دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم اللغة > متون علوم اللغة العربية > النحو والصرف > ألفية ابن مالك

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 20 ذو الحجة 1429هـ/18-12-2008م, 12:37 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي معاني حروف الجر


بَعِّضْ وبَيِّنْ وابْتَدِئْ في الأَمْكِنَةْ = بِمِنْ وقدْ تأتِي لِبَدْءِ الأَزْمِنَةْ
وزِيدَ في نفيٍ وشِبْهِهِ فَجرْ = نَكرةً كما لِباغٍ مِنْ مَفَرْ
للانْتِهَا حتَّى ولامٌ وإِلَى = ومِنْ وبَاءٌ يُفْهِمَانِ بَدَلَا
واللامُ للمُلْكِ وشِبْهِهِ وفِي = تَعديَةٍ أَيْضًا وتعليلٍ قُفِي
وزِيدَ والظرفيَّةَ استَبِنْ بِبَا = وفي وقدْ يُبَيِّنَانِ السَّبَبَا
بِالْبَا اسْتَعِنْ وعَدِّ عَوِّضْ أَلْصِقِ = ومِثلَ مَعْ ومِنْ وعَنْ بها انْطِقِ
على للاستِعْلَا ومعنى في وعَنْ = بعَنْ تَجاوُزًا عَنَى مَنْ قدْ فَطَنْ
وقدْ تَجِيمَوضعَ بَعْدٍ وعَلَى = كما على مَوْضِعَ عنْ قَدْ جُعِلَا
شَبِّهْ بكافٍ وبها التعليلُ قَدْ = يُعْنَى وزَائِدًا لتوكيدٍ وَرَدْ


  #2  
قديم 25 ذو الحجة 1429هـ/23-12-2008م, 09:01 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح ابن عقيل (ومعه منحة الجليل للأستاذ: محمد محيي الدين عبد الحميد)


بَعِّضْ وبَيِّنْ وابْتَدِئْ في الأَمْكِنَهْ = بِمِنْ وقد تأتِي لبَدْءِ الأَزْمِنَهْ ([1])
وزِيدَ في نفيٍ وشِبْهِهِ فَجَرْ = نَكِرَةً كما لِباغٍ مِن مَفَرْ ([2])

تَجيءُ "مِن" للتَّبعيضِ، ولِبَيانِ الْجِنْسِ، ولابتداءِ الغايةِ في غيرِ الزمانِ كَثيراً، وفي الزمانِ قَليلاً، وزَائدةً.
فمِثالُها للتَّبعيضِ قَوْلُكَ: "أَخَذْتُ مِن الدراهِمِ". ومنه قولُه تعالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ}.
ومِثالُها لبَيانِ الْجِنْسِ قولُه تعالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ}.
ومِثالُها لابتداءِ الغايةِ في المكانِ قولُه تعالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى}.
ومِثالُها لابتداءِ الغايةِ في الزمانِ قولُه تعالَى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}، وقولُ الشاعِرِ:
205- تُخُيِّرْنَ مِنْ أزمانِ يومِ حَلِيمَةٍ = إلى اليومِ قد جُرِّبْنَ كلَّ التَّجَارِبِ([3])
ومِثالُ الزائدةِ: "ما جاءَنِي مِن أحَدٍ"، ولا تُزادُ عندَ جُمهورِ البَصْرِيِّينَ إلاَّ بشَرطينِ:
أحَدُهما: أنْ يَكونَ المجرورُ بها نَكِرَةً.
الثاني: أنْ يَسْبِقَهَا نَفْيٌ أو شَبَهُهُ، والمرادُ بشَبَهِ النَّفْيِ النَّهْيُ، نحوُ: "لا تَضْرِبْ مِن أحَدٍ"، والاستفهامُ، نحوُ: "هل جَاءَكَ مِن أحَدٍ".
ولا تُزَادُ في الإيجابِ ([4])، ولا يُؤْتَى بها جارَّةً لِمَعْرِفَةٍ، فلا تَقولُ: "جاءَنِي مِن زَيدٍ"، خِلاَفاً للأَخْفَشِ، وجَعَلَ منه قولَه تَعالَى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}.
وأَجازَ الكُوفِيُّونَ زِيادَتَها في الإيجابِ بشَرْطِ تَنكيرِ مَجرورِها، ومنه عندَهم: "قد كانَ مِن مَطَرٍ"؛ أيْ: قد كانَ مَطَرٌ.

لِلانْتِهَا: حتَّى ولامٌ وإِلَى = ومِن وبَاءٌ يُفْهِمَانِ بَدَلاَ ([5])
يَدُلُّ على انتهاءِ الغَايَةِ "إلى وحتَّى واللامُ"، والأصْلُ مِن هذه الثلاثةِ "إلى"؛ فلذلك تَجُرُّ الآخِرَ وغيرَه، نحوُ: "سِرْتُ البارِحَةَ إلى آخِرِ الليلِ، أو إلى نِصْفِه"، ولا تَجُرُّ "حتَّى" إلاَّ ما كانَ آخِراً أو مُتَّصِلاً بالآخِرِ([6])؛ كقولِه تعالى: {سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، ولا تَجُرُّ غيرَهما؛ فلا تَقولُ: "سِرْتُ البارِحَةَ حتَّى نِصْفِ الليلِ". واستعمالُ اللامِ للانتهاءِ قَليلٌ، ومنه قولُه تَعالَى: {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمَّى}.
ويُسْتَعْمَلُ "مِن" والباءُ بمعنى "بَدَل"، فمِن استعمالِ "مِن" بمعنى "بَدَل" قولُه عَزَّ وجَلَّ: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ}؛ أيْ: بَدَلَ الآخِرَةِ،، وقولُه تعالَى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلاَئِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ}؛ أيْ: بدَلَكُم.، وقولُ الشاعِرِ:
206- جَارِيَةٌ لَمْ تَأْكُلِ الْمُرَقَّقَا = ولَمْ تَذُقْ مِنَ البُقُولِ الفُسْتُقَا([7])
أيْ: بدَلَ البُقولِ.
ومِن استعمالِ الباءِ بمعنى "بَدَل" ما وَرَدَ في الحديثِ: ((مَا يَسُرُّنِي بِهَا حُمُرُ النَّعَمِ))؛ أيْ: بدَلَها. وقولُ الشاعِرِ:
فَلَيْتَ لي بِهمُ قَوْماً إذا رَكِبُوا = شَنُّوا الإِغارَةَ فُرْساناً ورُكبانَا ([8])
واللامُ لِلمِلْكِ وشِبْهِهِ وفِي = تَعْدِيَةٍ أَيْضاً وتعليلٍ قُفِي ([9])
وزِيدَ والظرفيَّةَ استَبِنْ بِبَا = وفي وقد يُبَيِّنَانِ السَّبَبَا ([10])
تَقدَّمَ أنَّ اللامَ تَكونُ للانتهاءِ، وذَكَرَ هنا أنها تَكونُ للمِلْكِ، نحوُ: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}، و"المالُ لِزَيْدٍ". ولِشِبْهِ الْمِلْكِ، نحوُ: "الْجُلُّ للفَرَسِ، والبابُ للدَّارِ". وللتَّعْدِيَةِ، نحوُ: "وَهَبْتُ لِزَيْدٍ مَالاً"، ومنه قولُه تعالَى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}. وللتعليلِ، نحوُ: "جِئْتُكَ لإِكْرَامِكَ"، وقولُه:
207- وإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ هِزَّةٌ = كَمَا انْتَفَضَ العُصْفُورُ بَلَّلَهُ القَطْرُ([11])
وزائدةٍ قِياساً([12])، نحوُ: "لِزَيْدٍ ضَرَبْتُ"، ومنه قولُه تعالَى: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}. وسَمَاعاً، نحوُ: "ضَرَبْتُ لِزَيْدٍ"، وأشارَ بقولِه: "والظرفيَّةَ استَبِنْ" إلى آخِرِه إلى معنى الباءِ و" في"، فذَكَرَ أنَّهما اشْتَرَكا "في" إفادَةِ الظرفيَّةِ والسبَبِيَّةِ، فمِثالُ الباءِ للظَّرفيَّةِ قولُه تعالَى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ}؛ أيْ: وفي الليلِ. ومِثالُها للسَّببيَّةِ قولُه تعالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً}، ومِثالُ "في" للظَّرْفِيَّةِ قولُكَ: "زَيدٌ في الْمَسجِدِ"، وهو الكثيرُ فيها، ومِثالُها للسَّبَبِيَّةِ قولُه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا، فَلاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ))([13]).
بالبَا اسْتَعِنْ وعَدِّ عَوِّضْ أَلْصِقِ = ومِثلَ مَعْ ومِن وعَن بها انْطِقِ ([14])
تَقَدَّمَ أنَّ الباءَ تَكونُ للظرفيَّةِ وللسبَبِيَّةِ، وذَكَرَ هنا أنَّها تكونُ للاستعانةِ، نحوُ: "كَتَبْتُ بالقلَمِ وقَطَعْتُ بالسِّكِّينِ"، وللتَّعْدِيَةِ، نحوُ: "ذَهَبْتُ بِزيدٍ"، ومِنه قولُه تعالَى: {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ}. وللتَّعْوِيضِ، نحوُ: "اشتَرَيْتُ الفرَسَ بألْفِ دِرْهَمٍ"، ومنه قولُه تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ}. وللإلصاقِ، نحوُ: "مَرَرْتُ بزَيدٍ"، وبمعنى معَ، نحوُ: "بِعتُكَ الثوبَ بطِرَازِهِ"؛ أيْ: معَ طِرَازِهِ، وبمعنى "مِن"؛ كقولِه:
شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْرِ([15])
أيْ: مِن ماءِ البَحْرِ، وبمعنى "عنْ"، نحوُ: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ}؛ أيْ: عن عَذابٍ، وتَكونُ الباءُ أَيضاً للمُصَاحَبَةِ، نحوُ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}؛ أيْ: مُصَاحِباً حَمْدَ رَبِّكَ.
عَلَى لِلاِستِعْلاَ ومعنَى فِي وعَنْ = بعَن تَجاوُزاً عَنَى مَن قد فَطِنْ ([16])
وقد تَجِي مَوضِعَ بَعْدٍ وعَلَى = كما علَى مَوْضِعَ عنْ قَدْ جُعِلاَ ([17])
تُسْتَعْمَلُ "على" للاستعلاءِ كَثيراً، نحوُ: "زَيْدٌ على السَّطْحِ"، وبمعنى "في"، نحوُ قولِه تعالَى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا}؛ أي: في حِينِ غَفلَةٍ. وتُسْتَعْمَلُ "عن" للمُجاوَزَةِ كَثيراً، نحوُ: "رَمَيْتُ السهْمَ عن القَوْسِ"، وبمعنى "بعْدَ"، نحوُ قولِه تعالَى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ}؛ أيْ: بعْدَ طَبَقٍ، وبمعنى "على"، نحوُ قولِه:
208- لاهِ ابنُ عمِّكَ لا أَفْضَلْتَ في حَسَبٍ عَنِّي، ولا أَنتَ دَيَّانِي فتَخْزُونِي([18])
أيْ: لا أَفْضَلْتَ في حسَبٍ عَلَيَّ.
كما استُعْمِلَتْ "على" بمعنى "عنْ" في قولِه:
209- إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ = لعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا ([19])
أيْ: إذا رَضِيَتْ عَنِّي.
شَبِّهْ بكافٍ وبها التعليلُ قَدْ = يُعْنَى وزائداً لتوكيدٍ وَرَدْ ([20])
تَأتي الكافُ للتَّشْبِيهِ كَثيراً؛ كقولِكَ: "زَيْدٌ كالأسَدِ"، وقد تَأتِي للتعليلِ؛ كقولِه تعالَى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ}؛ أيْ: لِهِدَايَتِه إيَّاكُمْ، وتَأتِي زائدةً للتوكيدِ.
وجَعَلَ مِنه قولَه تعالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}؛ أيْ: مِثْلَه شيءٌ، وممَّا زِيدَتْ فيه قولُ رُؤْبَةَ:
210- لَوَاحِقُ الأقرابِ فيها كالْمَقَقْ ([21])
أيْ: فيها الْمَقَقُ؛ أي: الطُّولُ. وما حَكَاهُ الفَرَّاءُ أنَّه قِيلَ لبَعْضِ العَرَبِ: كيف تَصْنَعُونَ الأَقِطَ؟ فقالَ: كَهَيِّنٍ. أيْ: هَيِّناً.


([1])(بَعِّضْ) فعْلُ أمْرٍ، وفاعِلُه ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجوباً تَقديرُه أنتَ، (وبَيِّنْ وابْتَدِئْ) مِثلُه ومَعطوفانِ عليه، (في الأَمْكِنَةِ) متَعَلِّقٌ بابْتَدِئْ، (بِمِنْ) جارٌّ ومَجرورٌ تَنَازَعَه الأفعالُ الثلاثةُ، (وقد) حرْفُ تَقليلٍ، (تَأتي) فعْلٌ مُضارِعٌ، والفاعلُ ضميرٌ مُستَتِرٌ فيه جَوَازاً تَقديرُه هي يَعودُ على مِن، (لِبَدْءِ) جارٌّ ومَجرورٌ متَعَلِّقٌ بـ (تَأتي)، وبَدْءِ مُضافٌ و(الأَزْمِنَةُ) مُضافٌ إليه.

([2])(وزِيدَ) فعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ للمَجهولِ، ونائِبُ الفاعلِ ضميرٌ مُستَتِرٌ فيه جَوَازاً تَقديرُه هو يَعودُ إلى مِن، (في نَفْيٍ) جارٌّ ومَجرورٌ متَعَلِّقٌ بزِيدَ، (وشِبْهِهِ) الواوُ عاطِفَةٌ، شِبْهِ: معطوفٌ على نَفْيٍ، وشِبْهِ مُضافٌ وضَميرُ الغائِبِ العائدُ إلى نَفْيٍ مُضافٌ إليه، (فَجَر) الفاءُ عاطِفَةٌ، جَرَّ: فعْلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُستَتِرٌ فيه جَوَازاً تَقديرُه هو، (نَكِرَةً) مفعولٌ به لِجَرَّ، (كما) الكافُ جارَّةٌ لقَولٍ مَحذوفٍ، ما: نافِيَةٌ، (لِبَاغٍ) جارٌّ ومَجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، (مِن) زَائدةٌ، (مَفَرْ) مُبتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ.

([3]) 205 - البيتُ للنَّابِغَةِ الذُّبْيَانِيِّ، مِن قَصيدةٍ له مَطْلَعُها قولُه:
كِلِينِي لِهَمٍّ يَا أُمَيْمَةُ نَاصِبِ = وليلٍ أُقَاسِيهِ بَطِيءِ الكَوَاكِبِ
اللُّغَةُ: (يومُ حَليمةَ) يَومٌ مِن أيَّامِ العرَبِ المشهورةِ، حَدَثَتْ فيه حرْبٌ طاحِنَةٌ بينَ لَخْمٍ وغَسَّانَ، وحَليمةُ هي بنتُ الحارِثِ بنِ أبي شَمِرٍ الغَسَّانِيِّ، أُضيفَ اليوْمُ إليها؛ لأنَّ أَباها – فيما ذَكَرُوا – حينَ اعْتَزَمَ تَوجيهَ جَيْشِه إلى الْمُنْذِرِ أَمَرَها فجَاءَتْ فطَيَّبَتْهُم، وفي يومِ حَليمةَ وَرَدَ المَثَلُ: "ما يَوْمُ حَليمةَ بِسِرٍّ"، يُضرَبُ للأمْرِ المُشْتَهِرِ المعروفِ والذي لا يُستطاعُ كِتمانُه.
وقَبْلَ البيتِ الْمُسْتَشْهَدِ به قولُه:
فَهُمْ يَتَساقَوْنَ الْمَنِيَّةَ بَيْنَهُمْ = بأَيْدِيهِمْ بِيضٌ رِقاقُ الْمَضَارِبِ
ولا عَيْبَ فيهم غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهم = بِهِنَّ فُلولٌ مِن قِرَاعِ الكَتَائِبِ
الإعرابُ: (تُخُيِّرْنَ) تُخُيِّرَ: فعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ للمَجهولِ، ونونُ النِّسوَةِ – العائدُ على السيوفِ المذكورةِ في البيتِ السابِقِ على بيتِ الشاهِدِ – نائِبُ فاعِلٍ، (مِن أَزمانِ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بتُخُيِّرَ، وأَزمانِ مُضافٌ و(يَومِ) مُضافٌ إليه، ويومِ مُضافٌ و(حَليمةٍ) مُضافٌ إليه، (إلى اليومِ) جارٌّ ومَجرورٌ متعلِّقٌ بتُخُيِّرَ، وجُملةُ (قد جُرِّبْنَ) مِن الفعْلِ الماضي الْمَبْنِيِّ للمَجهولِ ونائِبِ الفاعلِ في مَحَلِّ نَصْبٍ حالٌ، (كلَّ) مَفعولٌ مُطلَقٌ، وكلَّ مُضافٌ، و(التجارِبِ) مُضافٌ إليه.
الشاهِدُ فيه: قولُه: (مِن أزمانِ)؛ حيثُ وَرَدَتْ (مِن) لابتداءِ الغايَةِ في الزَّمَنِ، وفي المسألةِ كلامٌ طويلُ الذَّيْلِ عَميقُ السيْلِ، وتَلخيصُه أنَّه قد ذَهَبَ جُمهورُ الكُوفِيِّينَ وأبو العَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ والأخفَشُ وابنُ دَرَسْتَوَيْهِ مِن البَصرِيِّينَ إلى أنَّ (مِن) قد تأتي لابتداءِ الغايَةِ في الزمانِ، ومالَ إلى هذا المُحَقِّقُ الرَّضِيُّ، وهو الذي ذَهَبَ إليه ابنُ مالِكٍ وابنُ هِشامٍ، وذهَبَ جُمهورُ البَصْرِيِّينَ إلى أنَّها لا تَجيءُ لذلكَ، واتَّفَقَ الْجَميعُ على أنَّها تَأتِي لابتداءِ الغايَةِ في الأَمْكِنَةِ والأحداثِ والأشخاصِ.

([4]) ذكَرَ السعْدُ أنَّ (مِن) الجارَّةَ تُزادُ في الإثباتِ اختياراً في مَوْضِعٍ واحدٍ، وهو تَمييزُ (كَمِ) الْخَبَرِيَّةِ إذا فُصِلَ بينَ كَمْ وبينَ التمييزِ بفِعْلٍ، ومَثَّلَ له بقولِه تعالَى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ} فمِن: زائدةٌ، وجَنَّاتٍ: تَمييزُ (كَمْ).

([5]) (للانْتِهَا) جارٌّ ومَجرورٌ متَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبَرٌ مُقَدَّمٌ، (حتَّى) قَصَدَ لفْظَه: مُبتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، (ولامٌ وإلى) مَعطوفانِ على حتى، (ومِن) الواوُ للاستئنافِ، مِن قَصَدَ لفْظَه: مُبتدأٌ، (وباءٌ) معطوفٌ على مِن، (يُفْهِمَانِ) فعْلٌ وفاعِلٌ، والجملةُ في مَحَلِّ رفْعٍ خبَرُ الْمُبْتَدَأِ، (بَدَلاَ) مَفعولٌ به ليُفهِمَانِ.

([6]) الآيةُ الكريمةُ التي تَلاَهَا الشارِحُ مِثالٌ لِمَا كانَ مُتَّصِلاً بالآخِرِ، ومِثالُ ما كانَ آخِراً قولُهم: أَكَلْتُ السمَكَةََ حتى رَأْسِها.
واعْلَمْ أنَّ (حتى) الجارَّةَ على ضَرْبَينِ: جارَّةٍ للمفرَدِ الصريحِ، وهذه هي التي لا تَجُرُّ إلا الآخِرَ أو الْمُتَّصِلَ بالآخِرِ، ولا تكونُ إلاَّ غائِيَّةً، وجارَّةٍ لأنِ المصدَرِيَّةِ ومَدْخُولِها، وهذه تَكونُ غائِيَّةً، وتَكونُ تَعليليَّةً وتَكونُ استثنائيَّةً.

([7]) 206 - البيتُ لأبي نُخَيْلَةَ – يَعْمُرَ بنِ حَزْنٍ – السَّعْدِيِّ.
اللُّغَةُ: (جارِيَةٌ) هي – في الأَصْلِ – الفتاةُ الشابَّةُ، ثم تُوُسِّعَ فيه فاسْتَعْمَلُوهُ في كلِّ أُمَّةٍ، (الْمُرَقَّقَا) على صِيغةِ اسمِ المفعولِ: الرغيفُ الرقيقُ الواسِعُ، (البُقولِ) جَمْعُ بَقْلٍ، وهو كلُّ نَباتٍ اخْضَرَّتْ به الأرْضُ، (الفُسْتُقَا) بَقْلٌ خاصٌّ مَعروفٌ.
المعنى: يُريدُ أنَّ هذه الجارِيَةَ بَدَوِيَّةٌ لا عَهْدَ لها بالنَّعيمِ، ولم تَسْتَمْرِئْ طَعْمَ الرَّفَهِ، فهي تَأْكُلُ يابِسَ العَيْشِ، لا الرُّغفانَ الرقيقةَ الواسعةَ الْمُسْتَدِيرةَ، وتَذوقُ مِن البُقُولِ ما يَأْكُلُه البَدْوُ عَادَةً، لا الفُسْتُقَ ونحوَه مما هو طَعامُ أهْلِ الْحَضارَةِ والرَّفَاهِيَةِ.
الإعرابُ: (جَارِيَةٌ) خَبَرٌ لِمُبتَدَأٍ محذوفٍ، والتقديرُ: هي جاريةٌ، أو نحوُه، (لم) نافِيَةٌ جازِمَةٌ، (تَأْكُلِ) فعْلٌ مُضارِعٌ مَجزومٌ بلَمْ، وحُرِّكَ بالكسْرَةِ تَخَلُّصاً مِن الْتِقَاءِ الساكِنَيْنِ، والفاعِلُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جَوازاً تَقديرُه هي يَعودُ على جَارِيَةٌ، (الْمُرَقَّقَا) مَفعولٌ به لتَأْكُلِ، والألِفُ للإطلاقِ، (لم) نافِيَةٌ جازِمَةٌ، (تَذُقْ) فعْلٌ مُضارِعٌ مَجزومٌ بلَمْ، وفيه ضميرٌ مُستَتِرٌ يَرجِعُ إلى الجارِيَةِ فاعلٌ، (مِن البُقولِ) جارٌّ ومَجرورٌ مُتَعَلِّقٌ ِبتَذُقْ، (الفُسْتُقَا) مَفعولٌ به لِتَذُقْ، والألِفُ للإطلاقِ.
الشاهِدُ فيه: (مِن البُقولِ)؛ حيثُ وَرَدْ (مِن) بمعنى البَدَلِ، يعني أنَّها لم تَسْتَبْدِلِ الفُسْتُقَ بالبُقولِ، وهكذا قالَ ابنُ مالِكٍ وجماعةٌ مِن النَّحْوِيِّينَ، وقالَ آخَرُونَ: إنَّ (مِن) هنا للتَّبعيضِ، وعِندَهم أنَّ الفُسْتُقَ بعضُ البُقولِ، وعلى هذا يَجُوزُ أنْ تَكونَ (مِن) اسْماً بمعنى (بعضٍ)، ومَوْقِعُها في الإعرابِ على هذا مَفعولٌ به لِتَذُقْ، ويَكونُ قولُه: (الفُسْتُقَا) بَدَلاً منها.

([8]) هذا هو الشاهِدُ رَقْمُ 154، وتَقَدَّمَ شرْحُه في بابِ "المفعولِ له"، فانْظُرْه هناكَ.

([9]) (واللامُ) مُبتَدَأٌ، (للمِلْكِ) جارٌّ ومَجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبَرُ الْمُبْتَدَأِ، (وشِبْهِهِ) الواوُ حرْفُ عطْفٍ، وشِبْهِ: معطوفٌ على الْمِلْكِ، وشِبْهِ مُضافٌ والضميرُ مُضافٌ إليه، (وفي تَعْدِيَةٍ) جارٌّ ومَجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بقَولِه: (قُفِي) الآتى آخِرَ البيتِ، (أَيضاً) مَفعولٌ مُطْلَقٌ لفِعْلٍ محذوفٍ، (وتَعليلٍ) معطوفٌ على تَعْدِيَةٍ، (قُفِي) فعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ للمَجهولِ، ونائبُ الفاعلِ ضَميرٌ مُستَتِرٌ فيه يَعودُ إلى اللامُِ.

([10]) (زِيدَ) فعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ للمَجهولِ، وفيه ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ يَرجِعُ إلى اللامِ في البيتِ السابِقِ نائبُ فاعلٍ، (والظَّرْفِيَّةَ) مَفعولٌ مُقَدَّمٌ على عامِلِهِ، وهو قَولُه: (استَبِنِ) الآتي، (استَبِنْ) فعْلُ أمْرٍ، وفاعِلُه ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجوباً تَقديرُه أنتَ، (ببا) قُصِرَ للضرورةِ: مُتَعَلِّقٌ باستَبِنْ، (وفي) مَعطوفٌ على با، (وقد) حرْفُ تَقليلٍ، (يُبَيِّنَانِ) فعْلٌ مضارِعٌ، وألِفُ الاثنيْنِ – العائدُ إلى الباءِ وفي – فاعلٌ، (السَّبَبَا) مَفعولٌ به ليُبَيِّنُ، والألِفُ للإطلاقِ.

([11]) 207 - البيتُ لأبي صَخْرٍ الْهُذَلِيِّ.
اللُّغَةُ: (تَعْرُونِي) تُصِيبُنِي، وتَنْزِلُ بي، (ذِكْرَاكِ) الذِّكْرَى - بكسْرِ الذالِ وآخِرَه ألِفٌ مَقصورةٌ - التَّذَكُّرُ والْخُطورُ بالْبَالِ، (هَِزَّةٌ) – بفَتْحِ الهاءِ وكَسْرِها – حرَكَةٌ واضْطِرَابٌ، (انتَفَضَ) تَحَرَّكَ، (القَطْرُ) الْمَطَرُ.
الْمَعنى: يَصِفُ ما يَحْدُثُ له عندَ تَذَكُّرِه إيَّاها، ويقولُ: إنَّه لَيُصِيبُه خَفَقَانٌ واضْطِرَابٌ يُشْبِهانِ حَرَكةَ العُصفورِ إذا نَزَلَ عليه ماءُ الْمَطَرِ؛ فإنه يَضْطَرِبُ ويَتحَرَّكُ حَرَكاتٍ مُتتابِعَةً ليَدْفَعَه عن نفْسِه.
الإعرابُ: (وإنِّي) إنَّ: حرْفُ تَوكيدٍ ونَصْبٍ، والياءُ اسْمُه، (لَتَعْرُونِي) اللامُ للابتداءِ، تَعْرُو: فعْلٌ مضارِعٌ، والنونُ للوِقايَةِ، والياءُ مَفعولٌ به، (لِذِكْرَاكِ) الْجَارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بتَعْرُو، وذِكرَى مُضافٌ وكافُ الْمُخَاطَبَةِ مُضافٌ إليه، مِن إضافَةِ اسمِ الْمَصدَرِ إلى مَفعولِه، وفاعلُ اسمِ الْمَصْدَرِ مَحذوفٌ، وأصْلُ الكلامِ: لِذِكْرِي إيَّاكِ، ثم حَذَفَ الفاعِلَ وأَضافَ اسمَ الْمَصدَرِ إلى مَفعولِه، فاتَّصَلَ الضَّميرُ، (هِزَّةٌ) فاعلُ تَعْرُو، (كما) الكافُ جَارَّةٌ، ومَا: مَصدَرِيَّةٌ، (انْتَفَضَ) فعْلٌ ماضٍ، (العُصفورُ) فاعِلُ انتَفَضَ، و(ما) ومَدخولُها في تَأويلِ مَصدَرٍ مَجرورٍ بالكافِ، والجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ صِفَّةٌ لِهِزَّةٌ، والتقديرُ: هِزَّةٌ كائِنَةٌ كانْتِفَاضِ العُصفورِ، (بَلَّلَهُ) بَلَّلَ: فعْلٌ ماضٍ، والهاءُ مَفعولٌ به لِبَلَّلَ، (القَطْرُ) فاعلُ بَلَّلَ، والْجُملةُ مِن الفعْلِ والفاعِلِ والمفعولِ في مَحَلِّ نصْبٍ حالٌ مِن العُصفورُ، و(قد) مُقَدَّرَةٌ قبْلَ الفعْلِ عندَ البَصرِيِّينَ؛ أي: قدْ بَلَّلَه.
الشاهِدُ فيه: قولُه: (لِذِكْرَاكِ)؛ فإنَّ اللامَ فيه للتَّعليلِ.

([12]) زِيادَةُ اللامِ على ضَرْبَيْنِ:
الأوَّلُ: زِيادَتُها لِمُجَرَّدِ التأكيدِ، وذلك إذا اتَّصَلَتْ بِمَعمولِ فعْلٍ، وقد تَقدَّمَ الفعْلُ على المعمولِ الْمُقْتَرِنِ باللامِ؛ كقولِ ابنِ مَيَّادَةَ الرَّمَّاحِ بنِ أَبْرَدَ:
ومَلَكْتَ مَا بينَ العراقِ ويَثْرِبٍ = مُلْكاً أَجارَ لمسلِمٍ ومُعاهِدِ

والزيادةُ الثانيةُ لتَقْوِيَةِ عامِلٍ ضَعُفَ عن العمَلِ بأحَدِ سَبَبَيْنِ: أحَدُهما: أنْ يَقَعَ العامِلُ مُتَأَخِّراً، نحوُ قولِه تعالى: {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}، وقولِه سُبحانَه: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}. وثانيهما: أنْ يكونَ العامِلُ فَرْعاً في العمَلِ: إِمَّا لكَوْنِه اسمَ فاعِلٍ، نحوُ قولِه تعالَى: {مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ}. وإمَّا لكَونِه صِيغَةَ مُبالَغَةٍ، نحوُ قولِه سُبحانَه: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}.

([13]) خَشاشُ الأرضِ: هَوَامُّها وحَشراتُها، الواحدةُ: خَشَاشَةٌ. وفي روايةٍ في الحديثِ: ((حَشِيشِ الأَرْضِ))، وفي رِوايةٍ ثالثةٍ: ((حَشِيشَةِ الأَرْضِ)). بحاءٍ مُهمَلَةٍ. وهو يابِسُ النباتِ، وهو وَهْمٌ. قالَه ابنُ الأَثيرِ.

([14])(بِالْبَا) قُصِرَ للضَّرورةِ: جارٌّ ومَجرورٌ متَعَلِّقٌ بقَولِه: (استَعِنِ) الآتِي، (استَعِنْ) فعْلُ أمْرٍ، وفاعلُه ضَميرٌ مُستَتِرٌ فيه وُجوباً تَقديرُه أنتَ، (وعَدِّ، عَوِّضْ، أَلْصِقِ) مَعطوفاتٌ على استَعِنْ بحَرْفِ عطْفٍ مَحذوفٍ، (ومِثْلَ) حالٌ مِن (ها) في قولِه: (بها) الآتِي، ومِثلَ مُضافٌ و(معْ) مُضافٌ إليه، (ومِن وعن) مَعطوفانِ على (مَع) السابِقِ، (بها) جارٌّ ومَجرورٌ متَعَلِّقٌ بانْطِقِ الآتِي، (انْطِقِ) فعْلُ أمْرٍ، وفاعِلُه ضَميرٌ مُستَتِرٌ فيه وُجوباً تَقديرُه أنتَ.

([15]) هذه قِطعَةٌ مِن بيتٍ هو الشاهِدُ رقْمُ 198، وقد سَبَقَ في أوَّلِ بابِ حُروفِ الْجَرِّ.

([16]) (على) قَصَدَ لفْظَه: مُبتَدَأٌ، (لِلاسْتِعْلاَ) قُصِرَ للضَّرورَةِ: جارٌّ ومَجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَحذوفٍ خَبَرُ الْمُبتَدَأِ، (ومعنَى) مَعطوفٌ على الاستعلاءِ، ومَعنى مُضافٌ و(في) قَصَدَ لفْظَهُ: مُضافٌ إليه، و(عن) مَعطوفٌ على (في) السابِقِ، (بعَنْ) جارٌّ ومَجرورٌ متَعَلِّقٌ بقَولِه: (عنَى) الآتِي، (تَجَاوُزاً) مَفعولٌ به مُقَدَّمٌ على عامِلِه، وهو قولُه: (عَنَى) الآتِي، (عَنَى) فعْلٌ ماضٍ، (مَن) اسمٌ مَوصولٌ فاعِلُ عَنَى، (قد) حرْفُ تَحقيقٍ، (فَطِنْ) فعْلٌ ماضٍ، وفاعِلُه ضَميرٌ مُستَتِرٌ فيه جَوازاً تَقديرُه هو يَعودُ إلى مَن الْمَوصولَةِ، والْجُملةُ لا مَحَلَّ لها صِلَةُ الْمَوصولِ؛ أيْ: وعَنَى الذي تَحَقَّقَتْ فِطْنَتُه تَجاوُزاً بعَنْ.

([17]) (وقد) حرْفُ تَقليلٍ، (تَجِي) فعْلٌ مُضارِعٌ، وفيه ضَميرٌ مُستَتِرٌ جَوازاً تَقديرُه هي يَعودُ إلى (عن) في البيتِ السابِقِ فاعلٌ، (مَوْضِعَ) ظرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بتَجِيءُ، ومَوْضِعَ مُضافٌ و(بعدٍ) قَصَدَ لفْظَه: مُضافٌ إليه، (وعلى) مَعطوفٌ على بعدٍ، (كما) الكافُ جَارَّةٌ، ما: مَصدرِيَّةٌ، (على) قَصَدَ لَفْظَه: مُضافٌ إليه، (وعلى) مَعطوفٌ على بعدٍ، (كما) الكافُ جارَّةٌ, ما: مَصدرِيَّةٌ، (على) قَصَدَ لَفْظَه: مُبْتَدَأٌ، (مَوْضِعَ) ظرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بقولِه: (جُعِلاَ) الآتِي, ومَوْضِعَ مُضافٌ و(عن) قَصَدَ لفْظَه: مضافٌ إليه، (قد) حرْفُ تَحقيقٍ، (جُعِلاَ) جُعِلَ: فِعْلٌ ماضٍ مَبنِيٌّ للمَجهولِ، وفيه ضميرٌ مُستَتِرٌ جَوازاً تَقديرُه هو يَعودُ إلى (على) نائبُ فاعلٍ، والألِفُ للإِطلاقِ، والْجُملةُ مِن الفعْلِ ونائبِ الفاعِلِ في مَحَلِّ رفْعٍ خَبَرُ المبتَدَأِ الذي هو (على) المقصودُ لفْظُه.

([18]) 208 - البيتُ لِذِي الإِصْبَعِ – حُرْثانَ بنِ الحارِثِ بنِ مُحَرِّثٍ – العَدْوَانِيِّ، مِن كَلِمَةٍ له مَطلَعُها قولُه:
يا مَنْ لِقَلْبٍ طَويلِ البَثِّ مَحزُونِ = أَمْسَى تَذَكَّرَ رَيَّا أُمَّ هَارُونِ
أَمْسَى تَذَكَّرَها مِن بَعْدِ ما شَحَطَتْ = والدهْرُ ذُو غِلْظَةٍ حِِيناً وذُو لِينِ
اللغَةُ: (أَفْضَلْتَ) زِدْتَ، (دَيَّانِي) الدَّيَّانُ: القاهِرُ المالِكُ للأُمورِ الذي يُجازِي عليها، فلا يَضِيعُ عندَه خَيْرٌ ولا شَرٌّ، (تَخْزُونِي) تَسُومُنِي الذُّلَّ وتَقْهَرُنِي.
المعنى: للهِ ابنُ عمِّكَ، فلقَدْ سَاوَاكَ في الْحَسَبِ، وشابَهَكَ في رِفْعَةِ الأصْلِ وشَرَفِ الْمَحْتِدِ ، فما مِن مَزِيَّةٍ لكَ عليه، ولا فَضْلَ لكَ فتَفْخَرَ به عليه، ولا أنتَ مالِكَ أمْرِه والمُدَبِّرَ لِشُؤونِه فتَقْهَرَه وتُذِلَّه.
الإعرابُ: (لاهِ) أصْلُ هذه الكلِمَةِ (لِلَّهِ)، فهي جارٌّ ومَجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَحذوفٍ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، ثم حَذَفَ لامَ الْجَرِّ وأَبْقَى عمَلَه شُذوذاً، فصَارَ (اللهِ)، ثم حَذَفَ أداةَ التعريفِ، فصارَ كمَا تَرَى. (ابنُ) مُبْتَدَأٌ مؤَخَّرٌ، وابنُ مُضافٌ وعَمِّ مِن (عَمِّكَ) مُضافٌ إليه، (لا) حَرْفُ نَفْيٍ، (أَفْضَلْتَ) أفْضَلْ: فعْلٌ ماضٍ، والتاءُ ضَميرُ المخاطَبِ فاعلٌ، (في حَسَبٍ) جارٌّ ومَجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بأَفْضَلْتَ، (عَنِّي) مِثْلُه، (ولا) الواوُ عاطِفَةٌ، لا: زَائِدَةٌ لتَأكيدِ النفْيِ، (أنتَ) ضَميرٌ مُنفَصِلٌ مُبتَدَأٌ، (دَيَّانِي) دَيَّانِ: خَبَرُ الْمُبتَدَأِ، ودَيَّانِ مُضافٌ ويَاءُ الْمُتَكَلِّمِ مُضافٌ إليه، مِن إِضافَةِ الوَصْفِ إلى مَفعولِه، (فتَخْزُونِي) الفاءُ عاطِفَةٌ، تَخْزُونِي: فعْلٌ مُضارِعٌ، والنونُ للوِقايَةِ، والياءُ مفعولٌ به، والفاعِلُ ضَميرٌ مُستَتِرٌ فيه وُجوباً تَقديرُه أنتَ، والجمْلَةُ مِن الفعْلِ والفاعِلِ في مَحَلِّ رفْعٍ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ محذوفٍ، والتقديرُ: فأنتَ تَخْزُونِي، وجُملةُ المبتَدَأِ والخبَرِ معطوفةٌ بالفاءِ على جُملةِ المبتَدَأِ والخبَرِ السابِقَةِ، وتَقديرُ الكلامِ: ولا أنتَ دَيَّانِي فأنتَ تَخْزُونِي.
الشاهِدُ فيه: قولُه: (عَنِّي)؛ فإنَّ (عن) هنا بِمَعنى (على)، والسرُّ في ذلك أنَّ (أفْضَلَ) بمعنى زادَ في الفضْلِ إنما يَتَعَدَّى بعَلَى.
ومِثلُ ما وَرَدَ في صدْرِ هذا البَيْتِ – مِن قَوْلِه: (لاهِ ابنُ عمِّكَ) – قولُ عمرَ بنِ أبي رَبيعةَ الْمَخزوميِّ (البيت 17 مِن القِطعَةِ 23 مِن دِيوانِه بشَرْحِنا):
قُلتُ: كَلاَّ، لاهِ ابنُ عَمِّكِ بلْ خِفْنَا = أُمُوراً كُنَّا بها أَغْمَارَا

([19]) 209 - البيتُ للقُحَيْفِ العُقَيْلِيِّ، مِن كَلِمةٍ يَمدَحُ فيها حَكيمَ بنَ الْمُسَيَّبِ القُشَيْرِيَّ، ومِن هذه القَصيدةِ قولُه في حَكيمٍ الْمَذكورِ:
تَنَضَّيْتُ القِلاَصَ إلى حَكيمٍ = خَوارِجَ مِن تَبَالَةَ أو مِنَاهَا
فما رَجَعَتْ بِخَائِبَةٍ رِكَابٌ = حَكيمُ بنُ المُسَيَّبِ مُنتَهَاهَا
اللغَةُ: (قُشَيْرٌ) – بزِنَةِ التصغيرِ – هو قُشَيرُ بنُ كَعْبِ بنِ رَبيعةَ بنِ عامِرِ بنِ صَعْصَعَةَ.
الإعرابُ: (إذا) ظَرْفٌ للزَّمانِ المستقبَلِ تَضَمَّنَ مَعنَى الشرْطِ، (رَضِيَتْ) رَضِيَ: فعْلٌ ماضٍ، والتاءُ للتأنيثِ، (عليَّ) جارٌّ ومَجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِرَضِيَ، (بَنُو) فاعِلُ رَضِيَ، وبَنو مُضافٌ (وقُشَيْرٍ) مُضافٌ إليه، والْجُملَةُ مِن الفعْلِ وفاعِلِه في مَحَلِّ جَرٍّ بإضافةِ (إذا) إليها، (لعَمْرُ) اللامُ للابتداءِ، عَمْرُ: مُبتَدَأٌ، وخَبَرُه مَحذوفٌ وُجوباً، والتَّقديرُ: لعَمْرُ اللهِ قَسَمِي، وعَمْرُ مُضافٌ و(اللهِ) مُضافٌ إليه، (أَعْجَبَنِي) أَعْجَبَ: فعْلٌ ماضٍ، والنونُ للوِقايَةِ، والياءُ مَفعولٌ به، (رِضَاهَا) رِضَا: فاعِلُ أَعْجَبَ، ورِضَا مُضافٌ والضَّميرُ مُضافٌ إليه، وأَنَّثَه معَ أنَّ مَرْجِعَه مُذَكَّرٌ، وهو (بَنُو قُشَيْرٍ)؛ لتَأَوُّلِهم بالقَبيلَةِ، وجملةُ (أَعْجَبَنِي رِضاها) لا مَحَلَّ لها مِن الإعرابِ، جَوابُ (إذَا).
الشاهِدُ فيه: قولُه: (رَضِيَتْ عَلَيَّ)؛ فإنَّ (عَلَيَّ) فيه بمعنى (عن)، ويَدُلُّكَ على ذلك أنَّ (رَضِيَ) إنَّما يَتعَدَّى بعَنْ؛ كما في قولِه تعالَى: {رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}، وقولِه: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ}، وقد حَمَلَ الشاعِرُ (رَضِيَ) على ضِدِّهِ، وهو (سَخِطَ)، فعَدَّاهُ بالحرْفِ الذي يَتَعَدَّى به ضِدُّه، وهو (على)، وليسَ في ذلك ما تُنْكِرُه؛ فإنَّ العرَبَ تَحْمِلُ الشيءَ على ضِدِّه كما تَحْمِلُه على نَظيرِه.

([20]) (شَبِّهْ) فعْلُ أمْرٍ، وفاعِلُه ضَميرٌ مُستَتِرٌ فيه وُجوباً تَقديرُه أنتَ، (بكَافٍ) جارٌّ ومَجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بشَبِّهْ، (وبها) مُتَعَلِّقٌ بقولِه: (يُعْنَى) الآتي، (التعليلُ) مُبتَدَأٌ، (قد) حرْفُ تَقليلٍ، (يُعْنَى) فعْلٌ مُضارِعٌ مَبْنِيٌّ للمَجهولِ، ونائبُ الفاعلِ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جَوازاً تَقديرُه هو يَعودُ على التعليلُ، والْجُملةُ في مَحَلِّ رفْعٍ خَبَرُ المبتَدَأِ، (وزائداً) حالٌ مِن فاعِلِ (وَرَد) الآتي، (لتَوكيدٍ) جَارٌّ ومَجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بزائدٍ، (وَرَدْ) فعْلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضَميرٌ مُستَتِرٌ فيه جَوازاً تَقديرُه هو يَعودُ إلى الكافِ.

([21]) 210 - هذا الشاهِدُ مِن أُرْجُوزَةٍ لِرُؤْبَةَ بنِ العَجَّاجِ.
اللُّغَةُ: (لَواحِقُ) جَمْعُ لاحِقَةٍ، وهي التي ضَمُرَتْ وأَصَابَها الْهُزالُ، (الأَقْرَابِ) جَمْعُ قُرْبٍ – بضَمٍّ فسُكونٍ، أو بضَمَّتَيْنِ – وهي الخاصِرَةُ، (الْمَقَقُ) – بفتْحِ الميمِ والقافِ – الطُّولُ، وقولُ الليثِ: هو الطُّولُ الفاحِشُ في دِقَّةٍ.
المعنى: يُريدُ أنَّ هذه الأُتُنَ – التي يَصِفُها – خِمَاصُ البُطونِ، قد أَصَابَها الْهُزالُ وانتَابَها الضُّمورُ، وأنَّ فيها طُولاً.
الإعرابُ: (لَوَاحِقُ) خَبَرٌ لِمُبتَدَأٍ مَحذوفٍ، والتَّقديرُ: هي لواحِقُ، أو نحوُه، ولواحِقُ مُضافٌ و(الأَقرابِ) مُضافٌ إليه، (فيها) جَارٌّ ومَجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَحذوفٍ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، (كالْمَقَق) الكافُ زائدةٌ، الْمَقَقْ: مُبتدَأٌ مُؤَخَّرٌ.
الشاهِدُ فيه: قولُه: (كالْمَقَقْ)؛ حيثُ ورَدَتِ الكافُ زائدةً غيرَ دالَّةٍ على معنًى مِن المعانِي التي تُسْتَعْمَلُ فيها، ودَليلُ زِيادتِها شَيئانِ: الأوَّلُ: أنَّ المعنَى الذي أَرادَه الشاعِرُ لا يَتِمُّ إلاَّ على طَرْحِها مِن الكلامِ وحَذْفِها، والثاني: أنَّ بَقَاءَها ذاتَ معنًى مِن الْمَعانِي التي تَرِدُ لها يُفْسِدُ الكلامَ، ويُخِلُّ به؛ ألستَ تَرَى أنَّكَ لا تَقولُ: في هذا الشيءِ كالطُّولِ. وإنما تقولُ: في هذا الشيءِ طُولٌ. فافْهَمْ هذا؛ فإنَّه يُفيدُكَ. وتَخريجُ البيتِ على زِيادةِ الكافِ هو تَخريجُ جَماعةٍ مِن النُّحاةِ؛ مِنهم الرَّضِيُّ في (شرْحِ الكافِيَةِ)، وابنُ عُصْفُورٍ، وأبو الفتْحِ بنُ جِنِّيٍّ في (سِرِّ الصِّناعةِ)، وأبو عليٍّ الفارِسِيُّ في (البَغدادِيَّاتِ)، وابنُ السَّرَّاجِ في الأُصولِ، وقد حَمَلَ أبو عليٍّ على زِيادَةِ الكافِ قولَه تعالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وقولَه سُبحانَه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ}. قالَ: تَقديرُ الكلامِ: أَرَأَيْتَ الذي حاجَّ إبراهيمَ في رَبِّه، أو الذي مَرَّ على قَريَةٍ.


  #3  
قديم 25 ذو الحجة 1429هـ/23-12-2008م, 09:02 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي أوضح المسالك لجمال الدين ابن هشام الأنصاري (ومعه هدي السالك للأستاذ: محمد محيي الدين عبد الحميد)


فَصلٌ: فِي ذِكرِ مَعَانِي الحُروفِ.


لـ (مِنْ) سَبعَةُ مَعَانٍ:
أَحَدُهَا: التَّبعِيضُ نحوَ: {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}([1]). ولِهَذَا قُرِئَ (بَعْضَ مَا تُحِبُّونَ)([2]).
والثَّانِي: بَيَانُ الجِنسِ([3])، نحوَ: {مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ}([4]).
والثَّالِثُ: ابتِدَاءُ الغَايَةِ المَكَانِيَّةِ باتِّفَاقٍ، نحوَ: {مِنَ المَسجِدِ الحَرَامِ}([5])، والزَّمَانِيَّةِ خِلافاً لأكثَرِ البَصْرِيِّينَ([6])، ولنَا قَولُهُ تَعَالَى: {مِنْ أَوَّلِ يَومٍ}([7]). والحَدِيثُ: (فَمُطِرْنَا مِنَ الجُمعَةِ إِلَى الجُمعَةِ)([8]). وقَولُ الشَّاعِرِ:
294- تُخُيِّرْنَ مِنْ أَزْمَانِ يَومِ حَلِيمَةٍ([9])
والرَّابِعُ: التَّنصِيصُ علَى العُمُومِ، أو تَأكِيدُ التَّنصِيصِ عليه([10])، وهي الزَّائِدَةُ، ولها ثَلاثَةُ شُرُوطٍ: أَن يَسبِقَهَا نَفْيٌ، أَو نَهْيٌ، أَو استِفهَامٌ([11]) بِـ(هَلْ)([12]) ، وأَن يَكُونَ مَجرُورُهَا نَكِرَةً، وأَن يَكُونَ إِمَّا فَاعِلاً، نحوَ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ}([13]) ، أَو مَفعُولاً، نحوَ: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ}([14]) ، أَو مُبتَدَأً، نحوَ: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيرُ اللَّهِ)([15]).
والخَامِسُ: مَعنَى البَدَلِ، نحوَ: {أَرَضِيتُمْ بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ}([16]).
والسَّادِسُ: الظَّرْفِيَّةُ، نحوَ: {مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ}([17])، {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَومِ الجُمعَةِ}([18]).
والسَّابِعُ: التَّعلِيلُ، كقَولِهِ تَعَالَى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا}([19]) ، وقالَ الفَرَزْدَقُ:
يُغْضِي حَيَاءً ويُغْضَى مِن مَهَابَتِهِ([20])
ولِلاَّمِ اثنَا عَشَرَ مَعْنىً:
أَحَدُهَا: المِلكُ، نحوَ: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ}([21]).
والثَّانِي: شِبْهُ المِلكِ، ويُعَبَّرُ عَنهُ بالاختِصَاصِ([22]) ، نحوَ: (السَّرْجُ لِلدَّابَّةِ).
والثَّالِثُ: التَّعْدِيَةُ، نحوَ: (مَا أَضْرَبَ زَيْداً لِعَمرٍو).
والرَّابِعُ: التَّعليلُ كقولِهِ:
وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ هِزَّةٌ([23])
والخَامِسُ: التَّوكِيدُ، وهي الزَّائِدَةُ، نحوَ قولِهِ:
295- مُلْكاً أَجَارَ لمُسلِمٍ ومُعَاهَدِ([24])
وأَمَّا {رَدِفَ لَكُمْ}([25]). فالظَّاهِرُ أنَّهُ ضُمِّنَ مَعنَى (اقتَرَبَ)؛ فهو مِثلُ: {اقتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}([26]).

والسَّادِسُ: تَقْوِيَةُ العَامِلِ الذي ضَعُفَ: إِمَّا بكَونِهِ فَرعاً في العَمَلِ([27])، نحوَ: {مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ}([28]). {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}([29])، وإمَّا بتَأَخُّرِهِ عن المَعمُولِ، نحوَ: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}([30])، ولَيسَتِ المُقَوِّيَةُ زَائِدَةً مَحضَةً، ولا مُعَدِّيَةً مَحضةً، بل هي بَينَهُمَا.

والسَّابِعُ: انتِهَاءُ الغَايَةِ، نحوَ: {كُلٌّ يَجرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى}([31]).
والثَّامِنُ: القَسَمُ، نحوَ: (للَّهِ لا يُؤَخَّرُ الأَجَلُ)([32]).
والتَّاسِعُ: التَّعَجُّبُ، نحوَ: (للَّهِ دَرُّكَ!)([33]).
والعَاشِرُ: الصَّيرُورَةُ، نحوَ:
296- لِدُوا لِلمَوتِ وابْنُوا لِلخَرَابِ([34])
والحَادِيَ عَشَرَ: البَعْدِيَّةُ، نحوَ: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}([35]). أَي: بَعدَهُ.
والثَّانِيَ عَشَرَ: الاستِعلاءُ، نحوَ: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ}([36]). أَي: عَلَيهَا([37]).

ولِلبَاءِ اثنَا عَشَرَ مَعنًى أَيضاً:
أَحَدُهَا: الاستِعَانَةُ، نحوَ: (كَتَبْتُ بالقَلَمِ)([38]).
والثَّانِي: التَّعْدِيَةُ، نحوَ: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}([39]). أي: أَذْهَبَهُ.
والثَّالِثُ: التَّعوِيضُ، كـ (بِعْتُكَ هَذَا بِهَذَا)([40]).
والرَّابِعُ: الإلصَاقُ، نحوَ: (أَمسَكْتُ بِزَيدٍ)([41]).
والخَامِسُ: التَّبعِيضُ([42]) ، نحوَ: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ}([43]) ، أي: مِنهَا.
والسَّادِسُ: المُصَاحَبَةُ، نحوَ: {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ}([44]) ، أي: معَهُ.
والسَّابِعُ: المُجَاوَزَةُ، نحوَ: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً}([45]) ، أي: عَنْهُ.
والثَّامِنُ: الظَّرْفِيَّةُ، نحوَ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الغَرْبِيِّ}([46]) ، أي: فيهِ، ونحوَ: {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ}([47]).
والتَّاسِعُ: البَدَلُ كقَولِ بَعضِهِم: (مَا يَسُرُّنِي أَنِّي شَهِدْتُ بَدراً بِالعَقَبَةِ)، أي: بدَلَهَا.
والعَاشِرُ: الاستِعلاءُ، نحوَ: {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ}([48]) ، أَي: عَلَى قِنْطَارٍ.
والحَادِيَ عَشَرَ: السَّبَبِيَّةُ، نحوَ: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ}([49]).
والثَّانِيَ عَشَرَ: التَّأكِيدُ، وهي الزَّائِدَةُ، نحوَ: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً}([50]) ، ونحوَ: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}([51]) ، ونحوَ: (بِحَسْبِكَ دِرْهَمٌ)، ونحوَ: (زَيدٌ ليسَ بِقَائِمٍ) ([52]).
ولـ (فِي) سِتَّةُ معَانٍ:
(1) الظَّرفِيَّةُ، حَقِيقَةً مَكَانِيَّةً أَو زَمَانِيَّةً، نحوَ: {فِي أَدْنَى الأَرْضِ}([53]) ، ونَحوَ: {فِي بِضْعِ سِنِينَ}([54]).
أَو مَجَازِيَّةً، نحوَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ}([55]).
(2) والسَّبَبِيَّةُ، نحوَ: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}([56]).
(3) والمُصَاحَبَةُ، نحوَ: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ}([57]).
(4) والاستِعلاءُ، نحوَ: {لأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}([58]).
(5) والمُقَايَسَةُ، نحوَ: {فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}([59]).
(6) وبِمَعنَى البَاءِ، نحوَ:
297- بَصِيرُونَ فِي طَعْنِ الأَبَاهِرِ وَالكُلَى([60])
ولـ (عَلَى) أَربَعَةُ مَعَانٍ:
أَحَدُهَا: الاستعلاءُ([61]) ، نحوَ: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفُلْكِ تُحْمَلُونَ}([62]).
والثَّانِي: الظَّرْفِيَّةُ، نحوَ: {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ}([63]) ، أَي: فِي حِينِ غَفْلَةٍ.
والثَّالِثُ: المُجَاوَزَةُ، كقولِه:
298- إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيرٍ([64])
أَي: عَنِّي.
والرَّابِعُ: المُصَاحَبَةُ، نحوَ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ}([65]) ، أَي: معَ ظُلْمِهِمْ([66]).
ولـ (عَن) أَربَعَةُ مَعَانٍ أَيضاً:
أَحَدُهَا: المُجَاوَزَةُ([67]) ، نحوَ: (سِرتُ عَن البَلَدِ) و(رَمَيْتُ عَنِ القَوسِ).
والثَّانِي: البَعْدِيَّةُ، نحوَ: {طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ}([68]) ، أَي: حَالاً بَعدَ حَالٍ.
والثَّالِثُ: الاستِعلاءُ، كقَولِهِ تعَالَى: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ}([69]) ، أَي: عَلَى نَفْسِهِ، وكقولِ الشَّاعِرِ:
299- لاهِ ابنُ عَمِّكَ لاَ أَفْضَلْتَ فِي حَسَبٍ = عَنِّي............ ([70])
أي: عَلَيَّ.
والرَّابِعُ: التَّعلِيلُ، نحوَ: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ}([71]) ، أي: لأجلِهِ([72]).
ولِلكَافِ أَربَعَةُ مَعَانٍ أَيضاً:
أَحَدُها: التَّشبِيهُ، نحوَ: {وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}([73]).
والثَّانِي: التَّعلِيلُ، نحوَ: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ}([74]) أي: لِهِدَايَتِهِ إِيَّاكُمْ.
والثَّالِثُ: الاستعلاءُ، قِيلَ لبَعضِهِمْ: كَيفَ أَصْبَحْتَ؟ فقالَ: كَخَيرٍ، أي: عَلَيهِ([75]) ، وجَعَلَ مِنهُ الأخفَشُ قَولَهُم: (كُنْ كَمَا أنتَ) أَي: على ما أنت عليه([76]).
والرَّابِعُ: التَّوكِيدُ، وهي الزَّائِدَةُ، نحوَ: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}([77])، أي: لَيسَ شَيْءٌ مِثلَهُ([78]).
ومَعنَى (إِلَى) و(حتَّى) انتِهَاءُ الغَايَةِ، مَكَانِيَّةً أو زَمَانِيَّةً، نحوَ: {مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى}([79])، ونحوَ: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيلِ}([80]) . ونحوَ: (أَكَلْتُ السَّمَكَةَ حتَّى رَأْسِهَا)، ونحو: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ}([81]).
وإنَّمَا يُجَرُّ بحتَّى في الغالبِ آخِرٌ أو مُتَّصِلٌ بآخِرٍ، كما مَثَّلْنَا؛ فلا يُقَالُ: (سَهِرْتُ البَارِحَةَ حتَّى نِصفِهَا)([82]).
ومَعنَى كي التَّعلِيلُ، ومَعنَى الواوِ والتَّاءِ القَسَمُ، ومَعنَى مُذْ ومُنْذُ ابتِدَاءُ الغَايَةِ إِن كانَ الزَّمَانُ مَاضِياً، كقولِهِ:
300- أَقْوَيْنَ مُذْ حِجَجٍ ومُذْ دَهْرِ([83])


وقَولِهِ:
301- وَرَبْعٍ عَفَتْ آثَارُهُ مُنْذُ أَزمَانِ([84])
والظَّرفِيَّةُ إِن كانَ حَاضِراً، نحوَ: (مُنذُ يَومِنَا) وبمَعنَى مِن وإِلَى معاً إن كانَ مَعدُوداً، نحوَ: (مُذْ يَوْمَينِ).
ورُبَّ لِلتَّكثِيرِ كَثيِراً، وللتَّقلِيلِ قَلِيلاً([85]) ؛ فالأوَّلُ كقولِهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ([86]): ((يَا رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٌ يَومَ القِيَامَةِ))، وقولِ بَعضِ العَرَبِ عندَ انقِضَاءِ رَمَضَانَ: (يَا رُبَّ صَائِمِهِ لَنْ يَصُومَهُ، وقَائِمِهِ لَن يَقُومَهُ).
والثَّانِي كقولِه:
302- أَلاَ رُبَّ مَولُودٍ وَلَيسَ لَهُ أَبٌ = وَذِي وَلَدٍ لَمْ يَلْدَهُ أَبَوَانِ([87])
يريدُ بذلكَ آدَمَ وعِيسَى عليهِمَا الصَّلاةُ والسَّلامُ.


([1])سُورَةُ آلِ عِمرَانَ، الآيَةُ: 92.

([2])هَذِهِ قِرَاءَةُ ابنِ مَسعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ.

([3])أَكثَرُ ما تَقَعُ (مِن) التي لبَيَانِ الجِنسِ بعدَ (ما) و(مهما) لِفَرْطِ إِبهَامِهِمَا، نحوَ: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ}. {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}. {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ}. وقد تَقَعُ بعدَ غَيرِهِمَا نحوَ قَولِه تَعَالَى: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ}. ونَحوَ الآيَةِ التي ذَكَرَها المُؤَلِّفُ، والشَّاهِدُ فيها في (مِن) الثَّانِيَةِ، فأَمَّا الأُولَى فقِيلَ: إِنَّهَا زَائِدَةٌ. وقد أَنكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ النُّحَاةِ مَجِيءَ (مِن) لبَيَانِ الجنسِ، وقالُوا: (مِن) في {مِنْ سُنْدُسٍ}. وفي {مِنْ ذَهَبٍ}. لِلتَّبعِيضِ.

([4])سُورَةُ الكَهفِ، الآيَةُ: 31.

([5])سُورَةُ الإسراءِ، الآيَةُ: 1.

([6])اعلَمْ أنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ بينَ النَّحْوِيِّينَ إنَّمَا هو في مَجِيءِ (مِن) لابتداءِ الغايَةِ الزَّمَانِيَّةِ، فأَهلُ الكُوفَةِ يُثبِتُونَهُ،‌ وأهلُ البَصْرَةِ يَمنَعُونَهُ، وأمَّا وُرُودُهَا لابتِدَاءِ الغَايَةِ في المَكَانِ والأحداثِ والأشخاصِ، فلا خِلافَ فيه، وقد استَدَلَّ الكُوفِيُّونَ على مَجِيئِهَا لابتداءِ الغَايَةِ في الزَّمَانِ بقَولِهِ تعَالَى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَومٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}.
ولا شَكَّ أنَّ {أَوَّلِ يَومٍ} مِنَ الزَّمَانِ، وكذا قَولُهُ تعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَومِ الجُمْعَةِ} وبالحديثِ الذي ذَكَرَه المُؤَلِّفُ، وببيتِ النَّابِغَةِ الذي ذَكَرَهُ أَيضاً، وسيأتِي القَولُ علَيهِ، ويَقُولُ زُهَيرُ بنُ أَبِي سُلْمَى المُزَنِيُّ:
لِمَنِ الدِّيَارُ بِقُنَّةِ الحِجْرِ = أَقْوَيْنَ مِنْ حِجَجٍ وَمِنْ دَهْرِ
وزَعَمَ البَصْرِيُّونَ أنَّ (مِن) في الآيَةِ الأُولَى لابتدَاءِ الغَايَةِ في الأحداثِ, وأنَّ التَّقدِيرَ: مِن تَأسِيسِ أَوَّلِ يَومٍ، وذَهَبُوا إلى أنَّ (مِن) في الآيَةِ الثَّانِيَةِ للظَّرفِيَّةِ، لا للابتداءِ، وقدَّرُوا مُضَافاً في الكلامِ لِتَكُونَ (مِن) لابتداءِ الغَايَةِ في الأحداثِ، أي: مِن صَلاةِ يَومِ الجُمعَةِ، وكذلك فَعلُوا في بَيتِ النَّابِغَةِ، فقدَّرُوهُ: مِن استِمرَارِ يَومِ حَلِيمَةٍ، وأَنكَرُوا رِوَايَةَ بَيتِ زُهَيرٍ، وذَكَرُوا أنَّ الرِّوَايَةَ الثَّابِتَةَ الصَّحِيحَةَ *أَقْوَيْنَ مُذْ حِجَجٍ ومُذْ دَهْرِ* وستَأْتِي للمُؤَلِّفِ الشَّاهِدُ رَقمُ (300)، ولَئِن سَلِمَت رِوَايَةُ الكُوفِيِّينَ فيه فإِنَّ تَأوِيلَها مُمكِنٌ، ومِمَّا أوَّلُوها بهِ تَقدِيرُ مُضَافٍ ليَكُونَ (مِن) لابتداءِ الغَايَةِ في الأحداثِ؛ أي: مِن مُرُورِ حِجَجٍ ومُرُورِ دَهرٍ، أو تَقدِيرُ (مِن) تَعلِيلِيَّةً؛ أي: أَقْوَيْنَ مِن أَجلِ مُرُورِ حِجَجٍ ومُرُورِ دَهرٍ، والظَّاهِرُ مِن عِبَارَةِ المُؤَلِّفِ في (المُغنِي) اختِيَارُ مَذهَبِ البَصْرِيِّينَ، خِلافاً لِمَا اختَارَهُ هُنَا.

([7])سُورَةُ التَّوبَةِ، الآيَةُ: 108.

([8])هذا حديثٌ رَوَاهُ البُخَارِيُّ في الاستِسقاءِ مِن حَديثِ شَرِيكِ بنِ عَبدِ اللَّهِ بنِ أَبِي نَمِرٍ عن أَنَسٍ.

([9])294-هذا الشَّاهِدُ مِن كلامٍ للنَّابِغَةِ الذُّبْيَانِيِّ يَمدَحُ به عَمرَو بنَ الحَارِثِ الأعرَجَ أَحدَ المُلوكِ الغَسَّانِيِّينَ، وما ذكَرَهُ المُؤَلِّفُ ههُنَا صَدرُ بَيتٍ مِن الطَّوِيلِ،وعَجُزُه قَولُهُ:
*إِلَى اليَومِ قَدْ جُرِّبْنَ كُلَّ التَّجَارِبِ*
اللُّغَةُ: (تُخُيِّرْنَ) – بِالبنَاءِ لِلمَجهُولِ – مَعنَاهُ وَقَعَ الاختيارُ علَيهِنَّ، ونُونُ الإناثِ تَعودُ إلى السُّيُوفِ المَذكُورَةِ في بَيتٍ سَابِقٍ على البَيتِ المُستَشهَدِ بِه، وهو قَولُه:
وَلا عَيْبَ فِيهِمْ غَيرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ = بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتَائِبِ
و(يَومِ حَلِيمَةٍ): هو اليَومُ الذي سارَ فيه المُنذِرُ بنُ المُنذِرِ مَلِكُ الحِيرَةِ – بِكَسرِ الحَاءِ المُهمَلَةِ – بِعَرَبِ العِرَاقِ، إلى الحَارِثِ الغَسَّانِيِّ، وهو يَومٌ مِن أيَّامِ العَرَبِ المَشهورَةِ، وفيه وَرَدَ المَثَلُ: ما يَومُ حَلِيمَةٍ بِسِرٍّ، (جُرِّبْنَ) بِالبِنَاءِ لِلمَجهُولِ أَيضاً – ؛ أي: اختُبِرْنَ وابْتُلِينَ وامتُحِنَّ، وأَرَادَ أَنَّهُ قد أَظهَرَت التَّجْرِبَةُ صَفَاءَ جَوهَرِهِنَّ ونَقَاءَ مَعدِنِهِنَّ وجَودَةَ صِقَالِهِنَّ وشِدَّةَ فَتكِهِنَّ.
(كُلَّ التَّجَارِبِ) التَّجَارِبُ: جَمعُ تَجرِبَةٍ، وهي الاختِبَارُ والامتِحَانُ والابتلاءُ، ونَصَبَ كُلَّ هنا على المَفعُولِيَّةِ المُطلَقَةِ مِثلَ (كُلَّ الظَّنِّ) في قَولِ الشَّاعِرِ، وقد مَضَى الاستِشهَادُ بهِ في بابِ المَفعُولِ المُطلَقِ (وهو الشَّاهِدُ رَقمُ 246):
وَقَدْ يَجْمَعُ اللَّهُ الشَّتِيتَينِ بَعدَمَا = يَظُنَّانِ كُلَّ الظَّنِّ أَنْ لا تَلاقِيَا
الإعرَابُ: (تُخُيِّرْنَ) تُخُيِّرَ: فِعلٌ مَاضٍ مَبنِيٌّ لِلمَجهُولِ، مَبنِيٌّ على فَتحٍ مُقَدَّرٍ على آخِرِه لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرَابِ، ونُونُ النِّسوَةِ نَائِبُ فَاعِلِه، مَبنِيٌّ على الفَتحِ في مَحَلِّ رَفعٍ، (مِن) حَرفُ جَرٍّ دَالٌّ على ابتِدَاءِ الغَايَةِ الزَّمَانِيَّةِ، مَبنِيٌّ على السُّكُونِ، لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرَابِ (أَزمَانِ) مَجرُورٌ بِمِن، وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسرَةُ الظَّاهِرَةُ، وهو مُضَافٌ، و(يَومِ) مُضَافٌ إليه مَجرُورٌ بالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ، وهو مُضَافٌ، و(حَلِيمَةٍ) مُضَافٌ إليه مَجرُورٌ بِالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ، وقد كان حَقُّهُ أن يَمنَعَهُ مِنَ الصَّرفِ لِلعَلَمِيَّةِ والتَّأنِيثِ فيَجُرَّهُ بالفَتحَةِ نِيَابَةً عن الكَسرَةِ ويَمنَعَهُ التَّنوِينَ، ولكنَّهُ لمَّا اضْطُرَّ لإقامَةِ الوَزنِ نَوَّنَهُ، واستتبَعَ ذلك أن يَجُرَّهُ بالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ، (إلى) حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لَهُ مِن الإعرابِ.
(اليومِ) مَجرُورٌ بإلى، وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسرَةُ الظَّاهِرَةُ، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بتُخُيِّرَ، (قَدْ) حَرفُ تَحقِيقٍ، مَبنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرابِ، (جُرِّبْنَ) جُرِّبَ: فِعلٌ مَاضٍ مَبنِيٌّ لِلمَجهُولِ، مَبنِيٌّ على فَتحٍ مُقَدَّرٍ على آخِرِهِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرابِ، ونُونُ النِّسْوَةِ العَائِدُ إلى السُّيُوفِ نَائِبُ فَاعِلٍ، مَبنِيٌّ على الفَتحِ في مَحَلِّ رَفْعٍ، (كُلَّ) مَفعُولٌ مُطلَقٌ، عَامِلُهُ: جُرِّبَ، مَنصُوبٌ وعَلامَةُ نَصبِهِ الفَتحَةُ الظَّاهِرَةُ، و(كُلَّ) مُضَافٌ، و(التَّجَارِبِ) مُضَافٌ إليه مَجرُورٌ بالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ.
الشَّاهِدُ فيه: قَولُهُ: (مِنْ أَزْمَانِ) فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أنَّ (مِن) فيه لِلدِّلالَةِ على ابتِدَاءِ الغَايَةِ في زَمَانٍ، وقد ذَهَبَ إلى ذلك الكُوفِيُّونَ، ورَدَّهُ البَصْرِيُّونَ بأنَّ الكلامَ على تَقدِيرِ مُضَافٍ؛ أي: مِن استِمرَارِ يَومِ حَلِيمَةٍ، وقد بَيَّنَّا ذلك فيما مَضَى قَرِيباً.

([10])اعلَمْ أَوَّلاً أنَّ (مِن) التي تَدُلُّ على التَّنصِيصِ على العُمُومِ هي التي يَكُونُ مَدخُولُها لَفظاً غَيرَ الألفاظِ الدَّالَّةِ على العُمُومِ بِنَفسِهَا، نحوَ: (ما جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ) فإنَّهُ لولا وُجُودُ (مِن) لجَازَ لك أن تَعتَبِرَ المَنفِيَّ مَجيئُهُ هو الرَّجُلُ الوَاحِدُ أو جِنسُ الرِّجَالِ، ولَولا وُجُودُ (مِن) أَيضاً لجَازَ لك أن تَقُولَ: (مَا جَاءَنِي رَجُلٌ بل رَجُلانِ) فلمَّا وُجِدَت (مِن) امتَنَعَ عليك أن تَفهَمَ أنَّ المَنفِيَّ مَجيِئُهُ وَاحِدٌ، وامتَنَعَ عليك أن تَقُولَ: (بل رَجُلانِ). وأمَّا التي تَدُلُّ على تَأكِيدِ التَّنصِيصِ على العُمُومِ فهي التي يكونُ مَدخُولُهَا لَفظاً مِنَ الألفاظِ الدَّالَّةِ على العُمُومِ بِنَفسِهَا – وذلك مِثلُ أَحَدٍ، ودِيَّارٍ، وعَرِيبٍ – نحوُ (مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ)، ونَحوُ (مَا لَقِيتُ مِن دِيَارٍ)، ونحوُ (مَا في هذه الدَّارِ مِن غَرِيبٍ).
ثُمَّ اعلَمْ ثَانِياً أنَّ المَواضِعَ التي تُزَادُ فيهَا (مِن) على وَجهِ التَّفصِيلِ تِسعَةُ مَوَاضِعَ:
المَوضِعُ الأوَّلُ: تُزَادُ قبلَ الفَاعِلِ، نَحوَ قَولِكَ:ِ (ما جَاءَ مِنْ أَحَدٍ) وقالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} فذِكْرٌ: فَاعِلُ يَأتِي، وقَد زِيدَتْ قَبلَهُ مِنْ، وقَبلَها ما النَّافِيَةُ.
المَوضِعُ الثَّانِي: تُزَادُ قَبلَ النَّائِبِ عَن الفَاعِلِ، نَحوَ قَولِكَ: (مَا اتُّهِمَ مِنْ أَحَدٍ بهذه التُّهَمَةِ). فأَحَدٌ: نَائِبُ فَاعِلِ اتُّهِمَ المَبنِيُّ لِلمَجْهُولِ، وقد زِيدَتْ قَبلَهُ مِن وقَبلَهَا مَا النَّافِيَةُ.
المَوضِعُ الثَّالِثُ: تُزَادُ قبلَ المُبتَدَأِ، نَحوَ قَولِكَ: (مَا مِنْ أحَدٍ يذهَبُ إلى مِثلِ مَا ذَهَبْتَ إِلَيهِ). وقالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيرُ اللَّهِ يَرزُقُكُمْ} فخَالِقٌ: مُبتَدَأٌ، وقد زِيدَتْ قَبلَهُ مِن، وقبلَها هَل الاستِفهَامِيَّةُ.
المَوضِعُ الرَّابِعُ: تُزَادُ قَبلَ اسمِ كَانَ، نحوَ قَولِكَ: (لَمَ يَكُنْ لك مِن عُذرٍ). وقالَ اللَّهُ تعَالَى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ} فحَرَجٌ: اسمُ كَانَ، وقد زِيدَت قَبلَهُ مِن، وقَبلَهَا مَا النَّافِيَةُ.
المَوضِعُ الخَامِسُ: تُزَادُ قبلَ المَفعُولِ بِهِ، نحوَ قَولِكَ: (هَل اتَّخَذْتَ مِن سَبَبٍ لِتَفعَلَ مَا فَعَلْتَ)، وقالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ}، فأَحَدٌ: مَفعُولٌ بهِ لِتُحِسُّ، وقد زِيدَت قَبلَهُ مِن، وقَبلَهَا هَل الاستِفْهَامِيَّةُ.
المَوضِعُ السَّادِسُ: تُزَادُ قَبلَ المَفعُولِ الأوَّلِ مِن مَفعُولَي ظَنَّ وأَخَوَاتِهَا، نَحوَ قَولِكَ: (مَا ظَنَنْتُ مِن أَحدٍ يَذهَبُ إلى مِثلِ مَا ذَهَبْتَ إِلَيهِ).
المَوضِعُ السَّابِعُ: تُزَادُ قَبلَ المَفعُولِ الأوَّلِ مِن مَفعُولاتِ أَعلَمُ وأَخَوَاتِهَا، نَحوَ قَولِكَ: (مَا أَعْلَمْتُ مِن أَحدٍ أنَّكَ مُسَافِرٌ).
المَوضِعُ الثَّامِنُ: تُزَادُ قبلَ المَفعُولِ الأوَّلِ مِن مَفعُولَي أَعطَى، نحوَ قَولِكَ: (ما أَعطَيْتُ مِن أَحَدٍ مِثلَ مَا أَعطَيْتُكَ).
المَوضِعُ التَّاسِعُ: تُزَادُ قبلَ المَفعُولِ الثَّانِي مِن مَفعُولَي أَعطَى، نَحوَ: (مَا مَنَحْتُ أَحَداً مِنْ دِينَارٍ).
وكُلُّ هَذِهِ المَوَاضِعِ يَصدُقُ عليها أنَّهَا فَاعِلٌ أو مَفعُولٌ أو مُبتَدَأٌ.

([11])ذَهَبَ الكُوفِيُّونَ إلى أنَّهُ لا يُشتَرَطُ في مَجرُورِ (مِن) الزَّائِدَةِ إلا شَرطٌ واحِدٌ، وهو أن يكونَ مَجرُورُها فَاعِلاً أو مَفعُولاً أو مُبتَدَأً، ولا يُشتَرَطُ أن يَتَقَدَّمَ عليها نَفْيٌ أو استِفهامٌ أو نَهْيٌ. واستَدَلُّوا على ذَلِكَ بوُرُودِهَا زَائِدَةً في الكَلامِ المُوجَبِ الذي لم يَتَقَدَّمْهُ نَفْيٌ ولا نَهْيٌ ولا استِفهامٌ في كلامِ العَرَبِ، مِن ذلكَ قولُهُمْ: (قَدْ كَانَ مِنْ مَطَرٍ) وقَولُهُم: (قَد كَانَ مِنْ حَدِيثٍ فَخَلِّ عَنِّي) ووَجهُ الدِّلالَةِ مِن هَاتَينِ العِبَارَتَينِ أنَّ (كَانَ) فِيهِمَا تَامَّةٌ، فهي مُحتَاجَةٌ إلى فَاعِلٍ، و(مِن) فِيهِمَا زَائِدَةٌ، و(مَطَرٍ) في العِبَارَةِ الأُولَى فَاعِلٌ، و(حَدِيثٍ) في العِبَارَةِ الثَّانِيَةِ فَاعِلٌ أَيضاً، وكُلٌّ مِنهُمَا مَرفُوعٌ بِضَمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ على آخرِهِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهَا اشتِغَالُ المَحَلِّ بِحَرَكَةِ حَرفِ الجَرِّ الزَّائِدِ.
وقَد أَجَابَ العُلَمَاءُ عَن هَذَا الاستِدْلالِ بأنَّهُ لا يَتَعَيَّنُ في وَاحِدَةٍ مِنَ العِبَارَتَينِ أن يَكُونَ فَاعِلُ كَانَ هو الاسمُ الذي دَخَلَت عليه مِن لجَوَازِ أن يَكُونَ الفَاعِلُ في كُلٍّ مِنهُمَا ضَمِيراً مُستَتِراً تَقدِيرُهُ هو يَعُودُ إلى اسمِ فَاعِلِ كَانَ، وكأَنَّ قَائِلَ (قد كانَ مِن مَطَرٍ) قد قالَ: قَدْ كَانَ هُوَ – أي: الكَائِنُ – مِن مَطَرٍ، وكأنَّ قَائِلَ (قَدْ كَانَ مِن حَدِيثٍ) قد قالَ: قَدْ كانَ هُوَ – أي: الكَائِنُ – مِن حَدِيثٍ، ولَئِنْ سَلَّمْنَا أنَّ الاسمَ الذي دَخَلَت عليه مِن هُوَ الفَاعِلُ، فلا نُسَلِّمُ أنَّهُ لم يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِ نَفْيٌ أو استِفهامٌ بهَل، بل نَدَّعِي أنَّهُ قد سَبَقَهُ استِفهَامٌ بِهَل، ونَدَّعِي أنَّ هَذَا الكَلامَ وَاقِعٌ في جَوَابِ كَلامٍ، وأنَّهُ وَارِدٌ على سَبِيلِ حِكَايَةِ ما تَكَلَّمَ به المُستَفْهِمُ، وكأنَّ قَائِلاً قد قالَ: هَلْ كَانَ مِنْ مَطَرٍ؟ فَقِيلَ لَهُ: قَد كَانَ مِنْ مَطَرٍ. وكأنَّ قَائِلاً قد قالَ: هَلْ كَانَ مِنْ حَدِيثٍ؟ فقيلَ لَهُ: قد كَانَ مِن حَدِيثٍ. وهذا تَكَلُّفٌ لا نَرَى لكَ أَن تَذْهَبَ إِلَيهِ.
وذَهَبَ الأخْفَشُ والكِسَائِيُّ وهِشَامٌ إلى أنَّهُ تَجُوزُ زِيَادَةُ (مِن) بِغَيرِ شَرطٍ، فتُزَادُ بعدَ الإيجَابِ وبعدَ النَّفيِ، ويَجُوزُ أن يَكُونَ مَدْخُولُها مَعرِفَةً وأن يَكُونَ نَكِرَةً، ويَجُوزُ أن يَكُونَ وَاقِعاً في أَحَدِ مَوَاقِعِ الإعرابِ التي فَصَّلْنَاهَا لكَ فيمَا سَبَقَ، ويَجُوزُ أن يَكُونَ وَاقِعاً في غَيرِ هذه المَوَاقِعِ.
واستَدَلُّوا على ذلك بأنَّهَا جَاءَتْ زَائِدَةً ومَجرُورُهَا مَعرِفَةٌ، ولَم يَسْبِقْهَا نَفْيٌ أو شِبهُهُ في قَولِهِ تعَالَى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}. زَعَمُوا أنَّ (مِن) في هذِه الآيَةِ الكَرِيمَةِ زَائِدَةٌ، وذُنُوبِكُمْ: مَفعُولٌ بهِ لِيَغفِرْ، وهو مَعرِفَةٌ لإضَافَتِهِ إلى الضَّمِيرِ، ولم يَتَقَدَّمْ عَلَيهِ نَفْيٌ ولا شِبهُهُ، وزَعَمُوا أنَّهُم ذَهَبُوا إلى تَقدِيرِ مِن زَائِدَةً فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ لِكَي يَتَطَابَقَ مَعنَاهَا معَ قَولِه تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَغفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} واستَدَلُّوا أَيضاً بِقَولِهِ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} زَعَمُوا أنَّ (مِن) زَائِدَةٌ، و(سَيِّئَاتِكُم)، مَفعُولٌ بِهِ لـِ(يُكَفِّرُ)، وهذا المَفعُولُ مَعرِفَةٌ لإضَافَتِهِ إِلَى الضَّمِيرِ، ولَم يَتَقَدَّمْ على (مِن) نَفْيٌ ولا شِبهُهُ.
والجَوَابُ عَن هذا الاستِدْلالِ أَنَّا لا نُسَلِّمُ أنَّ (مِن) في الآيَتَينِ الكَرِيمَتَينِ زَائِدَةٌ، بلْ هِيَ أَصلِيَّةٌ، ومَعنَاهَا التَّبعِيضُ، ويَدُلُّ لِصِحَّةِ ذلك أنَّكَ لو قُلْتَ: يَغْفِرُ لَكُمْ بَعضَ ذُنُوبِكُمْ، ويُكَفِّرُ عَنكُم بَعضَ سَيِّئَاتِكُم. لكَانَ مَعنًى صَحِيحاً لا غُبَارَ عَلَيهِ، وقَولُهُم: أَرَدْنَا مُطَابَقَةَ الآيَةِ لِقَولِهِ تَعالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً}.
قُلْنَا: المَدَارُ على ألاَّ يَكُونَ بينَ هذِهِ الآيَةِ والآيَةِ المُستَدَلِّ بها تَنَاقُضٌ، ولا تَنَاقُضَ على ما ذَكَرْنَا مِنَ المَعنَى، فإنَّ الذي يُنَاقِضُ غُفرَانَ جَمِيعِ الذُّنُوبِ هو عَدَمُ غُفرَانِ شَيءٍ مِنهَا، فأَمَّا غُفْرَانُ بَعضِهَا دُونَ بَعضٍ فلا يُنَاقِضُهُ، وما الذي يُنكَرُ مِن أن يَكُونَ عَمَلٌ مِن أَعمَالِ البِرِّ في ظَرفٍ مُعَيَّنٍ مُقتَضِياً عِندَ اللَّهِ تَعَالَى غُفرَانَ كُلِّ الذُّنُوبِ، وعَمَلٌ آخَرُ مِن أَعمَالِ البِرِّ، أَو العَمَلُ الأوَّلُ نَفسُهُ في ظَرفٍ آخَرَ مُقتَضِياً عِندَهُ سُبحَانَهُ غُفرَانَ بَعضِ الذُّنُوبِ لا كُلِّهَا، بل هذا الذي نَذهَبُ إِلَيهِ أَولَى بأن نَأخُذَ بِهِ؛ لأنَّ أَعمَالَ البِرِّ لَيسَتْ كُلُّها سَوَاءً، ولا ظُرُوفُ المُكَلَّفِينَ سَوَاءً.

([12])جَعَلَ الفَارِسِيُّ الشَّرطَ كَالنَّفْيِ، واستَشْهَدَ لذلك بقَولِ زُهَيرِ بنِ أَبِي سُلْمَى المُزَنِيِّ:
ومَهْمَا تَكُنْ عِندَ امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ = وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ

([13])سُورَةُ الأنبِيَاءِ، الآيَةُ: 2، فذَكَرَ في الآيَةِ فَاعِلَ يَأْتِيهِمْ، وهو نَكِرَةٌ مَسبُوقٌ بِحَرفِ النَّفْيِ الذي هُو (ما)، وقالَ بَعضُ العُلَمَاءِ: إنَّ زِيَادَةَ (مِن) معَ المَنصُوبِ أَحسَنُ مِن زِيَادَتِها معَ المَرفُوعِ، وتَوجِيهُ ذلك أنَّ زِيَادَتَهَا معَ المَنصُوبِ وَاقِعَةٌ في المَوقِعِ الذي اعتَادَ العَرَبُ استِعمَالَ حُرُوفِ الجَرِّ فيهِ؛ لأنَّ حُرُوفَ الجَرِّ إنَّمَا تَدخُلُ في الكلامِ لِتَعدِيَةِ مَعَانِي الأفعالِ إلى الأسمَاءِ، والتَّعدِيَةُ إنَّمَا تَكُونُ إلى المَنصُوبِ، فإِذَا زِدْتَهَا معَ المَرفُوعِ تَكُونُ قَد زِدْتَهَا في غَيرِ المَحَلِّ الذي تَعَوَّدَ العَرَبُ استِعْمَالَهَا فيهِ.

([14])سُورَةُ مَريَمَ، الآيَةُ: 98، ومِنَ المَفعُولِ الذي تُزَادُ معَهُ (مِن) المَفعُولُ المُطلَقُ، وقد خَرَّجَ أَبُو البَقَاءِ علَى زِيَادَتِهَا معَ المَفعُولِ المُطلَقِ قَولَهُ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}. وقَولَهُ سُبحَانَهُ: {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ}. فجَعَلَ (شَيءٍ) فِي الآيَةِ الأُولَى بِمَعنَى تَفرِيطٍ، وفي الآيَةِ الثَّانِيَةِ بِمَعنَى ضَرَرٍ.

([15])سُورَةُ فَاطِرٍ، الآيَةُ: 3.

([16])سُورَةُ التَّوبَةِ، الآيَةُ: 38، وأَنكَرَ قَومٌ مَجِيءَ (مِن) للبَدَلِ، وقالَ: إنَّ التَّقدِيرَ في الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أَرَضِيتُمُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا بَدَلاً مِنَ الآخِرَةِ، فالجَارُّ والمَجرُورُ - وهُوَ {مِنَ الآخِرَةِ}. مُتَعَلِّقٌ بِمَحذُوفٍ حَالٌ مِنَ الحيَاةِ الدُّنيَا، وتَقدِيرُ الكَلامِ: بَدَلاً مِن الآخِرَةِ. وعلَى هذَا يَكُونُ المُفِيدُ لِلبَدَلِ هُو مُتَعَلِّقُ (مِن)، لا (مِن) نَفسُها، وهذا تَكَلُّفٌ كما لا يَخفَى عَلَيكَ.

([17])سُورَةُ فَاطِرٍ، الآيَةُ 40.

([18])سُورَةُ الجُمُعَةِ، الآيَةُ:9.
والقَولُ بأنَّ (مِن) تُفِيدُ الظَّرفِيَّةَ زَمَانِيَّةً أو مَكَانِيَّةً هو قَولُ الكُوفِيِّينَ، وقالَ البَصْرِيُّونَ: هِيَ في الآيَتَينِ لِبَيَانِ الجِنْسِ كما فِي قَولِهِ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}.

([19])سُورَةُ نُوحٍ، الآيَةُ: 25.

([20])هَذَا الشَّاهِدُ مِن كَلِمَةٍ يَقُولُهَا الفَرَزْدَقُ في مَدْحِ زَينِ العَابِدِينَ عَلِيِّ بنِ الحُسَينِ بنِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ، وقد مَضَى ذِكْرُه في بَابِ النَّائِبِ عَن الفَاعِلِ (ش227) ومَا ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ صَدرُ البَيتِ، وعَجُزُهُ قَولُهُ:
*فَمَا يُكَلَّمُ إِلاَّ حِينَ يَبْتَسِمُ*
الشَّاهِدُ هُنَا في قَولِهِ: (مِنْ مَهَابَتِهِ) فإِنَّ (مِن) فِيهِ حَرفٌ دَالٌّ على التَّعلِيلِ.
هذا، وقَد زَادَ قَومٌ على مَعَانِي (مِن) التي ذَكَرَها المُؤَلِّفُ ثَامِناً وهُوَ المُجَاوَزَةُ كَعَن، نحوَ قَولِهِ تعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ}؛ أي: عَن ذِكْرِ اللَّهِ، وتَاسِعَاً هو الانتِهَاءُ، نَحوَ قَولِكَ: (قَرُبْتُ مِنهُ)؛ أي: إليهِ، وعَاشِراً وهُوَ الاستِعلاءُ، نَحوَ قَولِهِ تعَالَى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القَومِ}؛ أي: عَلَيهِم. وخَرَّجَهَا قَومٌ على التَّضمِينِ، وزادَ قَومٌ مَعَانِيَ أُخَرَ لم نَجِدْ بُدّاً مِن تَركِها، لما في كُلِّ وَاحدٍ منها مِنَ النَّظَرِ.

([21])سُورَةُ (لُقمَانَ)، الآيَةُ: 26.

([22])ومنه نَوعٌ يُعَبَّرُ عنه باسمِ الاستِحْقَاقِ، نحوَ: (الوَيلُ لِلنَّاكِثِينَ) و(العَذَابُ لِلكَافِرِينَ).

([23])قد تَقَدَّمَ ذِكرُ هذا الشَّاهِدِ قَرِيباً في بابِ المَفعُولِ لَهُ (ش253) فارْجِعْ إليه هُنَاكَ.

([24])295-هَذا الشَّاهِدُ مِن كلامِ ابنِ مَيَّادَةَ الرَّمَّاحِ بنِ أَبرَدَ، يَمدَحُ عَبْدَ الوَاحِدِ بنَ سُلَيمَانَ بنِ عَبْدِ المَلِكِ بنِ مَرْوَانَ، وقد كانَ عَبْدُ الوَاحِدِ أَمِيراًً بالمَدِينَةِ، وقَد رَوَى أَبُو الفَرَجِ الأَصْبَهَانِيُّ في كِتَابِه (الأَغَانِي) (2/115 بولاق) بَيتَ الشَّاهِدِ فِي ضِمنِ أَبْيَاتٍ لابنِ مَيَّادَةَ يَقُولُهَا في عَبْدِ الوَاحِدِ هَذَا، وأوَّلُ هذِه الأَبْيَاتِ قَولُهُ:
مَنْ كَانَ أَخْطَأَهُ الرَّبِيعُ فَإِنَّمَا = نَضُرَ الحِجَازُ بِغَيثِ= عَبْدِ الوَاحِدِ
إِنَّ المَدِينَةَ أَصْبَحَتْ مَعْمُورَةً = بِمُتَوَّجٍ حُلُوِ الشَّمَائِلِ مَاجِدِ
وما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ عَجُزُ بَيتٍ مِنَ الكَامِلِ، وَصدْرُه قَولُهُ:
*وَمَلَكْتَ مَا بَينَ العِرَاقِ وَيَثْرِبٍ*
اللُّغَةُ: (وَمَلَكْتَ) أَرَادَ بِالمُلكِ هَهُنَا السُّلْطَةَ والوِلايَةَ؛ يَعنِي: امتَدَّت سُلْطَتُكَ فِي هَذِهِ الرُّقْعَةِ مِنَ الأرضِ، وانْبَسَطَ نُفُوذُكَ علَى قُطَّانِهَا، (يَثرِبٍ) هُو الاسمُ القَدِيمُ لِطِيبَةَ مَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ، سُمِّيَت بِاسمِ بَانِيهَا، وهُوَ رَجُلٌ مِنَ العَمَالِقَةِ، وقَد وَرَدَ هذَا الاسمُ في القُرآنِ الكَرِيمِ فِي قَولِهِ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ} وقَد نهَى النَّبِيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ عن إِطلاقِ هذَا الاسمِ علَيهَا، وسَمَّاهَا طِيبَةَ، (أَجَارَ) هُوَ في جَمِيعِ الأُصُولِ التي وَقَفْنَا على رِوَايَةِ الأَبْيَاتِ فِيهَا بِالجِيمِ والرَّاءِ المُهمَلَةِ، ومَعنَاهُ: حَفِظَ وحَمَى، وذَكَرَ العَيْنِيُّ وَحدَهُ أنَّهُ بِمَعنَى عَدَّى، وكأنَّهُ قَرَأَهُ بِالزَّايِ، (مُعَاهَدِ) بِفَتحِ الهَاءِ أَو كَسرِهَا – اسمٌ لِكُلِّ مَن يَدخُلُ بِلادَ المُسلِمِينَ بِعَهْدٍ مِن إِمَامِهِم.
المَعنَى: يَقُولُ: لَقَدِ امتَدَّت سُلطَتُك أيُّها الأميرُ علَى رُقْعَةٍ فَسِيحَةٍ مِنَ الأرضِ تَشمَلُ مَا بَينَ العِرَاقِ ويَثرِبَ، وإِنَّ سُلطَانَكَ لعَادِلٌ قَوِيٌّ، فقَد رَعَى حُقُوقَ النَّاسِ وضَمِنَ مَصَالِحَهُم، وتَكَفَّلَ لهُم بالطُّمَأْنِينَةِ والرَّغَدِ، مِن غَيرِ تَفرِقَةٍ بينَ المُسلِمِينَ الذينَ هُم أَهلُ البِلادِ وغَيرِهِمْ مِمَّن يَدخُلُ تَحتَ سُلطَانِكَ بِعَهْدٍ مِن أَهلِهَا وأَمَانٍ مِن حُكَّامِهَا.
الإعرابُ: (مَلَكْتَ) مَلَكَ: فِعلٌ مَاضٍ مَبنِيٌّ علَى فَتحٍ مُقَدَّرٍ على آخِرِهِ، لا مَحَلَّ له مِنَ الإعرابِ، وتَاءُ المُخَاطَبِ فَاعِلُهُ مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ في مَحَلِّ رَفعٍ، (مَا) اسمُ مَوصُولٍ مَفعُولٌ بِهِ لِمَلَكَ، مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ في مَحَلِّ نَصبٍ، (بينَ) ظَرفُ مَكَانٍ مُتَعَلِّقٌ بِمَحذُوفٍ صِلَةُ الاسمِ المَوصُولِ، وبينَ مُضَافٌ، و(العِرَاقِ) مُضَافٌ إِلَيهِ مَجرُورٌ بالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ، (ويَثرِبٍ) الوَاوُ حَرفُ عَطفٍ، مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرابِ، يَثرِبٍ: مَعطُوفٌ علَى العِرَاقِ، مَجرُورٌ وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسرَةُ الظَّاهِرَةُ، وكَانَ حَقُّهُ أَن يَجُرَّهُ بِالفَتحَةِ نِيَابَةً عَن الكَسرَةِ، ويَمنَعَهُ مِنَ الصَّرفِ للعَلَمِيَّةِ والتَّأْنِيثِ المَعنَوِيِّ، كما جاءَ فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ، فإنَّهُ عَلَمٌ على مَدِينَةٍ مُعَيَّنَةٍ كما عَلِمْتَ في لُغَةِ البَيتِ، ولكنَّهُ لمَّا اضطُرَّ لإقَامَةِ الوَزْنِ نَوَّنَهُ وجَرَّهُ بِالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ. كما فَعَلَ النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ في قَولِهِ: (يَومِ حَلِيمَةٍ) في الشَّاهِدِ السَّابِقِ.
(مُلْكاً) مَفعُولٌ مُطلَقٌ عَامِلُهُ قَولُه: (مَلَكْتَ) السَّابِقُ، مَنصُوبٌ بِالفَتحَةِ الظَّاهِرَةِ (أَجَارَ) فِعلٌ مَاضٍ مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرَابِ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُستَتِرٌ فيهِ جَوَازاً تَقدِيرُهُ (هو) يَعُودُ إلى مُلكٍ، والجُملَةُ مِن الفِعلِ المَاضِي وفَاعِلِه في مَحَلِّ نَصبٍ صِفَةٌ لِمُلكٍ، (لِمُسلِمٍ) اللاَّمُ حَرفُ جَرٍّ زَائِدٌ لا يَدُلُّ على مَعنًى، مَبنِيٌّ على الكَسرِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرابِ، ومُسلِمٍ: مَفعُولٌ بهِ لأَجَارَ، مَنصُوبٌ بِفَتحَةٍ مُقَدَّرَةٍ على آخِرِهِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهَا اشتِغَالُ المَحَلِّ بِحَرَكَةِ حَرفِ الجَرِّ الزَّائِدِ.
(ومُعَاهَدِ) الوَاوُ حَرفُ عَطفٍ، مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرَابِ، مُعَاهَدِ: مَعطُوفٌ علَى مُسلِمٍ، وقد أَجْرَى العَطفَ هَهُنا على لَفظِ المَعطُوفِ عَلَيهِ، فهُوَ مَجرُورٌ وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسرَةُ الظَّاهِرَةُ.
الشَّاهِدُ فيه: قَولُهُ: (لِمُسلِمٍ) فإنَّ اللاَّمَ فيه زَائدةٌ لمُجَرَّدِ التَّوكِيدِ، وذلك لأنَّ (أَجَارَ) يَتَعَدَّى بنَفسِه، وقد تَقَدَّمَ على مَعمُولِه، فليسَ بحَاجَةٍ إلى اللاَّمِ.

([25])سُورَةُ (النَّملِ)، الآيَةُ: 72، والذي ذَهَبَ إلى أنَّ اللاَّمَ في قَولِهِ تعَالَى: {رَدِفَ لَكُمْ} زَائِدَةٌ هو أَبُو العَبَّاسِ المُبَرِّدُ، وتَبِعَهُ على ذلك قَومٌ، ولم يَرْتَضِ هَذَا التَّخْرِيجَ قَومٌ تَبِعَهُم المُؤَلِّفُ، وقالُوا: إنَّ {رَدِفَ} ضُمِّنَ مَعنَى اقتَرَبَ، فتَعَدَّى باللاَّمِ كما تَعَدَّى اقترَبَ في قَولِهِ تَعَالَى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}.

([26])سُورَةُ (الأَنْبِيَاءِ)، الآيَةُ: 1، ومِنَ اللاَّمِ الزَّائِدَةِ اللاَّمُ المُعتَرِضَةُ بينَ المُضَافِ والمُضَافِ إليه كَاللاَّمِ في قَولِ الشَّاعِرِ:
يَا بُؤْسَ لِلْحَرْبِ الَّتِي = وَضَعَتْ أَرَاهِطَ فَاسْتَرَاحُوا
أَصلُ الكَلامِ: يَا بُؤْسَ الحَرْبِ. فزَادَ اللاَّمَ بينَ المُضَافِ والمُضَافِ إِلَيهِ تَقوِيَةً لِمَعنَى الاختِصَاصِ الذي تُفِيدُ أَصلَهُ الإضَافَةُ، وقد اختَلَفَ النُّحَاةُ في انجِرَارِ مَا دَخَلَت علَيهِ اللاَّمُ؛ هل هو بِالإضَافَةِ كما كانَ قبلَ دُخُولِ اللاَّمِ، أم هو باللاَّمِ؟ والذي نُرَجِّحُهُ لكَ أَن تَعتَبِرَ الجَرَّ باللامِ؛ لأنَّ هذا هو الظَّاهِرُ، ولا مُقتَضِيَ لِلعُدُولِ عَنهُ، وأَيضاً لِمَا عُلِمَ مِن أنَّ حَرفَ الجَرِّ لا يُعَلَّقُ عَن العَمَلِ.

([27])العَامِلُ الفَرعُ عَن عَامِلٍ آخَرَ هُو المَصدَرُ، ومِثَالُهُ قَولُهُ: (سَاءَنِي ضَربُ عَلِيٍّ لِخَالِدِ)، وَاسمُ الفَاعِلِ، ومِنهُ الآيَةُ الأُولَى في أَمثِلَةِ المُؤَلِّفِ، واسمُ المَفعُولِ، نحوَ قَولِكَ: (زَيدٌ مُعطَى للدَّرَاهِمِ)، وأَمْثِلَةُ المُبَالَغَةِ، ومِن أَمثِلَتِه الآيَةُ الثَّانِيَةُ في أَمثِلَةِ المُؤَلِّفِ.

([28])سُورَةُ (البَقَرَةِ)الآيَةُ: 91.

([29])سُورَةُ (البُرُوجِ)، الآيَةُ: 16.

([30])سُورَةُ (يُوسُفَ)، الآيَةُ: 43.

([31])سُورَةُ فَاطِرٍ، الآيَةُ: 13.

([32])وتَختَصُّ اللاَّمُ المُستَعْمَلَةُ في الدِّلالَةِ على القَسَمِ بالدُّخُولِ على لَفظِ الجَلالَةِ، وسِرُّ ذلك أنَّها تَأتِي خَلَفاً للتَّاءِ, والتَّاءُ أَكثَرُ ما تُستَعْمَلُ معَ لفظِ الجَلالَةِ، نحوَ قَولِهِ تعالَى: {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}.

([33])فَإِن قُلْتَ: فقَدْ قالَ النُّحَاةُ: إنَّ قَولَ العَرَبِ (للَّهِ دَرُّكَ) يدُلُّ على التَّعَجُّبِ، والظَّاهِرُ مِن ذلك أنَّ الجُملَةَ كُلَّهَا هي الدَّالَّةُ على التَّعَجُّبِ،فكيفَ زَعَمْتُم هنا أنَّ اللاَّمَ وَحدَهَا تَدُلُّ على التَّعَجُّبِ؟
فالجَوَابُ عن هذا أنْ نَذْكُرَ لكَ أنَّ ما قَالُوه في بَابِ التَّعَجُّبِ هو الصَّوَابُ، وأمَّا قَولُهُم هُنا: إنَّ اللاَّمَ تَدُلُّ على التَّعَجُّبِ فهو مِن بَابِ نِسبَةِ مَا لِلكُلِّ إلى ما لِلجُزءِ، فهو مَجَازٌ مُرسَلٌ عِلاقَتُهُ الكُلِّيَّةُ والجُزْئِيَّةُ.

([34])296-لم أَقِفْ لهذا الشَّاهِدِ على نِسبَةٍ إلى قَائِلٍ مُعَيَّنٍ، وهذا الذي ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ ههُنَا صَدرُ بَيتٍ مِنَ الوَافِرِ، وعَجُزُهُ قَولُهُ:
*فَكُلُّكُمُ يَصِيرُ إِلَى الذَّهَابِ*
اللُّغَةُ: (لِدُوا) فِعلُ أَمرٍ مُسنَدٌ لوَاوِ الجَمَاعَةِ مِن الوِلادَةِ، تَقُولُ: وَلَدَ يَلِدُ لِدْ، مِثلَ وَعَدَ يَعِدُ عِدْ، ووَصَفَ يَصِفُ صِفْ، ومِن شَوَاهِدِ استِعمَالِ المَاضِي مِن هَذا الفِعلِ قَولُ الشَّاعِرِ، وهو مِن شَوَاهِدِ النُّحَاةِ في بابِ النَّائِبِ عن الفَاعِلِ:
وَلَوْ وَلَدَتْ قَفِيرَةُ جَرْوَ كَلْبٍ = لَسُبَّ بِذَلكَ الجَرْوِ الكِلابَا
ومِن شَوَاهِدِ استِعمَالِ المُضَارِعِ منهُ قَولُ اللَّهِ تَعَالَى في سُورَةِ الصَّمَدِ: {لَمْ يَلِدْ}. وقَولُ الشَّاعِرِ:
إِذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ = وَلَمْ تَجِدِي مِنْ أَنْ تُقِرِّي بِهِ بُدَّا
ومِن شَوَاهِدِ استِعمَالِ فِعلِ الأمرِ ما في بَيتِ الشَّاهِدِ (لِدُوا لِلموتِ) والمَوتُ: هو انتِهَاءُ الحَيَاةِ بِخُمُودِ حَرَارَةِ البَدَنِ وبُطلانِ حَرَكَتِه، (وابنُوا لِلخَرَابِ) الخَرَابِ – بِفَتحِ الخَاءِ المُعجَمَةِ – هو ضِدُّ العُمرَانِ، وتَقولُ: عَمِرَت الدَّارُ تَعمَرُ – بوَزنِ فَرِحَ يَفرَحُ – إِذَا أَهِلَت بِسُكَّانِهَا.
الإعرابُ: (لِدُوا) فِعلُ أَمرٍ مَبنِيٌّ علَى حَذفِ النُّونِ لأنَّهُ مِن الأفعالِ الخَمسَةِ، وحُرِّكَ آخِرُه بالضَّمِّ لمُنَاسَبَةِ وَاوِ الجَمَاعَةِ، ووَاوُ الجَمَاعَةِ فَاعِلُهُ مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ في مَحَلِّ رَفعٍ، (لِلمَوْتِ) اللاَّمُ حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرَابِ، والمَوتِ: مَجرُورٌ باللامِ، وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسرَةُ الظَّاهِرَةُ، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بقَولِه: لِدُوا، (وابنُوا) الوَاوُ حَرفُ عَطفٍ مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرَابِ، وابْنِ فِعلُ أَمرٍ مَبنِيٌّ علَى حَذفِ النُّونِ؛ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخَمسَةِ، ووَاوُ الجَمَاعَةِ فَاعِلُه مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ فِي مَحَلِّ رَفعٍ، والجُملَةُ مِن فِعلِ الأمرِ وفَاعِلِه مَعطُوفَةٌ بالوَاوِ علَى جُملَةِ لِدُوا، (لِلخَرَابِ) اللاَّمُ حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ علَى الكَسرِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرَابِ، الخَرَابِ: مَجرُورٌ بِاللاَّمِ، وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسرَةُ الظَّاهِرَةُ، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِقَولِهِ: ابنُوا.
(فَكُلُّكُمُ) الفَاءُ حَرفٌ دَالٌّ علَى التَّعلِيلِ مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ، لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرَابِ، كُلُّ: مُبتَدَأٌ مَرفُوعٌ بِالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وكُلُّ مُضَافٌ وضَمِيرُ المُخَاطَبِينَ مُضَافٌ إِلَيهِ، (يَصِيرُ) فِعلٌ مُضَارِعٌ نَاقِصٌ مَرفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِن النَّاصِبِ والجَازِمِ، وعَلامَةُ رَفعِهِ الضَّمَّةُ الظَّاهِرَةُ، واسمُهُ ضَمِيرٌ مُستَتِرٌ فيهِ جَوازاً تقدِيرُهُ (هو) يَعُودُ إلى كُلِّ، (إِلَى) حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرابِ، (الذَّهَابِ) مَجرُورٌ بإلى وعلامَةُ جَرِّهِ الكَسرَةُ الظَّاهِرَةُ، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بمَحذُوفٍ خَبَرُ يَصِيرُ، وجُملَةُ يَصِيرُ واسمُهُ وخَبَرُه في مَحَلِّ رَفعٍ خَبَرُ المُبتَدَأِ الذي هو (كُلُّ)، وجُملَةُ المُبتَدَأِ وخَبَرِه لا مَحَلَّ لها مِن الإعرابِ تَعلِيلِيَّةٌ.
الشَّاهِدُ فيه: قَولُهُ: (لِلمَوتِ) وقَولُهُ: (لِلخَرَابِ) فإنَّ اللاَّمَ فِيهِمَا لَيسَت دَالَّةً علَى التَّعلِيلِ، إذ لا يُعقَلُ أنَّ أَحَداً يَفهَمُ أنَّ عِلَّةَ البِنَاءِ، والسَّبَبَ الحَامِلَ عليه هو الخَرَابُ، وأنَّ عِلَّةَ الوِلادَةِ هي المَوتُ، وإنَّمَا هذانِ أَمرَانِ يَصيِرُ المَآلُ إليهِمَا مِن غَيرِ أن يَكُونَ أَحَدُهُمَا بَاعِثاً وحَافِزاً.
ونَظِيرُ ذلك قولُهُ تَعَالَى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَونَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً}. فإنَّ البَاعِثَ الذي بَعَثَ فِرعَونَ وقَومَهُ علَى التِقَاطِ مُوسَى هو أن يَكُونَ لَهُم قُرَّةَ عَينٍ، وأَن يَتَّخِذُوهُ وَلَداً، لَكِنْ صَادَفَ أن صَارَت عَاقِبَتُه ومَآلُه أن كانَ لَهُم عَدُوّاً.
هذَا، وقَدْ مَنَعَ بَعضُ النُّحَاةِ أنْ تَجِيءَ اللاَّمُ لِلصَّيرُورَةِ، وزَعَمَ أنَّهَا لا تَنفَكُّ عَن التَّعلِيلِ، وهذا الفَرِيقُ يَجعَلُ اللاَّمَ في البَيتِ وفي الآيَةِ الكَرِيمَةِ دَاخِلَةً علَى مَحذُوفٍ هُوَ العِلَّةُ البَاعِثَةُ.

([35])سُورَةُ الإسرَاءِ، الآيَةُ: 78، والسِّرُّ في جَعلِهِم اللاَّمَ في هذه الآيَةِ الكَرِيمَةِ بمَعنَى بَعدَ: أَنَّ وَقتَ الصَّلاةِ إنَّمَا يُعلَمُ دُخُولُه بالدُّلُوكِ، فلا تُقَامُ الصَّلاةُ إلا بعدَ الدُّلُوكِ, وهو مَيلُ الشَّمسِ عَن الاستِوَاءِ.
ومِثلُ الآيَةِ الكَرِيمَةِ قَولُهُ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسَلَّمَ: ((صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ)) وقَولُ مُتَمِّمِ بنِ نُوَيرَةَ:
فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكاً = لِطُولِ اجتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعا
أَي: بعدَ طُولِ اجتِمَاعٍ.

([36])سُورَةُ الإسرَاءِ، الآيَةُ: 109.

([37])ومِن شَوَاهِدِ مَجِيءِ اللاَّمِ بمَعنَى (على) قَولُ جَابِرِ بنِ حُنَىِّ بنِ حَارِثَةَ التَّغْلِبِيِّ:
تَنَاوَلَهُ بِالرُّمحِ ثُمَّ اثْنَىَ لَهُ = فَخَرَّ صَرِيعاً لِليَدَينِ ولِلْفَمِ
وخَرَّجُوا علَيهِ قَولَ اللَّهِ تعَالَى في قِصَّةِ إِسمَاعِيلَ وإِبرَاهِيمَ علَيهِمَا السَّلامُ: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلجَبِينِ}. وتَلَّهُ: كَبَّهُ وصَرَعَهُ، يعنِي – واللَّهُ أَعلَمُ – فلَمَّا انقَادَا جَمِيعاً لأمرِ اللَّهِ تعَالَى وخَضَعَا لإرَادَتِه، وصَرَعَ إِبرَاهِيمُ ابنَهُ إِسمَاعِيلَ علَى وَجهِهِ، وذلك كما تَقُولُ: كَبَبْتُهُ علَى وَجْهِهِ.

([38])عَلامَةُ بَاءِ الاستِعَانَةِ أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً علَى الآلَةِ التي يُصنَعُ بها الفِعلُ، نحوَ (نَجَرْتُ بِالقَدُومِ)، ألا تَرَى أنَّ القَلَمَ في مِثَالِ المُؤَلِّفِ آلَةٌ للكِتَابَةِ، وأنَّ القَدُومَ آلَةٌ لِلنِّجَارَةِ؟ وهل البَاءُ في البَسمَلَةِ مِن هذا القَبِيلِ مَجازاً؟ قَولانِ ذَكَرَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ، أَحَدُهُمَا أنَّ الباءَ فيها للآلَةِ مَجَازاً؛ لأنَّ الفِعلَ لا يَتَأَتَّى على أَتَمِّ وَجهٍ وأَكمَلِه إلا بِالاستِعَانَةِ باللَّهِ، والثَّانِي أنَّ البَاءَ فيها لِلمُصَاحَبَةِ، وذلك تَحَاشِياً مِن سُوءِ الأدَبِ معَ اللَّهِ جَلَّ جَلالُهُ أن يُجْعَلَ آلَةً ولو مَجَازاً.

([39])سُورَةُ البَقَرَةِ، الآيَةُ:17، وقَدْ قُرِئَ في هذِه الآيَةِ:(أَذْهَبَ اللَّهُ نُورَهُمْ) وبِهَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ رَدَّ العُلَمَاءُ علَى المُبَرِّدِ والسُّهَيلِيِّ اللذَينِ زَعَمَا أنَّ بَينَ التَّعدِيَةِ بِالهَمزَةِ والتَّعدِيَةِ بالبَاءِ فَرقاً. وحَاصِلُهُ أنَّكَ إذَا عَدَّيتَ الفِعلَ بالباءِ كانَ فَاعِلُ الفِعلِ مُصَاحِباً لِمَدخُولِ البَاءِ، ولا يَلزَمُ ذلك في التَّعدِيَةِ بالهَمزَةِ، فإذَا قُلْتَ: (ذَهَبْتُ بِزَيدٍ) كُنتَ مُصَاحِباً لِزَيدٍ في الذَّهَابِ، والرَّدُّ بالآيَةِ وَاضِحٌ.

([40])بَاءُ التَّعوِيضِ تُسَمَّى بَاءَ المُقَابَلَةِ أَيضاً، وعَلامَتُهَا أن تَكُونَ دَاخِلَةً علَى الأَعوَاضِ والأثمَانِ حِسّاً أو مَعنًى، فأَمَّا التي دَخَلَت على العِوَضِ حِسّاً فمثلُ قَولِكَ: (بِعْتُكَ هذا الثَّوبَ بهذا) فمَدْخُولُ البَاءِ هو العِوَضُ والثَّمَنُ، وأمَّا التي دَخَلَت على العِوَضِ مَعنًى فَمِثلُ قَولِكَ: (كَافَأْتُ إِحسَانَهُ بِالشُّكرِ) أو: (قَابَلْتُ بِرَّهُ بمِثلِهِ، أو بِضِعفِهِ).
فإِنْ قُلْتَ: فَإِنِّي أَجِدُ بينَ بَاءِ التَّعوِيضِ والبَاءِ الدَّالَّةِ علَى السَّبَبِيَّةِ التِبَاساً، فافرِقْ لِي بَينَهُمَا حتَّى أُمَيِّزَ إِحدَاهُمَا عن الأُخرَى أدَقَّ التَّميِيزِ.
فالجَوَابُ عن ذلك أنْ نَقُولَ لكَ: انظُرْ إلَى مَدخُولِ البَاءِ، فإِنْ رَأَيْتَهُ قَد يُعطَى بِعِوَضٍ وقد يُعطَى مَجَّاناً فاجْعَلِ البَاءَ لِلعِوَضِ، وإِن كَانَ لا بُدَّ مِن حُصُولِه بِسَبَبِ حُصُولِ مَا قَبلَهُ، فَاجْعَلِ البَاءَ لِلسَّبَبِيَّةِ؛ لأنَّ طَبِيعَةَ الأُمُورِ أنَّ مَا يُعطَى بِعِوَضٍ لا يَمنَعُ العَقلُ جَوَازَ إِعطَائِهِ مَجَّاناً، وأنَّ ما يُعطَى بِسَبَبٍ لا بُدَّ مِن إِعطَائِهِ متَى حَصَلَ سَبَبُه.
ومِن أَجلِ هذا حَمَلَ أَهلُ السُّنَّةِ البَاءَ في قَولِهِ تعَالَى: {ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} عَلَى أنَّها لِلعِوَضِ، وحَمَلُوا البَاءَ فِي قَولِه صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسَلَّمَ: ((لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمُ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ)) علَى أنَّهَا لِلسَّبَبِيَّةِ، فالآيَةُ الكَرِيمَةُ تَدُلُّ علَى أنَّ دُخُولَ الجَنَّةِ قد يَكُونُ مَجَّاناً فَضلاً مِنَ اللَّهِ وإِحسَاناً، والحَدِيثُ يَدُلُّ علَى أنَّ العَمَلَ لَيسَ سَبَباً مُوجِباً لِدُخُولِ الجَنَّةِ، وبهذا تَعْلَمُ أنَّهُ لا تَعَارُضَ بينَ الآيَةِ والحَدِيثِ.

([41])اعْلَمْ أوَّلاً أنَّ الإلصَاقَ أَصلُ مَعَانِي البَاءِ، وبَاقِي ما يُذكَرُ مِن معَانِي البَاءِ فُرُوعٌ عَن الإلصَاقِ، ويُؤَيِّدُ ذلك قَولُ سِيبَوَيْهِ: (وَإِنَّمَا هِيَ للإلصاقِ والاختِلاطِ.. ومَا اتَّسَعَ مِن هذا فِي الكلامِ فهَذَا أَصلُهُ)اهـ. ثُمَّ اعلَمْ أنَّ الإلصَاقَ إمَّا حَقيقِيٌّ، وإِمَّا مَجَازِيٌّ، وأنَّ الإلصاقَ الحَقِيقِيَّ علَى ضَرْبَينِ: الأوَّلُ: ما لا يَصِلُ الفِعلُ إلى المَفعُولِ إلا بِالحَرفِ الدَّالِّ علَيهِ – وهو البَاءُ – نحوَ قَولِكَ: (سَطَوْتُ بِزَيدٍ) فإِنَّ (سَطَا) لا يَصِلُ إلى المَفعُولِ إلا بوَاسِطَةِ الحرفِ، فإذَا أَرَدْتَ معَهُ مَعنَى الإلصَاقِ جِئْتَ بالباءِ.
والثَّانِي: ما أَصلُ الفِعلِ أن يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَرَدْتَ أنْ تَدُلَّ علَى مَعنًى زَائِدٍ على مُجَرَّدِ وُقُوعِهِ على المَفعُولِ فجِئْتَ بالبَاءِ، نحوَ قَولِكَ: (أَمْسَكْتُ بِزَيدٍ) فإنَّ هذا الفِعلَ الذي هو أَمسَكَ يَتَعَدَّى إلى المَفعُولِ به بِنَفسِهِ، فتَقُولُ: (أَمْسَكْتُ زَيداً) فأَرَدْتَ بالإتيَانِ بالبَاءِ مَعَهُ أنْ تَدُلَّ على مَعنًى زَائِدٍ على مُجَرَّدِ وقُوعِهِ علَيهِ، وبَيَانُ ذَلِكَ أنَّ قَولَكَ: (أَمْسَكْتُ بِزَيدٍ) يَدُلُّ على أنَّكَ قَبَضْتَ علَى شَيءٍ مِن جِسمِهِ أو مَا يَحْبِسُهُ مِن ثَوبٍ أو نَحوِه، وأمَّا قَولُكَ (أَمْسَكْتُ زَيداً) فإنَّهُ يَحتَمِلُ هذا المَعنَى، ويَحتَمِلُ أن يَكُونَ المَعنَى أنَّكَ مَنَعْتَهُ مِن التَّصَرُّفِ، فالبَاءُ جَعَلَتِ الكَلامَ نَصّاً في المَعنَى الأوَّلِ، وأمَّا الإلصاقُ المَجَازِيُّ فنَحوُ: (مَرَرْتُ بِزَيدٍ)؛ أي: جَعَلْتُ مُرُورِي بِمَكَانٍ يَقرُبُ مِن مَكَانِ زَيدٍ.

([42])أَثْبَتَ مَجِيءَ البَاءِ لِلتَّبْعِيضِ الأَصْمَعِيُّ والفَارِسِيُّ والقُتَبِيُّ وابنُ مَالِكٍ، واستَدَلُّوا بالآيَةِ الكَرِيمَةِ التي تَلاهَا المُؤَلِّفُ، وبقَولِهِ تعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}، وعلَى هذا بَنَى الشَّافِعِيُّ مَذهَبَهُ في أنَّ الوَاجِبَ في الوُضُوءِ مَسحُ بَعضِ الرَّأسِ.

([43])سُورَةُ الإنسَانِ، الآيَةُ: 6.

([44])سُورَةُ المَائِدَةِ، الآيَةُ: 61.

([45])سُورَةُ الفُرْقَانِ، الآيَةُ: 59.

([46])سُورَةُ القَصَصِ، الآيَةُ: 44.

([47])سُورَةُ القَمَرِ، الآيَةُ: 34.

([48])سُورَةُ آلِ عِمرَانَ، الآيَةُ: 75.

([49])سُورَةُ المَائِدَةِ، الآيَةُ: 13.

([50])سُورَةُ النِّسَاءِ، الآيَةُ: 79، وَزِيَادَةُ البَاءِ هُنَا في فَاعِلِ كَفَى.

([51]) سُورَةُ البَقَرَةِ, الآيَةُ: 195, وزِيَادَةُ البَاءِ هُنَا في المَفعُولِ بِهِ.

([52])زِيَادَةُ البَاءِ في المِثَالِ الأوَّلِ معَ المُبتَدَأِ، وفي المِثَالِ الثَّانِي معَ خَبَرِ لَيسَ.

([53])سُورَةُ الرُّومِ، الآيَةُ:2.

([54])سُورَةُ الرُّومِ، الآيَةُ: 4.

([55])سُورَةُ الأَحْزَابِ، الآيَةُ: 21، واعْلَمْ أنَّ الظَّرْفِيَّةَ الحَقِيقِيَّةَ هي التي يَكُونُ الظَّرفُ والمَظرُوفُ فيهَا مِن الذَّوَاتِ، فإِن كَانَا جَمِيعاً مِن أَسمَاءِ المَعَانِي، نَحوَ قَولِهِ تعَالَى: {وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ} أَو كانَ الظَّرفُ مِن أَسمَاءِ المَعَانِي، وَالمَظْرُوفُ مِن أَسمَاءِ الذَّاتِ نَحوُ قَولِكَ: (المُتَّقُونَ في رَحمَةِ اللَّهِ)َ أو كانَ الظَّرفُ ذَاتاً والمَظرُوفُ مَعنًى، كهذه الآيَةِ التي تَلاهَا المُؤَلِّفُ، كانت الظَّرفِيَّةُ مَجَازِيَّةً.

([56])سُورَةُ النُّورِ، الآيَةُ: 14, والذي أَفَاضُوا فيه هو كَلامُهُم في حَدِيثِ الإفكِ، والحَدِيثُ والكَلامُ لا يَمَسُّهُما العَذَابُ، لا جَرَمَ كانت (في) دَالَّةً على أنَّ الحَدِيثَ والكَلامَ سَبَبٌ لِمَسِّ العَذَابِ الأليمِ.

([57])سُورَةُ الأعرَافِ، الآيَةُ: 38.

([58])سُورَةُ طَهَ، الآيَةُ: 71، والذين ذَهَبُوا إلى أنَّ (فِي) تَأتِي للاستِعْلاءِ هُم الكُوفِيُّونَ، وتَبِعَهُم القُتَبِيُّ في هذا، وأمَّا غَيرُهُم فذَهَبُوا إلى أنَّ في هذهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ استِعَارَةً تَبَعِيَّةً، حَاصِلُهَا أنَّهُ شَبَّهَ تَمَكُّنِ المَصلُوبِ علَى الجذعِ بِظَرْفِيَّةِ المَظرُوفِ في الظَّرفِ، ومِثلُ هذه الآيَةِ الكَرِيمَةِ قَولُ سُوَيدِ بنِ أَبِي كَاهِلٍ:
وَهُمْ صَلَبُوا العَبْدِيَّ فِي جِذْعِ نَخْلَةٍ = فَلا عَطَسَتْ شَيْبَانُ إِلاَّ بِأَجْدَعَا

([59])سُورَةُ التَّوبَةِ، الآيَةُ: 38.

([60])297-هذا الشَّاهِدُ مِن كَلامِ زَيدِ الخَيرِ، وكانَ يُعرَفُ في الجَاهِليَّةِ بِزَيدِ الخَيلِ، فلمَّا أَسلَمَ سَمَّاهُ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسَلَّمَ زَيدَ الخَيرِ، وهذا الذي ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ عَجُزُ بَيتٍ مِن الطَّوِيلِ، وصَدْرُه قَولُهُ:
*وَيَرْكَبُ يَومَ الرَّوعِ مِنَّا فَوَارِسٌ*
اللُّغَةُ: (يَومَ الرَّوعِ) اليَومُ الذي يَفزَعُ النَّاسُ فيهِ، وأَرَادَ به يَومَ الحَربِ (فَوَارِسٌ) جَمعُ فَارِسٍ، وهو مِن الألفَاظِ التي جَاءَت على فَوَاعِلُ مِن جَمعِ فَاعِلٍ، وهو وَصفٌ لِمُذَكَّرٍ عَاقِلٍ، (بَصِيرُونَ) عَارِفُونَ، (الأَبَاهِرِ) جَمعُ أَبهَرٍ – بِوَزنِ جَعفَرٍ – وهو عِرْقٌ مِنَ المُقَاتِلِ، مَكانُه في الظَّهرِ، (والكُلَى) جَمعُ كُلْوَةٍ أَو كُلْيَةٍ، ولِكُلِّ حَيَوانٍ كُلْيَتَانِ.
الإعرابُ: (وَيَرْكَبُ) الوَاوُ حَرفُ عَطفٍ مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرابِ، يَركَبُ: فِعلٌ مُضَارِعٌ مَرفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِن النَّاصِبِ والجَازِمِ، وعَلامَةُ رَفعِهِ الضَّمَّةُ الظَّاهِرَةُ، (يَومَ) ظَرفُ زَمَانٍ مَنصُوبٌ علَى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمَانِيَّةِ مَنصُوبٌ بيَركَبُ، وعَلامَةُ نَصبِهِ الفَتحَةُ الظَّاهِرَةُ، ويَومَ مُضَافٌ، و(الرَّوعِ) مُضَافٌ إِلَيهِ مَجرُورٌ بِالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ، (مِنَّا) جَارٌّ ومَجرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَحذُوفٍ، حَالٌ مِن فَوَارِسَ، وأَصلُهُ صِفَةٌ لَهُ، فلَمَّا تَقَدَّمَ عليه صَارَ حَالاً.
(فَوَارِسٌ) فَاعِلُ يَركَبُ مَرفُوعٌ، وعَلامَةُ رَفعِهِ الضَّمَّةُ الظَّاهِرَةُ في آخِرِهِ، وكَانَ مِن حَقِّهِ أن يَمنَعَهُ مِن التَّنوِينِ؛ لأنَّهُ مَمنُوعٌ مِنَ الصَّرفِ لِكَونِهِ علَى زِنَةِ مُنتَهَى الجُمُوعِ، لكنَّهُ لَمَّا اضطُرَّ نَوَّنَهُ.
(بَصِيرُونَ) نَعتٌ لِفَوَارِسَ مَرفُوعٌ بِالوَاوِ نِيَابَةً عَن الضَّمَّةِ لِكَونِهِ جَمعَ مُذَكَّرٍ سَالِماً، (فِي) حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرابِ، (طَعْنِ) مَجرُورٌ بفِي، وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسرَةُ الظَّاهِرَةُ، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بقَولِهِ: بَصِيرُونَ، وطَعْنٌ مُضَافٌ، و(الأَبَاهِرِ) مُضَافٌ إِلَيهِ مِن إِضَافَةِ المَصدَرِ إلى مَفعُولِه، مَجرُورٌ بِالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ، (والكُلَى) الوَاوُ حَرفُ عَطفٍ مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرابِ، الكُلَى مَعطُوفٌ على الأَبَاهِرِ مَجرورٌ بِكَسرَةٍ مُقَدَّرَةٍ على الأَلِفِ مَنَعَ ظُهُورَهَا التَّعَذُّرُ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَولُه: (فِي طَعْنِ) فَإِنَّ (فِي) هنا بِمَعنَى البَاءِ؛ لأنَّ بَصِيراً يَتَعَدَّى بِالبَاءِ.

([61])المُرَادُ بِالاستِعْلاءِ العُلُوُّ، فَالسِّينُ والتَّاءُ للتَّوكِيدِ، ولَيسَا دَالَّينِ علَى الطَّلَبِ، ثُمَّ الاستعلاءُ إمَّا حَقِيقِيٌّ كما في الآيَةِ الكَرِيمَةِ التي تلاهَا المُؤَلِّفُ، وإِمَّا مَجَازِيٌّ كما في قَولِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}، وقَولِهِ سُبحَانَهُ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، ومنه قَولُهُم: (عَلَى فُلانٍ دَينٌ).

([62])سُورَةُ المُؤْمِنُونَ، الآيَةُ: 22.

([63])سُورَةُ القَصَصِ، الآيَةُ: 15.

([64])298-هذا الشَّاهِدُ مِن كلامِ القُحَيفِ العُقَيلِيِّ، يَمدَحُ حَكِيمَ بنَ المُسَيِّبِ القُشَيرِيَّ، وما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ صَدرُ بَيتٍ مِن الوَافِرِ، وعَجُزُه قَولُه:
*لَعَمْرُ اللَّهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا*
اللُّغَةُ: (قُشَيرٌ) – بضَمِّ القَافِ وفَتحِ الشِّينِ – هُو قُشَيرُ بنُ كَعْبِ بنِ رَبِيعَةَ بنِ عَامِرِ بنِ صَعْصَعَةَ، (لَعَمْرُ اللَّهِ) المُرَادُ الحَلِفُ بإِقْرَارِهِ للَّهِ تَعَالَى بِالخُلُودِ والبَقَاءِ بعدَ فنَاءِ الخَلْقِ.
قالُوا: عَمْرَكَ اللَّهَ، وعَمرِيَ اللَّهَ، بِنَصبِ عَمْرٍ على حَذفِ حَرفِ القَسَمِ والجَرِّ، وبِنَصبِ لَفظِ الجَلالَةِ علَى التَّعظِيمِ، وعَمْرٌ: مَصدَرٌ أُضِيفَ لفَاعِلِه الذي هو يَاءُ المُتَكَلِّمِ أو كَافُ المُخَاطَبِ، قالَ عُمَرُ بنُ أَبِي رَبِيعَةَ المَخْزُومِيُّ:
أَكَمَا يَنْعَتُنِي تُبْصِرْنَنِي = عَمْرَكُنَّ اللَّهَ أَم لا يَقْتَصِدْ
المَعنَى: إِذَا رَضِيَتْ عَنِّي بَنُو قُشَيرٍ سَرَّنِي رِضَاهَا، وذلك لأنَّهُ يَعُودُ علَيَّ بعظِيمِ الجَدْوَى، وهَذَا مُتَّصِلُ المَعنَى بِقَولِ الآخَرِ:
إِذَا رَضِيَتْ عَنِّي كِرَامُ عَشِيرَتِي = فَلا زَالَ غَضْبَاناً عَلَيَّ لِئَامُهَا
الإعرَابُ: (إِذَا) ظَرفٌ لِمَا يُستَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ خَافِضٌ لِشَرْطِهِ مَنصُوبٌ بِجَوَابِهِ مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ في مَحَلِّ نَصبٍ، (رَضِيَتْ) رَضِيَ: فِعلٌ مَاِضٍ مَبنِيٌّ علَى الفَتْحِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرَابِ، والتَّاءُ للتَّأنِيثِ، (علَيَّ) جَارٌّ ومَجرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِرَضِيَ، (بَنُو) فَاعِلُ رَضِيَ، مَرفُوعٌ بِالوَاوِ نِيَابَةً عَنِ الضَّمَّةِ؛ لأنَّهُ جَمعُ مُذَكَّرٍ سَالِمٌ، وقد مَرَّ في بابِ الفَاعِلِ أنَّ جَمعَ المُذَكَّرِ السَّالِمَ، وخَاصَّةً لَفظَ (بَنُو) يَجُوزُ عِندَ قَومٍ تَأْنِيثُ الفِعلِ المُسنَدِ إليه، وبَنُو مُضَافٌ، و(قُشَيرٍ) مُضَافٌ إِلَيهِ مَجرُورٌ بِالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ، (لَعَمْرُ) اللاَّمُ لامُ الابتِدَاءِ حَرفٌ مَبنِيٌّ على الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرابِ، عَمْرُ مُبتَدَأٌ مَرفُوعٌ بِالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وعَمْرُ مُضَافٌ ولَفظُ الجَلالَةِ مُضَافٌ إليه مَجرُورٌ بِالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ، وخَبَرُ المُبتَدَأِ مَحذُوفٌ وُجُوباً، وتَقدِيرُ الكَلامِ: لَعَمْرُ اللَّهِ يَمِينِي، أَو لَعَمْرُ اللَّهِ مَا أَحلِفُ بِه، (أَعْجَبَنِي) أَعْجَبَ: فِعلٌ مَاضٍ مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرابِ، والنَّونُ لِلوِقَايَةِ، ويَاءُ المُتَكَلِّمِ مَفعُولٌ بهِ، مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ في مَحَلِّ نَصبٍ.
(رِضَاهَا) رِضَا: فَاعِلُ أَعْجَبَ مَرفُوعٌ بِضَمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ على الأَلِفِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهَا التَّعَذُّرُ، وهو مُضَافٌ وضَمِيرُ الغَيبَةِ العَائِدُ إلى بَنِي قُشَيرٍ مُضَافٌ إليه مَبنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ.
الشَّاهِدُ فيه: قَولُهُ: (رَضِيَت عَلَيَّ) فإِنَّ (عَلَى) فيه بمَعنَى (عن)، وذلك مِن قِبَلِ أنَّ الأصلَ في (رَضِيَ) أن يَتَعَدَّى بعَن، لا بِعَلَى، مِثلَ قَولِهِ تَعَالَى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وقَولِهِ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ}، ومِثلَ قَولِ الشَّاعِرِ السَّابِقِ:
إِذَا رَضِيَتْ عَنِّي كِرَامُ عَشِيرَتِي = فَلا زَالَ غَضْبَاناً عَلَيَّ لِئَامُهَا
وإنَّمَا عدَّى الشَّاعِرُ في بيتِ الشَّاهِدِ (رَضِيَ) بِعَلَى، حَمْلاً على ضِدِّهِ الذي هو غَضِبَ، فإنَّهُ يَتَعَدَّى بعَلَى كما في البيتِ الذي أَنْشَدْنَاهُ، ومِن سَنَنِ العَرَبِ أن يَحمِلُوا الشَّيءَ على ضِدِّهِ كما يَحمِلُونَهُ على مِثلِهِ، وهذا تَخرِيجُ الكِسَائِيِّ لهذه العِبَارَةِ في هذا البَيتِ.
وذَهَبَ أَبُو عُبَيدَةَ إلى أنَّ الشَّاعِرَ ضَمَّنَ رَضِيَ في هذا البَيتِ مَعنَى (أَقْبَلَ) فعَدَّاهُ تَعدِيَتَهُ، قالَ: (إنَّمَا سَاغَ هذا لأنَّ مَعنَاهُ: أَقْبَلَت عَلَيَّ) اهـ.
وذَهَبَ ابنُ هِشَامٍ في (مُغنِي اللَّبِيبِ) إلى أنَّ الكَلامَ على التَّضمِينِ، لكنَّهُ جَعَلَ (رَضِيَ) مُضَمَّناً مَعنَى عَطَفَ.

([65])سُورَةُ الرَّعدِ، الآيَةُ: 6.

([66])وبَقِيَ مِن المعَانِي التي ذَكَرُوها لِعَلَى سِتَّةُ مَعَانٍ، الأوَّلُ: أنَّهَا تَأتِي بمَعنَى اللاَّمِ، نحوَ قَولِهِ تعالَى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}؛ أَي: لِهِدَايَتِهِ إِيَّاكُم، والثَّانِي: أنَّها تَأتِي بِمَعنَى (عِندَ)، نحوَ قَولِهِ سُبحَانَهُ: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ}؛ أي: عندِي، والثَّالِثُ: أنَّهَا تَأتِي بِمَعنَى (مِن)، نحوَ قَولِهِ جَلَّ شَأنُه: {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}؛ أي: مِنَ النَّاسِ، والرَّابِعُ: أنَّها تَأتِي بمَعنَى الباءِ، نَحوَ قَولِهِ تعَالَى: {حَقِيقٌ عَلَى أَلاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ}؛ أي: حَقِيقٌ بِأَلاَّ أَقُولَ، والخَامِسُ: أن تَكُونَ زَائِدَةً، كما في قَولِ حُمَيدِ بنِ ثَورٍ الهِلالِيِّ:
أَبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنَّ سَرْحَةَ مَالِكٍ = عَلَى كُلِّ أَفْنَانِ العِضَاهِ تَرُوقُ
وَجهُ الدِّلالَةِ مِن هذا البيتِ أنَّ (تَرُوقُ) فِعلٌ يَتَعَدَّى بنَفسِهِ، فزَادَ الشَّاعِرُ معَهُ (علَى)، ونصَّ سِيبَوَيْهِ على أنَّ (علَى) لا تَقَعُ زَائِدَةً، وعلَى رَأْيِهِ يُخَرَّجُ ما في البَيتِ بأنَّ (يَرُوقُ) قد ضُمِّنَ معنَى تُشرِقُ.
المَعنَى السَّادِسُ: أن تَكُونَ بمَعنَى لَكِنَّ الدَّالَّةِ على الاستِدْرَاكِ، نحوَ قَولِكَ: (فُلانٌ يَرتَكِبُ الآثَامَ علَى أَنَّهُ لا يَقنَطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) ومنهُ قَولُ ابنِ الدُّمَينَةِ:
وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ المُحِبَّ إِذَا دَنَا = يَمَلُّ وأَنَّ النَّأْيَ يَشْفِي مِنَ الوَجْدِ
بِكُلٍّ تَدَاوَيْنَا فَلَمْ يُشْفَ مَا بِنَا = عَلَى أَنَّ قُرْبَ الدَّارِ خَيرٌ مِنَ البُعْدِ

([67])المُجَاوَزَةُ إِمَّا حَقِيقِيَّةٌ، وذلك إذا كَانَت تَدُلُّ علَى بُعدِ جِسمٍ عَن جِسمٍ، نحوَ: (سِرْتُ عَنِ البَلَدِ)، وإِمَّا مَجَازِيَّةٌ، وذلك إذا كانَت في المَعَانِي، نحوَ قَولِه تَعَالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً}.

([68])سُورَةُ الانشِقَاقِ، الآيَةُ: 19.

([69])سُورَةُ مُحَمَّدٍ، الآيَةُ: 38 (الِقتَالُ) وخَرَّجَ الدَّمَامِينِيُّ الآيَةَ الكَرِيمَةَ على أنَّ (يَبْخَلْ) قد ضُمِّنَ معنَى يُبْعِدُ؛ أي: ومَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يُبْعِدُ الخَيرَ عَن نَفسِهِ.

([70])299-هذا الشَّاهِدُ مِن كَلامِ ذِي الإِصْبَعِ العَدْوَانِيِّ، واسمُهُ الحَارِثُ بنُ مَحرَثٍ، وكانَ قَد نَهَشَت حَيَّةٌ إِصبَعَهُ فَشَلَّت=@، فلُقِّبَ بذِي الإِصبَعِ لذلكَ، ومَا ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ هو قِطعَةٌ مِن بَيتٍ مِنَ البَسِيطِ، وهو بِتَمَامِهِ:
لاَهِ ابنُ عَمِّكَ لاَ أَفْضَلْتَ فِي حَسَبٍ = عَنِّي وَلاَ أَنْتَ دَيَّانِي فَتَخْزُونِي
اللُّغَةُ: (لاهِ ابنُ عَمِّكَ) اعلَمْ أنَّ الأَصلَ في هذا الاستِعمَالِ أنْ يَقُولُوا: للَّهِ أَنتَ، وللَّهِ دَرُّكَ، وللَّهِ أَبُوكَ، وللَّهِ ابنُ عَمِّكَ – بِثَلاثِ لاَمَاتٍ، الأُولَى لامُ الجَرِّ، والثَّانِيَةُ لامُ التَّعرِيفِ، والثَّالِثَةُ لامٌ هي فَاءُ الكَلِمَةِ باعتِبَارِ أنَّ لَفظَ الجَلالَةِ مُشتَقٌّ مِن (ل ي ه) – وقَد يُرِيدُونَ التَّخفِيفَ فيَقُولُونَ: لاهِ أَنتَ، ولاهِ أَبُوكَ، وَلاهِ ابنُ عَمِّكَ، بلامٍ وَاحِدَةٍ – وقَد اختَلَفَ العُلَمَاءُ حِينَئِذٍ في السَّاقِطِ مِنَ اللاَّمَاتِ والبَاقِي مِنهَا، فذَهَبَ سِيبَوَيْهِ إلى أنَّ المَحْذُوفَ لامُ الجَرِّ ولامُ التَّعرِيفِ جَمِيعاً، والبَاقِيَةَ هي اللاَّمُ التي هي فَاءُ الكَلِمَةِ، ودَلِيلُهُ على ذلك أنَّ البَاقِيَةَ مَفتُوحَةٌ، ولامُ الجَرِّ مَكسُورَةٌ، ولامُ التَّعرِيفِ سَاكِنَةٌ.
وذَهَبَ أَبُو العَبَّاسِ المُبَرِّدُ إلَى أنَّ المَحذُوفَ لامُ التَّعرِيفِ وفَاءُ الكَلِمَةِ، والبَاقِيَةَ هي لامُ الجَرِّ، واعتَذَر عَن فَتحِهَا بأنَّ هذهِ الفَتحَةَ عَارِضَةٌ للمُحَافَظَةِ على الألِفِ التي هي عَينُ الكَلِمَةِ، فإنَّ اللاَّمَ لو انكَسَرَت لعَادَت الألفُ يَاءً، واحتَجَّ لمَا ذَهَبَ إليه بأَنَّ هذا الجَرَّ الذي في آخِرِ الكَلِمَةِ لا بُدَّ له مِن عَامِلٍ، وقَدْ عَلِمْنَا أنَّ حَرفَ الجَرِّ لا يُحذَفُ ويَبقَى عَمَلُهُ إلا شُذُوذاً، فلذلك لا نُخَرِّجُ عليه.
وهذا الكَلامُ مَردُودٌ بأنَّ اللاَّمَ قد فُتِحَت، وليسَ بَعدَهَا أَلِفٌ في قَولِهِم: (لَهِي أَبُوكَ) بِمَعنَى: للَّهِ أَبُوكَ، فلو كَانَت هذِه اللاَّمُ هي الجَارَّةَ لَبَقِيَت مَكسُورَةً حيثُ لا مُقتَضِيَ لِفتحِها، فلمَّا رَأَيْنَاهُم فَتَحُوها بِكُلِّ حَالٍ، وكُنَّا نَعلَمُ أنَّ لامَ الجَرِّ لا تُفتَحُ إلاَّ إذا كانَ المَجرُورُ مُضمَراً أو مُستَغَاثاً به؛ عَلِمْنَا أنَّها معَ هذا الاسمِ الظَّاهِرِ الذي ليسَ مُستَغَاثاً به لَيسَت لامَ الجَرِّ، (أَفْضَلْتَ) مَعناهُ: زِدْتَ وصِرْتَ ذَا فَضْلٍ وزِيَادَةِ مَجدٍ، (حَسَبٍ) الحَسَبُ – بفَتحِ الحَاءِ والسِّينِ جَمِيعاً – كُلُّ ما يَعُدُّه الإنسانُ مِن مَآثِرِه، (دَيَّانِي) الدَّيَّانُ: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِن (دَانَ فُلانٌ فُلاناً) إذا أَخضَعَهُ لِنَفسِه ومَلَكَ أَمرَهُ، وكانَ بِيَدِهِ جَزَاؤُهُ، (تَخْزُونِي) تَسُوسُنِي وتَقْهَرُنِي.
الإعرابُ: (لاهِ) مَجرُورٌ بِحَرفِ جَرٍّ مَحذُوفٍ على ما هو مَذهَبُ سِيبَوَيْهِ, والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بمَحذُوفٍ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، (ابنُ) مُبتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، وابنُ مُضَافٌ وعَمِّ مِن (عَمِّكَ) مُضَافٌ إليه، وعَمُّ مُضَافٌ وضَمِيرُ المُخَاطَبِ مُضَافٌ إليه، (لا) نَافِيَةٌ، (أَفْضَلْتَ) أَفْضَلَ: فِعلٌ مَاضٍ مَبنِيٌّ علَى فَتْحٍ مُقَدَّرٍ على آخِرِه لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرَابِ، وتَاءُ المُخَاطَبِ فَاعِلُه، (في حَسَبٍ) جَارٌّ ومَجرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِأَفْضَلَ، (عَنِّي) جَارٌّ ومَجرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِأَفضَلَ أَيضاً، (ولا) الوَاوُ حَرفُ عَطفٍ، لا حَرفُ نَفْيٍ، (أنتَ) ضَمِيرٌ مُنفَصِلٌ مُبتَدَأٌ، (دَيَّانِي) دَيَّانُ: خَبَرُ المُبتَدَأِ، ويَاءُ المُتَكَلِّمِ مُضَافٌ إليه، (فَتَخْزُونِي) الفَاءُ حَرفُ عَطفٍ. تَخْزُو: فِعلٌ مُضَارِعٌ مَرفُوعٌ بِضَمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ على الواوِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهَا الثِّقَلُ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُستَتِرٌ فيه وُجُوباً تَقدِيرُهُ أنت، والنُّونُ لِلوِقَايَةِ، ويَاءُ المُتَكَلِّمِ مَفعُولٌ به لِتَخْزُو، مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ في مَحَلِّ نَصبٍ.
الشَّاهِدُ فيهِ: استَشْهَدَ المُؤَلِّفُ بهذا البيتِ علَى أنَّ (عن) في قَولِ الشَّاعِرِ (لا أَفْضَلْتَ في حَسَبٍ عَنِّي) مَعنَاهَا الاستعلاءُ بِمَنزِلَةِ على، وقد ذَكَرَ مِثلَ ذلك في كِتَابِهِ (مُغنِي اللَّبِيبِ)، قالَ: (لأنَّ المَعرُوفَ أن يُقَالَ: أَفْضَلْتَ عَلَيهِ) اهـ. وقَد سَبَقَه إلى ذلك يَعقُوبُ بنُ السِّكِّيتِ في كِتَابِهِ (إِصلاحِ المَنْطِقِ) وابنُ قُتَيبَةَ في كِتَابِهِ (أَدَبِ الكَاتِبِ).
وجَوَّزَ المُحَقِّقُ الرَّضِيُّ هذا الوَجهَ ووَجهاً آخَرَ حاصِلُهُ أنْ يَكُونَ (عن) بَاقِياً علَى أَصلِهِ، ويَكُونَ الشَّاعِرُ قد ضَمَّنَ (أَفضَلَ) مَعنَى تَجَاوَزَ، حيثُ قالَ: (يَجُوزُ أن يَكُونَ أَفْضَلْتَ مُضَمَّناً مَعنَى تَجَاوَزْتَ في الفَضلِ، وأَنْ يَجْعَلَ عَن بِمَعنَى على) اهـ.
وفيه شَاهِدٌ آخَرُ، وذلك في قَولِهِ: (لاهِ)؛ لأنَّ أَصلَهُ (للَّهِ) فحَذَفَ لامَ الجَرِّ، وأَبقَى عَمَلَهَا، ثُمَّ حذَفَ لامَ (ال) مِن لَفظِ الجَلالَةِ، وهذا إنَّمَا يَتِمُّ علَى قَولِ سِيبَوَيْهِ الذي قَدَّمْنَا بَيَانَهُ في لُغَةِ البَيتِ.

([71])سُورَةُ هُودٍ، الآيَةُ: 53، وخَرَّجَ الزَّمَخْشَرِيُّ هذه الآيَةَ الكَرِيمَةَ على التَّضْمِينِ، وقدَّرَهُ: بما نَحنُ بتَارِكِي آلِهَتِنَا صَادِرِينَ عن قَولِكَ.

([72])وقَدْ بَقِيَ مِن مَعَانِي (عن) التي ذَكَرَها النُّحَاةُ ولم يَذْكُرْهَا المُؤَلِّفُ خَمسُ مَعَانٍ:
الأوَّلُ: أن تَكُونَ بِمَعنَى (مِن) نَحوَ قَولِهِ تعالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}؛ أي: مِنهُم.
الثَّانِي: أن تَكُونَ بِمَعنَى البَاءِ، نَحوَ قَولِهِ سُبحَانَهُ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى}؛ أي: بِهِ.
الثَّالِثُ: أن تَكُونَ بِمَعنَى البَدَلِ، نَحوَ قَولِهِ تعَالَى: {لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً}؛ أي: بَدَلَ نَفسٍ، وفِي الحَديثِ:((صُومِي عَنْ أُمِّكِ))؛ أي: بَدَلَها.
الرَّابِعُ: أن تَكُونَ دَالَّةً علَى الاستِعَانَةِ نحوَ قَولِكَ: (رَمَيتُ عَنِ القَوسِ).
الخَامِسُ: أن تَكُونَ للظَّرْفِيَّةِ، نحوَ قَولِ الشَّاعِرِ:
وَآسِ سَرَاةَ الحَيِّ حَيثُ لَقِيتَهُمْ = وَلا تَكُ عَنْ حَمْلِ الرِّبَاعَةِ وَانِيَا

([73])سُورَةُ الرَّحمَنِ، الآيَةُ: 37.

([74])سُورَةُ البَقَرَةِ، الآيَةُ: 198، وَقد ادَّعَى قَومٌ أنَّ الكَافَ في هذه الآيَةِ الكَرِيمَةِ لِلتَّشبِيهِ، وأنَّ المَقصُودَ بقَولِهِ سُبحَانَهُ: {وَاذْكُرُوهُ} طَلَبُ الهِدَايَةِ، فوَضَعَ الخَاصَّ – وهو طَلَبُ الذِّكْرِ – مَوضِعَ العَامِّ الذي هو طَلَبُ الهِدَايَةِ، وكأنَّهُ قيلَ: فَاهْتَدُوا هِدَايَةً مُمَاثِلَةً لِهِدَايَتِهِ إيَّاكُم.

([75])سَيَأْتِي للمُؤَلِّفِ في فَصلٍ يَعقِدُهُ آخِرَ هذا البابِ للكَلامِ على حَذفِ حَرفِ الجَرِّ أن يَذكُرَ أنَّ رُؤْبَةَ سُئِلَ: كَيفَ أَصبَحْتَ، فأَجَابَ (خَيرٌ والحَمدُ للَّهِ)، بحَذفِ حَرفِ الجَرِّ وبَقَاءِ الاسمِ مَجرُوراً، وقد ذَهَبَ قَومٌ إلى أنَّ الكافَ في هذا الكَلامِ للتَّشبِيهِ، وأنَّ الكَلامَ على حَذفِ مُضَافٍ، وكأنَّهُ قالَ: كصَاحِبِ خَيرٍ.

([76]) وعلى كَونِ الكافِ بمَعنَى على تكُونُ ما مَوصُولَةً في مَحَلِّ جَرٍّ بالكافِ التي بِمَعنَى على، وأنت: مُبتَدَأٌ، وخَبَرُهُ مَحذُوفٌ، والجُملَةُ مِنَ المُبتَدَأِ وخَبَرِه لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ صِلَةٌ، وتَقديرُ الكلامِ: كُنْ علَى الحَالِ الذي أَنتَ علَيهِ، ويَجُوزُ أن تَكُونَ (ما) زَائِدَةً مُلغَاةً، وأنت: ضَمِيرٌ مَرفُوعٌ أُقِيمَ مُقَامَ الضَّمِيرِ المَجرُورِ، وهو في مَحَلِّ جَرٍّ بالكَافِ، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بمَحذُوفٍ خَبرُ كُنْ، وكأنَّهُ قالَ: كُنْ كَأَنت. أي: كُنْ فيمَا يُستَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ مُمَاثِلاً لِنَفسِكِ فيمَا مَضَى مِنهُ؛ أي: استَمِرَّ علَى ما عُرِفَ عنكَ. وفيهِ أَعَارِيبُ أُخرَى نَكتَفِي منها بهذينِ.

([77])سُورَةُ الشُّورَى، الآيَةُ: 11.

([78])وقد زَادَ النُّحَاةُ على ما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ مِن معَانِي الكَافِ المُبَادَرَةَ، وذلك إذا اتَّصَلَت بمَا، ومثَّلُوا له بقَولِهِم: (سَلِّمْ كَمَا تَدخُلُ)، وقَولِهِم: (صَلِّ كمَا يَدْخُلُ الوَقتُ)، ومِمَّن ذَكَرَ هذا المَعنَى أَبُو سَعِيدٍ السِّيرَافِيُّ وابنُ الخَبَّازِ والمُؤَلِّفُ في (المُغْنِي).

([79])سُورَةُ الإِسرَاءِ، الآيَةُ: 1.

([80])سُورَةُ البَقَرَةِ، الآيَةُ: 187.

([81])سُورَةُ القَدْرِ، الآيَةُ: 5.

([82])مِن غَرِيبِ ما ذَكَرَ النُّحَاةُ – ومِنهُم المُؤَلِّفُ في (المُغنِي) – أنَّ (إلى) تَجيءُ بمَعنَى الفَاءِ – وهو التَّرتِيبُ – واستَشْهَدَ على ذلك بقَولِ الشَّاعِرِ:
وَأَنْتِ الَّتِي حَبَّبْتِ شَغْباً إِلَى بَدَا = إِلَيَّ وَأَوْطَانِي بِلادٌ سِوَاهُمَا
شَغْباً وبَدَا: مَوضِعَانِ، قالُوا: أرادَ: أَنتِ حَبَّبْتِ شَغْباً فبَدَا، ويَدُلُّ على أنَّهُ أرادَ التَّرتِيبَ الذي تَدُلُّ عليهِ فَاءُ العَطفِ أنَّهُ يَقُولُ بعدَ هذا البَيتِ:
حَلَلْتُ بِهَذَا حَلَّةً بعدَ حَلَّةٍ = بِهَذَا فَطَابَ الوَادِيَانِ كِلاهُمَا
فإلَى في قَولِه: (إِلَى بَدَا) دَالَّةٌ على التَّرتِيبِ، وإلى في قَولِهِ: (إِلِيَّ) لِوَصلِ حَبَّبْتِ بيَاءِ المُتَكَلِّمِ، فَالحَرْفَانِ – وإن كانَا بِلَفظٍ وَاحِدٍ – مُختَلِفَانِ في المَعنَى، وبهذا قد يُعتَذَرُ عمَّا قَد يُقَالُ: إنَّ حَرْفَ الجَرِّ لا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ مَرَّتَينِ؛ لأنَّ مَحَلَّ المَنْعِ مِن تَعَلُّقِ الحَرفِ الوَاحِدِ بالفِعْلِ الوَاحِدِ مَرَّتَينِ فيمَا إذَا اتَّحَدَ المَعنَى في المَرَّتَينِ، أمَّا إذا اختَلَفَ المَعنَى كما هُنَا، فكَأَنَّهُ – بِسَبَبِ اختِلافِ المَعنَى – حَرفَانِ – ولا مَانِعَ مِن تَعَلُّقِ حَرفَي جَرٍّ مُختَلِفَيِ المَعنَى بفِعلٍ وَاحِدٍ.
وقد خَرَّجَ قَومٌ البَيتَ علَى أنَّ (إلَى) مُتَعَلِّقٌ بمَحذُوفٍ يَقَعُ حَالاً مِن (شَغْبَا) والتَّقدِيرُ: وأنت التي حَبَّبْتِ شَغْباً مُضَافاً إلى بَدَا، وهذا هو التَّضمِينُ في أَحَدِ صُوَرِهِ.
وخَرَّجَهُ جَمَاعَةٌ آخَرُونَ على أنَّ (إلى) بمَعنَى معَ؛ أي: حَبَّبْتِ شَغْباً معَ بَدَا.

([83])300-هذا الشَّاهِدُ مِنْ كَلامِ زُهَيرِ بنِ أَبِي سُلْمَى المُزْنِيِّ، وقد تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في تَعلِيقَاتِنَا أَوَّلَ هذا البَابِ برِوَايَةِ الكُوفِيِّينَ (ص21)، ويُقَالُ: هُوَ مَوضُوعٌ، ومَا ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ عَجُزُ بَيتٍ مِنَ الكَامِلِ، وصَدْرُهُ قَولُهُ:
*لِمَنِ الدِّيَارُ بِقُنَّةِ الحِجْرِ*
اللُّغَةُ: (قُنَّةِ) – بِضَمِّ القَافِ وتَشدِيدِ النُّونِ – هي أَعلَى الجَبَلِ، و(الحِجْرِ) - بكَسرِ الحَاءِ المُهمَلَةِ وسُكُونِ الجِيمِ – منَازِلُ ثَمُودَ بِنَاحِيَةِ الشَّامِ عندَ وَادِي القُرَى، و(أَقْوَيْنَ)؛ أي: خَلَوْنَ مِنَ السُّكَّانِ، و(حِجَجٍ) جَمعُ حِجَّةٍ – بِكَسرِ الحَاءِ المُهمَلَةِ فِيهِمَا – وهِيَ السَّنَةُ.
الإعرابُ: (لِمَن) اللامُ حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ علَى الكَسرِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرابِ، ومَنْ: اسمُ استِفهَامٍ مَبنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ باللاَّمِ، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بمَحذُوفٍ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، (الدِّيَارُ) مُبتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، (بِقُنَّةِ) جَارٌّ ومَجرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بمَحذُوفٍ حَالٌ مِنَ الدِّيَارِ، أو صِفَةٌ لهُ إِن اعتَبَرْتَهُ مُحَلًّى بِأَل الجِنسِيَّةِ وجَعَلْتَهُ كَالنَّكِرَةِ، وقُنَّةٌ مُضَافٌ و(الحِجْرِ) مُضَافٌ إِلَيهِ مَجرُورٌ بِالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ، (أَقْوَيْنَ) أَقْوَى: فِعلٌ مَاضٍ مَبنِيٌّ علَى فَتحٍ مُقَدَّرٍ على آخِرِهِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرابِ، ونُونُ النِّسْوَةِ فَاعِلُهُ مَبنِيٌّ على الفَتحِ في مَحَلِّ رَفْعٍ، (مُذْ) حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرَابِ، (حِجَجٍ) مَجرُورٌ بِمُذْ، وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسرَةُ الظَّاهِرَةُ، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِأَقْوَى، (ومُذْ) الوَاوُ حَرفُ عَطفٍ مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإِعرَابِ، مُذْ: حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإِعرَابِ، (دَهْرِ) مَجرُورٌ بِمُذْ، والجَارُّ والمَجرُورُ مَعطُوفٌ بالوَاوِ على الجَارِّ والمَجرُورِ السَّابِقِ وهو قَولُهُ: مُذْ حِجَجٍ.
الشَّاهِدُ فيه: قَولُهُ: (مُذْ حِجَجٍ)، وقَولُهُ: (مُذْ دَهْرِ) فَإِنَّ الحِجَجَ جَمعُ حِجَّةٍ، وهِيَ السَّنَةُ وهو اسمُ زَمَانٍ، وكذلك الدَّهْرُ اسمُ زَمَانٍ، وقَد جَرَّهُمَا بِمُذْ، ومُذْ هنا لابتِدَاءِ الغَايَةِ الزَّمَانِيَّةِ؛ لِكَونِ الزَّمَنِ المَجرُورِ بِهِمَا مَاضِياً، وقَدْ ذَكَرْنَا لكَ فِي المَوضِعِ الذي أَحَلْنَاكَ علَيهِ أنَّ الكُوفِيِّينَ يَرْوُونَ (مِنْ حِجَجٍ ومِنْ دَهْرِ) ويَستَدِلُّونَ بالبَيتِ علَى أنَّ (مِن) تَأتِي لابتِدَاءِ الغَايَةِ الزَّمَانِيَّةِ، وأنَّ البَصْرِيِّينَ يُنكِرُونَ ذلكَ، ثُمَّ مِنهُم مَن يُنكِرُ ثُبُوتَهُ بَتَّةً، ومِنهُم مَن يُنكِرُ هذه الرِّوَايَةَ التي رَواهَا الكُوفِيُّونَ، ويَذْكُرُ أنَّ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ (مُذْ حِجَجٍ ومُذْ دَهْرِ) كمَا رَوَاهَا المُؤَلِّفُ هنَا.

([84])301-هذا الشَّاهِدُ مِن كلامِ امْرِئِ القَيسِ بنِ حُجْرٍ الكِنْدِيِّ، وما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ ههُنَا عَجُزُ بَيتٍ مِنَ الطَّوِيلِ، وصَدرُهُ قَولُهُ:
*قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَعِرْفَانِ*
اللُّغَةُ: (قِفَا نَبْكِ) قَدْ وَرَدَ هذا المَطْلَعُ في طَوِيلَةِ امْرِئِ القَيْسِ اللاَّمِيَّةِ المُعَلَّقَةِ، وذَلِكَ قَولُهُ:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ = بِسِقْطِ اللِّوَى بَينَ الدَّخُولِ فَحَومَلِ
(وَرَبْعٍ) الرَّبْعُ – بفَتْحٍ فَسُكُونٍ – المَنزِلُ والدَّارُ، ويُرْوَى (ورَسْمٍ عَفَتْ آثَارُهُ) والرَّسْمُ – بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيضاً – ما بَقِيَ مِن آثَارِ الدِّيَارِ لاصِقاً بِالأَرْضِ، وعَفَتْ: دَرَسَتْ وانمَحَتْ معَالِمُهَا، والآثَارُ: جَمعُ أَثَرٍ، ويُرْوَى (عَفَتْ آيَاتُهُ) والآيَاتُ: جَمعُ آيَةٍ، وهي العَلامَةُ التي يُستَدَلُّ بها على مَوضِعِ نُزُولِ القَومِ، (أَزْمَانِ) جَمعُ زَمَنٍ – بِفَتْحِ الزَّايِ والمِيمِ جَمِيعاً – وهو الوَقتُ.
الإعرابُ: (قِفَا) فِعلُ أَمْرٍ، وأَلِفُ الاثنَينِ فَاعِلُه، ويُقَالُ: الأَلِفُ مُنقَلِبَةٌ عَن نُونِ التَّوكِيدِ الخَفِيفَةِ، وعامَلَ الشَّاعِرُ حالَ الوَصلِ كحَالِ الوَقفِ، (نَبْكِ) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجزُومٌ في جَوَابِ الأمْرِ، وعَلامَةُ جَزْمِهِ حَذفُ اليَاءِ، والكَسرَةُ قَبلَهَا دَلِيلٌ عَلَيهَا، وفَاعِلُه ضَمِيرٌ مُستَتِرٌ فيه وُجُوباً تقدِيرُهُ نحن، (مِنْ ذِكْرَى) جَارٌّ ومَجرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بنَبْكِ، وذِكْرَى مُضَافٌ و(حَبِيبٍ) مُضَافٌ إليه مَجرُورٌ بِالكَسْرَةِ الظَّاهِرَةِ، (وَعِرْفَانِ) الوَاو حَرفُ عَطْفٍ، عِرفَانِ: مَعطُوفٌ علَى حَبِيبٍ، (وَرَبْعٍ) الواوُ حَرفُ عَطفٍ، رَبْعٍ: مَعطُوفٌ على حَبِيبٍ أيضاً، (عَفَتْ) عَفَى: فِعلٌ مَاضٍ مَبنِيٌّ علَى فَتْحٍ مُقَدَّرٍ على الأَلِفِ المَحذُوفَةِ للتَّخَلُّصِ مِن التِقَاءِ السَّاكِنَينِ، مَنَعَ مِن ظُهُورِهِ التَّعَذُّرُ، والتَّاءُ للتَّأْنِيثِ، (آثَارُهُ) آثَارُ فَاعِلُ عَفَت مَرفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وآثَارُ مُضَافٌ وضَمِيرُ الغَائِبِ العَائِدِ علَى الرَّبْعِ مُضَافٌ إلَيهِ، (مُنذُ) حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ على الضَّمِّ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرابِ، (أَزْمَانِ) مَجرُورٌ بمُنذُ، وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسرَةُ الظَّاهِرَةُ، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بعَفَت.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَولُهُ: (مُنذُ أَزمَانِ) حيثُ دَخَلَت (مُنذُ) على لَفظٍ دَالٍّ على الزَّمَانِ، والمُرَادُ بهِ الزَّمَانُ المَاضِي، فدَلَّت على ابتِدَاءِ الغَايَةِ الزَّمَانِيَّةِ، وهو دَلِيلٌ للكُوفِيِّينَ على أنَّ (مُنذُ) قد تَكُونُ لابتِدَاءِ الغَايَةِ الزَّمَانِيَّةِ.

([85])أَرادَ المُؤَلِّفُ بهذه العِبَارَةِ الرَّدَّ على فَرِيقَينِ، أَحَدُهُمَا زَعَمَ أنَّهَا للتَّقلِيلِ دَائِماً؛ وهُم أَكثَرُ النُّحَاةِ، وثَانِيهِمَا زَعَمَ أنَّها لِلتَّكثِيرِ دَائِماً، وهم ابنُ دَرَسْتَوَيْه وجَمَاعَةٌ وَافَقُوهُ على ذلك.

([86])وحَمَلَ العُلَمَاءُ على هذا المَعنَى قَولَهُ تَعَالَى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}، ووَجهُ الدِّلالَةِ مِنَ الآيَةِ الكَرِيمَةِ ومِن الحَديثِ على أنَّ (رُبَّ) فيهِمَا للتَّكثِيرِ، وليسَت للتَّقلِيلِ أنَّ كُلاًّ مِنهُمَا مَسُوقٌ للتَّخوِيفِ، ولا يُنَاسِبُ التَّخوِيفَ أن يَكُونَ القَلِيلُ هو وِدَادَتَهِم أن يَكُونُوا مُسلِمِينَ، ولا أن يَكُونَ القَلِيلُ هو أن يُعَرَّى في الآخِرَةِ مَن كَانَ كَاسِياً في الدُّنيَا.
ومِن مَجِيئِهَا للتَّكثِيرِ أيضاً قَولُ امْرِئِ القَيسِ:
أَيَا رُبَّ يَومٍ قَدْ لَهَوْتُ وَلَيْلَةٍ = بِآنِسَةٍ كَأَنَّهَا خَطُّ تِمثَالِ
وذلك لأنَّهُ يَفتَخِرُ بهذا اللَّهوِ، ولا يَتَنَاسَبُ معَ مقَامِ الفَخرِ أن يَكُونَ مُرَادُهُ حُصُولَ ذلك قَلِيلاً.

([87])302- نَسَبُوا هذا الشَّاهِدَ إلى رَجُلٍ مِن أَزْدِ السُّرَاةِ, ولَم يَزِيدُوا في التَّعرِيفِ به عَن ذلك المِقدَارِ، وذَكَرَ الفَارِسِيُّ أنَّ هذا الشَّاهِدَ لرَجُلٍ اسمُهُ عَمرٌو الجَنْبِيُّ، وأنَّ مِن حَدِيثِهِ أنَّهُ لَقِيَ امْرَأَ القَيْسِ بنَ حُجْرٍ في بَعضِ الفَلَوَاتِ، فسَأَلَهُ بهذا البَيتِ على سَبِيلِ المُعَايَاةِ.
وبعدَ هذا البَيتِ قَولُهُ:
وَذِي شَامَةٍ غَرَّاءَ فِي حُرِّ وَجهِهِ = مُجَلَّلَةٍ لا تَنْقَضِي لأَوَانِ
وَيَكْمُلُ فِي خَمْسٍ وَتِسْعٍ شَبَابُهُ = ويَهْرَمُ في سَبْعٍ مَعاً وثَمَانِ
اللُّغَةُ: (أَلا رُبَّ مَولُودٍ – البَيتَ) أَرَادَ بالمَولُودِ الذي لَيسَ لهُ أَبٌ عِيسَى ابنَ مَرْيَمَ رُوحَ اللَّهِ وكَلِمَتَهُ التي أَلقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، عَلَيهِ السَّلامُ! ويُرْوَى (عَجِبْتُ لِمَولُودٍ وَلَيسَ لَهُ أَبٌ) وأَرَادَ بذِي الوَلَدِ الذي لم يَلِدْهُ أَبَوَانِ آدَمَ أَبَا البَشَرِ علَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فإنَّهُ خُلِقَ مِن تُرَابٍ ولَم يُخْلَقْ مِن أَبَوَينِ، وقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وقِيلَ: أَرَادَ به القَوسَ؛ لأنَّهَا تُؤخَذُ مِن شَجَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَاحِدَةٍ، وقِيلَ: أَرَادَ البَيْضَةَ، وقَولُهُ: (لَمْ يَلْدَهُ) هو هنا بِفَتحِ يَاءِ المُضَارَعَةِ وسُكُونِ اللاَّمِ التي هِيَ عَينُ الكَلِمَةِ وأَصلُها الكَسْرُ.
وقد اعتَبَرَ (يَلِدُ) اعتِبَارَ كَتِفٍ وفَخِذٍ ونَحوِهِمَا مِن كُلِّ كَلِمَةٍ ثُلاثِيَّةٍ ثَانِيها مَكسُورٌ، فإنَّهُ يَجُوزُ إِسكَانُ هذا الثَّانِي للتَّخفِيفِ، (وَذِي شَامَةٍ غَرَّاءَ فِي حُرِّ وَجهِهِ – البيتَ)، أَرَادَ بذِي الشَّامَةِ القَمَرَ, وأَرَادَ بِكَمَالِ شَبَابِهِ فِي خَمْسٍ وتِسْعٍ – وذلك أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيلَةً – صَيرُورَتَهُ بَدراً؛ لأنَّهُ في ذَلِكَ الوَقتِ في غَايَةِ البَهَاءِ والنُّورِ كما أنَّ الشَّابَّ في غَايَةِ القُوَّةِ وحُسنِ المَنظَرِ وعُنفُوَانِ الشَّبَابِ، وأَرَادَ بِهِرَمِهِ ذَهَابَ نُورِهِ، ونُقصَانَ ذَاتِه في لَيلَةِ التَّاسِعِ والعِشرِينَ.
والغَرَّاءُ: أُنثَى الأَغَرِّ، وهي البَيضَاءُ، وحُرُّ الوَجهِ – بِضَمِّ الحَاءِ وتَشدِيدِ الرَّاءِ – ما بَدَا مِنَ الوَجْنَةِ، والمُجَلَّلَةُ: المُغَطَّاةُ، اسمُ مَفعُولٍ مِن التَّجْلِيلِ، وهو التَّغطِيَةُ، ومَعنَى قَولِهِ: (لا تَنْقَضِي لأَوَانِ) أنَّهُ ليسَ لها أَوَانٌ تَنقَضِي فيهِ، والمَقصُودُ أنَّهَا لا تَذْهَبُ في وَقْتٍ مِنَ الأَوْقَاتِ.
الإِعرَابُ: (ألا) حَرفٌ دَالٌّ على التَّنبِيهِ، مَبنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرَابِ، (رُبَّ) حَرفُ تَقلِيلٍ وجَرٍّ شَبِيهٌ بِالزَّائِدِ, مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرابِ.
(مَولُودٍ) مُبتَدَأٌ مَرفُوعٌ بِضَمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ على آخِرِهِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهَا اشتِغَالُ المَحَلِّ بحَرَكَةِ حَرفِ الجَرِّ الشَّبِيهِ بِالزَّائِدِ، (وَلَيسَ) الوَاوُ حَرفٌ زَائِدٌ لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ الصِّفَةِ بالمَوصُوفِ مبنِي على الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرابِ, ليسَ: فِعلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ مَبنِيٌّ على الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرابِ، (لهُ) اللاَّمُ حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ على الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرَابِ، وضَمِيرُ الغَيْبَةِ العَائِدُ علَى المَولُودِ مَبنِيٌّ على الضَّمِّ في مَحَلِّ جَرٍّ باللاَّمِ، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بمَحذُوفٍ خَبَرُ لَيسَ تَقَدَّمَ على اسمِهَا، (أَبٌ) اسمُ ليسَ تَأَخَّرَ عَن خَبَرِهَا مَرفُوعٌ وعَلامَةُ رَفعِهِ ضَمَّةٌ ظَاهِرَةٌ في آخِرِه، والجُملَةُ مِن (لَيسَ) واسمِهَا وخَبَرِهَا في مَحَلِّ رَفعٍ أو جَرٍّ صِفَةٌ لمَولُودٍ.
فإِنْ جَعَلْتَ الجُملَةَ في مَحَلِّ جَرٍّ كُنتَ قَد أَتْبَعْتَ لَفظَ المَوصُوفِ، وإِنْ جَعَلْتَ الجُملَةَ في مَحَلِّ رَفعٍ كُنتَ قَد أَتْبَعْتَ مَحَلَّ المَوصُوفِ، وخَبَرُ المُبتَدَأِ الذي هو مَجرُورٌ لَفظاً بِرُبَّ مَحذُوفٌ، وتَقدِيرُ الكَلامِ: ألا رُبَّ مَولُودٍ مَوصُوفٍ بِكَونِهِ لا أَبَ لَهُ مَوجُودٌ، (وَذِي) الوَاوُ حَرفُ عَطفٍ مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرَابِ، ذِي: مَعطُوفٌ علَى مَولُودٍ مَجرُورٌ باليَاءِ نِيَابَةً عَن الكَسرَةِ؛ لأنَّهُ مِن الأَسْمَاءِ السِّتَّةِ, وهو مُضَافٌ و(وَلَدٍ) مُضَافٌ إِلَيهِ مَجرُورٌ بالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ، (لَمْ) حَرْفُ نَفْيٍ وجَزْمٍ وقَلْبٍ، مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرابِ، (يَلِدْهُ) يَلِدْ: مَجزُومٌ بِلَمْ، وعَلامَةُ جَزْمِهِ سُكُونٌ مُقَدَّرٌ علَى آخِرِهِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهِ اشتِغَالُ المَحَلِّ بِالحَرَكَةِ المَأْتِي بِهَا للتَّخَلُّصِ مِن التِقَاءِ السَّاكِنَينِ العَارِضِ بِسَبَبِ التَّخفِيفِ, وضَمِيرُ الغَائِبِ العَائِدُ على ذِي الوَلَدِ مَفعُولٌ بهِ لِيَلِدْ مَبنِيٌّ علَى الضَّمِّ في مَحَلِّ نَصبٍ، (أَبَوَانِ) فَاعِلُ يَلِدْ مَرفُوعٌ بالأَلِفِ نِيَابَةً عَن الضَّمَّةِ؛ لأنَّهُ مُثَنًّى، والنُّونُ عِوَضٌ عَن التَّنوِينِ في الاسمِ المُفرَدِ، وجُملَةُ يَلِد وفَاعِلِهِ ومَفعُولِهِ في مَحَلِّ جَرٍّ صِفَةٌ لذِي وَلَدٍ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَولُهُ: (رُبَّ مَولُودٍ) فإنَّ (رُبَّ) فيهِ دَالَّةٌ على التَّقلِيلِ، ألا تَرَى أنَّ المَولُودَ الذي لَيسَ لهُ أَبٌ قَلِيلٌ جِدّاً، حتَّى إِنَّهُ لَم يُوجَدْ مِنهُ إِلا فَردٌ وَاحِدٌ، وهو عِيسَى علَيهِ السَّلامُ! وكَذلِكَ ذُو الوَلَدِ الذِي لَمْ يُولَدْ مِن أَبَوَينِ بِهَذِهِ المَثَابَةِ، ولَم يُوجَدْ مِنهُ غَيرُ آدَمَ علَيهِ السَّلامُ!


والأَربَعَةَ عَشَرَ البَاقِيَةُ قِسمَانِ:
(1) سَبعَةٌ تَجُرُّ الظَّاهِرَ والمُضمَرِ، وهِيَ: مِنْ، وإِلَى، وعَنْ، وعَلَى، وفِي، والبَاءُ، واللاَّمُ؛ نحوَ: {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ}([1]). {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُم}([2]). {إِلَيهِ مَرْجِعُكُمْ}([3]). {طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ}([4]). {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ}([5]). {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفُلْكِ تُحْمَلُونَ}([6]). {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ}([7]).{وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ}([8]). {آمِنُوا بِاللَّهِ}([9]). {وَآمِنُوا بِهِ}([10]). {للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ}([11]). {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ}([12]).
(2) وَسَبْعَةٌ تَختَصُّ بِالظَّاهِرِ، وتَنقَسِمُ أَربَعَةَ أَقسامٍ:
مَا لا يَختَصُّ بظَاهِرٍ بعَينِهِ، وهو: حَتَّى، والكافُ، والواوُ، وقد تَدخُلُ الكَافُ في الضَّرُورَةِ على الضَّمِيرِ، كقولِ العَجَّاجِ:
291- وأُمَّ أَوعَالٍ كَهَا أَوْ أَقْرَبَا([13])
وقَولِ الآخَرِ:
292- كَهُ ولا كَهُنَّ إلاَّ حَاظِلاَ([14])
ومَا يَختَصُّ بالزَّمَانِ، وهُوَ: مُذْ، ومُنْذُ، فأَمَّا قَولُهُم: (مَا رَأَيْتُهُ مُذْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ) فتَقدِيرُهُ: مُذْ زَمَنِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ، أي: مُذْ زَمَنِ خَلْقِ اللَّهِ إِيَّاهُ.
ومَا يَختَصُّ بالنَّكِرَاتِ، وهُوَ رُبَّ، وقد تَدخُلُ في الكلامِ على ضَمِيرِ غَيْبَةٍ مُلازِمٍ للإفرَادِ والتَّذكِيرِ، والتَّفسِيرِ بتَميِيزٍ بَعدَهُ مُطَابِقٍ لِلمَعنَى، قالَ:
293- رُبَّهُ فِتْيَةً دَعَوْتُ إِلَى مَا([15])
ومَا يَختَصُّ باللَّهِ ورَبِّ مُضَافاً لِلكَعبَةِ أو ليَاءِ المُتَكَلِّمِ، وهُوَ التَّاءُ نَحوَ: {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ}([16]) و(تَرَبِّ الكَعبَةِ) و(تَرَبِّي لأَفعَلَنَّ)، ونَدَرَ (تَالرَّحمَنِ) و(تَحَيَاتِكَ).

([1]) سُورَةُ الأحزَابِ، الآيَةُ: 7.

([2])سُورَةُ المَائِدَةِ، الآيَةُ 48.

([3]) سُورَةُ يُونُسَ، الآيَةُ: 4.

([4]) سُورَةُ الانشقَاقِ، الآيَةُ: 19.

([5]) سُورَةُ البَيِّنَةِ, الآيَةُ: 8.

([6]) سُورَةُ المُؤمِنُونَ، الآيَةُ: 22.

([7]) سُورَةُ الذَّارِيَاتِ، الآيَةُ: 20.

([8]) سُورَةُ الزُّخرُفِ، الآيَةُ: 71.

([9]) سُورَةُ الحَدِيدِ، الآيَةُ: 7.

([10]) سُورَةُ الأحقَافِ، الآيَةُ: 31.

([11]) سُورَةُ البَقَرَةِ، الآيَةُ: 284.

([12]) سُورَةُ البَقَرَةِ، الآيَةُ: 255.

([13])291-هذا بيتٌ مِن الرَّجَزِ المَشطُورِ، وهو كما ذَكَرَ المُؤَلِّفُ لِلعَجَّاجِ بنِ رُؤبَةَ، وقبلَ هذا البيتِ قَولُه:
*خَلَّى الذَّنَابَاتِ شَمَالاً كَثَبَا*
اللُّغَةُ: الضَّمِيرُ المُستَتِرُ في (خَلَّى) يَعُودُ على حِمَارٍ وِحشَيٍّ وَصَفَ الرَّاجِزُ أَنَّهُ أرادَ أن يَرِدَ الماءَ فرَأَى صَيَّاداً ففَرَّ مِنهُ، و(الذَّنَابَاتِ) اسمُ مَوضِعٍ بِعَينِهِ، و(أُمَّ أَوعَالٍ) هَضَبَةٌ مَعرُوفَةٌ (شَمَالاً) أَرَادَ نَاحِيَةَ الشَّمَالِ، وقَولُهُ: (كَثَبَا) – بفَتحِ الكَافِ والثَّاءِ جَمِيعاً – أي: قَرِيباً، (كها) يُرِيدُ مِثلَ الذَّنَابَاتِ في البُعدِ، فالكَافُ لِلتَّشبِيهِ، والضَّمِيرُ يعودُ إلى الذَّنَابَاتِ.
الإعرابُ: (خَلَّى) فِعلٌ مَاضٍ مَبنِيٌّ علَى فَتحٍ مُقَدَّرٍ على الألِفِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهِ التَّعَذُّرُ، لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُستَتِرٌ فيه جوَازاً تَقدِيرُهُ هو، يَعُودُ إلى حِمَارِ الوَحشِ المَوصُوفِ بهذه الأبياتِ.
(الذَّنَابَاتِ) مَفعُولٌ به لِخَلَّى مَنصُوبٌ بِالكَسرَةِ نِيَابَةً عَن الفَتحَةِ لأنَّهُ جَمعُ مُؤَنَّثٍ سَالِمٌ، (شَمَالاً) ظَرفُ مَكَانٍ، عَامِلُهُ خَلَّى مَنصُوبٌ بِالفَتحَةِ الظَّاهِرَةِ (كَثَبَا) صِفَةٌ لِشَمَالا مَنصُوبٌ بالفَتحَةِ الظَّاهِرَةِ، (وأُمَّ) الوَاوُ حَرفُ عَطفٍ مَبنِيٌّ على الفَتحِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرابِ، أُمَّ: مَعطُوفٌ على الذَّنَابَاتِ،وهُوَ مُضَافٌ و(أَوعَالٍ) مُضَافٌ إليه مَجرُورٌ بِالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ، (كها) الكَافُ حَرفُ تَشبِيهٍ وجَرٍّ مَبنِيٌّ على الفَتحِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرَابِ، وها: ضَمِيرُ غَيبَةٍ يعودُ إلى الذَّنَابَاتِ، مَبنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ بالكافِ، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بمَحذُوفٍ، حَالٌ مِن (أُمَّ أَوعَالٍ)، ومِن العُلَمَاءِ مَن رَوَاهُ بِرَفعِ (أُمَّ) علَى أنَّهُ مُبتَدَأٌ، و(أَوعَالَ) مُضَافٌ إليه، وعلَيهِ يكونُ الجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقاً بمَحذُوفٍ خَبَرُ المُبتَدَأِ.
(أو) حَرفُ عَطفٍ مَبنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، (أَقْرَبَ) مَعطُوفٌ على الضَّمِيرِ المَجرُورِ مَحَلاًّ بالكَافِ، إِن رَوَيْتَ (أُمُّ أَوعَالٍ) بِالرَّفعِ مُبتَدَأٌ، وجَعَلْتَ الجَارَّ والمَجرُورَ خَبَراً، وهو حينئذٍ مَجرُورٌ بالفَتحَةِ نِيَابَةً عن الكَسرَةِ؛ لأنَّهُ لا يَنصَرِفُ للوَصفِيَّةِ ووزنِ الفِعلِ، ومَعطُوفٌ على مَحَلِّ الجَارِّ والمَجرُورِ إن رَوَيْتَ بِنَصبِ (أُمَّ أَوعَالٍ)، وجَعَلْتَ الجَارَّ والمَجرورَ حَالاً، وهو على ذلك مَنصُوبٌ وعلامَةُ نَصبِهِ الفَتحَةُ الظَّاهِرَةُ.
الشَّاهِدُ فيه: قَولُهُ: (كها) حيثُ جَرَّتِ الكَافُ الضَّمِيرَ المُتَّصِلَ، ومِن شَأنِ الكافِ ألاَّ تَجُرَّ إلا الاسمَ الظَّاهِرَ بِاتِّفَاقٍ، أو الضَّمِيرَ المُنفَصِلَ عِندَ جَمَاعَةٍ مِن النُّحَاةِ، والذي وَقَعَ في هذا البيتِ ضَرُورَةٌ مِن ضَرُورَاتِ الشِّعرِ لا يَجُوزُ لِلمُتَكَلِّمِ أن يَرتَكِبَهَا.
قالَ الأعلَمُ في شَرحِ الشَّاهِدِ الذي نَحنُ بِصَدَدِه: (الشَّاهِدُ فيه إِدخالُ الكَافِ على المُضمَرِ تَشبِيهاً لها بـ(مِثل)؛ لأنَّها في مَعنَاها، واستُعمِلَ ذلك عندَ الضَّرُورَةِ) اهـ.
وقالَ النَّحَّاسُ: (هذا عندَ سِيبَوَيْهِ قَبِيحٌ، والعِلَّةُ له أنَّ الإضمارَ يَرُدُّ الشيءَ إلى أَصلِهِ، فالكَافُ في مَوضِعِ (مِثل)، فإذا أَضمَرْتَ ما بعدها وَجَبَ أن تَأتِي بـ(مثل)، وأَبُو العَبَّاسِ – فيما حكَاهُ لنا عَلِيُّ بنُ سُلَيمَانَ – يُجِيزُ الإضمارَ في هذا على القِيَاسِ؛ لأنَّ المُضمَرَ عَقِيبَ المُظهَرِ، وقد نَطَقَت به العربُ، وقد أجازَ بعضُ النَّحْوِيِّينَ: أَنا كأنت، وأنا كإياك. ورَدَّ أَبُو العَبَّاسِ ذلك)اهـ.
ومِن دُخُولِ الكَافِ على الضَّمِيرِ المُتَّصِلِ لِلضَّرُورَةِ – سوى ما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ – قَولُ أَبِي مُحَمَّدٍ اليَزِيدِيِّ اللُّغَوِيِّ النَّحْوِيِّ مُؤَدِّبِ المَأمُونِ ابنِ أَمِيرِ المُؤمِنِينَ الرَّشِيدِ العَبَّاسِيِّ:
شَكَوْتُمْ إِلَينَا مَجَانِينَكُمْ = ونَشْكُو إِلَيكُمْ مَجَانِينَنَا
فَلَوْلا المُعَافَاةُ كُنَّا كَهُمْ = ولَولا البَلاءُ لكَانُوا كَنَا
وقَولُ الآخَرِ:
لا تَلُمْنِي فَإِنَّنِي كَكَ فِيهَا = إِنَّنَا في المَلامِ مُشتَرِكَانِ

([14])292-هذا الشَّاهِدُ مِن كلامِ رُؤبَةَ بنِ العَجَّاجِ يَصِفُ حِمَاراً وَحشِيّاً وأُتُناً وَحشِيَّاتٍ، وجعلَهُ بَعلَهُنَّ وهُنَّ حَلائِلُهُ، والبَعلُ: الزَّوجُ، والحَلائِلُ – بالحاءِ المُهمَلَةِ – جَمعُ حلِيلَةٍ، وهي الزَّوجَةُ، وقبلَ هذا الشَّاهِدِ قَولُهُ:
*فلا تَرَى بَعلاً ولا حَلائِلا*
الإعرابُ: (لا) حَرفُ نَفيٍ مَبنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، (تَرَى) فِعلٌ مُضَارِعٌ مَرفُوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِن النَّاصِبِ والجَازِمِ، وعَلامَةُ رَفعِهِ ضَمَّةٌ مُقَدَّرَةٌ على الألِفِ منَعَ مِن ظُهُورِهَا، التَّعَذُّرُ، وفَاعِلُه ضَمِيرٌ مُستَتِرٌ فيه وُجُوباً تقديرُه أنت.
(بَعلاً) مَفعُولٌ به لِتَرَى مَنصُوبٌ بالفَتحَةِ الظَّاهِرَةِ، (ولا) الواو حَرفُ عَطفٍ مَبنِيٌّ على الفَتحِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، لا: حَرفٌ مَزِيدٌ لتَأكيدِ النَّفي، (حَلائِلا) مَعطُوفٌ على قَولِه: بَعلاً، مَنصُوبٌ بالفَتحَةِ الظَّاهِرَةِ، والألِفُ لِلإطلاقِ، (كه) الكافُ حَرفُ تَشبِيهٍ وجَرٍّ مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، والهَاءُ ضَمِيرُ غَيبَةٍ يعودُ إلى الحِمَارِ الوَحشِيِّ المَوصُوفِ في هذه الأبْيَاتِ مَبنِيٌّ على الضَّمِّ في مَحَلِّ جَرٍّ بالكافِ، والجَارُّ والمَجرورُ مُتَعَلِّقٌ بمَحذُوفٍ صِفَةٌ لبَعلٍ.
(ولا) الواوُ حرفُ عَطفٍ، لا: حَرفٌ زَائِدٌ لتأكيدِ النَّفيِ، (كهُنَّ) جارٌّ ومَجرُورٌ مَعطُوفٌ على الجَارِّ والمجرورِ السَّابِقِ، (إلا) أَدَاةُ حَصرٍ، حَرفٌ مبنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، (حَاظِلا) حَالٌ مِن قَولِه: بَعلاً. السَّابِقِ المَوصُوفِ بالجارِّ والمجرورِ الأوَّلِ، وهذا الوَصفُ هو الذي سَوَّغَ مَجِيءَ الحَالِ منهُ؛ لأنَّهُ نَكِرَةٌ، هذا إن جَعَلْتَ (تَرَى) بَصَرِيَّةً تَكْتَفِي بمَفعُولٍ واحِدٍ، وهو الأظهَرُ، فإِن جَعَلْتَ (تَرَى) عِلْمِيَّةً، فقُولُه: (حَاظِلاَ) مَفعُولٌ ثَانٍ لِتَرَى مَنصُوبٌ، وعَلامَةُ نَصبِهِ الفَتحَةُ الظَّاهِرَةُ.
الشَّاهِدُ فيه: قَولُهُ: (كَهُ) وقَولُه: (كهُنَّ)؛ حيثُ جَرَّ الضَّمِيرَ في المَوضِعَينِ بالكافِ.

([15])293-لَمْ أَقِفْ لِهَذَا الشَّاهِدِ على نِسبَةٍ إلى قَائِلٍ مُعَيَّنٍ، وما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ ههنا صَدرُ بَيتٍ مِن الخَفِيفِ، وعَجُزُه قَولُهُ:
*يُورِثُ المَجدَ دَائِباً فأَجَابُوا*
اللُّغَةُ: (فِتْيَةً) – بِكَسرِ الفاءِ وسُكُونِ التَّاءِ – جَمعُ فَتًى، وتقولُ: هو فَتًى بينَ الفُتُوَّةِ، والفُتُوَّةُ: الحُرِّيَّةُ والكَرَمُ، (دَعَوتُ) أَرادَ: نَادَيتُ، والدُّعَاءُ والنِّدَاءُ بمعنًى وَاحدٍ، وانظُرْ إلى قولِ الشَّاعرِ:
وَدَاعٍ دَعَا يا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى = فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِندَ ذَاكَ مُجِيبُ
(يُورِثُ المَجدَ) المَجدُ: الكَرَمُ، ويُورِثُه؛ أي: يُكسِبُه ويُخْلِفُه، (دَائِبَا) يُرِيدُ مُدَاوِماً على دُعَائِهِم مُجتَهِداً فيه، وتقولُ: دَأَبَ الرَّجُلُ على عَمَلِهِ، ودَأَبَ فيه، إذا ثَابَرَ عليه واجتَهَدَ فيه.
الإعرابُ: (رُبَّهُ) رُبَّ: حَرفُ تَقليلٍ وجَرٍّ شَبِيهٌ بِالزَّائِدِ مبَنِيٌّ على الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرابِ، والهاءُ ضَمِيرُ غَيبَةٍ يعودُ إلى فِتيَةٍ المُمَيِّزِ له المُتَأَخِّرِ عنه مَبنِيٌّ على الضَمِّ، وله مَحَلاَّنِ؛ أَحَدُهُمَا، جَرٌّ برُبَّ، والثَّانِي؛ رَفعٌ بالابتداءِ، (فِتيَةً) تَميِيزٌ لضَميرِ الغَيبَةِ المَجرُورِ مَحَلاًّ برُبَّ مَنصُوبٌ بِالفتحةِ الظَّاهِرَةِ، (دَعَوتُ) دَعَا: فِعلٌ مَاضٍ مَبنِيٌّ على فَتحٍ مُقَدَّرٍ على آخِرِه لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرابِ، وتَاءُ المُتَكَلِّمِ فَاعِلُه مَبنِيٌّ على الضَمِّ في مَحَلِّ رَفعٍ، والجُملَةُ مِن الفعلِ وفَاعِلِه في مَحَلِّ نَصبٍ نَعتٌ لفِتيةٍ.
(إلى) حرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرابِ، (ما) اسمٌ مَوصولٌ مبنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ بإلى، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بدَعوتُ، (يُورِثُ) فِعلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتَجَرُّدِه مِن النَّاصِبِ والجَازِمِ، وعَلامَةُ رَفعِهِ الضَّمَّةُ الظَّاهِرَةُ، وفاعِلُه ضَمِيرٌ مُستَتِرٌ فيه جَوازاً تقديرُهُ هو يَعودُ إلى الاسمِ الموصولِ، (المَجدَ) مفعولٌ به ليُورِثُ مَنصوبٌ بِالفَتحَةِ الظَّاهِرَةِ، والجُملَةُ مِن الفعلِ المُضَارِعِ وفَاعِلِه ومَفعُولِه لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ صِلَةُ الموصولِ.
(دَائباً) حالٌ مِن ضَميرِ المُتَكَلِّمِ في قَولِهِ: دَعوتُ، مَنصُوبٌ بالفَتحَةِ الظَّاهِرَةِ، (فأَجَابُوا) الفَاءُ حَرفُ عَطفٍ مبنِيٌّ على الفَتحِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، أَجَابَ: فِعلٌ مَاضٍ مَبنِيٌّ على فَتحٍ مُقَدَّرٍ على آخرِهِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهِ اشتِغَالُ المَحَلِّ بِحَرَكَةِ المُنَاسَبَةِ لِوَاوِ الجماعَةِ، ووَاوُ الجَمَاعَةِ فَاعِلُه مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ في مَحَلِّ رَفعٍ، والجُملَةُ مَعطُوفَةٌ بالفاءِ على جُملَةِ دَعوتُ.
الشَّاهِدُ فيه: قَولُهُ (رُبَّهُ فِتْيَةً) حيثُ جَرَّت (رُبَّ) ضَمِيراً مُفرداً مُذَكَّراً معَ أنَّ مُفَسِّرَهُ جَمعٌ, فدَلَّ ذلك على أنَّهُ يَجِبُ إفرادُ الضَّمِيرِ وتَذكِيرُه مهما يَكُنْ مُفَسِّرُهُ، وإنَّمَا كانَ ذلك كذلك؛ لأنَّ هذا التَّميِيزَ لازِمٌ لا يَجُوزُ تَركُهُ، فتَرَكُوا بَيانَ المُرَادِ مِنَ الضَّمِيرِ للتَّميِيزِ.

([16])سُورَةُ الأنبِيَاءُ، الآيَةُ: 57.



  #4  
قديم 25 ذو الحجة 1429هـ/23-12-2008م, 09:04 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح ألفية ابن مالك للشيخ: علي بن محمد الأشموني


وهذا شروعٌ في ذِكْرِ معانِي هذه الحروفِ:
369 - بَعْضٌ وَبَيْنٌ ، وَابْتَدِئْ فِي الأمكِنَهْ = بِمِنْ وَقَدْ تَأْتِي لِبَدْءِ الأَزْمِنَهْ
370 - وَزِيدَ فِي نَفْيٍ وَشِبْهِهِ فَجَرَّ نَكِرَةً كَـ"مَا لِبَاغٍ مِنْ مَفَرٍّ"
(بعضُ وَبَيْنُ وَابْتَدِئْ فِي الأَمْكَنَه * بِمِنْ) أي: تأتي "مِنْ" لمعانٍ وجملتِها عشرةٌ اقتصرَ منها هنا على الخمسةِ الأَوَّلى:
الأَوَّل: التبعيضُ نحوَ: { حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } وعلامتُها: أنْ يصِحَّ أنْ يَخْلُفَها بعضٌ ولهذا قُرِئَ (بَعْضَ مَا تُحِبُّونَ).
الثاني: بيانُ الجنسِ نحوَ: { فَاجْتَنِبُوا الرجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ } وعلامتُها: أنْ يصِحَّ أنْ يخلُفَها اسمٌ موصولٌ.
الثالثِ : ابتداءُ الغايةِ في الأمكنةِ باتفاقٍ نحوَ: { مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأَقْصَى} (وَقَدْ تَأْتِي لِبَدْءِ) الغايةِ في (الأَزْمِنَةِ) أيضًا خلافًا لأكثرِ البصرييِّنَ نحوَ: { لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} وقولِه [ من الطويل]:
533 - تَخَيَّرْنَ مِنْ أَزْمَانِ يَوْمِ حَلِيمَةٍ = إِلَى اليوَمِ قَدْ جَرَّبْنَ كُلَّ التجَارِبِ
الرابعِ : التنصيصُ على العمومِ أو تأكيدُ التنصيصِ عليه وهي الزائدةُ ولها شرطانِ: أنْ يسبقَها نفيٌ أو شبهُهُ وهو النهيُ والاستفهامُ ، وأنْ يكونَ مجرورُها نكرةً وإلى ذلك الإشارةُ بقولِه: ( وَزِيدَ فِي نَفْيٍ وشبهِه فَجَرَّ * نكرةً) ولا تكونُ هذه النكرةُ إلا مبتدأً (كمَا لِبَاغٍ مِنْ مَفَرِّ) أو فاعلاً نحوَ: "لا يَقُمْ مِنْ أَحَدٍ" أو مفعولاً به نحوَ: {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } والتي لتنصيصِ العمومِ هي التي معَ النكرةِ لا تختصُّ بالنفيِ والتي لتأكيدِه هي التي مع نكرةِ تختصُّ به كأحدٍ ودَيَّارٍ ، وذهبَ الكوفيونَ إلى عدمِ اشتراطِ النفيِ وشبهِه وجعلُوها زائدةً في نحوِ قولِهم: "قد كانَ مِنْ مَطَرٍ" وذهبَ الأخفشُ إلى عدمِ اشتراطِ الشرطينِ معًا ، فأجازَ زيادتُها في الإيجابِ جارَّةً لمعرفةٍ وجعَلَ مِنْ ذلك قولَه تعالى: { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}
الخامسِ: أنْ تكونَ بمعنى "بَدَلَ" نحوَ: { أَرَضِيتُمْ بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخَرَةِ }؟ وقولُه [من الكامل]:
534 - أَخَذُوا المَخَاضَ مِنَ الفَصِيلِ غُلُبَّةً = ظُلْمًا وَيُكْتَبُ لِلأَمِيرِ أَفِيلاَ
السادسِ: الظريفةُ نحوَ:{ مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ}، {إِذَا نُودِيَ للصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ}
السابعِ: التعليلُ نحوَ: (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا) وقولِه:
يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضِى مِنْ مَهَابَتِهِ.
الثامنِ: موافقةُ "عن" نحو: { يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةِ مِنْ هَذَا}
التاسعِ : موافقةُ الباءِ نحوَ: { يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ}
العاشرِ : موافقةُ "على" نحو: { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا}
371 - لِلِانْتِهَا: حَتَّى وَلاَمٌ وَإلِىَ = وَمِنْ وَبَاءٌ يُفْهِمَانِ بَدَلاً
(لِلِانْتِهَا: حَتَّى وَلاَمٌ وَإلِىَ) أي: تكونُ هذه الثلاثةُ لانتهاءِ الغايةِ في الزمانِ والمكانِ و"إلى" أَمْكَنُ في ذلك مِنْ "حتَّى" ؛ لأنَّك تقولُ : "سَرْتُ البارحةَ إلى نصفِها" ولا يجوزُ "حتى نصفِها" لأنَّ مجرورَ "حتى" يلزَمُ أن يكونَ آخِرًا أو متَّصلاً بالآخرِ نحوَ: "أكلْتُ السمكةَ حتى رأسِها" ونحو: { سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} واستعمالُ اللامِ للانتهاءِ قليلٌ ، نحوَ: { كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمَّى} وسيأتي الكلامُ على بقيَّةِ معانيِها في هذا البابِ ، وعلى بقيَّةِ أحكامِ "حتَّى" في بابِ إعرابِ الفعلِ.
وأما "إلى" فلها ثمانيةُ معانٍ :
الأَوَّل : انتهاءُ الغايةِ مطلقًا كما تقدَّمَ.
الثاني: المصاحبةُ نحوَ: { وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}.
الثالثُ: التبيينُ وهي المبيِّنَةُ لفاعليَّةِ مجرورِها بعدَ ما يفيدُ حُبًا أو بغضًا: من فعلِ تعجُّبٍ أو اسمِ تفضيلٍ نحوَ: { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ }.
الرابعُ: موافقةُ اللامِ نحوَ: { وَالأَمْرُ إِلَيْكِ} وقيلَ: لانتهاءِ الغايةِ أي: مُنْتَهٍ إليكَ.
الخامسُ : موافقةُ "في" نحو: { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وقولِه [من الطويل]:
535 - فَلاَ تَتْرُكْنِي بِالوَعِيدِ كَأَنَّنِي إِلَى النَّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ القارُ أجربُ
السادسُ : موافقةُ "مِنْ" كقوله [من الطويل]:
536 - تَقَولُ وَقَدْ عَالَيْتُ بِالكَوْرِ فَوْقَها = أَيُسْقَى فَلاَ يَرْوَى إِلَيَّ ابْنُ أَحْمَرَا
السابعُ : موافقةُ "عندَ" كقولِه [من الكامل]:
537 - أَمْ لاَ سَبِيلَ إِلَى الشبَابِ وَذِكْرِهِ = أَشْهَى إِلَيَّ مِنَ الرَّحِيقِ السَّلْسَلِ
الثامنُ : التوكيدُ وهي الزائدةُ ، أثبَتَ ذلك الفرَّاءُ مستدِلاً بقراءةِ بعضِهم (أَفْئِدَةً مِنَ الناسِ تَهْوَى إِلَيْهِمْ) بفتحِ الواوِ ، وَخَرَجَتْ على تضمينِ "تَهْوَى" معنى "تميلُ".
تنبيه : إِنْ دَلَّتْ قرينةٌ على دخولِ ما بعدَ "إلى" و"حتى" نحوَ: "قرأتُ القرآنَ مِنْ أوَّلِه إلى آخِرِه ". ونحوَ: قولِه [من الكامل]:
538 - أَلْقَى الصَّحِيفَةَ كَيْ يُخَفِّفَ رَحْلَهُ = وَالزادَ حتى نعلِه أَلْقَاهَا
أو على عدمِ دخولِه نحوَ: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} ونحوِ: قوله [من البسيط]:
539 - سَقَى الحَيَا الأَرْضَ حَتَّى أَمْكُنٍ عُزِيَتْ = لَهُمْ فَلاَ زَالَ عَنْهَا الخَيْرُ مَحْدُودًا
عُمِلَ بها ، وإلا فالصحيحُ في "حتى" الدخولُ وفي "إلى" عدمِه مطلقًا حمْلاً على الغالبِ فيها عند القرينةِ ، وزعَمَ الشيخُ شِهَابُ الدِّينِ القرافيُّ ، أنَّه لا خلافَ في وجوبِ دخولِ ما بعد "حتى" وليس كما ذَكَرَ ، بلِ الخلافُ مشهورٌ وإنَّما الاتفاقُ في "حتى" العاطفةِ لا الخافضةِ والفرقُ أن العاطفةَ بمنزلةِ الواوِ انتهى.
(وَمِنْ وَبَاءٌ يُفْهِمَانِ بَدَلاً) أي: تأتي "مِنْ" و"الباء" بمعنى بَدَلَ أما "مِنْ" فقد سبَقَ بيانُ ذلك فيها وأما الباءُ فسيأتي الكلامُ عليها قريبًا إن شاء اللَّه تعالى.

372 - واللاَّمُ لِلْمِلْكِ وَشِبْهِهِ وَفِي = تَعْدِيَةِ – أَيْضًا – وَتَعْلِيلٍ قُفِي
373 - وَزِيدَ وَالظرفيَّةِ اسْتَبِنْ بِبَا = وَ"فِي" وَقَدْ يُبَيِّنَانِ السَّبَبَا
(واللاَّمُ لِلْمِلْكِ وَشِبْهِهِ وَفِي = تَعْدِيَةِ – أَيْضًا – وَتَعْلِيلٍ قُفِي)
(وَزِيدَ) أي: تأتي اللامُ الجارَّةُ لمعانٍ جملتُها أحدٌ وعشرونَ معنى:
الأَوَّل : انتهاءُ الغايةِ وقد مرَّ.
الثاني: المِلْكُ نحو: "المالُ لزيدٍ".
الثالثُ: شبهُ المِلْكِ نحو: "الجُلُّ لِلدَّابَّةِ" ويعبَّر عنها بلامِ الاستحقاقِ أيضًا لكنه غايرَ بينهُمَا في (التسهيلِ) وجعلَها في شرحِه الواقعةِ بينَ معنًى وذاتٍ نحوَ: "الحمدُ لِلِّهِ" و{ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ } وَقَدْ يُعَبَّرُ عن الثلاثِ بلامِ الاختصاصِ.
الرابعُ : التعديةُ ومَثَّلَ له في (شرحِ الكافيةِ) بقولِه تعالى { فَهَبْ لِيْ مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} لكنَّه ، قال في (شرحِ التسهيلِ): إن هذه اللامَ لشبهِ التمليكِ قال في (المغني): والأَوَّلى عندي أنْ يُمَثِّلَ للتعديةِ بـ "مَا أَضْرَبَ زَيْدًا لعمرٍو وَمَا أَحَبَّهُ لِبَكْرٍ".
الخامس: التعليلُ ، نحوُ: { لِتَحْكُمْ بَيْنَ الناسِ} وقولُه:
وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ هِزَّةٌ
السادسُ : الزائدةُ، وهي إما لمجرَّدِ التوكيدِ كقولِه [من الكامل]:
540 - وَمَلَكْتُ مَا بَيْنَ العِرَاقِ وَيَثْرِبٍ = مُلْكًا أَجَارَ لِمُسْلِمٍ وَمُعَاهِدِ
وإما لتقويةِ عاملٍ ضعُفَ: بالتأخيرِ أو بكونِه فرعًا عن غيرِه نحوَ: { لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ }، { إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } ونحو: { مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ }، { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} هذا ما ذكَرَه الناظمُ في هذا الكتابِ.
السابعُ: التمليكُ نحوَ: "وَهَبْتُ لزيد دينارًا".
الثامن: شَبَهُ التمليكِ نحوَ: { جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا}
التاسع: النسبُ ، نحوُ: "لزيدٍ أبٌّ ولعمرٍو عمٌّ".
العاشرُ: القسمُ والتعجُّبِ معًا كقولِه [من البسيط]:
541 - لِلَّهِ يَبْقَى عَلَى الأَيَّامِ ذُو حَيَدٍ = بِمُشْمَخِرٍّ بِهِ الظَّيَّانُ وَالآسُ
ونحوِ: "لِلَّهِ لا يُؤَخَّرُ الأجَلُ" وتختصُّ باسمِ اللَّهِ تعالى.
الحادي عشرَ: التعجُّبُ المجرَّدُ عنِ القسمِ ويُستعملُ فِي النداءِ كقولِهم: "يَا لَلْمَاءِ والعُشْبِ" إذا تعجَّبُوا مِنْ كثرتِهما ، وقولِه [من الطويل]:
542 - فَيَا لَكَ مِنْ لَيْلٍ كَأَنَّ نُجُومَهُ = بِكُلِّ مُغَارِ الفَتْلِ شُدَّتْ بِيَذْبُلِ
وفي غيرِه كقولِهم: "لِلَّه دَرُّه فارسًا" و"لِلَّهِ أَنْتَ" وقولِه [من الطويل]:
543 - شَبَابٌ وَشَيْبٌ وَافْتِقَارٌ وَثَرْوَةٌ = فَلِلَّهِ هَذَا الدَّهَرُ كَيْفَ تَرَدَّدَا
الثاني عشرَ: الصيرورةُ نحو: { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} وتُسَمَّى لامُ العاقبةِ ولامِ المآلِ.
الثالثَ عشرَ: التبليغُ وهي الجارَّةُ لاسمِ السامعِ ، نحوُ: "قلتُ له كذا" وجعلَه الشارحُ مثالاً للامِ التعديةِ.
الرابعَ عشرَ: التبيينُ على ما سبقَ في "إلى".
الخامسَ عشرَ: موافقةٌ "على" في الاستعلاءِ الحقيقيِّ نحو: { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ} وقوله [من الطويل]:
544 - ضَمَمْتُ إِلَيْهِ بِالسِّنَانِ قَمِيصَهُ فَخَّرَ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ
والمجازي: نحوُ: "وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا" "واشْتَرِطِي لَهُمْ الولاءَ " وأنكَرَه النحاسُ.
السادسَ عشرَ: موافقةُ "بعدَ" ، نحوُ: { أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}.
السابعَ عشرَ: موافقةُ "عندَ" ، نحوُ: " كَتَبْتُهُ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ" وجعَلَ منه ابنُ جنِّيِّ قراءةَ الجَحْدَرِيِّ: ( بَلْ كَذَّبُوا بِالحَقِّ لِمَا جَاءَهُمْ) بكسرِ اللاَّمِ وتخفيفِ الميمِ.
الثامنَ عشرَ: موافقةُ "في" ، نحوُ: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ }، { لاَيُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ } وقولُهم : "مَضَى لِسَبِيلِهِ".
التاسعَ عشرَ: موافقةُ "مِنْ" كقولِه [من الطويل]:
545 - لَنَا الفَضْلُ فِي الدُّنْيَا وَأَنْفُكَ رَاغِمٌ = وَنَحْنُ لَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَفْضَلُ
المتمِّمُ عشرينَ: موافقةُ "عن" ، نحوُ: { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا}،ِ وقولُه [من الكامل]:
546 - كَضَرَائِرِ الحَسْنَاءِ قُلْنِ لِوَجْهِهَا = حَسَدًا وَبُغْضًا: إِنَّهُ لَدَمِيمُ
الحادي والعشرون: موافقةُ "مع" كقولِه [من الطويل]:
547 - فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا = لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعًا
(... . والظرفِيَّةَ اسْتَبِنْ بِبَا وَفِي وَقَدْ يُبَيِّنَانِ السَّبَبَا)
374 - بِالبَا اسْتَعِنْ وَعَدِّ عَوِّضْ أَلْصِقِ وَمِثْلَ "مَعَ"و"مِنْ"وَ"عَنْ" بِهَا انْطِقِ
أي: تأتي كلُّ واحدةٍ مِنَ الباءِ و"في" لمعانٍ ، أما "في" فلها عشرةُ معانٍ ذكَرَ منها هنا معنيينِ:
الأَوَّل: الظرفيةُ حقيقةً ومجازًا نحو: "زيدٌ في المسجدِ" ،ونحوُ: { وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ} الثاني: السببيةُ ، نحوُ: { لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ } وفي الحديثِ: ((دَخَلِتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا)) وتُسَمَّى التعليليَّةَ أيضًا.
الثالثُ : المصاحبةُ ، نحوُ: { قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ } الرابعُ: الاستعلاءُ ، نحوُ: { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } وقولُه [من الكامل]:
548 - بَطَلٌ كَأَنَّ ثِيَابَهُ فِي سَرْحَةٍ = يُحْذَى نِعَالَ السَّبْتِ لَيْسَ بِتَوْءَمٍ
الخامسُ : المقايسةُ نحو: { فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلا قَلِيلٌ }
السادسُ : موافقةُ "إلى" ، نحوُ : { فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ}
السابعُ : موافقةُ "مِنْ" كقولِه [من الطويل]:
549 - أَلَا عِمْ صَبَاحًا أَيُّهَا الطَّلَلُ البَالِي = وَهَلْ يَعِمَنْ مَنْ كَانَ فِي العَصْرِ الخَالِي
وَهَلْ يَعِمَنْ مَنْ كَانَ أَحْدَثُ عَهْدِهِ = ثَلاَثِينَ شَهْرًا فِي ثَلاَثَةِ أَحْوَالٍ
أي: مِنْ ثَلاَثَةِ أحوالٍ.
الثامنُ : موافقةُ الباءِ كقولِه [من الطويل]:
550 - وَيَرْكَبُ يَوْمَ الرَّوْعِ مِنَّا فَوَارِسٌ = بَصِيرُونَ فِي طَعْنِ الأَبَاهِرِ وَالكَلاَ
التاسعُ : التعويضُ وهي الزائدةُ عِوَضًا مِنْ أخرى محذوفةٍ كقولِكَ: "ضربْتُ فِيمَنْ رَغِبْتَ" تريدُ: "ضربْتُ مَنْ رَغِبْتَ فيه" ، أَجَازَ ذلك الناظمُ قياسًا على قولِه [من البسيط]:
551 - وَلاَ يُؤَاتِيكَ فِيمَا نَابَ مِنْ حَدَثٍ = إِلاَّ أَخُو ثِقَةٍ فَانْظُرْ بِمَنْ تَثِقُ
أي: فَانْظُرْ مَنْ تَثِقُ به.
العاشرُ: التوكيدُ وهي الزائدةُ لغيرِ تعويضٍ ، أجازَ ذلك الفارسيُّ في الضرورةِ كقولِه [من الرجز]:
552 - أَنَا أَبُو سَعْدٍ إِذَا الليْلُ دَجَا = يُخَالُ في سَوَادِهِ يَرَنْدَجَا
وأجازَه بعضُهم في قولِه تعالى { وَقَالَ ارْكَبُوا فيِهَا بِسْمِ اللَّهِ}

وأما الباءُ فلها خمسةَ عشرَ معنًى ، ذكَرَ منها عشرةً
الأَوَّل : البدلُ نحو: "ما يسرني بها حُمُرُ النَّعَمِ" وقولُه [من البسيط]:
553 - فَلَيْتَ لِي بِهُمُ قَوْمًا إِذَا رَكِبُوا = شَنُّوا الإِغَارَةَ فُرْسَانًا وَرُكْبَانًا
الثاني: الظرفيةُ ، نحوُ : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ}، و{ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحرٍ}
الثالثُ: السببيةُ ، نحوُ: { فُكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ}.
الرابعُ : التعليلُ ، نحوُ: { فَبِظُلّمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}.
الخامسُ : الاستعانةُ ، نحوُ: "كتبْتُ بِالقلمِ " .
السادسُ: التعديةُ وتسمَّى باءَ النقْلِ وهي المعاقبةُ للهمزةِ في تصييرِ الفاعلِ مفعولاً ، وأكثرُ ما تُعَدِّي الفعلَ القاصرَ ، نحوُ: "ذهبْتُ بزيدٍ" بمعنى: أذهبتُه ومنه { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} وقُرِئَ: (أَذْهَبَ اللَّهُ نُوْرَهُمْ).
السابعُ : التعويضُ ، نحوُ: "بِعْتُ هَذَا بِأَلْفٍ" وتُسَمَّى باءُ المقابلةِ أيضًا.
الثامنُ : الإلصاقُ حقيقةً ومجازًا ، نحوُ: "أَمْسَكْتُ بِزَيْدٍ"، ونحوُ: "مررْتُ به" وهذا المعنى لا يفارقُها ؛ ولهذا اقتصَرَ عليه سيبويهِ.
التاسع: المصاحبةُ ، نحوُ: {اهْبِطْ بِسَلاَمٍ} أي: معه.
العاشرُ: التبعيضُ ، نحوُ: { عَيّنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادَ اللَّهِ } وقوله [من الطويل]:
شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ = مَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نَئِيجُ
الحادي عشرَ: المجاوزةُ كـ"عن" ، نحوُ: { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } بدليلِ { يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ } وإلى هذه الثلاثةِ الإشارةُ بقولِه:
(وَمِثْلُ مَعَ وَمِنْ وَعَنْ بِهَا انْطِقْ)

هذا ما ذكَرَه في هذا الكتابِ.
الثاني عشرَ: موافقةُ "على" ، نحوُ: {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} بدليلِ {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ }.
الثالثَ عشرَ: القَسَمُ وَهِيَ أصلُ حروفِه ، ولذلك خُصَّتْ بذكرِ الفعلِ معها ، نحوُ: "أُقْسِمُ بِاللَّهِ" والدخولِ على الضميرِ ، نحوُ: "بِكَ لَأَفْعَلَنَّ".
الرابعَ عشرَ : موافقةُ "إلى" ، نحوُ: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي} أي: إليَّ ، وقيلَ: ضُمِّنَ "أَحْسَنَ" معنى "لَطَفَ".
الخامسَ عشرَ : التوكيدُ وهي الزائدةُ ، نحوُ: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}، {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} و"بِحَسْبِكَ دِرْهَمٌ" و"لَيْسَ زيدٌ بقائمٍ".

375 - عَلَى لِلِاسْتِعْلاَ ومعنَى "في" و"عن" = بعن تَجَاوُزًا عنِّى مَنْ قَدْ فَطَنْ
376 - وَقَدْ تَجِي مَوْضِعَ "بَعْدٍ" و"على" = كَمَا "عَلَى" موضعِ "مَنْ" قَدْ جُعِلاَ
(عَلَى لِلِاسْتِعْلاَ ومعنى في وعن) أي: تَجِيءُ "على" الحرفيَّةِ لمعانٍ عشرةٍ ، ذَكَر منها ثلاثةً:
الأَوَّل: الاستعلاءُ وهو الأصلُ فيها ، ويكونُ حقيقةً ومجازًا ، نحوُ: { وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} ونحوُ: { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}
والثاني: الظرفيةُ كـ"في" ، نحوُ: "عَلَى حِيْنِ غَفْلَةٍ".
الثالثَ: المجاوزةُ كـ"عن" كقولِه [من الوافر]:
554 - إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ = لَعَمْرُ اللَّهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا
الرابعَ : التعليلُ كاللامِ ، نحوُ: { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وقولِه:
عَلاَمَ تَقُولُ الرُّمْحَ يُثْقِلُ عَاتِقِي
الخامسَ : المصاحبةُ كـ"مع" ، نحوُ: {وآتَى المالَ على حبِّهِ}، { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ}.
السادسَ: موافقة "مِنْ"، نحوُ: { إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}
السابعَ: موافقةُ الباءِ ، نحوُ: { حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَ أَقُولَ} وقد قرأَ أُبَيٌّ بالباءِ
الثامنَ : الزيادةُ للتعويضِ مِنْ أخرى محذوفةٍ ، كقولِه [من الرجز]:
555 - إِنَّ الكَرِيمَ وَأبَيِكَ يَعْتَمِلْ = إِنْ لَمْ يَجِدْ يَوْمًا عَلَى مَنْ يَتَّّكِلْ
أي: مَنْ يتكِلُ عليه.
التاسعَ : الزيادةُ لغيرِ تعويضٍ وهو قليلٍ كقولِه [من الطويل]:
556 - أَبَى اللَّهُ إلا أنْ سَرْحَةَ مالكٍ = عَلَى كُلِّ أَفْنَانِ العِضَاهِ تَرُوقُ
وفيه نظرٌ.
العاشرُ: الاستدراكُ والإضرابُ كقولِه [من الطويل]:
557 - بِكُلٍّ تَدَاوَيْنَا فَلَمْ يَشْفِ مَا بِنَا = عَلَى أَنَّ قُرْبَ الدارِ خيرٌ مِنَ البُعْدِ
عَلَى أَنَّ قُرْبَ الدَّارِ لَيْسَ بِنَافِعٍ = إِذَا كَانَ مَنْ تَهْوَاهُ لَيْسَ بِذِي وُدِّ
(بِعَنْ تَجَاوُزَا عَنَي مَنْ قَدْ فَطِنْ * وَقَدْ تَجِي) عَنْ (مَوْضِعَ بَعْدُ) وموضعَ (عَلَى * كَمَا عَلَى مَوْضِعَ عَنْ قَدْ جُعِلَا) كما رأَيْتَ.
وجملةُ معاني "عن" عشرةٌ أيضًا اقتصَرَ منها الناظمُ على هذه الثلاثةِ.
الأَوَّل: المجاوزةُ وهي الأصلُ فيها ولم يذكُرِ البصريونَ سواه نحوَ: "سَافَرْتُ عِنِ البلَدِ" و"رَغِبْتُ عَنْ كَذَا".
الثاني: البعديَّةُ – وهو المشارُ إليه بقولِه: و"قد تَجِي موضعَ بَعْدٍ" – ، نحوُ: { عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ}، { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } أي: حالاً بعدَ حالٍ.
الثالثُ : الاستعلاءُ كـ"عَلَى" ، نحوُ: { فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} ، وقولُه [من البسيط]:
558 - لاَهِ ابْنُ عَمِّكَ لاَ أَفْضَلْتَ فِي حَسَبٍ = عَنِّي وَلاَ أَنْتَ دَيَّانِي فَتَخْزُوِنِي
الرابعُ : التعليلُ ، نحوُ: { وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ }، { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ}
الخامسُ: الظرفيَّةُ كقولِه [من الطويل]:
559 - وَآسِ سَرَاةَ الحَيِّ حَيْثُ لَقِيتُهُمْ = وَلاَ تَكُ عَنْ حَمْلِ الرِّبَاعَةِ وَانِيَا
السادسُ: موافقةُ "مِنْ" ، نحوُ: { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}، { أُولَئِكَ الَّذِينَ يُتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا}.
السابعُ: موافقةُ الباءِ ، نحوُ: { وَمَا يَنْطِقُ عِنِ الهَوَى} والظاهرُ أنَّها على حقيقتِها ، وأنَّ المعنَى ومَا يَصْدُرُ قولُه عنِ الهوى.
الثامنُ : الاستعانةُ ، قاله الناظمُ ، ومَثَّلَ لَهُ ، بنحوِ: "رَمَيْتُ عَنِ القوسِ" لأنَّهم يقولونَ: "رَمَيْتُ بالقوسِ" وفيه ردٌّ على الحريريِّ في إنكارِه أن يقالَ ذلك ، إلا إذا كانت القوسُ هي المرميَّةُ.
التاسعُ : البدلُ، نحوُ: { وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} ، وفي الحديثِ: ((صُومِي عَنْ أُمِّكِ)).
العاشرُ: الزيادةُ للتعويضِ مِنْ أخرى محذوفةٍ كقولِه [من الطويل]:
560 - أَتَجْزَعُ إِنْ نَفْسٌ أَتَاهَا حِمَامُهَا = فَهَلَّا التي عَنْ بَيْنِ جَنْبَيْكَ تَدْفَعُ

377 - شَبِّهْ بِكَافٍ وَبِهَا التعليلُ قَدْ يُعْنَى وزائدًا لتوكيدٍ وَرَدْ
أي: تجيءُ الكافُ لمعانٍ ، وجملتُها أربعةٌ ، اقتصَرَ منها في النظمِ على ثلاثةٍ:
الأَوَّل: التشبيهُ وهو الأصلُ فيها نحو: "زيدٌ كالأسدِ".
الثاني: التعليلُ ، نحوُ: { وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} أي: لِهِدَايَتِكُمْ ِ ، وعبارتُه هنا وفي (التسهيلِ) تقتضي أن ذلك قليلٌ ، ولكنَّهُ قَالَ في (شرحِ الكافيةِ): ودلالتُها على التعليلِ كثيرةٌ.
الثالثُ: التوكيدُ وهي الزائدةُ نحوَ: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } أي: ليس شيءٌ مثلَه وقوله [من الرجز]:
561 - لَوَاحِقَ الأَقْرَابِ فِيهَا كَالمَقَقْْْْْ
أي: فيها المققُ أي: الطولُ.
الرابعُ : الاستعلاءُ قيلَ لبعضِهم: "كيف أصبحتَ"؟ قال: كـ"خَيْرٍ" أي: على خيرٍ وهو قليلٍ أشارَ إلى ذلك في (التسهيلِ) بقوله: وقد تَوَافَقَ "على".

  #5  
قديم 25 ذو الحجة 1429هـ/23-12-2008م, 09:14 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي دليل السالك للشيخ: عبد الله بن صالح الفوزان


معانِي (مِن)
369- بَعِّضْ وَبَيِّنْ وَابْتَدِئْ فِي الأَمْكِنَهْ = بِمِنْ وَقَدْ تَأْتِي لِبِدْءِ الأزَمِنَهْ
370- وَزِيدَ فِي نَفيٍ وَشِبْهِهِ فَجَرْ = نَكِرَةً كَمَا لِبَاغٍ مِنْ مَفَرْ
شَرَعَ الناظمُ رَحِمَهُ اللَّهُ في الكلامِ على حُروفِ الجرِّ التي يَكْثُرُ استعمالُها، وذَكَرَ بعضَ المعانِي القِياسيَّةِ لكلِّ واحدٍ منها.
فالأوَّلُ: مِنْ، وذَكَرَ لها خَمسةَ مَعانِيَ، وهيَ:
1- التبعيضُ: أي الدَّلالةُ على البَعْضِيَّةِ، وعَلامتُها أنْ يَصِحَّ حَذْفُها ووُقوعُ كلمةِ (بعضٍ) مَوْقِعَها، وأنْ يَعُمَّ ما قبلَها ما بعدَها إذا حُذِفَتْ؛ نحوُ: أخَذْتُ مِن الدَّرَاهمِ، قالَ تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ}؛ أيْ: بعضُ الناسِ، وهم المنافقونَ، وقالَ تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}.
2- بيانُ الْجِنْسِ، ويَكْثُرُ وُقوعُها بعدَ (مَا) و(مَهْمَا)؛ لإفراطِ إبهامِهما؛ كقولِهِ تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا}، وقولِهِ تعالى: {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ ءَايَةٍ}. وقدْ تَقَعُ بعدَ غيرِهما؛ كقولِهِ تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ}، وقولِهِ تعالى: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ}.
وعلامتُها: صِحَّةُ وُقوعِ الموصولِ مَوْقِعَها معَ ضميرٍ يَعودُ على ما قبلَها إنْ بَيَّنَتْ مَعرفةً؛ كقولِهِ تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ}؛ أي: الَّذِي هوَ الأوثانُ؛ لأنَّ الرجْسَ عامٌّ يَشملُ الأوثانَ وغيرَها.
فإنْ بَيَّنَتْ نَكِرَةً فعلامَتُها أنْ يَقعَ مَوْقِعَهَا الضميرُ وَحْدَهُ؛ كقولِهِ تعالى: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ}؛ أيْ: هيَ سُندُسٌ وإستبرقٌ.
3- ابتداءُ الغايَةِ، في الأَمْكِنَةِ كَثيراً، وفي الأَزْمِنَةِ أحياناً على الصحيحِ، وهذا المعنى هوَ الغالِبُ عليها، وذلكَ إذا كانَ الفعلُ المُتَعَدِّي بها شَيْئاً مُمْتَدًّا كالسَّيْرِ والْمَشْيِ ونحوِهما، ويكونُ المجرورُ بـ(مِن) هوَ الشيءَ الذي منهُ ابتدأَ ذلكَ الفعْلُ؛ نحوُ: سِرْتُ مِنْ مكَّةَ إلى المدينةِ.
قالَ تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى}، وقدْ يكونُ الفعْلُ الْمُتَعَدِّي بها أَصْلاً للشيءِ الممتَدِّ؛ نحوُ: خَرَجْتُ مِن الدَّارِ؛ لأنَّ الخروجَ ليسَ شيئاً مُمْتَدًّا.
ومِنْ مَجيئِها لابتداءِ الغايَةِ الزمانيَّةِ قَوْلُ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ: (فَمُطِرْنَا مِن الجُمُعَةِ إلَى الجُمُعَةِ).
4- التوكيدُ، وذلكَ إذا كانتْ زائدةً، ويُشتَرَطُ لزيادتِها شَرطانِ:
الأوَّلُ: أنْ يكونَ المجرورُ بها نَكِرَةً.
الثاني: أنْ يَسْبِقَها نفيٌ أوْ نَهْيٌ أو استفهامٌ؛ نحوُ: ما حَضَرَ مِنْ أحَدٍ.
قالَ تعالى: {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} فَـ(مِنْ): حرْفُ جَرٍّ زائدٌ للتوكيدِ، (أُمَّةٍ): فاعلٌ مرفوعٌ بضَمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ مَنَعَ مِنْ ظُهُورِها اشتغالُ الْمَحَلِّ بحركةِ حَرْفِ الجرِّ الزائدِ، (أجَلَهَا): مفعولٌ بهِ، و(هَا): مُضافٌ إليهِ.
ومِثالُ النهيِ: لا تَضْرِبْ مِنْ طَالِبٍ.
ومِثالُ الاستفهامِ: هلْ حَضَرَ مِنْ أحَدٍ؟ قالَ تعالى: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}، فـ(فُطورٍ): مفعولُ (تَرَى) زِيدَتْ فيهِ (مِن) للتوكيدِ، ومَعْنَى (فُطورٍ): تَشَقُّقٍ أوْ تَصَدُّعٍ.
5- أنْ تكونَ بمعنى (بَدَلَ)، بحيثُ يَصِحُّ أنْ تَحِلَّ هذهِ الكلمةُ مَحَلَّها؛ كقولِهِ تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ}، وقولِهِ تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ}؛ أيْ: بَدَلَكُمْ.
وإلى الأربعةِ المعاني الأُوَلِ أشارَ بقولِهِ: (بَعِّضْ وبَيِّنْ.. إلخ)؛ أيْ: أنَّ (مِنْ) تَأتِي للتَّبْعِيضِ، ولِبَيَانِ الجِنْسِ، وابتداءِ الغايَةِ في الأَمْكِنَةِ كثيراً، وفي الأَزْمِنَةِ قَليلاً، وزائدةً بعدَ نَفْيٍ وشِبْهِهِ - وهوَ النهيُ والاستفهامُ - معَ جَرِّ النَّكِرَةِ، ومِثالُهُ: (ما لِبَاغٍ مِنْ مَفَرٍّ)، فـ(مِنْ): زائدةٌ، (مَفَرٍّ): مبتدأٌ مؤَخَّرٌ، و(لِبَاغٍ): خَبرٌ مُقَدَّمٌ، وأمَّا المعنى الخامسُ فسيَذْكُرُهُ بعدُ.
مَعَانِي بعضِ الحروفِ
371- لِلاِنْتِهَا حَتَّى وَلامٌ وَإلَى = وَمِنْ وَبَاءٌ يُفْهِمَانِ بَدَلا
372- وَالَّلامُ لِلْمِلْكِ وَشِبْههِ وَفِي = تَعْدِيَةٍ أَيْضاً وَتَعْلِيلٍ قُفِي
373- وَزِيدَ وَالظَّرْفيَّةَ اسْتَبِنْ بِبَا = وَفِي وَقَدْ يُبَيِّنَانِ السَّبَبَا
374- بِالْبَا اسْتَعِنْ وَعَدِّ عَوِّضْ أَلْصِقِ = وَمِثْلَ مَعْ وَمِنْ وَعَنْ بَهَا انْطِقِ

مِنْ حُروفِ الْجَرِّ:
مَعانِي (حَتَّى)
الثانِي: حتَّى، وهيَ حَرْفُ جَرٍّ أصْلِيٌّ، وهيَ علَى ضَربَيْنِ:
1- جَارَّةٌ للمفرَدِ الصريحِ، وهذهِ معناها الدَّلالةُ على انتهاءِ الغايَةِ، ولهذا تُسَمَّى (حَتَّى الغائِيَّةَ)، وهيَ لا تَجُرُّ إلاَّ الآخِرَ، أو الْمُتَّصِلَ بالآخِرِ.
فالْمُتَّصِلُ بالآخِرِ كقولِهِ تعالى: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} فـ(حَتَّى): حَرْفُ جَرٍّ، (مَطْلَعِ): اسمٌ مجرورٌ بـ(حَتَّى)، (الفَجْرِ): مُضافٌ إليهِ، والجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بـ(سَلامٌ)، ومِثالُ الآخَرِ: أَكَلْتُ السَّمَكَةَ حتَّى رَأْسِهَا.
2- جارَّةٌ لـ(أَنِ) الْمَصدريَّةِ ومَدخولِها، وهذهِ تكونُ غائِيَّةً كالنوعِ الأوَّلِ، وعلامتُها صِحَّةُ وُقوعِ (إِلَى أَنْ) مَوْقِعَها مِنْ غيرِ فَسادٍ في المعنى؛ نحوُ: أُتَابِعُ المُحاضِرَ حتَّى تَنتهيَ مُحاضَرَتُهُ، فـ(حَتَّى): حَرْفُ جَرٍّ، (تَنتهِيَ): فعْلٌ مضارِعٌ مَنصوبٌ بـ(أنْ) مُضمَرَةٍ وُجوباً بعدَ (حتَّى)، و(أنْ) وما دَخَلَتْ عليهِ في تأويلِ مَصدَرٍ مجرورٍ بـ(حتَّى).
وتكونُ تَعليليَّةً إذا كانَ ما قَبْلَها عِلَّةً لِمَا بعدَها؛ نحوُ: هَذِّبْ أوْلادَكَ حتَّى تَستفيدَ مِنهم. وتكونُ اسْتِثْنَائِيَّةً، وهذا قَليلٌ، وهيَ بمَعْنَى (لَكِنْ)، وذلكَ إنْ لم يَصْلُحْ أحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ السابِقَيْنِ؛ نحوُ: لا يَنتفِعُ الأبُ مِنْ أَولادِهِ حتَّى يُرَبِّيَهُمْ، بمعنى: إلاَّ أنْ يُرَبِّيَهُمْ.


معانِي اللامِ
الثالثُ: اللامُ، وهوَ حرْفُ جَرٍّ يكونُ أَصْلِيًّا، وقدْ يكونُ زائداً، ولهُ معانٍ كثيرةٌ مِنْهَا:
1- انتهاءُ الغايَةِ، فتكونُ مِثلَ (إلَى) كما سيأتي إنْ شاءَ اللَّهُ، وهذا المَعْنَى قَلِيلٌ، ومنهُ قولُهُ تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى}.
2- الْمِلْكُ، وتَقَعُ غالباً بينَ ذاتَيْنِ، الثانيَةُ منهما تَمْلِكُ، وهذا هوَ أكثَرُ مَعَانِيهَا؛ نحوُ: الكتابُ لخالِدٍ، قالَ تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}.
3- شِبْهُ الْمِلْكِ، ويُعَبَّرُ عنهُ بالاختصاصِ، وهوَ أنْ يكونَ مَدخولُ اللاَّمِ لا يَمْلِكُ؛ نحوُ: البابُ للدَّارِ.
4- التَّعْدِيَةُ إلى المفعولِ بهِ، فيكونُ ما بعدَها في حُكْمِ المفعولِ بهِ معنًى وإنْ كانَ مجروراً؛ نحوُ: ما أَحَبَّ طَالِبَ العلْمِ للطباعةِ الجيِّدَةِ مِن الكُتُبِ.
5- التعليلُ، إذا كانَ ما بعدَها عِلَّةً لِمَا قَبْلَها؛ نحوُ: طَلَبُ العِلْمِ ضَرورِيٌّ لرَفْعِ الجهْلِ. وهذهِ المعاني الخمسةُ ذَكَرَها ابنُ مالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
6- التوكيدُ لمعنى الْجُملةِ بتَمَامِها، وتكونُ زائدةً، وتَكْثُرُ زِيَادَتُها بَيْنَ الفِعْلِ ومفعولِهِ؛ كقولِ الشاعِرِ:
ومَلَكْتَ ما بَيْنَ العِرَاقِ ويَثربٍ = مُلْكاً أَجَارَ لِمُسلِمٍ ومُعَاهِدِ

فزادَ اللامَ في (لِمُسْلِمٍ) لِمُجَرَّدِ التوكيدِ، وذلكَ لأنَّ الفعْلَ (أجارَ) يَتعدَّى بنَفْسِهِ، وقدْ تَقَدَّمَ على مَعمولِهِ، فليسَ بحاجةٍ إلى اللاَّمِ.
7- تَقْوِيَةُ العامِلِ الذي ضَعُفَ عن العمَلِ بأَحَدِ سَبَبَيْنِ؛ أحَدُهما: أنْ يَقَعَ العاملُ مُتَأَخِّراً؛ كقولِهِ تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}، وقولِهِ تعالى: {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}، والأصْلُ: إنْ كُنتُمْ تَعْبُرُونَ الرُّؤيَا، لِلَّذِينَ هم يَرْهَبُونَ رَبَّهُم.
وثَانِيهِمَا: أنْ يكونَ العاملُ فَرْعاً في العملِ، إمَّا لكونِهِ مَصْدَراً؛ نحوُ: سَرَّنِي ضَرْبُ عَلِيٍّ لخالِدٍ، أو اسْمَ فاعلٍ؛ كقولِهِ تعالى: {مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ}، أوْ صِيغةَ مبالَغَةٍ؛ كقولِهِ تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}، واجْتَمَعَا في قولِهِ تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ}.
معانِي (إِلَى)
الرَّابِعُ: إِلَى، وهوَ حرْفُ جَرٍّ أصْلِيٌّ، ومِنْ أشْهَرِ مَعانِيهِ: انتهاءُ الغايَةِ، مَكَانِيَّةً أوْ زَمانيَّةً؛ كقولِهِ تعالى: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى}، وقولِهِ تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}.
والمُرَادُ بانتهاءِ الغايَةِ أنَّ المَعْنَى قَبْلَها يَنقطِعُ ويَنتهِي بِوُصولِهِ إلى المجرورِ بعدَها.
معانِي الباءِ
الخامسُ: الباءُ، وهوَ حَرْفُ جَرٍّ يَقَعُ أَصْلِيًّا وزَائداً، ولهُ مَعانٍ كثيرةٌ؛ منها:
1- أنْ تَكُونَ مَعْنَى (بَدَلَ)، بِحَيْثُ يَصِحُّ وُقوعُ هذهِ الكلمةِ مَوْقِعَها دُونَ أنْ يَتغيَّرَ المعنى؛ كقولِهِ تعالى: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ}، وكقولِ أَحَدِ الصحابةِ رَضِيَ اللَّهُ عنْهُم، وهوَ عَمْرُو بنُ تَغْلِبَ: (فَوَاللَّهِ ما أُحِبُّ أنَّ لي بكلمةِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ حُمْرَ النَّعَمِ)؛ أيْ: بَدَلَها.
2- الظرفيَّةُ، وعَلامَتُها أنْ يَحْسُنَ وُقوعُ كلمةِ (فِي) مَوْقِعَها؛ كقولِهِ تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ}، وهذا مِثالُ الظرْفِ الْمَكَانِيِّ، وقالَ تعالى: {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ}، وهذا مِثالُ الظرْفِ الزمانيِّ، وكقولِهِ تعالى: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.
3- السَّبَبِيَّةُ، بأنْ يكونَ ما بعدَها سَبباً لِمَا قَبْلَها؛ كقولِهِ تعالى: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ}.
4- الاستعانةُ، وذلكَ بِأَنْ يَكُونَ ما بعدَها هوَ الآلةَ لِحُصُولِ المعنى الذي قبلَها؛ كقولِهِ تعالى: {لَوْلا طَائِرٌ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ}، ومِنه في أشْهَرِ الوَجْهَيْنِ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}؛ لأنَّ الفعلَ لا يَتَأَتَّى على الوجهِ الأكمَلِ إلاَّ بها.
5- التَّعْدِيَةُ، وهيَ الَّتِي يُستعانُ بها غالباً في تَعْدِيَةِ الفعْلِ إلى مَفعولِهِ كما تُعدِّيهِ همزةُ النقْلِ، وأكثرُ ما تُعَدِّي الفعلُ اللازِمُ؛ كقولِهِ تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ}؛ أيْ: أَذْهَبَ. وقدْ تَأتِي معَ الفعْلِ الْمُتَعَدِّي؛ كقولِهِ تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ}، فالباءُ في ( بِبَعْضٍ ) مُتَعَلِّقَةٌ بالمصدَرِ، وهيَ لِتَعْدِيَةِ الْمَصْدَرِ إلى مَفْعُولِهِ الثَّانِي؛ لأنَّ ( دَفْعُ ) يَتعدَّى لواحِدٍ، ثمَّ عُدِّيَ إلى ثانٍ بالباءِ.
6- العِوَضُ، وهيَ الداخلةُ على الأَعْوَاضِ والأَثْمَانِ حِسًّا أوْ معنًى؛ نحوُ: اشْتَرَيْتُ الكتابَ بعَشَرَةٍ، وقابَلْتُ إحسانَهُ بالشُّكْرِ والدعاءِ.
وتُسَمَّى (بَاءَ المُقَابَلَةِ). والعِوَضُ غيرُ البَدَلِ؛ فإنَّ العِوَضَ دَفْعُ شيءٍ في مُقابَلَةِ آخَرَ، أمَّا البَدَلُ فهوَ اختيارُ أحَدِ الشَّيْئَيْنِ وتَفضيلُهُ على الآخَرِ مِنْ غيرِ مُقَابَلَةٍ بينَ الجانِبَيْنِ.
ومِنْ أَمْثِلَتِهَا قَوْلُهُ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}.
7- الإِلْصَاقُ: وهذا المَعْنَى هوَ أصْلُ مَعَانِيهَا، وهوَ مُطْلَقُ التعلُّقِ، وهوَ نَوْعَانِ:
1- إِلْصَاقٌ حِسِّيٌّ أوْ حَقيقيٌّ: إذا كانَ مُفْضِياً إلى المجرورِ نفْسِهِ؛ نحوُ: أمْسَكْتُ باللِّصِّ، إذا قَبَضْتُ على شيءٍ مِنْ جِسْمِهِ، أوْ علَى ما يَحْبِسُهُ مِنْ يَدٍ أوْ ثَوْبٍ ونحوِهِ، قالَ تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}، فالباءُ للإلصاقِ؛ لأنَّ الماسِحَ يُلْصِقُ يَدَهُ بالممسوحِ، وقولُهُ سُبْحَانَهُ في التَّيَمُّمِ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} مِثْلُهُ.
2- إلصاقٌ مَعْنَوِيٌّ أوْ مَجَازِيٌّ، إذا كان مُفْضِياً إلى ما يُقَرِّبُ مِن المجرورِ؛ نحوُ: طُفْتُ بالكَعْبَةِ.
8- بمعنَى (مَعَ)، وهيَ باءُ الْمُصَاحَبَةِ؛ نحوُ: بِعْتُكَ الْمَنْزِلَ بأَثَاثِهِ.
ومنهُ قولُهُ تعالى: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا}؛ أيْ: معَ سلامٍ، وقولُهُ تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا ءَامَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ}؛ أيْ: وقدْ دَخَلُوا معَ الكُفْرِ وهُمْ قدْ خَرَجُوا مَعَهُ، إذْ لا يُرَادُ أنَّهُم دَخَلُوا يَحْمِلونَ شيئاً وخَرَجُوا يَحملونَهُ، وإنَّما يُريدُ أنَّهُم دَخَلُوا كافرينَ وخَرَجُوا كافرينَ، وقولُهُ تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}؛ أيْ: مُصَاحِباً حمْدَ رَبِّكَ.
9- بِمَعْنَى (مِن)، فتفيدُ التَّبْعِيضَ؛ كقولِهِ تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ}؛ أيْ: منها، وقولِهِ تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}؛ أيْ: ببعضِ رُؤُوسِكُمْ، والأظهَرُ ما تَقَدَّمَ مِنْ أنَّها للإلصاقِ، ولَيْسَتْ للتبعيضِ.
قالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: أهْلُ اللغةِ لا يَعْرِفونَ هذا المعنى، بلْ يُورِدُهُ الفُقهاءُ.
10- بمَعْنَى (عَنْ)، فتفيدُ الْمُجاوَزَةَ، ومنهُ قولُهُ تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}؛ أيْ: عنْ عذابٍ واقِعٍ، وقالَ تعالى: {يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ}؛ أيْ: عنْ أَيْمَانِهِمْ.
السادسُ: (فِي)، وأَشْهَرُ مَعَانِيهَا الظرفيَّةُ حِسِّيَّةً؛ نحوُ: الطُّلاَّبُ في الفصْلِ، وكقولِهِ تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}، ومَعنويَّةً؛ نحوُ: الْعِزُّ في طَاعَةِ اللَّهِ، وكقولِهِ تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}، وتَأتيِ للسَّبَبِيَّةِ؛ كقولِهِ تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}، وقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ...)).
وإلى هذهِ الأحْرُفِ الخمسةِ أشارَ بقولِهِ:
(لِلاِنْتِهَا حَتَّى ولامٌ وإلَى.. إلخ)؛ أيْ أنَّ (حتَّى واللامَ وإلَى) تَدُلُّ على انتهاءِ الغايَةِ، و(مِن) و(البَاءُ) يَشتَرِكانِ في معنًى واحدٍ، وهوَ البَدَلُ، ثمَّ ذَكَرَ أنَّ اللامَ تُفِيدُ معنى الْمِلْكِ وشِبْهِهِ، وتأتِي للتعديَةِ والتعليلِ، ومعنى (وَتَعْلِيلٍ قُفِي) بضَمِّ القافِ: نُسِبَ وعُرِفَ، ثمَّ ذَكَرَ أنَّ اللامَ تَأتِي زَائدةً، ثمَّ قالَ: (والظرفيَّةَ اسْتَبِنْ بِبَا وَفِي)؛ أي: اجْعَل الظرفيَّةَ واضحةً بالباءِ؛ لأنَّها مِنْ مَعَانِيهَا ومعانِي (فِي).
(وقدْ يُبَيِّنَانِ السَّبَبَا)؛ أيْ: يَشتَرِكانِ في معنى السببيَّةِ، والألِفُ للإطلاقِ، ثمَّ سَرَدَ معانيَ الباءِ، وهيَ: الاستعانةُ، والتَّعْدِيَةُ، والتَعْوِيضُ، والإلصاقُ، وبمعنى (مَعَ)؛ أيْ: للمُصَاحَبَةِ، وبمعنى (مِن)؛ أي: التبعيضِ، وبمعنى (عَن)؛ أي: المُجَاوَزَةِ، ويَأتِي تعريفُها قريباً إنْ شاءَ اللَّهُ.
375- عَلَى لِلاِسْتِعْلا وَمَعْنَى فِي وَعَنْ = بِعَنْ تَجَاوُزاً عَنَى مَنْ قَدْ فَطَنْ
376- وَقَدْ تَجِي مَوْضِعَ بَعْدٍ وَعَلَى = كَمَا عَلَى مَوْضِعَ عَنْ قدْ جُعِلا
مِنْ حروفِ الْجَرِّ
معانِي (عَلَى)
السابعُ: (عَلَى)، وهوَ حَرْفُ جَرٍّ أصْلِيٌّ، ولهُ معانٍ؛ منها:
1- الاستعلاءُ: وهوَ أكْثَرُ مَعَانِيهَا، حِسِّيًّا كانَ نحوُ: خالدٌ على السَّيَّارَةِ، قالَ تعالى: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}، أوْ مَعنويًّا نحوُ: عليهِ دَيْنٌ، قالَ تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}.
وأمَّا نَحْوُ: توكَّلْتُ علَى اللَّهِ، فليسَ مِنْ هذا المعنى؛ لأنَّ اللَّهَ لا يَعْلُو عليهِ شيءٌ لا حِسًّا ولا معنًى، وإنَّما ذلكَ مِنْ بابِ الإضافةِ والإسنادِ؛ أيْ: أضَفْتُ تَوَكُّلِي واعتمادِي إلى اللَّهِ سُبحانَهُ، وأَسْنَدْتُهُما إليهِ.
2- معنى (فِي): وهوَ الظرفيَّةُ، وذلكَ إذا دخَلَتْ على الظروفِ غالباً؛ كقولِهِ تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا}.
3- معنى (عَن): وهوَ المجاوَزَةُ؛ نحوُ: إذا رَضِيَ عَلَيَّ الأبرارُ غَضِبَ عَلَيَّ الأشرارُ؛ أيْ: رَضِيَ عَنِّي، قالَ الشاعِرُ:
إذا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ = لَعَمْرُ اللَّهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا

وإنما كانتْ بمعنى (عَن)؛ لأنَّ الأصْلَ في الفعْلِ (رَضِيَ) أنْ يَتَعَدَّى بـ(عَن) لا بـ(عَلَى)، قالَ تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}.
معانِي (عَن)
الثامنُ: عنْ، وهوَ حرْفُ جَرٍّ أصْلِيٌّ، ولهُ مَعَانٍ؛ منها:
1- المُجَاوَزَةُ، وهيَ أشْهَرُ مَعَانِيهَا، ومَعْنَاهَا: ابتعادُ شيءٍ مَذكورٍ أوْ غيرِ مَذكورٍ عَمَّا بعدَ حَرْفِ الْجَرِّ بسببِ شَيْءٍ قَبْلَهُ، فالأوَّلُ نحوُ: انْصَرَفْتُ عنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ؛ أيْ: جَاوَزْتُهُمْ وتَرَكْتُهم، والثانِي نحوُ: سَمِعْتُ حَدِيثاً عنْ أبي هُريرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ؛ أيْ: جَاوَزَتْهُ المُؤَاخَذَةُ بسببِ الرِّضَا، وهذهِ مُجَاوَزَةٌ حقيقيَّةٌ. قدْ تكونُ مَجازِيَّةً؛ نحوُ: أخَذْتُ الفِقْهَ عنْ فُلانٍ، كأنَّهُ -لَمَّا عَلِمْتُ ما يَعْلَمُهُ- قدْ جَاوَزَهُ العلْمُ بسببِ الأخْذِ عنهُ.
2- بمعنى (بَعْدُ): كقولِهِ تعالى: {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ}؛ أيْ: بعدَ قليلٍ، وقولِهِ تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}، بدليلِ {مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}.
3- بمعنى (علَى): وهوَ الاستعلاءُ؛ كقولِهِ تعالى: {فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ}؛ أيْ: على نَفْسِهِ.
وهذا معنى قولِهِ: (عَلَى لِلاِسْتِعْلا.. إلخ)؛ أيْ: أنَّ (علَى) تكونُ للاستعلاءِ، وقَصَرَ قولَهُ: (لِلاسْتِعْلا)؛ للضرورةِ. وتكونُ للظرفيَّةِ بمعنى (فِي)، وللمُجاوَزَةِ بمعنى (عَن) التي تُؤَدِّي هذا المعنى نفْسَهُ إذا قَصَدَهُ مَنْ فَطَنَ لهُ؛ أيْ: وعَنَى الذي تَحَقَّقَتْ فِطْنَتُهُ تَجاوُزاً بـ(عَنْ). ثمَّ بَيَّنَ أنَّ (عَنْ) قدْ تكونُ بمعنى (بَعْدُ) وبمعنى (عَلَى) الْمُفِيدَةِ للاستعلاءِ، كما أنَّ (علَى) تكونُ بمعنى (عَن) المفيدَةِ للمُجاوَزَةِ.
377- شَبِّهْ بِكَافٍ وَبِهَا التَّعْلِيلُ قَدْ = يُعْنَى وَزَئِداً لِتَوْكِيدٍ وَرَدْ
معاني (الكافِ)
التاسعُ مِنْ حروفِ الجرِّ: الكافُ، وهوَ حرْفٌ يَقَعُ أصْلِيًّا وزَائداً، ومِنْ مَعَانِيهِ:
1- التَّشْبِيهُ: وهوَ أكثَرُ مَعانيهِ استعمالاً، والتشبيهُ: عَقْدُ مُمَاثَلَةٍ بينَ شَيْئَيْنِ؛ لاشتراكِهما في صِفَةٍ أوْ أكثرَ، قالَ تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ}؛ أيْ: في الارتفاعِ.
2- التعليلُ: كقولِهِ تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ}؛ أيْ: لهدايتِهِ إيَّاكُمْ، و(مَا) مَصدريَّةٌ، وكقولِنا في التشَهُّدِ: (كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ) على أَحَدِ القَوْلَيْنِ.
3- التوكيدُ: ويَخْتَصُّ بالزائدةِ؛ كقولِهِ تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} على رَأْيِ مَنْ يقولُ بأنَّها زائدةٌ لتوكيدِ نَفْيِ الْمِثْلِ؛ لِئَلاَّ يَلْزَمَ إثباتُ الْمِثْلِ للَّهِ تعالى لوْ قيلَ بعدَمِ زِيادتِها، إذْ يَصيرُ المعنى: ليسَ مِثْلَ مِثْلِهِ شيءٌ.
والقولُ الثاني: إنَّها غيرُ زائدةٍ؛ لأنَّ العرَبَ تُطْلِقُ الْمِثْلَ وتُريدُ بهِ الذاتَ؛ نحوُ: مِثْلِي لا يَفعَلُ كذا؛ أيْ: أنا لا أفْعَلُ كذا، قالَ تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ}؛ أيْ: على القرآنِ، فيكونُ مَعْنَى الآيَةِ: ليسَ مِثلَ ذاتِ اللَّهِ شيءٌ، وإذا انتَفَت الْمُمَاثَلَةُ في الذَّاتِ انْتَفَت المُماثَلَةُ في الصِّفَاتِ.
وهذا معنى قولِهِ: (شَبِّهْ بكافٍ.. إلخ)؛ أيْ: شَبِّهْ شَيئاً بشيءٍ آخَرَ بواسِطَةِ الكافِ، وقدْ يُقْصَدُ بها التعليلُ، وقدْ وَرَدَ هذا الحرْفُ زائداً للتوكيدِ.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
معاني, حروف

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:27 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir