فَصلٌ: فِي ذِكرِ مَعَانِي الحُروفِ.
لـ (مِنْ) سَبعَةُ مَعَانٍ:
أَحَدُهَا: التَّبعِيضُ نحوَ: {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}([1]). ولِهَذَا قُرِئَ (بَعْضَ مَا تُحِبُّونَ)([2]).
والثَّانِي: بَيَانُ الجِنسِ([3])، نحوَ: {مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ}([4]).
والثَّالِثُ: ابتِدَاءُ الغَايَةِ المَكَانِيَّةِ باتِّفَاقٍ، نحوَ: {مِنَ المَسجِدِ الحَرَامِ}([5])، والزَّمَانِيَّةِ خِلافاً لأكثَرِ البَصْرِيِّينَ([6])، ولنَا قَولُهُ تَعَالَى: {مِنْ أَوَّلِ يَومٍ}([7]). والحَدِيثُ: (فَمُطِرْنَا مِنَ الجُمعَةِ إِلَى الجُمعَةِ)([8]). وقَولُ الشَّاعِرِ:
294- تُخُيِّرْنَ مِنْ أَزْمَانِ يَومِ حَلِيمَةٍ([9]) والرَّابِعُ: التَّنصِيصُ علَى العُمُومِ، أو تَأكِيدُ التَّنصِيصِ عليه([10])، وهي الزَّائِدَةُ، ولها ثَلاثَةُ شُرُوطٍ: أَن يَسبِقَهَا نَفْيٌ، أَو نَهْيٌ، أَو استِفهَامٌ([11]) بِـ(هَلْ)([12]) ، وأَن يَكُونَ مَجرُورُهَا نَكِرَةً، وأَن يَكُونَ إِمَّا فَاعِلاً، نحوَ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ}([13]) ، أَو مَفعُولاً، نحوَ: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ}([14]) ، أَو مُبتَدَأً، نحوَ: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيرُ اللَّهِ)([15]).
والخَامِسُ: مَعنَى البَدَلِ، نحوَ: {أَرَضِيتُمْ بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ}([16]).
والسَّادِسُ: الظَّرْفِيَّةُ، نحوَ: {مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ}([17])، {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَومِ الجُمعَةِ}([18]).
والسَّابِعُ: التَّعلِيلُ، كقَولِهِ تَعَالَى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا}([19]) ، وقالَ الفَرَزْدَقُ:
يُغْضِي حَيَاءً ويُغْضَى مِن مَهَابَتِهِ([20]) ولِلاَّمِ اثنَا عَشَرَ مَعْنىً:
أَحَدُهَا: المِلكُ، نحوَ: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ}([21]).
والثَّانِي: شِبْهُ المِلكِ، ويُعَبَّرُ عَنهُ بالاختِصَاصِ([22]) ، نحوَ: (السَّرْجُ لِلدَّابَّةِ).
والثَّالِثُ: التَّعْدِيَةُ، نحوَ: (مَا أَضْرَبَ زَيْداً لِعَمرٍو).
والرَّابِعُ: التَّعليلُ كقولِهِ:
وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ هِزَّةٌ([23]) والخَامِسُ: التَّوكِيدُ، وهي الزَّائِدَةُ، نحوَ قولِهِ:
295- مُلْكاً أَجَارَ لمُسلِمٍ ومُعَاهَدِ([24]) وأَمَّا {رَدِفَ لَكُمْ}([25]). فالظَّاهِرُ أنَّهُ ضُمِّنَ مَعنَى (اقتَرَبَ)؛ فهو مِثلُ: {اقتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}([26]).
والسَّادِسُ: تَقْوِيَةُ العَامِلِ الذي ضَعُفَ: إِمَّا بكَونِهِ فَرعاً في العَمَلِ([27])، نحوَ: {مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ}([28]). {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}([29])، وإمَّا بتَأَخُّرِهِ عن المَعمُولِ، نحوَ: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}([30])، ولَيسَتِ المُقَوِّيَةُ زَائِدَةً مَحضَةً، ولا مُعَدِّيَةً مَحضةً، بل هي بَينَهُمَا.
والسَّابِعُ: انتِهَاءُ الغَايَةِ، نحوَ: {كُلٌّ يَجرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى}([31]).
والثَّامِنُ: القَسَمُ، نحوَ: (للَّهِ لا يُؤَخَّرُ الأَجَلُ)([32]).
والتَّاسِعُ: التَّعَجُّبُ، نحوَ: (للَّهِ دَرُّكَ!)([33]).
والعَاشِرُ: الصَّيرُورَةُ، نحوَ:
296- لِدُوا لِلمَوتِ وابْنُوا لِلخَرَابِ([34]) والحَادِيَ عَشَرَ: البَعْدِيَّةُ، نحوَ: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}([35]). أَي: بَعدَهُ.
والثَّانِيَ عَشَرَ: الاستِعلاءُ، نحوَ: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ}([36]). أَي: عَلَيهَا([37]).
ولِلبَاءِ اثنَا عَشَرَ مَعنًى أَيضاً:
أَحَدُهَا: الاستِعَانَةُ، نحوَ: (كَتَبْتُ بالقَلَمِ)([38]).
والثَّانِي: التَّعْدِيَةُ، نحوَ: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}([39]). أي: أَذْهَبَهُ.
والثَّالِثُ: التَّعوِيضُ، كـ (بِعْتُكَ هَذَا بِهَذَا)([40]).
والرَّابِعُ: الإلصَاقُ، نحوَ: (أَمسَكْتُ بِزَيدٍ)([41]).
والخَامِسُ: التَّبعِيضُ([42]) ، نحوَ: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ}([43]) ، أي: مِنهَا.
والسَّادِسُ: المُصَاحَبَةُ، نحوَ: {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ}([44]) ، أي: معَهُ.
والسَّابِعُ: المُجَاوَزَةُ، نحوَ: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً}([45]) ، أي: عَنْهُ.
والثَّامِنُ: الظَّرْفِيَّةُ، نحوَ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الغَرْبِيِّ}([46]) ، أي: فيهِ، ونحوَ: {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ}([47]).
والتَّاسِعُ: البَدَلُ كقَولِ بَعضِهِم: (مَا يَسُرُّنِي أَنِّي شَهِدْتُ بَدراً بِالعَقَبَةِ)، أي: بدَلَهَا.
والعَاشِرُ: الاستِعلاءُ، نحوَ: {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ}([48]) ، أَي: عَلَى قِنْطَارٍ.
والحَادِيَ عَشَرَ: السَّبَبِيَّةُ، نحوَ: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ}([49]).
والثَّانِيَ عَشَرَ: التَّأكِيدُ، وهي الزَّائِدَةُ، نحوَ: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً}([50]) ، ونحوَ: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}([51]) ، ونحوَ: (بِحَسْبِكَ دِرْهَمٌ)، ونحوَ: (زَيدٌ ليسَ بِقَائِمٍ) ([52]).
ولـ (فِي) سِتَّةُ معَانٍ:
(1) الظَّرفِيَّةُ، حَقِيقَةً مَكَانِيَّةً أَو زَمَانِيَّةً، نحوَ: {فِي أَدْنَى الأَرْضِ}([53]) ، ونَحوَ: {فِي بِضْعِ سِنِينَ}([54]).
أَو مَجَازِيَّةً، نحوَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ}([55]).
(2) والسَّبَبِيَّةُ، نحوَ: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}([56]).
(3) والمُصَاحَبَةُ، نحوَ: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ}([57]).
(4) والاستِعلاءُ، نحوَ: {لأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}([58]).
(5) والمُقَايَسَةُ، نحوَ: {فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}([59]).
(6) وبِمَعنَى البَاءِ، نحوَ:
297- بَصِيرُونَ فِي طَعْنِ الأَبَاهِرِ وَالكُلَى([60]) ولـ (عَلَى) أَربَعَةُ مَعَانٍ:
أَحَدُهَا: الاستعلاءُ([61]) ، نحوَ: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفُلْكِ تُحْمَلُونَ}([62]).
والثَّانِي: الظَّرْفِيَّةُ، نحوَ: {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ}([63]) ، أَي: فِي حِينِ غَفْلَةٍ.
والثَّالِثُ: المُجَاوَزَةُ، كقولِه:
298- إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيرٍ([64]) أَي: عَنِّي.
والرَّابِعُ: المُصَاحَبَةُ، نحوَ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ}([65]) ، أَي: معَ ظُلْمِهِمْ([66]).
ولـ (عَن) أَربَعَةُ مَعَانٍ أَيضاً:
أَحَدُهَا: المُجَاوَزَةُ([67]) ، نحوَ: (سِرتُ عَن البَلَدِ) و(رَمَيْتُ عَنِ القَوسِ).
والثَّانِي: البَعْدِيَّةُ، نحوَ: {طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ}([68]) ، أَي: حَالاً بَعدَ حَالٍ.
والثَّالِثُ: الاستِعلاءُ، كقَولِهِ تعَالَى: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ}([69]) ، أَي: عَلَى نَفْسِهِ، وكقولِ الشَّاعِرِ:
299- لاهِ ابنُ عَمِّكَ لاَ أَفْضَلْتَ فِي حَسَبٍ = عَنِّي............ ([70]) أي: عَلَيَّ.
والرَّابِعُ: التَّعلِيلُ، نحوَ: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ}([71]) ، أي: لأجلِهِ([72]).
ولِلكَافِ أَربَعَةُ مَعَانٍ أَيضاً:
أَحَدُها: التَّشبِيهُ، نحوَ: {وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}([73]).
والثَّانِي: التَّعلِيلُ، نحوَ: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ}([74]) أي: لِهِدَايَتِهِ إِيَّاكُمْ.
والثَّالِثُ: الاستعلاءُ، قِيلَ لبَعضِهِمْ: كَيفَ أَصْبَحْتَ؟ فقالَ: كَخَيرٍ، أي: عَلَيهِ([75]) ، وجَعَلَ مِنهُ الأخفَشُ قَولَهُم: (كُنْ كَمَا أنتَ) أَي: على ما أنت عليه([76]).
والرَّابِعُ: التَّوكِيدُ، وهي الزَّائِدَةُ، نحوَ: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}([77])، أي: لَيسَ شَيْءٌ مِثلَهُ([78]).
ومَعنَى (إِلَى) و(حتَّى) انتِهَاءُ الغَايَةِ، مَكَانِيَّةً أو زَمَانِيَّةً، نحوَ: {مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى}([79])، ونحوَ: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيلِ}([80]) . ونحوَ: (أَكَلْتُ السَّمَكَةَ حتَّى رَأْسِهَا)، ونحو: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ}([81]).
وإنَّمَا يُجَرُّ بحتَّى في الغالبِ آخِرٌ أو مُتَّصِلٌ بآخِرٍ، كما مَثَّلْنَا؛ فلا يُقَالُ: (سَهِرْتُ البَارِحَةَ حتَّى نِصفِهَا)([82]).
ومَعنَى كي التَّعلِيلُ، ومَعنَى الواوِ والتَّاءِ القَسَمُ، ومَعنَى مُذْ ومُنْذُ ابتِدَاءُ الغَايَةِ إِن كانَ الزَّمَانُ مَاضِياً، كقولِهِ:
300- أَقْوَيْنَ مُذْ حِجَجٍ ومُذْ دَهْرِ([83])
وقَولِهِ:
301- وَرَبْعٍ عَفَتْ آثَارُهُ مُنْذُ أَزمَانِ([84]) والظَّرفِيَّةُ إِن كانَ حَاضِراً، نحوَ: (مُنذُ يَومِنَا) وبمَعنَى مِن وإِلَى معاً إن كانَ مَعدُوداً، نحوَ: (مُذْ يَوْمَينِ).
ورُبَّ لِلتَّكثِيرِ كَثيِراً، وللتَّقلِيلِ قَلِيلاً([85]) ؛ فالأوَّلُ كقولِهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ([86]): ((يَا رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٌ يَومَ القِيَامَةِ))، وقولِ بَعضِ العَرَبِ عندَ انقِضَاءِ رَمَضَانَ: (يَا رُبَّ صَائِمِهِ لَنْ يَصُومَهُ، وقَائِمِهِ لَن يَقُومَهُ).
والثَّانِي كقولِه:
302- أَلاَ رُبَّ مَولُودٍ وَلَيسَ لَهُ أَبٌ = وَذِي وَلَدٍ لَمْ يَلْدَهُ أَبَوَانِ([87]) يريدُ بذلكَ آدَمَ وعِيسَى عليهِمَا الصَّلاةُ والسَّلامُ.
([1])سُورَةُ آلِ عِمرَانَ، الآيَةُ: 92.
([2])هَذِهِ قِرَاءَةُ ابنِ مَسعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ.
([3])أَكثَرُ ما تَقَعُ (مِن) التي لبَيَانِ الجِنسِ بعدَ (ما) و(مهما) لِفَرْطِ إِبهَامِهِمَا، نحوَ: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ}. {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}. {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ}. وقد تَقَعُ بعدَ غَيرِهِمَا نحوَ قَولِه تَعَالَى: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ}. ونَحوَ الآيَةِ التي ذَكَرَها المُؤَلِّفُ، والشَّاهِدُ فيها في (مِن) الثَّانِيَةِ، فأَمَّا الأُولَى فقِيلَ: إِنَّهَا زَائِدَةٌ. وقد أَنكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ النُّحَاةِ مَجِيءَ (مِن) لبَيَانِ الجنسِ، وقالُوا: (مِن) في {مِنْ سُنْدُسٍ}. وفي {مِنْ ذَهَبٍ}. لِلتَّبعِيضِ.
([4])سُورَةُ الكَهفِ، الآيَةُ: 31.
([5])سُورَةُ الإسراءِ، الآيَةُ: 1.
([6])اعلَمْ أنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ بينَ النَّحْوِيِّينَ إنَّمَا هو في مَجِيءِ (مِن) لابتداءِ الغايَةِ الزَّمَانِيَّةِ، فأَهلُ الكُوفَةِ يُثبِتُونَهُ، وأهلُ البَصْرَةِ يَمنَعُونَهُ، وأمَّا وُرُودُهَا لابتِدَاءِ الغَايَةِ في المَكَانِ والأحداثِ والأشخاصِ، فلا خِلافَ فيه، وقد استَدَلَّ الكُوفِيُّونَ على مَجِيئِهَا لابتداءِ الغَايَةِ في الزَّمَانِ بقَولِهِ تعَالَى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَومٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}.
ولا شَكَّ أنَّ {أَوَّلِ يَومٍ} مِنَ الزَّمَانِ، وكذا قَولُهُ تعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَومِ الجُمْعَةِ} وبالحديثِ الذي ذَكَرَه المُؤَلِّفُ، وببيتِ النَّابِغَةِ الذي ذَكَرَهُ أَيضاً، وسيأتِي القَولُ علَيهِ، ويَقُولُ زُهَيرُ بنُ أَبِي سُلْمَى المُزَنِيُّ:
لِمَنِ الدِّيَارُ بِقُنَّةِ الحِجْرِ = أَقْوَيْنَ مِنْ حِجَجٍ وَمِنْ دَهْرِ
وزَعَمَ البَصْرِيُّونَ أنَّ (مِن) في الآيَةِ الأُولَى لابتدَاءِ الغَايَةِ في الأحداثِ, وأنَّ التَّقدِيرَ: مِن تَأسِيسِ أَوَّلِ يَومٍ، وذَهَبُوا إلى أنَّ (مِن) في الآيَةِ الثَّانِيَةِ للظَّرفِيَّةِ، لا للابتداءِ، وقدَّرُوا مُضَافاً في الكلامِ لِتَكُونَ (مِن) لابتداءِ الغَايَةِ في الأحداثِ، أي: مِن صَلاةِ يَومِ الجُمعَةِ، وكذلك فَعلُوا في بَيتِ النَّابِغَةِ، فقدَّرُوهُ: مِن استِمرَارِ يَومِ حَلِيمَةٍ، وأَنكَرُوا رِوَايَةَ بَيتِ زُهَيرٍ، وذَكَرُوا أنَّ الرِّوَايَةَ الثَّابِتَةَ الصَّحِيحَةَ *أَقْوَيْنَ مُذْ حِجَجٍ ومُذْ دَهْرِ* وستَأْتِي للمُؤَلِّفِ الشَّاهِدُ رَقمُ (300)، ولَئِن سَلِمَت رِوَايَةُ الكُوفِيِّينَ فيه فإِنَّ تَأوِيلَها مُمكِنٌ، ومِمَّا أوَّلُوها بهِ تَقدِيرُ مُضَافٍ ليَكُونَ (مِن) لابتداءِ الغَايَةِ في الأحداثِ؛ أي: مِن مُرُورِ حِجَجٍ ومُرُورِ دَهرٍ، أو تَقدِيرُ (مِن) تَعلِيلِيَّةً؛ أي: أَقْوَيْنَ مِن أَجلِ مُرُورِ حِجَجٍ ومُرُورِ دَهرٍ، والظَّاهِرُ مِن عِبَارَةِ المُؤَلِّفِ في (المُغنِي) اختِيَارُ مَذهَبِ البَصْرِيِّينَ، خِلافاً لِمَا اختَارَهُ هُنَا.
([7])سُورَةُ التَّوبَةِ، الآيَةُ: 108.
([8])هذا حديثٌ رَوَاهُ البُخَارِيُّ في الاستِسقاءِ مِن حَديثِ شَرِيكِ بنِ عَبدِ اللَّهِ بنِ أَبِي نَمِرٍ عن أَنَسٍ.
([9])294-هذا الشَّاهِدُ مِن كلامٍ للنَّابِغَةِ الذُّبْيَانِيِّ يَمدَحُ به عَمرَو بنَ الحَارِثِ الأعرَجَ أَحدَ المُلوكِ الغَسَّانِيِّينَ، وما ذكَرَهُ المُؤَلِّفُ ههُنَا صَدرُ بَيتٍ مِن الطَّوِيلِ،وعَجُزُه قَولُهُ:
*إِلَى اليَومِ قَدْ جُرِّبْنَ كُلَّ التَّجَارِبِ*
اللُّغَةُ: (تُخُيِّرْنَ) – بِالبنَاءِ لِلمَجهُولِ – مَعنَاهُ وَقَعَ الاختيارُ علَيهِنَّ، ونُونُ الإناثِ تَعودُ إلى السُّيُوفِ المَذكُورَةِ في بَيتٍ سَابِقٍ على البَيتِ المُستَشهَدِ بِه، وهو قَولُه:
وَلا عَيْبَ فِيهِمْ غَيرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ = بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتَائِبِ
و(يَومِ حَلِيمَةٍ): هو اليَومُ الذي سارَ فيه المُنذِرُ بنُ المُنذِرِ مَلِكُ الحِيرَةِ – بِكَسرِ الحَاءِ المُهمَلَةِ – بِعَرَبِ العِرَاقِ، إلى الحَارِثِ الغَسَّانِيِّ، وهو يَومٌ مِن أيَّامِ العَرَبِ المَشهورَةِ، وفيه وَرَدَ المَثَلُ: ما يَومُ حَلِيمَةٍ بِسِرٍّ، (جُرِّبْنَ) بِالبِنَاءِ لِلمَجهُولِ أَيضاً – ؛ أي: اختُبِرْنَ وابْتُلِينَ وامتُحِنَّ، وأَرَادَ أَنَّهُ قد أَظهَرَت التَّجْرِبَةُ صَفَاءَ جَوهَرِهِنَّ ونَقَاءَ مَعدِنِهِنَّ وجَودَةَ صِقَالِهِنَّ وشِدَّةَ فَتكِهِنَّ.
