دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > لمعة الاعتقاد

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 3 ذو القعدة 1429هـ/1-11-2008م, 12:18 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي الإيمان يزيد وينقص

فَصْلٌ
وَالإيمانُ: قَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالأرْكَانِ، وَعَقْدٌ بِالجَنَانِ، يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقصُ بِالعِصْيَانِ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلاةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البينة: 5] فَجَعَلَ عِبَادَةَ اللهِ تَعَالَى وَإخْلاَصَ القَلْبِ وَإقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيْتَاءَ الزَّكَاةِ كُلَّهُ مِنَ الدِّينِ.
وَقَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الإِيْمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعْلاَهَا شَهَادَةُ أَن لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الْطَّرِيق، والحياءُ شُعْبَةٌ من الإيمانِ))، فَجَعَلَ القَوْلَ وَالعَمَلَ جميعاً مِنَ الإِيْمَانِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا}[التوبة: 124] وقال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا}[الفتح: 4]
وَقَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يخرجُ مِنَ النَّارِ مَن قالَ: لاَ إِلَه إِلاَّ اللهُ وَفِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ بُرَّةٍ، أَوْ خَرْدَلَةٍ، أَوْ ذَرَّةٍ من الإِيمان)) فَجَعَلَهُ مُتَفَاضِلاً.

  #2  
قديم 29 ذو القعدة 1429هـ/27-11-2008م, 10:03 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post شرح الشيخ ابن عثيمين

(1)

الإِيمَانُ
الإِيمانُ
لُغَةً: التَّصْدِيقُ(1).
واصْطِلاَحًا(2): قولٌ باللِّسَانِ، وعَمَلٌ بالأَرْكَانِ، وَعَقْدٌ بالجَنَانِ.

-مثالُ القَوْلِ: لاَ إِلهَ إلاَّ اللهُ.

-ومثالُ العَمَلِ: الرُّكُوعُ.

-ومثالُ العَقْدِ: الإِيمانُ باللهِ وملائِكَتِهِ وغيرِ ذلكَ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ.

والدليلُ على أنَّ هذا هوَ الإيمانُ قولُهُ تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البَيِّنَة: 5]. فجَعَلَ الإخْلاصَ والصلاةَ والزَّكَاةَ مِن الدينِ.

وقالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((الإِيِمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعْلاَهَا شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ))، رواهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ:((فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ))، وَأَصْلُهُ في الصَّحِيحَيْنِ.


والإِيمانُ يَزِيدُ بالطَّاعَةِ ويَنْقُصُ بالمَعْصِيَةِ؛ لِقَوْلِهِ تعالى: {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا}[آلُ عِمْرَان: 173]، {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ}[الفَتْح: 4].
وقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَفِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ بُرَّةٍ، أَوْ خَرْدَلَةٍ، أَوْ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ))، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بنحْوِهِ(3). فَجَعَلَهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مُتَفَاضِلاً. وإذا ثَبَتَ زِيَادَتُهُ ثَبَتَ نَقْصُهُ؛ لأنَّ مِنْ لاَزِمِ الزِّيَادَةِ أنْ يَكُونَ المَزِيدُ عليهِ ناقِصًا عن الزائِدِ.
------------------------------
حاشية الشيخ صالح العصيمي

(1) الاقتصار على كون الإيمان في اللغة هو التصديق فيه نظر يطول بيانه، والمصنف ـ رحمه الله ـ ممن صار بأخرة ـ كما في شرح الواسطية (2/230) ـ ممن يضعف هذا القول.
والمختار أن يقال: الإيمان لغة هو التصديق الجازم.
فليس تصديقاً مجرداً بل هو تصديق مقترن بالجزم يشتمل على طمأنينة القلب واستقراره.
(2) تقدم التنبيه إلى أن مثل هذا المقام يقال فيه شرعاً لا اصطلاحاً.
(3) وهو في مسلم كذلك لكن ليس فيهما هذا السياق ولو بنحوه، ففيهما ذكر الشعيرة ثم البُرّة ثم الذرة، وليس عندهما ذكر الخردلة في هذا الحديث.


  #3  
قديم 29 ذو القعدة 1429هـ/27-11-2008م, 10:06 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post شرح الشيخ ابن جبرين

(1)

هذا الموضوعُ يُقَالُ لهُ: أسماءُ الإيمانِ والدِّينِ، ويَتَعَلَّقُ بهِ التَّكْفِيرُ والتَّفْسِيقُ ونحوُهُ، وهوَ الَّذي عندَ المُعْتَزِلةِ يُسَمَّى المنْزِلَةَ بينَ المَنْزِلتَيْنِ؛ وذلكَ لأنَّ الأمَّةَ اخْتَلَفوا في مُسَمَّى الإيمانِ، فتَبايَنَتْ فيهِ أقوالُهم.

والإيمانُ في اللُّغَةِ:
هوَ التَّصْدِيقُ، ولكنَّ الشَّرْعَ أَضافَ إليهِ إضافاتٍ، وأَدْخَلَ فيهِ الأعمالَ، وأَدْخَلَ فيهِ الأقوالَ، فأَصْبَحَ الإيمانُ شامِلاً لِلعَقائدِ والأقوالِ والأعمالِ، أَصْبَح مُسَمًّى شرعيًّا، وما ذاكَ إلاَّ أنَّ المُسَمَّياتِ الشرعيَّةَ نُقِلَتْ مِنْ مُسَمَّاها اللُّغويِّ إلى مُسَمًّى خاصٍّ كَسائرِ المُسَمَّيَاتِ الشرعيَّةِ.
فالعربُ لا تَعْرِفُ اسمَ الإيمانِ إلاَّ أنَّهُ التَّصديقُ، ولا تَعْرِفُ اسمَ الكفرِ إلاَّ أنَّهُ التَّغْطِيَةُ، تَغْطِيَةُ الشَّيءِ وسَتْرُهُ يُسَمَّى عندَهم كُفْرًا؛ لِقولِ شاعِرِهم:

في ليلةٍ كَفَرَ النُّجُومَ ظَلامُها *


ولا تَعْرِفُ الفِسْقَ إلاَّ أنَّهُ الخروجُ، فَسَقَت الرُّطَبَةُ: خَرَجَتْ مِنْ قِشْرتِها.

ولا تَعْرِفُ النِّفاقَ إلاَّ أنَّهُ الاسْتِخْفاءُ.
ولا تَعْرِفُ الشِّركَ إلاَّ أنَّهُ الاشْتِراكُ في التِّجارةِ أوْ نحوِها.
ولا تَعْرِفُ التَّوحيدَ إلاَّ أنَّهُ الواحدُ المُفْرَدُ.
فَجَاءَ الشَّرعُ وجَعَلَ لهذهِ الأشياءِ مُسَمَّياتٍ شرعيَّةً، ونَقَلَها من المُسَمَّى اللُّغَوِيِّ إلى المُسَمَّى الشَّرعيِّ.

فالإيمانُ: قولٌ باللِّسانِ، وعَقْدٌ بِالْجَنَانِ، وَعَمَلٌ بالأركانِ، يَزِيدُ بالطَّاعةِ ويَنْقُصُ بالعِصْيانِ.
هذا مُسَمَّى الإيمانِ في الشَّرعِ أَدْخَلَ فيهِ الأعمالَ وسَمَّاهُ إيمانًا، كما ستَأْتِي عليهِ الأَدِلَّةُ إنْ شاءَ اللهُ.

أمَّا الكفرُ: فإنَّهُ الخروجُ من الدِّينِ، فجَحْدُ الرِّسالةِ، وجَحْدُ النُّبُوَّةِ، وجَحْدُ التَّوحيدِ، وإنْكَارُ العبادةِ يُسَمَّى كُفْرًا شرعيًّا.

أمَّا الفُسوقُ: فهوَ المعصيَةُ؛ لأنَّها خُروجٌ عن الطَّاعةِ.
أمَّا النِّفاقُ: فهوَ مُسَمًّى شَرْعِيٌّ يُطْلَقُ على إظهارِ الإيمانِ وإِبْطَانِ الكُفْرِ.
أمَّا التوحيدُ: فنُقِلَ مِنْ مُسَمَّاهُ اللُّغويِّ إلى مُسَمًّى شرعيٍّ، وهوَ إفرادُ اللهِ بالعبادةِ.
أمَّا الشِّرْكُ: فنُقِلَ مِنْ مُسَمَّاهُ اللُّغويِّ إلى مُسَمًّى شرعيٍّ، وجُعِلَ اسمًا لِدعوةِ اللهِ ودعوةِ غيرِهِ معَهُ. فإشراكُ غيرِ اللهِ معَهُ في نوعٍ مِنْ أنواعِ العبادةِ يُسَمَّى شِرْكًا.
فهذهِ مُسَمَّياتٌ نَقَلَها الشَّرعُ وجَعَلَها لمسمَّياتٍ خاصَّةٍ.
والكلامُ الآنَ عن الإيمانِ؛ وذلكَ لِقِدَمِ وَقُوَّةِ الخِلافِ فيهِ:

فَذَهَبَ بعضُهم
إلى أنَّ الإيمانَ هوَ المعرفةُ، فمَنْ عَرَفَ فهوَ مُؤْمِنٌ عندَهم، فهلْ هذا صحيحٌ؟!

اللهُ تعالى رَتَّبَ على الإيمانِ الجزاءَ، رَتَّبَ عليهِ الثَّوابَ، فكثيرًا ما يَذْكُرُ اللهُ الإيمانَ ويَذْكُرُ ثوابَهُ، فهلْ كُلُّ عارِفٍ يَسْتَحِقُّ الثَّوابَ؟!
معروفٌ أنَّ فِرْعَوْنَ عارفٌ؛ قالَ اللهُ تعالى عنْ مُوسَى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاَءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[الإسراء: 102]، فهلْ فِرْعَوْنُ مُؤْمِنٌ؟!

وكذلكَ إِبْلِيسُ عارفٌ باللهِ، وعارفٌ بأنَّ اللهَ ربَّهُ هوَ الخالقُ، فهلْ يُقالُ: إنَّهُ مُؤْمِنٌ مُسْتَحِقٌّ لِلثَّوابِ؟!
وكذلكَ أيضًا المنافقونَ، كثيرٌ منهم عارِفونَ، ولكنَّهم جَحَدُوا عِنادًا، والمشرِكونَ عارفِونَ أيضًا، يَقولُ اللهُ تعالى: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ}[الأنعام: 33]، فهلْ يُقالُ: إنَّهم مُؤْمِنونَ يَسْتَحِقُّونَ ثوابَ الإيمانِ؟
إِذَنْ عَرَفْنا أنَّ هذا القولَ باطلٌ.
وهناكَ مَنْ يَقولُ:


إنَّ الإيمانَ هوَ مُجرَّدُ التَّصديقِ.
وهذا القولُ مَشْهورٌ عندَ الحَنَفِيَّةِ، وقالُوا: إنَّهُ مُسَمَّى الإيمانِ في اللُّغةِ، ولهم كلامٌ طويلٌ.
ولكنْ نحنُ نَقولُ:
إنَّ اللهَ تعالى قدْ وَصَفَ المؤمنينَ بِصفاتٍ زائِدةٍ على التَّصديقِ، مِمَّا يَدُلُّ على أنَّهُ لا بُدَّ معَ التَّصديقِ مِن الأعمالِ، فلا يَكونُ المؤمنُ مُؤْمِنًا إلاَّ بتلكَ الأعمالِ.

الدَّليلُ الأوَّلُ:
قولُهُ تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ {2} الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[الأَنْفال: 2 - 3]. فَجَعَلَ المؤمنينَ حَقًّا هم المُتَّصِفُونَ بهذهِ الصِّفاتِ الخمسِ.
ومنها ما هوَ عَمَلٌ بَدَنِيٌّ كالصَّلاةِ، أوْ عَمَلٌ مَالِيٌّ كالنَّفَقَةِ، أوْ عَمَلٌ قَوْلِيٌّ كَالذِّكْرِ، أوْ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ كَالوَجَلِ، فدَلَّ على أنَّ الإيمانَ يَعُمُّ هذهِ الأشياءَ.

الدَّليلُ الثَّاني:
قولُهُ تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}[السَّجدة: 15]، نَفَى الإيمانَ عنْ غيرِ هؤلاءِ، فأَصْبَحَ مِن الإيمانِ الْخُرُورُ سُجودًا للهِ {إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا}[السَّجدة: 15]، والتَّسْبِيحُ بِحمدِ اللهِ وعَدَمُ الاسْتِكْبارِ والتَّجافِي {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}[السَّجدة: 16]، والدُّعاءُ {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}[السجدة: 16] إلى آخِرِها، فهذا كلُّهُ مِن الإيمانِ.

الدَّليلُ الثَّالثُ:
قولُهُ تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ}[الحُجُرَات: 15]، فجَعَلَ مِن الإيمانِ الجِهادَ وتَرْكَ الرَّيْبِ والعملَ.
فلا شكَّ أنَّ هذا كُلَّهُ دَليلٌ على أنَّ الإيمانَ شيءٌ زائدٌ على التَّصديقِ.
إذَاً: فَيَكونُ الإيمانُ مِثْلَمَا عَرَّفَهُ المُوَفَّقُ رَحِمَهُ اللهُ، وهوَ قولُ أهلِ السُّنَّةِ، وقدْ ذَكَرُوا أنَّ البُخَارِيَّ رَحِمَهُ اللهُ يَقولُ: رَوَيْتُ في هذا الكتابِ عنْ نَحْوِ ثلاثِمِائَةٍ مِن العُلماءِ، كُلُّهم يَقولُونَ: الإيمانُ قولٌ وعملٌ.

ويُرِيدُ بذلكَ أنَّ مَشايِخَهُ الَّذين أَخَذَ عنْهم كُلُّهم على هذا القولِ: (الإيمانُ قولٌ وعملٌ).
وقدْ بَدَأ صَحِيحَهُ - بعدَ المُقَدِّمةِ الَّتي هيَ في الوَحْيِ - بِكتابِ الإيمانِ، ثمَّ قالَ: (وهوَ قولٌ وفعلٌ، يَزِيدُ ويَنْقُصُ)، ولمْ يَذْكُر الاعْتِقادَ؛ لأنَّهُ لا خِلافَ في الاعتقادِ.
ولمَّا لمْ يَكُن الاعتقادُ فيهِ خِلافٌ أَغْفَلَهُ، وذَكَرَ ما فيهِ الخِلافُ، وهوَ القولُ والفعلُ، أيْ: أنَّ الإيمانَ تَدْخُلُ فيهِ الأقوالُ والأفعالُ، ثمَّ يَتَرَتَّبُ على ذلكَ كمالُ الإيمانِ ونُقْصانُهُ وزِيادتُهُ.
وكثيرٌ مِن الحَنَفِيَّةِ والأَشاعِرةِ ونحوُهم يَعْتَقِدونَ أنَّ الإيمانَ واحدٌ، وأنَّهُ لا يَتَفاوَتُ، وأنَّ النَّاسَ فيهِ مُسْتَوُونَ، وأنَّ إيمانَ جِبْرِيلَ ومِيكائِيلَ ومُحمَّدٍ ومُوسَى وعِيسَى وإبْراهِيمَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ مثلُ إيمانِ سائرِ النَّاسِ.
وهذا بلا شَكٍّ فيهِ خَطَأٌ؛ وذلكَ لأنَّهم مُتَفَاوِتُونَ في العَقِيدةِ وقُوَّةِ اليقينِ، ومُتَفاوِتونَ في أَثَرِ تلكَ العقيدةِ على العِبادِ، وإذا كانوا مُتَفاوتِينَ دَلَّ على أنَّ الإيمانَ يَتَفاوَتُ.
فنحنُ نَعْرِفُ أنَّهُ قدْ يَكونُ هناكَ إنسانٌ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا وقِراءةً وتَدَبُّرًا، أَقْبَلَ على السُّنَّةِ وعلى الحديثِ وعلى القرآنِ، وأَخَذَ يَتَأَمَّلُ، وقامَتْ عندَهُ الأَدِلَّةُ، ورَسَخَتْ في قلبِهِ أَدِلَّةُ الوَحْدانيَّةِ، وأَدِلَّةُ الرُّبُوبِيَّةِ، وأدِلَّةُ البَعْثِ والنُّشورِ، وأدِلَّةُ الأعمالِ والأحكامِ، وأدِلَّةُ الرُّسلِ والإيمانِ بهم والملائكةِ ونحوِهم رَسَخَتْ في قلبِهِ.
وكانَ مِنْ آثارِ رُسُوخِها أن انْبَعَثَتْ جَوارِحُهُ بالعملِ؛ فلا يَنْطِقُ إلاَّ بالذِّكْرِ، ولا يَسْمَعُ إلاَّ الخيرَ، ولا يُبْصِرُ إلاَّ ما فيهِ خيرٌ، وكانَ سُكوتُهُ ذِكرًا، ونُطْقُهُ ذِكرًا، وعملُهُ خيرًا، كلُّ ذلكَ مِنْ آثارِ ما رَسَخَ في قلبِهِ مِنْ تلكَ الأدِلَّةِ.
وهناكَ آخَرُ ما سَمِعَ إلاَّ القليلَ، ولا اهْتَمَّ إلاَّ بالقليلِ مِن السُّنَّةِ، ولمْ يَتَعَلَّمْ إلاَّ أَطْرافَ المعلوماتِ، ومعَ ذلكَ امْتَلأَ قلبُهُ باللَّهْوِ والسَّهْوِ وزِينةِ الدُّنيا وزُخْرُفِها والمَيْلِ إليها، وامْتَلأَ قلبُهُ بمَحَبَّةِ الشَّهَواتِ، فإذا رَأَيْتَهُ لا تَسْمَعُهُ يَذْكُرُ اللهَ إلاَّ قليلاً، ولا تَرَى جَوارِحَهُ تَنْطَلِقُ إلاَّ قليلاً بالأعمالِ الصَّالحةِ، بلْ وضِدُّ ذلكَ لا يَذْكُرُ إلاَّ ما يَشْتَهِيهِ وما يَمِيلُ إليهِ، ولا يَنْطَلِقُ إلاَّ إلى هَوَى نفسِهِ، وأعمالُهُ الصَّالحةُ قليلةٌ.
فهلْ يُقالُ:


