنت الآية معنى ليس الأمر كما يزعمون، ولكنه قرآن كريم.
ولهذا صرّح بالأمرين النفي والإثبات في مثل قوله: {فلا أقسم بالخنّس (15) الجوار الكنّس (16) واللّيل إذا عسعس (17) والصّبح إذا تنفّس (18) إنّه لقول رسولٍ كريمٍ (19)}.
وكذلك قوله: {لا أقسم بيوم القيامة (1) ولا أقسم بالنّفس اللّوّامة (2) أيحسب الإنسان ألّن نجمع عظامه (3) بلى قادرين على أن نسوّي بنانه (4)}.
والمقصود أن افتتاح هذا القسم بأداة النفي يقتضي تقوية المقسم عليه وتأكيده وشدة انتفائه.
وثانيها: تأكيده بنفس القسم.
وثالثها: تأكيده بالمقسم به، وهو إقسامه بنفسه لا بشيءٍ من مخلوقاته، وهو سبحانه يقسم بنفسه تارة، وبمخلوقاته تارة.
ورابعها: تأكيده بانتفاء الحرج، ووجود التسليم.
وخامسها: تأكيد الفعل بالمصدر.
وما هذا التأكيد والاعتناء إلا لشدة الحاجة إلى هذا الأمر العظيم، وأنه مما يعتنى به، ويقرّر في نفوس العباد بما هو من أبلغ أنواع التقرير.
وقال تعالى: {النّبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم}، وهذا دليل على أن من لم يكن الرسول أولى به من نفسه فليس من المؤمنين.
وهذه الأولوية تتضمن أمورًا:
منها: أن يكون أحبّ إلى العبد من نفسه؛ لأن الأولوية أصلها الحب، ونفس العبد أحب إليه من غيره، ومع هذا فيجب أن يكون الرسول أولى به منها، وأحبّ إليه منها؛ فبذلك يحصل له اسم الإيمان.
ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضى والتسليم وسائر لوازم المحبة، من الرضى بحكمه، والتسليم لأمره، وإيثاره على كل من سواه.
ومنها: أن لا يكون للعبد حكمٌ على نفسه أصلًا، بل الحكم
على نفسه للرسول، يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده، والوالد على ولده؛ فليس له في نفسه تصرف قط إلا ما تصرف فيه الرسول الذي هو أولى به منها.
فيا عجبًا كيف تحصل هذه الأولوية لعبد قد عزل ما جاء به الرسول عن منصب التحكيم، ورضي بحكم غيره، واطمأن إليه أعظم من طمأنينته إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وزعم أن الهدى لا يتلقّى من مشكاته, وإنما يتلقى من دلالات العقول، وأنّ ما جاء به لا يفيد اليقين، إلى غير ذلك من الأقوال التي تتضمن الإعراض عنه وعما جاء به، والحوالة في العلم النافع على غيره، وذلك هو الضلال المبين.
ولا سبيل إلى ثبوت هذه الأولوية إلّا بعزل كل ما سواه، وتوليته في كل شيء، وعرض ما قاله كل أحد سواه على ما جاء به؛ فإن شهد له بالصحة قبله، وإن شهد له بالبطلان ردّه، وإن لم تتبين شهادته له بصحةٍ ولا بطلانٍ جعله بمنزلة أحاديث أهل الكتاب، ووقفه حتى يتبيّن أي الأمرين أولى به؟
فمن سلك هذه الطريقة استقام له سفر الهجرة، واستقام له علمه وعمله، وأقبلت وجوه الحقّ إليه من كلّ جهة.
ومن العجب أن يدّعي حصول هذه الأولوية والمحبة التامة من كان سعيه واجتهاده ونصبه في الاشتغال بأقوال غيره وتقريرها، والغضب والحمية لها، والرضى بها والتحاكم إليها، وعرض ما قال الرسول عليها؛ فإن وافقها قبله، وإن خالفها التمس وجوه الحيل، وبالغ في ردّه ليًّا وإعراضًا؛ كما قال تعالى: {وإن تلووا أو تعرضوا فإنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا (135)}.
وقد اشتملت هذه الآية على أسرار عظيمة نحن ننبّه على بعضها لشدة الحاجة إليها.
قال تعالى: {ياأيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فاللّه أولى بهما فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا (135)}.
فأمر سبحانه بالقيام بالقسط، وهو العدل، وهذا أمر بالقيام به في حقّ كل أحد عدوًّا كان أو وليًّا، وأحقّ ما قام له العبد بالقسط: الأقوال والآراء والمذاهب؛ إذ هي متعلقة بأمر الله وخبره؛ فالقيام فيها بالهوى والعصبية مضادٌّ لأمر الله, منافٍ لما بعث به رسله، والقيام فيها بالقسط وظيفة خلفاء الرسول في أمته، وأمنائه بين أتباعه، ولا يستحقّ اسم الأمانة إلا من قام فيها بالعدل المحض، نصيحةً لله ولكتابه ولرسوله ولعباده.
أولئك هم الوارثون حقًا, لا من يجعل أصحابه ونحلته ومذهبه عيارًا على الحق وميزانًا له؛ يعادي من خالفه ويوالي من وافقه لمجرد موافقته ومخالفته. فأين هذا من القيام بالقسط الذي فرضه الله على كل أحد؟ وهو في هذا الباب أعظم فرضًا، وأكبر وجوبًا.
ثم قال: {شهداء للّه} والشاهد هو المخبر، فإن أخبر بحق فهو شاهد عدل مقبول، وإن أخبر بباطل فهو شاهد زور؛ فأمر تعالى أن نكون شهداء له مع القيام بالقسط، وهذا يتضمن أن تكون الشهادة بالقسط أيضًا، وأن تكون لله لا لغيره.
وقال في الآية الأخرى: {كونوا قوّامين للّه شهداء بالقسط}.
[فتضمنت الآيتان أمورًا أربعة:
أحدها: القيام بالقسط].
والثاني: أن يكون لله.
والثالث: الشهادة بالقسط.
والرابع: أن تكون لله.
واختصت آية النساء بالقيام بالقسط والشهادة لله، وآية المائدة بالقيام لله والشهادة بالقسط، لسرٍّ عجيبٍ من أسرار القرآن ليس هذا موضع ذكره.
ثم قال تعالى: {ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين}، فأمر سبحانه بأن يقام بالقسط، ويشهد به على كل أحد، ولو كان أحبّ الناس إلى العبد، فيقوم به على نفسه، ووالديه اللذين هما أصله، وأقربيه الذين هم أخصّ به وألصق من سائر الناس،فإنّ ما في العبد من محبته لنفسه ولوالديه وأقربيه يمنعه من القيام عليهم بالحق، [ولاسيما إذا كان الحق] لمن يبغضه ويعاديه قبلهم؛ فإنه لا يقوم به في هذه الحال إلا من كان الله ورسوله أحبّ إليه من [كل] ما سواهما.
وهذا يمتحن به العبد إيمانه؛ فيعرف منزلة الإيمان من قلبه ومحلّه منه، وعكس هذا عدل العبد في أعدائه ومن يشنؤه، وإنه لا ينبغي له أن يحمله بغضه لهم على أن يجنف عليهم، كما لا ينبغي أن يحمله حبّه لنفسه ووالديه وأقاربه على أن يترك القيام عليهم بالقسط، فلا يدخله ذلك البغض في باطل، ولا يقصر به هذا الحبّ عن الحقّ، كما قال بعض السلف: "العادل هو الذي إذا غضب لم يدخله غضبه في باطل، وإذا رضي لم يخرجه رضاه عن الحقّ".
فاشتملت الآيتان على هذين الحكمين وهما القيام بالقسط والشهادة به على الأولياء والأعداء.
ثم قال تعالى: {إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فاللّه أولى بهما}؛ أي: إن يكن المشهود عليه غنيًّا ترجون وتأملون عود منفعة غناه عليكم فلا تقومون عليه، أو فقيرًا فلا ترجونه ولا تخافونه، فالله أولى بهما منكم، هو ربهما ومولاهما، وهما عبداه كما أنكم عبيده، فلا تحابوا غنيًّا لغناه، ولا تطمعوا في فقيرٍ لفقره؛ فإن الله أولى بهما منكم.
وقد يقال: فيه معنى آخر أحسن من هذا، وهو أنهم ربما خافوا من القيام بالقسط وأداء الشهادة على الغني والفقير؛ أما الغنيّ فخوفًا على ماله، وأما الفقير فلإعدامه، وأنه لا شيء له؛ فتتساهل النفوس في القيام عليه بالحق، فقيل لهم: الله أولى بالغني والفقير منكم، أعلم بهذا، وأرحم بهذا؛ فلا تتركوا أداء الحق والشهادة على غنيٍّ ولا فقير.
ثم قال تعالى: {فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا} نهاهم عن اتباع الهوى الحامل على ترك العدل.
وقوله: {أن تعدلوا} منصوب الموضع على أنه مفعول لأجله. وتقديره عند البصريين: كراهية أن تعدلوا، أو حذار أن تعدلوا؛ فيكون اتّباعكم الهوى كراهية العدل وفرارًا منه. وعلى قول الكوفيين التقدير: أن لا تعدلوا.
وقول البصريين أحسن وأظهر.
ثم قال تعالى: {وإن تلووا أو تعرضوا فإنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا} ذكر سبحانه السّببين الموجبين لكتمان الحق محذرًا منهما، متوعدًا عليهما:
أحدهما: اللّيّ.
والآخر: الإعراض.
فإن الحقّ إذا ظهرت حجّته، ولم يجد من يروم دفعها طريقًا إلى دفعها، أعرض عنها وأمسك عن ذكرها، فكان شيطانًا أخرس، وتارةً يلويها أو يحرّفها.
واللّيّ مثل الفتل، وهو التحريف. وهو نوعان: ليٌّ في اللفظ، وليٌّ في المعنى.
فاللّيّ في اللفظ: أن يلفظ بها على وجهٍ لا يستلزم الحقّ؛ إما بزيادة لفظة، أو نقصانها، أو إبدالها بغيرها، أو ليًّا في كيفية أدائها، وإيهام السامع لفظًا ومراده غيره؛ كما كان اليهود يلوون ألسنتهم بالسّلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فهذا أحد نوعي اللّيّ.
والنوع الثاني منه: ليّ المعنى، وهو تحريفه، وتأويل اللفظ على خلاف مراد المتكلم به، وتحماله ما لم يرده، أو يسقط منه بعض ما أراد به، ونحو هذا من ليّ المعاني، فقال تعالى: {وإن تلووا أو تعرضوا فإنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا (135)}.
ولما كان الشاهد مطالبًا بأداء الشهادة على وجهها، فلا يكتمها ولا يغيّرها، كان الإعراض نظير الكتمان، واللّيّ نظير تغييرها وتبديلها.
فتأمل ما تحت هذه الآية من كنوز العلم.
والمقصود أن الواجب الذي لا يتمّ الإيمان بل لا يحصل مسمّى الإيمان إلا به مقابلة النصوص بالتّلقّي والقبول، والإظهار لها، ودعوة الخلق إليها, لا تقابل بالإعراض تارةً، وباللّيّ أخرى. قال تعالى: {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى اللّه ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}؛ فدلّ هذا على أنه إذا ثبت لله ولرسوله في كل مسألة من المسائل حكمٌ طلبيٌّ أو خبريٌّ، فإنه ليس لأحد أن يتخيّر لنفسه غير ذلك الحكم فيذهب إليه، وأن ذلك ليس لمؤمن [ولا مؤمنة] أصلًا، فدلّ على أن ذلك منافٍ للإيمان.
وقد حكى الشافعي - رضي الله عنه - إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أنّ من استبانت له سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد.
ولا يستريب أحدٌ من أئمة الإسلام في صحّة ما قال الشافعي - رضي الله عنه -. فإن الحجّة الواجب اتباعها على الخلق كافّةً إنما هو قول المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وأما أقوال غيره فغايتها أن تكون سائغة الاتباع لا واجبة الاتباع، فضلًا عن أن تعارض بها النصوص، وتقدّم عليها، عياذًا بالله من الخذلان.
وقال تعالى: {قل أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول فإن تولّوا فإنّما عليه ما حمّل وعليكم ما حمّلتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرّسول إلّا البلاغ المبين (54)}، فأخبر سبحانه أن الهداية إنما هي في طاعة الرسول لا في غيرها، فإنه معلّق بالشرط؛ فينتفي بانتفائه، وليس هذا من باب دلالة المفهوم، كما يغلط فيه كثير من الناس، ويظن أنه يحتاج في تقرير الدلالة منه إلى تقرير كون المفهوم حجة، بل هذا من الأحكام التي رتّبت على شروط وعلّقت، فلا وجود لها بدون شروطها، إذ ما علّق على الشرط فهو عدم عند عدمه؛ وإلا لم يكن شرطًا له. إذا ثبت هذا فالآية نصٌّ على انتفاء الهداية عند عدم طاعته.
وفي إعادة الفعل في قوله: {قل أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول} دون الاكتفاء بالفعل الأول سرٌّ لطيف وفائدةٌ جليلة، سنذكرها عن قربٍ إن شاء الله تعالى.
وقوله: {فإن تولّوا فإنّما عليه ما حمّل}، الفعل للمخاطبين، وأصله: تتولوا، فحذفت إحدى التاءين تخفيفًا. والمعنى: أنه قد حمّل أداء الرسالة وتبليغها، وحمّلتم طاعته والانقياد له والتسليم؛ كما ذكر البخاري في "صحيحه" عن الزهري قال: "من الله البيان، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم".
فإن تركتم أنتم ما حمّلتموه من الإيمان والطاعة، فعليكم لا عليه؛ فإنه لم يحمّل طاعتكم وإيمانكم، وإنما حمّل تبليغكم وأداء الرسالة إليكم، فإن تطيعوه فهو حظّكم وسعادتكم وهدايتكم، وإن لم تطيعوه فقد أدّى ما حمّل، وما على الرسول إلا البلاغ المبين، ليس عليه هداكم وتوفيقكم.
وقال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيءٍ فردّوه إلى اللّه والرّسول إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلًا}؛ فأمر سبحانه بطاعته وطاعة رسوله. وافتتح الآية بندائهم باسم الإيمان المشعر بأن المطلوب منهم من موجبات الاسم الذي نودوا وخوطبوا به، كما يقال: يا من أنعم الله عليه وأغناه من فضله! أحسن كما أحسن الله إليك. ويا أيها العالم علّم الناس ما ينفعهم. ويا أيها الحاكم احكم بالحقّ، ونظائره.
ولهذا كثيرًا ما يقع الخطاب في القرآن بالشرائع بقوله: {ياأيّها الّذين آمنوا}.
{يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصّيام}.
{يا أيّها الّذين آمنوا إذا نودي للصّلاة من يوم الجمعة}.
{يا أيّها الّذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلّت لكم}، ونظائره.
ففي ذلك إشارة إلى أنكم إن كنتم مؤمنين؛ فالإيمان يقتضي منكم كذا وكذا، فإنّه من موجبات الإيمان وتمامه.
ثم قال: {أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول}؛ ففرق بين طاعته وطاعة رسوله في الفعل، ولم يسلّط الفعل الأول عليها، وقال: {وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم}، فقرن بين طاعة الرسول وطاعة أولي الأمر، وسلّط عليهما عاملًا واحدًا، وقد كان ربّما يسبق إلى الوهم أن الأمر يقتضي عكس هذا؛ فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله، ولكن الواقع في الآية هو المناسب، وتحته سرٌّ لطيف وهو دلالته على أن ما يأمر به رسوله تجب طاعته فيه وإن لم يكن مأمورًا به بعينه في القرآن، فتجب طاعة الرسول مفردةً ومقرونةً، فلا يتوهّم متوهّمٌ أن ما يأمر به الرسول إن لم يكن في القرآن وإلا فلا تجب طاعته فيه؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يوشك رجلٌ شبعان متكئٌ على أريكته يأتيه الأمر من أمري؛ فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، ما وجدنا فيه من شيء اتبعناه، ألا وإنّي أوتيت الكتاب ومثله معه".
وأما أولو الأمر فلا تجب طاعة أحدهم إلا إذا اندرجت تحت طاعة الرسول، لا طاعة مفردة مستقلة؛ كما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "على المرء السّمع والطاعة [فيما أحبّ وكره] ما لم يؤمر بمعصية الله، فإن أمر بمعصية الله، فلا سمع ولا طاعة".
فتأمّل كيف اقتضت إعادة هذا المعنى قوله تعالى: {فردّوه إلى اللّه والرّسول}، ولم يقل: وإلى الرسول؛ فإن الردّ إلى القرآن ردٌّ إلى الله والرسول، والردّ إلى السنة ردٌّ إلى الله والرسول، فما يحكم به الله هو بعينه حكم رسوله, وما يحكم به الرسول هو بعينه حكم الله.
فإذا رددتم إلى الله ما تنازعتم فيه، يعني إلى كتابه؛ فقد رددتموه إلى الله ورسوله، وكذلك إذا رددتموه إلى رسوله فقد رددتموه إلى الله والرسول، وهذا من أسرار القرآن.
وقد اختلفت الرواية عن الإمام أحمد في أولي الأمر، فعنه فيهم روايتان:
إحداهما: أنهم العلماء.
والثانية: أنهم الأمراء.
والقولان ثابتان عن الصحابة في تفسير الآية. والصحيح: أنها متناولة للصنفين جميعًا؛ فإن العلماء والأمراء هم ولاة الأمر الذي بعث الله به رسوله.
فالعلماء ولاته حفظًا، وبيانًا، وبلاغًا، وذبًّا عنه، وردًّا على من ألحد فيه وزاغ عنه، وقد وكّلهم الله بذلك، فقال تعالى: {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكّلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين (89)}. فيا لها من وكالةٍ أوجبت طاعتهم والانتهاء إلى أمرهم، وكون الناس تبعًا لهم.
والأمراء ولاته قيامًا، ورعايةً، وجهادًا، وإلزامًا للناس به، وأخذهم على يد من خرج عنه.
وهذان الصنفان هم الناس، وسائر النوع الإنساني تبعٌ لهم ورعيةٌ.
ثم قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيءٍ فردّوه إلى اللّه والرّسول إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر}.
وهذا دليل قاطعٌ على أنه يجب ردّ موارد النّزاع في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كلّه إلى الله ورسوله، لا إلى أحدٍ غير الله ورسوله، فمن أحال الردّ على غيرهما فقد ضادّ أمر الله، ومن دعا عند النزاع إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد دعا بدعوى الجاهلية. فلا يدخل العبد في الإيمان حتى يردّ كل ما تنازع فيه المتنازعون إلى الله ورسوله؛ ولهذا قال تعالى: {إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر}، وهذا مما ذكرناه آنفًا أنّه شرطٌ ينتفي المشروط بانتفائه، فدلّ على أن من حكّم غير الله ورسوله في موارد النزاع كان خارجًا عن مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر. وحسبك بهذه الآية القاصمة العاصمة بيانًا وشفاءً، فإنها قاصمة لظهور المخالفين لها، عاصمةٌ للمتمسكين بها الممتثلين لما أمرت به؛ {ليهلك من هلك عن بيّنةٍ ويحيى من حيّ عن بيّنةٍ وإنّ اللّه لسميعٌ عليمٌ (42)}.
وقد اتفق السّلف والخلف على أن الردّ إلى الله هو الردّ إلى كتابه، والردّ إلى رسوله هو الردّ إليه في حياته والردّ إلى سنّته بعد وفاته.
ثم قال تعالى: {ذلك خيرٌ وأحسن تأويلًا (59)}؛ أي هذا الذي أمرتكم به من طاعتي وطاعة رسولي وأولي الأمر، وردّ ما تنازعتم فيه إليّ وإلى رسولي، خيرٌ لكم في معاشكم ومعادكم، وهو سعادتكم في الدارين، فهو خيرٌ لكم وأحسن عاقبةً.
فدلّ هذا على أن طاعة الله ورسوله، وتحكيم الله ورسوله، هو سبب السعادة عاجلًا وآجلًا.
ومن تدبّر العالم والشّرور الواقعة فيه علم أن كل شرٍّ في العالم فسببه مخالفة الرسول والخروج عن طاعته، وكل خير في العالم فإنما هو بسبب طاعة الرسول.
وكذلك شرور الآخرة وآلامها وعذابها إنما هي موجبات مخالفة الرسول ومقتضياتها.
فعاد شرّ الدنيا والآخرة إلى مخالفة الرسول وما يترتب عليه، فلو أن الناس أطاعوا الرسول حق طاعته لم يكن في الأرض شرٌّ قط.
وهذا كما أنه معلوم في الشّرور العامّة والمصائب الواقعة في الأرض؛ فكذلك هو في الشّر والألم والغمّ الذي يصيب العبد في نفسه، فإنما هو بسبب مخالفة الرسول، وإلّا فطاعته هي الحصن الذي من دخله فهو من الآمنين، والكهف الذي [من] لجأ إليه فهو من الناجين.
فعلم أن شرور الدنيا والآخرة إنما هي الجهل بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - والخروج عنه، وهذا برهان قاطعٌ على أنه لا نجاة للعبد ولا سعادة إلا باجتهاده في معرفة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - علمًا، والقيام به عملًا.
وكمال هذه السعادة بأمرين آخرين:
أحدهما: دعوة الخلق إليه.
والثاني: صبره وجهاده على تلك الدّعوة.
فانحصر الكمال الإنسانيّ في هذه المراتب الأربعة:
إحداها: العلم بما جاء به الرسول.
الثانية: العمل به.
الثالثة: بثّه في الناس، ودعوتهم إليه.
الرابعة: صبره وجهاده في أدائه وتنفيذه.
ومن تطلّعت همّته إلى معرفة ما كان عليه الصحابة وأراد اتباعهم؛ فهذه طريقتهم حقًا.
فإن شئت وصل القوم فاسلك طريقهم ... وقد وضحت للسالكين عيانا
وقال تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {قل إن ضللت فإنّما أضلّ على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربّي إنّه سميعٌ قريبٌ (50)}.
فهذا نص صريح في أن هدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما حصل بالوحي، فيا عجبًا كيف يحصل الهدى لغيره من الآراء والعقول المختلفة والأقوال المضطربة؟ ولكن {من يهد اللّه فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا (17)}.
فأيّ ضلالٍ أعظم من ضلال من يزعم أن الهداية لا تحصل بالوحي، ثم يحيل فيها على عقل فلان ورأي فلتان؟ وقول زيدٍ وعمرو؟
فلقد عظمت نعمة الله على عبدٍ عافاه من هذه البلية العظمى والمصيبة الكبرى، والحمد لله رب العالمين.
وقال تعالى: {المص (1) كتابٌ أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرجٌ منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين (2) اتّبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء قليلًا ما تذكّرون (3)}؛ فأمر سبحانه باتباع ما أنزل على رسوله، ونهى عن اتباع غيره، فما هو إلا اتباع المنزل أو اتباع أولياء من دونه، فإنه لم يجعل بينهما واسطة، فكل من لم يتّبع الوحي فإنما اتبع الباطل واتبع أولياء من دون الله، وهذا بحمد الله ظاهر لا خفاء به.
وقال تعالى: {ويوم يعضّ الظّالم على يديه يقول ياليتني اتّخذت مع الرّسول سبيلًا (27) ياويلتى ليتني لم أتّخذ فلانًا خليلًا (28) لقد أضلّني عن الذّكر بعد إذ جاءني وكان الشّيطان للإنسان خذولًا (29)}.
فكل من اتخذ خليلًا غير الرسول، يترك لأقواله وآرائه ما جاء به الرسول؛ فإنه قائلٌ هذه المقالة لا محالة، ولهذا فإنه سبحانه لم يعيّن هذا الخليل، وكنّى عنه باسم فلان، إذ لكلّ متبعٍ أولياء من دون الله فلانٌ وفلانٌ.
فهذا حال هذين الخليلين المتخالّين على خلاف طاعة الرسول، ومآل تلك الخلّة إلى العداوة واللعنة؛ كما قال تعالى: {الأخلّاء يومئذٍ بعضهم لبعضٍ عدوٌّ إلّا المتّقين (67)}.
وقد ذكر تعالى حال هؤلاء الأتباع وحال من اتبعوهم في غير موضع من كتابه؛ كقوله تعالى: {يوم تقلّب وجوههم في النّار يقولون ياليتنا أطعنا اللّه وأطعنا الرّسولا (66) وقالوا ربّنا إنّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السّبيلا (67) ربّنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنًا كبيرًا (68)}.
تمنى القوم طاعة الله وطاعة رسوله حين لا ينفعهم ذلك، واعتذروا بأنهم أطاعوا كبراءهم ورؤساءهم، واعترفوا بأنهم لا عذر لهم في ذلك، وأنهم أطاعوا السادات والكبراء وعصوا الرسول، وآلت تلك الطاعة والموالاة إلى قولهم: {ربّنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنًا كبيرًا (68)}. وفي بعض هذا عبرةٌ للعاقل وموعظة شافية، وبالله التوفيق.
وقال تعالى: {فمن أظلم ممّن افترى على اللّه كذبًا أو كذّب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتّى إذا جاءتهم رسلنا يتوفّونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون اللّه قالوا ضلّوا عنّا وشهدوا على أنفسهم أنّهم كانوا كافرين (37) قال ادخلوا في أممٍ قد خلت من قبلكم من الجنّ والإنس في النّار كلّما دخلت أمّةٌ لعنت أختها حتّى إذا ادّاركوا فيها جميعًا قالت أخراهم لأولاهم ربّنا هؤلاء أضلّونا فآتهم عذابًا ضعفًا من النّار قال لكلٍّ ضعفٌ ولكن لا تعلمون (38) وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضلٍ فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون (39)}.
فليتدبر العاقل هذه الآيات وما اشتملت عليه من العبر...
قوله تعالى: {افترى على اللّه كذبًا أو كذّب بآياته} ذكر الصنفين المبطلين:
أحدهما: منشىء الباطل والفرية، وواضعها، وداعي الناس إليها.
والثاني: المكذّب بالحق.
فالأول كفره بالافتراء وإنشاء الباطل، والثاني كفره بجحود الحق. وهذان النوعان يعرضان لكل مبطل؛ فإن انضاف إلى ذلك دعوته إلى باطله، وصدّ الناس عن الحقّ، استحقّ تضعيف العذاب؛ لتضاعف كفره وشرّه؛ ولهذا قال تعالى: {الّذين كفروا وصدّوا عن سبيل اللّه زدناهم عذابًا فوق العذاب بما كانوا يفسدون (88)}، فلما كفروا وصدّوا عباده عن سبيله عذّبهم عذابين: عذابًا بكفرهم، وعذابًا بصدّهم عن سبيله.
وحيث يذكر الكفر المجرد لا يعدّد العذاب؛ كقوله: {وللكافرين عذابٌ أليمٌ (104)}.
وقوله تعالى: {أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب} يعني: ينالهم ما كتب لهم في الدنيا من الحياة والرزق وغير ذلك.
{حتّى إذا جاءتهم رسلنا يتوفّونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون اللّه}؛ أين من كنتم توالون فيه وتعادون فيه، وترجونه وتخافونه من دون الله؟ {قالوا ضلّوا عنّا}. زالوا وفارقوا، وبطلت تلك الدعوة.
{وشهدوا على أنفسهم أنّهم كانوا كافرين (37) قال ادخلوا في أممٍ قد خلت من قبلكم من الجنّ والإنس في النّار}، ادخلوا في جملة هذه الأمم.
{كلّما دخلت أمّةٌ لعنت أختها حتّى إذا ادّاركوا فيها جميعًا قالت أخراهم لأولاهم} كل أمة متأخرة ضلّت بأسلافها.
{ربّنا هؤلاء أضلّونا فآتهم عذابًا ضعفًا من النّار} ضاعف عليهم العذاب بما أضلّونا وصدّونا عن طاعة رسلك.
[قال] الله تعالى: {لكلٍّ ضعفٌ} من الاتباع والمتبوعين بحسب ضلاله وكفره.
{ولكن لا تعلمون (38)} لا تعلم كل طائفة بما في أختها من العذاب المضاعف.
{وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضلٍ}؛ فإنكم جئتم بعدنا فأرسلت فيكم الرسل، وبينوا لكم الحق، وحذّروكم من ضلالنا، ونهوكم عن اتباعنا وتقليدنا؛ فأبيتم إلا اتباعنا وتقليدنا، وترك الحق الذي أتتكم به الرسل، فأيّ فضلٍ كان لكم علينا، وقد ضللتم كما ضللنا، وتركتم الحق كما تركناه؛ فضللتم أنتم بنا كما ضللنا نحن بقوم آخرين، فأي فضل لكم علينا؟ {فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون (39)}.
فلله ما أشفاها من موعظة، وما أبلغها من نصيحةٍ، لو صادفت من القلوب حياةً، فإن هذه الآيات وأمثالها مما تذكّر قلوب السائرين إلى الله، وأما أهل البطالة الثكلة فليس عندهم من ذلك خبر).[الرسالة التبوكية 21: 55]