(كُلَّ التَّجَارِبِ) التَّجَارِبُ: جَمعُ تَجرِبَةٍ، وهي الاختِبَارُ والامتِحَانُ والابتلاءُ، ونَصَبَ كُلَّ هنا على المَفعُولِيَّةِ المُطلَقَةِ مِثلَ (كُلَّ الظَّنِّ) في قَولِ الشَّاعِرِ، وقد مَضَى الاستِشهَادُ بهِ في بابِ المَفعُولِ المُطلَقِ (وهو الشَّاهِدُ رَقمُ 246):
وَقَدْ يَجْمَعُ اللَّهُ الشَّتِيتَينِ بَعدَمَا = يَظُنَّانِ كُلَّ الظَّنِّ أَنْ لا تَلاقِيَا
الإعرَابُ: (تُخُيِّرْنَ) تُخُيِّرَ: فِعلٌ مَاضٍ مَبنِيٌّ لِلمَجهُولِ، مَبنِيٌّ على فَتحٍ مُقَدَّرٍ على آخِرِه لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرَابِ، ونُونُ النِّسوَةِ نَائِبُ فَاعِلِه، مَبنِيٌّ على الفَتحِ في مَحَلِّ رَفعٍ، (مِن) حَرفُ جَرٍّ دَالٌّ على ابتِدَاءِ الغَايَةِ الزَّمَانِيَّةِ، مَبنِيٌّ على السُّكُونِ، لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرَابِ (أَزمَانِ) مَجرُورٌ بِمِن، وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسرَةُ الظَّاهِرَةُ، وهو مُضَافٌ، و(يَومِ) مُضَافٌ إليه مَجرُورٌ بالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ، وهو مُضَافٌ، و(حَلِيمَةٍ) مُضَافٌ إليه مَجرُورٌ بِالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ، وقد كان حَقُّهُ أن يَمنَعَهُ مِنَ الصَّرفِ لِلعَلَمِيَّةِ والتَّأنِيثِ فيَجُرَّهُ بالفَتحَةِ نِيَابَةً عن الكَسرَةِ ويَمنَعَهُ التَّنوِينَ، ولكنَّهُ لمَّا اضْطُرَّ لإقامَةِ الوَزنِ نَوَّنَهُ، واستتبَعَ ذلك أن يَجُرَّهُ بالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ، (إلى) حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لَهُ مِن الإعرابِ.
(اليومِ) مَجرُورٌ بإلى، وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسرَةُ الظَّاهِرَةُ، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بتُخُيِّرَ، (قَدْ) حَرفُ تَحقِيقٍ، مَبنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرابِ، (جُرِّبْنَ) جُرِّبَ: فِعلٌ مَاضٍ مَبنِيٌّ لِلمَجهُولِ، مَبنِيٌّ على فَتحٍ مُقَدَّرٍ على آخِرِهِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرابِ، ونُونُ النِّسْوَةِ العَائِدُ إلى السُّيُوفِ نَائِبُ فَاعِلٍ، مَبنِيٌّ على الفَتحِ في مَحَلِّ رَفْعٍ، (كُلَّ) مَفعُولٌ مُطلَقٌ، عَامِلُهُ: جُرِّبَ، مَنصُوبٌ وعَلامَةُ نَصبِهِ الفَتحَةُ الظَّاهِرَةُ، و(كُلَّ) مُضَافٌ، و(التَّجَارِبِ) مُضَافٌ إليه مَجرُورٌ بالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ.
الشَّاهِدُ فيه: قَولُهُ: (مِنْ أَزْمَانِ) فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أنَّ (مِن) فيه لِلدِّلالَةِ على ابتِدَاءِ الغَايَةِ في زَمَانٍ، وقد ذَهَبَ إلى ذلك الكُوفِيُّونَ، ورَدَّهُ البَصْرِيُّونَ بأنَّ الكلامَ على تَقدِيرِ مُضَافٍ؛ أي: مِن استِمرَارِ يَومِ حَلِيمَةٍ، وقد بَيَّنَّا ذلك فيما مَضَى قَرِيباً.
([10])اعلَمْ أَوَّلاً أنَّ (مِن) التي تَدُلُّ على التَّنصِيصِ على العُمُومِ هي التي يَكُونُ مَدخُولُها لَفظاً غَيرَ الألفاظِ الدَّالَّةِ على العُمُومِ بِنَفسِهَا، نحوَ: (ما جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ) فإنَّهُ لولا وُجُودُ (مِن) لجَازَ لك أن تَعتَبِرَ المَنفِيَّ مَجيئُهُ هو الرَّجُلُ الوَاحِدُ أو جِنسُ الرِّجَالِ، ولَولا وُجُودُ (مِن) أَيضاً لجَازَ لك أن تَقُولَ: (مَا جَاءَنِي رَجُلٌ بل رَجُلانِ) فلمَّا وُجِدَت (مِن) امتَنَعَ عليك أن تَفهَمَ أنَّ المَنفِيَّ مَجيِئُهُ وَاحِدٌ، وامتَنَعَ عليك أن تَقُولَ: (بل رَجُلانِ). وأمَّا التي تَدُلُّ على تَأكِيدِ التَّنصِيصِ على العُمُومِ فهي التي يكونُ مَدخُولُهَا لَفظاً مِنَ الألفاظِ الدَّالَّةِ على العُمُومِ بِنَفسِهَا – وذلك مِثلُ أَحَدٍ، ودِيَّارٍ، وعَرِيبٍ – نحوُ (مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ)، ونَحوُ (مَا لَقِيتُ مِن دِيَارٍ)، ونحوُ (مَا في هذه الدَّارِ مِن غَرِيبٍ).
ثُمَّ اعلَمْ ثَانِياً أنَّ المَواضِعَ التي تُزَادُ فيهَا (مِن) على وَجهِ التَّفصِيلِ تِسعَةُ مَوَاضِعَ:
المَوضِعُ الأوَّلُ: تُزَادُ قبلَ الفَاعِلِ، نَحوَ قَولِكَ:ِ (ما جَاءَ مِنْ أَحَدٍ) وقالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} فذِكْرٌ: فَاعِلُ يَأتِي، وقَد زِيدَتْ قَبلَهُ مِنْ، وقَبلَها ما النَّافِيَةُ.
المَوضِعُ الثَّانِي: تُزَادُ قَبلَ النَّائِبِ عَن الفَاعِلِ، نَحوَ قَولِكَ: (مَا اتُّهِمَ مِنْ أَحَدٍ بهذه التُّهَمَةِ). فأَحَدٌ: نَائِبُ فَاعِلِ اتُّهِمَ المَبنِيُّ لِلمَجْهُولِ، وقد زِيدَتْ قَبلَهُ مِن وقَبلَهَا مَا النَّافِيَةُ.
المَوضِعُ الثَّالِثُ: تُزَادُ قبلَ المُبتَدَأِ، نَحوَ قَولِكَ: (مَا مِنْ أحَدٍ يذهَبُ إلى مِثلِ مَا ذَهَبْتَ إِلَيهِ). وقالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيرُ اللَّهِ يَرزُقُكُمْ} فخَالِقٌ: مُبتَدَأٌ، وقد زِيدَتْ قَبلَهُ مِن، وقبلَها هَل الاستِفهَامِيَّةُ.
المَوضِعُ الرَّابِعُ: تُزَادُ قَبلَ اسمِ كَانَ، نحوَ قَولِكَ: (لَمَ يَكُنْ لك مِن عُذرٍ). وقالَ اللَّهُ تعَالَى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ} فحَرَجٌ: اسمُ كَانَ، وقد زِيدَت قَبلَهُ مِن، وقَبلَهَا مَا النَّافِيَةُ.
المَوضِعُ الخَامِسُ: تُزَادُ قبلَ المَفعُولِ بِهِ، نحوَ قَولِكَ: (هَل اتَّخَذْتَ مِن سَبَبٍ لِتَفعَلَ مَا فَعَلْتَ)، وقالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ}، فأَحَدٌ: مَفعُولٌ بهِ لِتُحِسُّ، وقد زِيدَت قَبلَهُ مِن، وقَبلَهَا هَل الاستِفْهَامِيَّةُ.
المَوضِعُ السَّادِسُ: تُزَادُ قَبلَ المَفعُولِ الأوَّلِ مِن مَفعُولَي ظَنَّ وأَخَوَاتِهَا، نَحوَ قَولِكَ: (مَا ظَنَنْتُ مِن أَحدٍ يَذهَبُ إلى مِثلِ مَا ذَهَبْتَ إِلَيهِ).
المَوضِعُ السَّابِعُ: تُزَادُ قَبلَ المَفعُولِ الأوَّلِ مِن مَفعُولاتِ أَعلَمُ وأَخَوَاتِهَا، نَحوَ قَولِكَ: (مَا أَعْلَمْتُ مِن أَحدٍ أنَّكَ مُسَافِرٌ).
المَوضِعُ الثَّامِنُ: تُزَادُ قبلَ المَفعُولِ الأوَّلِ مِن مَفعُولَي أَعطَى، نحوَ قَولِكَ: (ما أَعطَيْتُ مِن أَحَدٍ مِثلَ مَا أَعطَيْتُكَ).
المَوضِعُ التَّاسِعُ: تُزَادُ قبلَ المَفعُولِ الثَّانِي مِن مَفعُولَي أَعطَى، نَحوَ: (مَا مَنَحْتُ أَحَداً مِنْ دِينَارٍ).
وكُلُّ هَذِهِ المَوَاضِعِ يَصدُقُ عليها أنَّهَا فَاعِلٌ أو مَفعُولٌ أو مُبتَدَأٌ.
([11])ذَهَبَ الكُوفِيُّونَ إلى أنَّهُ لا يُشتَرَطُ في مَجرُورِ (مِن) الزَّائِدَةِ إلا شَرطٌ واحِدٌ، وهو أن يكونَ مَجرُورُها فَاعِلاً أو مَفعُولاً أو مُبتَدَأً، ولا يُشتَرَطُ أن يَتَقَدَّمَ عليها نَفْيٌ أو استِفهامٌ أو نَهْيٌ. واستَدَلُّوا على ذَلِكَ بوُرُودِهَا زَائِدَةً في الكَلامِ المُوجَبِ الذي لم يَتَقَدَّمْهُ نَفْيٌ ولا نَهْيٌ ولا استِفهامٌ في كلامِ العَرَبِ، مِن ذلكَ قولُهُمْ: (قَدْ كَانَ مِنْ مَطَرٍ) وقَولُهُم: (قَد كَانَ مِنْ حَدِيثٍ فَخَلِّ عَنِّي) ووَجهُ الدِّلالَةِ مِن هَاتَينِ العِبَارَتَينِ أنَّ (كَانَ) فِيهِمَا تَامَّةٌ، فهي مُحتَاجَةٌ إلى فَاعِلٍ، و(مِن) فِيهِمَا زَائِدَةٌ، و(مَطَرٍ) في العِبَارَةِ الأُولَى فَاعِلٌ، و(حَدِيثٍ) في العِبَارَةِ الثَّانِيَةِ فَاعِلٌ أَيضاً، وكُلٌّ مِنهُمَا مَرفُوعٌ بِضَمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ على آخرِهِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهَا اشتِغَالُ المَحَلِّ بِحَرَكَةِ حَرفِ الجَرِّ الزَّائِدِ.
وقَد أَجَابَ العُلَمَاءُ عَن هَذَا الاستِدْلالِ بأنَّهُ لا يَتَعَيَّنُ في وَاحِدَةٍ مِنَ العِبَارَتَينِ أن يَكُونَ فَاعِلُ كَانَ هو الاسمُ الذي دَخَلَت عليه مِن لجَوَازِ أن يَكُونَ الفَاعِلُ في كُلٍّ مِنهُمَا ضَمِيراً مُستَتِراً تَقدِيرُهُ هو يَعُودُ إلى اسمِ فَاعِلِ كَانَ، وكأَنَّ قَائِلَ (قد كانَ مِن مَطَرٍ) قد قالَ: قَدْ كَانَ هُوَ – أي: الكَائِنُ – مِن مَطَرٍ، وكأنَّ قَائِلَ (قَدْ كَانَ مِن حَدِيثٍ) قد قالَ: قَدْ كانَ هُوَ – أي: الكَائِنُ – مِن حَدِيثٍ، ولَئِنْ سَلَّمْنَا أنَّ الاسمَ الذي دَخَلَت عليه مِن هُوَ الفَاعِلُ، فلا نُسَلِّمُ أنَّهُ لم يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِ نَفْيٌ أو استِفهامٌ بهَل، بل نَدَّعِي أنَّهُ قد سَبَقَهُ استِفهَامٌ بِهَل، ونَدَّعِي أنَّ هَذَا الكَلامَ وَاقِعٌ في جَوَابِ كَلامٍ، وأنَّهُ وَارِدٌ على سَبِيلِ حِكَايَةِ ما تَكَلَّمَ به المُستَفْهِمُ، وكأنَّ قَائِلاً قد قالَ: هَلْ كَانَ مِنْ مَطَرٍ؟ فَقِيلَ لَهُ: قَد كَانَ مِنْ مَطَرٍ. وكأنَّ قَائِلاً قد قالَ: هَلْ كَانَ مِنْ حَدِيثٍ؟ فقيلَ لَهُ: قد كَانَ مِن حَدِيثٍ. وهذا تَكَلُّفٌ لا نَرَى لكَ أَن تَذْهَبَ إِلَيهِ.
وذَهَبَ الأخْفَشُ والكِسَائِيُّ وهِشَامٌ إلى أنَّهُ تَجُوزُ زِيَادَةُ (مِن) بِغَيرِ شَرطٍ، فتُزَادُ بعدَ الإيجَابِ وبعدَ النَّفيِ، ويَجُوزُ أن يَكُونَ مَدْخُولُها مَعرِفَةً وأن يَكُونَ نَكِرَةً، ويَجُوزُ أن يَكُونَ وَاقِعاً في أَحَدِ مَوَاقِعِ الإعرابِ التي فَصَّلْنَاهَا لكَ فيمَا سَبَقَ، ويَجُوزُ أن يَكُونَ وَاقِعاً في غَيرِ هذه المَوَاقِعِ.
واستَدَلُّوا على ذلك بأنَّهَا جَاءَتْ زَائِدَةً ومَجرُورُهَا مَعرِفَةٌ، ولَم يَسْبِقْهَا نَفْيٌ أو شِبهُهُ في قَولِهِ تعَالَى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}. زَعَمُوا أنَّ (مِن) في هذِه الآيَةِ الكَرِيمَةِ زَائِدَةٌ، وذُنُوبِكُمْ: مَفعُولٌ بهِ لِيَغفِرْ، وهو مَعرِفَةٌ لإضَافَتِهِ إلى الضَّمِيرِ، ولم يَتَقَدَّمْ عَلَيهِ نَفْيٌ ولا شِبهُهُ، وزَعَمُوا أنَّهُم ذَهَبُوا إلى تَقدِيرِ مِن زَائِدَةً فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ لِكَي يَتَطَابَقَ مَعنَاهَا معَ قَولِه تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَغفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} واستَدَلُّوا أَيضاً بِقَولِهِ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} زَعَمُوا أنَّ (مِن) زَائِدَةٌ، و(سَيِّئَاتِكُم)، مَفعُولٌ بِهِ لـِ(يُكَفِّرُ)، وهذا المَفعُولُ مَعرِفَةٌ لإضَافَتِهِ إِلَى الضَّمِيرِ، ولَم يَتَقَدَّمْ على (مِن) نَفْيٌ ولا شِبهُهُ.
والجَوَابُ عَن هذا الاستِدْلالِ أَنَّا لا نُسَلِّمُ أنَّ (مِن) في الآيَتَينِ الكَرِيمَتَينِ زَائِدَةٌ، بلْ هِيَ أَصلِيَّةٌ، ومَعنَاهَا التَّبعِيضُ، ويَدُلُّ لِصِحَّةِ ذلك أنَّكَ لو قُلْتَ: يَغْفِرُ لَكُمْ بَعضَ ذُنُوبِكُمْ، ويُكَفِّرُ عَنكُم بَعضَ سَيِّئَاتِكُم. لكَانَ مَعنًى صَحِيحاً لا غُبَارَ عَلَيهِ، وقَولُهُم: أَرَدْنَا مُطَابَقَةَ الآيَةِ لِقَولِهِ تَعالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً}.
قُلْنَا: المَدَارُ على ألاَّ يَكُونَ بينَ هذِهِ الآيَةِ والآيَةِ المُستَدَلِّ بها تَنَاقُضٌ، ولا تَنَاقُضَ على ما ذَكَرْنَا مِنَ المَعنَى، فإنَّ الذي يُنَاقِضُ غُفرَانَ جَمِيعِ الذُّنُوبِ هو عَدَمُ غُفرَانِ شَيءٍ مِنهَا، فأَمَّا غُفْرَانُ بَعضِهَا دُونَ بَعضٍ فلا يُنَاقِضُهُ، وما الذي يُنكَرُ مِن أن يَكُونَ عَمَلٌ مِن أَعمَالِ البِرِّ في ظَرفٍ مُعَيَّنٍ مُقتَضِياً عِندَ اللَّهِ تَعَالَى غُفرَانَ كُلِّ الذُّنُوبِ، وعَمَلٌ آخَرُ مِن أَعمَالِ البِرِّ، أَو العَمَلُ الأوَّلُ نَفسُهُ في ظَرفٍ آخَرَ مُقتَضِياً عِندَهُ سُبحَانَهُ غُفرَانَ بَعضِ الذُّنُوبِ لا كُلِّهَا، بل هذا الذي نَذهَبُ إِلَيهِ أَولَى بأن نَأخُذَ بِهِ؛ لأنَّ أَعمَالَ البِرِّ لَيسَتْ كُلُّها سَوَاءً، ولا ظُرُوفُ المُكَلَّفِينَ سَوَاءً.
([12])جَعَلَ الفَارِسِيُّ الشَّرطَ كَالنَّفْيِ، واستَشْهَدَ لذلك بقَولِ زُهَيرِ بنِ أَبِي سُلْمَى المُزَنِيِّ:
ومَهْمَا تَكُنْ عِندَ امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ = وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ
([13])سُورَةُ الأنبِيَاءِ، الآيَةُ: 2، فذَكَرَ في الآيَةِ فَاعِلَ يَأْتِيهِمْ، وهو نَكِرَةٌ مَسبُوقٌ بِحَرفِ النَّفْيِ الذي هُو (ما)، وقالَ بَعضُ العُلَمَاءِ: إنَّ زِيَادَةَ (مِن) معَ المَنصُوبِ أَحسَنُ مِن زِيَادَتِها معَ المَرفُوعِ، وتَوجِيهُ ذلك أنَّ زِيَادَتَهَا معَ المَنصُوبِ وَاقِعَةٌ في المَوقِعِ الذي اعتَادَ العَرَبُ استِعمَالَ حُرُوفِ الجَرِّ فيهِ؛ لأنَّ حُرُوفَ الجَرِّ إنَّمَا تَدخُلُ في الكلامِ لِتَعدِيَةِ مَعَانِي الأفعالِ إلى الأسمَاءِ، والتَّعدِيَةُ إنَّمَا تَكُونُ إلى المَنصُوبِ، فإِذَا زِدْتَهَا معَ المَرفُوعِ تَكُونُ قَد زِدْتَهَا في غَيرِ المَحَلِّ الذي تَعَوَّدَ العَرَبُ استِعْمَالَهَا فيهِ.
([14])سُورَةُ مَريَمَ، الآيَةُ: 98، ومِنَ المَفعُولِ الذي تُزَادُ معَهُ (مِن) المَفعُولُ المُطلَقُ، وقد خَرَّجَ أَبُو البَقَاءِ علَى زِيَادَتِهَا معَ المَفعُولِ المُطلَقِ قَولَهُ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}. وقَولَهُ سُبحَانَهُ: {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ}. فجَعَلَ (شَيءٍ) فِي الآيَةِ الأُولَى بِمَعنَى تَفرِيطٍ، وفي الآيَةِ الثَّانِيَةِ بِمَعنَى ضَرَرٍ.
([15])سُورَةُ فَاطِرٍ، الآيَةُ: 3.
([16])سُورَةُ التَّوبَةِ، الآيَةُ: 38، وأَنكَرَ قَومٌ مَجِيءَ (مِن) للبَدَلِ، وقالَ: إنَّ التَّقدِيرَ في الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أَرَضِيتُمُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا بَدَلاً مِنَ الآخِرَةِ، فالجَارُّ والمَجرُورُ - وهُوَ {مِنَ الآخِرَةِ}. مُتَعَلِّقٌ بِمَحذُوفٍ حَالٌ مِنَ الحيَاةِ الدُّنيَا، وتَقدِيرُ الكَلامِ: بَدَلاً مِن الآخِرَةِ. وعلَى هذَا يَكُونُ المُفِيدُ لِلبَدَلِ هُو مُتَعَلِّقُ (مِن)، لا (مِن) نَفسُها، وهذا تَكَلُّفٌ كما لا يَخفَى عَلَيكَ.
([17])سُورَةُ فَاطِرٍ، الآيَةُ 40.
([18])سُورَةُ الجُمُعَةِ، الآيَةُ:9.
والقَولُ بأنَّ (مِن) تُفِيدُ الظَّرفِيَّةَ زَمَانِيَّةً أو مَكَانِيَّةً هو قَولُ الكُوفِيِّينَ، وقالَ البَصْرِيُّونَ: هِيَ في الآيَتَينِ لِبَيَانِ الجِنْسِ كما فِي قَولِهِ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}.
([19])سُورَةُ نُوحٍ، الآيَةُ: 25.
([20])هَذَا الشَّاهِدُ مِن كَلِمَةٍ يَقُولُهَا الفَرَزْدَقُ في مَدْحِ زَينِ العَابِدِينَ عَلِيِّ بنِ الحُسَينِ بنِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ، وقد مَضَى ذِكْرُه في بَابِ النَّائِبِ عَن الفَاعِلِ (ش227) ومَا ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ صَدرُ البَيتِ، وعَجُزُهُ قَولُهُ:
*فَمَا يُكَلَّمُ إِلاَّ حِينَ يَبْتَسِمُ*
الشَّاهِدُ هُنَا في قَولِهِ: (مِنْ مَهَابَتِهِ) فإِنَّ (مِن) فِيهِ حَرفٌ دَالٌّ على التَّعلِيلِ.
هذا، وقَد زَادَ قَومٌ على مَعَانِي (مِن) التي ذَكَرَها المُؤَلِّفُ ثَامِناً وهُوَ المُجَاوَزَةُ كَعَن، نحوَ قَولِهِ تعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ}؛ أي: عَن ذِكْرِ اللَّهِ، وتَاسِعَاً هو الانتِهَاءُ، نَحوَ قَولِكَ: (قَرُبْتُ مِنهُ)؛ أي: إليهِ، وعَاشِراً وهُوَ الاستِعلاءُ، نَحوَ قَولِهِ تعَالَى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القَومِ}؛ أي: عَلَيهِم. وخَرَّجَهَا قَومٌ على التَّضمِينِ، وزادَ قَومٌ مَعَانِيَ أُخَرَ لم نَجِدْ بُدّاً مِن تَركِها، لما في كُلِّ وَاحدٍ منها مِنَ النَّظَرِ.
([21])سُورَةُ (لُقمَانَ)، الآيَةُ: 26.
([22])ومنه نَوعٌ يُعَبَّرُ عنه باسمِ الاستِحْقَاقِ، نحوَ: (الوَيلُ لِلنَّاكِثِينَ) و(العَذَابُ لِلكَافِرِينَ).
([23])قد تَقَدَّمَ ذِكرُ هذا الشَّاهِدِ قَرِيباً في بابِ المَفعُولِ لَهُ (ش253) فارْجِعْ إليه هُنَاكَ.
([24])295-هَذا الشَّاهِدُ مِن كلامِ ابنِ مَيَّادَةَ الرَّمَّاحِ بنِ أَبرَدَ، يَمدَحُ عَبْدَ الوَاحِدِ بنَ سُلَيمَانَ بنِ عَبْدِ المَلِكِ بنِ مَرْوَانَ، وقد كانَ عَبْدُ الوَاحِدِ أَمِيراًً بالمَدِينَةِ، وقَد رَوَى أَبُو الفَرَجِ الأَصْبَهَانِيُّ في كِتَابِه (الأَغَانِي) (2/115 بولاق) بَيتَ الشَّاهِدِ فِي ضِمنِ أَبْيَاتٍ لابنِ مَيَّادَةَ يَقُولُهَا في عَبْدِ الوَاحِدِ هَذَا، وأوَّلُ هذِه الأَبْيَاتِ قَولُهُ:
مَنْ كَانَ أَخْطَأَهُ الرَّبِيعُ فَإِنَّمَا = نَضُرَ الحِجَازُ بِغَيثِ= عَبْدِ الوَاحِدِ
إِنَّ المَدِينَةَ أَصْبَحَتْ مَعْمُورَةً = بِمُتَوَّجٍ حُلُوِ الشَّمَائِلِ مَاجِدِ
وما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ عَجُزُ بَيتٍ مِنَ الكَامِلِ، وَصدْرُه قَولُهُ:
*وَمَلَكْتَ مَا بَينَ العِرَاقِ وَيَثْرِبٍ*
اللُّغَةُ: (وَمَلَكْتَ) أَرَادَ بِالمُلكِ هَهُنَا السُّلْطَةَ والوِلايَةَ؛ يَعنِي: امتَدَّت سُلْطَتُكَ فِي هَذِهِ الرُّقْعَةِ مِنَ الأرضِ، وانْبَسَطَ نُفُوذُكَ علَى قُطَّانِهَا، (يَثرِبٍ) هُو الاسمُ القَدِيمُ لِطِيبَةَ مَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ، سُمِّيَت بِاسمِ بَانِيهَا، وهُوَ رَجُلٌ مِنَ العَمَالِقَةِ، وقَد وَرَدَ هذَا الاسمُ في القُرآنِ الكَرِيمِ فِي قَولِهِ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ} وقَد نهَى النَّبِيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ عن إِطلاقِ هذَا الاسمِ علَيهَا، وسَمَّاهَا طِيبَةَ، (أَجَارَ) هُوَ في جَمِيعِ الأُصُولِ التي وَقَفْنَا على رِوَايَةِ الأَبْيَاتِ فِيهَا بِالجِيمِ والرَّاءِ المُهمَلَةِ، ومَعنَاهُ: حَفِظَ وحَمَى، وذَكَرَ العَيْنِيُّ وَحدَهُ أنَّهُ بِمَعنَى عَدَّى، وكأنَّهُ قَرَأَهُ بِالزَّايِ، (مُعَاهَدِ) بِفَتحِ الهَاءِ أَو كَسرِهَا – اسمٌ لِكُلِّ مَن يَدخُلُ بِلادَ المُسلِمِينَ بِعَهْدٍ مِن إِمَامِهِم.
المَعنَى: يَقُولُ: لَقَدِ امتَدَّت سُلطَتُك أيُّها الأميرُ علَى رُقْعَةٍ فَسِيحَةٍ مِنَ الأرضِ تَشمَلُ مَا بَينَ العِرَاقِ ويَثرِبَ، وإِنَّ سُلطَانَكَ لعَادِلٌ قَوِيٌّ، فقَد رَعَى حُقُوقَ النَّاسِ وضَمِنَ مَصَالِحَهُم، وتَكَفَّلَ لهُم بالطُّمَأْنِينَةِ والرَّغَدِ، مِن غَيرِ تَفرِقَةٍ بينَ المُسلِمِينَ الذينَ هُم أَهلُ البِلادِ وغَيرِهِمْ مِمَّن يَدخُلُ تَحتَ سُلطَانِكَ بِعَهْدٍ مِن أَهلِهَا وأَمَانٍ مِن حُكَّامِهَا.
الإعرابُ: (مَلَكْتَ) مَلَكَ: فِعلٌ مَاضٍ مَبنِيٌّ علَى فَتحٍ مُقَدَّرٍ على آخِرِهِ، لا مَحَلَّ له مِنَ الإعرابِ، وتَاءُ المُخَاطَبِ فَاعِلُهُ مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ في مَحَلِّ رَفعٍ، (مَا) اسمُ مَوصُولٍ مَفعُولٌ بِهِ لِمَلَكَ، مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ في مَحَلِّ نَصبٍ، (بينَ) ظَرفُ مَكَانٍ مُتَعَلِّقٌ بِمَحذُوفٍ صِلَةُ الاسمِ المَوصُولِ، وبينَ مُضَافٌ، و(العِرَاقِ) مُضَافٌ إِلَيهِ مَجرُورٌ بالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ، (ويَثرِبٍ) الوَاوُ حَرفُ عَطفٍ، مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرابِ، يَثرِبٍ: مَعطُوفٌ علَى العِرَاقِ، مَجرُورٌ وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسرَةُ الظَّاهِرَةُ، وكَانَ حَقُّهُ أَن يَجُرَّهُ بِالفَتحَةِ نِيَابَةً عَن الكَسرَةِ، ويَمنَعَهُ مِنَ الصَّرفِ للعَلَمِيَّةِ والتَّأْنِيثِ المَعنَوِيِّ، كما جاءَ فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ، فإنَّهُ عَلَمٌ على مَدِينَةٍ مُعَيَّنَةٍ كما عَلِمْتَ في لُغَةِ البَيتِ، ولكنَّهُ لمَّا اضطُرَّ لإقَامَةِ الوَزْنِ نَوَّنَهُ وجَرَّهُ بِالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ. كما فَعَلَ النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ في قَولِهِ: (يَومِ حَلِيمَةٍ) في الشَّاهِدِ السَّابِقِ.
(مُلْكاً) مَفعُولٌ مُطلَقٌ عَامِلُهُ قَولُه: (مَلَكْتَ) السَّابِقُ، مَنصُوبٌ بِالفَتحَةِ الظَّاهِرَةِ (أَجَارَ) فِعلٌ مَاضٍ مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرَابِ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُستَتِرٌ فيهِ جَوَازاً تَقدِيرُهُ (هو) يَعُودُ إلى مُلكٍ، والجُملَةُ مِن الفِعلِ المَاضِي وفَاعِلِه في مَحَلِّ نَصبٍ صِفَةٌ لِمُلكٍ، (لِمُسلِمٍ) اللاَّمُ حَرفُ جَرٍّ زَائِدٌ لا يَدُلُّ على مَعنًى، مَبنِيٌّ على الكَسرِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرابِ، ومُسلِمٍ: مَفعُولٌ بهِ لأَجَارَ، مَنصُوبٌ بِفَتحَةٍ مُقَدَّرَةٍ على آخِرِهِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهَا اشتِغَالُ المَحَلِّ بِحَرَكَةِ حَرفِ الجَرِّ الزَّائِدِ.
(ومُعَاهَدِ) الوَاوُ حَرفُ عَطفٍ، مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرَابِ، مُعَاهَدِ: مَعطُوفٌ علَى مُسلِمٍ، وقد أَجْرَى العَطفَ هَهُنا على لَفظِ المَعطُوفِ عَلَيهِ، فهُوَ مَجرُورٌ وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسرَةُ الظَّاهِرَةُ.
الشَّاهِدُ فيه: قَولُهُ: (لِمُسلِمٍ) فإنَّ اللاَّمَ فيه زَائدةٌ لمُجَرَّدِ التَّوكِيدِ، وذلك لأنَّ (أَجَارَ) يَتَعَدَّى بنَفسِه، وقد تَقَدَّمَ على مَعمُولِه، فليسَ بحَاجَةٍ إلى اللاَّمِ.
([25])سُورَةُ (النَّملِ)، الآيَةُ: 72، والذي ذَهَبَ إلى أنَّ اللاَّمَ في قَولِهِ تعَالَى: {رَدِفَ لَكُمْ} زَائِدَةٌ هو أَبُو العَبَّاسِ المُبَرِّدُ، وتَبِعَهُ على ذلك قَومٌ، ولم يَرْتَضِ هَذَا التَّخْرِيجَ قَومٌ تَبِعَهُم المُؤَلِّفُ، وقالُوا: إنَّ {رَدِفَ} ضُمِّنَ مَعنَى اقتَرَبَ، فتَعَدَّى باللاَّمِ كما تَعَدَّى اقترَبَ في قَولِهِ تَعَالَى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}.
([26])سُورَةُ (الأَنْبِيَاءِ)، الآيَةُ: 1، ومِنَ اللاَّمِ الزَّائِدَةِ اللاَّمُ المُعتَرِضَةُ بينَ المُضَافِ والمُضَافِ إليه كَاللاَّمِ في قَولِ الشَّاعِرِ:
يَا بُؤْسَ لِلْحَرْبِ الَّتِي = وَضَعَتْ أَرَاهِطَ فَاسْتَرَاحُوا
أَصلُ الكَلامِ: يَا بُؤْسَ الحَرْبِ. فزَادَ اللاَّمَ بينَ المُضَافِ والمُضَافِ إِلَيهِ تَقوِيَةً لِمَعنَى الاختِصَاصِ الذي تُفِيدُ أَصلَهُ الإضَافَةُ، وقد اختَلَفَ النُّحَاةُ في انجِرَارِ مَا دَخَلَت علَيهِ اللاَّمُ؛ هل هو بِالإضَافَةِ كما كانَ قبلَ دُخُولِ اللاَّمِ، أم هو باللاَّمِ؟ والذي نُرَجِّحُهُ لكَ أَن تَعتَبِرَ الجَرَّ باللامِ؛ لأنَّ هذا هو الظَّاهِرُ، ولا مُقتَضِيَ لِلعُدُولِ عَنهُ، وأَيضاً لِمَا عُلِمَ مِن أنَّ حَرفَ الجَرِّ لا يُعَلَّقُ عَن العَمَلِ.
([27])العَامِلُ الفَرعُ عَن عَامِلٍ آخَرَ هُو المَصدَرُ، ومِثَالُهُ قَولُهُ: (سَاءَنِي ضَربُ عَلِيٍّ لِخَالِدِ)، وَاسمُ الفَاعِلِ، ومِنهُ الآيَةُ الأُولَى في أَمثِلَةِ المُؤَلِّفِ، واسمُ المَفعُولِ، نحوَ قَولِكَ: (زَيدٌ مُعطَى للدَّرَاهِمِ)، وأَمْثِلَةُ المُبَالَغَةِ، ومِن أَمثِلَتِه الآيَةُ الثَّانِيَةُ في أَمثِلَةِ المُؤَلِّفِ.
([28])سُورَةُ (البَقَرَةِ)الآيَةُ: 91.
([29])سُورَةُ (البُرُوجِ)، الآيَةُ: 16.
([30])سُورَةُ (يُوسُفَ)، الآيَةُ: 43.
([31])سُورَةُ فَاطِرٍ، الآيَةُ: 13.
([32])وتَختَصُّ اللاَّمُ المُستَعْمَلَةُ في الدِّلالَةِ على القَسَمِ بالدُّخُولِ على لَفظِ الجَلالَةِ، وسِرُّ ذلك أنَّها تَأتِي خَلَفاً للتَّاءِ, والتَّاءُ أَكثَرُ ما تُستَعْمَلُ معَ لفظِ الجَلالَةِ، نحوَ قَولِهِ تعالَى: {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}.
([33])فَإِن قُلْتَ: فقَدْ قالَ النُّحَاةُ: إنَّ قَولَ العَرَبِ (للَّهِ دَرُّكَ) يدُلُّ على التَّعَجُّبِ، والظَّاهِرُ مِن ذلك أنَّ الجُملَةَ كُلَّهَا هي الدَّالَّةُ على التَّعَجُّبِ،فكيفَ زَعَمْتُم هنا أنَّ اللاَّمَ وَحدَهَا تَدُلُّ على التَّعَجُّبِ؟
فالجَوَابُ عن هذا أنْ نَذْكُرَ لكَ أنَّ ما قَالُوه في بَابِ التَّعَجُّبِ هو الصَّوَابُ، وأمَّا قَولُهُم هُنا: إنَّ اللاَّمَ تَدُلُّ على التَّعَجُّبِ فهو مِن بَابِ نِسبَةِ مَا لِلكُلِّ إلى ما لِلجُزءِ، فهو مَجَازٌ مُرسَلٌ عِلاقَتُهُ الكُلِّيَّةُ والجُزْئِيَّةُ.
([34])296-لم أَقِفْ لهذا الشَّاهِدِ على نِسبَةٍ إلى قَائِلٍ مُعَيَّنٍ، وهذا الذي ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ ههُنَا صَدرُ بَيتٍ مِنَ الوَافِرِ، وعَجُزُهُ قَولُهُ:
*فَكُلُّكُمُ يَصِيرُ إِلَى الذَّهَابِ*
اللُّغَةُ: (لِدُوا) فِعلُ أَمرٍ مُسنَدٌ لوَاوِ الجَمَاعَةِ مِن الوِلادَةِ، تَقُولُ: وَلَدَ يَلِدُ لِدْ، مِثلَ وَعَدَ يَعِدُ عِدْ، ووَصَفَ يَصِفُ صِفْ، ومِن شَوَاهِدِ استِعمَالِ المَاضِي مِن هَذا الفِعلِ قَولُ الشَّاعِرِ، وهو مِن شَوَاهِدِ النُّحَاةِ في بابِ النَّائِبِ عن الفَاعِلِ:
وَلَوْ وَلَدَتْ قَفِيرَةُ جَرْوَ كَلْبٍ = لَسُبَّ بِذَلكَ الجَرْوِ الكِلابَا
ومِن شَوَاهِدِ استِعمَالِ المُضَارِعِ منهُ قَولُ اللَّهِ تَعَالَى في سُورَةِ الصَّمَدِ: {لَمْ يَلِدْ}. وقَولُ الشَّاعِرِ:
إِذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ = وَلَمْ تَجِدِي مِنْ أَنْ تُقِرِّي بِهِ بُدَّا
ومِن شَوَاهِدِ استِعمَالِ فِعلِ الأمرِ ما في بَيتِ الشَّاهِدِ (لِدُوا لِلموتِ) والمَوتُ: هو انتِهَاءُ الحَيَاةِ بِخُمُودِ حَرَارَةِ البَدَنِ وبُطلانِ حَرَكَتِه، (وابنُوا لِلخَرَابِ) الخَرَابِ – بِفَتحِ الخَاءِ المُعجَمَةِ – هو ضِدُّ العُمرَانِ، وتَقولُ: عَمِرَت الدَّارُ تَعمَرُ – بوَزنِ فَرِحَ يَفرَحُ – إِذَا أَهِلَت بِسُكَّانِهَا.
الإعرابُ: (لِدُوا) فِعلُ أَمرٍ مَبنِيٌّ علَى حَذفِ النُّونِ لأنَّهُ مِن الأفعالِ الخَمسَةِ، وحُرِّكَ آخِرُه بالضَّمِّ لمُنَاسَبَةِ وَاوِ الجَمَاعَةِ، ووَاوُ الجَمَاعَةِ فَاعِلُهُ مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ في مَحَلِّ رَفعٍ، (لِلمَوْتِ) اللاَّمُ حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرَابِ، والمَوتِ: مَجرُورٌ باللامِ، وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسرَةُ الظَّاهِرَةُ، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بقَولِه: لِدُوا، (وابنُوا) الوَاوُ حَرفُ عَطفٍ مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرَابِ، وابْنِ فِعلُ أَمرٍ مَبنِيٌّ علَى حَذفِ النُّونِ؛ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخَمسَةِ، ووَاوُ الجَمَاعَةِ فَاعِلُه مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ فِي مَحَلِّ رَفعٍ، والجُملَةُ مِن فِعلِ الأمرِ وفَاعِلِه مَعطُوفَةٌ بالوَاوِ علَى جُملَةِ لِدُوا، (لِلخَرَابِ) اللاَّمُ حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ علَى الكَسرِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرَابِ، الخَرَابِ: مَجرُورٌ بِاللاَّمِ، وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسرَةُ الظَّاهِرَةُ، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِقَولِهِ: ابنُوا.
(فَكُلُّكُمُ) الفَاءُ حَرفٌ دَالٌّ علَى التَّعلِيلِ مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ، لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرَابِ، كُلُّ: مُبتَدَأٌ مَرفُوعٌ بِالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وكُلُّ مُضَافٌ وضَمِيرُ المُخَاطَبِينَ مُضَافٌ إِلَيهِ، (يَصِيرُ) فِعلٌ مُضَارِعٌ نَاقِصٌ مَرفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِن النَّاصِبِ والجَازِمِ، وعَلامَةُ رَفعِهِ الضَّمَّةُ الظَّاهِرَةُ، واسمُهُ ضَمِيرٌ مُستَتِرٌ فيهِ جَوازاً تقدِيرُهُ (هو) يَعُودُ إلى كُلِّ، (إِلَى) حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرابِ، (الذَّهَابِ) مَجرُورٌ بإلى وعلامَةُ جَرِّهِ الكَسرَةُ الظَّاهِرَةُ، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بمَحذُوفٍ خَبَرُ يَصِيرُ، وجُملَةُ يَصِيرُ واسمُهُ وخَبَرُه في مَحَلِّ رَفعٍ خَبَرُ المُبتَدَأِ الذي هو (كُلُّ)، وجُملَةُ المُبتَدَأِ وخَبَرِه لا مَحَلَّ لها مِن الإعرابِ تَعلِيلِيَّةٌ.
الشَّاهِدُ فيه: قَولُهُ: (لِلمَوتِ) وقَولُهُ: (لِلخَرَابِ) فإنَّ اللاَّمَ فِيهِمَا لَيسَت دَالَّةً علَى التَّعلِيلِ، إذ لا يُعقَلُ أنَّ أَحَداً يَفهَمُ أنَّ عِلَّةَ البِنَاءِ، والسَّبَبَ الحَامِلَ عليه هو الخَرَابُ، وأنَّ عِلَّةَ الوِلادَةِ هي المَوتُ، وإنَّمَا هذانِ أَمرَانِ يَصيِرُ المَآلُ إليهِمَا مِن غَيرِ أن يَكُونَ أَحَدُهُمَا بَاعِثاً وحَافِزاً.
ونَظِيرُ ذلك قولُهُ تَعَالَى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَونَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً}. فإنَّ البَاعِثَ الذي بَعَثَ فِرعَونَ وقَومَهُ علَى التِقَاطِ مُوسَى هو أن يَكُونَ لَهُم قُرَّةَ عَينٍ، وأَن يَتَّخِذُوهُ وَلَداً، لَكِنْ صَادَفَ أن صَارَت عَاقِبَتُه ومَآلُه أن كانَ لَهُم عَدُوّاً.
هذَا، وقَدْ مَنَعَ بَعضُ النُّحَاةِ أنْ تَجِيءَ اللاَّمُ لِلصَّيرُورَةِ، وزَعَمَ أنَّهَا لا تَنفَكُّ عَن التَّعلِيلِ، وهذا الفَرِيقُ يَجعَلُ اللاَّمَ في البَيتِ وفي الآيَةِ الكَرِيمَةِ دَاخِلَةً علَى مَحذُوفٍ هُوَ العِلَّةُ البَاعِثَةُ.
([35])سُورَةُ الإسرَاءِ، الآيَةُ: 78، والسِّرُّ في جَعلِهِم اللاَّمَ في هذه الآيَةِ الكَرِيمَةِ بمَعنَى بَعدَ: أَنَّ وَقتَ الصَّلاةِ إنَّمَا يُعلَمُ دُخُولُه بالدُّلُوكِ، فلا تُقَامُ الصَّلاةُ إلا بعدَ الدُّلُوكِ, وهو مَيلُ الشَّمسِ عَن الاستِوَاءِ.
ومِثلُ الآيَةِ الكَرِيمَةِ قَولُهُ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسَلَّمَ: ((صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ)) وقَولُ مُتَمِّمِ بنِ نُوَيرَةَ:
فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكاً = لِطُولِ اجتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعا
أَي: بعدَ طُولِ اجتِمَاعٍ.
([36])سُورَةُ الإسرَاءِ، الآيَةُ: 109.
([37])ومِن شَوَاهِدِ مَجِيءِ اللاَّمِ بمَعنَى (على) قَولُ جَابِرِ بنِ حُنَىِّ بنِ حَارِثَةَ التَّغْلِبِيِّ:
تَنَاوَلَهُ بِالرُّمحِ ثُمَّ اثْنَىَ لَهُ = فَخَرَّ صَرِيعاً لِليَدَينِ ولِلْفَمِ
وخَرَّجُوا علَيهِ قَولَ اللَّهِ تعَالَى في قِصَّةِ إِسمَاعِيلَ وإِبرَاهِيمَ علَيهِمَا السَّلامُ: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلجَبِينِ}. وتَلَّهُ: كَبَّهُ وصَرَعَهُ، يعنِي – واللَّهُ أَعلَمُ – فلَمَّا انقَادَا جَمِيعاً لأمرِ اللَّهِ تعَالَى وخَضَعَا لإرَادَتِه، وصَرَعَ إِبرَاهِيمُ ابنَهُ إِسمَاعِيلَ علَى وَجهِهِ، وذلك كما تَقُولُ: كَبَبْتُهُ علَى وَجْهِهِ.
([38])عَلامَةُ بَاءِ الاستِعَانَةِ أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً علَى الآلَةِ التي يُصنَعُ بها الفِعلُ، نحوَ (نَجَرْتُ بِالقَدُومِ)، ألا تَرَى أنَّ القَلَمَ في مِثَالِ المُؤَلِّفِ آلَةٌ للكِتَابَةِ، وأنَّ القَدُومَ آلَةٌ لِلنِّجَارَةِ؟ وهل البَاءُ في البَسمَلَةِ مِن هذا القَبِيلِ مَجازاً؟ قَولانِ ذَكَرَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ، أَحَدُهُمَا أنَّ الباءَ فيها للآلَةِ مَجَازاً؛ لأنَّ الفِعلَ لا يَتَأَتَّى على أَتَمِّ وَجهٍ وأَكمَلِه إلا بِالاستِعَانَةِ باللَّهِ، والثَّانِي أنَّ البَاءَ فيها لِلمُصَاحَبَةِ، وذلك تَحَاشِياً مِن سُوءِ الأدَبِ معَ اللَّهِ جَلَّ جَلالُهُ أن يُجْعَلَ آلَةً ولو مَجَازاً.
([39])سُورَةُ البَقَرَةِ، الآيَةُ:17، وقَدْ قُرِئَ في هذِه الآيَةِ:(أَذْهَبَ اللَّهُ نُورَهُمْ) وبِهَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ رَدَّ العُلَمَاءُ علَى المُبَرِّدِ والسُّهَيلِيِّ اللذَينِ زَعَمَا أنَّ بَينَ التَّعدِيَةِ بِالهَمزَةِ والتَّعدِيَةِ بالبَاءِ فَرقاً. وحَاصِلُهُ أنَّكَ إذَا عَدَّيتَ الفِعلَ بالباءِ كانَ فَاعِلُ الفِعلِ مُصَاحِباً لِمَدخُولِ البَاءِ، ولا يَلزَمُ ذلك في التَّعدِيَةِ بالهَمزَةِ، فإذَا قُلْتَ: (ذَهَبْتُ بِزَيدٍ) كُنتَ مُصَاحِباً لِزَيدٍ في الذَّهَابِ، والرَّدُّ بالآيَةِ وَاضِحٌ.
([40])بَاءُ التَّعوِيضِ تُسَمَّى بَاءَ المُقَابَلَةِ أَيضاً، وعَلامَتُهَا أن تَكُونَ دَاخِلَةً علَى الأَعوَاضِ والأثمَانِ حِسّاً أو مَعنًى، فأَمَّا التي دَخَلَت على العِوَضِ حِسّاً فمثلُ قَولِكَ: (بِعْتُكَ هذا الثَّوبَ بهذا) فمَدْخُولُ البَاءِ هو العِوَضُ والثَّمَنُ، وأمَّا التي دَخَلَت على العِوَضِ مَعنًى فَمِثلُ قَولِكَ: (كَافَأْتُ إِحسَانَهُ بِالشُّكرِ) أو: (قَابَلْتُ بِرَّهُ بمِثلِهِ، أو بِضِعفِهِ).
فإِنْ قُلْتَ: فَإِنِّي أَجِدُ بينَ بَاءِ التَّعوِيضِ والبَاءِ الدَّالَّةِ علَى السَّبَبِيَّةِ التِبَاساً، فافرِقْ لِي بَينَهُمَا حتَّى أُمَيِّزَ إِحدَاهُمَا عن الأُخرَى أدَقَّ التَّميِيزِ.
فالجَوَابُ عن ذلك أنْ نَقُولَ لكَ: انظُرْ إلَى مَدخُولِ البَاءِ، فإِنْ رَأَيْتَهُ قَد يُعطَى بِعِوَضٍ وقد يُعطَى مَجَّاناً فاجْعَلِ البَاءَ لِلعِوَضِ، وإِن كَانَ لا بُدَّ مِن حُصُولِه بِسَبَبِ حُصُولِ مَا قَبلَهُ، فَاجْعَلِ البَاءَ لِلسَّبَبِيَّةِ؛ لأنَّ طَبِيعَةَ الأُمُورِ أنَّ مَا يُعطَى بِعِوَضٍ لا يَمنَعُ العَقلُ جَوَازَ إِعطَائِهِ مَجَّاناً، وأنَّ ما يُعطَى بِسَبَبٍ لا بُدَّ مِن إِعطَائِهِ متَى حَصَلَ سَبَبُه.
ومِن أَجلِ هذا حَمَلَ أَهلُ السُّنَّةِ البَاءَ في قَولِهِ تعَالَى: {ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} عَلَى أنَّها لِلعِوَضِ، وحَمَلُوا البَاءَ فِي قَولِه صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسَلَّمَ: ((لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمُ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ)) علَى أنَّهَا لِلسَّبَبِيَّةِ، فالآيَةُ الكَرِيمَةُ تَدُلُّ علَى أنَّ دُخُولَ الجَنَّةِ قد يَكُونُ مَجَّاناً فَضلاً مِنَ اللَّهِ وإِحسَاناً، والحَدِيثُ يَدُلُّ علَى أنَّ العَمَلَ لَيسَ سَبَباً مُوجِباً لِدُخُولِ الجَنَّةِ، وبهذا تَعْلَمُ أنَّهُ لا تَعَارُضَ بينَ الآيَةِ والحَدِيثِ.
([41])اعْلَمْ أوَّلاً أنَّ الإلصَاقَ أَصلُ مَعَانِي البَاءِ، وبَاقِي ما يُذكَرُ مِن معَانِي البَاءِ فُرُوعٌ عَن الإلصَاقِ، ويُؤَيِّدُ ذلك قَولُ سِيبَوَيْهِ: (وَإِنَّمَا هِيَ للإلصاقِ والاختِلاطِ.. ومَا اتَّسَعَ مِن هذا فِي الكلامِ فهَذَا أَصلُهُ)اهـ. ثُمَّ اعلَمْ أنَّ الإلصَاقَ إمَّا حَقيقِيٌّ، وإِمَّا مَجَازِيٌّ، وأنَّ الإلصاقَ الحَقِيقِيَّ علَى ضَرْبَينِ: الأوَّلُ: ما لا يَصِلُ الفِعلُ إلى المَفعُولِ إلا بِالحَرفِ الدَّالِّ علَيهِ – وهو البَاءُ – نحوَ قَولِكَ: (سَطَوْتُ بِزَيدٍ) فإِنَّ (سَطَا) لا يَصِلُ إلى المَفعُولِ إلا بوَاسِطَةِ الحرفِ، فإذَا أَرَدْتَ معَهُ مَعنَى الإلصَاقِ جِئْتَ بالباءِ.
والثَّانِي: ما أَصلُ الفِعلِ أن يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَرَدْتَ أنْ تَدُلَّ علَى مَعنًى زَائِدٍ على مُجَرَّدِ وُقُوعِهِ على المَفعُولِ فجِئْتَ بالبَاءِ، نحوَ قَولِكَ: (أَمْسَكْتُ بِزَيدٍ) فإنَّ هذا الفِعلَ الذي هو أَمسَكَ يَتَعَدَّى إلى المَفعُولِ به بِنَفسِهِ، فتَقُولُ: (أَمْسَكْتُ زَيداً) فأَرَدْتَ بالإتيَانِ بالبَاءِ مَعَهُ أنْ تَدُلَّ على مَعنًى زَائِدٍ على مُجَرَّدِ وقُوعِهِ علَيهِ، وبَيَانُ ذَلِكَ أنَّ قَولَكَ: (أَمْسَكْتُ بِزَيدٍ) يَدُلُّ على أنَّكَ قَبَضْتَ علَى شَيءٍ مِن جِسمِهِ أو مَا يَحْبِسُهُ مِن ثَوبٍ أو نَحوِه، وأمَّا قَولُكَ (أَمْسَكْتُ زَيداً) فإنَّهُ يَحتَمِلُ هذا المَعنَى، ويَحتَمِلُ أن يَكُونَ المَعنَى أنَّكَ مَنَعْتَهُ مِن التَّصَرُّفِ، فالبَاءُ جَعَلَتِ الكَلامَ نَصّاً في المَعنَى الأوَّلِ، وأمَّا الإلصاقُ المَجَازِيُّ فنَحوُ: (مَرَرْتُ بِزَيدٍ)؛ أي: جَعَلْتُ مُرُورِي بِمَكَانٍ يَقرُبُ مِن مَكَانِ زَيدٍ.
([42])أَثْبَتَ مَجِيءَ البَاءِ لِلتَّبْعِيضِ الأَصْمَعِيُّ والفَارِسِيُّ والقُتَبِيُّ وابنُ مَالِكٍ، واستَدَلُّوا بالآيَةِ الكَرِيمَةِ التي تَلاهَا المُؤَلِّفُ، وبقَولِهِ تعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}، وعلَى هذا بَنَى الشَّافِعِيُّ مَذهَبَهُ في أنَّ الوَاجِبَ في الوُضُوءِ مَسحُ بَعضِ الرَّأسِ.
([43])سُورَةُ الإنسَانِ، الآيَةُ: 6.
([44])سُورَةُ المَائِدَةِ، الآيَةُ: 61.
([45])سُورَةُ الفُرْقَانِ، الآيَةُ: 59.
([46])سُورَةُ القَصَصِ، الآيَةُ: 44.
([47])سُورَةُ القَمَرِ، الآيَةُ: 34.
([48])سُورَةُ آلِ عِمرَانَ، الآيَةُ: 75.
([49])سُورَةُ المَائِدَةِ، الآيَةُ: 13.
([50])سُورَةُ النِّسَاءِ، الآيَةُ: 79، وَزِيَادَةُ البَاءِ هُنَا في فَاعِلِ كَفَى.
([51]) سُورَةُ البَقَرَةِ, الآيَةُ: 195, وزِيَادَةُ البَاءِ هُنَا في المَفعُولِ بِهِ.
([52])زِيَادَةُ البَاءِ في المِثَالِ الأوَّلِ معَ المُبتَدَأِ، وفي المِثَالِ الثَّانِي معَ خَبَرِ لَيسَ.
([53])سُورَةُ الرُّومِ، الآيَةُ:2.
([54])سُورَةُ الرُّومِ، الآيَةُ: 4.
([55])سُورَةُ الأَحْزَابِ، الآيَةُ: 21، واعْلَمْ أنَّ الظَّرْفِيَّةَ الحَقِيقِيَّةَ هي التي يَكُونُ الظَّرفُ والمَظرُوفُ فيهَا مِن الذَّوَاتِ، فإِن كَانَا جَمِيعاً مِن أَسمَاءِ المَعَانِي، نَحوَ قَولِهِ تعَالَى: {وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ} أَو كانَ الظَّرفُ مِن أَسمَاءِ المَعَانِي، وَالمَظْرُوفُ مِن أَسمَاءِ الذَّاتِ نَحوُ قَولِكَ: (المُتَّقُونَ في رَحمَةِ اللَّهِ)َ أو كانَ الظَّرفُ ذَاتاً والمَظرُوفُ مَعنًى، كهذه الآيَةِ التي تَلاهَا المُؤَلِّفُ، كانت الظَّرفِيَّةُ مَجَازِيَّةً.
([56])سُورَةُ النُّورِ، الآيَةُ: 14, والذي أَفَاضُوا فيه هو كَلامُهُم في حَدِيثِ الإفكِ، والحَدِيثُ والكَلامُ لا يَمَسُّهُما العَذَابُ، لا جَرَمَ كانت (في) دَالَّةً على أنَّ الحَدِيثَ والكَلامَ سَبَبٌ لِمَسِّ العَذَابِ الأليمِ.
([57])سُورَةُ الأعرَافِ، الآيَةُ: 38.
([58])سُورَةُ طَهَ، الآيَةُ: 71، والذين ذَهَبُوا إلى أنَّ (فِي) تَأتِي للاستِعْلاءِ هُم الكُوفِيُّونَ، وتَبِعَهُم القُتَبِيُّ في هذا، وأمَّا غَيرُهُم فذَهَبُوا إلى أنَّ في هذهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ استِعَارَةً تَبَعِيَّةً، حَاصِلُهَا أنَّهُ شَبَّهَ تَمَكُّنِ المَصلُوبِ علَى الجذعِ بِظَرْفِيَّةِ المَظرُوفِ في الظَّرفِ، ومِثلُ هذه الآيَةِ الكَرِيمَةِ قَولُ سُوَيدِ بنِ أَبِي كَاهِلٍ:
وَهُمْ صَلَبُوا العَبْدِيَّ فِي جِذْعِ نَخْلَةٍ = فَلا عَطَسَتْ شَيْبَانُ إِلاَّ بِأَجْدَعَا
([59])سُورَةُ التَّوبَةِ، الآيَةُ: 38.
([60])297-هذا الشَّاهِدُ مِن كَلامِ زَيدِ الخَيرِ، وكانَ يُعرَفُ في الجَاهِليَّةِ بِزَيدِ الخَيلِ، فلمَّا أَسلَمَ سَمَّاهُ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسَلَّمَ زَيدَ الخَيرِ، وهذا الذي ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ عَجُزُ بَيتٍ مِن الطَّوِيلِ، وصَدْرُه قَولُهُ:
*وَيَرْكَبُ يَومَ الرَّوعِ مِنَّا فَوَارِسٌ*
اللُّغَةُ: (يَومَ الرَّوعِ) اليَومُ الذي يَفزَعُ النَّاسُ فيهِ، وأَرَادَ به يَومَ الحَربِ (فَوَارِسٌ) جَمعُ فَارِسٍ، وهو مِن الألفَاظِ التي جَاءَت على فَوَاعِلُ مِن جَمعِ فَاعِلٍ، وهو وَصفٌ لِمُذَكَّرٍ عَاقِلٍ، (بَصِيرُونَ) عَارِفُونَ، (الأَبَاهِرِ) جَمعُ أَبهَرٍ – بِوَزنِ جَعفَرٍ – وهو عِرْقٌ مِنَ المُقَاتِلِ، مَكانُه في الظَّهرِ، (والكُلَى) جَمعُ كُلْوَةٍ أَو كُلْيَةٍ، ولِكُلِّ حَيَوانٍ كُلْيَتَانِ.
الإعرابُ: (وَيَرْكَبُ) الوَاوُ حَرفُ عَطفٍ مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرابِ، يَركَبُ: فِعلٌ مُضَارِعٌ مَرفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِن النَّاصِبِ والجَازِمِ، وعَلامَةُ رَفعِهِ الضَّمَّةُ الظَّاهِرَةُ، (يَومَ) ظَرفُ زَمَانٍ مَنصُوبٌ علَى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمَانِيَّةِ مَنصُوبٌ بيَركَبُ، وعَلامَةُ نَصبِهِ الفَتحَةُ الظَّاهِرَةُ، ويَومَ مُضَافٌ، و(الرَّوعِ) مُضَافٌ إِلَيهِ مَجرُورٌ بِالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ، (مِنَّا) جَارٌّ ومَجرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَحذُوفٍ، حَالٌ مِن فَوَارِسَ، وأَصلُهُ صِفَةٌ لَهُ، فلَمَّا تَقَدَّمَ عليه صَارَ حَالاً.
(فَوَارِسٌ) فَاعِلُ يَركَبُ مَرفُوعٌ، وعَلامَةُ رَفعِهِ الضَّمَّةُ الظَّاهِرَةُ في آخِرِهِ، وكَانَ مِن حَقِّهِ أن يَمنَعَهُ مِن التَّنوِينِ؛ لأنَّهُ مَمنُوعٌ مِنَ الصَّرفِ لِكَونِهِ علَى زِنَةِ مُنتَهَى الجُمُوعِ، لكنَّهُ لَمَّا اضطُرَّ نَوَّنَهُ.
(بَصِيرُونَ) نَعتٌ لِفَوَارِسَ مَرفُوعٌ بِالوَاوِ نِيَابَةً عَن الضَّمَّةِ لِكَونِهِ جَمعَ مُذَكَّرٍ سَالِماً، (فِي) حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرابِ، (طَعْنِ) مَجرُورٌ بفِي، وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسرَةُ الظَّاهِرَةُ، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بقَولِهِ: بَصِيرُونَ، وطَعْنٌ مُضَافٌ، و(الأَبَاهِرِ) مُضَافٌ إِلَيهِ مِن إِضَافَةِ المَصدَرِ إلى مَفعُولِه، مَجرُورٌ بِالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ، (والكُلَى) الوَاوُ حَرفُ عَطفٍ مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرابِ، الكُلَى مَعطُوفٌ على الأَبَاهِرِ مَجرورٌ بِكَسرَةٍ مُقَدَّرَةٍ على الأَلِفِ مَنَعَ ظُهُورَهَا التَّعَذُّرُ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَولُه: (فِي طَعْنِ) فَإِنَّ (فِي) هنا بِمَعنَى البَاءِ؛ لأنَّ بَصِيراً يَتَعَدَّى بِالبَاءِ.
([61])المُرَادُ بِالاستِعْلاءِ العُلُوُّ، فَالسِّينُ والتَّاءُ للتَّوكِيدِ، ولَيسَا دَالَّينِ علَى الطَّلَبِ، ثُمَّ الاستعلاءُ إمَّا حَقِيقِيٌّ كما في الآيَةِ الكَرِيمَةِ التي تلاهَا المُؤَلِّفُ، وإِمَّا مَجَازِيٌّ كما في قَولِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}، وقَولِهِ سُبحَانَهُ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، ومنه قَولُهُم: (عَلَى فُلانٍ دَينٌ).
([62])سُورَةُ المُؤْمِنُونَ، الآيَةُ: 22.
([63])سُورَةُ القَصَصِ، الآيَةُ: 15.
([64])298-هذا الشَّاهِدُ مِن كلامِ القُحَيفِ العُقَيلِيِّ، يَمدَحُ حَكِيمَ بنَ المُسَيِّبِ القُشَيرِيَّ، وما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ صَدرُ بَيتٍ مِن الوَافِرِ، وعَجُزُه قَولُه:
*لَعَمْرُ اللَّهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا*
اللُّغَةُ: (قُشَيرٌ) – بضَمِّ القَافِ وفَتحِ الشِّينِ – هُو قُشَيرُ بنُ كَعْبِ بنِ رَبِيعَةَ بنِ عَامِرِ بنِ صَعْصَعَةَ، (لَعَمْرُ اللَّهِ) المُرَادُ الحَلِفُ بإِقْرَارِهِ للَّهِ تَعَالَى بِالخُلُودِ والبَقَاءِ بعدَ فنَاءِ الخَلْقِ.
قالُوا: عَمْرَكَ اللَّهَ، وعَمرِيَ اللَّهَ، بِنَصبِ عَمْرٍ على حَذفِ حَرفِ القَسَمِ والجَرِّ، وبِنَصبِ لَفظِ الجَلالَةِ علَى التَّعظِيمِ، وعَمْرٌ: مَصدَرٌ أُضِيفَ لفَاعِلِه الذي هو يَاءُ المُتَكَلِّمِ أو كَافُ المُخَاطَبِ، قالَ عُمَرُ بنُ أَبِي رَبِيعَةَ المَخْزُومِيُّ:
أَكَمَا يَنْعَتُنِي تُبْصِرْنَنِي = عَمْرَكُنَّ اللَّهَ أَم لا يَقْتَصِدْ
المَعنَى: إِذَا رَضِيَتْ عَنِّي بَنُو قُشَيرٍ سَرَّنِي رِضَاهَا، وذلك لأنَّهُ يَعُودُ علَيَّ بعظِيمِ الجَدْوَى، وهَذَا مُتَّصِلُ المَعنَى بِقَولِ الآخَرِ:
إِذَا رَضِيَتْ عَنِّي كِرَامُ عَشِيرَتِي = فَلا زَالَ غَضْبَاناً عَلَيَّ لِئَامُهَا
الإعرَابُ: (إِذَا) ظَرفٌ لِمَا يُستَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ خَافِضٌ لِشَرْطِهِ مَنصُوبٌ بِجَوَابِهِ مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ في مَحَلِّ نَصبٍ، (رَضِيَتْ) رَضِيَ: فِعلٌ مَاِضٍ مَبنِيٌّ علَى الفَتْحِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرَابِ، والتَّاءُ للتَّأنِيثِ، (علَيَّ) جَارٌّ ومَجرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِرَضِيَ، (بَنُو) فَاعِلُ رَضِيَ، مَرفُوعٌ بِالوَاوِ نِيَابَةً عَنِ الضَّمَّةِ؛ لأنَّهُ جَمعُ مُذَكَّرٍ سَالِمٌ، وقد مَرَّ في بابِ الفَاعِلِ أنَّ جَمعَ المُذَكَّرِ السَّالِمَ، وخَاصَّةً لَفظَ (بَنُو) يَجُوزُ عِندَ قَومٍ تَأْنِيثُ الفِعلِ المُسنَدِ إليه، وبَنُو مُضَافٌ، و(قُشَيرٍ) مُضَافٌ إِلَيهِ مَجرُورٌ بِالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ، (لَعَمْرُ) اللاَّمُ لامُ الابتِدَاءِ حَرفٌ مَبنِيٌّ على الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرابِ، عَمْرُ مُبتَدَأٌ مَرفُوعٌ بِالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وعَمْرُ مُضَافٌ ولَفظُ الجَلالَةِ مُضَافٌ إليه مَجرُورٌ بِالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ، وخَبَرُ المُبتَدَأِ مَحذُوفٌ وُجُوباً، وتَقدِيرُ الكَلامِ: لَعَمْرُ اللَّهِ يَمِينِي، أَو لَعَمْرُ اللَّهِ مَا أَحلِفُ بِه، (أَعْجَبَنِي) أَعْجَبَ: فِعلٌ مَاضٍ مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرابِ، والنَّونُ لِلوِقَايَةِ، ويَاءُ المُتَكَلِّمِ مَفعُولٌ بهِ، مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ في مَحَلِّ نَصبٍ.
(رِضَاهَا) رِضَا: فَاعِلُ أَعْجَبَ مَرفُوعٌ بِضَمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ على الأَلِفِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهَا التَّعَذُّرُ، وهو مُضَافٌ وضَمِيرُ الغَيبَةِ العَائِدُ إلى بَنِي قُشَيرٍ مُضَافٌ إليه مَبنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ.
الشَّاهِدُ فيه: قَولُهُ: (رَضِيَت عَلَيَّ) فإِنَّ (عَلَى) فيه بمَعنَى (عن)، وذلك مِن قِبَلِ أنَّ الأصلَ في (رَضِيَ) أن يَتَعَدَّى بعَن، لا بِعَلَى، مِثلَ قَولِهِ تَعَالَى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وقَولِهِ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ}، ومِثلَ قَولِ الشَّاعِرِ السَّابِقِ:
إِذَا رَضِيَتْ عَنِّي كِرَامُ عَشِيرَتِي = فَلا زَالَ غَضْبَاناً عَلَيَّ لِئَامُهَا
وإنَّمَا عدَّى الشَّاعِرُ في بيتِ الشَّاهِدِ (رَضِيَ) بِعَلَى، حَمْلاً على ضِدِّهِ الذي هو غَضِبَ، فإنَّهُ يَتَعَدَّى بعَلَى كما في البيتِ الذي أَنْشَدْنَاهُ، ومِن سَنَنِ العَرَبِ أن يَحمِلُوا الشَّيءَ على ضِدِّهِ كما يَحمِلُونَهُ على مِثلِهِ، وهذا تَخرِيجُ الكِسَائِيِّ لهذه العِبَارَةِ في هذا البَيتِ.
وذَهَبَ أَبُو عُبَيدَةَ إلى أنَّ الشَّاعِرَ ضَمَّنَ رَضِيَ في هذا البَيتِ مَعنَى (أَقْبَلَ) فعَدَّاهُ تَعدِيَتَهُ، قالَ: (إنَّمَا سَاغَ هذا لأنَّ مَعنَاهُ: أَقْبَلَت عَلَيَّ) اهـ.
وذَهَبَ ابنُ هِشَامٍ في (مُغنِي اللَّبِيبِ) إلى أنَّ الكَلامَ على التَّضمِينِ، لكنَّهُ جَعَلَ (رَضِيَ) مُضَمَّناً مَعنَى عَطَفَ.
([65])سُورَةُ الرَّعدِ، الآيَةُ: 6.
([66])وبَقِيَ مِن المعَانِي التي ذَكَرُوها لِعَلَى سِتَّةُ مَعَانٍ، الأوَّلُ: أنَّهَا تَأتِي بمَعنَى اللاَّمِ، نحوَ قَولِهِ تعالَى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}؛ أَي: لِهِدَايَتِهِ إِيَّاكُم، والثَّانِي: أنَّها تَأتِي بِمَعنَى (عِندَ)، نحوَ قَولِهِ سُبحَانَهُ: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ}؛ أي: عندِي، والثَّالِثُ: أنَّهَا تَأتِي بِمَعنَى (مِن)، نحوَ قَولِهِ جَلَّ شَأنُه: {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}؛ أي: مِنَ النَّاسِ، والرَّابِعُ: أنَّها تَأتِي بمَعنَى الباءِ، نَحوَ قَولِهِ تعَالَى: {حَقِيقٌ عَلَى أَلاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ}؛ أي: حَقِيقٌ بِأَلاَّ أَقُولَ، والخَامِسُ: أن تَكُونَ زَائِدَةً، كما في قَولِ حُمَيدِ بنِ ثَورٍ الهِلالِيِّ:
أَبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنَّ سَرْحَةَ مَالِكٍ = عَلَى كُلِّ أَفْنَانِ العِضَاهِ تَرُوقُ
وَجهُ الدِّلالَةِ مِن هذا البيتِ أنَّ (تَرُوقُ) فِعلٌ يَتَعَدَّى بنَفسِهِ، فزَادَ الشَّاعِرُ معَهُ (علَى)، ونصَّ سِيبَوَيْهِ على أنَّ (علَى) لا تَقَعُ زَائِدَةً، وعلَى رَأْيِهِ يُخَرَّجُ ما في البَيتِ بأنَّ (يَرُوقُ) قد ضُمِّنَ معنَى تُشرِقُ.
المَعنَى السَّادِسُ: أن تَكُونَ بمَعنَى لَكِنَّ الدَّالَّةِ على الاستِدْرَاكِ، نحوَ قَولِكَ: (فُلانٌ يَرتَكِبُ الآثَامَ علَى أَنَّهُ لا يَقنَطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) ومنهُ قَولُ ابنِ الدُّمَينَةِ:
وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ المُحِبَّ إِذَا دَنَا = يَمَلُّ وأَنَّ النَّأْيَ يَشْفِي مِنَ الوَجْدِ
بِكُلٍّ تَدَاوَيْنَا فَلَمْ يُشْفَ مَا بِنَا = عَلَى أَنَّ قُرْبَ الدَّارِ خَيرٌ مِنَ البُعْدِ
([67])المُجَاوَزَةُ إِمَّا حَقِيقِيَّةٌ، وذلك إذا كَانَت تَدُلُّ علَى بُعدِ جِسمٍ عَن جِسمٍ، نحوَ: (سِرْتُ عَنِ البَلَدِ)، وإِمَّا مَجَازِيَّةٌ، وذلك إذا كانَت في المَعَانِي، نحوَ قَولِه تَعَالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً}.
([68])سُورَةُ الانشِقَاقِ، الآيَةُ: 19.
([69])سُورَةُ مُحَمَّدٍ، الآيَةُ: 38 (الِقتَالُ) وخَرَّجَ الدَّمَامِينِيُّ الآيَةَ الكَرِيمَةَ على أنَّ (يَبْخَلْ) قد ضُمِّنَ معنَى يُبْعِدُ؛ أي: ومَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يُبْعِدُ الخَيرَ عَن نَفسِهِ.
([70])299-هذا الشَّاهِدُ مِن كَلامِ ذِي الإِصْبَعِ العَدْوَانِيِّ، واسمُهُ الحَارِثُ بنُ مَحرَثٍ، وكانَ قَد نَهَشَت حَيَّةٌ إِصبَعَهُ فَشَلَّت=@، فلُقِّبَ بذِي الإِصبَعِ لذلكَ، ومَا ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ هو قِطعَةٌ مِن بَيتٍ مِنَ البَسِيطِ، وهو بِتَمَامِهِ:
لاَهِ ابنُ عَمِّكَ لاَ أَفْضَلْتَ فِي حَسَبٍ = عَنِّي وَلاَ أَنْتَ دَيَّانِي فَتَخْزُونِي
اللُّغَةُ: (لاهِ ابنُ عَمِّكَ) اعلَمْ أنَّ الأَصلَ في هذا الاستِعمَالِ أنْ يَقُولُوا: للَّهِ أَنتَ، وللَّهِ دَرُّكَ، وللَّهِ أَبُوكَ، وللَّهِ ابنُ عَمِّكَ – بِثَلاثِ لاَمَاتٍ، الأُولَى لامُ الجَرِّ، والثَّانِيَةُ لامُ التَّعرِيفِ، والثَّالِثَةُ لامٌ هي فَاءُ الكَلِمَةِ باعتِبَارِ أنَّ لَفظَ الجَلالَةِ مُشتَقٌّ مِن (ل ي ه) – وقَد يُرِيدُونَ التَّخفِيفَ فيَقُولُونَ: لاهِ أَنتَ، ولاهِ أَبُوكَ، وَلاهِ ابنُ عَمِّكَ، بلامٍ وَاحِدَةٍ – وقَد اختَلَفَ العُلَمَاءُ حِينَئِذٍ في السَّاقِطِ مِنَ اللاَّمَاتِ والبَاقِي مِنهَا، فذَهَبَ سِيبَوَيْهِ إلى أنَّ المَحْذُوفَ لامُ الجَرِّ ولامُ التَّعرِيفِ جَمِيعاً، والبَاقِيَةَ هي اللاَّمُ التي هي فَاءُ الكَلِمَةِ، ودَلِيلُهُ على ذلك أنَّ البَاقِيَةَ مَفتُوحَةٌ، ولامُ الجَرِّ مَكسُورَةٌ، ولامُ التَّعرِيفِ سَاكِنَةٌ.
وذَهَبَ أَبُو العَبَّاسِ المُبَرِّدُ إلَى أنَّ المَحذُوفَ لامُ التَّعرِيفِ وفَاءُ الكَلِمَةِ، والبَاقِيَةَ هي لامُ الجَرِّ، واعتَذَر عَن فَتحِهَا بأنَّ هذهِ الفَتحَةَ عَارِضَةٌ للمُحَافَظَةِ على الألِفِ التي هي عَينُ الكَلِمَةِ، فإنَّ اللاَّمَ لو انكَسَرَت لعَادَت الألفُ يَاءً، واحتَجَّ لمَا ذَهَبَ إليه بأَنَّ هذا الجَرَّ الذي في آخِرِ الكَلِمَةِ لا بُدَّ له مِن عَامِلٍ، وقَدْ عَلِمْنَا أنَّ حَرفَ الجَرِّ لا يُحذَفُ ويَبقَى عَمَلُهُ إلا شُذُوذاً، فلذلك لا نُخَرِّجُ عليه.
وهذا الكَلامُ مَردُودٌ بأنَّ اللاَّمَ قد فُتِحَت، وليسَ بَعدَهَا أَلِفٌ في قَولِهِم: (لَهِي أَبُوكَ) بِمَعنَى: للَّهِ أَبُوكَ، فلو كَانَت هذِه اللاَّمُ هي الجَارَّةَ لَبَقِيَت مَكسُورَةً حيثُ لا مُقتَضِيَ لِفتحِها، فلمَّا رَأَيْنَاهُم فَتَحُوها بِكُلِّ حَالٍ، وكُنَّا نَعلَمُ أنَّ لامَ الجَرِّ لا تُفتَحُ إلاَّ إذا كانَ المَجرُورُ مُضمَراً أو مُستَغَاثاً به؛ عَلِمْنَا أنَّها معَ هذا الاسمِ الظَّاهِرِ الذي ليسَ مُستَغَاثاً به لَيسَت لامَ الجَرِّ، (أَفْضَلْتَ) مَعناهُ: زِدْتَ وصِرْتَ ذَا فَضْلٍ وزِيَادَةِ مَجدٍ، (حَسَبٍ) الحَسَبُ – بفَتحِ الحَاءِ والسِّينِ جَمِيعاً – كُلُّ ما يَعُدُّه الإنسانُ مِن مَآثِرِه، (دَيَّانِي) الدَّيَّانُ: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِن (دَانَ فُلانٌ فُلاناً) إذا أَخضَعَهُ لِنَفسِه ومَلَكَ أَمرَهُ، وكانَ بِيَدِهِ جَزَاؤُهُ، (تَخْزُونِي) تَسُوسُنِي وتَقْهَرُنِي.
الإعرابُ: (لاهِ) مَجرُورٌ بِحَرفِ جَرٍّ مَحذُوفٍ على ما هو مَذهَبُ سِيبَوَيْهِ, والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بمَحذُوفٍ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، (ابنُ) مُبتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، وابنُ مُضَافٌ وعَمِّ مِن (عَمِّكَ) مُضَافٌ إليه، وعَمُّ مُضَافٌ وضَمِيرُ المُخَاطَبِ مُضَافٌ إليه، (لا) نَافِيَةٌ، (أَفْضَلْتَ) أَفْضَلَ: فِعلٌ مَاضٍ مَبنِيٌّ علَى فَتْحٍ مُقَدَّرٍ على آخِرِه لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرَابِ، وتَاءُ المُخَاطَبِ فَاعِلُه، (في حَسَبٍ) جَارٌّ ومَجرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِأَفْضَلَ، (عَنِّي) جَارٌّ ومَجرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِأَفضَلَ أَيضاً، (ولا) الوَاوُ حَرفُ عَطفٍ، لا حَرفُ نَفْيٍ، (أنتَ) ضَمِيرٌ مُنفَصِلٌ مُبتَدَأٌ، (دَيَّانِي) دَيَّانُ: خَبَرُ المُبتَدَأِ، ويَاءُ المُتَكَلِّمِ مُضَافٌ إليه، (فَتَخْزُونِي) الفَاءُ حَرفُ عَطفٍ. تَخْزُو: فِعلٌ مُضَارِعٌ مَرفُوعٌ بِضَمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ على الواوِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهَا الثِّقَلُ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُستَتِرٌ فيه وُجُوباً تَقدِيرُهُ أنت، والنُّونُ لِلوِقَايَةِ، ويَاءُ المُتَكَلِّمِ مَفعُولٌ به لِتَخْزُو، مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ في مَحَلِّ نَصبٍ.
الشَّاهِدُ فيهِ: استَشْهَدَ المُؤَلِّفُ بهذا البيتِ علَى أنَّ (عن) في قَولِ الشَّاعِرِ (لا أَفْضَلْتَ في حَسَبٍ عَنِّي) مَعنَاهَا الاستعلاءُ بِمَنزِلَةِ على، وقد ذَكَرَ مِثلَ ذلك في كِتَابِهِ (مُغنِي اللَّبِيبِ)، قالَ: (لأنَّ المَعرُوفَ أن يُقَالَ: أَفْضَلْتَ عَلَيهِ) اهـ. وقَد سَبَقَه إلى ذلك يَعقُوبُ بنُ السِّكِّيتِ في كِتَابِهِ (إِصلاحِ المَنْطِقِ) وابنُ قُتَيبَةَ في كِتَابِهِ (أَدَبِ الكَاتِبِ).
وجَوَّزَ المُحَقِّقُ الرَّضِيُّ هذا الوَجهَ ووَجهاً آخَرَ حاصِلُهُ أنْ يَكُونَ (عن) بَاقِياً علَى أَصلِهِ، ويَكُونَ الشَّاعِرُ قد ضَمَّنَ (أَفضَلَ) مَعنَى تَجَاوَزَ، حيثُ قالَ: (يَجُوزُ أن يَكُونَ أَفْضَلْتَ مُضَمَّناً مَعنَى تَجَاوَزْتَ في الفَضلِ، وأَنْ يَجْعَلَ عَن بِمَعنَى على) اهـ.
وفيه شَاهِدٌ آخَرُ، وذلك في قَولِهِ: (لاهِ)؛ لأنَّ أَصلَهُ (للَّهِ) فحَذَفَ لامَ الجَرِّ، وأَبقَى عَمَلَهَا، ثُمَّ حذَفَ لامَ (ال) مِن لَفظِ الجَلالَةِ، وهذا إنَّمَا يَتِمُّ علَى قَولِ سِيبَوَيْهِ الذي قَدَّمْنَا بَيَانَهُ في لُغَةِ البَيتِ.
([71])سُورَةُ هُودٍ، الآيَةُ: 53، وخَرَّجَ الزَّمَخْشَرِيُّ هذه الآيَةَ الكَرِيمَةَ على التَّضْمِينِ، وقدَّرَهُ: بما نَحنُ بتَارِكِي آلِهَتِنَا صَادِرِينَ عن قَولِكَ.
([72])وقَدْ بَقِيَ مِن مَعَانِي (عن) التي ذَكَرَها النُّحَاةُ ولم يَذْكُرْهَا المُؤَلِّفُ خَمسُ مَعَانٍ:
الأوَّلُ: أن تَكُونَ بِمَعنَى (مِن) نَحوَ قَولِهِ تعالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}؛ أي: مِنهُم.
الثَّانِي: أن تَكُونَ بِمَعنَى البَاءِ، نَحوَ قَولِهِ سُبحَانَهُ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى}؛ أي: بِهِ.
الثَّالِثُ: أن تَكُونَ بِمَعنَى البَدَلِ، نَحوَ قَولِهِ تعَالَى: {لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً}؛ أي: بَدَلَ نَفسٍ، وفِي الحَديثِ:((صُومِي عَنْ أُمِّكِ))؛ أي: بَدَلَها.
الرَّابِعُ: أن تَكُونَ دَالَّةً علَى الاستِعَانَةِ نحوَ قَولِكَ: (رَمَيتُ عَنِ القَوسِ).
الخَامِسُ: أن تَكُونَ للظَّرْفِيَّةِ، نحوَ قَولِ الشَّاعِرِ:
وَآسِ سَرَاةَ الحَيِّ حَيثُ لَقِيتَهُمْ = وَلا تَكُ عَنْ حَمْلِ الرِّبَاعَةِ وَانِيَا
([73])سُورَةُ الرَّحمَنِ، الآيَةُ: 37.
([74])سُورَةُ البَقَرَةِ، الآيَةُ: 198، وَقد ادَّعَى قَومٌ أنَّ الكَافَ في هذه الآيَةِ الكَرِيمَةِ لِلتَّشبِيهِ، وأنَّ المَقصُودَ بقَولِهِ سُبحَانَهُ: {وَاذْكُرُوهُ} طَلَبُ الهِدَايَةِ، فوَضَعَ الخَاصَّ – وهو طَلَبُ الذِّكْرِ – مَوضِعَ العَامِّ الذي هو طَلَبُ الهِدَايَةِ، وكأنَّهُ قيلَ: فَاهْتَدُوا هِدَايَةً مُمَاثِلَةً لِهِدَايَتِهِ إيَّاكُم.
([75])سَيَأْتِي للمُؤَلِّفِ في فَصلٍ يَعقِدُهُ آخِرَ هذا البابِ للكَلامِ على حَذفِ حَرفِ الجَرِّ أن يَذكُرَ أنَّ رُؤْبَةَ سُئِلَ: كَيفَ أَصبَحْتَ، فأَجَابَ (خَيرٌ والحَمدُ للَّهِ)، بحَذفِ حَرفِ الجَرِّ وبَقَاءِ الاسمِ مَجرُوراً، وقد ذَهَبَ قَومٌ إلى أنَّ الكافَ في هذا الكَلامِ للتَّشبِيهِ، وأنَّ الكَلامَ على حَذفِ مُضَافٍ، وكأنَّهُ قالَ: كصَاحِبِ خَيرٍ.
([76]) وعلى كَونِ الكافِ بمَعنَى على تكُونُ ما مَوصُولَةً في مَحَلِّ جَرٍّ بالكافِ التي بِمَعنَى على، وأنت: مُبتَدَأٌ، وخَبَرُهُ مَحذُوفٌ، والجُملَةُ مِنَ المُبتَدَأِ وخَبَرِه لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ صِلَةٌ، وتَقديرُ الكلامِ: كُنْ علَى الحَالِ الذي أَنتَ علَيهِ، ويَجُوزُ أن تَكُونَ (ما) زَائِدَةً مُلغَاةً، وأنت: ضَمِيرٌ مَرفُوعٌ أُقِيمَ مُقَامَ الضَّمِيرِ المَجرُورِ، وهو في مَحَلِّ جَرٍّ بالكَافِ، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بمَحذُوفٍ خَبرُ كُنْ، وكأنَّهُ قالَ: كُنْ كَأَنت. أي: كُنْ فيمَا يُستَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ مُمَاثِلاً لِنَفسِكِ فيمَا مَضَى مِنهُ؛ أي: استَمِرَّ علَى ما عُرِفَ عنكَ. وفيهِ أَعَارِيبُ أُخرَى نَكتَفِي منها بهذينِ.
([77])سُورَةُ الشُّورَى، الآيَةُ: 11.
([78])وقد زَادَ النُّحَاةُ على ما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ مِن معَانِي الكَافِ المُبَادَرَةَ، وذلك إذا اتَّصَلَت بمَا، ومثَّلُوا له بقَولِهِم: (سَلِّمْ كَمَا تَدخُلُ)، وقَولِهِم: (صَلِّ كمَا يَدْخُلُ الوَقتُ)، ومِمَّن ذَكَرَ هذا المَعنَى أَبُو سَعِيدٍ السِّيرَافِيُّ وابنُ الخَبَّازِ والمُؤَلِّفُ في (المُغْنِي).
([79])سُورَةُ الإِسرَاءِ، الآيَةُ: 1.
([80])سُورَةُ البَقَرَةِ، الآيَةُ: 187.
([81])سُورَةُ القَدْرِ، الآيَةُ: 5.
([82])مِن غَرِيبِ ما ذَكَرَ النُّحَاةُ – ومِنهُم المُؤَلِّفُ في (المُغنِي) – أنَّ (إلى) تَجيءُ بمَعنَى الفَاءِ – وهو التَّرتِيبُ – واستَشْهَدَ على ذلك بقَولِ الشَّاعِرِ:
وَأَنْتِ الَّتِي حَبَّبْتِ شَغْباً إِلَى بَدَا = إِلَيَّ وَأَوْطَانِي بِلادٌ سِوَاهُمَا
شَغْباً وبَدَا: مَوضِعَانِ، قالُوا: أرادَ: أَنتِ حَبَّبْتِ شَغْباً فبَدَا، ويَدُلُّ على أنَّهُ أرادَ التَّرتِيبَ الذي تَدُلُّ عليهِ فَاءُ العَطفِ أنَّهُ يَقُولُ بعدَ هذا البَيتِ:
حَلَلْتُ بِهَذَا حَلَّةً بعدَ حَلَّةٍ = بِهَذَا فَطَابَ الوَادِيَانِ كِلاهُمَا
فإلَى في قَولِه: (إِلَى بَدَا) دَالَّةٌ على التَّرتِيبِ، وإلى في قَولِهِ: (إِلِيَّ) لِوَصلِ حَبَّبْتِ بيَاءِ المُتَكَلِّمِ، فَالحَرْفَانِ – وإن كانَا بِلَفظٍ وَاحِدٍ – مُختَلِفَانِ في المَعنَى، وبهذا قد يُعتَذَرُ عمَّا قَد يُقَالُ: إنَّ حَرْفَ الجَرِّ لا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ مَرَّتَينِ؛ لأنَّ مَحَلَّ المَنْعِ مِن تَعَلُّقِ الحَرفِ الوَاحِدِ بالفِعْلِ الوَاحِدِ مَرَّتَينِ فيمَا إذَا اتَّحَدَ المَعنَى في المَرَّتَينِ، أمَّا إذا اختَلَفَ المَعنَى كما هُنَا، فكَأَنَّهُ – بِسَبَبِ اختِلافِ المَعنَى – حَرفَانِ – ولا مَانِعَ مِن تَعَلُّقِ حَرفَي جَرٍّ مُختَلِفَيِ المَعنَى بفِعلٍ وَاحِدٍ.
وقد خَرَّجَ قَومٌ البَيتَ علَى أنَّ (إلَى) مُتَعَلِّقٌ بمَحذُوفٍ يَقَعُ حَالاً مِن (شَغْبَا) والتَّقدِيرُ: وأنت التي حَبَّبْتِ شَغْباً مُضَافاً إلى بَدَا، وهذا هو التَّضمِينُ في أَحَدِ صُوَرِهِ.
وخَرَّجَهُ جَمَاعَةٌ آخَرُونَ على أنَّ (إلى) بمَعنَى معَ؛ أي: حَبَّبْتِ شَغْباً معَ بَدَا.
([83])300-هذا الشَّاهِدُ مِنْ كَلامِ زُهَيرِ بنِ أَبِي سُلْمَى المُزْنِيِّ، وقد تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في تَعلِيقَاتِنَا أَوَّلَ هذا البَابِ برِوَايَةِ الكُوفِيِّينَ (ص21)، ويُقَالُ: هُوَ مَوضُوعٌ، ومَا ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ عَجُزُ بَيتٍ مِنَ الكَامِلِ، وصَدْرُهُ قَولُهُ:
*لِمَنِ الدِّيَارُ بِقُنَّةِ الحِجْرِ*
اللُّغَةُ: (قُنَّةِ) – بِضَمِّ القَافِ وتَشدِيدِ النُّونِ – هي أَعلَى الجَبَلِ، و(الحِجْرِ) - بكَسرِ الحَاءِ المُهمَلَةِ وسُكُونِ الجِيمِ – منَازِلُ ثَمُودَ بِنَاحِيَةِ الشَّامِ عندَ وَادِي القُرَى، و(أَقْوَيْنَ)؛ أي: خَلَوْنَ مِنَ السُّكَّانِ، و(حِجَجٍ) جَمعُ حِجَّةٍ – بِكَسرِ الحَاءِ المُهمَلَةِ فِيهِمَا – وهِيَ السَّنَةُ.
الإعرابُ: (لِمَن) اللامُ حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ علَى الكَسرِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرابِ، ومَنْ: اسمُ استِفهَامٍ مَبنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ باللاَّمِ، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بمَحذُوفٍ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، (الدِّيَارُ) مُبتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، (بِقُنَّةِ) جَارٌّ ومَجرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بمَحذُوفٍ حَالٌ مِنَ الدِّيَارِ، أو صِفَةٌ لهُ إِن اعتَبَرْتَهُ مُحَلًّى بِأَل الجِنسِيَّةِ وجَعَلْتَهُ كَالنَّكِرَةِ، وقُنَّةٌ مُضَافٌ و(الحِجْرِ) مُضَافٌ إِلَيهِ مَجرُورٌ بِالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ، (أَقْوَيْنَ) أَقْوَى: فِعلٌ مَاضٍ مَبنِيٌّ علَى فَتحٍ مُقَدَّرٍ على آخِرِهِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرابِ، ونُونُ النِّسْوَةِ فَاعِلُهُ مَبنِيٌّ على الفَتحِ في مَحَلِّ رَفْعٍ، (مُذْ) حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرَابِ، (حِجَجٍ) مَجرُورٌ بِمُذْ، وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسرَةُ الظَّاهِرَةُ، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِأَقْوَى، (ومُذْ) الوَاوُ حَرفُ عَطفٍ مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإِعرَابِ، مُذْ: حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإِعرَابِ، (دَهْرِ) مَجرُورٌ بِمُذْ، والجَارُّ والمَجرُورُ مَعطُوفٌ بالوَاوِ على الجَارِّ والمَجرُورِ السَّابِقِ وهو قَولُهُ: مُذْ حِجَجٍ.
الشَّاهِدُ فيه: قَولُهُ: (مُذْ حِجَجٍ)، وقَولُهُ: (مُذْ دَهْرِ) فَإِنَّ الحِجَجَ جَمعُ حِجَّةٍ، وهِيَ السَّنَةُ وهو اسمُ زَمَانٍ، وكذلك الدَّهْرُ اسمُ زَمَانٍ، وقَد جَرَّهُمَا بِمُذْ، ومُذْ هنا لابتِدَاءِ الغَايَةِ الزَّمَانِيَّةِ؛ لِكَونِ الزَّمَنِ المَجرُورِ بِهِمَا مَاضِياً، وقَدْ ذَكَرْنَا لكَ فِي المَوضِعِ الذي أَحَلْنَاكَ علَيهِ أنَّ الكُوفِيِّينَ يَرْوُونَ (مِنْ حِجَجٍ ومِنْ دَهْرِ) ويَستَدِلُّونَ بالبَيتِ علَى أنَّ (مِن) تَأتِي لابتِدَاءِ الغَايَةِ الزَّمَانِيَّةِ، وأنَّ البَصْرِيِّينَ يُنكِرُونَ ذلكَ، ثُمَّ مِنهُم مَن يُنكِرُ ثُبُوتَهُ بَتَّةً، ومِنهُم مَن يُنكِرُ هذه الرِّوَايَةَ التي رَواهَا الكُوفِيُّونَ، ويَذْكُرُ أنَّ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ (مُذْ حِجَجٍ ومُذْ دَهْرِ) كمَا رَوَاهَا المُؤَلِّفُ هنَا.
([84])301-هذا الشَّاهِدُ مِن كلامِ امْرِئِ القَيسِ بنِ حُجْرٍ الكِنْدِيِّ، وما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ ههُنَا عَجُزُ بَيتٍ مِنَ الطَّوِيلِ، وصَدرُهُ قَولُهُ:
*قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَعِرْفَانِ*
اللُّغَةُ: (قِفَا نَبْكِ) قَدْ وَرَدَ هذا المَطْلَعُ في طَوِيلَةِ امْرِئِ القَيْسِ اللاَّمِيَّةِ المُعَلَّقَةِ، وذَلِكَ قَولُهُ:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ = بِسِقْطِ اللِّوَى بَينَ الدَّخُولِ فَحَومَلِ
(وَرَبْعٍ) الرَّبْعُ – بفَتْحٍ فَسُكُونٍ – المَنزِلُ والدَّارُ، ويُرْوَى (ورَسْمٍ عَفَتْ آثَارُهُ) والرَّسْمُ – بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيضاً – ما بَقِيَ مِن آثَارِ الدِّيَارِ لاصِقاً بِالأَرْضِ، وعَفَتْ: دَرَسَتْ وانمَحَتْ معَالِمُهَا، والآثَارُ: جَمعُ أَثَرٍ، ويُرْوَى (عَفَتْ آيَاتُهُ) والآيَاتُ: جَمعُ آيَةٍ، وهي العَلامَةُ التي يُستَدَلُّ بها على مَوضِعِ نُزُولِ القَومِ، (أَزْمَانِ) جَمعُ زَمَنٍ – بِفَتْحِ الزَّايِ والمِيمِ جَمِيعاً – وهو الوَقتُ.
الإعرابُ: (قِفَا) فِعلُ أَمْرٍ، وأَلِفُ الاثنَينِ فَاعِلُه، ويُقَالُ: الأَلِفُ مُنقَلِبَةٌ عَن نُونِ التَّوكِيدِ الخَفِيفَةِ، وعامَلَ الشَّاعِرُ حالَ الوَصلِ كحَالِ الوَقفِ، (نَبْكِ) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجزُومٌ في جَوَابِ الأمْرِ، وعَلامَةُ جَزْمِهِ حَذفُ اليَاءِ، والكَسرَةُ قَبلَهَا دَلِيلٌ عَلَيهَا، وفَاعِلُه ضَمِيرٌ مُستَتِرٌ فيه وُجُوباً تقدِيرُهُ نحن، (مِنْ ذِكْرَى) جَارٌّ ومَجرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بنَبْكِ، وذِكْرَى مُضَافٌ و(حَبِيبٍ) مُضَافٌ إليه مَجرُورٌ بِالكَسْرَةِ الظَّاهِرَةِ، (وَعِرْفَانِ) الوَاو حَرفُ عَطْفٍ، عِرفَانِ: مَعطُوفٌ علَى حَبِيبٍ، (وَرَبْعٍ) الواوُ حَرفُ عَطفٍ، رَبْعٍ: مَعطُوفٌ على حَبِيبٍ أيضاً، (عَفَتْ) عَفَى: فِعلٌ مَاضٍ مَبنِيٌّ علَى فَتْحٍ مُقَدَّرٍ على الأَلِفِ المَحذُوفَةِ للتَّخَلُّصِ مِن التِقَاءِ السَّاكِنَينِ، مَنَعَ مِن ظُهُورِهِ التَّعَذُّرُ، والتَّاءُ للتَّأْنِيثِ، (آثَارُهُ) آثَارُ فَاعِلُ عَفَت مَرفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وآثَارُ مُضَافٌ وضَمِيرُ الغَائِبِ العَائِدِ علَى الرَّبْعِ مُضَافٌ إلَيهِ، (مُنذُ) حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ على الضَّمِّ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرابِ، (أَزْمَانِ) مَجرُورٌ بمُنذُ، وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسرَةُ الظَّاهِرَةُ، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بعَفَت.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَولُهُ: (مُنذُ أَزمَانِ) حيثُ دَخَلَت (مُنذُ) على لَفظٍ دَالٍّ على الزَّمَانِ، والمُرَادُ بهِ الزَّمَانُ المَاضِي، فدَلَّت على ابتِدَاءِ الغَايَةِ الزَّمَانِيَّةِ، وهو دَلِيلٌ للكُوفِيِّينَ على أنَّ (مُنذُ) قد تَكُونُ لابتِدَاءِ الغَايَةِ الزَّمَانِيَّةِ.
([85])أَرادَ المُؤَلِّفُ بهذه العِبَارَةِ الرَّدَّ على فَرِيقَينِ، أَحَدُهُمَا زَعَمَ أنَّهَا للتَّقلِيلِ دَائِماً؛ وهُم أَكثَرُ النُّحَاةِ، وثَانِيهِمَا زَعَمَ أنَّها لِلتَّكثِيرِ دَائِماً، وهم ابنُ دَرَسْتَوَيْه وجَمَاعَةٌ وَافَقُوهُ على ذلك.
([86])وحَمَلَ العُلَمَاءُ على هذا المَعنَى قَولَهُ تَعَالَى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}، ووَجهُ الدِّلالَةِ مِنَ الآيَةِ الكَرِيمَةِ ومِن الحَديثِ على أنَّ (رُبَّ) فيهِمَا للتَّكثِيرِ، وليسَت للتَّقلِيلِ أنَّ كُلاًّ مِنهُمَا مَسُوقٌ للتَّخوِيفِ، ولا يُنَاسِبُ التَّخوِيفَ أن يَكُونَ القَلِيلُ هو وِدَادَتَهِم أن يَكُونُوا مُسلِمِينَ، ولا أن يَكُونَ القَلِيلُ هو أن يُعَرَّى في الآخِرَةِ مَن كَانَ كَاسِياً في الدُّنيَا.
ومِن مَجِيئِهَا للتَّكثِيرِ أيضاً قَولُ امْرِئِ القَيسِ:
أَيَا رُبَّ يَومٍ قَدْ لَهَوْتُ وَلَيْلَةٍ = بِآنِسَةٍ كَأَنَّهَا خَطُّ تِمثَالِ
وذلك لأنَّهُ يَفتَخِرُ بهذا اللَّهوِ، ولا يَتَنَاسَبُ معَ مقَامِ الفَخرِ أن يَكُونَ مُرَادُهُ حُصُولَ ذلك قَلِيلاً.
([87])302- نَسَبُوا هذا الشَّاهِدَ إلى رَجُلٍ مِن أَزْدِ السُّرَاةِ, ولَم يَزِيدُوا في التَّعرِيفِ به عَن ذلك المِقدَارِ، وذَكَرَ الفَارِسِيُّ أنَّ هذا الشَّاهِدَ لرَجُلٍ اسمُهُ عَمرٌو الجَنْبِيُّ، وأنَّ مِن حَدِيثِهِ أنَّهُ لَقِيَ امْرَأَ القَيْسِ بنَ حُجْرٍ في بَعضِ الفَلَوَاتِ، فسَأَلَهُ بهذا البَيتِ على سَبِيلِ المُعَايَاةِ.
وبعدَ هذا البَيتِ قَولُهُ:
وَذِي شَامَةٍ غَرَّاءَ فِي حُرِّ وَجهِهِ = مُجَلَّلَةٍ لا تَنْقَضِي لأَوَانِ
وَيَكْمُلُ فِي خَمْسٍ وَتِسْعٍ شَبَابُهُ = ويَهْرَمُ في سَبْعٍ مَعاً وثَمَانِ
اللُّغَةُ: (أَلا رُبَّ مَولُودٍ – البَيتَ) أَرَادَ بالمَولُودِ الذي لَيسَ لهُ أَبٌ عِيسَى ابنَ مَرْيَمَ رُوحَ اللَّهِ وكَلِمَتَهُ التي أَلقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، عَلَيهِ السَّلامُ! ويُرْوَى (عَجِبْتُ لِمَولُودٍ وَلَيسَ لَهُ أَبٌ) وأَرَادَ بذِي الوَلَدِ الذي لم يَلِدْهُ أَبَوَانِ آدَمَ أَبَا البَشَرِ علَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فإنَّهُ خُلِقَ مِن تُرَابٍ ولَم يُخْلَقْ مِن أَبَوَينِ، وقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وقِيلَ: أَرَادَ به القَوسَ؛ لأنَّهَا تُؤخَذُ مِن شَجَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَاحِدَةٍ، وقِيلَ: أَرَادَ البَيْضَةَ، وقَولُهُ: (لَمْ يَلْدَهُ) هو هنا بِفَتحِ يَاءِ المُضَارَعَةِ وسُكُونِ اللاَّمِ التي هِيَ عَينُ الكَلِمَةِ وأَصلُها الكَسْرُ.
وقد اعتَبَرَ (يَلِدُ) اعتِبَارَ كَتِفٍ وفَخِذٍ ونَحوِهِمَا مِن كُلِّ كَلِمَةٍ ثُلاثِيَّةٍ ثَانِيها مَكسُورٌ، فإنَّهُ يَجُوزُ إِسكَانُ هذا الثَّانِي للتَّخفِيفِ، (وَذِي شَامَةٍ غَرَّاءَ فِي حُرِّ وَجهِهِ – البيتَ)، أَرَادَ بذِي الشَّامَةِ القَمَرَ, وأَرَادَ بِكَمَالِ شَبَابِهِ فِي خَمْسٍ وتِسْعٍ – وذلك أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيلَةً – صَيرُورَتَهُ بَدراً؛ لأنَّهُ في ذَلِكَ الوَقتِ في غَايَةِ البَهَاءِ والنُّورِ كما أنَّ الشَّابَّ في غَايَةِ القُوَّةِ وحُسنِ المَنظَرِ وعُنفُوَانِ الشَّبَابِ، وأَرَادَ بِهِرَمِهِ ذَهَابَ نُورِهِ، ونُقصَانَ ذَاتِه في لَيلَةِ التَّاسِعِ والعِشرِينَ.
والغَرَّاءُ: أُنثَى الأَغَرِّ، وهي البَيضَاءُ، وحُرُّ الوَجهِ – بِضَمِّ الحَاءِ وتَشدِيدِ الرَّاءِ – ما بَدَا مِنَ الوَجْنَةِ، والمُجَلَّلَةُ: المُغَطَّاةُ، اسمُ مَفعُولٍ مِن التَّجْلِيلِ، وهو التَّغطِيَةُ، ومَعنَى قَولِهِ: (لا تَنْقَضِي لأَوَانِ) أنَّهُ ليسَ لها أَوَانٌ تَنقَضِي فيهِ، والمَقصُودُ أنَّهَا لا تَذْهَبُ في وَقْتٍ مِنَ الأَوْقَاتِ.
الإِعرَابُ: (ألا) حَرفٌ دَالٌّ على التَّنبِيهِ، مَبنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرَابِ، (رُبَّ) حَرفُ تَقلِيلٍ وجَرٍّ شَبِيهٌ بِالزَّائِدِ, مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرابِ.
(مَولُودٍ) مُبتَدَأٌ مَرفُوعٌ بِضَمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ على آخِرِهِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهَا اشتِغَالُ المَحَلِّ بحَرَكَةِ حَرفِ الجَرِّ الشَّبِيهِ بِالزَّائِدِ، (وَلَيسَ) الوَاوُ حَرفٌ زَائِدٌ لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ الصِّفَةِ بالمَوصُوفِ مبنِي على الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرابِ, ليسَ: فِعلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ مَبنِيٌّ على الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرابِ، (لهُ) اللاَّمُ حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ على الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرَابِ، وضَمِيرُ الغَيْبَةِ العَائِدُ علَى المَولُودِ مَبنِيٌّ على الضَّمِّ في مَحَلِّ جَرٍّ باللاَّمِ، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بمَحذُوفٍ خَبَرُ لَيسَ تَقَدَّمَ على اسمِهَا، (أَبٌ) اسمُ ليسَ تَأَخَّرَ عَن خَبَرِهَا مَرفُوعٌ وعَلامَةُ رَفعِهِ ضَمَّةٌ ظَاهِرَةٌ في آخِرِه، والجُملَةُ مِن (لَيسَ) واسمِهَا وخَبَرِهَا في مَحَلِّ رَفعٍ أو جَرٍّ صِفَةٌ لمَولُودٍ.
فإِنْ جَعَلْتَ الجُملَةَ في مَحَلِّ جَرٍّ كُنتَ قَد أَتْبَعْتَ لَفظَ المَوصُوفِ، وإِنْ جَعَلْتَ الجُملَةَ في مَحَلِّ رَفعٍ كُنتَ قَد أَتْبَعْتَ مَحَلَّ المَوصُوفِ، وخَبَرُ المُبتَدَأِ الذي هو مَجرُورٌ لَفظاً بِرُبَّ مَحذُوفٌ، وتَقدِيرُ الكَلامِ: ألا رُبَّ مَولُودٍ مَوصُوفٍ بِكَونِهِ لا أَبَ لَهُ مَوجُودٌ، (وَذِي) الوَاوُ حَرفُ عَطفٍ مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرَابِ، ذِي: مَعطُوفٌ علَى مَولُودٍ مَجرُورٌ باليَاءِ نِيَابَةً عَن الكَسرَةِ؛ لأنَّهُ مِن الأَسْمَاءِ السِّتَّةِ, وهو مُضَافٌ و(وَلَدٍ) مُضَافٌ إِلَيهِ مَجرُورٌ بالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ، (لَمْ) حَرْفُ نَفْيٍ وجَزْمٍ وقَلْبٍ، مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرابِ، (يَلِدْهُ) يَلِدْ: مَجزُومٌ بِلَمْ، وعَلامَةُ جَزْمِهِ سُكُونٌ مُقَدَّرٌ علَى آخِرِهِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهِ اشتِغَالُ المَحَلِّ بِالحَرَكَةِ المَأْتِي بِهَا للتَّخَلُّصِ مِن التِقَاءِ السَّاكِنَينِ العَارِضِ بِسَبَبِ التَّخفِيفِ, وضَمِيرُ الغَائِبِ العَائِدُ على ذِي الوَلَدِ مَفعُولٌ بهِ لِيَلِدْ مَبنِيٌّ علَى الضَّمِّ في مَحَلِّ نَصبٍ، (أَبَوَانِ) فَاعِلُ يَلِدْ مَرفُوعٌ بالأَلِفِ نِيَابَةً عَن الضَّمَّةِ؛ لأنَّهُ مُثَنًّى، والنُّونُ عِوَضٌ عَن التَّنوِينِ في الاسمِ المُفرَدِ، وجُملَةُ يَلِد وفَاعِلِهِ ومَفعُولِهِ في مَحَلِّ جَرٍّ صِفَةٌ لذِي وَلَدٍ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَولُهُ: (رُبَّ مَولُودٍ) فإنَّ (رُبَّ) فيهِ دَالَّةٌ على التَّقلِيلِ، ألا تَرَى أنَّ المَولُودَ الذي لَيسَ لهُ أَبٌ قَلِيلٌ جِدّاً، حتَّى إِنَّهُ لَم يُوجَدْ مِنهُ إِلا فَردٌ وَاحِدٌ، وهو عِيسَى علَيهِ السَّلامُ! وكَذلِكَ ذُو الوَلَدِ الذِي لَمْ يُولَدْ مِن أَبَوَينِ بِهَذِهِ المَثَابَةِ، ولَم يُوجَدْ مِنهُ غَيرُ آدَمَ علَيهِ السَّلامُ!
والأَربَعَةَ عَشَرَ البَاقِيَةُ قِسمَانِ:
(1) سَبعَةٌ تَجُرُّ الظَّاهِرَ والمُضمَرِ، وهِيَ: مِنْ، وإِلَى، وعَنْ، وعَلَى، وفِي، والبَاءُ، واللاَّمُ؛ نحوَ: {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ}([1]). {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُم}([2]). {إِلَيهِ مَرْجِعُكُمْ}([3]). {طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ}([4]). {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ}([5]). {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفُلْكِ تُحْمَلُونَ}([6]). {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ}([7]).{وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ}([8]). {آمِنُوا بِاللَّهِ}([9]). {وَآمِنُوا بِهِ}([10]). {للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ}([11]). {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ}([12]).
(2) وَسَبْعَةٌ تَختَصُّ بِالظَّاهِرِ، وتَنقَسِمُ أَربَعَةَ أَقسامٍ:
مَا لا يَختَصُّ بظَاهِرٍ بعَينِهِ، وهو: حَتَّى، والكافُ، والواوُ، وقد تَدخُلُ الكَافُ في الضَّرُورَةِ على الضَّمِيرِ، كقولِ العَجَّاجِ:
291- وأُمَّ أَوعَالٍ كَهَا أَوْ أَقْرَبَا([13]) وقَولِ الآخَرِ:
292- كَهُ ولا كَهُنَّ إلاَّ حَاظِلاَ([14]) ومَا يَختَصُّ بالزَّمَانِ، وهُوَ: مُذْ، ومُنْذُ، فأَمَّا قَولُهُم: (مَا رَأَيْتُهُ مُذْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ) فتَقدِيرُهُ: مُذْ زَمَنِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ، أي: مُذْ زَمَنِ خَلْقِ اللَّهِ إِيَّاهُ.
ومَا يَختَصُّ بالنَّكِرَاتِ، وهُوَ رُبَّ، وقد تَدخُلُ في الكلامِ على ضَمِيرِ غَيْبَةٍ مُلازِمٍ للإفرَادِ والتَّذكِيرِ، والتَّفسِيرِ بتَميِيزٍ بَعدَهُ مُطَابِقٍ لِلمَعنَى، قالَ:
293- رُبَّهُ فِتْيَةً دَعَوْتُ إِلَى مَا([15]) ومَا يَختَصُّ باللَّهِ ورَبِّ مُضَافاً لِلكَعبَةِ أو ليَاءِ المُتَكَلِّمِ، وهُوَ التَّاءُ نَحوَ: {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ}([16]) و(تَرَبِّ الكَعبَةِ) و(تَرَبِّي لأَفعَلَنَّ)، ونَدَرَ (تَالرَّحمَنِ) و(تَحَيَاتِكَ).
([1]) سُورَةُ الأحزَابِ، الآيَةُ: 7.
([2])سُورَةُ المَائِدَةِ، الآيَةُ 48.
([3]) سُورَةُ يُونُسَ، الآيَةُ: 4.
([4]) سُورَةُ الانشقَاقِ، الآيَةُ: 19.
([5]) سُورَةُ البَيِّنَةِ, الآيَةُ: 8.
([6]) سُورَةُ المُؤمِنُونَ، الآيَةُ: 22.
([7]) سُورَةُ الذَّارِيَاتِ، الآيَةُ: 20.
([8]) سُورَةُ الزُّخرُفِ، الآيَةُ: 71.
([9]) سُورَةُ الحَدِيدِ، الآيَةُ: 7.
([10]) سُورَةُ الأحقَافِ، الآيَةُ: 31.
([11]) سُورَةُ البَقَرَةِ، الآيَةُ: 284.
([12]) سُورَةُ البَقَرَةِ، الآيَةُ: 255.
([13])291-هذا بيتٌ مِن الرَّجَزِ المَشطُورِ، وهو كما ذَكَرَ المُؤَلِّفُ لِلعَجَّاجِ بنِ رُؤبَةَ، وقبلَ هذا البيتِ قَولُه:
*خَلَّى الذَّنَابَاتِ شَمَالاً كَثَبَا*
اللُّغَةُ: الضَّمِيرُ المُستَتِرُ في (خَلَّى) يَعُودُ على حِمَارٍ وِحشَيٍّ وَصَفَ الرَّاجِزُ أَنَّهُ أرادَ أن يَرِدَ الماءَ فرَأَى صَيَّاداً ففَرَّ مِنهُ، و(الذَّنَابَاتِ) اسمُ مَوضِعٍ بِعَينِهِ، و(أُمَّ أَوعَالٍ) هَضَبَةٌ مَعرُوفَةٌ (شَمَالاً) أَرَادَ نَاحِيَةَ الشَّمَالِ، وقَولُهُ: (كَثَبَا) – بفَتحِ الكَافِ والثَّاءِ جَمِيعاً – أي: قَرِيباً، (كها) يُرِيدُ مِثلَ الذَّنَابَاتِ في البُعدِ، فالكَافُ لِلتَّشبِيهِ، والضَّمِيرُ يعودُ إلى الذَّنَابَاتِ.
الإعرابُ: (خَلَّى) فِعلٌ مَاضٍ مَبنِيٌّ علَى فَتحٍ مُقَدَّرٍ على الألِفِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهِ التَّعَذُّرُ، لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُستَتِرٌ فيه جوَازاً تَقدِيرُهُ هو، يَعُودُ إلى حِمَارِ الوَحشِ المَوصُوفِ بهذه الأبياتِ.
(الذَّنَابَاتِ) مَفعُولٌ به لِخَلَّى مَنصُوبٌ بِالكَسرَةِ نِيَابَةً عَن الفَتحَةِ لأنَّهُ جَمعُ مُؤَنَّثٍ سَالِمٌ، (شَمَالاً) ظَرفُ مَكَانٍ، عَامِلُهُ خَلَّى مَنصُوبٌ بِالفَتحَةِ الظَّاهِرَةِ (كَثَبَا) صِفَةٌ لِشَمَالا مَنصُوبٌ بالفَتحَةِ الظَّاهِرَةِ، (وأُمَّ) الوَاوُ حَرفُ عَطفٍ مَبنِيٌّ على الفَتحِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرابِ، أُمَّ: مَعطُوفٌ على الذَّنَابَاتِ،وهُوَ مُضَافٌ و(أَوعَالٍ) مُضَافٌ إليه مَجرُورٌ بِالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ، (كها) الكَافُ حَرفُ تَشبِيهٍ وجَرٍّ مَبنِيٌّ على الفَتحِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرَابِ، وها: ضَمِيرُ غَيبَةٍ يعودُ إلى الذَّنَابَاتِ، مَبنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ بالكافِ، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بمَحذُوفٍ، حَالٌ مِن (أُمَّ أَوعَالٍ)، ومِن العُلَمَاءِ مَن رَوَاهُ بِرَفعِ (أُمَّ) علَى أنَّهُ مُبتَدَأٌ، و(أَوعَالَ) مُضَافٌ إليه، وعلَيهِ يكونُ الجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقاً بمَحذُوفٍ خَبَرُ المُبتَدَأِ.
(أو) حَرفُ عَطفٍ مَبنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، (أَقْرَبَ) مَعطُوفٌ على الضَّمِيرِ المَجرُورِ مَحَلاًّ بالكَافِ، إِن رَوَيْتَ (أُمُّ أَوعَالٍ) بِالرَّفعِ مُبتَدَأٌ، وجَعَلْتَ الجَارَّ والمَجرُورَ خَبَراً، وهو حينئذٍ مَجرُورٌ بالفَتحَةِ نِيَابَةً عن الكَسرَةِ؛ لأنَّهُ لا يَنصَرِفُ للوَصفِيَّةِ ووزنِ الفِعلِ، ومَعطُوفٌ على مَحَلِّ الجَارِّ والمَجرُورِ إن رَوَيْتَ بِنَصبِ (أُمَّ أَوعَالٍ)، وجَعَلْتَ الجَارَّ والمَجرورَ حَالاً، وهو على ذلك مَنصُوبٌ وعلامَةُ نَصبِهِ الفَتحَةُ الظَّاهِرَةُ.
الشَّاهِدُ فيه: قَولُهُ: (كها) حيثُ جَرَّتِ الكَافُ الضَّمِيرَ المُتَّصِلَ، ومِن شَأنِ الكافِ ألاَّ تَجُرَّ إلا الاسمَ الظَّاهِرَ بِاتِّفَاقٍ، أو الضَّمِيرَ المُنفَصِلَ عِندَ جَمَاعَةٍ مِن النُّحَاةِ، والذي وَقَعَ في هذا البيتِ ضَرُورَةٌ مِن ضَرُورَاتِ الشِّعرِ لا يَجُوزُ لِلمُتَكَلِّمِ أن يَرتَكِبَهَا.
قالَ الأعلَمُ في شَرحِ الشَّاهِدِ الذي نَحنُ بِصَدَدِه: (الشَّاهِدُ فيه إِدخالُ الكَافِ على المُضمَرِ تَشبِيهاً لها بـ(مِثل)؛ لأنَّها في مَعنَاها، واستُعمِلَ ذلك عندَ الضَّرُورَةِ) اهـ.
وقالَ النَّحَّاسُ: (هذا عندَ سِيبَوَيْهِ قَبِيحٌ، والعِلَّةُ له أنَّ الإضمارَ يَرُدُّ الشيءَ إلى أَصلِهِ، فالكَافُ في مَوضِعِ (مِثل)، فإذا أَضمَرْتَ ما بعدها وَجَبَ أن تَأتِي بـ(مثل)، وأَبُو العَبَّاسِ – فيما حكَاهُ لنا عَلِيُّ بنُ سُلَيمَانَ – يُجِيزُ الإضمارَ في هذا على القِيَاسِ؛ لأنَّ المُضمَرَ عَقِيبَ المُظهَرِ، وقد نَطَقَت به العربُ، وقد أجازَ بعضُ النَّحْوِيِّينَ: أَنا كأنت، وأنا كإياك. ورَدَّ أَبُو العَبَّاسِ ذلك)اهـ.
ومِن دُخُولِ الكَافِ على الضَّمِيرِ المُتَّصِلِ لِلضَّرُورَةِ – سوى ما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ – قَولُ أَبِي مُحَمَّدٍ اليَزِيدِيِّ اللُّغَوِيِّ النَّحْوِيِّ مُؤَدِّبِ المَأمُونِ ابنِ أَمِيرِ المُؤمِنِينَ الرَّشِيدِ العَبَّاسِيِّ:
شَكَوْتُمْ إِلَينَا مَجَانِينَكُمْ = ونَشْكُو إِلَيكُمْ مَجَانِينَنَا
فَلَوْلا المُعَافَاةُ كُنَّا كَهُمْ = ولَولا البَلاءُ لكَانُوا كَنَا
وقَولُ الآخَرِ:
لا تَلُمْنِي فَإِنَّنِي كَكَ فِيهَا = إِنَّنَا في المَلامِ مُشتَرِكَانِ
([14])292-هذا الشَّاهِدُ مِن كلامِ رُؤبَةَ بنِ العَجَّاجِ يَصِفُ حِمَاراً وَحشِيّاً وأُتُناً وَحشِيَّاتٍ، وجعلَهُ بَعلَهُنَّ وهُنَّ حَلائِلُهُ، والبَعلُ: الزَّوجُ، والحَلائِلُ – بالحاءِ المُهمَلَةِ – جَمعُ حلِيلَةٍ، وهي الزَّوجَةُ، وقبلَ هذا الشَّاهِدِ قَولُهُ:
*فلا تَرَى بَعلاً ولا حَلائِلا*
الإعرابُ: (لا) حَرفُ نَفيٍ مَبنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، (تَرَى) فِعلٌ مُضَارِعٌ مَرفُوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِن النَّاصِبِ والجَازِمِ، وعَلامَةُ رَفعِهِ ضَمَّةٌ مُقَدَّرَةٌ على الألِفِ منَعَ مِن ظُهُورِهَا، التَّعَذُّرُ، وفَاعِلُه ضَمِيرٌ مُستَتِرٌ فيه وُجُوباً تقديرُه أنت.
(بَعلاً) مَفعُولٌ به لِتَرَى مَنصُوبٌ بالفَتحَةِ الظَّاهِرَةِ، (ولا) الواو حَرفُ عَطفٍ مَبنِيٌّ على الفَتحِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، لا: حَرفٌ مَزِيدٌ لتَأكيدِ النَّفي، (حَلائِلا) مَعطُوفٌ على قَولِه: بَعلاً، مَنصُوبٌ بالفَتحَةِ الظَّاهِرَةِ، والألِفُ لِلإطلاقِ، (كه) الكافُ حَرفُ تَشبِيهٍ وجَرٍّ مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، والهَاءُ ضَمِيرُ غَيبَةٍ يعودُ إلى الحِمَارِ الوَحشِيِّ المَوصُوفِ في هذه الأبْيَاتِ مَبنِيٌّ على الضَّمِّ في مَحَلِّ جَرٍّ بالكافِ، والجَارُّ والمَجرورُ مُتَعَلِّقٌ بمَحذُوفٍ صِفَةٌ لبَعلٍ.
(ولا) الواوُ حرفُ عَطفٍ، لا: حَرفٌ زَائِدٌ لتأكيدِ النَّفيِ، (كهُنَّ) جارٌّ ومَجرُورٌ مَعطُوفٌ على الجَارِّ والمجرورِ السَّابِقِ، (إلا) أَدَاةُ حَصرٍ، حَرفٌ مبنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، (حَاظِلا) حَالٌ مِن قَولِه: بَعلاً. السَّابِقِ المَوصُوفِ بالجارِّ والمجرورِ الأوَّلِ، وهذا الوَصفُ هو الذي سَوَّغَ مَجِيءَ الحَالِ منهُ؛ لأنَّهُ نَكِرَةٌ، هذا إن جَعَلْتَ (تَرَى) بَصَرِيَّةً تَكْتَفِي بمَفعُولٍ واحِدٍ، وهو الأظهَرُ، فإِن جَعَلْتَ (تَرَى) عِلْمِيَّةً، فقُولُه: (حَاظِلاَ) مَفعُولٌ ثَانٍ لِتَرَى مَنصُوبٌ، وعَلامَةُ نَصبِهِ الفَتحَةُ الظَّاهِرَةُ.
الشَّاهِدُ فيه: قَولُهُ: (كَهُ) وقَولُه: (كهُنَّ)؛ حيثُ جَرَّ الضَّمِيرَ في المَوضِعَينِ بالكافِ.
([15])293-لَمْ أَقِفْ لِهَذَا الشَّاهِدِ على نِسبَةٍ إلى قَائِلٍ مُعَيَّنٍ، وما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ ههنا صَدرُ بَيتٍ مِن الخَفِيفِ، وعَجُزُه قَولُهُ:
*يُورِثُ المَجدَ دَائِباً فأَجَابُوا*
اللُّغَةُ: (فِتْيَةً) – بِكَسرِ الفاءِ وسُكُونِ التَّاءِ – جَمعُ فَتًى، وتقولُ: هو فَتًى بينَ الفُتُوَّةِ، والفُتُوَّةُ: الحُرِّيَّةُ والكَرَمُ، (دَعَوتُ) أَرادَ: نَادَيتُ، والدُّعَاءُ والنِّدَاءُ بمعنًى وَاحدٍ، وانظُرْ إلى قولِ الشَّاعرِ:
وَدَاعٍ دَعَا يا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى = فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِندَ ذَاكَ مُجِيبُ
(يُورِثُ المَجدَ) المَجدُ: الكَرَمُ، ويُورِثُه؛ أي: يُكسِبُه ويُخْلِفُه، (دَائِبَا) يُرِيدُ مُدَاوِماً على دُعَائِهِم مُجتَهِداً فيه، وتقولُ: دَأَبَ الرَّجُلُ على عَمَلِهِ، ودَأَبَ فيه، إذا ثَابَرَ عليه واجتَهَدَ فيه.
الإعرابُ: (رُبَّهُ) رُبَّ: حَرفُ تَقليلٍ وجَرٍّ شَبِيهٌ بِالزَّائِدِ مبَنِيٌّ على الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرابِ، والهاءُ ضَمِيرُ غَيبَةٍ يعودُ إلى فِتيَةٍ المُمَيِّزِ له المُتَأَخِّرِ عنه مَبنِيٌّ على الضَمِّ، وله مَحَلاَّنِ؛ أَحَدُهُمَا، جَرٌّ برُبَّ، والثَّانِي؛ رَفعٌ بالابتداءِ، (فِتيَةً) تَميِيزٌ لضَميرِ الغَيبَةِ المَجرُورِ مَحَلاًّ برُبَّ مَنصُوبٌ بِالفتحةِ الظَّاهِرَةِ، (دَعَوتُ) دَعَا: فِعلٌ مَاضٍ مَبنِيٌّ على فَتحٍ مُقَدَّرٍ على آخِرِه لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرابِ، وتَاءُ المُتَكَلِّمِ فَاعِلُه مَبنِيٌّ على الضَمِّ في مَحَلِّ رَفعٍ، والجُملَةُ مِن الفعلِ وفَاعِلِه في مَحَلِّ نَصبٍ نَعتٌ لفِتيةٍ.
(إلى) حرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرابِ، (ما) اسمٌ مَوصولٌ مبنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ بإلى، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بدَعوتُ، (يُورِثُ) فِعلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتَجَرُّدِه مِن النَّاصِبِ والجَازِمِ، وعَلامَةُ رَفعِهِ الضَّمَّةُ الظَّاهِرَةُ، وفاعِلُه ضَمِيرٌ مُستَتِرٌ فيه جَوازاً تقديرُهُ هو يَعودُ إلى الاسمِ الموصولِ، (المَجدَ) مفعولٌ به ليُورِثُ مَنصوبٌ بِالفَتحَةِ الظَّاهِرَةِ، والجُملَةُ مِن الفعلِ المُضَارِعِ وفَاعِلِه ومَفعُولِه لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ صِلَةُ الموصولِ.
(دَائباً) حالٌ مِن ضَميرِ المُتَكَلِّمِ في قَولِهِ: دَعوتُ، مَنصُوبٌ بالفَتحَةِ الظَّاهِرَةِ، (فأَجَابُوا) الفَاءُ حَرفُ عَطفٍ مبنِيٌّ على الفَتحِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، أَجَابَ: فِعلٌ مَاضٍ مَبنِيٌّ على فَتحٍ مُقَدَّرٍ على آخرِهِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهِ اشتِغَالُ المَحَلِّ بِحَرَكَةِ المُنَاسَبَةِ لِوَاوِ الجماعَةِ، ووَاوُ الجَمَاعَةِ فَاعِلُه مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ في مَحَلِّ رَفعٍ، والجُملَةُ مَعطُوفَةٌ بالفاءِ على جُملَةِ دَعوتُ.
الشَّاهِدُ فيه: قَولُهُ (رُبَّهُ فِتْيَةً) حيثُ جَرَّت (رُبَّ) ضَمِيراً مُفرداً مُذَكَّراً معَ أنَّ مُفَسِّرَهُ جَمعٌ, فدَلَّ ذلك على أنَّهُ يَجِبُ إفرادُ الضَّمِيرِ وتَذكِيرُه مهما يَكُنْ مُفَسِّرُهُ، وإنَّمَا كانَ ذلك كذلك؛ لأنَّ هذا التَّميِيزَ لازِمٌ لا يَجُوزُ تَركُهُ، فتَرَكُوا بَيانَ المُرَادِ مِنَ الضَّمِيرِ للتَّميِيزِ.
([16])سُورَةُ الأنبِيَاءُ، الآيَةُ: 57.