إنَّ أعمالَ هذا وأعمالَ هذا مُسْتَوِياتٌ؟ الَّذي يَقولُ ذلكَ ليسَ لهُ فِكْرٌ.
نَعودُ إلى كلامِ المُوَفَّقِ رَحِمَهُ اللهُ، قولُهُ: (إنَّ الإيمانَ قولٌ باللِّسانِ)، يَدْخُلُ في ذلكَ الأَذْكارُ، فهيَ مِن الإيمانِ، فإذا قُلْتَ مَثَلاً: سُبْحَانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، واللهُ أَكْبَرُ، وأَسْتَغْفِرُ اللهَ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ باللهِ، ولا إلهَ إلاَّ اللهُ، وأَعُوذُ باللهِ، وَبِسْمِ اللهِ، واللهُ رَبُّنا، فهذا كُلُّهُ مِن الإيمانِ، وهوَ قولُ اللِّسانِ.
وكذلكَ إذا دَعَوْتَ إلى اللهِ، أوْ دَعَوْتَ إلى الخيرِ، وعَلَّمْتَ النَّاسَ، ودَعَوْتَ إلى كتابِ اللهِ والعملِ بهِ، فكلُّ نُطْقٍ تَنْطِقُ بهِ وهوَ يَدُلُّ على الخيرِ فإنَّهُ مِن الإيمانِ، يُقالُ: هذهِ الكلمةُ إيمانٌ، وهذهِ التَّهْلِيلةُ إيمانٌ، وهذهِ التَّسْبِيحةُ إيمانٌ.

و(اعتقادٌ بِالْجَنَانِ)، أيْ: بالقلبِ.
والاعتقادُ:


ما عَقَدَ عليهِ القلبُ وتَمَسَّكَ بهِ، فالعَقْدُ أصلُهُ انْعِقادُ القلبِ على الشَّيءِ، وعَدَمُ التَّردُّدِ في ثُبوتِهِ:
-فإذا اعْتَقَدَ قلبُكَ ثُبوتَ البَعْثِ فهذا مِن الإيمانِ.
-وإذا اعْتَقَدَ قلبُكَ ثُبوتَ عذابِ القبرِ فهذا مِن الإيمانِ.
-وإذا اعْتَقَدَ قلبُكَ ثُبوتَ الوحيِ فهذا مِن الإيمانِ.
-وإذا اعْتَقَدَ قلبُكَ ثبوتَ الحَشْرِ والنَّشْرِ والجزاءِ على الأعمالِ وتَفاصِيلِ ذلكَ فهذا مِن الإيمانِ.
-وإذا اعْتَقَدَ قلبُكَ ثُبوتَ الملائكةِ وكَثْرتِهم فهذا مِن الإيمانِ.

-وإذا اعْتَقَدَ قلبُكَ ثُبوتَ الرِّسالةِ وكَثْرةِ الرُّسلِ فهذا مِن الإيمانِ.
إلى آخِرِ ذلكَ؛ كُلُّ ما يَعْقِدُ عليهِ القلبُ فإنَّهُ مِن الإيمانِ.
كذلكَ أيضًا عملُ الجَوارِحِ: فالصَّلاةُ، والصَّدَقاتُ، والصِّيامُ، والطَّوافُ، والحَجُّ، والوُقوفُ ورَمْيُ الجَمَراتِ، والجهادُ في سَبِيلِ اللهِ، والأمرُ بالمعروفِ، والدَّعْوةُ إلى اللهِ تعالى، كلُّ هذهِ مِن الإيمانِ.

والبُخارِيُّ يُبَوِّبُ على ذلكَ في صحيحِهِ فيَقولُ: (بابُ الصَّلاةُ مِن الإيمانِ)، (بابُ أَداءُ الخُمسِ مِن الإيمانِ)، (بابُ أَداءُ الزَّكاةِ مِن الإيمانِ)، (بابُ الصَّبْرُ مِن الإيمانِ)، وهكذا يُعَدِّدُ خِصالَ الخيرِ ويَجْعَلُها مِن الإيمانِ؛ لأنَّها مِن الأعمالِ بالجوارحِ، والأعمالُ بالجوارحِ مِن الإيمانِ.

أمَّا الأَدِلَّةُ على ذلكَ؛
فمِنها قولُهُ تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البيِّنَة: 5].

الدِّينُ: هوَ الإيمانُ، فجَعَلَ هذهِ الخمسَ مِن الإيمانِ:
العِبادةُ: يَدْخُلُ فيها أنواعُ الطَّاعةِ وأنواعُ القُرُباتِ، كُلُّها مِن الإيمانِ.
الإخْلاصُ:إرادةُ وَجْهِ اللهِ تعالى بِالْعَمَلِ، وعدمُ إرادةِ غيرِهِ، هذا أيضًا مِن الإيمانِ.
الحَنِيفُ: هوَ المُقْبِلُ على اللهِ المُعْرِضُ عمَّا سِواهُ، هذا مِن الإيمانِ.
الصَّلاةُ: مِن الإيمانِ.
الزَّكاةُ:مِن الإيمانِ، وكلُّها مِن الدِّينِ.
كذلكَ الإيمانُ:ذَكَرَ أنَّهُ يَزِيدُ بالطَّاعةِ ويَنْقُصُ بالعِصْيانِ، وقدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَنْ يُنْكِرُ زِيادتَهُ، وتَبَيَّنَ لنا خَطَؤُهم وبُعْدُهم عن الصَّوابِ.

والأَدِلَّةُ واضحةٌ على ذلكَ؛ قالَ اللهُ تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[آل عِمْران: 173].
وفي سورةِ الأنفالِ يَقولُ تعالى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}[الأنفال: 2].

وفي سورةِ الفَتْحِ يَقولُ تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ}[الفتح: 4].
وفي سورةِ التَّوبةِ يَقولُ اللهُ تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}[التَّوبة: 124].
والحاصِلُ أنَّ هذا دَليلٌ واضِحٌ على أنَّ الإيمانَ يَزِيدُ ويَنْقُصُ، وكلٌّ شيءٍ قَبِلَ الزِّيادةَ فإنَّهُ يَقْبَلُ النُّقصانَ.

والدِّينُ يَشْمَلُ الإسلامَ والإيمانَ، كما في حديثِ جِبْرِيلَ المَشْهورِ الَّذي سَأَلَ فيهِ عن الإسلامِ، فَفَسَّرَهُ بالأعمالِ الظَّاهرةِ، ثمَّ سَأَلَ عن الإيمانِ وفَسَّرَهُ بالأعمالِ الباطنةِ، يَعْنِي لمَّا قَرَنَ معَ الإسلامِ الإيمانَ فَسَّرَ الإسلامَ بالأعمالِ الظَّاهرةِ، والإيمانَ بأعمالِ القلبِ، ثمَّ سَأَلَ عن الإحسانِ، ففَسَّرَهُ بالمُرَاقَبةِ والمُشاهَدةِ، ثمَّ أَخْبَرَ بأنَّ هذا كُلَّهُ مِن الدِّينِ، قالَ: ((يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ))، وصَار الإيمانُ والإحسانُ كُلُّهُ مِن الدِّينِ.

وإذا قُلْتَ: هلْ هناكَ فَرْقٌ بينَ الإسلامِ والإيمانِ؟
فَيُقالُ: إذا قُرِنَا جميعًا فإنَّ الإسلامَ: الأعمالُ الظَّاهرةُ، والإيمانَ: أعمالُ القلبِ.
وأمَّا إذا اقْتُصِرَ على واحدٍ منها فإنَّهُ يَعُمُّ الجميعَ.

لكنْ قدْ يُشْكِلُ على الإنسانِ بعضُ الأدلَّةِ، مثلُ قولِهِ تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}[الحُجُرات 14]، وقدْ كَثُرَ الكلامُ حولَ هذهِ الآيَةِ، ولا إِشْكَالَ فيها والحمدُ للهِ؛ وذلكَ لأنَّ هؤلاءِ الأَعْرابَ أَسْلَمُوا، يَعْنِي اسْتَسْلَموا ظاهرًا، والإيمانُ لا بُدَّ أنْ يَصِيرَ نابِعًا من القلبِ، وهؤلاءِ لم يَصِل الإيمانُ الحقيقيُّ إلى قُلوبِهم؛ فلأجْلِ ذلكَ قالَ: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}، فجَعَلَهم مُرْتابِينَ؛ أيْ: في قلوبِهم رَيْبٌ، فأَثْبَتَ لهم الإسلامَ، ونَفَى عنهم الإيمانَ {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا}؛ وذلكَ لأنَّهم اسْتَسْلَموا ظاهرًا وقُلوبُهم مُتَرَدِّدةٌ، يَعْبُدُونَ اللهَ على حَرْفٍ، فإنْ أَصابَهم خيرٌ اطْمَأَنُّوا بهِ، وإنْ أَصَابَتْهم فِتْنةٌ انْقَلَبوا على وُجُوهِهم، فهؤلاءِ نَفَى عنهم الإيمانَ؛ لأنَّ الإيمانَ مَنْبَعُهُ مِن القلبِ، ويُؤَثِّرُ على الأبْدَانِ، يُؤَثِّرُ على السَّمعِ، وعلى البَصَرِ، وعلى اليدِ، وعلى الرِّجلِ، وعلى اللِّسانِ، وهؤلاءِ إنَّما أعْمالُهم ظاهِرُها أنَّهم مُسْلِمونَ، ولكنْ ليسَ معَهم دافعُ الإيمانِ.

أمَّا قولُهُ تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {35} فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[الذَّارِيَات: 35 - 36]، هُمْ لُوطٌ وأهلُهُ.
فلا شكَّ أنَّ لُوطًا وأهلَ بيتِهِ ما عَدا امْرَأتَهُ جَمَعوا بينَ الوَصْفَيْنِ؛ أي: الإيمانِ والإسلامِ؛ الإيمانِ الباطنِ والإسلامِ الظَّاهرِ، وإنْ كانَ أحدُهما يَكْفِي عن الآخَرِ.
والحاصلُ أنَّا إذا رَأَيْنا ذِكْرَ الإسلامِ مُطْلَقًا فَسَّرْناهُ بالإيمانِ وبالأعمالِ كُلِّها، وإذا ذُكِرَ الإيمانُ وحْدَهُ فَسَّرْناهُ بالإسلامِ وبالأعمالِ كلِّها، وإذا ذُكِرَا معًا فأحدُهما أَخَصُّ مِن الآخَرِ، والأعَمُّ هوَ الإسلامُ، وأَخَصُّ منهُ الإيمانُ، وأَخَصُّ مِن الإيمانِ الإحسانُ. (2) هذهِ أدلَّةٌ واضحةُ الدَّلالةِ يُسْتَدَلُّ بها على أنَّ الأعمالَ مِنْ مُسَمَّى الإيمانِ، وعلى أنَّ الإيمانَ يَزِيدُ ويَنْقُصُ، وعلى أنَّ أهلَ الإيمانِ يَتَفَاوَتُونَ.

فالدَّليلُ الأوَّلُ:
قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ)).

والشُّعْبةُ: هيَ القِطْعةُ من الشَّيءِ إذا رَأَيْتَهُ مُتَشَعِّبًا؛ في هذا شُعْبةٌ، وفي هذا شُعْبةٌ؛ يَعْنِي: قِطَعٌ، فإذا اجْتَمَعَ وتَوَاصَلَ صارَ كُلُّهُ إيمانًا.

مِنْ هذا الحديثِ انْطَلَقَتْ أفكارُ العلماءِ في ذِكْرِ شُعَبِ الإيمانِ، وأَخَذوا يُعَدِّدُونَهَا ويَذْكُرونَ ما وَصَلوا إليهِ، وأَوْسَعُ مَنْ كَتَبَ في ذلكَ الْبَيْهَقِيُّ، لهُ كِتابٌ مَطْبوعٌ في نحوِ سبعةِ مجلَّداتٍ، اسمُهُ (شُعَبُ الإِيمَانِ)، اسْتَوَفى فيهِ ما وَصَلَ إليهِ مِن الأحاديثِ الَّتي تَتَعَلَّقُ بالإيمانِ.

وكَتَبَ في ذلكَ أيضًا بعضُ العلماءِ رِسالةً مُخْتَصَرةً في شُعَبِ الإيمانِ، أَوْصَلَها إلى سبعٍ وسبعينَ خَصْلةً، بَدَأَها بالتَّوحيدِ أَخْذًا مِن الحديثِ: ((أَعْلاَهَا قَوْلُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ))، وخَتَمَها بالأعمالِ الَّتي فيها نَفْعٌ لِلغيرِ، ومنها: ((إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ)).

وفيما بينَ ذلكَ ذَكَرَ الصَّلاةَ مِن الإيمانِ، والزَّكاةَ مِن الإيمانِ، والتَّطَوُّعاتِ مِن الإيمانِ، والنَّهيَ عن المُنْكَرِ، وصِدْقَ الحديثِ، وأداءَ الأمانةِ، وحُسْنَ الخُلُقِ، ورَدَّ السَّلامِ، وتَشْمِيتَ العاطِسِ، وعِيادةَ المريضِ، واتِّباعَ الجَنائِزِ، وإكرامَ الضَّيفِ، وإحْسانَ الْجِوَارِ، والرِّفْقَ بالمَمْلوكِ، وأَخَذَ يُعَدِّدُ حتَّى وَصَلَ إلى سبعٍ وسبعينَ خَصْلةً، أَرَادَ بذلكَ أن يُطَبِّقَ هذا الحديثَ.
وهذا بلا شكٍّ ردٌّ صريحٌ على فُقَهاءِ الحنفيَّةِ


الَّذينَ يَجْعَلونَ الإيمانَ هوَ التَّصديقَ فقطْ، ويَجْعَلونَ الأعمالَ خَارِجةً عنْ مُسَمَّاهُ، ويَجْعَلونَ الإيمانَ اسمًا لِعَمَلِ القلبِ فقطْ، أوْ يَقينِ القلبِ فقطْ، ويَقولونَ: إنَّ الأعمالَ ثَمَرَةٌ مِنْ ثمَرَاتِهِ.

والصَّحيحُ أنَّ الأعمالَ داخِلةٌ في مُسَمَّى الإيمانِ، وأنَّها مِنْ جُمْلةِ الإيمانِ كما سَمَّاها في هذا الحديثِ وقَسَّمَ خِصالَ الإيمانِ وشُعَبَ الإيمانِ.

وبكلِّ حالٍ؛ مَتى اسْتَوْفَى المسلمُ هذهِ الخِصالَ وعَمِلَ بها سَمَّيْناهُ: مُؤْمِنًا كَامِلَ الإيمانِ، وإذا نَقَصَ منها قُلْنَا: مُؤْمِنٌ ناقصُ الإيمانِ.

والخِلافُ هنا معَ المُعْتَزِلَةِ والخَوارِجِ:

فالمعتزلةُ
بِمُجَرَّدِ ما يَتْرُكُ خَصْلَةً مِنْ خِصالِ الإيمانِ، أوْ يَفْعَلُ مَعْصيَةً، يُخْرِجُونَهُ مِن الإيمانِ، ولا يُدْخِلُونَهُ في الكُفْرِ، بلْ يَجْعَلُونَهُ في مَنْزِلةٍ بينَ المنزلَتَيْنِ، هذا في الدُّنيا، ويَقُولونَ: لا نَحْكُمُ عليهِ بالكفرِ في الدُّنيا بحيثُ يُقْتَلُ أوْ يُسْبَى، بلْ نَقولُ: لا مُؤْمِنٌ ولا كافرٌ، بلْ بينَهُما.

أمَّا الخَوارِجُ
فيَقولونَ: بمجرَّدِ ما يَرْتَكِبُ ذَنْبًا، أوْ يَتْرُكُ طاعةً، خَرَجَ مِن الإيمانِ، وحَلَّ دمُهُ ومالُهُ.

وأمَّا أهلُ السُّنَّةِ
فَيَقولونَ: إنَّهُ مُؤْمِنٌ، ولكنْ ناقصُ الإيمانِ، أوْ مؤمنٌ بإيمانِهِ فاسقٌ بكَبِيرتِهِ، فيُسَمُّونَهُ مؤمنًا، ولكنْ معَ الإيمانِ يَتَّصِفُ بالفِسْقِ، فلا مَانِعَ منْ أنْ تَقولَ: مؤمنٌ فاسقٌ، أوْ مؤمنٌ ناقصُ الإيمانِ، أوْ مُؤمنٌ بإيمانِهِ فاسقٌ بكَبِيرتِهِ.

لكنْ هنا دَليلٌ اسْتَدَلَّ بهِ المعتزلةُ ونحوُهم، وهوَ الحديثُ الَّذي في الصَّحِيحَيْنِ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَنْهَبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)).

فإنَّهُ نَفَى عنهُ الإيمانَ.

والجوابُ: أَنَّ المرادَ نَفْيُ الإيمانِ الكاملِ، فهوَ معَهُ إيمانٌ ناقصٌ، أوْ ((لاَ يَزْنِي الزَّانِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ))؛ يَعْنِي: أنَّهُ ليسَ معهُ الإيمانُ الَّذي يَحْجِزُهُ عن المعاصِي، بلْ إيمانُهُ مُضْطَرِبٌ ومُخْتَلٌّ، وبعضُ الشُّرَّاحِ يَقولونَ: إنَّ الإيمانَ يَخْرُجُ منهُ ويَصِيرُ عليهِ كَالظُّلَّةِ ما دامَ مُتَلَبِّسًا بمَعْصِيتِهِ، ولكنْ لا يَرْجِعُ إليهِ سالماً، بلْ يَرْجِعُ إليهِ مُخْتَلاًّ وناقِصًا، وبكلِّ حالٍ؛ هذا دليلٌ واضحٌ على أنَّ أهلَ الإيمانِ يَتَفَاوَتُونَ.

وأمَّا أَدِلَّةُ زِيادتِهِ:
فَذَكَرَ مِنها ابْنُ قُدَامَةَ ثلاثةَ أَدِلَّةٍ؛ وذلكَ لأنَّ القلبَ تَتَوارَدُ عليهِ الأدلَّةُ، فيَزِيدُ الإيمانُ فيهِ، وقدْ يَذْهَبُ بعضُها فيَنْقُصُ، وقدْ تَأْتِيهِ شُبْهةٌ فَتَنْقِصُ اليَقِينَ الَّذي فيهِ ويَبْقَى ناقِصًا.

ومِن الأدلَّةِ أيضًا قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ))، أَلَيْسَ هذا دَلِيلاً على التَّفاوُتِ، فبعضُهم إيمانُهُ مِثْقالُ دِينارٍ؛ وهوَ قِطْعَةٌ مِن الذَّهَبِ، وبعضُهم مِثْقالُ خَرْدَلةٍ؛ حَبَّةٍ صغيرةٍ. وهذا دليلٌ على أنَّهم مُتَفاوِتُونَ؛ هذا أَنْقَصُ مِنْ هذا، وهذا أَزْيَدُ مِنْ هذا، فدَلَّ على أنَّهم يَتَفاوَتُونَ.

واسْتَدَلُّوا أيضًا بقَوْلِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخاطِبًا لِلنِّسَاءِ في خُطْبَتِهِ يومَ العِيدِ: ((مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ))، قُلْنَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا نُقْصَانُ العَقْلِ وَالدِّينِ؟ قَالَ: ((أَمَّا نُقْصَانُ الْعَقْلِ فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ، فَهَذَا نُقْصَانُ العَقْلِ، وَتَمْكُثُ اللَّيَالِيَ مَا تُصَلِّي، وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ، فَهَذَا نُقْصَانُ الدِّينِ))، فجَعَلَ تَرْكَها الصَّلاةَ - وإنْ كانَتْ مَعْذُورةً - نَقْصًا في دِينِها، فالرَّجلُ يَزِيدُ عليها في صلاتِهِ في تلكَ المُدَّةِ، فدَلَّ على أنَّ الإيمانَ يَزِيدُ بالطَّاعةِ مِن الصَّلاةِ والصَّدقةِ والصِّيامِ ونحوِها، ويَنْقُصُ بِتَرْكِ الصَّلاةِ أوْ بِتَرْكِ الصِّيامِ وما أَشْبَهَهُ.

وأهلُ السُّنَّةِ قالوا:
إنَّ المُؤْمِنِينَ يَتَفاوَتُونَ في الإيمانِ، ولا يُكَفِّرُونَ بالذُّنوبِ، بلْ يُعَذِّرُونَ العاصِيَ ويَقولونَ: إنَّهُ مُؤْمِنٌ، ولكنَّهُ فاسِقٌ، أوْ عاصٍ، ولوْ عَمِلَ أيَّ عَمَلٍ ما لمْ يَكُنْ ذلكَ العَمَلُ مُخْرِجًا مِن المِلَّةِ.

والأحاديثُ الَّتي أُطْلِقَ فيها الكفرُ على بعضِ الأعمالِ
يُقالُ: إنَّهُ كُفْرٌ عَمَلِيٌّ، مِثلُهُ قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ))، معلومٌ أنَّ هذهِ لا تَصِلُ إلى الكفرِ الَّذي هوَ الكفرُ باللهِ، والَّذي يُبِيحُ الدَّمَ والمالَ، ولكنَّها كُفْرٌ عَمَليٌّ فيهِ شيءٌ مِن التَّكْذِيبِ في بعضِ الشَّريعةِ.

والأحاديثُ الَّتي فيها الوعيدُ على بعضِ الخِصالِ،
تُسَمَّى أحاديثَ الوعيدِ، تَجْرِي على ظاهرِها؛ لِيَكونَ أَبْلَغَ في الزَّجْرِ، معَ العِلْمِ بأنَّها لا تُخْرِجُ مِن الملَّةِ، ولوْ كان ظاهِرُها فيهِ إِخْراجٌ مِن الملَّةِ.
فإذا سَمِعْنا قولَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ، أَوْ شَقَّ الْجُيُوبَ، أَوْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ))، هلْ نَقولُ: هذا ليسَ مِن المُسْلِمِينَ، معَ أنَّهُ ما عَمِلَ إلاَّ هذا العَمَلَ؟ هلْ خَرَج بذلكَ مِن الإيمانِ؟ هذا مِنْ أحاديثِ الوعيدِ، ونَعْتَقِدُ أنَّها لا تُخْرِجُ مِن الملَّةِ، ولكنْ نُمِرُّهُ على ظاهِرِهِ؛ لِيَكونَ أَبْلَغَ في الزَّجْرِ.

وكذلِكَ قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا))، وقولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ، أَوْ تَقَلَّدَ وَتَرًا، أَوِ اسْتَنْجَى بِرَجِيعِ دَابَّةٍ أَوْ عَظْمٍ؛ فَإِنَّ مُحَمَّدًا بَرِيءٌ مِنْهُ))، هلْ يَكونُ مَعْناهُ أنَّهُ خَرَجَ مِن الدِّينِ؟ وهذهِ الأحاديثُ كثيرةٌ.

ولذلكَ؛ فإنَّ الإمامَ مُسْلِمًا رَحِمَهُ اللهُ بَدَأَ صَحِيحَهُ بِكتابِ الإيمانِ، وأَوْرَد فيهِ مثلَ هذهِ الأحاديثِ الَّتي فيها إشْكالٌ على بعضِ النَّاسِ -وفيها لا شَكَّ- لِلدَّلالةِ على أنَّ الإيمانَ يَتَفاوَتُ، مثلُ قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ))، أَلَيْسَ فيهِ دَليلٌ على أنَّ الإيمانَ يَتَفاوَتُ، وأنَّ هناكَ إيمانًا ضَعِيفًا؟!
كلُّ هذا رَدٌّ على الَّذينَ يَقولونَ: إنَّ الإيمانَ شيءٌ واحدٌ، وإنَّ نُقْصانَهُ ذِهابٌ لهُ.
ومِمَّنْ كَتَبَ في ذلكَ شَيْخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ في كِتابِ (الإِيمَانِ)، وهوَ مَطْبوعٌ في الْمُجَلَّدِ السَّابعِ مِنْ مَجْموعِ الفَتاوَى، ومطبوعٌ أيضًا مُفْرَدًا.

وكذلكَ في كتابِ الإيمانِ في صَحِيحِ البُخَارِيِّ، وفي أَكْثَرِ كُتُبِ الْمُحَدِّثِينَ.
وكذلكَ الكُتُبُ المُسْتَقِلَّةُ؛ كَكِتابِ (الإيمانِ)لابنِ أَبي شَيْبَةَ صاحِبِ المُصَنَّفِ، وكتابِ (الإيمانِ)لأَبي عُبَيْدٍ القاسمِ بنِ سَلاَّمٍ، وكتابِ (الإيمانِ)لابْنِ مَنْدَهْ، وكُلُّها مطبوعةٌ مُيَسَّرةٌ وللَّهِ الحمدُ.


  #4  
قديم 29 ذو القعدة 1429هـ/27-11-2008م, 10:07 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post شرح الشيخ :صالح آل الشيخ

القارئ:

فَصْلٌ

وَالإيمانُ:
قَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالأرْكَانِ، وَعَقْدٌ بِالجَنَانِ، يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقصُ بِالعِصْيَانِ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلاةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البينة: 5] فَجَعَلَ عِبَادَةَ اللهِ تَعَالَى وَإخْلاَصَ القَلْبِ وَإقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيْتَاءَ الزَّكَاةِ كُلَّهُ مِنَ الدِّينِ.
وَقَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الإِيْمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعْلاَهَا شَهَادَةُ أَن لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الْطَّرِيق، والحياءُ شُعْبَةٌ من الإيمانِ)).
فَجَعَلَ القَوْلَ وَالعَمَلَ جميعاً مِنَ الإِيْمَانِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا}[التوبة: 124].
وقال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا}[الفتح: 4]
وَقَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يخرجُ مِنَ النَّارِ مَن قالَ: لاَ إِلَه إِلاَّ اللهُ وَفِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ بُرَّةٍ، أَوْ خَرْدَلَةٍ، أَوْ ذَرَّةٍ من الإِيمان)) فَجَعَلَهُ مُتَفَاضِلاً).


الشيخ:

فهذه الجملُ فيها ذكرُ مبحثِ الإيمانِ ومعتقدِ أهلِ السّنَّةِ والجماعةِ في الإيمانِ.

ومن أوائل المسائلِ الواقعةِ في هذه الأمَّةِ ممَّا اختلفَ فيه أهلُ الفرقِ عمَّا كان عليه الصَّحابةُ والتَّابعون لهم بإحسانٍ، مسألةُ الإيمانِ: هل تدخلُ الأعمالُ في مسمَّى الإيمانِ؟ وهل الإيمانُ متفاضلاً يتبعَّضُ، يعني: هل يزيدُ وينقصُ، وهل هو أبعاضٌ؟ قد يذهبُ بعضُهُ ولا يذهبُ كلُّهُ؟
فقال أولئك الضُّلالُ: (إنَّ الإيمانَ قولٌ واعتقادٌ، وأمَّا العملُ فلا يدخلُ في مسمَّى الإيمانِ، وهؤلاء يُسَمَّونَ المرجئةَ).

والمرجئة على قسمين:
- غلاةُ المرجئةِ

الَّذين يقولون: (إنَّ الإيمانَ هو المعرفةُ، معرفةُ القلبِ لا غيرُ، وهذا موجودٌ اليوم في غلاةِ المتصوِّفةِ وفي طوائفَ متنوعة).

- والقسمُ الثَّاني:
الَّذين يقولون: (إنَّ الإيمانَ قولٌ واعتقادٌ) ويخرجون العملَ عن مسمَّى الإيمانِ، فيجعلونه تابعاً للإيمانِ وليس منه، وليس من مسماه، يعني: أنَّ العملَ ليس ركناً في الإيمانِ لا يقومُ الإيمانُ إلا به، وهؤلاء يسمَّون مرجئةَ الفقهاءِ، كثر هذا في الحنفيَّةِ؛ لأنَّه قد قالَ به الإمامُ أبو حنيفةَ.
وطائفةٌ أخرى خالفت
وقالت: (إنَّ الإيمانَ إمَّا أن يبقى جميعُهُ، وإما أن يذهبُ جميعُهُ، فليس متفاضلاً، فإذا عمل العبدُ بالمعصيةِ الكبيرةِ فإنَّهُ يذهب جميعُ إيمانِهِ.
فالإيمانُ على حالين:
إمَّا أن يبقى، وإما أن يذهبَ، وليس الإيمان متبعِّضاً يزيدُ وينقصُ، وقد يذهبُ بعضُهُ ولا يذهبُ أصلُهُ)، وهذا هو المعروفُ من قولِ الخوارجِ ومن نحى نحوَهُم من التَّكفيرِ بالذُّنوبِ والمعاصي.
ومعتقدُ أهلِ السّنَّةِ والجماعةِ في الإيمانِ
أنَّهُم يقولون: إنَّ الإيمانَ هو ما جمعَ خمسةَ أمورٍ -يعني معتقدهم في الإيمان: ما جمع خمسة أمور-:
الأوَّلَ: اعتقادُ القلبِ.
الثَّانـي: قولُ اللسانِ.
الثَّالـثُ: العملُ بالأركانِ.
الرَّابـعُ:أنَّ الإيمانَ يزيد بطاعةِ الرَّحمنِ.
الخامسُ: أنَّ الإيمانَ ينقص بمعصيةِ الرَّحمنِ وبطاعةِ الشَّيطانِ.

فهذه خمسةُ أمورٍ تميّزَ بكلِّ واحدٍ منها أهلُ السّنَّةِ والجماعةِ عمَّنْ خالفهم في هذا الأصلِ، وأدلَّةُ ذلك ظاهرةٌ بيِّنَةٌ، فهو قولٌ وعملٌ، فالإيمانُ قولٌ وعملٌ: قولُ القلبِ وعملُ القلبِ، وقولُ الجوارحِ وعملُ الجوارحِ.
وقولُ القلبِ: هو نيَّتُه وإخلاصُهُ.
وعملُ القلبِ: هو ما يقومُ به من الاعتقادِ.
وقولُ الجوارحِ: هو قولُ اللسانِ.
وعملُ الجوارحِ: هو جنسُ الأعمالِ الَّتي تعملُ بها الجوارحُ من طاعةِ اللهِ جلَّ وعلا، فهو قولٌ وعمل.
فمن قالَ من السَّلفِ:
إنَّ الإيمانَ قولٌ وعملٌ: فيعني به هذه الأمورَ الخمسةَ؛ لأنَّ قولَهُ: قولٌ وعملٌ يشمل ذلك.
أمَّا زيادتُهُ ونقصانُه:
فقد دلَّتْ عليها الأدلَّةُ الكثيرةُ.

فإذاً:
صار عندنا مسمّىً للإيمانِ غيرَ ما تدلُّ عليه اللغةُ في الإيمانِ، وذلك أنَّ الإيمانَ في اللغةِ أصلُه التَّصديقُ الجازمُ.
وقال بعضُ أهلِ العلمِ: إنَّ أصلَهُ من الأمنِ؛ لأنَّ من صدّق جازماً فإنَّهُ يأمن غائلةَ التَّكذيبِ.
وفي الاصطلاحِ عند أهلِ السّنَّةِ والجماعةِ: هو ما فسَّروه بالأمورِ الخمسةِ.

وفي القرآنِ أتى الإيمانُ بالمعنى اللغويِّ وبالمعنى الشَّرعيِّ،

وقد فرّق بين مجيءِ هذا وهذا في القرآنِ بعضُ أهلِ العلمِ بقوله: إنَّ غالبَ ما جاء فيه الإيمانُ بالمعنى اللغويِّ فإنَّهُ يُعدَّى باللامِ، وما جاء فيه بالمعنى الشَّرعيِّ فإنَّه يعدَّى فيهِ بالباءِ.

فمن الأوَّلِ:
-يعني: الإيمان اللغويّ الَّذي عُدّي باللام- قولُهُ -جلَّ وعلا-: {وما أنت بمؤمنٍ لنا} فلمَّا قال {بمؤمنٍ لنا} فعدَّى الإيمانُ باللامِ، علمنا أنَّ المعنى هنا الإيمانُ اللغويُّ، تقول: (آمنت لك) يعني: صدّقتك تصديقاً جازماً، وكما قال -جلَّ وعلا-: {فآمنَ له لوطٌ} يعني: صدّق به تصديقاً جازماً.
أمَّا القسمُ الثَّاني: وهو الإيمانُ الشَّرعيُّ فإنَّهُ يُعدّى بالباءِ {آمنَ الرَّسولُ بما أُنزِلَ إليه}{فإن آمنوا بمثلِ ما آمنْتُمْ به} فهذا إيمانٌ شرعيٌّ خاصٌّ.
وزيادةُ الإيمانِ ونقصانُهُ أصلٌ عند أهلِ السّنَّةِ والجماعةِ، يخالفون به الخوارجَ ومن يكفِّرون بالذُّنوبِ.
وينبغي أن يعلمَ هنا:
أنَّ أهلَ السّنَّةِ يقولون: (لا نكفِّرُ بذنبٍ) ويقصدون بذلك لا يكفِّرون بعملِ المعاصي.
أمَّا مباني الإسلامِ العظامِ
الَّتي هي الصَّلاةُ والزَّكاةُ والصِّيامُ والحجُّ، ففي تكفيرِ تاركِهَا والعاصي بتركها خلافٌ مشهورٌ عندهم.
فقولُهُم: إنَّ أهلَ السّنَّةِ والجماعةِ يقولون: (لا نكفِّرُ بذنبٍ ما لم يستحلَّهُ بإجماعٍ) يعني: المعصية.
أمَّا المباني العظامُ:
فإنَّ التَّكفيرَ عندهم الخلافُ فيه مشهورٌ، منهم من يكفِّرُ بترك مباني الإسلامِ العظام أو أحدِ تلكَ المباني، ومنهم من لا يكفِّرُ.
كذلك ينبغي أن يُعلمَ
: أنَّ قولنا: العملُ داخلٌ في مسمَّى الإيمانِ وركنٌ فيه لا يقومُ الإيمانُ إلا به، نعني به: جنسِ العملِ وليس أفرادَ العملِ؛ لأنَّ المؤمنَ قد يترك أعمالاً كثيرةً صالحةً مفروضةً عليه ويبقى مؤمنا، لكنَّه لا يُسمَّى مؤمناً، ولا يصحُّ منه إيمانٌ إذا ترك كلَّ العملِ، يعني: إذا أتى بالشَّهادتين وقال: أقول ذلك وأعتقدُهُ بقلبي وأتركُ كلَّ الأعمالِ بعد ذلك وأكون مؤمناً.
فالجوابُ:
أنَّ هذا ليس بمؤمنٍ؛ لأنَّ تركَ العملِ مسقطٌ لأصلِ الإيمانِ، يعني: تركُ جنسِ العملِ مسقِطٌ للإيمانِ، فلا يوجدُ مؤمنٌ عندَ أهلِ السّنَّةِ والجماعةِ يصحُّ إيمانُهُ إلا ولا بدَّ أن يكونَ معه مع الشَّهادتين جنسُ العملِ الصَّالحِ، يعني: جنسُ الامتثالِ للأوامر والاجتنابِ للنَّواهي.
كذلك الإيمانُ مرتبةٌ من مراتبِ الدِّينِ، والإسلامُ مرتبةٌ من مراتبِ الدِّينِ،
والإسلامُ فسّرَ بالأعمالِ الظَّاهرةِ؛ كما جاء في المسندِ أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- قال: ((الإيمانُ في القلبِ والإسلامُ علانيةٌ)) يعني: أنَّ الإيمانَ ترجع إليه العقائدُ، أعمالُ القلوبِ.
وأمَّا الإسلامُ
فهو ما ظهر من أعمالِ الجوارحِ، فليُعلم أنَّهُ لا يصحُّ إسلامُ عبدٍ إلا ببعضِ إيمانٍ يصحِّحُ إسلامَهُ، كما أنَّه لا يصحُّ إيمانُهُ إلا ببعضِ إسلامٍ يصحِّحُ إيمانَهُ، فلا يُتَصوَّرُ مسلمٌ ليس بمؤمنٍ البتَّةَ، ولا مؤمنٌ ليس بمسلمٍ ألبتَّةَ.
وقولُ أهلِ السّنَّةِ:
إنَّ كلَّ مؤمنٍ مسلمٌ وليس كلُّ مسلمٍ مؤمناً، لا يعنون به أنَّ المسلمَ لا يكون معه شيءٌ من الإيمانِ أصلاً، بل لا بدَّ أن يكون معه مطلقُ الإيمانِ الَّذي به يصحُّ إسلامُهُ، كما أنَّ المؤمنَ لا بدَّ أن يكونَ معه مطلقُ الإسلامِ الَّذي به يصحُّ إيمانُهُ، ونعني بمطلقِ الإسلامِ: جنسَ العملِ، فبهذا يتَّفقُ ما ذكروه في تعريفِ الإيمانِ؛ وما أصَّلوه من أنَّ كلَّ مؤمنٍ مسلمٌ دون العكسِ.
فإذاً: ههنا كما يقول أهل العلم عند أهلِ السُّنَّة والجماعة خمسُ نونات:
النون الأولـى: أنَّ الإيمانَ قولُ اللسانِ، هذه النون الأولى، يعني: اللسان.
الثَّانيـةُ: أنَّهُ اعتقادُ الجنانِ.
الثَّالثـةُ:أنَّهُ عملٌ بالأركانِ.
النون الرَّابعـةُ: أنَّهُ يزيدُ بطاعةِ الرَّحمنِ.
والخامسةُ: أنَّهُ ينقصُ بطاعةِ الشَّيطانِ وبمعصيةِ الرَّحمنِ.
والإيمانُ مُتفاضلٌ، كلَّما عمل العبدُ طاعةً زادَ الإيمانُ، وإذا عملَ معصيةً نقص الإيمانُ.
فبقدرِ متابعتِهِ وقدر إحداثِهِ للطَّاعاتِ يزيد إيمانُهُ، سواءٌ كانت طاعاتُ القلوبِ من الاعتقاداتِ، أو طاعاتُ الجوارحِ من الأعمالِ الصَّالحاتِ، فإنَّ بذلك زيادةَ الإيمانِ، فإذا عملَ معصيةً نقص الإيمانُ.

كذلك النَّاسُ في أصلِ الإيمانِ ليسو سواءً، بل مختلفون، فإيمانُ أبي بكرٍ ليس كإيمانِ سائرِ الصَّحابةِ، ولهذا قال شعبةُ أبو بكر بن عيّاشُ، القارئُ المعروفُ، قال: (ما سبقهُم أبو بكرٍ بكثرةِ صلاةٍ ولا صيامٍ، وإنَّما بشيءٍ وقر في قلبِهِ) وهذا مستقىً من بعضِ الأحاديثِ أو من بعضِ الآثارِ، يعني: أنَّ أبا بكرٍ الصّدِّيقَ -رضي اللهُ عنه- كان معه من أصلِ الإيمانِ ما ليس عند غيرِهِ.
فيُغلِّطُ أهلُ السّنَّةِ من قال: إنَّ أهل الإيماَن في أصلِهِ سواءٌ؛ وإنَّما يتفاضلون بعدَ ذلك بالأعمالِ، بل هم مختلفون في أصلِهِ.
وفهمُ معتقدِ أهلِ السّنَّةِ والجماعة في الإيمانِ
يمنع من الدُّخولِ في الضَّلالاتِ من التَّكفيرِ بالمعصيةِ، أومن التَّكفيرِ بما ليس بمكفِّر، فمن فهم معتقدَ أهلِ السّنَّةِ والجماعةِ في الإيمانِ حصّن لسانَهُ وعقلَهُ من الدُّخولِ في الغلوِّ في التكفيرِ، واتِّباعِ الفرقِ الضَّالَّةِ الَّتي سارعت في بابِ التَّكفيرِ، فخاضت فيه بغيرِ علمٍ، فكفَّروا المسلمين، وأدخلوا في الإسلامِ والإيمان من ليس بمسلمٍ ولا مؤمنٍ.


  #5  
قديم 29 ذو القعدة 1429هـ/27-11-2008م, 10:08 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post شرح الشيخ:صالح الفوزان .حفظه الله (مفرغ)

المتن:

(فصل)
والإيمان قول باللسان وبالأركان , وعقد بالجنان , يزيد بالطاعة , وينقص بالعصيان.


الشرح:
انتهى من مباحث القضاء والقدر , انتقل إلى تعريف الإيمان .
الإيمان في اللغة: التصديق على أمر غائب مخبر عنه، سمي التصديق بذلك إيمانا؛ لأنه ائتمان للمخبر؛ لأنه يخبر عن شيء لا نراه , أو شيء غائب لا نراه , فنحن نصدقه , ونؤمن به , يعني: نأمنه على هذا الخبر، إذا توفرت فيه الثقة , هذا في اللغة , الإيمان هو التصديق الذي معه ائتمان على أمر غائب لا نراه , كأن يخبرك أن في البلد الفلاني كذا وكذا، أنت ما ذهبت إليه ولا رأيته , لكن تصدق هذا المخبر وتأتمنه على هذا الخبر، هذا يسمى إيمان في اللغة.

أما الإيمان في الشرع فهو أكثر من ذلك , هو حقيقة شرعية؛
لأن الحقائق عند الأصوليين ثلاث:
- حقيقة شرعية.
- وحقيقة عرفية .
- وحقيقة لغوية .
هذه الحقائق عند الأصوليين , فتعريف الإيمان هنا هو من الحقيقة الشرعية لا الحقيقة اللغوية , ولا العرفية , إنما هو حقيقة شرعية مثل الصلاة، الصلاة حقيقة شرعية , ليست حقيقة لغوية؛ لأن الصلاة في اللغة: الدعاء , مجرد الدعاء صلاة في اللغة ,لكن في الشرع هي أكثر من ذلك ,هي الصلاة المعروفة , وهي أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير , مختتمة بالتسليم هذه هي الصلاة في الشرع.
وكذلك الصيام، كذلك الزكاة , كذلك الحج , كلها حقائق شرعية , فالإيمان حقيقة شرعية:
قول باللسان: وهو النطق بالشهادتين , والذكر , والتسبيح والتهليل، هذا إيمان.
واعتقاد بالقلب: بأن تؤمن وأن يصدق قلبك ما ينطق به لسانك , يصدق قلبك ويوقن بما ينطق به لسانك.
وعمل بالجوارح يعني: بالأعضاء , بأن تتحرك الأعضاء في العبادة والطاعة وترك المعصية والانكفاف عن المعاصي , فليس الإيمان مجرد قول باللسان , وليس هو مجرد عقيدة بالقلب فقط , وليس هو مجرد عمل بدون عقيدة وبدون قول , بل لابد من الأمور الثلاثة مرتبط بعضها ببعض .
والإيمان يزيد بالطاعات: كلما فعل الإنسان طاعة زاد إيمانه .
وينقص بالمعصية: كلما حصل من الإنسان معصية نقص إيمانه، والدليل على الزيادة والنقصان من القرآن... الأدلة كثيرة: { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون }. فدلت الآية على أن الإيمان يزيد , إذا سمع الإنسان القرآن زاد إيمانه , وإذا أبعد عن القرآن نقص إيمانه: { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } ,{ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون }. كلما نزلت سورة من القرآن زاد إيمانهم: { وأما الذين في قلوبهم مرض } يعني: نفاق وشك , { فزادتهم رجساً إلى رجسهم }؛ لأنهم لا يؤمنون بالقرآن ,وكلما زاد القرآن زاد الشك في قلوبهم، { زادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } , كلما زاد القرآن زاد الشك والريب في قلوبهم والعياذ بالله , فدل على أن الإيمان يزيد: { ويزداد الذين آمنوا إيماناً ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون }. لما أخبر الله عن خزنة جهنم , وأن عليها تسعة عشر , ووافق هذا ما في الكتب السابقة أن خزنة النار تسعة عشر من الملائكة , زاد إيمانهم بذلك , وأهل الكتاب أيضاً صار عندهم ثقة بكتابهم: { ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا }.
لماذا على النار تسعة عشر فقط؟ التسعة عشر كل البشر وكل العالم ما يستطيعون بالرفع أن يتغلبوا عليهم؟ يقولون: كذب على الله تعالى: { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } تسعة عشر , لكنهم ملائكة , والملك الواحد يستطيع أن يقهر جميع البشر من أولهم إلى آخرهم بقدرة الله - سبحانه وتعالى – في خلقتهم وقوتهم , فليسوا مثل البشر، الشاهد من الآية { ويزداد الذين آمنوا إيمانا } فدل على أن الإيمان يزيد.
وأما نقصان الإيمان فمن المعلوم أن كل شيء يقبل الزيادة فإنه يقبل النقصان , وأيضاً في الأدلة ما يدل على ذلك , مثل حديث: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان). فدل على أن الإيمان يزيد وينقص , وأنه شعب تبلغ بضع وسبعين , أو بضع وستين شعبة، إذا تكاملت هذه الشعب تكامل الإيمان، إذا نقص منها شيء نقص الإيمان , ولهذا قال: (أدناها). (أدناها إماطة الأذى عن الطريق) , أدنى الشعب إماطة الأذى عن الطريق، دل على أن الإيمان فيه أعلى وفيه أدنى، وكذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده , فإن لم يستطع فبلسانه ,فإن لم يستطيع فبقلبه , وذلك أضعف الإيمان). فدل على أن الإيمان يضعف , وأن هناك إيماناً كاملاً وإيماناً ناقصاً وضعيفاً.
فإنكار المنكر بالقلب هذا أضعف الإيمان , وليس وراءه إيمان، فالذي لا ينكر المنكر بقلبه ليس بمؤمن , لم يبق في قلبه إيمان , فدل على أن الإيمان يقوى ويضعف ويزول بالكلية ,وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل , فهذا دليل على أن الإيمان ينقص ويصير إلى أضعف شيء , ومنه قوله تعالى: { هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان }. جماعة من المنافقين ضعف الإيمان في قلوبهم , ليسوا منافقين النفاق الأكبر , لكنهم منافقون النفاق الأصغر , لكن عظم ذلك في قلوبهم حتى صاروا أقرب إلى الكفر: { هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان }.
لم يبق إلا شيء يسير لم يظهر لي المقصود! ويخرجون للكفر , دل على أن الإيمان يضعف؛ حتى يصير قريباً من الكفر، وكذلك في حديث الشفاعة أن الله - جل وعلا – يوم القيامة يقول: (أخرجوا من النار من كان في قلبه أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان). فدل على أن الإيمان يضعف حتى يكون بمثقال حبة الخردل , وهي أصغر شيء، حبة خردل من إيمان تخرجه من النار يوم القيامة , ودل على فضل الإيمان، وأنه وإن ضعف جدا؛ فإن صاحبه، لا يخلد في النار , فدل على أن الإيمان يضعف إلى هذا الحد.
ولا شك أن إيمان الناس ليس على حد سواء، فإيمان أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - يعدل إيمان الأمة كلها , فلا يستوي إيمان أبي بكر وإيمان الفاسق من المسلمين , لا يستوي أبدا، يتفاوت الإيمان في قلوب الناس , والذي يقول: الإيمان هو التصديق وهو في القلب , وهو لا يتفاوت , هذا قول المرجئة، وعندهم أن إيمان أبي بكر وإيمان أفسق الناس سواء، وهذا غلط كبير , الإيمان في القلوب ليس على حد سواء , يزيد وينقص , ويضعف ويقوى , ويكمل وينقص , ليس على حد سواء , هذا مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً للمرجئة، والمرجئة سموا بالمرجئة؛ لأنهم أخروا من الإرجاء وهو التأخير، أخروا الأعمال عن مسمى الإيمان، فقالوا: الإيمان هو مجرد التصديق بالقلب فقط , وأهله في أصله سواء عندهم , لا يتفاضلون , وهم فرق , أخبث المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان مجرد المعرفة في القلب , وهذا قول الجهمية , مجرد المعرفة في القلب , فإذا عرف الإنسان ربه يكون مؤمناً: وعلى هذا يكون إبليس مؤمناً؛ لأنه يعرف ربه { قال رب بما أغويتني }.
وفرعون مؤمن وسائر الكفرة يكونون مؤمنين عند هؤلاء؛ لأنهم يعرفون ربهم بقلوبهم , لكنهم أنكروه في ظواهرهم؛ تكبراً وعناداً , فما هناك من أحد لا يعرف ربه أبداً وإنما يجحده وينكره من باب الاستكبار والعناد، هذا قول المرجئة وهو أخبث الأقوال , أنه مجرد المعرفة بالقلب ,وعلى هذا لا يكون على وجه الأرض كافر عندهم،
القول الثاني: قول الأشاعرة:
أن الإيمان هو التصديق بالقلب , ولا تكفي المعرفة , بل لابد من التصديق بالقلب , وهذا قول باطل؛ لأن الكفار يصدقون بقلوبهم , كما قال الله - جل وعلا – { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } وقال - جل وعلا –: { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين }.
فالكفار يصدقون بالرسول صلى الله عليه وسلم بقلوبهم , ويعرفون أنه رسول الله , ولكنهم أبوا الاعتراف برسالته؛ تكبراً وعناداً وحفاظاً على شرفهم بزعمهم ومكانتهم بين الناس , هذا هو الذي حملهم , أو الحمية لأديانهم الباطلة كما قال أبو طالب عند وفاته هو على ملة عبد المطلب , لما قيل له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: لا إله إلا الله فقال له نفر من الكفار كانوا حاضرين عنده وهو في السياق قالوا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فأخذته الحمية والعياذ بالله , فقال: هو على ملة عبد المطلب , ومات على ذلك وهو يعرف أن محمداً رسول الله، ولهذا يقول في شعره:
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينـا
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
ما منعه إلا خوف الملامة والمسبة من الناس، حملته الحمية الجاهلية على البقاء على الكفر، مع أنه يعرف أنه رسول الله ومات كافراً والعياذ بالله , ولما هم النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر له قال الله تعالى: { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم }.
فليس الإيمان مجرد التصديق بالقلب؛ لأن كثيراً من الكفار يصدقون بقلوبهم , ولكنهم أنكروا من باب الجحود والعناد والاستكبار.

وفالفرقة الثالثة الذين يقولون: إن الإيمان تصديق بالقلب ونطق باللسان , وهؤلاء مرجئة الفقهاء , من فقهاء الكوفة , ومنهم الحنفية.
يقولون: الإيمان نطق باللسان واعتقاد بالقلب , ولا يجعلون الأعمال من الإيمان، هؤلاء هم مرجئة الفقهاء،
والفرقة الرابعة من يقول: الإيمان مجرد النطق باللسان فقط، وهذا قول الكرامية , وعندهم أن المنافقين مؤمنون؛ لأنهم يشهدون ألا إله إلا الله أو أن محمداً رسول الله , فهم مؤمنون عند الكرامية؛ لأن الإيمان عندهم مجرد النطق باللسان , وإن لم يعتقد بقلبه هذه فرق المرجئة , وكلها خطأ وضلال , والحق ما ذهب إليه أهل السنة أن الإيمان قول باللسان , واعتقاد بالقلب , وعمل بالجوارح , يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



الدرس الثامن
فصل

الإيمان: قول باللسان,وعمل بالأركان,وعقد بالجنان,يزيد بالطاعة,وينقص بالعصيان,قال الله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء}.

الشرح:
ما ذكره المؤلف رحمه الله,من تعريف الإيمان,فهذا سبق الكلام عليه في آخر الدرس الماضي,ثم ذكر بعض الأدلة على أن الإيمان قول واعتقاد وعمل,وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية,من ذلك قوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة}.
دلت هذه الآية على أن الإيمان قول وعمل واعتقاد؛ لأن الله سمى هذه الأشياء دين القيمة,والدين والإيمان بمعنى واحد,ودين القيمة يعني: الملة, دين الملة القيمة: المستقيمة,فجعل عبادة الله والإخلاص له,وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؛جعل هذه الأمور العظيمة هي دين القيمة,فدل على أن الإيمان يشمل كل هذه الأمور؛ منها ما هو اعتقاد، ومنها ما هو نطق,ومنها ما هو عمل.


المتن:
قال الله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة}.فجعل عبادة الله تعالى، وإخلاص القلب، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة؛ كله من الدين.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة,أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله,وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)).


الشرح:
وكذلك هذا الحديث: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة)). أي: خصلة. ((أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق,والحياء شعبة من الإيمان)) فجعل هذه الأمور من شعب الإيمان,وهي: قول شهادة أن لا إله إلا الله، فهذا قول,وإماطة الأذى عن الطريق، وهذا عمل,والحياء شعبة من الإيمان، وهذا اعتقاد؛لأن الإيمان من أعمال القلوب,فجعل الإيمان هو الأقوال,وأعمال القلوب، وأعمال الجوارح,فدل على ما قاله أهل السنة والجماعة: أن الإيمان قول وعمل واعتقاد.


المتن:
فجعل القول والعمل من الإيمان.

الشرح:
ودل الحديث على أن للإيمان أعلى وأدنى ,فدل على أنه يزيد وينقص.

المتن:
وقال الله تعالى: {فزادتهم إيماناً}.

الشرح:
{فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً}.هذه الآية دليل على أن الإيمان يزيد,وأنه ليس شيئاً واحداً؛ كما يقوله المرجئة,وإنما هو شيءٌ يتفاوت، ويزيد وينقص: {زادتهم إيمانا}. هذا صريح في أن الإيمان يزيد؛ بسبب نزول القرآن وسماعه والعمل به.

المتن:
وقال الله تعالى: {ليزدادوا إيماناً}

الشرح:
{هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم}،وذلك في قصة الحديبية,وما جرى فيها من الامتحان للمؤمنين,وأن الكفار منعوهم من أداء العمرة ودخول مكة,وهذا امتحان للمؤمنين,ولكن الله جل وعلا أنزل السكينة في قلوبهم,واستسلموا لأمر الله ورسوله,وخضعوا للصلح مع الكفار,مع أنهم لا يريدونه,ولكن خضعوا له؛طاعة لله,وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم,وهم يكرهون الصلح , ويريدون دخول مكة.
وقد جعل الله في هذا الصلح خيراً للمسلمين,وذلة على الكافرين, فجعل عاقبته خيراً.
ومن أعظم ما أنتج: أن الحرب وضعت أوزارها بين المسلمين والكفار؛فحصل للمسلمين تنفس,وهاجر من هاجر إلى المدينة بدون أذى,ودخل في الإسلام من يريد الدخول فيه,ولم يلق من يصده؛ بسبب هذا الصلح.وفي النهاية حصل الفتح المبين؛ فتح مكة المشرفة,وهو دخولها في ولاية المسلمين,ونزع أيدي الكفار عنها,كل هذا من ثمرات هذا الصلح العظيم الذي كرهه المسلمون,ولكن الله جعل عاقبته خيراً لهم.والمسلمون انقادوا لحكم الله ورسوله,وأنزل الله السكينة في قلوبهم,فلم يحصل منهم مخالفات أو تصرفات بسبب حماسهم. الله جل وعلا أنزل في قلوبهم السكينة , فهدؤوا وسكنوا,وانقادوا.
وإن كان كثير منهم لا يرضون بهذا الصلح؛لأنهم يعتبرونه وضيعة على المسلمين,ولا يعلمون أن الله جعله عزاً للمسلمين,وأن عاقبته كانت خيرا للمسلمين: {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} فدل على أن الذي يستسلم لحكم الله ورسوله,وينقاد له,أن إيمانه يزيد بذلك.

المتن:
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله,وفي قلبه مثقال برة، أو خردلة، أو ذرة من الإيمان)). فجعله متفاضلا.

الشرح:
النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه يخرج من النار يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله - مع إيمان قلبه بمعناها,وتيقنه لمدلولها - وإن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان,وهو متيقن لمعنى هذه الكلمة ، بخلاف الذي يقولها بلسانه وهو لا يعتقد معناها،كالمنافقين ؛ فإنها لا تنفعه.
وفي هذا رد على من يقول: إن الإيمان هو قول باللسان.
وفيه رد على من يرى : أن الإيمان هو التصديق فقط,وأنه شيء واحد, لا يزيد ولا ينقص؛لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن من كان في قلبه أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان , وهذا دليل على أن هذا إيمان ضعيف,ولكن لما اجتمع مع قول لا إله إلا الله، واعتقاد معناها؛ نفع ذلك صاحبه,وأخرجه من النار بعد دخولها؛لأنه لا يخلد في النار إلا أهل الشرك والكفر بالله عز وجل.
وأما أهل الإيمان _وإن كان إيمانهم ضعيفاً جداً فهم وإن دخلوا النار بذنوبهم _ فإنهم لا يخلدون فيها,بل يخرجون منها بإيمانهم.

والشاهد من الحديث كما ذكر المصنف -:أن الإيمان يضعف؛ حتى يكون بمقدار حبة خردل؛ رداً على الذين يقولون: إن الإيمان شيء واحد,لا يتفاوت,وهو عمل قلبي فقط.


  #6  
قديم 29 ذو القعدة 1429هـ/27-11-2008م, 10:11 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post تيسير لمعة الاعتقاد للشيخ :عبد الرحمن بن صالح المحمود .حفظه الله ( مفرغ )



فشعب الإيمان إذن غير مختصة بأعمال القلوب, بل تدخل فيها الأعمال الظاهرة .
وهذا الذي انطلق منه أهل السنة والجماعة حينما عرَّفوا الإيمان, بما
قال الشيخ هنا : (( فصل : والإيمان قول باللسان وعمل بالأركان وعقد بالجنان)) .
فالإيمان قول باللسان : وأساسه أن ينطق الإنسان بالشهادتين, ويدخل
في ذلك ما ينطق به الإنسان من أنواع الذكر مثل : سبحان الله, والحمدلله , ولا إله إلا الله, والله أكبر , هذا نطق باللسان . وهكذا بقية الأذكار التي ينطق بها الإنسان بلسانه .
ثم قال : (( وعمل بالأركان)) الأركان هنا الجوارح, فعمل الأركان كالصلاة , والحج , والزكاة, والركوع, والسجود, والدعاء , وإعانة الضعفاء والمحتاجين, والجهاد في سبيل الله, فكل ما تفعله بيدك من طاعة الله فهو عمل , وكل ما تمشي إليه برجلك فهو عمل وكل ما تعمله بجسدك فهو عمل بالأركان .
(( وعقد بالجنان)) أي ما يعتقده الإنسان بالجنان وهو القلب, أي اعتقاد القلب, واعتقاد القلب هنا يشمل أمرين :
يشمل تصديقه أي أن يصدق الإنسان بقلبه .
ويشمل اعمال القلوب مثل الخوف, والرجاء, والتوكل, والرغبة , والرهبة , المحبة وغيرها .

فتعريف أهل السنة والجماعة للإيمان يشمل اموراً ثلاثة : يشمل نطق اللسان , واعتقاد القلب, وعمل الجوارح .
وعن التفصيل يقال : الإيمان يشمل خمسة امور :
1- قول اللسان وهو نطقه بالشهادتين.
2- وعمل اللسان وهو ذكره لله, ونطقه بلسانه بكل خير .
3- وقول القلب وهو تصديقه .
4- وعمل القلب من المحبة والخوف والرجاء .
5- وعمل الجوارح في البدن من اليدين والرجلين وبقية اجزاء البدن .
وبعض السلف رحمهم الله تعالى قالوا : الإيمان قول وعمل . ولم يشيروا إلى اعتقاد الجنان لفظاً, ولكن هذا التعريف صحيح أيضاً؛ لأن القول قول اللسان, العمل عمل الجوارح وعمل القلوب, والأدلة من الكتاب والسنة متواترة دالة على صحة تعريف أهل السنة للإيمان .
والذين انحرفوا في باب الإيمان, إنما كان ضلالهم بسبب قصرهم الإيمان على بعض ما يشتمل عليه كما فعلت المرجئة بأصنافهم, أو غلوهم بجعلهم جميع شعب الإيمان شرطاً في صحته كما فعلت الوعيدية من الخوارج والمعتزلة.
فمن المرجئة طائفة قالت : إن الإيمان قول باللسان فقط, أي أن من قال : لا إله إلا الله, يكون مؤمناً دون النظر إلى اعماله وقلبه, فمادام أنه قال : لاإله إلا الله . فهو مؤمن حقاً, وهذا مذهب الكرامية اتباع ابن كرام السجستاني .
وعلى قول هؤلاء يكون المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر مؤمناً؛ لأنه يقول : لاإله إلا الله, وهذا مخالف للنصوص الدالة على كفر المنافقين وان قالوا ونطقوا .
وهناك طائفة اخرى قالت : إنما الاعتبار بمعرفة القلب , فالإيمان عندهم هو المعرفة فمن عرف الله , وعرف الرسول فهو مؤمن, وهذا قول الجهمية ومن وافقهم , وهذا قول باطل لأنه يلزم منه أن كل من عرف الله فهو مؤمن ولو ارتكب كفراً, وإبليس كان عارفاً بالله لكنه كفر بالإباء والاستكبار حين طلب منه ربه السجود لآدم , فأبى واستكبر وكان من الكافرين. وكذلك فرعون كان عرفاً بالله, قال تعالى عنه وعن قومه : (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ) (النمل: من الآية14) وقال له موسى : (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ
هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ ) (الاسراء: من الآية102) .
إذن فتعريف الجهمية للإيمان بانه المعرفة . تعريف باطل لأنه يلزم منه أن يكون إبليس وفرعون مؤمنين , لأنهما عارفان بالله .
فرقة اخرى قالت : الإيمان هو التصديق , وهذا مذهب جمهور الأشعرية والماتريدية , فيقال لهم :ليس هناك فرق بين التصديق والمعرفة التي قال بها الجهمية , وإبليس وفرعون كانا مصدقين , واليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مصدقين في قلوبهم أن محمداُ رسول الله , ومع ذلك فلاشك في كفرهم جميعاً.
وما ذكره اصحاب هذا القول : من الفرق بين المعرفة والتصديق هو فرق ضعيف جداً واكثر العقلاء لا يدركونه , ثم إن فرعون كان مصدقاً, بل الله سبحانه وتعالى سمى تصديقه يقيناً فقال :(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ) (النمل: من الآية14) واليقين تصديق جازم , ومع ذلك كانوا كفاراً وإن كانوا مصدقين, فكيف تقولون : إن الغيمان هو التصديق فقط دون امور اخرى لا بدَّ منها في الإيمان؟
ومرجئة الفقهاء : ابوحنيفة واصحابه رحمهم الله تعالى قالوا : الإيمان هو قول باللسان واعتقاد بالقلب فقط , ولم يدخوا العمل في مسمى الإيمان .
فيقال لهم : إن النصوص الصريحة الصحيحة دلت على دخول أعمال الجوارح في مسمى الإيمان , فتعريفكم ناقص, وأنت - رحمكم الله - وان أو جبتم العمل لكن أخرجتموه عن مسمى الإيمان, إلا أن إخراجكم لـه مخالف للنصوص الصحيحة الصريحة.
وقابل طوائف المرجئة طائفة جعلوا الإيمان قول اللسان واعتقاد القلب وعمل الجوارح لكن قالوا : إن من ترك شيئاً من عمل الجوارح - بارتكاب كبيرة او ترك واجب- فهو خاج من الإيمان مخلد في النار , وهذا انحراف كبير وضلال مبين وقع فيه الوعيدية من الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم وكلامهم باطل من وجوه كثيرة جداً منها أن الأدلة دلت على أن القاتل والزاني واشارب الخمر مؤمنون وإن أقيمت عليهم الحدود الواردة في حقهم, ولو كانوا كفاراً بهذه الكبائر لوجب قتلهم على كل حال , وهنا مناقض لنصوص الكتاب والسنة .
فهؤلاء كلهم على تفاوت فيما بينهم انحرفوا في تعريف الإيمان , والتعريف الصحيح هو ما ذكره أهل السنة والجماعة وعبر عنه الشيخ هنا , من إدخال العمل في مسمى الإيمان وإدخال أعمال القلوب في مسمَّى الإيمان وكذلك قول اللسان , ويتعلق بهذا مسألة اخرى من مسائل الإيمان دلت عليها النصوص ألا وهي أن الإيمان يزيد وينقص .
ولكلُّ من ذكرناه سابقاً من طوائف المرجئة يقولون : الإيمان لايزيد ولا ينقص؛ لأن الإيمان عندهم مجرد التصديق ولا تفاوت بين المصدقين , وهذا خطأ لأننا لو تأملنا لأمر لوجدنا انه في باب التصديق يتفاوت الناس فيه, وبيان ذلك أن الناس لا يتفاوتون إذا كان الأمر متعلق بالإخبار عن حاضر , مثل ذلك: إذا أمسكت بيدي كتاباً وجعلت ارفعه أمام جمع من الناس قائلاً : هذا كتاب , فكل واحد من هذا الجمع إذا رآه علم انه كتاب ؛ لأنه امر حاضر قريب , فتصديق كل واحدٍمن هؤلاء متساوٍ مع تصديق الآخرين في هذه
الحالة, وكذا تصديق الناس بكون الشمس طالعة إذا كانوا يرونها .
أما إذا تعلق الأمر بخبر عن غائب , فإن الناس يتفاوتون في تصديقه , فمثلاً إذا جاء شخص إلى جمع من الناس وقال لهم : حدث حادث في مكان كذا وكذا , ومات على إثر هذا الحادث عدد كذا وكذا , ففي هذه الحالة قد يصدق بعض الناس وبعضهم قد لا يصدق , وحتى الذين صدقوا هذا الخبر تجدهم متفاوتين في درجة التصديق , فمن الناس من يصدق ولكن مع وجود علامات استفهام تدور في باله , ومنهم من يصل تصديقه إلى درجة اليقين؛ لأن الأمر يتعلق بأمر غيبي فيكون الاختلاف في درجة التصديق امراً وارداً, كما أن التدرج في زيادة التصديق او نفصه امر لا شك فيه.
واغلب مسائل الإيمان إنما هي خبر عن غائب كما هو معلوم .
فلو كان الإيمان هو التصديق فقط كما قالت المرجئة, فإن التصديق أيضاً يتفاوت , فليس تصديق هذا بالله مساوياً لتصديق ذاك , وليس تصديق فلان بالملائكة مساوياً لتصديق فلان , وكذلك الرسل , والكتب واليوم الآخر .
فإذا جئنا لأعمال الجوارح فالناس أيضاً يتفاوتون فيها تفاوتاً ظهراً, فهذا إنسان مصدق لكنه لا يعمل اعمالًا صالحة , وهذا مصدق وفي نفس الوقت صوام , قوام, أمار بالمعروف, نهاء عن المنكر , صاحب خير وأعمال صالحة , فلا يتساوى هذا مع هذا في الإيمان أبداً.
إذن تصديق القلب يتفاوت الناس فيه, واعمال الجوارح من الطاعات والإيمان يتفاوت الناس فيها, ومن ثم دلت الأدلة الصحيحة على أن الإيمان يزيد وينقص .

ولهذا قال الشيخ هنا : (( يزيد الطاعة وينقص بالعصيان)) ثم ذكر الدلة على تعريف الإيمان , ثم على زيادته ونقصانه فقال : قال الله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) ، أي ملة ابراهيم الحنيفية التي هي صدق الإخلاص في العبادة لله سبحانه وتعالى, والبعد عن كل شرك , وإقامة الصلاة وايتاء الزكاة خالصة لله تعالى , ودين القيمة هو الدين المستقيم الموصل إلى رضوان الله والجنة .

قال الشيخ : (( فجعل عبادة الله وإخلاص القلب وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة كله من الدين)) .
وإذا كان من الدين فهو من الإيمان , فالدين والإيمان كل منهما يدخل فيه قول اللسان واعتقاد القلب والإخلاص لـه , ويدخل فيه اعمال الجوارح من اقامة الصلاة وايتاء الزكاة والحج وغيره . وهذا أيضاً دليل صريح في هذا الباب على دخول الأعمال في مسمى الإيمان , وهو دليل على زيادة الإيمان ونقصانه , حيث يتفاوت الناس في هذه الأعمال .
ثم قال الشيخ : (( وقال رسول صلى الله عليه وسلم : (( الإيمان بضع وسبعون شعبة
أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله, وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) (1)فجعل القول والعمل من الإيمان))
جعل القول فقال : أعلاها قول لاإله إلا الله , والعمل قال : وادناها إماطة الأذى عن الطريق , فدل هذا على أن الإيمان قول وعمل خلافاً للمرجئة , كما أن قوله : ( أعلاها) وقوله : (أدناها) يدل على زيادة الإيمان ونقصانه صراحة, حيث افاد أن للإيمان أعلى وأدنى .

ثم اخذ الشيخ بعد أن دلل على تعريف الإيمان وأنه قول اعتقاد وعمل يدلل على زيادته ونقصانه بالأدلة الصريحة - مع أن الأدلة السابقة فيها دلالة على ذلك كما سبق- فقال : (( وقال تعالى : (فَزَادَتْهُمْ إِيمَانا) ، إشارة إلى قوله تعالى : (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً) (التوبة: من الآية124) فنزول الآيات والسور القرآنية تزيد الإيمان وهذا يدل على الزيادة, وإذا قبل الزيادة فهو قابل للنقصان ، وقال : (لِيَزْدَادُوا إِيمَانا) في سورة الفتح ، (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (الفتح: من الآية4) وهذا أيضاً دال على زيادة الإيمان فإن إنزال السكينة وهي السكون والطمأنينة والثبات في اوقات المحن والشدائد مما يزيد في إيمان المؤمنين وثقتهم بنصر الله لهم , كما حصل في الفتح الذي هو صلح الحديبية ،وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يخرج من النار من قال : لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال برة _حَبَّة البر_ أوخردلة ،_معروفة وهي الهباءة في الهواء _ أو ذرة من الإيمان )) فجعله متفاضلاً)).
والدليل من الحديث على زيادة الإيمان ونقصانه قوله : (( وفي قلبه مثقال برة)) فهو نص على نقصانه حتى يصير إلى هذا القدر الصغير وقد ورد في بعض روايات هذا الحديث : (( يخرج من النار من كان في قبله أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان)) (2) وقوله أدنى وأدنى هنا : دليل على النقصان في الإيمان , وفي هذا رد على من زعم أن الإيمان يريد ولا ينقص والصواب أنه إذا كان يزيد فهو ينقص , والحديث صريح في النقصان .
والأدلة على ذلك من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة كقوله عليه الصلاة والسلام : (( أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا)) فقوله (( أكمل)) : يدل على الزيادة والكمال. كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصف النساء في الحديث الصحيح بأنهن ناقصات عقل ودين, وعلل ذلك بتركهن الصوم والصلاة اثناء الحيض . وهذا يدل على أن الإيمان ينقص ويدل على أن الإعمال من الإيمان؛ لأن المرأة إذا تركت الصلاة والصوم فترة الحيض أحدث ذلك نقصا في إيمانها ولكنها لا تأثم بذلك؛ لأنه امر كتبه الله تعالى على بنات آدم جميعاً.
فُيستدل بهذا الحديث على نقصان الإيمان لكن ليس بلازم أن يترتب على هذا النقصان إثم , مثل لإنسان الذي يقوم الليل فنقول : زاد إيمانه, ثم بعد فترة إذا ترك قيام الليل نقول : نقص إيمانه , لكن نقصه لنقص الطاعة لا لفعل المعصية, فرفع الإثم عنه لكونه ترك نافلة وسنة لا يعني أن إيمانه لم ينقص عما كان عليه من لكمال السابق والله اعلم .




_______________
(1) اخرجه البخاري رقم ( 9) كتاب الإيمان ،ومسلم رقم (35) كتاب الإيمان .
(2) اخرجه البخاري رقم(7510) كتاب التوحيد ،ومسلم رقم (193) كتاب الإيمان


  #7  
قديم 6 محرم 1430هـ/2-01-2009م, 01:15 AM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
افتراضي شرح لمعة الاعتقاد,الشيخ الغفيص



يعتقد أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهذا أصل من أصول الدين عند أهل السنة، وقد خالفهم في ذلك بعض الفرق الضالة، كالخوارج والمعتزلة ومن وافقهم من طوائف الشيعة، وهؤلاء هم الوعيدية، وخالفهم كذلك المرجئة الذين أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، وهم في ذلك طوائف ودرجات.
عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان
......
أركان الإيمان
قال الموفق رحمه الله: [والإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، وعقد بالجنان] .

القول في مسمى الإيمان هو أول أصل حصل فيه نزاع بين أهل القبلة، والمراد بأهل القبلة؛ هم السواد من المسلمين من أهل السنة أو غيرهم. وهذا الخلاف ظهر في خلافة علي بن أبي طالب ، لما أظهر الخوارج القول بأن مرتكب الكبيرة كافر، وأنه مخلد في النار، وهذا مبني على قولهم الباطل في مسمى الإيمان. وأئمة السلف رحمهم الله أجمعوا على أن الإيمان قول وعمل، وإنما اختلفت ألفاظهم وحروفهم، فالجمهور من أئمة السلف قالوا: الإيمان قول وعمل، وبعضهم قال: الإيمان قول وفعل، كما عبر بذلك البخاري في الرواية المشهورة عنه في صحيحه.. ومنهم من عبر بأن الإيمان: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، كما هو التعبير الذي ذكره المصنف، وهو قول الشافعي وجماعة من السلف، وهذا التعبير الثالث هو المشهور في كلام المتأخرين من أهل السنة. ومن التعابير السلفية أيضاً ما ذكره بعض عباد السلف ونساكهم؛ كسهل بن عبد الله التستري أنه قال: "الإيمان قول وعمل ونية واتباع للسنة".
وهذه التعابير السلفية وغيرها هل الخلاف بينها لفظي، أم خلاف تنوع، أم خلاف تضاد؟ نقول: الاختلاف بينها لفظي والخلاف اللفظي تكون فيه المعاني من جهة مراد أصحاب الألفاظ معانٍ واحدة لا فرق بينها، ولا اختصاص لواحد منها عن الآخر، أما خلاف التنوع فلا تكون المعاني يصدِّق بعضها بعضاً، ولكن بينها اختصاص، كأسماء الله سبحانه وتعالى ، فهي متعددة:
السميع، البصير، العزيز، الحكيم... فتجد أن كل اسم يختص بمعنى لم يذكر في الآخر بنفس الدرجة، وإن كان قد يكون لازماً في الاسم الآخر.. وهلم جراً. إذاً.. تعابير السلف في مسمى الإيمان الاختلاف بينها لفظي محض.
فإذا قيل: أي هذه التعابير أجمع وأحكم من جهة التعبير؟
قيل: أحكمها ما عبر به جمهورهم، وهو قولهم: الإيمان قول وعمل؛ وهذه الجملة أحكم من التعبير الذي ذكره الموفق رحمه الله. لأن فيها إبانة لتضمن العمل للظاهر والباطن، والقول الظاهر والباطن، كما أن فيها إشارةً إلى التلازم بين الظاهر والباطن، فإن العبارة التي ذكرها المصنف هي الصحيحة، لكن حين يقال: الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان. فإن هذا يُفهم منه أن الجنان -الذي هو القلب- ليس فيه إلا الاعتقاد، وأن الأعمال هي أعمال الجوارح، مع أنك تعلم أن الأعمال القلبية في الجملة أجل وأعظم من أعمال الجوارح الظاهرة التي أعمال الأركان. والمتكلمون من السلف يقصدون دخول أعمال القلب في الإيمان، لكن هذا التعبير فيه اختصار، ولذلك نقول: إن التعبير الذي يقول: الإيمان قول وعمل أتم وأحسن، وهو الذي عبر به جمهور السلف. لكن قد يقول قائل: إن هذا التعبير ليس فيه ذكر للاعتقاد. نقول: لما قال السلف: الإيمان قول وعمل.
أرادوا بالقول: قول القلب وقول اللسان.
وأرادوا بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح.
أما قول القلب: فهو كل تصديق شرعي أخبر الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم به. وقول اللسان: النطق بالشهادتين وغيرها مما يكون باللسان.
وعمل القلب: هو حركته بهذا التصديق بأعماله المناسبة له، مثل: المحبة، والخوف، والرجاء، والإنابة، والتوكل... وغير ذلك.
وعمل الجوارح: كالصلاة والطواف بالبيت، والحج... إلى غير ذلك من الأعمال الظاهرة. والأعمال القلبية ثبوتها في النفس من جنس ثبوت الأعمال الظاهرة، فإن كل عاقل يدرك ما في قلبه من المحبة أو الخوف أو الرجاء أو التعظيم أو الإنابة أو الاستعانة أو غير ذلك من أعمال القلوب، بل إن ثبوت أعمال القلوب أخص من ثبوت أعمال الجوارح؛ ولذلك ليس هناك في الشريعة عمل واحد من أعمال الجوارح إلا وهو مبني على عمل القلب، فإذا تجرد أي عمل ما من أعمال الجوارح الشرعي عن القلب تصديقاً وعملاً لا يصير عملاً شرعياً، فقد يكون نفاقاً كالمنافق إذا أظهر الصلاة وليس في قلبه التصديق، وقد تكون صورته صورة العمل الشرعي وهو ليس شرعياً، كشخص اغتسل من الجنابة أو لغسل الجمعة أو نحو ذلك مما شرع الغسل له كدخول مكة، فإذا اغتسل على قصد التقرب، قيل: غسله عبادة مشروعة، وإذا اغتسل تبرداً أو تنظفاً فهذا ليس من العبادات المقصودة لذاتها. إذاً: عمل القلب أثبت من أعمال الجوارح، وذلك لأنه لا يمكن أن يوجد عمل من أعمال الجوارح إلا وهو مبني على عمل القلب وتصديقه، فهذا التعبير الذي عليه الجمهور من السلف هو الصواب من جهة إحكام الألفاظ، وإلا فمعاني السلف كلها متفقة.

زيادة الإيمان ونقصانه
قال الموفق رحمه الله: [يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان] .
هذا التعبير (يزيد وينقص) اختلف كلام السلف فيه اختلافاً لفظياً.
منهم من يقول: يزيد وينقص. وهذا هو الذي عبر به جمهورهم.
ومنهم من يقول: إن الإيمان يتفاضل، وهذا تعبير عبد الله بن المبارك وجماعة من السلف. ومنهم من يقول: إنه يزيد، ويسكت عن لفظ النقصان، وهو أحد أجوبة مالك ، وإلا فعن مالك جواب بالتصريح بلفظ الزيادة والنقصان، ولذلك نرى طائفة من المالكية وبعض من تكلم عن مذهب مالك في الإيمان من المرجئة وبعض أهل السنة المتأخرين ولا سيما الشراح قالوا: إن مالكاً في إحدى الروايتين عنه يذهب إلى زيادة الإيمان، ولكنه لا يقول بنقصانه، ثم منهم من يقول: إنه ينفي نقص الإيمان، ومنهم من يقول: إنه يتوقف في نقص الإيمان، وكلا الفهمين لقول مالك غلط، فإن مالكاً رحمه الله إنما توقف في لفظ النقصان؛ لأن لفظ النقصان لم ينطق به القرآن، إنما في القرآن ذكر زيادة الإيمان وليس فيه ذكر نقصه، والتوقف في اللفظ لا يستلزم التوقف في المعنى؛ فضلاً عن نفي معناه.
فمن هنا قال مالك رحمه الله في بعض جواباته قطعاً لشبهة المرجئة وغيرهم الإيمان: يزيد. ومن أقر بالزيادة لزمه أن يقر بالنقصان، ولهذا إذا قلت: ما دليل السلف على نقص الإيمان؟ قيل: الأدلة على زيادته؛ ولهذا سئل الإمام أحمد : الإيمان يزيد وينقص؟ قال: نعم. قيل: أين هو في كتاب الله؟ فذكر الآيات التي فيها ذكر زيادته، قيل: ونقصه؟ قال: كما يزيد ينقص، أي: إذا سلم بزيادته لزم ضرورةً عقلية أنه ينقص، فهذا من فقه الإمام مالك رحمه الله. ومن التعبيرات الشائعة عند المتأخرين أنهم يقولون: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهو في الغالب يرتبط بالتعبير الذي يقول: الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان... إلخ. وأتم هذه التعبيرات من يقول: يزيد وينقص؛ وذلك لأنك أعدت الزيادة والنقصان على جميع موارد الإيمان، بخلاف ما إذا عبرت بكلمة (يتفاضل) فإنها أقل في التحصيل والتفصيل من عبارة (يزيد وينقص)، وإن كانت صحيحة لكنْ فيها إجمال، وعبارة: (يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) صحيحة، لكن قد يتبادر منها أن زيادة الإيمان ونقصانه متعلق بأعمال الجوارح، وهذا ليس صحيحاً، بل الإيمان يزيد وينقص في سائر موارده، وإن كان يُقصد بالطاعة: الظاهرة والباطنة، لكن الناس غالباً يتبادر إلى ذهنهم الطاعات الظاهرة والمعاصي الظاهرة، ولذلك يُقال: يزيد وينقص؛ ليبين أن هذا شمول وعموم؛ وإلا فلا شك أن التعبير بأن الإيمان يزيد بالطاعة تعبير صحيح. ودليل القول بزيادة الإيمان ونقصانه: الكتاب والسنة والإجماع، وما من أصل من أصول السلف إلا ودليله الكتاب والسنة والإجماع.
أما المخالفون لقول السلف في هذه المسألة فهم على قسمين:
القسم الأول: الوعيدية من الخوارج والمعتزلة ومن يشاركهم من بعض طوائف الشيعة الذين تأثروا بقول المعتزلة وذهبوا إلى طريقتهم من الزيدية، هؤلاء يقولون: إن الإيمان قول وعمل، وهو عندهم لا يزيد ولا ينقص، فمن ترك واجباً من واجبات الإيمان فقد عدم الإيمان، وإذا عدم الإيمان يسمونه إما كافراً كما تقول الخوارج، وإما فاسقاً قد عدم الإيمان، وأخذ منزلة الفسق المطلق كما هي طريقة المعتزلة. وقول الوعيدية لا شك أنه قول غلاة المسلمين، وهم الخوارج الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشأنهم، وقولهم بدعة وضلالة وخروج عن السنة والهدى.

القسم الثاني: المرجئة، والإرجاء هو مسلك في الإيمان؛ وكل من سلك مادة هذا المسلك سمي من المرجئة، وقد قال أبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين: "إن المرجئة ثنتا عشرة فرقة، منهم الغلاة، ومنهم دون ذلك". فغلاة المرجئة هم الجهمية الذين يقولون: الإيمان هو العلم والمعرفة، وأخف المرجئة إرجاءً هم من يسمون بمرجئة الفقهاء.
إذاً: بقية الأقوال في الإيمان كلها بدع وضلال، وأصحابها ليسوا من العارفين بالسنة ولا من أهلها، وإنما هم من أئمة البدعة والضلالة،باستثناء القول الذي يوصف بأنه قول مرجئة الفقهاء، هذا هو القول الذي نحتاج أن نقف معه. مرجئة الفقهاء: هم قوم من علماء السنة والجماعة من أهل الكوفة، كانوا على عناية بالفقه أكثر من عنايتهم بالحديث والأثر وذلك لما صاحب حال الكوفة في ذلك الزمان من اشتهار الفقه وعدم اشتهار الرواية، فكانت الرواية في بعض الأمصار العراقية والشامية والحجازية أكثر مما وقع لأهل الكوفة؛ ولهذا غلب على أئمة الكوفة القياس والفقه والرأي. والمقصود: أن طائفة من علماء أهل السنة والجماعة غلطوا في هذه المسألة، وقالوا: الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وأعمال الجوارح لا تسمى إيماناً، فهم لا يدخلون أعمال الجوارح في مسمى الإيمان، ولهم نتائج أخرى في قولهم، لكن هذا هو أخص ما ذهبوا إليه. والذي ابتدع هذا القول هو حماد بن أبي سليمان ، وقد كان من كبار فقهاء الكوفة، ومن علماء أهل السنة والجماعة، ولكنه أخطأ في هذه المسألة وخالف غيره من السلف، بل وخالف شيوخ الكوفة من قبله، وخالف شيخه إبراهيم النخعي ، الذي كان شديداً على الإرجاء والمرجئة، وأشهر من تقلد هذا المذهب بعد حماد هو الإمام أبو حنيفة النعمان صاحب المذهب المعروف، فبتقلد أبي حنيفة لقول حماد اشتهر هذا القول؛ لكثرة أصحاب أبي حنيفة وشيوعهم فيما بعد.
إذاً: قول مرجئة الفقهاء هو إخراج الأعمال الظاهرة عن مسمى الإيمان، لكنهم يجعلونها براً وتقوىً وطاعة... إلى غير ذلك، فهم يسمونها إسلاماً، لكنهم لا يجعلونها داخلة في مسمى الإيمان، ويحتجون ببعض الدلائل التي يأتي التنبيه إليها، كقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:277] ، فقالوا: إن الله فرق بين الإيمان والعمل... إلى نحو ذلك من استدلالاتهم. ومرجئة الفقهاء لم يطعنوا في أحاديث الصحابة كما تطعن الخوارج، ولم يستدلوا بعلم الكلام كما يستدل به المرجئة الغالية كالجهم بن صفوان وأمثاله، بل كان استدلالهم من جنس استدلال السلف، كما أنهم لم يعرفوا ببدعة أخرى. وقولهم هذا لا يسمى اجتهاداً مما يسوغ فيه الاجتهاد بل هو بدعة مخالف للإجماع؛
وشيخ الإسلام ابن تيمية له سياقان في هذه المسألة: فتارة يقول: والجمهور من السلف يقولون: الإيمان قول وعمل، وخالف في ذلك حماد بن أبي سليمان ومن وافقه من فقهاء الكوفة، وبهذا السياق عند ابن تيمية قد يفهم البعض أنه قول الجمهور.
وهناك سياق آخر يقول فيه: وقد أجمع السلف على أن الإيمان قول وعمل، وحكى هذا الإجماع غير واحد كوكيع و عبد الرحمن بن مهدي والإمام أحمد و الشافعي ... إلخ. وليس بين سياقي كلام شيخ الإسلام شيء من التعارض؛ لأننا إذا أردنا تقرير دليل السلف على قولهم: الإيمان قول وعمل، وأن أعمال الجوارح داخلة في مسمى الإيمان، قيل: دليلهم الكتاب والسنة والإجماع. أما حماد بن أبي سليمان ومن وافقه فهم مخصومون بالإجماع قبلهم؛ من الصحابة ثم التابعين... إلخ، وقبل حماد ليس هناك اختلاف بين أهل السنة، وحكاية إجماع السلف لا تستلزم أن حماداً ليس من أهل السنة؟ فشيخ الإسلام رحمه الله إذا أراد تقرير الدليل على قول السلف قال: وهو إجماع عند السلف، وإذا أراد بيان حقيقة حماد ومن معه ومقامهم عند أهل السنة قال: إنه قول الجمهور؛ فليس بين كلام شيخ الإسلام رحمه الله شيء من التعارض. وبدعة حماد ليست من بدع العقائد المغلظة، وإنما هي من بدع الأقوال والأفعال، كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ، فالسلف عدوا قوله بدعة وذموه ذماً شديداً على قوله، وذموا مقالته، لكنهم لم يخرجوا حماداً ومن وافقه من دائرة السنة والجماعة بهذا القول. وهذا من فقه السلف، وبه تعرف أن من زل في بدعة ما قد لا يخرج من دائرة أهل السنة، وأحياناً قد تكون بدعةً يسيرة، وأحياناً قد تكون بدعة فعلية وبدعة قولية؛ بمعنى أن لا تقارن أبداً ببدعة من أخرج العمل عن مسمى الإيمان، ومع ذلك تجد من يتعجل ويصف من خالف في هذه البدعة المعينة -التي ليست بقدر بدعة حماد - مباشرة بخروجه من دائرة أهل السنة، ويصفه بأنه من أرباب البدعة، ومن دعاة الضلال، ويشنع عليه، والسلف رحمهم الله ذموا حماداً ومقالته، لكن بقي لهم بقية أنهم يجعلونه من أئمة السنة والجماعة وإن كان قوله بدعة.

مسميات الإيمان في الكتاب والسنة
قال الموفق رحمه الله: [قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]فجعل عبادة الله تعالى، وإخلاص القلب، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة كله من الدين] .

قد يقول قائل: إن هذه الآية ليس فيها ذكر لاسم الإيمان، وإنما فيها ذكر لاسم الدين. قيل: هذه الآية كثر استدلال السلف بها على مسمى الإيمان؛ وذلك من جهة أن الدين إذا أطلق يراد به الإيمان، ومن الممتنع أن يكون الدين تمامه ليس بتمام الإيمان. وهذه الآية إنما ذكروها؛ لأن فيها ذكراً لإخلاص القلب، وذكراً للأعمال الظاهرة والباطنة، ومن هنا يقال: إن استدلال السلف رحمهم الله -في سائر مسائل أصول الدين عامة، وفي هذا الأصل بوجه خاص -هو من باب التنوع في الاستدلال؛ ولهذا فإن ذكر اسم الإيمان في الكتاب والسنة هو ذكر متعدد من جهة السياقات ومرادات المعاني.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "الاسم الواحد يثبت وينفى بحسب السياق المقارن له، قال: والإيمان استعمل مطلقاً واستعمل مقيداً".

مثلاً: قال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1]وبعدها أوصاف ظاهرة وباطنة، كما وصف الله المؤمنين في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]وهذا عمل القلب، وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً [الأنفال:2]أي: زادتهم تصديقاً في القلب، وزادتهم إيماناً في أعمالهم أيضاً، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]وهذا في القلب.. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [الأنفال:3]وهذه هي أعمال الجوارح.

إذاً: قد يذكر الله الإيمان ويدخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، والأقوال الظاهرة والباطنة، وهذا الإيمان المطلق في كتاب الله هو الإيمان الواجب.
وأحياناً يذكر اسم الإيمان على التصديق اللازم للدخول في الدين، وإن كان صاحبه مقصراً في الزكاة أو الصلاة أو في كثير من الواجبات، ومع ذلك يذكر هذا الاسم؛ كقوله تعالى في كفارة القتل: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92]ولا يراد بالرقبة المؤمنة هنا الذي ذكره الله في أول سورة (المؤمنون)، أنه لا بد أن يكون خاشعاً، معرضاً عن الجهل... إلخ. ولو كان المعتَق فاسقاً فإنه يصح عتقه بالإجماع، مع أن الله يقول: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي: محققة لأصل الإيمان، وإن كانت قد تكون مقصرةً في واجباته التي لا تخالف أو لا تسقط أصلاً.
وهذه قاعدة مهمة في معرفة الأسماء؛ لأن غلط الغالطين حتى من أهل السنة المتأخرين والمعاصرين في مسائل التكفير وغيرها، تراهم يجدون استعمالاً في كتاب الله فيجعلونه مطرداً عاماً، مع أن ثمة استعمالات في القرآن قد تعارض هذا الاستعمال في الظاهر، والصواب: أنه ليس بين القرآن تعارض أبداً، ولا يمكن أن يكون ذلك؛ لأن الله يقول: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82]فيمتنع أن يكون فيه اختلاف وهو كلامه سبحانه وتعالى.
كما أنك تجد ذلك في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ، ففي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص قال: (قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسماً -أي: مالاً- فقلت: يا رسول الله! أعط فلاناً فإنه مؤمن قال: أو مسلم. أقولها ثلاثاً ويردها علي ثلاثاً: أو مسلم، ثم قال: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار) فالنبي صلى الله عليه وسلم منع سعداً أن يسمي هذا الرجل مؤمناً، مع أن الرجل عنده أصل الإيمان، وإلا لما زكاه سعد .
وفي قصة الجارية حين قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة) فالنبي صلى الله عليه وسلم سمى الجارية مؤمنة، مع أن الجارية إنما أجابت جوابين: أن الله في السماء، وأن محمداً رسول الله، والرجل الذي زكاه سعد يؤمن بأن الله في السماء، وأن محمداً رسول الله، ولو كان لا يؤمن برسول الله ولا يؤمن بأن الله في السماء، فلا يجوز أن يسمى مسلماً.
إذاً: الذي جعل الرسول عليه الصلاة والسلام يمنع سعداً من إطلاق اسم الإيمان على هذا الرجل، وقد أعطاه الجارية، يقال: إن إيمانها أقل من إيمان الرجل الذي ذكره سعد ، فإن ظاهر الحال أن هذا الرجل كان من القاصدين إلى الخير والمعروفين به حتى زكاه سعد ولم يزك غيره، ولأن المقام في قصة سعد مقام ثناء ومدح، وإذا ذكر الثناء والمدح فلا يُثنى ولا يمدح إلا من بان استمامه لواجبات الإيمان، وإذا ذكر مقام الأحكام الدنيوية كالعتق والميراث والولاية ونحو ذلك فإن ذلك الشخص يسمى مؤمناً.
ولهذا فإن كل من كان مسلماً حقاً فإنه لا بد أن يكون مؤمناً ،فإن الناس أحد ثلاثة:
- إما مؤمن ظاهراً وباطناً.
- وإما كافر ظاهراً وباطناً
- وإما المنافق المسلم في الظاهر والكافر في الباطن.
والله يقول: قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]فهم إذا أسلموا حقاً لا بد أن يكون معهم أصل الإيمان؛ لأنهم إن عدموا الإيمان كفروا.
إذاً: لماذا قال الله تعالى: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14] وقال: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا [الحجرات:14]؟ لأن الأعراب قالوا هذا من باب التزكية، والثناء، والإيمان كتحقيق ليس سهلاً، ليس كل من قال الإسلام وصدق به يكون محققاً للإيمان، فإن الدين طبقات ودرجات؛ ولذلك فإن كل شخص من المسلمين مهما كثرت جرائره وكبائره وعظائمه مادام أن معه أصل التوحيد والإسلام يسمى مسلماً، ويسمى فاسقاً لما معه من الفسق، وهل يسمى مؤمناً أو لا يسمى؟
قيل: فيه تفصيل ففي مقام الدعوة والمخاطبة بالحق يسمى مسلماً، وفي مقام أحكام الدنيا كالزواج والمواريث والعتاق ونحوها يسمى مؤمناً، ولا غضاضة في ذلك؛ لأن معه أصل الإيمان، أما ما يقرره بعض متأخري أهل السنة حين يقولون: الفاسق صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمناً بحال.. فهذا غلط، بل يجوز تسميته مؤمناً في مقامات، ألا ترون أن الله يقول في القرآن: (يأيها الذين آمنوا) كثيراً، يخاطب به سائر المسلمين من بر وفاجر، ولما ذكر الله الاصطفاء العام قال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32]المصطفون من هم؟ قال: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:32].
وعليه: إذا قيل: أصحاب الكبائر أيُّ الأسماء هي الأصل فيهم؟ نقول: العصاة من أهل الكبائر الأصل فيهم أنهم يسمون مسلمين، وهذا هو الغالب على المسلمين، وإلا يلزم على هذا أن يفسق جماهير المسلمين؛ لأنه لا يسلم أحد من ارتكاب كبيرة، ولذلك فإنما الله سمى عباده والذين يتبعون أنبياءه سماهم مسلمين كما قال تعالى: هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ [الحج:78]فالإسلام هو اسم أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، سواءً كانوا أهل كبائر أو غير أهل كبائر، ولكن إذا أريد ذكر كبيرته أو إسقاط ما أوجبت الشريعة إسقاطه كإسقاط ولاية بعض العصاة، قيل: هذا سقطت ولايته لكونه فاسقاً، وهو لا يتناسب أن تقول: سقطت ولايته لكونه مسلماً؛ لأنه تضاد في الترتيب.
فإذاً: إذا أريد بيان ما عند الرجل من المعصية بأن اقتضت المصلحة والسياق ذلك سمي فاسقاً، وإذا اقتضت المصلحة والسياق في مقامٍ آخر سمي مؤمناً؛ وإذا أريد الأصل العام في التسمية قيل: الأصل العام هو الإسلام، ولذلك ما يتداوله البعض كثيراً: الفساق.. والفساق، فهذا ليس عدلاً، ولا انضباطاً على السنن والآثار المذكورة في كتاب الله، وأنت لا ترى في كتاب الله ذكر الفسق في الغالب إلا ويراد به الكفر، وإن كان أحياناً يستعمل في ما دون ذلك، كقوله: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ [الحجرات:6]فسمي فاسقاً لأن المقام يستدعيه ؛ ولهذا لو أن شخصاً كذب على شخص وأراد الآخر تنزيه نفسه أو تنزيه غيره عن هذا الكذب يقول لمن حدث بهذا الكلام: الذي جاءك بهذا الكلام رجل فاسق، وهذا المقام مناسب، أما أنه لا يُعرف إلا بهذا الاسم فهذا ليس بصحيح، بل العدل والسنة أنه يسمى مسلماً؛ لأن هذا هو الأصل فيه؛ ولأن ما عنده من الحسنات أعظم مما عنده من السيئات قطعاً، ولأن حسنة التوحيد أجل من سائر ما عنده من السيئات والمعاصي. فعليه: يكون اسم الإيمان يستعمل في مقام، والفسق في مقام، والإسلام في مقام هو الأصل فيه.


شعب الإيمان
قال الموفق رحمه الله: [وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) فجعل القول والعمل من الإيمان] .

هذا الحديث يعتبر من أشرف الدلائل عند السلف على مسألة الإيمان، وأصله في الصحيحين،وهو بهذا السياق رواه مسلم في صحيحه، وقد رواه البخاري مجملاً: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة)، وفسره مسلم في هذه الرواية، قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان).

من خصائص هذا الحديث مسائل:
المسألة الأولى: أن الحديث فيه بيان لكون الإيمان متعلقاً بالقلب واللسان والجوارح، فإنه قال: (فأعلاها قول لا إله إلا الله)وهذا دليل على أن الإيمان يكون باللسان خلافاً لغلاة المرجئة، وفي قوله: (وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)فيه بيان لكون الإيمان يتعلق بأعمال الجوارح، (والحياء شعبة من شعب الإيمان)فيه دليل على أن أعمال القلوب تدخل في مسمى الإيمان.
المسألة الثانية: فيه أن سائر الأعمال المشروعة تدخل في مسمى الإيمان، سواء كانت واجبة أو ركناً أو مستحبة، فإن إماطة الأذى عن الطريق ليست من الواجبات في سائر المقامات، ومع ذلك جعلها الشارع من شعب الإيمان.
المسألة الثالثة: أن هذا الحديث يمنع التأويل فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) فدل على أن كل ما سماه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا فهو إيمان على الحقيقة ليس من باب المجاز، لأنه قال: (والإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون) على اختلاف الرواية، فدل على أن هذه الشعب كل واحد منها يسمى إيماناً ولا بد، وإذا دخلت الأعمال المستحبة باسم الإيمان فمن باب أولى دخول الواجبات والفرائض الكبرى.


أصل الإيمان وكماله
قال الموفق رحمه الله: [وقال تعالى: فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً [التوبة:124]، وقال: لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً [الفتح:4]] .

هذه أدلة على زيادة الإيمان، وأن الله سبحانه وتعالى ذكر زيادة الإيمان في كتابه ذكراً محكماً، والإيمان يزيد من جهة التصديق، ويزيد من جهة أعمال القلوب، ويزيد من جهة أقوال اللسان، ويزيد من جهة أعمال الجوارح، فالإيمان في سائر هذه الموارد يزيد وينقص، وهذا يدلك على أن الإيمان له أصل وكمال وأصله: ما يقع به الدخول في الدين.
فإذا قيل: ما معنى نفي الشارع للإيمان؟ قيل: نفي الإيمان عن شخص مسلم يكون سببه أنه ليس محققاً لواجبات الإيمان المطلق، فإن من لم يحقق واجبات الإيمان المطلق المذكورة في قول الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1].. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2] إلى آخر الآيات، فإن اسم الإيمان ينفى عنه حال فعله للكبيرة أو حال ذكر التزكية له.
والله سبحانه وتعالى في كتابه قد نفى اسم الإيمان لمن معه أصل الإيمان وهو من المسلمين في أحد مقامين:
- إما أن يكون المقام نفياً للتزكية ؛ كقوله الله تعالى: قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]فهم أرادوا أن يسووا بالمهاجرين والأنصار، والقوم في الغالب على أقل من هذا، فقال الله: (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) أي: لم تؤمنوا الإيمان المطلق الواجب، وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]أي: لم يتحقق؛ لأن الإيمان إذا تحقق بالقلب تحقق في أعمال الجوارح الظاهرة.
إذاً: ينفي الله أو رسوله عليه الصلاة والسلام اسم الإيمان عن قوم ذكروا التزكية وهم ليسوا من أهل تحقيقها، أو ينفي الإيمان عن صاحب كبيرة أثناء إصراره على كبيرته وقبل توبته منها، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عن أبي هريرة : (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه بها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن).
وهنا لم النبي يرد عليه الصلاة والسلام أنه تجرد من الإيمان كله، حتى من قال من بعض المتأخرين على هذا الحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) أنه عند الزنا يعدم الإيمان، ثم إذا انتهى من الزنا أو من كبيرته أو من سرقته رجع إليه الإيمان، هذا قول فهمه غلط من كلام أبي هريرة و ابن عباس ، وهما لم يردا أنه حال الزنا يعدم الإيمان، ثم يرجع الإيمان إليه، هذا كجدل عقلي -أيضاً- ممتنع، ويلزم عليه أنه لو مات حال شرب الخمر أو حال السرقة يكون كافراً، ويلزمه أن يكون خرج من الإسلام إلى الكفر ثم رجع إليه، وهذا لم يرد عن أحد من الصحابة.

والشاهد من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد نفي أصل الإيمان، والدليل على ذلك من السنة حديث أبي ذر في الصحيحين، قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم عليه ثوب أبيض، ثم أتيته فإذا هو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فقال: ما من عبد يشهد أن لا إله إلا هو وأني رسول الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة -وفي رواية: -إلا حرم الله عليه النار- قال أبو ذر: يا رسول الله! وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق. قال: وإن زنا وإن سرق. قال: وإن زنا وإن سرق. قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر).
إن فقه الأسماء الشرعية في القرآن من أجل الفقه، فهو لا يؤخذ مقاماً واحداً، ومن يأخذ مقاماً واحداً فتلك طريقة أهل البدع، فتجد من يقول: الجهل ليس عذراً في التكفير، ويستدل بقول الله تعالى: خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]ونقول له: إن الله وصف كل من خالف الرسول بأنه من الجاهلين.
وقال في موضع آخر: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَايَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]مع أنهم جاهلون، ودخلوا في اسم الجاهلين في الآية الأخرى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14]... إلخ. إذاً.. لا بد من جمع مقامات القرآن وسياقاته؛ حتى لا يقع تعارض في الفهم بين كلام الله، أو يؤخذ بعضه ويترك بعضه كما صنعت الخوارج والمرجئة، هؤلاء أخذوا أحاديث آيات وأحاديث الوعيد، وهؤلاء على العكس.

أهل الكبائر لا يخلدون في النار
قال الموفق رحمه الله: [وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال ذُرة أو خردلة أو ذَرة من الإيمان) فجعله متفاضلاً] .

هذا الحديث متواتر الرواية عن جماعة من الصحابة أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وهذا دليل على أن الإيمان له كمال وله أصل، وأنه يزيد وينقص، وهو دليل على أن سائر أهل الكبائر لا يخلدون في النار وأن معهم أصل الإيمان ولا بد.

مسألة الاستثناء في الإيمان
الاستثناء في الإيمان، وهو قول الرجل: هو مؤمن إن شاء الله، وهذه المسألة ليست من مسائل الأصول عند السلف، ولكن بعض أهل البدع تكلم فيها على مبنى أقوالهم البدعية، فهنا يقال: إن قولهم بدعة.
إذاً.. هل السنة الاستثناء في الإيمان، أم عدم الاستثناء؟ قيل: هذا بحسب المراد والمقام، فمن قصد أنه مؤمن -أي: محقق للإيمان- فلا بد أن يقول: إن شاء الله؛ لأن تحقيق الإيمان لا يجوز لأحد الجزم به، ولا يجوز لأحد أن يزكي نفسه أنه حقق الإيمان تحقيقاً كاملاً.
وكذلك إذا أريد الخاتمة، فإنه يُستثنى في الإيمان؛ لأن الإنسان لا يدري بماذا يختم له. فإذا أريدت هذه المرادات فيكون السنة ذكر الاستثناء، وأما إذا أريد أصل الإيمان فإن ذكر الاستثناء لا يلزم؛ ولهذا إذا قال شخص عن فلان: هذا الرجل مؤمن. لا يلزمك أن تقول: قل: إن شاء الله؛ لأنك إنما تتكلم عن أصل الإيمان، وأصل الإيمان يجزم به. والصواب أنه يجوز تقييده بالمشيئة، ومشيئة الله تعالى لا تعني التردد، قال الله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27]مع أن دخولهم كان متحققاً. إذاً: تعليق الأمر بمشيئة الله لا يلزم منه التردد، ومسألة الاستثناء في الإيمان تكون بحسب المقام والمراد، فتجوز في مقام، وتجب في مقام، وتمنع في مقام، فهي مسألة واسعة على هذه المرادات، ومن هنا تنوع جواب السلف فيها رحمهم الله.

الفرق بين الإسلام والإيمان
لا شك أن اسم الإيمان أشرف وأعظم وأجل من اسم الإسلام، والدليل عليه قوله تعالى: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (... أو مسلم...) إلى غير ذلك، فدل على أن الإيمان أعلى وأتم. ومع ذلك فإن كل مؤمن يكون مسلماً، ولكن هل كل مسلم يكون مؤمناً؟
نقول: هذا فيه تفصيل؛ فإن أريد أصل الإيمان فنعم، وإن أريد تمامه فلا يلزم؛ فالإسلام المطلق هو الإيمان المطلق، قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19].. هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ [الحج:78]وفي قول الله تعالى عن إبراهيم: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [البقرة:128].
أما من قال: اسم الإسلام أشرف أو مساوٍ لاسم الإيمان لقول الله عن إبراهيم: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) ولم يقل: مؤمنين، فهذا غلط في الفهم؛ فإن قوله: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) الإسلام هنا هو الإسلام المطلق، وإذا ذكر الاسم المطلق فليس هو الإسلام المذكور في قول الله تعالى: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]الإسلام المطلق هو الإيمان.
إذاً.. اسم الإيمان يكون مطلقاً ويكون مختصاً أو مقيداً؛ وكذلك اسم الإسلام، يكون مطلقاً كقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]ويكون مختصاً أو مقيداً كقول تعالى: (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا).
وهذان الاسمان هما من أسماء الديانة، ولكن اسم الإيمان أتم، قال بعض المتأخرين: إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، وهذا ليس بمطرد ولا لازم.


  #8  
قديم 6 محرم 1430هـ/2-01-2009م, 01:15 AM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post العناصر


العناصر

موضوع الدرس
- معنى الإيمان في اللغة
- تعريف الإيمان عند أهل السنة والجماعة
- شرح تعريف الإيمان
- الإيمان اعتقاد وقول وعمل
- معنى الإيمان في اصطلاح أهل السنة أخص من معناه في اللغة
- شرح قوله: ( الإيمان قول باللسان)
- شرح قوله: ( واعتقاد بالجنان)
- شرح قوله:( وعمل بالأركان)
- الفرق بين قول القلب وعمل القلب
- الإيمان يتفاضل
- الإيمان يزيد وينقص
- معاني "الإيمان" في القرآن الكريم
- بيان العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي لأسماء الإيمان والتوحيد والكفر والشرك والفسق ونحوها
- كيف نفرق بين إرادة المعنى الشرعي أو المعنى اللغوي من ورود لفظ الإيمان في القرآن الكريم؟
- الدين يشمل الإسلام والإيمان والإحسان
- معنى قول أهل السنة: كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمن
- الفرق بين الإسلام والإيمان
تفسير قول الله تعالى: ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ...) الآية
خلاصة معتقد أهل السنة والجماعة في مسألة الإيمان
- مسألة الإيمان من أوائل المسائل التي خالف فيها أهل الأهواء
- أهمية فهم معتقد أهل السنة والجماعة في الإيمان
شرح قول أهل السنة :(والعمل داخل في مسمى الإيمان )
- المراد جنس العمل وليس أفراد العمل من قولنا: ( العمل داخل في مسمى الإيمان)
- بيان أن العمل يدخل في مسمى الإيمان
- عقيدة المرجئة في الإيمان
- فرق المرجئة
- الرد على مرجئة الفقهاء
أقوال الطوائف التي خالفت في مسألة الإيمان
- الرد على من زعم أن الإيمان هو المعرفة
- عقيدة الوعيدية في الإيمان
عقيدة أهل السنة في مرتكب الكبيرة
الإيمان متفاضل، والرد على المخالفين في ذلك
زيادة الإيمان ونقصانه أصل خالف فيه الوعيدية
مراد أهل السنة بقولهم: ( ولا نكفر بذنب ...)
مذهب المعتزلة في مرتكب الكبيرة
مذهب الخوارج في مرتكب الكبيرة
الرد على الوعيدية

  #9  
قديم 6 محرم 1430هـ/2-01-2009م, 01:16 AM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Question الأسئلة

الأسئلة
س1: عرف الإيمان عند أهل السنة، مع الشرح والاستدلال.
س2: بين معنى الإيمان في اللغة، واذكر المناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي.
س3: هل العمل داخل في مسمى الإيمان؟ اذكر الدليل، مع بيان المراد بالعمل في هذه العبارة، هل هو جنس العمل، أو أفراد العمل؟
س4: ما معنى قولنا: (الإيمان يتفاضل)، أو (يتبعض)؟
س5: اذكر الطوائف التي خالفت أهل السنة والجماعة في باب الإيمان، والمواضع التي خالفت فيها، وكيف ترد عليهم؟
س6: اذكر فِرَق المرجئة، مع بيان وجه الفرق بينهما في باب اللإيمان.
س7: ما المراد بالوعيدية؟ وما مذهبهم في الإيمان؟
س8: ما الفرق بين الإسلام والإيمان؟
س9: اذكر تفسيراً مختصراً لقول الله تعالى:
{وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين...} الآية.
س10: اشرح حديث:
((الإيمان بضع وسبعون شعبة...)) الحديث، مع بيان الفوائد التي تستفيدها من هذا الحديث في هذا الباب.
س11: اذكر الخلاف في مرتكب الكبيرة بين الطوائف، مع بيان قول أهل السنة والجماعة في هذه المسألة.
س12: ما المراد بأحاديث الوعيد؟ وما موقف أهل السنة والجماعة منها؟
س13: ما مراد أهل السنة بقولهم: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله)؟
س14: كيف تفرق بين ورود الإيمان بالمعنى اللغوي ووروده بالمعنى الشرعي في القرآن الكريم؟
س15: بعض أهل السنة يقول: (الإيمان قول وعمل)، وبعضهم يقول: (الإيمان اعتقاد وقول وعمل)، فما رأيك في هذا الاختلاف؟

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الإيمان, يزيد

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:42 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir