دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > العقيدة الطحاوية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30 ذو القعدة 1429هـ/28-11-2008م, 03:21 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي قوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون...)

وأهلُ الكبائرِ من أُمَّةِ محمدٍ صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وَسَلَّمَ في النارِ لا يُخَلَّدُونَ، إذا مَاتُوا وهم مُوَحِّدُونَ.
وإنْ لَم يَكُونُوا تَائِبِينَ، بعدَ أنْ لَقُوا اللهَ عَارِفِينَ (مُؤْمِنِينَ) وهم في مَشِيئَتِهِ وَحُكْمِهِ، إنْ شاءَ غَفَرَ لَهُم وَعَفَا عنهم بِفَضْلِهِ، كما ذَكَرَ عَزَّ وجلَّ في كتابِهِ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُم في النارِ بِعَدْلِهِ.
ثم يُخْرِجُهُم منها بِرَحْمَتِهِ وشفاعةِ الشافعينَ مِن أهلِ طَاعَتِهِ.
ثم يَبْعَثُهُم إلى جَنَّتِهِ.
وذلكَ بِأَنَّ اللهَ تعالى تَوَلَّى أهلَ مَعْرِفَتِهِ، ولم يَجْعَلْهُم في الدَّارَيْنِ كَأَهْلِ نُكْرَتِهِ، الذين خَابُوا من هِدَايَتِهِ، ولم يَنَالُوا مِن وِلاَيَتِهِ.
اللَّهُمَّ يَا وَلِيَّ الإسلامِ وَأَهْلِهِ، ثَبِّتْنَا على الإسلامِ حَتَّى نَلْقَاكَ بهِ.

  #2  
قديم 1 ذو الحجة 1429هـ/29-11-2008م, 06:46 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التعليقات على الطحاوية لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله ابن باز

[لا يوجد تعليق للشيخ]

  #3  
قديم 1 ذو الحجة 1429هـ/29-11-2008م, 06:48 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التعليقات المختصرة للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان

(1) وأهلُ الكبائرِ من أُمَّةِ محمدٍ صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وَسَلَّمَ في النارِ لا يُخَلَّدُونَ، إذا مَاتُوا وهم مُوَحِّدُونَ.
(2) وإنْ لَم يَكُونُوا تَائِبِينَ، بعدَ أنْ لَقُوا اللهَ عَارِفِينَ (مُؤْمِنِينَ) وهم في مَشِيئَتِهِ وَحُكْمِهِ، إنْ شاءَ غَفَرَ لَهُم وَعَفَا عنهم بِفَضْلِهِ، كما ذَكَرَ عَزَّ وجلَّ في كتابِهِ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُم في النارِ بِعَدْلِهِ.
(3) ثم يُخْرِجُهُم منها بِرَحْمَتِهِ وشفاعةِ الشافعينَ مِن أهلِ طَاعَتِهِ.
(4) ثم يَبْعَثُهُم إلى جَنَّتِهِ.
(5) وذلكَ بِأَنَّ اللهَ تعالى تَوَلَّى أهلَ مَعْرِفَتِهِ، ولم يَجْعَلْهُم في الدَّارَيْنِ كَأَهْلِ نُكْرَتِهِ، الذين خَابُوا من هِدَايَتِهِ، ولم يَنَالُوا مِن وِلاَيَتِهِ.
(6) اللَّهُم يَا وَلِيَّ الإسلامِ وَأَهْلِهِ، ثَبِّتْنَا على الإسلامِ حَتَّى نَلْقَاكَ بهِ.



(1) الكبائرُ هي الذنوبُ التي دُونَ الشركِ وفوقَ الصغائرِ، وضابطُ الكبيرةِ هو: كُلُّ ذَنْبٍ رُتِّبَ عَلَيْهِ حَدٌّ، أو خُتِمَ بِغَضَبٍ أو لَعْنَةٍ أو نَارٍ، أو تَبَرَّأَ الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن فاعلِهِ، فإنَّ هذا كبيرةٌ، كقولِهِ: (مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا)، ( مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا).
كُلُّ هذهِ الاعتباراتِ تَدُلُّ على أنَّ الذنبَ كبيرةٌ، ولكنَّهَا دونَ الشركِ، فصاحِبُهَا لا يَخْرُجُ من الإيمانِ، وإِنَّمَا يَكُونُ مُؤْمِنًا ناقصَ الإيمانِ، أو يُسَمَّى فاسِقًا، هذا مذهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، لا يُكَفِّرُونَ بالكبائرِ التي دونَ الشركِ، ولكنْ لا يَمْنَحُونَ صاحِبَهَا اسمَ الإيمانِ المُطْلَقِ، ولَكِنْ يَمْنَحُونَهُ إِيمَانًا مُقَيَّدًا؛ فَيُقَالُ: مُؤْمِنٌ بإيمانِهِ، فاسقٌ بكبيرتِهِ.

فلا يُقَالُ: هو مؤمنٌ كاملُ الإيمانِ. كما تقولُهُ المرجئةُ، ولا يُقَالُ: هو خارجٌ من الإسلامِ. كما تَقُولُهُ الخوارجُ والْمُعْتَزِلَةُ.
إذًا: فالناسُ في صاحبِ الكبيرةِ التي هي دونَ الشركِ ثلاثُ طوائفَ:

الخوارجُ والْمُعْتَزِلَةُ أَخْرَجُوهُ من الإسلامِ، لكنَّ الخوارجَ أَدْخَلُوهُ في الكفرِ، والْمُعْتَزِلَةَ لم يُدْخِلُوهُ، وقالوا: هو في منزلةٍ بينَ المَنْزِلَتَيْنِ. ولكنَّهُم أَخْرَجُوهُ من الإسلامِ.

المُرْجِئَةُ قالوا: هو مُؤْمِنٌ كاملُ الإيمانِ، طالَمَا أَنَّهُ يَعْتَقِدُ في قلبِهِ الإيمانَ عندَ جمهورِهِم, ويَنْطِقُ بلسانِهِ عندَ بعضِهِم، فإِنَّهُ مُؤْمِنٌ كاملُ الإيمانِ، ولا تَنْقُصُ هذهِ المعاصي من إيمانِهِ، وإنْ كانتْ كبائرَ، وهذا ضلالٌ أيضًا.
أَمَّا القولُ الحقُّ فهو مذهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ أنَّ صاحبَ الكبيرةِ دونَ الشركِ مُؤْمِنٌ، ولَيْسَ بكافرٍ، لكنَّهُ ناقصُ الإيمانِ. فهذا يَجِبُ مَعْرِفَتُهُ، ويَجِبُ أنْ تُرْسِخَهُ في عَقْلِكَ، فأَهْلُ الشرِّ زادَ شَرُّهُم في هذا الوقتِ، وصارُوا يُظْهِرُونَ مذهبَ الإرجاءِ لِيُرَوِّجُوهُ على الناسِ، ولِيَسْتُرُوا على أنفسِهِم ماهم فيه من الضلالِ.
فهذا مَعْرِفَتُهُ من أَوْجَبِ الواجباتِ على طالبِ العلمِ اليومَ.

(2) نَعَمْ، هذا هو المذهبُ الحقُّ: أنَّ أصحابَ الكبائرِ التي دُونَ الشركِ لَيْسُوا كُفَّارًا، وأَنَّهُم إذا لَقُوا اللَّهَ ولم يَتُوبُوا من هذهِ الكبائرِ فإنَّهُم تحتَ المشيئةِ، إنْ شاءَ عَذَّبَهُم بِقَدْرِ ذنوبِهِم، ثم يُخْرِجُهُم من النارِ ويُدْخِلُهُم الجنَّةَ بِتَوْحِيدِهِم وإيمَانِهِم، لا يُخَلَّدُونَ في النارِ، والدليلُ على ذلكَ قولُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النِّسَاءُ: 48)، لَكِنَّ قَوْلَهُ: (عَارِفِينَ مُؤْمِنِينَ) فِيهِ إجمالٌ، فَلَوْ قَالَ: (مُوَحِّدِينَ) كَمَا قَالَ أَوَّلًا لَكَانَ أَحْسَنَ.
وإنْ شاءَ اللَّهُ أَمْضَى فيهم الوعيدَ، ولكنَّهُم لا يُخَلَّدُونَ في النارِ، هذا مذهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، وهذا هو المذهبُ الحقُّ، بخلافِ الخوارجِ الذينَ يقولونَ: إنَّهُم في النارِ على أيِّ حالٍ، وإنَّهُم خالدونَ فيها، فمَنْ دَخَلَ النارَ عندَهُم لا يَخْرُجُ منها.
وخلافَ المُرْجِئَةِ القائِلِينَ: إنَّهُم لا يَمُرُّونَ على النارِ أبدًا، فَهَذَا غَلَطٌ، بل لا نَضْمَنُ لهم النَّجَاةَ، فهم تَحْتَ المشيئةِ.
إنْ شاءَ عَفَا عَنْهُم بفضلِهِ، وإنْ شاءَ عَذَّبَهُم بِعَدْلِهِ، وما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بلْ عَذَّبَهُم بأعمالِهِم التي أَوْجَبَتْ لهم ذلكَ، فاللَّهُ لا يُعَذِّبُ مَن لم يَعْصِهِ، ولا يُسَاوِي بينَ العاصِي وبينَ المؤمنِ المستقيمِ، {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } (القَلَم: 35، 36) {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: 28).
هذا اسْتِنْكَارٌ من اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجَاثِيَة: 21).

(3) كما صَحَّتْ بذلكَ الأخبارُ عن رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنَّ عُصَاةَ المُوَحِّدِينَ يَخْرُجُونَ من النارِ، إمَّا بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وإِمَّا بشفاعةِ الشافعِينَ بإذنِ اللَّهِ تَعَالَى، والشفاعةُ حَقٌّ، ولكنْ لا تكونُ إِلاَّ بإذنِ اللَّهِ، وأنْ يكونَ المشفوعُ فيهِ من أهلِ التوحيدِ، لا من الكافرينَ, ولا من المشركينَ, ولا من المنافِقِينَ.


(4) بعدَ إخراجِهِم من النارِ، وَرَدَ أَنَّهُم يُخْرَجُونَ من النارِ كالفَحْمِ مُحْتَرقِينَ، ثم يُلْقَوْنَ في نهرٍ يُسَمَّى: نهرَ الحياةِ، فَتَنْبُتُ أجسامُهُم ولحومُهُم، ثم بَعْدَ ذلكَ إذا هُذِّبُوا ونُقُّوا أُذِنَ لهم في دخولِ الجنةِ، فيُدْخَلُونَ في الجنَّةِ.

(5) قَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (الجَاثِيَة: 21)، وقولُهُ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: 28) إلى غيرِ ذلكَ من الآياتِ التي تَدُلُّ على أنَّ اللَّهَ لا يُسَوِّي بينَ أهلِ طَاعَتِهِ وأهلِ مَعْصِيَتِهِ، ولا بَيْنَ أَهْلَِ الإيمانِ وأهلِ الكُفْرِ، بل يُجَازِي كُلاّ بِعَمَلِهِ. (وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ فِي الدَّارَيْنِ كَأَهْلِ نُكْرَتِهِ الذِينَ خَابُوا مِن هِدَايَتِهِ، ولم يَنَالُوا من وِلاَيَتِهِ) بلْ مَيَّزَ بينَهُم سُبْحَانَهُ في الدنيا وفي الآخرةِ، مَيَّزَ بينَ أهلِ الطاعةِ والمعصيةِ، وبينَ أهلِ الكفرِ والإيمانِ، في الدنيا وفي الآخرةِ، مَيَّزَ بينَهُم في الدنيا في صفاتِهِم وعلاماتِهِم وأفعالِهِم، فَلَيْسَتْ أًَفْعَالُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَهْلِ الطاعةِ مِثْلَ أَفْعَالِ أَعْدَائِهِ وَلاَ أَقْوَالِهِمْ وَلاَ تَصَرُّفَاتِهِمْ، انْظُرْ إلى الناسِ الآنَ، وانْظُرْ إلى تَصُرُّفَاتِهِمْ، انظرْ إلى تصرفاتِ المتقينَ والمؤمنينَ، وانْظُرْ إلى تصرفاتِ الفَسَقَةِ والعاصِينَ، وانْظُرْ إلى تصرُّفاتِ الكفارِ والمُلْحِدِينَ، هذا في الدنيا.
وفي الآخرةِ كذلكَ يُمَيِّزُ اللَّهُ بينَهُم، فهؤلاءِ يُكَرِّمُهُم بِجَنَّتِهِ، وهؤلاءِ يُعَذِّبُهُم بِنَارِهِ وعقوبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ حكيمٌ يَضَعُ الأمورَ في مواضِعِهَا، فلا يَضَعُ الرحمةَ إِلاَّ فيمَنْ يَسْتَحِقُّهَا، ولا يَضَعُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى العذابَ إِلاَّ فيمَنْ يَسْتَحِقُّهُ. لكنَّ قولَََه: (أَهْلَ مَعْرِفَتِهِ) فيهِ قصورٌ وإيهامٌ أنَّ الإيمانَ هو مُجَرَّدُ المعرفةِ كما يقولُهُ غُلاَةُ المُرْجِئَةِ، فلوْ قَالَ: (أَهْلَ طَاعَتِهِ) لكَانَ أَحْسَنَ وأوضَحَ.

(6) هذا من أجملِ كلامِ المُصَنِّفِ يَرْحَمُهُ اللَّهُ! أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ هذهِ المسائلَ العظيمةَ الخطيرةَ سأَلَ اللَّهَ التثبيتَ، أَلاَّ يُضِلَّهُ اللَّهُ مع أصحابِ هذهِ الضلالاتِ وأصحابِ هذهِ المقالاتِ الضالَّةِ، فهذا من الفِقْهِ والحكمةِ؛ أنَّ الإنسانَ لا يَغْتَرُّ بِعِلْمِهِ، ويقولُ: أَنَا أَعْرِفُ التوحيدَ وأَعْرِفُ العقيدةَ، ولَيْسَ عَلَيَّ خَطَرٌ، هذا غرورٌ, بلْ عليهِ أن يَخَافَ مِن سُوءِ الخاتمةِ والضلالِ، يَخَافُ أنْ يَنْخَدِعَ بأهلِ الضلالِ، كم مِن مُعْتَدِلٍ انْحَرَفَ، خُصُوصًا إذا اشْتَدَّت الفِتَنُ، يُصْبِحُ الرجلُ مسلمًا, ويُمْسِي كافرًا، ويُمْسِي مؤمنًا, ويُصْبِحُ كافرًا، ويَبِيعُ دينَهُ بِعَرَضٍ من الدنيا، كما صَحَّ الحديثُ بذلكَ.
الفتنُ إذا جاءتْ يسألُ الإنسانُ اللَّهَ الثَّبَاتَ، ولا يقولُ: أَنَا لَسْتُ على خَطَرٍ، أنا عارِفٌ, وأنا أُصَلِّي، نعمْ، أنتَ عارِفٌ وتُصَلِّي, والحمدُ للهِ، لكنْ عليكَ خطرٌ وعليكَ أنْ تَخَافَ، أنتَ أفضلُ أمْ إبراهيمُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ؟ قَالَ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} (إبراهيم: 35) إبراهيمُ خافَ على نفسِهِ من عبادةِ الأصنامِ، مع أَنَّهُ هو الذي كَسَّرَهَا وحَطَّمَهَا بِيَدِهِ، ولَقِيَ في ذلكَ العذابَ والإهانةَ في سبيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ومع هذا يقولُ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} (إبراهيم: 35) ولم يَقُلْ: أَنَا الآنَ نَجَوْتُ، بلْ طَلَبَ من اللَّهِ أن يَجْنُبَهُ وبَنِيهِ أن يَعْبُدُوا الأصنامَ، فالإنسانُ يخافُ دائمًا من رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وكَمْ مِن مُهْتَدٍ ضَلَّ، وكمْ مِن مستقيمٍ انْحَرَفَ، وكمْ مِن مؤمنٍ كَفَر وارْتَدَّ، وكمْ مِن ضالٍّ هَدَاهُ اللَّهُ، وكمْ مِن كافرٍ أَسْلَمَ، فالأمرُ بِيَدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.


  #4  
قديم 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م, 10:12 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي


قوله: ( وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين. وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته. وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته، الذين خابوا من هدايته، ولم ينالوا من ولايته. اللهم يا ولي الإسلام وأهله، ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به ).

ش: فقوله: وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون - رد لقول الخوارج والمعتزلة، القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار. لكن الخوارج تقول بتكفيرهم، والمعتزلة بخروجهم عن الإيمان، لا بدخولهم في الكفر، بل لهم منزلة بين منزلتين، كما تقدم عند الكلام على قول الشيخ رحمه الله: ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله.
وقوله: وأهل الكبائر من أمة محمد - تخصيصه أمة محمد، يفهم منه أن أهل الكبائر من أمة غير محمد صلى الله عليه وسلم قبل نسخ تلك الشرائع به، [ حكمهم ] مخالف لأهل الكبائر من أمة محمد. وفي ذاك نظر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه: يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان. ولم يخص أمته بذلك، بل ذكر الإيمان مطلقاً، فتأمله. وليس في بعض النسخ ذكر الأمة. وقوله: في النار- معمول لقوله: لا يخلدون. وإنما قدمه لأجل السجعة، لا أن يكون [ في النار ] خبر لقوله: وأهل الكبائر، كما ظنه بعض الشارحين.
واختلف العلماء في الكبائر على أقوال، فقيل: سبعة، وقيل: سبعة عشر. وقيل: ما اتفقت الشرائع على تحريمه. وقيل: ما يسد باب المعرفة بالله. وقيل: ذهاب الأموال والأبدان. وقيل: سميت كبائر بالنسبة والإضافة إلى ما دونها. وقيل: لا تعلم أصلاً. أو: أنها أخفيت كليلة القدر. وقيل: إنها إلى السبعين أقرب. وقيل: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة. وقيل: إنها ما يترتب عليها حد أو توعد عليها بالنار، أو اللعنة، أو الغضب. وهذا أمثل الأقوال. واختلفت عبارات السلف في تعريف الصغائر: منهم من قال: الصغيرة ما دون الحدين: حد الدنيا وحد الآخرة. ومنهم من قال: كل ذنب لم يختم بلعنة أو غضب أو نار. ومنهم من قال: الصغيرة ما ليس فيها حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة، والمراد بالوعيد: الوعيد الخاص بالنار أو اللعنة أو الغضب، فإن الوعيد الخاص في الآخرة كالعقوبة الخاصة في الدنيا، أعني المقدرة، فالتعزير في الدنيا نظير الوعيد بغير النار أو اللعنة أو الغضب. وهذا الضابط يسلم من القوادح الواردة على غيره، فإنه يدخل فيه كل ما ثبت بالنص أنه كبيرة، كالشرك، والقتل، والزنا، والسحر، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، ونحو ذلك، كالفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وشهادة الزور، وأمثال ذلك.
وترجيح هذا القول من وجوه: أحدها: أنه هو المأثور عن السلف، كابن عباس، و ابن عيينة، و ابن حنبل رضي الله عنهم، وغيرهم. الثاني: أن الله تعالى قال: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً. فلا يستحق هذا الوعد الكريم من أوعد بغضب الله ولعنته وناره، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر. الثالث: أن هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكره الله ورسوله من الذنوب، فهو حد متلقى من خطاب الشارع. الرابع: أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر، بخلاف تلك الأقوال، فإن من قال: سبعة، أو سبعة عشرة، أو الى السبعين أقرب -: مجرد دعوى. ومن قال: ما اتفقت الشرائع على تحريمه دون ما اختلفت فيه -: يقتضي أن شرب الخمر، والفرار من الزحف، والتزوج ببعض المحارم، والمحرم بالرضاعة والصهرية، ونحو ذلك - ليس من الكبائر! وأن الحبة من مال اليتيم، والسرقة لها، والكذبة الواحدة الخفيفة، ونحو ذلك -: من الكبائر! وهذا فاسد. ومن قال: ما سد باب المعرفة بالله، أو ذهاب الأموال والأبدان -: يقتضي أن شرب الخمر، وأكل الخنزير والميتة والدم، وقذف المحصنات - ليس من الكبائر! وهذا فاسد. ومن قال: إنها سميت كبائر بالنسبة إلى ما دونها، أو كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة -: يقتضي أن الذنوب في نفسها لا تنقسم إلى صغائر وكبائر! وهذا فاسد، لأنه خلاف النصوص الدالة على تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر. ومن قال: إنها لا تعلم أصلاً، أو إنها مبهمة -: فإنما أخبر عن نفسه أنه لا يعلمها، فلا يمنع أن يكون قد علمها غيره. والله أعلم.
وقوله: وإن لم يكونوا تائبين - لأن التوبة لا خلاف أنها تمحو الذنوب، وإنما الخلاف في غير التائب. وقوله: بعد أن لقوا الله تعالى عارفين - لو قال: مؤمنين، بدل قوله: عارفين، كان أولى، لأن من عرف الله ولم يؤمن به فهو كافر. وإنما اكتفى بالمعرفة وحدها الجهم، وقوله مردود باطل، كما تقدم. فإن إبليس عارف بربه، قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون. قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين. وكذلك فرعون وأكثر الكافرين. قال تعالى: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله. قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى. وكأن الشيخ رحمه الله أراد المعرفة الكاملة المستلزمة للإهتداء، التي يشير اليها أهل الطريقة، وحاشا أولئك أن يكونوا من أهل الكبائر، بل هم سادة الناس وخاصتهم.
وقوله: وهم في مشيئة الله وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، إلى آخر كلامه - فصل الله تعالى بين الشرك وغيره لأن الشرك أكبر الكبائر، كما قال صلى الله عليه وسلم، وأخبر الله تعالى أن الشرك غير مغفور، وعلق غفران ما دونه بالمشيئة، والجائز يعلق بالمشيئة دون الممتنع، ولو كان الكل سواء لما كان للتفصيل معنى. ولأنه علق هذا الغفران بالمشيئة، وغفران الكبائر والصغائر بعد التوبة مقطوع به، غير معلق بالمشيئة، كما قال تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم.
فوجب أن يكون الغفران المعلق بالمشيئة هو غفران الذنوب سوى الشرك بالله [ قبل التوبة ].
وقوله: ذلك أن الله مولى أهل معرفته - فيه مؤاخذة لطيفة، كما تقدم. وقوله: اللهم يا ولي الإسلام وأهله مسكناً بالإسلام، وفي نسخة: ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به - روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق، بسنده عن أنس رضي الله عنه، قال: كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا ولي الإسلام وأهله، مسكني بالإسلام حتى ألقاك عليه. ومناسبة ختم الكلام المتقدم بهذا الدعاء ظاهرة. وبمثل هذا الدعاء دعا يوسف الصديق صلوات الله عليه، حيث قال: رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين. وبه دعا السحرة الذين كانوا أول من آمن بموسى صلوات الله على نبينا وعليه، حيث قالوا: ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين. ومن استدل بهاتين الآيتين على جواز تمني الموت فلا دليل له فيه، فإن الدعاء إنما هو بالموت على الإسلام، لا بمطلق الموت، ولا بالموت الآن، والفرق ظاهر.

  #5  
قديم 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م, 01:46 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح العقيدة الطحاوية لمعالي الشيخ: صالح بن عبد العزيز آل الشيخ (مفرغ)


قال بعدها:"وأهل الكبائر من أمة محمد r في النار، لا يخلدون إذا ماتوا, وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين, وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله, كما ذكر -U- في كتابه: ] وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ [ وإن شاء عذبهم في النار بعدله,ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته". هذه الجملة يقرر فيها الطحاوي –رحمه الله - عقيدة أهل الأثر وأهل السنة في أهل الكبائر، مخالفين في اعتقادهم ذلك لطوائف الضلال؛ من الخوارج, والمعتزلة, والوعيدية بعامة, فأهل السنة في أهل الكبائر وسط ما بين فرقتين غالية كالخوارج والمعتزلة، وجافية كالمرجئة, وسط ما بين من يقول: يخرج من الإيمان بكل كبيرة، وما بين من يقول: لا يضر مع الإيمان كبيرة, فيعتقد أهل السنة والجماعة، أن أهل الكبائر من هذه الأمة متوعدون بالنار، لكن إذا دخولها وكانوا موحدين؛ فإنهم لا يخلدون فيها، وقد يعذبهم الله –جلا وعلا- وقد يغفر لهم, وهذه مسألة واضحة من جهة الصلة بمباحث الإيمان –كما سيأتي- وسبقأن تكلمنا عنه، القول أو صلة البحث في الكبائر وأهل الكبائر مع الإيمان، والمسألة المسماة بمسائل الأسماء, والأحكام, ودليل الطحاوي على هذه الجملة من النصوص كثير لا يحصى, وذلك –يعني: كتقعيد- أن كل آية فيها ذكر وعد لأهل الإيمان؛ فإنه يدخل فيها أهل الكبائر؛ لأنهم يدخلون في أنهم مؤمنون, وكل وعيد جاء لأهل الكفر بالخلود في النار فإنه يخرج منه أهل الكبائر من هذه الأمة إذا ماتوا موحدين؛ لأنهم ليسوا من أهل الإشراك والكفر, فنصوص الوعد تشمل أهل الكبائر، ونصوص الوعيد للكفار لا يدخلها أهل الكبائر, وإنما لأهل الكبائر من هذه الأمة وعيد خاص في أنهم قد يعذبون, وقد يغفر لهم، وأنهم يؤول بهم الأمر بتوحيدهم إلى الجنة, ومن ذلك قول الله –جلا وعلا- في وعد أهل الإيمان: ] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [. وهذا في حق الصحابة رضوان الله عليهم، وكان منهم بالنص من عمل بعض الكبائر, وكذلك قوله: ] إِنَّ الَّذِينَ امَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَـنُ وُدّاً [.
وكذلك قوله: ] وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ[. ونحو ذلك من آيات الوعد التي فيها وعد لأهل الإيمان بدخول الجنة, تشمل أهل الكبائر؛ لأنهم مؤمنون, ومن السنة ما صح عنه –عليه الصلاة والسلام- من دخول الموحد الجنة، وإن زنا، وإن سرق، وإن زنا, وإن سرق, إذا مات على التوحيد, والمسألة مشهورة, يعني: الأدلة فيها أنوع: ((يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)). ((أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)) ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)) ((من قال لا إله إلا الله مخلصاً –من قلبه أو نفسه- دخل الجنة)) كما رواه البخاري عن أبي هريرة. ويعني: أنواع النصوص في الوعد، وعد المؤمنين بعامة، وكذلك في التنصيص على أنه يدخل الجنة, وإن حصلت منه الكبيرة, نذكر هنا مسائل.

الأولى:
قال:"وأهل الكبائر". أهل الكبائر يسمى من ارتكب الكبيرة أنه من أهل الكبائر, أو يصوف بأنه من أهل الكبائر، إذا اجتمع فيه وصفان:
الأول: العلم,
والثاني: عدم التوبة, فإذا علم أن هذا الفعل معصية واقتحمه فإنه –وكان منصوص عليه أنه من الكبائر- فيكون من أهل الكبائر, والثاني: ألا يكون أحدث توبة، فإذا أحدث توبة فلا يسمى من أهل... أو لا يوصف بأنه من أهل الكبائر. والكبائر جمع كبيرة، والكبيرة اختلف فيها العلماء اختلافاً كبيرًا، على أقوال شتى.

فمن أهل العلم ذكر لك عدداً من الأقوال الشارح ابن أبي العز، من أهل العلم من قال: هي سبع، مقتصراً على حديث: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) ومنهم من قال: هي سبعون، يعني: من جهة العدد, ومنهم من قال: كل معصية كبيرة, وهذه الأقوال ليست جيدة، بل الجميع غلط, فلا يحد العدد بحد لعدم النص عليه, وليست كل معصية كبيرة، بالفرق في القرآن كما سيأتي, وكذلك ليست هي سبعين, يعني: لم يثبت في العدد ولا في أن كل معصية كبيرة شيء يمكن أن يستدل به على ذلك. ولهذا صار أجود الأقوال في الكبيرة قولان؛ القول الأول: أن الكبيرة ما فيه حد في الدنيا، أو وعيد بنار أو غضب.

والقول الثاني: أن الكبيرة ما هي؟! هي المعصية التي يؤثر فعلها في أحد مقاصد الشرع أو كلياته الخمس. مقاصد الشرع العظيمة أو في أحد كلياته الخمس, والأول... القول الأول هو المعروف عن الإمام أحمد وعدداً من أهل العلم من أهل السنة.

والقول الثاني اختاره جمع من العلماء؛ كالفقيه أبي محمد بن عبدالسلام، المشهور بالعز بن عبدالسلام في قواعده، وقواه جمعٌ من تبعه في ذلك, وذكره النووي أيضاً في شرحه على مسلم، من الأقوال القوية في المسألة, هذان القولان قريبان، والأول عرفت فيه الكبائر بما فيه حد في الدنيا أو وعيد، حد في الدنيا يعني: ما رتب عليه حد محدود, مثل: السرقة فيها حد كبيرة، الزنا فيه حد كبيرة، شرب الخمر فيه حد كبيرة، وهكذا السحر فيه حد كبيرة، الشرك بالله -جلا وعلا- هو رأس الكبائر. وكل ما رتب فيه حد فهذا ضابط لمعرفة أنه كبيرة.

الثاني: ما تُوعد عليه بالنار، فعل توعد الله -جلا وعلا- عليه بالنار، جاء في الكتاب أو السنة التوعد عليه بالنار, قتل النفس هذا فيه حد, وأيضاً توعد بالنار، والخيانة، وأكل المال بالباطل، أكل مال اليتامى:] إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [ وأشباه ذلك, مما كان فيه حد, أو كان توعد نار، فهذا ظاهر في أنه كبيرة. ابن تيمة أضاف ما نفي فيه الإيمان، لا يؤمن يعني: أضاف على التعريف الأول ما نفي فيه الإيمان: ((لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه)) يقول: عدم أمن الجار من البوائق، والاعتداء عليه هذا صار من الكبائر؛ لأنه نفى فيه الإيمان. ونفي الإيمان لا يطلق –عند ابن تيمية- إلا على نفي الكمال الواجب، ولا ينقص الكمال الواجب عنده إلا ما كان كبيرة, أو جاء فيه ((ليس منا)) ليس منا من فعل كذا, ليس منا من غش: ((من غشنا فليس منا)) ((ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية)). هذا يدل على أن الفعل كبيرة عند ابن تيمية؛ لأن النفي هذا "ليس منا" يقول: يتوجه إلى أنه ليس من أهل الإيمان، وهذا النفي يرجع إلى الأول في أنه فعل كبيرة. وذكرت لكم مرة أو أكثر أن ابن عبدالقوي في منظومته في الآداب الطويلة ذكر تعريف بقوله:

فمـا فيه حد في الدنا أو توعدٌ = بأخرى فسم كبرى على نص أحمد
وزاد حفيد المجد أو جاء وعيده = بنـفي لإيمـان وطـرد لمـبعـد

يعني جمع قول الإمام أحمد, واستدراك ابن تيمية عليه, والتحقيق أن يقال هذه الأقوال,أعني القولين هذين, القولين قريبة وهي صواب, وما كان فيه قدح في مقصد من مقاصد الشارع، أو ضروري من الضروريات الخمس، وصار إحداثه أو فعله مضرته وإفساده يرجع إلى هذه فهو في الحقيقة يكون في الشرع مرتباً عليه حد, أو يكون في الشرع مرتبا عليه لعن أو طرد أو وعيد. يدخل في التعريف الأول –يعني: على كلام ابن تيمية- اللعن، كل ما فيه لعن أيضاً- يدخل في حد الكبيرة، سبق أن ذكرنا لكم شيئاً من ذلك. هنا مسألة تعرض.

سؤال: هل الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة أم لا؟ يعني: من أصر على كبيرة, قلنا: هو من أهل الكبائر من أمة محمد r أم لا؟!
جواب: للعلماء في ذلك قولان؛ الأول: أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة، كما جاء عن بعض الصحابة –رضوان الله عليهم- كابن عباس وغيره.

والثاني: أن الصغائر تختلف, وأن الإصرار على الصغائر لمن ترك الكبائر لا يبقى معه صغيرة؛ لأن الله –جلا وعلا- جعل الصلاة إلى الصلاة مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر, وجعل رمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهما، مكفرا لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر, وهكذا العمرة إلى العمرة، وهكذا الحج ليس له جزاء إلا الجنة, الحج المبرور: ((ومن حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) ونحو ذلك من الأذكار التي يمحوا الله بها السيئات، كذلك إتباع السيئة الحسنة، وهذا يدل على أن الموحد الذي لم يفعل الكبائر، أن هذه العبادات العظيمة بفضل الله –جلا وعلا- تمحوا عنه الصغائر التي وقعت منه، فلا يتصور أن الصغائر تجتمع في حقه، فتتحول إلى كبيرة, وهذا النظر ظاهر من حيث الاستدلال، ومن قال: إن المداومة على الصغائر تحولها إلى كبيرة, يحتاج إلى دليل واضح من الكتاب أو السنة، والأدلة كما ذكرت تدل على أن الصغيرة من الموحد تكفر، فلا تجتمع عليه، ولكن هذا بشرط اجتناب الكبائر، كما قال جلا وعلا: ] إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً [ لعلنا نقف هنا, ونكمل بقية المسائل على بحث الكبائر في الدرس القادم إن شاء الله تعالى, وفقكم الله لما يحب ويرضى, وجمعنا على الحق والهدى, وصلى الله وسلم على نبينا محمد.



بسم الله الرحمن الرحيم,الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: فنأخذ بعض الأسئلة.

سؤال: يقول ما توجيهكم لحديث البطاقة وحديث ((يا ابن آدم لو آتيتني بقراب الأرض خطيئة، ثم أتيتني لا تشرك بي شيئاً، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة)). رواه مسلم، ما رواه مسلم هو خارج من مسلم، مع العلم أن صاحب الكبيرة تحت المشيئة؟
جواب: ما فهمت وجه الاستشكال، لكن لعله أنه فهم من العموم في حديث: ((يا ابن آدم لو أتيتني بقرب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة)). فهم من العموم أن هذا يعارض كون صاحب الكبيرة تحت المشيئة إذا مات غير تائب, هذا غير وارد؛ لأن النصوص يصدق بعضها بعضًا, والآيات يفسر بعضها بعضا, والأحاديث يفسر بعضها بعضا, وكذلك الوعد، الوعد لا ينافي الوعيد, فقوله: ((أتيتك بقرابها مغفرة)). هذا وعد من الله –جلا وعلا- لمن حقق التوحيد, لا يشرك بالله شيئاً، وكون صاحب الكبيرة تحت المشيئة لا يعارض هذا الأصل؛ لأن هذا وعيد, والوعد والوعيد يطلقان ويكونان على إطلاقهما، وكذلك يجتمعان في حق المعين، فيجتمع في حق المعين الوعد والوعيد, وهذا في حق مرتكب الكبيرة، ويدخل في عموم أهل الإيمان الذين وعدهم الله –جلا وعلا- بالجنة, كل مؤمن وعده الله –جلا وعلا- بالجنة يدخل في المسلمين، الذين جعلهم الله –جلا وعلا- لهم مغفرة وأجراً، الذي جعل الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً، كما في آية الأحزاب: ] إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [ إلى قوله: ] وَالذَّاكِـرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [ ونحو ذلك.
فأهل السنة والجماعة في مثل هذه الأدلة التي فيها الوعد وفيها الوعيد يعملون الوعد, ويعملون الوعيد, والوعد بشرطه، والوعيد أيضاً بشرطه.
فلا منافاة ما بين الأدلة، بل الأدلة يصدق بعضها بعضاً.

سؤال: ما الضابط في التفريق بين الفعل والصفة، في صفات الله -جلا وعلا- وأفعاله؟!
جواب: الصفة.. صفة الرب –جل جلاله- مشتملة على فعل له سبحانه وتعالى, ما هو لازم من غير الفعل، يعني: أن صفات الرب -Y- منها ما هو صفة فعل، ومنها ما هو صفة ذات, فليست كلها متعدية تعدي الأفعال, فمثلاً: وجه الرب -Y- صفة وليس بفعل, اليدان للرب -Y- وصف له سبحانه,وليستا باسم ولا فعل, فإذن الفعل هو فعل يفعله الله جلا وعلا له أثره, فالصفات منها ما هو صفة فعل, مثل: الرحمة, وهي صفة ذات, لكنها لها أثرها, ومثل: النزول وأشباه ذلك الغضب, الرضا. وهذا يتعلق بالمخلوق، فيفعله –جلا وعلا- فيتصف به -I- وهناك القسم الآخر التي هي صفات الذات، صفات الذات كثيرة, لا علاقة لها بالأفعال, فإذن نقول: ليس كل صفة فعلاً، ليست كل صفة لله –جلا وعلا- فعلاً, فقد تكون متعلقة بفعل, أو لها فعل, أو أثرها فيه فعل, وقد لا يكون ذلك, ولهذا لا يشتق من الصفة فعل مطلقاً, كما أنه لا يشتق من الفعل صفة مطلقة, وذلك أن الأفعال أوسع في باب وصف الله –جلا وعلا- من الصفات, وقد يكون ثم فعل لله –جلا وعلا- ولا يشتق منه صفة, يعني: نشتق من الحدث المستكن في الفعل صفة لله –جلا وعلا- مثلاً الصفات المنقسمة, أي: الأفعال المنقسمة إلى محمود ومذموم، مقل المكر مثل: ] وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ [ ومثل: ] يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [ ومثل: يستهزئون ]اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ [. ونحو ذلك من الأسماء, نشتق منها صفات مطلقاً, ونقول: الفعل أطلق على الله جلا وعلا, فنقول: له صفة الاستهزاء، له صفة المخادعة، له صفة المكر، وهكذا. بل تطلق هذه الصفات مقيدة؛ لأن المكر والمخادعة والاستهزاء ليست كمالاً في كل حال, بل قد تكون كمالاً, وقد تكون نقصاً، فتكون كمالاً إذا كانت بحق، ومن آثار صفات الكمال الآخر، وتكون نقصاً إذا كانت بباطل, وكانت من آثار صفات النقص في المخلوق, فإذن باب الأفعال أوسع من باب الصفات, وليست كل صفة.... ليس كل فعل نشتق منه صفة لله –جلا وعلا- وليست كل صفة نشتق منها الفعل لله جلا وعلا؛ لأن الصفات منها ما هو صفة ذات، ومنها ما هو صفة فعل,نعم.

(سؤال غير مسموع)
الشيخ: لا.
يجمع ما بين ما يرد مع فهم القواعد، يعني: الضابط في هذا النصوص, وفهم قواعد الأسماء والصفات على طريقة السلف. نكتفي بهذا، نعم اقرأ:

بسم الله الرحمن الرحيم,الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سائل: (غير مسموع) الكبائر.
ـ..................
الشيخ: (هه)
ـ.................
الشيخ: ما انتهينا أعدها

القارئ: قال العلامة الطحاوي –رحمه الله تعالى-: [وأهل الكبائر من أمة محمد r في النار، لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين, وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم, وعفا عنهم بفضله، كما ذكر -U- في كتابه: ] وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ [. وإن شاء عذبهم في النار بعدله, ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته, ثم يبعثهم إلى جنته, وذلك بأن الله -تعالى- تولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته الذين خابوا من هدايته، ولم ينالوا من ولايته, اللهم يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به].

الشيخ: آمين, الحمد لله، تقدم معنا في الدرس الماضي تقرير بعض المسائل حول هذه الجملة (مداخلة غير مسموعة). قال:"وأهل الكبائر من أمة محمد r في النار، لا يخلدون أو لا يخلّدون إذا ماتوا وهم موحدون". إلى آخر كلامه.

المسألة الأولى: مرت معكم, وهي في تعريف الكبيرة والفرق ما بين الكبيرة والصغيرة, ومن هم أهل الكبائر الذين يصدق عليهم هذا الوصف.

المسألة الثانية: قوله:"من أمة محمد r ". هذه الجملة أو شبه الجملة لا مفهوم لها، فليس هذا الحكم خاصًا بأمه محمد r، بل هو عام لهذه الأمة ولغيرها؛ لأنه لم يدل دليل على تخصص هذه الأمة هذا الفضل، ولأن هذه ترجع إلى قاعدة الوعد والوعيد، وهما مما تشترك فيه الأمم؛ لأن أصلها واحد. قال:"أهل الكبائر في النار، لا يخلّدون أو لا يخلدون، بشرط إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين".

المسألة الثالثة: دخول أهل الكبائر في النار هذا وعيد، وهذا الوعيد يجوز إخلافه من الرب -Y- وذلك أن مرتكب الكبيرة إذا تاب في الدنيا تاب الله عليه, وإذا طهّر بحد أو نحوه كتعزير؛ فإنه تكون كفارة له, فإذن يكون مرتكب الكبير من أهل الوعيد إلا في حالات؛ الحالة الأولى: أن يكون تائباً، كما ذكرنا لك؛ لأن التوبة تجب ما قبلها, قال الله –جلا وعلا- في آخر سورة الزمر: ] قُلْ ياعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [. أجمع أهل التأويل التفسير أنها نزلت في التائبين, فمن تاب تاب الله –جلا وعلا- عليه، فلا يلحق التائب وعيد؛ لأنه قد محيت عنه زلته وخطيئته بالتوبة.

الحالة الثانية: أن يطهر من تلك الكبيرة إما بحد كمن شرب الخمر مثلاً فأقيم عليه الحد, فهو طهارة وكفارة له, وكذلك من قتل مسلماًفقتل, أو من قتل مسلماً خطأً، فدفع الدية؛ فإن هذا كفارة له. أو سرق فقطعت يده، فهو كفارة له، أو قذف فأُحِدَّ أقيم عليه الحد حد القذف.

(الوجه الثاني)

فقتل أو من قتل مسلماً خطأً فدفع الدية؛ فإن هذا كفارة له. أو سرق فقطعت يده، فهو كفارة له، أو قذف فأُحِدَّ أقيم عليه الحد حد القذف, فهو كفارة له، أو زنا، إلخ. أو كان تعزيراً أيضاً فإنه طهارة، يعني: أن ما يقام على المسلم من حد أو تعزير من عقوبة في الدنيا فإنها من جنس العقوبة في الآخرة، تطهره من هذا الذنب.

الحالة الثالثة: بعض الذنوب تكون لها حسنات, بعض الذنوب الكبائر تكون لها حسنات ماحية, مثل: مثلاً الصدقة في حق القاتل، قال جلا وعلا: ] فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ [. ومثل الجهاد العظيم، فإنه ينجي من العذاب الأليم، قال سبحانه: ] ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [. والعذاب الأليم هو لمن فعل الكبيرة؛ لأنه وعيد شديد.

الحالة الرابعة: أن يكون الله –جلا وعلا- يغفر له ذلك بأسباب متعددة, ذكرنا لكم شيئاً منها فيما مضى, في العشرة الأسباب المشهورة، وقد يدخل بعضها فيما ذكرنا لكم آنفاً.

الحالة الأخيرة: أن يغفر الله -جلا وعلا- له بعد أن صار تحت المشيئة, يعني: يوم القيامة لا يكون عنده حسنات, ولا يكون أتى بشيء، ولكن يغفر له الله -جلا وعلا- منّة منه وتكرماً, وهذا.... هؤلاء هم الذين يقال عنهم: تحت المشيئة, يعني: إذا لم يتوبوا ولم يقام عليهم الحد وطهروا ولم يأتوا بشيء من أسباب تكفير الذنب؛ فإنهم تحت المشيئة، إن شاء الله -جلا وعلا- غفر لهم، وإن شاء عذبهم في النار، ثم يخرجون لا يخلدون, وهنا شرط المؤلف شرط الطحاوي –رحمه الله - لهؤلاء الذين لا يخلدون في النار، إذا دخولها –يعني: لمن لم يغفر الله جل وعلا له, بل شاء أن يعذبه- شرط له شرط له شرطين؛ وهي المسألة الرابعة, وهي أن من لم يغفر له ممن لم يتب؛ فإنه يشترط لعدم خلوده في النار، شرطان:

الأول: أن يكون مات على التوحيد، وهذا كما هو شرط عام في دخول الجنة، كذلك هو شرط عام في الخروج من النار، كما ثبت في الصحيح أن النبي r قال: ((يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)). فالتوحيد أساس لعدم الخلود في النار، فكل موحد لابد أن يخرج من النار.

الشرط الثاني: أنه لا يخلد في النار إذا لم يأت في ارتكابه لهذه الكبيرة، بما يجعله مستحلاً لها، فقد يكون من جهة موحداً في الأصل في نطقه بالشهادتين, ويكون من جهة أخرى في هذه الكبيرة بعينها مستحلاً لها، وهذا بقيد أن تكون الكبيرة مما أجمع على تحريمه, وكان المستحل لها غير متأول, وهذه قد تدخل مع شيء من النظر في الأول؛ لأن حقيقة الموحد هو أنه غير مستحل لشيء من محارم الله جلا وعلا.

المسألة الخامسة:
الخلود في النار نوعان؛ خلود أمدي إلى أجل، وخلود أبدي، والخلود الأمدي هو الذي توعد الله -جلا وعلا- به أهل الكبائر, والخلود الأبدي المؤبد هو الذي توعد الله -جلا وعلا- به أهل الكفر والشرك, فمن الأول قول الله جلا وعلا: ] وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا [. فهذا خلود، لكنه خلود أمدي؛ لأن حقيقة الخلود في لغة العرب هو المكث الطويل، وقد يكون مكثًا طويلاً ثم ينقضي، وقد يكون مكثاً طويلاً مؤبداً.

ومن الثاني وهو الخلود الأبدي في النار للكفار قول الله جلا وعلا: ] وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً [ وكذلك قوله -جلا وعلا- في آخر سورة الأحزاب: ] إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً[{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} هذا خلود أبدي، ولذلك يميز الخلود في القرآن بالأبديه في حق الكفار، وأما في حق الموحدين، فإنه لا يكون معه كلمة أبدًا، وهذا الذي بسببه ضلّت الخوارج والمعتزلة؛ فإنهم رأوا ] خَالِدِينَ فِيهَا [ في حق المرابي, وفي حق القاتل, فظنوا أن الخلود نوع واحد, والخلود نوعان, ومما يتصل بهذا أيضاً لفظ التحريم في القرآن، ولفظ عدم الدخول للجنة في القرآن، وكذلك عدم الدخول إلى النار, يعني: لفظ التحريم, إن الله حرم الجنة, أو حرم الله عليه النار أو((لايدخل الجنة قاطع رحم)). ونحو ذلك فهذه مما ينبغي تأملها, وهو أن التحريم في القرآن والسنة.

ونفي الدخول نوعان أيضا؛ تحريم مؤبد، وتحريم إلى أمد, كما أن نفي الدخول نفي دخول مؤبد, ونفي دخول إلى أمد. فتحصل من هذا أن الخلود في النار نوعان؛ خلود إلى أمد، وخلود أبدي, وأن تحريم الجنة على –يعني: كما جاء في بعض النصوص- أو تحريم النار، فقد يكون تحريماً إلى أمد، وقد يكون تحريماً إلى أبد.. إلى الأبد, وكذلك نفي الدخول ((لا يدخل الجنة)) ((لا يدخل النار)) هذا أيضاً نفي دخولٍ مؤبد، أو نفي دخول مؤقت, وهذا التفصيل هو الذي به يفترق أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح مع الخوارج, والمعتزلة, وأهل الضلال بجميع أصنافهم؛ فإنهم جعلوا الخلود واحدًا، وجعلوا التحريم واحدًا، وجعلوا نفي الدخول واحدًا، والنصوص فيها هذا وهذا.

المسألة السادسة:

قوله:"لا يخلدون إذا ماتوا وهو موحدون، وإن لم يكونوا تائبين". هذه الجملة معروفة أصلاً؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له, فهي من باب التأكيد، ليست إشارة لخلاف ولا إشارة لشرط ونحو ذلك.

المسألة السابعة:

قوله: "بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين". هنا توقف الشارح ابن أبي العز عند قوله:"بعد أن لقوا الله عارفين". وتعقب الطحاوي في لفظ عارفين, وأن المعرفة ليست ممدوحة, فإن بعض الكفار كانوا يعرفون, إبليس يعرف, وفرعون يعرف, وأن في هذا القول وهو:"بعد أن لقوا الله عارفين".
فيه نوع مشاركة للجهمية ولغلاة المرجئة, وهذا فيه هذا التعقيب من الشارح –رحمه الله تعالى- في هذا الموطن فيه نظر؛لأن لفظ العارف أو المعرفة هذه ربما جاءت في النص، ويراد بها التوحيد والعلم بالشهادتين, فكأن الطحاوي يقول: بعد أن لقوا الله عالمين بالشهادتين مؤمنين، وهذا جاء في حديث معاذ المشهور، أن النبي r لما بعثه إلى اليمن قال له: ((إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن عرفوا ذلك، فأعلمهم…)) إلخ، وهذا اللفظ رواه مسلم في الصحيح.
فاستعمل لفظ المعرفة ويُعْنَى به العلم بالشهادتين, وتوجيه كلام الطحاوي إلى هذا الأصل أولى من تخطئته فيه؛لأن الأصل في كلام العلماء الاتباع إلا ما دل الدليل على خلافه.

المسألة التي بعدها في قوله: "وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر -U- في كتابه: ]وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ [. وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته".
هذه الجملة الطويلة تقرير لأصل عند أهل السنة والجماعة, خالفوا به الخوارج والمعتزلة، أن أهل الكبائر إذا ماتوا غير تائبين تحت المشيئة، وقول الله جلا وعلا: ] وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ [ يعني: في الكبائر، لمن مات غير تائب منها، والمحققون من أهل العلم جمعوا بين هذه الآية، وآية سورة الزمر: ] قُلْ ياعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [ وهنا: ] وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ [ فأطلق في آية الزمر، وهنا قال: ] لِمَن يَشَاءُ [ وذلك أن هذه الآية في حق غير التائبين, وأما آية الزمر ففي حق من تاب, فهو –سبحانه- لمن مات غير تائب، إن شاء غفر وعفا, وهذا فضل، وإن شاء عذب، وهذا عدل منه –سبحانه- بعباده ثم قوله:"ثم يخرجهم منها، برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته".
هذا فيه ذكر سببين للخروج من النار في حق أهل الكبائر, وهذان السببان ضلت فيها الفرق من المعتزلة والخوارج, ومن شابههم؛ فإن من دخل النار من أهل الكبائر يخرج منها برحمة الله -جلا وعلا- والرحمة قاعدة عامة في كل فضل يحصل للعبد، في الدنيا وفي الآخرة.
فالخروج من النار برحمة الله، تخفيف من الحساب برحمة الله، دخول من دخل الجنة برحمة الله -جلا وعلا-.
كما صح عنه عليه الصلاة و السلام أنه قال: ((لن يدخل أحدكم الجنة عمله)) أو ((لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)). فهذا السبب عام، فكل من خرج هو برحمة الله، حتى فيمن شفع وشُفّع فإن العبد يخرج بعد الشفاعة, شفاعة الشافعين برحمة الله -جلا وعلا-وهذا يعني أن قوله:"برحمته وشفاعة الشافعين".

أننا نفهم منها أنه أراد شيئاً مستقلاً، وهو أنه محض تفضل منه جلا وعلا, عذب ثم أخرجهم برحمته, وهذه الرحمة في هذا الموطن لها تفسيران؛
الأول أن جعل الكبير، مع ما فيها من عظم المبارزة لله –جلا وعلا- والتهاون بأمره, ومخالفته وارتكاب نهيه، أن هذه الكبيرة لم يحكم الله –جلا وعلا- على من ارتكبها أنه يعذب أبدًا، فكون العذاب إلى أمد رحمة، ثم انقضاء العذاب رحمة، ثم بعثهم إلى الجنة أيضًا رحمة.

الوجه الثاني: أن الله -جلا وعلا- يخرج من النار أيضًا، أقواماً صاروا حمماً، يعني: صاروا على لون السواد من شدة العذاب, والعياذ بالله, ثم يأتون أو يلقون في نهر الحياة، فينبتون فيه من جديد، كما تنبت الحبة في جانب الوادي وحميل السيل, وهذا أيضاً رحمة من الله -جلا وعلا- في حق من ارتكب الكبير, هذا السبب الأول الذي ذكره، والسبب الثاني في خروج أهل الكبائر:شفاعة الشافعين من أهل طاعته, وشفاعة الشافعين أعلاها شفاعة النبي r في أهل الكبائر، أن يخرجوا من النار, ثم شفاعة الملائكة للمؤمنين الذين ارتكبوا الكبائر أن يخرجوا من النار, ثم شفاعة الوالد، الوالدين لمن؟! لأولادهما, وهكذا. شفاعة المحب لحبيبه من أهل الإيمان، فيمن شاء الله -جلا وعلا- أن يشفعهم, وهذان الأمران، الرحمة على ما ذكرت، وشفاعة الشافعين أيضًا على هذا الوصف، وقد تقدم أظن بحث الشفاعة مطولاً، هذان خالف فيها أهل الفرق,وخاصة الخرواج والمعتزلة ومن شابههم.
قال بعدها وهي

المسألة التاسعة:"ذلك بأن الله -تعالى- تولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته الذين خابوا من هدايته, ولم ينالوا من ولايته".
هذه الجملة يذكر بها الطحاوي –رحمه الله - كل من أنعم الله جلا وعلا عليه بنعمة أن يتذكر بأنه أنعم عليه, وتفضل عليه, وأحسن إليه، ومنّ الله -جلا وعلا- عليه بهذه النعمة, فالذي عصى الله -جلا وعلا- وعفا الله عنه، أو عذبه ثم أنجاه، هذا كله من آثار تولي الله -جلا وعلا- لأهل الإيمان.

وهذا يدل على أن ولاية الله -جلا وعلا- لعباده المؤمنين تتبعض, ليست كاملة, فإن ولاية الله -جلا وعلا- وهي محبته لعبده ومودته له، ونصرته له وتوفيقه ونحو ذلك، لا يكون جملة واحدة, إما أن يأتي في المعين، وإما أن يزول كقول الوعيدية، بل يجتمع في حق المعين في الدنيا والآخرة أنه محبوب من جهة، ومبغض من جهة، متولى من جهة، ومخذول من جهة أخرى. وهذا هو الذي أراده في أن أهل الكبائر – في اعتقاد أهل السنة والجماعة- لا يخلون من نوع ولاية لله جلا وعلا لهم, فالله -جلا وعلا- تولى أهل معرفته يعني: أهل توحيده, ولم يجعلهم في الدارين في الدنيا والآخرة، كأهل نكرته –يعني: أهل الكفر-الذين يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها، بل لهم نصيب من ولاية الله -جلا وعلا- فولاية الله وهي محبته ونصرته في حق المعين من أهل القبلة تتبعض, يعني: تكون في فلان أعظم منها في فلان, فالمؤمن المسدد الذي كمل إيمانه بحسب استطاعته له من ولاية الله -جلا وعلا- الولاية الكاملة، التي تناسب مقامه في الإيمان, والذي يخلط عملاً صالحا وآخر سيئًا له نصيب من محبة الله -جلا وعلا- وولايته ونصرته بحسب ما عنده من الإيمان, فإذن في حق المعين حتى من أهل الكبائر يجتمع فيه ولاية من جهة، وخذلان من جهة أخرى، وهذا هو معتقد السلف, وأهل السنة والجماعة في هذه المسألة العظيمة, ثم دعا آخراً بقوله:"اللهم يا ولي الإسلام وأهله، ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به".
وهذه الجملة رويت في حديث، لكن لا يصح, وهي دعاء طيب, ومعنى ولي الإسلام، يعني: ناصر الإسلام؛ لأن الولي هو الناصر.
والله –جلا وعلا- وعد بنصر دينه -I-، قال –جلا وعلا-: ] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً [ وقال –أيضاً- جل وعلا: ] إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ امَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [ ونحو ذلك كقوله في آخر الصافات: ] وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [ فقوله:"اللهم يا ولي الإسلام". يعني: اللهم يا ناصر الإسلام وأهله, الله –جلا وعلا- وعد بنصرة دينه، ونصرة أهل الإسلام, ووعده حق.
فنسأل الله –جلا وعلا- الذي وعد بنصر الإسلام ونصر أهل الإسلام، أن يثبتنا على هذا الدين حتى نلقاه، وأن يُرينا نصر دينه, وإعزاز كلمته, وإعلاء رايته إنه –سبحانه- على كل شي قدير

الشيخ: نعم اقرأ اللي بعده.

  #6  
قديم 5 ربيع الأول 1430هـ/1-03-2009م, 11:19 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح العقيدة الطحاوية للشيخ: يوسف بن محمد الغفيص (مفرغ)


اختلف أهل السنة والجماعة مع المرجئة والخوارج والمعتزلة في حكم أهل الكبائر، فذهب أهل السنة إلى أنهم تحت مشيئة الله من شاء عذبه ومن شاء غفر له، وأنه لا يخلد أحد منهم في النار، وأن طائفة منهم غير معينة يدخلون الجنة ولا يعذبون في النار، وطائفة يدخلون النار ثم يخرجون منها إما بمحض رحمة الله، أو برحمته مع سبب من الشفاعة ونحوها، أما من خالفهم من الفرق في ذلك فقد ذهبوا في ذلك إلى مذاهب شتى، معرضين عن الكتاب والسنة اللذين فيهما النور والهدى.

حكم أهل الكبائر في الآخرة
قال: [وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار، لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين، وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله كما ذكر عز وجل في كتابه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته، وذلك بأن الله تعالى مولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته الذين خابوا من هدايته، ولم ينالوا من ولايته، اللهم يا ولي الإسلام وأهله مسكنا بالإسلام حتى نلقاك به] . ذكر المصنف أهل الكبائر من جهة حكمهم في الآخرة، وهي مسألة الفاسق الملي، وقد تقدم أن الخوارج والمعتزلة يجعلونهم برآء من الإيمان، فالخوارج تقول: إنهم كفار، والمعتزلة تقول: إنهم فساق قد عدموا الإيمان. وقد اتفقت الخوارج والمعتزلة على أن أهل الكبائر يخلدون في النار، وأنهم ليس لهم حظ من رحمة الله سبحانه وتعالى وثوابه وفضله، وهو مذهب واضح وبين الضلال، ولأجل هذا الأصل أنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعة الأولياء والصالحين لأهل الكبائر؛ لأنهم يرون أن أهل الكبائر مخلدون في النار. ......

مذاهب المرجئة في حكم أهل الكبائر
وأما المرجئة فإن أقوالهم في أهل الكبائر ليست مفصلةًَ كأقوالهم في الإيمان، ومذاهب المرجئة في حكم أهل الكبائر ثلاثة: القول الأول: وهو قول غاليتهم، أنهم لا يعرضون لشيء من العذاب البتة، فيجزمون ببراءة سائر أهل الكبائر من عذاب الله سبحانه وتعالى، وهذا القول كما يقرر شيخ الإسلام رحمه الله يذكر في كتب المقالات عن غالية المرجئة، ولم يحفظ عن أحد من الأعيان المعروفين منهم أنه كان ينص على هذا القول وينتصر له، ولكن جاء في كتب المقالات أن هذا هو قول غالية المرجئة، وقد نسبه ابن حزم و أبو الحسن الأشعري إلى مقاتل بن سليمان ولا يصح ذلك عنه، ولكن يطلق ويقال: هذا قول الغالية من المرجئة؛ لأن هذا شائع في كتب المقالات. القول الثاني: ويسمى قول الواقفة من المرجئة، وهم الذين قالوا: إن أهل الكبائر تحت المشيئة، ولما كانوا ينكرون حكمة الله سبحانه وتعالى في أفعاله، أو ما يسمونه التعليل، فإنهم قالوا: إن أهل الكبائر تحت مشيئة الله سبحانه وتعالى. وهذه الجملة من حيث الإجمال لا إشكال فيها، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، ومن أصول أهل السنة والجماعة أن أهل الكبائر في الآخرة تحت مشيئة الله. ولكن جهة الغلط عند واقفة المرجئة، أنهم قالوا: تحت مشيئة الله، ووقفوا على هذا ثم قالوا: قد يعذب سائرهم بالنار، ثم يخرجون منها، وقد يغفر لسائرهم، فلا يدخل أحد من أهل الكبائر في النار، وقد يعذب الأكثر حسنات ويغفر للأكثر سيئات، وهذا معنى كونهم واقفة، أي أنهم يقولون: إنهم تحت المشيئة، ثم مع ذلك يفصلون تفصيلاً يقع على سائر الفروضات العقلية في المشيئة، ولم يراعوا في ذلك أخبار الشارع فضلاً عن حكمته. وهذا القول يقوله طوائف من المرجئة، وهو قول أبي الحسن الأشعري وجمهور أصحابه، وإن كان الأشعري يذكر في كتبه ما يوحي أنه يخالف هذا القول، لكن على أقل تقدير هو أحد قولي أبي الحسن وجمهور أصحابه، وإلا فـشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يجزم بأن الأشعري على هذا المذهب وأنه لا يذكر في كتبه إلا مسألة المشيئة. ويمكن أن يقال: إن للأشعري في هذا قولين: الأول: هو القول الموافق لقول مقتصدة المرجئة، والثاني: وهو المعروف عنه في الكتب الكلامية، هو هذا القول. القول الثالث: هو قول مقتصدة المرجئة، وهؤلاء يوافقون السلف في حكم أهل الكبائر، ومن هؤلاء الفضلاء من أصحاب أبي الحسن الأشعري ، فيقال: إن هؤلاء، وهم المقتصدة من المرجئة يوافقون السلف في حكم أهل الكبائر.

أصول مذهب السلف في حكم أهل الكبائر في الآخرة
وقول السلف رحمهم الله في حكم أهل الكبائر مبني على ثلاثة أصول: الأصل الأول: أنهم تحت المشيئة. الأصل الثاني: أنه لا يخلد أحـد منهم في النار، بل مآلهم إلى الجنة، إما ابتداءً قبل عذاب، وإما مآلاً بعد العذاب، وهذان الأصلان في الجملة لا يخالفان قول الواقفة من المرجئة، وإنما يتميز مذهب السلف، بالأصل الثالث. ومحصل الأصل الثالث: الإيمان والجزم بأن طائفة من أهل الكبائر غير معينين يدخلون الجنة ولا يعذبون في النار، وأن طائفة منهم يعذبون في النار ثم يخرجون منها، إما برحمته المحضة، أو برحمته مع سبب من الشفاعة أو نحوها. وهذا الأصل يميز قول السلف عن قول المرجئة الواقفة؛ لأن السلف يجزمون بأن قدراً من أهل الكبائر لا يدخلون النار، ويجزمون بأن قدراً آخر من أهل الكبائر يدخلون النار. وهذا القدر الذي لا يدخل النار، والقدر الذي يعذب في النار ثم يخرج منها، ليس مبنياً على محض المشيئة فقط، بل هو مبني على مشيئته مع حكمته سبحانه وتعالى وعدله، ولهذا ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الموازين، وهي المذكورة في مثل قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] ، فلا شك أن الذين يعذبون في النار هم أكثر إتياناً للكبائر وأكثر فسقاً وأكثر فجوراً ممن لا يعذبون في النار؛ لأن الله سبحانه وتعالى: لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} {[النساء:40] ، والموازنة مجمع عليها بين السلف، وقد ذكرها الله في كتابه، وذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم إما مجملة وإما مفصلة. وخذ هذه الموازنة أن الله لا يظلم مثقال ذرة، وأن حكمه عدل، فلا يعذب الأكثر حسنة ويغفر للأكثر سيئة، هذا لا يكون في عدل الله سبحانه وتعالى وقضائه؛ فإنه سبحانه وتعالى حكم عدل. ولهذا وصفت الموازنة المطلقة في القرآن بكونها عدلاً ولم يميز لها أحداً، ولما ذكر الله سبحانه وتعالى الموازنة بين الإيمان والكفر قيدها بنوع من المقدار والحد، كقوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون:102-105] . فصريح في سياق سورة المؤمنون وسورة الأعراف وسورة القارعة أن الموازنة المذكورة هي في حق أهل الإيمان وأهل الكفر. وأما إذا ذكر الله الموازنة المطلقة المتعلقة بسائر خلقه، فإنه يذكرها ذكراً مطلقاً ويقيدها بعموم عدله وقسطه سبحانه وتعالى، ففي قوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء:47] ما ذكر الله فيها إلا أنها قسط وأنه سبحانه {لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء:40] إلى غير ذلك من سياقات القرآن. ولهذا كان إعراب قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء:47] القسط: صفة، والأصل أن الصفة تتبع الموصوف في الإفراد والجمع، وهنا لم تتبعه، فجاءت الصفة مفردة والموصوف جمع لأنها مصدر، ولهذا قال ابن مالك في الألفية: ونعتوا بمصدر كثيراً فلزموا الإفراد والتذكيرا

تفصيل ابن حزم في الموازنة ونقده
وهنا تنبيه في هذه المسألة؛ وهو أن الإمام ابن القيم رحمه الله نقل عن ابن حزم أنه يقول: (إن الموازنة في حق أهل الكبائر في هذه الأمة تكون مفصلة، قال: فمن ثقلت: أي فمن زادت حسناته على سيئاته بواحدة فإنه لا يعذب في النار، بل يدخل الجنة، وإن من زادت سيئاته على حسناته واحدة فإنه لا بد أن يعذب في النار ثم يخرج منها، وأما من استوت حسناته مع سيئاته، فإنه يحبس عن دخول الجنة شيئاً ثم يؤذن له بدخول الجنة، قال ابن القيم : وهذا هو قول الصحابة والتابعين، وكثير من الناس لا يعرفونه، بل لا يعرفون إلا قول المرجئة). والصحيح: أن القول بهذا التفصيل، لا تصح إضافته إلى الصحابة والتابعين على هذا الإطلاق، فإنه لا دليل عليه، إنما دل الدليل على غلط قول المرجئة الواقفة، ودل على أن الله سبحانه وتعالى: (لا يظلم مثقال ذرة) وأما الجزم بأن من زادت سيئاته واحدةً أنه يدخل النار، أو أن الذين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد دخلوا النار في حديث الشفاعة من هذه الأمة، هم من زادت سيئاتهم على حسناتهم بواحدة فما فوق، فهذا ليس بلازم. فمن زادت سيئاته على حسناته بواحدة، يمكن أن يغفر له قبل دخول النار، وليس هناك دليل يمنع أن يغفر له؟ والمغفرة هي محض حقه سبحانه وتعالى، ولو غفر لسائر أهل الكبائر لكان ذلك ممكناً، لكن لما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن طائفة منهم يعذبون ويخرجون بالشفاعة أو بمحض رحمة الله، وجب أن يقال: إنه من الإيمان، الإيمان بأن طائفة منهم يدخلون النار، ثم يخرجون منها، وإلا فإن الله سبحانه وتعالى يغفر لمن يشاء، ولولا أخبار الشفاعة لما صح لأحد أن يجزم بهذا. فهذا الجزم الذي جزم به الإمام ابن القيم رحمه الله ليس جزماً مناسباً، وليس عليه دليل. ......

الخلاف حول أهل الأعراف من هم
والقول بأن من استوت حسناتهم مع سيئاتهم فإنهم يوقفون عن دخول الجنة ثم يدخلونها، لم يجد الإمام ابن القيم رحمه الله والإمام ابن حزم مع جلالتهما دليلاً واضحاً عليه، ولم يستدلوا على هذا إلا بآية الأعراف في ذكر أصحاب الأعراف: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف:46] ، فظاهر القرآن أن أهل الأعراف ينتظرون ثم يدخلون، لكن يبقى أن أهل الأعراف ما فسرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وألفاظ السياق القرآني بحكم كلام العرب لا يفهم منها ذلك، وإنما هذا اجتهاد قاله بعض السلف. وقد نقل عن ابن عباس و ابن مسعود و جابر أن أهل الأعراف: هم من تساوت حسناتهم مع سيئاتهم، إلا أن هذه الآثار لا يصح منها شيء عن الصحابة. ومعلوم أن القاعدة: أنه إذا اختلف في تفسير آية، وللصحابة فيها قول، ولمن بعدهم قول، فإنه يؤخذ بمذهب الصحابة، وقاعدة ابن جرير في ذلك معروفة، إلا أنه لما ذكر تفسيرهم لأهل الأعراف، ذكر هذا عن ابن عباس وغيره، وذكر أقوالاً، ثم غلط قول من يقول بأنهم ملائكة، ورجح أنهم قوم من بني آدم، ولكنه ذهب إلى التوقف فيهم، فما جزم بأنهم من استوت حسناتهم مع سيئاتهم، مع أنه نقل هذا عن بعض الصحابة، وهذا موجبه أنه لم يصح عند ابن جرير شيء من هذه الروايات عن الصحابة. ثم إنه لو سلم جدلاً أن هذه الرواية صحيحة عن ابن عباس ، فلا يلزم من هذا أن يقال: إن هذا مذهب سائر الصحابة والتابعين. ثم إذا وقف الله سبحانه وتعالى قوماًَ من هؤلاء، لم يلزم أن يوقف سائرهم، فهذه كلها لوازم وتحصيلات ليست دقيقة. وسائر الأدلة التي استدل بها ابن حزم و ابن القيم رحمهما الله هي آيات الموازنة المذكورة في سورة الأعراف والمؤمنون وفي سورة القارعة، وهي في ذكر الكفر والإيمان كما هو صريح من سياقها، واستدلالهم بآية الأعراف استدلال مجمل، يحتاج إلى تفصيل من الشارع في حدهم، وعليه فنقول: هذا القول هو قول لطائفة من أهل السنة، وقد رد بعض أهل السنة والجماعة على الإمام ابن حزم رداً مشهوراً؛ لأن هذه المسألة أول من قررها بهذا الوجه هو أبو محمد ابن حزم في كتبه، وانتصر لها أبو عبد الله الحميدي صاحبه، وانتصر لها الإمام ابن القيم في طريق الهجرتين وغيره، فهؤلاء الثلاثة هم أشهر من قررها من أهل السنة من المتأخرين. ولا ترى في كتب السلف المتقدمة كالشريعة للآجري والتوحيد لـابن خزيمة ، والإيمان لـابن منده وغيرها، لا ترى أن فيها ذكراً لهذا الكلام على وجه من الوجوه؛ فالسلف أجمعوا على الإيمان بالموازنة لكن ليس على هذا التفصيل، فعليه يقال: إن هذا التفصيل قول طائفة من أهل السنة والجماعة. وهذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: (وهذه المسألة فيها وجهان للمتأخرين من أهل السنة والجماعة من أصحابنا وغيرهم) ثم ذكر القول الذي ذكره ابن القيم ، وذكر قولاً آخر، فهذه مسألة متأخرة لا ينبغي الجزم فيها، وأصول السلف مبنية على الأصول الثلاثة المتقدمة. وهذه الآية: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] صريحة في إبطال مذهب الخوارج، وإبطال مذهب المعتزلة، الذين قالوا: إن أهل الكبائر يخلدون في النار.

مسقطات العقوبة
وقال المصنف: (وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته، وشفاعة الشافعين)، أي: وإن كانت شفاعتهم من رحمته، كما هو صريح من النصوص أنه يخرج قوم من النار بمحض رحمته سبحانه وتعالى بغير شفاعة أحد. وقد ذكر أهل العلم ومنهم الإمام ابن تيمية رحمه الله: أن مسقطات العقوبة، بضعة عشر مسقطاً حسب الاستقراء الشرعي، الأول: التوبة، وقد أجمع المسلمون أن من تاب من الكبيرة، فإنه يغفر له. الثاني: الاستغفار، والاستغفار هنا مقامه أخص من مقام التوبة، والاستغفار تارةً يذكر ويراد به التوبة، وتارةً يذكر ويراد به ما هو أخص من ذلك. الثالث: الحسنات، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] . الرابع: دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب. الخامس: المصائب المكفرة. السادس: ما يقع في القبر من الهول. السابع: العذاب الذي يقع في القبر، فلا يوافي ربه بكبيرته، بل يزول أثرها بعذاب القبر. الثامن: مقامات الآخرة وعرصات القيامة، فهذه جملة من المسقطات. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإذا عدمت هذه الأسباب، المسقطة لعقوبة الكبيرة، قال: ولن تعدم إلا في حق من عتى وتمرد وشرد على الله شرود البعير الضال على أهله، فهنا يعذب في النار ثم يخرج منها). وهذا من سعة فقهه رحمه الله، فإن الله سبحانه وتعالى يغفر لعباده المؤمنين؛ لأن معهم حسنة التوحيد، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يعنى بهذه الحسنة، فقهاً ودعوةً وتعليماً، و المسلمون مهما كان فيهم من المعصية، ما دام أنهم محققون لأصل التوحيد، فإنهم على خير كثير، وهم قريبون من رحمته سبحانه وتعالى، وفضله وإحسانه. ......

إسقاط الكبائر بالمكفرات
السبب الأخف، وهو المذكور في قوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] ، فيه بحث مهم، وهو أنه قد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما هو مشهور في السنة: أن من الأعمال الصالحة ما يكفر الذنوب، كقوله صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن) ، وكقوله: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه خمس مرات..) ، كما في الصحيح من حديث أبي هريرة في الصحيح، إلى غير ذلك من النصوص، فهنا المشهور في كلام أهل السنة أن هذه الأعمال الصالحة، سواء كانت واجبة أو كانت مستحبة، إذا ذكر تكفيرها للذنوب، فإن المقصود بذلك أنها تكفر الصغائر. وقد حكى أبو عمر ابن عبد البر إجماع أهل السنة، على أنها تكفر الصغائر دون الكبائر. وهذا الإجماع الذي ذكره أبو عمر ابن عبد البر ينبغي فقهه، فإنه قد يفقه على أحد وجهين، الأول: أن يفقه أن السلف أجمعوا على أن الأعمال الصالحة، كالصلاة والحج وغيرها، لا يمكن أن تكفر أو أن تمحو ما هو كبيرة. ولا شك أن هذا الوجه من الفقه غلط، وإن أضافه من أضافه بعض المتأخرين للسلف، فهو إضافة غلط. الوجه الثاني من الفقه: أن يفهم منه أن هذه الأعمال الصالحة، قد تكفر ما هو من الكبائر، ولكن ذلك لا يطرد، إنما يطرد في الصغائر، وفقه الإجماع على هذا الوجه، هو الفقه الصحيح. وهو مذهب السلف ولا شك، وهذا هو الذي قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تقريراً مفصلاً، وقرر أنه هو المذهب المعروف عن سلف الأمة. ويكون هذا الفهم وسطاً بين قول من يقول: إن هذه الأعمال الصالحة تكفر الكبائر باطراد كما تكفر الصغائر، فإن هذا خلاف كثير من النصوص وخلاف الإجماع، وبين قول من يقول: إنها لا تكفر إلا الصغائر ولا يمكن أن تكفر الكبائر، ويجزم بذلك، فهذا غلط أيضاً ولا يقوله أحد من السلف، وإن نقل بعض المتأخرين في هذا الإجماع فهو إجماع غلط كما يقرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

الدليل على تكفير الحسنات للكبائر
والدلائل النبوية صريحة في هذا، ففي حديث عمرو بن العاص الذي أخرجه مسلم وغيره من طريق عبد الرحمن بن شماسة المهري المصري عن عبد الله بن عمرو عن أبيه عمرو بن العاص ، وفيه قول عمرو لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الإسلام، قال: (فبسط النبي صلى الله عليه وسلم يده لأبايعه، قال: فقبضت يدي فقال: ما لك يا عمرو ؟! قلت: أردت أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قلت أشترط أن يغفر لي، أما علمت يا عمرو ! أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبل) فتأمل قوله: (يهدم ما كان قبله) فإنه من سياق العموم، ولا شك أن هذا يمتنع معه أن يقال: إن الحج لا يمكن أن يكفر ما هو كبيرة. ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم..) وقوله: (من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه..) ، ولا يمكن أن يجتمع السلف على أن من أتى هذا البيت فقام قيام السنة، واقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم فما رفث ولا فسق وتعبد لله، ووجل قلبه، وأدى الأركان على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع تمام الإخلاص وتمام المتابعة، ولكن عنده بعض الكبائر السالفة أن كبائره لا تغفر، فهذا تضييق لرحمة الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن فقه السلف يقف مع هذا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) .

الجواب على إشكال المانعين من تكفير الحسنات للكبائر
والذي أشكل على أكثر المتأخرين هو الذي جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيره: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) ، قالوا: فهذا يدل على أن الكبائر لا تغفر، ولا شك أن هذا الاستدلال ليس استدلالاً صحيحاً، فإن الصلاة وسائر الأعمال الظاهرة، وحتى الأعمال الباطنة يقع فيها تفاضل، وليست صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، كصلاة أصحابه مع أنهم كانوا يصلون معه، وليست صلاة أبي بكر كصلاة آحاد الصحابة، وليست صلاة الصحابة كصلاة من بعدهم. فتكون الصلاة باعتبار أصل القيام بها مكفرة للصغائر إذا اجتنبت الكبائر؛ أما الكبائر فلا يتعلق تكفيرها بإقامة الصلاة حتى ولو لم تكن الإقامة التامة الموافقة لهدي النبوة من كل جهة، والتي ذكر الله عن أهلها أنهم في صلاتهم خاشعون، فلا يلزم أن كل عمل ذكره الشارع واجباً كان أو مستحباً يكفر الكبائر باطراد كما يكفر الصغائر. فإنه لو قيل إن التكفير يقع بمجرد إقامة الصلاة ولو غير تامة، لصح الاعتراض عليه بهذا الحديث، فإن الحديث معارض لهذا الفهم تماماً. ولكن إذا قيل إن الأعمال المكفرة يقع بها تكفير بعض الكبائر في بعض الأحوال، فإن هذا لا يكون معارضاً، ويمكن أن يقال: إن هذه الأعمال باعتبار أصولها، تكفر الصغائر، ولكن من حققها على وجه التمام، وكانت حالته في الجملة على قدر من الاستقامة والانقياد، ولكن كان معه يسير من الذنب والكبيرة، فإن هذه الأعمال تكون سبباً للتكفير. ومن إجماع السلف أن الله قد يغفر لأهل الكبائر بغير سبب من العبد، فمن باب أولى أن يكفر عنه وأن يغفر له بسبب منه وهو الحسنة، فإن الله قال: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) . وإذا كان الله يغفر لبعض أهل الكبائر بسبب من غيرهم وهو دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب، أو بشفاعة الشافعين، فيمكن أيضاً أن يغفر له بسبب من أعماله الصالحة، ومن عرف مقام الصلاة ومقام الحج، ومقام الجهاد، ومقام الصيام عند الله سبحانه وتعالى، عرف أنه يمكن أن يغفر بها ما هو من الكبائر، ألم يقل الله سبحانه كما في الحديث القدسي: (الصوم لي وأنا أجزي به) . فتعليق هذه الأمور على التوبة لا شك أنه تعليق ضيق، بل يقال: إن هذه الأعمال كفارات للصغائر، وقد يقع في هذه الأعمال كأصول الواجبات من الحج والجهاد والصيام والصلاة، ما هو مكفر لبعض الكبائر، وهذه أحوال لا تطرد، وإنما يختص الله سبحانه وتعالى برحمته وتوفيقه من يشاء من عباده.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
وأهل, قوله

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:03 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir