دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > العقيدة الطحاوية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30 ذو القعدة 1429هـ/28-11-2008م, 03:14 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي قوله: (وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق)

وجميعُ ما صَحَّ عن رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وَعَلَى آلهِ وَسَلَّمَ مِن الشَّرْعِ والبيانِ كُلُّهُ حَقٌّ.

  #2  
قديم 1 ذو الحجة 1429هـ/29-11-2008م, 06:36 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التعليقات على الطحاوية لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله ابن باز

[لا يوجد تعليق للشيخ]

  #3  
قديم 1 ذو الحجة 1429هـ/29-11-2008م, 06:37 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التعليقات المختصرة للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان

(1) وجميعُ ما صَحَّ عن رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ مِن الشَّرْعِ، والبيانِ كُلِّه حَقٌّ.




(1) هذا كلامٌ طَيِّبٌ، كُلُّ ما صَحَّ عن رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو حقٌّ، بخلافِ مَن يقولونَ: إنَّ ما وَرَدَ عن رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقَسِمُ إلى متواترٍ وآحادٍ، فلا يَأْخُذُونَ إِلاَّ بالمتواترِ، ويقولونَ: أحاديثُ الآحادِ لا تُفِيدُ العلمَ، ولا تُفِيدُ اليقينَ، ولا يُسْتَدَلُّ بها في العقيدةِ، وهذا باطلٌ، فكُلُّ ما صَحَّ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مُتَوَاتِرًا أو آحَادًا- فإِنَّهُ يُفِيدُ العلمَ، وتُبْنَى عليهِ العقيدةُ؛ لِأَنَّهُ صَحَّ عن الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ....} (الحشر: 7).
فإذا صَحَّ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثٌ عُمِلَ بهِ في كُلِّ شَيْءٍ، بشرطِ أنْ يكونَ قدْ صَحَّ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهناكَ طوائفُ الآنَ يُشَكِّكُونَ في السُّنَّةِ؛ منهم مَن يقولُ: لا يَجُوزُ العملُ بالسُّنَّةِ مُطْلَقًا، ويَكْفِي العملُ بالقرآنِ فقطْ، وهناكَ مَن يقولُ: يُؤْخَذُ من السُّنَّةِ المتواترُ فقط. وكِلاَ الطائفتَيْنِ ضالٌّ.
فالواجبُ على المسلمِ أنْ يَعْتَقِدَ أنَّ كُلَّ ما صَحَّ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو حقٌّ، والرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمِلَ بخبرِ الواحدِ في وقائعَ كثيرةٍ؛ رؤيةِ الهلالِ؛ جاءَهُ ابنُ عُمَرَ وأَخْبَرَهُ بأَنَّهُ رأَى الهلالَ فأَمَرَ الناسَ بالصيامِ، وجاءَهُ أعرابيٌّ وأَخْبَرَهُ أَنَّهُ رأَى الهلالَ فقَالَ لَهُ: (أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟ أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ ) قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناسَ بالصيامِ، وهو خبرُ واحدٍ.
كَانَ الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْسِلُ رُسُلَهُ آحادًا، وما كَانَ يُرْسِلُ جماعاتٍ، والمرسَلُ إليهم يَعْمَلُونَ بما بَلَّغَهُم المَنْدُوبُ عن الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

  #4  
قديم 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م, 09:29 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي


قوله: وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق. يشير الشيخ رحمه الله بذلك إلى الرد على الجهمية والمعطلة والمعتزلة والرافضة، القائلين بأن الأخبار قسمان: متواتر وآحاد، فالمتواتر - وإن كان قطعي السند - لكنه غير قطعي الدلالة، فإن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين ! ! ولهذا قدحوا في دلالة القرآن على الصفات ! قالوا: والآحاد لا تفيد العلم، ولا يحتج بها من جهة طريقها، ولا من جهة متنها ! فسدوا على القلوب معرفة الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله من جهة الرسول، وأحالوا الناس على قضايا وهمية، ومقدمات خيالية، سموها قواطع علقية، وبراهين يقينية ! ! وهي في التحقيق كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب * أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور. ومن العجب أنهم قدموها على نصوص الوحي، وعزلوا لأجلها النصوص، فأقفرت قلوبهم من الاهتداء بالنصوص، ولم يظفروا بالعقول الصحيحة المؤيدة بالفطرة السليمة والنصوص النبوية. ولو حكموا نصوص الوحي لفازوا بالمعقول الصحيح، الموافق للفطرة السليمة.
بل كل فريق من أرباب البدع يعرض النصوص على بدعته، وما ظنه معقولاً: فما وافقه قال: إنه محكم، وقبله واحتج به !! وما خالفه قال: إنه متشابه، ثم رده، وسمى رده تفويضاً ! أو حرفه، وسمى تحريفه تأويلاً ! ! فلذلك اشتد إنكار أهل السنة عليهم.
وطريق أهل السنة: أن لا يعدلوا عن النص الصحيح، ولا يعارضوه بمعقول، ولا قول فلان، كما أشار إليه الشيخ رحمه الله. وكما قال البخاري رحمه الله: سمعت الحميدي يقول: كنا عند الشافعي رحمه الله، فأتاه رجل فسأله عن مسألة، فقال قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فقال رجل للشافعي: ما تقول أنت ؟ ! فقال: سبحان الله ! تراني في كنيسة ! تراني في بيعة ! تراني على وسطي زنار ؟! أقول لك: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: ما تقول أنت ؟! ونظائر ذلك في كلام السلف كثير. وقال تعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم.
وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول، عملاً به وتصديقاً له -: يفيد العلم [اليقيني] عند جماهير الأمة، وهو أحد قسمي المتواتر. ولم يكن بين سلف الأمة في ذلك نزاع، كخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما الأعمال بالنيات، وخبر ابن عمر رضي الله عنهما: نهى عن بيع الولاء وهبته، وخبر أبي هريرة: لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، وكقوله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وأمثال ذلك. وهو نظير خبر الذي أتى مسجد قباء وأخبر أن القبلة تحولت إلى الكعبة، فاستداروا إليها.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل رسله آحاداً، ويرسل كتبه مع الآحاد، ولم يكن المرسل إليهم يقولون لا نقبله لأنه خبر واحد ! وقد قال تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله. فلا بد أن يحفظ الله حججه وبيناته على خلقه، لئلا تبطل حججه وبيناته.
ولهذا فضح الله من كذب على رسوله في حياته وبعد وفاته، وبين حاله للناس. قال سفيان بن عيينة: ما ستر الله أحداً يكذب في الحديث. وقال عبد الله بن المبارك: لو هم رجل في البحر أن يكذب في الحديث، لأصبح والناس يقولون: فلان كذاب. وخبر الواحد وإن كان يحتمل الصدق والكذب - ولكن التفريق بين صحيح الأخبار وسقيمها لا يناله أحد إلا بعد أن يكون معظم أوقاته مشتغلاً بالحديث، والبحث عن سير الرواة، ليقف على أحوالهم وأقوالهم، وشدة حذرهم من الطغيان والزلل، وكانوا بحيث لو قتلوا لم يسامحوا أحداً في كلمة يتقولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك. وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما نقل إليهم، فهم ترك الإسلام وعصابة الإيمان، وهم نقاد الأخبار، وصيارفة الأحاديث. فإذا وقف المرء على هذا من شأنهم، وعرف حالهم، وخبر صدقهم وورعهم وأمانتهم -: ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه. ومن له عقل ومعرفة يعلم أن أهل الحديث لهم [من] العلم بأحوال نبيهم وسيرته وأخباره، ما ليس لغيرهم به شعور، فضلاً أن يكون معلوماً لهم أو مظنوناً. كما أن النجاة عندهم من أخبار سيبويه والخليل وأقوالهما ما ليس عند غيرهم، وعند الأطباء من كلام بقراط وجالينوس ما ليس عند غيرهم، وكل ذي صنعة هو أخبر بها من غيره، فلو سألت البقال عن أمر العطر، أو العطار عن البز، ونحو ذلك ! ! لعد ذلك جهلاً كبيراً.
ولكن النفاة قد جعلوا قوله تعالى: ليس كمثله شيء: مستنداً لهم في رد الأحاديث الصحيحة، فكلما جاءهم حديث يخالف قواعدهم وآراءهم، وما وضعته خواطرهم وأفكارهم - ردوه بـ ليس كمثله شيء، تلبيساً منهم وتدليساً على من هو أعمى قلباً منهم، وتحريفاً لمعنى الآي عن مواضعه. ففهموا من أخبار الصفات ما لم يرده الله ولا رسوله، ولا فهمه أحد من أئمة الإسلام، أنه يقتضي إثباتها التمثيل بما للمخلوقين ! ثم استدلوا على بطلان ذلك بـ ليس كمثله شيء تحريفاً للنصين ! ! ويصنفون الكتب، ويقولون: هذا أصول دين الإسلام الذي أمر الله به وجاء من عنده، ويقرؤون كثيراً من القرآن ويخوضون معناه إلى الله تعالى، من غير تدبر لمعناه الذي بينه الرسول، وأخبر أنه معناه الذي أراده الله. وقد ذم الله تعالى أهل الكتاب الأول على هذه الصفات الثلاث، وقص ذلك علينا من خبرهم لنعتبر وننزجر عن مثل طريقتهم. فقال تعالى: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون، إلى أن قال: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون. والأماني: التلاوة المجردة، ثم قال تعالى: فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون. فذمهم على نسبة ما كتبوه إلى الله، وعلى اكتسابهم بذلك، فكلا الوصفين ذميم: أن ينسب إلى الله ما ليس من عنده، وأن يأخذ بذلك عوضاً من الدنيا مالاً أو رياسة. نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزلل، في القول والعمل، بمنه وكرمه.
ويشير الشيخ رحمه الله بقوله: من الشرع والبيان. إلى أن ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم نوعان: شرع ابتدائي، وبيان لما شرعه الله في كتابه العزيز، وجميع ذلك حق واجب الإتباع.

  #5  
قديم 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م, 01:30 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح العقيدة الطحاوية لمعالي الشيخ: صالح بن عبد العزيز آل الشيخ (مفرغ)


قال بعدها:"وجميع ما صح عن رسول الله r من الشرع والبيان كله حق". وهذا يعني به أن المؤمن لا يفرق بين كلام الله –جلا وعلا- ولا بين السنن، فكل ما جاء في الكتاب أو صح عن رسول الله r في أمور العقيدة والشريعة هذا يجب التسليم له، وكله حق يجب الإيمان به، وذلك كما قال –جلا وعلا- في وصف اليهود:{أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي}[1] الآية. وكذلك قوله: ] لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ [ وكذلك قوله: ] نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً [ فالواجب هو الإيمان بجميع ما أنزل الله –جلا وعلا- على رسوله في القرآن, وما صح عن رسول الله r في السنة, فالكل حق، صدر عن مشكاة واحدة، عن الرب -جلا جلاله- وتقدست أسماؤه.


[1]الآية هكذا خطأ والصواب ]أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ [


  #6  
قديم 5 ربيع الأول 1430هـ/1-03-2009م, 11:11 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح العقيدة الطحاوية للشيخ: يوسف بن محمد الغفيص (مفرغ)


منزلة العمل من الإيمان
قال المصنف عليه رحمه الله تبارك وتعالى: [والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، وأن جميع ما أنزل الله في القرآن وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق، والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى] . هذا الموضع في رسالة الطحاوي رحمه الله هو أشد المواضع إشكالاً، وإلا فإن في هذه الرسالة بضعة عشر موضعاً مشكلاً، وليس بالضرورة أن تكون هذه المواضع مما يؤخذ على الطحاوي رحمه الله من جهة مقاصده، فإنه في كثير من هذه المواضع يكون مقصوده صحيحاً، وإن كانت عبارته غير مناسبة. وهذه المسائل تُعدُّ من مواضع النزاع في بعض مواردها حتى بين أهل السنة والجماعة، وإن كان عامة ما يتنازع فيه المتأخرون من أهل السنة والجماعة من المسائل هي في الجملة محكمة عند السلف. ولا يلزم من ذلك أن السلف أجمعوا على سائر هذه المسائل، وإنما المقصود أنهم عرفوا قدر المسألة وأحكموها إما من الإجماع وإما من الخلاف، ومعنى هذا: أنه قد يقول بعض المتأخرين من أهل السنة والجماعة عن مسألة إنها من مسائل الإجماع، ويكون الأمر على خلاف ذلك، وقد يقع العكس: كأن تكون المسألة هي من محل الإجماع عند السلف، فيتكلم بعض المتأخرين بما يقرر به أن هذه المسألة من مسائل النزاع، وهذا كله يرجع علاجه إلى حقيقة واحدة وهي: لزوم إحكام مذهب السلف في ذكر هذه المسائل وغيرها. الأعمال الظاهرة بإجماع أهل السنة هي أصل في الإيمان، وقول المتقدمين في هذا متواتر كما تقدم. وإذا قيل: إن العمل أصل في الإيمان، فإن المراد بذلك أن عدمه يلزم منه عدم الإيمان، ولا يلزم من ذلك أن يكون العمل نفسه ليس أصلاً، فإن المراد بذلك لزوم عدم العمل الظاهر لعدم الإيمان الباطن. ......

امتناع اجتماع الإيمان الباطن مع الكفر الأكبر
وهذا مبني على مسألة، وهي أن كل من ثبت كفره ظاهراً في نفس الأمر، لزم أن يكون في الباطن كافراً؛ لامتناع اجتماع الكفر الأكبر مع شيء من الإيمان الصحيح. حتى ولو أريد بالإيمان الأصل، فإنه معلوم أن من كان كافراً عند الله سبحانه وتعالى كفراً أكبر، أنه يمتنع أن يكون معه شيء من الإيمان الصحيح، وهذه من بدائه المسائل المعروفة بأوائل الشرع وأوائل العقل، وهي حقيقة مجمع عليها. وهذا بخلاف العلم أو المعرفة القلبية، فإن العلم في سائر موارده لا يلزم أن يكون هو الإيمان الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس كل وجه من أوجه العلم والمعرفة هو الإيمان الذي يحصل به الاستجابة لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. وعليه فإذا قيل: إن العمل أصل في الإيمان وأن تارك العمل مطلقاً يكون كافراً، لزم من هذا أن يكون كافراً ظاهراً وباطناً، ذلك أن من كان كافراً ظاهراً يمتنع أن يكون في الباطن مؤمناً، ويمتنع أنه يوافي ربه بكفر ظاهر يوجب الخلود في النار، وبإيمان باطن يوجب النجاة من النار، بخلاف من يكون في الباطن كافراً، فإنه قد يكون في الظاهر على الإسلام، كحال المنافقين الذين أظهروا الإسلام، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: اتفق العلماء على أن المنافقين يدخلون في اسم الإسلام، ولا يدخلون في اسم الإيمان.

التلازم بين الظاهر والباطن
فإذا قيل: كيف يكفر بترك العمل، مع أنه في الباطن مؤمن بالله ورسوله؟ قيل: ما يقع في الباطن من المعرفة مع ترك العمل، هو من جنس المعرفة التي تعرض لجمهور بني آدم المخالفين للرسل، وليست هي المعرفة النبوية التي سماها الشارع إيماناً صحيحاً، فهذه الحقيقة التي سماها الإمام ابن تيمية رحمه الله بالتلازم بين الظاهر والباطن، لا بد من فقهها، وإن كان بعض الناظرين من أهل السنة في المسألة ينازعون في قدر هذا التلازم، ولكن من المحقق ببداهة الشرع والعقل، أن ثمة تلازماً باعتبار الأصل، فالكفر الظاهر الذي هو كفر في حكم الله ورسوله لا بد أن يصاحبه في الباطن كفر، ولا يمكن أن يكون شخص في الباطن مؤمناً إيماناً صحيحاً، ويكون في الظاهر كافراً كفراً على حكم الله ورسوله، فهذه صورة قد يفرضها العقل، وليس لها وجود في الخارج. وأما من كان في الباطن كافراً فقد يظهر ما يظهر من شرائع الإسلام ليحقن دمه وماله وولده، ومما يقرب هذا أنه بإجماع السلف وبصريح القرآن أن بني آدم -كما ذكرهم الله في أوائل سورة البقرة- ثلاثة أصناف، من كان مؤمناً ظاهراً وباطناً، ومن كان كافراً ظاهراً وباطناً، ومن كان في الظاهر مؤمناً أو مسلماً وفي الباطن كافراً. وليس ثمة صنف رابع، وهم المؤمنون باطناً الكفار ظاهراً إلا في حال واحدة تعرض وليست أصلاً مطرداً، وهي حال الإكراه المذكورة في مثل قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] كما حدث لبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكَسَبِّ بعضهم للرسول صلى الله عليه وسلم بين يدي بعض اليهود ليطمأن إليه اليهودي حتى يتمكن من قتله، كقول: عبد الله بن أنيس في الحديث الثابت في الصحيح: (يا رسول الله! ائذن لي فلأقل، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: قل) فذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكلامٍ يفارق به الإيمان لو كان قاصداً له، فهذه حال تعرض كحال الإكراه.

هل يقع الإكراه بالفعل؟
وقد أجمع السلف على أن الإكراه قد يكون بالقول، وتنازعوا في كون الإكراه يقع بالفعل على قولين: فجماهيرهم على أن الإكراه يقع بالفعل كما يقع بالقول، وذهب ابن عباس وطائفة إلى أن الإكراه مختصٌ بالقول، والصحيح هو مذهب جماهيرهم، فهذه حال تعرض وليست حالاً مطردة.
النزاع في الكفر هل هو بالعمل نفسه أم بلزومه لكفر الباطن
والمؤمن ظاهراً وباطناً قد يكون ظالماً لنفسه، وقد يكون مقتصداً، وقد يكون سابقاً بالخيرات، وعليه فمن ظن أنه قد يكون كافراً ظاهراً، ويحكم عليه بالكفر مع أنه في الباطن مؤمن، فإن هذا لا شك أنه من الغلط. ثم هنا طرفٌ من النزاع، قد يكون في نظر الكثيرين من النزاع اللفظي وهو: هل الكفر تحقق بالعمل من حيث هو أم تحقق بالعمل من حيث هو لازم لكفر الباطن؟ هذه مسألة من الجدل اللفظي أو من الفرض الذهني، ربما لا يتحقق بها كثير نتيجة.

حكم المجتهد بتكفير معين ليس حكماً قطعياً
من لم يجعل العمل أصلاً في الإيمان، أي: أن عدمه لا يكون كفراً، معتبرهم في الجملة هو أن هذا المعين يكون معه إيمانٌ في الباطن، ومعلوم أن من صح إيمانه باطناً امتنع كفره ظاهراً إلا على وجه من الاجتهاد، وما كان وجهاً من الاجتهاد قد يكون غلطاً كسائر أحكام المجتهدين، أي: أنه قد يحكم بعض المجتهدين من أهل العلم على معينٍ من أهل القبلة لبدعةٍ قالها أو نحو ذلك بالكفر، ويكون في نفس الأمر عند الله ليس بكافر، بل له شبهة أو تأويل أو غير ذلك من الموانع التي منعت كفره. ويذكر شيخ الإسلام تحت هذا ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد و أبي هريرة رضي الله عنهما قالا: (إن رجلاً قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم ذروا نصفي في البر ونصفي في البحر، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين) ، وفي أول الحديث قصة معروفة. فالشاهد من هذا أن هذا الرجل قال ما هو كفر بالإجماع، فإنه شك في المعاد، وأنكر عموم القدرة. قال شيخ الإسلام : والظاهر من حاله أنه كان مقراً بأصل المعاد وأصل القدرة، وإنما شك في عموم القدرة وفي المعاد نفسه على هذه الحال، قال: ومع هذا فإن قوله هذا في هاتين المسألتين كفرٌ بالإجماع، ومع ذلك غفر الله له، وهذه واقعة عين، وإنما يُعلم بها أنه قد يكون القول كفراً في الظاهر، ولا يلزم أن يكون صاحبه في الباطن كافراً، فمن كفره من المجتهدين إذا فرضنا أنهم قارنوه في عصره، لم يلزم بذلك أن يكون حكمهم هو الحكم الذي يوافي العبد به ربه يوم القيامة. فهذا من أخص فقه هذا الباب، وهو العلم بالتلازم بين الظاهر والباطن. فالمآل في الآخرة معتبر بما عليه المرء في الحقيقة وفي نفس الأمر، والمراد من ذلك أن أحكام الاجتهاد لا يلزم بالضرورة أن تكون أحكاماً موجبة، وعليه فإذا قيل عن مقالة من المقالات إنها كفر، فكفّر أحدٌ من الأعيان من أهل القبلة من قبل أحد المجتهدين، لم يلزم من ذلك أن نجزم بأن هذا العبد يوافي ربه بالكفر، بل قد يكون على خلاف ذلك، وقد يكون كافراً في نفس الأمر. فهذه مسألة ليس فيها اطراد، أي: ليس هناك تلازم بين الحكم الذي يقوله مجتهدٌ في أحد أعيان المخالفين من أهل البدع في الظاهر، وبين الحكم الذي يكون في الباطن، فإن أهل البدع الذين خالفوا أصول السنة والجماعة بأقوالٍ كفرية -كما يقول شيخ الإسلام - جمهورهم من أهل الإسلام، وفيهم من يكون منافقاً في نفس الأمر.

التعبير بـ(جنس العمل) في باب الإيمان
وقد عبر كثير من المتأخرين في مقام العمل بلفظ الجنس، فقالوا: إن جنس العمل أصل في الإيمان، ومعلوم أن هذا اللفظ ليس لفظاً سلفياً، أي ليس مأثوراً عن أحدٍ من السلف، ومعلوم أن الجنس في كلام أهل الحد والمنطق ونحوهم يراد به سائر أفراد المعية على كل وجه، وكأنه يلزم من ذلك أنه لو فعل أدنى مستحب من المستحبات الظاهرة، لما سمي تاركاً للجنس، كمن أماط الأذى عن الطريق ولو مرة؛ لأنه داخل في جنس العمل، ولا شك أنه لا يراد بالعمل ذلك، فليس من أتى بواحدٍ من المستحبات صار مؤمناً، ومن ترك هذا المستحب صار كافراً، وإنما يراد بالعمل هنا: أصله، الذي هو أصول الشرائع، وأخصها المباني الأربعة، ولهذا فالمباني الأربعة وهي الصلاة والزكاة والصوم والحج، باعتبار آحادها يوجد نزاع بين السلف في كفر تاركها، وهذا هو القول المحقق في هذه المسألة.

الخلاف في تكفير تارك الصلاة
الخلاف في مسألة الصلاة مشهور، وإن كان أيوب و إسحاق قد حكوا الإجماع على كفر تارك الصلاة، ولكن المحفوظ هو المخالفة، وكذلك قول عبد الله بن شقيق ، فإنه ليس مما يُجزم به، وقد كان بعض أهل العلم قالوا: إن ثمة فرقاً بين قول إسحاق و عبد الله بن شقيق ، فإن عبد الله بن شقيق كان يحكي إجماع الصحابة، و مكحول و الزهري و مالك و الشافعي جاءوا بعدهم فلا تكون مخالفتهم خارقة لإجماع الصحابة، كما لم تكن مخالفة حماد بن أبي سليمان خارقةً لإجماع الصحابة. والحق أن التسوية بين المسألتين يعوزها التحقيق، وذلك أن كون الإيمان قولاً وعملاً، أمرٌ مستقر في دلائل الكتاب والسنة، ولكن ليس من المستقر في دلائل الكتاب والسنة المتواترة أن ترك الصلاة كفر، بل إذا نظرت في دلائل القرآن لم تجد أن الله ذكر الصلاة وحدها وسمى تركها كفراً، وسائر ما يستدل به الحنابلة ومن استدل من المتقدمين من أهل الحديث على المسألة هو مثل قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] ، وفي السياق الآخر: {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] ، إلى أمثال ذلك، ومعلوم أن الاستدلال بهذا يقع على أحد وجهين: الأول: أن يراد بالتوبة هنا التوبة من أصل الكفر، مع الإتيان بالعمل، ولا شك أن هذا هو الذي يقع به الإسلام بالإجماع. الثاني: أن يراد أن كل ما ذكر في الآية فإنه يكون تركه كفراً، فيلزم من ذلك أن يكون تارك الزكاة كافراً، فمن جعل الآية دليلاً على أن ترك الصلاة وحدها كفرٌ لزمه أن يجعلَ ترك الزكاة وحدها كفراً. ولا يصح هنا أن يقال: إن الزكاة خرجت بدليل آخر، فإن الدليل هنا خاص، والخاص لا يمكن أن يعارضه خاصٌ مثله، فيلزم من هذا أن يكون الاستدلال بالآية ليس جازماً أو قاطعاً، ولا يعني أيضاً أن الاستدلال بالآية المذكورة في سورة براءة ونحوها من الآيات غلط، بل يُراد أنه ليس استدلالاً صريحاً بيناً جازماً يبعث على أن يقال: إن الصحابة كانوا آخذين بصريح القرآن وصريح السنة. وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) ، فهو أظهر في الاستدلال من الاستدلال بالقرآن، فإن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر الكفر معرفاً، وجعل الصلاة هي الفاصل بين الشرك والكفر وبين الإيمان والإسلام، ولهذا فإن الأظهر في الاستدلال على كفر تارك الصلاة هي دلائل السنة. ولأجل هذا يقال: إن الراجح في مسألة تارك الصلاة أنه كافر بظاهر السنة، وبما يستدل به من القرآن، وبظاهر مذهب الصحابة، فإنه لم يصح عن صحابي من الصحابة أنه جعل ترك الصلاة ليس كفراً، وهذا قد يسمى إجماعاً سكوتياً، وجمهور ما يستدل به الفقهاء من الإجماعات في المسائل المفصلة هي من الإجماعات السكوتية، والإجماع السكوتي يكون حجةً ظنية، كما قرر المحققون كـشيخ الإسلام وأمثاله. إذا تحقق أن ترك الصلاة كفر عند الجمهور من أهل الحديث، وأنه ظاهر الكتاب والسنة، وظاهر مذهب الصحابة، فيبقى أن القول الآخر قاله طائفة من أهل العلم المعتبرين ولا يصح أن يكون هذا القول بدعةً وضلالاً، ومعلوم أن الزهري أعلم بآثار الصحابة وبإجماع أهل الحديث من عبد الله بن شقيق ، وإن كان ابن شقيق أقرب حالاً منه من جهة الزمن والتاريخ، ولكن لو كان في المسألة إجماع لما خفي على الزهري وأمثاله.

الفرق بين الجمهور وبين المرجئة في عدم تكفير تارك الصلاة من جهة الاستدلال
وهنا مسألة: وهي أن من لم يكفر تارك الصلاة على قسمين: منهم من لم يكفر تارك الصلاة، لكون الدلائل عنده لم تقم على كفره، ومنهم من لم يكفر تارك الصلاة لكونه لا يرى أن العمل يدخل في مسمى الإيمان، كما هي طريقة مرجئة الفقهاء، وهذا فرق معتبر، فمن جعل تارك الصلاة غير كافر لعدم ثبوت الدلائل الموجبة لكفره عنده، فهذا قول مأثور ولا يجوز تسميته بدعة، وإن كان مرجوحاً. وأما من جعل تارك الصلاة ليس كافراً، وموجب ذلك عنده أن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان، والصلاة من آحاده، فلا شك أن هذا الموجب بدعة، بإجماع السلف، وبهذا كان يُعلِل طوائف من المرجئة أن ترك الصلاة ليس كفراً، ولكن لا يجوز بحال أن يقال: إن من لم يكفر تارك الصلاة، فقد دخل عليه قول المرجئة، أو أنه تأثر بهم، أو أخذ بلوازم أقوالهم، أو غير ذلك من الإطلاقات والأقوال التي ليس عليها تحقيق. وكيف يقال عن الزهري وأمثاله: إنه على مثل هذا الوجه، مع أن الزهري من أشد الناس كلاماً في الإرجاء وذمه، بل إنه لما ذكر أحاديث فضل التوحيد كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عثمان في الصحيح: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة) ، وأمثاله من الأدلة التي قال عليه الصلاة والسلام فيها: إن الكلمتين أو إن الشهادة توجب دخول الجنة كان جوابه عن هذه الأحاديث: إنها أحاديث قالها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل نزول الفرائض. وكل هذا يريد به الزهري رحمه الله المباعدة عن مذهب المرجئة، وإلا فلا شك أن التوجيه لهذه الأحاديث ليس كذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث بهذه الأحاديث في المدينة النبوية، بعد نزول الفرائض، فجوابه ليس محكماً، ولكنه يُذكر ليعرف به أن الزهري كان من أبعد الناس عن الإرجاء، ومن أكثرهم ذماً له، حتى قال في هذا النوع من الأحاديث والآثار ما قال بموجب المباعدة عن الإرجاء وأهله.

حكم تارك المباني الأربعة
المأثور عن الأئمة في المباني الأربعة من الخلاف في كون تركها كفراً أو ليس كفراً هو باعتبار آحادها، فمن لم يكفر تارك الصلاة، لم يلزم من ذلك أنه يرى أن من جمع ترك الصلاة مع الزكاة مع الصوم مع الحج، لا يكون عنده كافراً. فمن حكى عن الشافعي أو مالك أن من ترك المباني الأربعة مجتمعة لا يكون كافراً، ومعتبره في ذلك أن مالكاً و الشافعي لا يكفرون تارك الصلاة؛ فقد غلط، فإن حكم الواحد يختلف عن حكم المجموع، وبإجماع العقلاء وأهل الحقيقة الشرعية، أن من ترك الصلاة وحدها في الإثم والغلط ليس كمن تركها وجمع مع ذلك ترك الزكاة والصوم والحج، فإن هذه حال مختلفة، ويعلم بهذا التنازع في آحاد المباني الأربعة غلط من يقول: بأن من ترك المباني الأربعة مجتمعة لا يكون كافراً بإجماع السلف، فإن هذا الإجماع ما قاله أحدٌ من السلف البتة. ومن كفر تارك الصلاة وهم الجماهير من أهل الحديث، فلا بد أنهم يكفرون تارك المباني الأربعة مجتمعة، ويكون القول بأن ترك المباني الأربعة مجتمعة كفر، هو قول الجماهير من أهل السنة والحديث على أقل تقدير، والقول الآخر لو صح -ولا أقول: إنه مأثور عن السلف- وهو أن ترك المباني الأربعة مجتمعة ليس كفراً؛ لكان أحد القولين للمتقدمين، ولكان قول الجماهير على خلافه. فعلى هذا: فقول من يقول بأن من ترك العمل كله، أو بما يعبر عنه بجنس العمل، فإنه في مذهب السلف لا يكون كافراً؛ هذا لا شك أنه ممتنع من حيث النقل المجرد، وإلا فلا شك أن الصواب أن ترك المباني الأربعة مجتمعة مع أصول الشرائع كفر بإجماع السلف. وقد كان السلف يعدون القول بعدم تكفير تارك المباني الأربعة مع أصول الشرائع من مقالات المرجئة، قال إسحاق كما ثبت عنه بسند صحيح عند الخلال وغيره: (غلت المرجئة حتى كان من قولهم: إن من ترك الصلاة والزكاة والصوم والحج وعامة الفرائض من غير جحود لها لا نكفره إذ هو مقر) ومن فقه إسحاق أنه ما ذكر مسألة المستحبات. والإشكال عندهم أنهم يقولون: كيف نكفره وهو مقر في الباطن مؤمن، والجواب: أنه إذا كفر ظاهراً في نفس الأمر، لزم أن يكون في الباطن كافراً. قال إسحاق : (فهؤلاء الذين لا شك عندي أنهم مرجئة)، ويقارب قوله قول لـسفيان بن عيينة رحمه الله، وقد حكى الآجري و أبو عبد الله بن بطة ، والإمام ابن تيمية الإجماع على هذا المعنى، وهو: أن من هجر أصول الشرائع فما ركع لله ركعة ولا سجد له سجدة، ولا صام يوماً ولا أتى البيت ولا طاف طوافاً، وهجر أصول الشرائع الواجبة مع وجود الإرادة والقدرة، أن هذا لا يكون إلا عن كفرٍ في الباطن، وهذا ما صرح به شيخ الإسلام رحمه الله. وأما المنازع في أحد المباني الأربعة فما كان السلف يعدونه مرجئاً، ولا عليه أثر الإرجاء كانت المنازعة معروفة، والصحيح من مذاهبهم، وهو المحقق في مذهب الإمام أحمد رحمه الله، أن العبد لا يكفر بترك واحد من المباني الأربعة إلا الصلاة، وأما غيرها كالزكاة والصوم والحج، فضلاً عما دونها من الواجبات والشرائع، فلا شك أن تركها ليس كفراً.

الحكم بغير ما أنزل الله وحكمه
ويذكر كثير من أهل العلم في هذا المقام مسألة الحكم بغير ما أنزل الله، وهي مسألة طويلة، لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] فإن للسلف في هذا تفسيرين: الأول: أنه كفرٌ دون كفر، والثاني: بأنه الكفر المفارق للإيمان، فترى أن طوائف من السلف قالوا: هو كفرٌ دون كفر، وترى أن طوائف من السلف جعلوه كفر الملة المفارق للإيمان. وهذا أيضاً من الإشكالات التي يقع فيها بعض المعاصرين، فتجد من ينتصر انتصاراً مطلقاً للقول بأن هذه المسألة من باب الكفر دون كفر، ويدعي إجماع السلف على ذلك، وتجد من ينتصر للقول بأنها من الكفر الأكبر مطلقاً، وربما غلَّط سائر الروايات المأثورة عن ابن عباس وأصحابه من جهة إسنادها، أو أعلها، أو غير ذلك من الطرق التي يستعلمها من ينتصر لترجيح أن هذه المسألة من الكفر البين المخرج من الملة. والصواب: أن كلا التفسيرين مأثورٌ عن السلف، والإسناد الذي ذكره ابن جرير وغيره عن ابن عباس وإن كان فيه كلام، لكن هذا من الأقوال الشائعة المعروفة عن ابن عباس ، وقد كان الإمام أحمد و البخاري يذكرون في تفسير هذه الآية في مسائلهم وكتبهم أنه كفرٌ دون كفر، ويسندون ذلك إلى ابن عباس ، مما يدل على أنه قول شائع عند السلف ومنهم ابن عباس وأصحابه، وإذا ضعف إسناد أو تكلم في إسناد بعينه، لم يلزم أن يكون القول المأثور عن ابن عباس في سائر موارده كذلك. فالمحصل: أن كلا القولين مأثور عن السلف، وليس ذلك من اختلاف التناقض والتضاد، وإنّما من باب أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً دون كفر، وقد يكون كفراً أكبر، وذلك يرجع إلى حال المسألة وصورتها، بل ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن ما يسمى كذلك في كلام الفقهاء وغيرهم قد يكون معصيةً، وقد يكون كبيرةً، وقد يكون كفراً دون كفر، وقد يكون كفراً مخرجاً من الملة، مع أن سائر هذه الصور الأربع تسمى حكماً بغير ما أنزل الله. وبيان ذلك: أن القاضي لو قضى في رجل وجب عليه حد السرقة بقطع يده، فلم يَقطع يده وإنما اكتفى بجلده لموجب عرض له، فإن مثل هذا عند السلف ليس هو الكفر المخرج من الملة، بل يكون هذا من الكبائر ونحو ذلك، وبعض الصور قد تكون فوق ذلك. فهذه مسألة من الفقه لا يستعجل فيها، ولا ينبغي أن يخفض فيها ولا يرفع الناظر المبتدئ من طلبة العلم بحكمٍ قولي فضلاً عن حكم فعلي، بأن يتقحم شيئاً من الأفعال بناءً على قاعدةٍ أو نظرٍ رآه في كون هذا من الكفر المخرج من الملة، فإن الأصل في المسلمين هو الإسلام، ومن أظهر الإسلام وأظهر أصول الشرائع كالأذان والإِقامة والنّسك إلى بيت الله سبحانه وتعالى ونحو ذلك؛ فإن هؤلاء لا يزالون على الإسلام، ولا يصح أن يتقحّم عليهم بحال إلا إذا تحقق كفرهم بمقتضيات الشريعة ولوازمها على ما يعلمه من آتاه الله علماً وفقهاً في شرع الله سبحانه وتعالى.

أصل الإيمان في القلب
من المسائل أيضاً: مسألة قد يتردد فيها البعض من المتأخرين، وربما أطلق البعض أنها من أثر الإرجاء، وليست كذلك، وهي أن من أصول السلف أن أصل الإيمان في القلب، وهذا باتفاق السلف، وهو يرجع إلى مسألة التلازم بين الظاهر والباطن. وإذا قيل أصل الإيمان في القلب، فمعنى هذا أن العمل الظاهر من حيث هو ليس إيماناً، وإن كان إذا فعله العبد مجرداً عن التصديق في الباطن قد يحصل به نجاته في مسألة الأحكام الدنيوية، ولهذا كان المنافقون يصلون ويظهرون بعض الشرائع، فكان ذلك موجباً لحقن دمائهم ونحو ذلك. ولهذا قال شيخ الإسلام : (والمنافقون زمن النبوة مع أنهم كفارٌ في الباطن، كان الأصل فيهم تحريم الدماء، وكانوا يتوارثون مع المسلمين، إلى غير ذلك من الأحكام)؛ فالأعمال الظاهرة مبنية على الباطن، وعليه فيقال: إن الإيمان أصله في القلب. وهذا صريح في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال الله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] ، وللسلف في هذا قولان: فمنهم من قال: إنهم قالوا: (آمنا)، فنهاهم سبحانه وقال: (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا): أي استسلمنا خوف القتل، وكان البخاري وطائفة يذهبون إلى أن هؤلاء الأعراب من أهل النفاق، وأنهم استسلموا خوف القتل، فمنع الله سبحانه وتعالى أن يقولوا: (آمنا) وقال: (قُولُوا أَسْلَمْنَا)؛ لأن لفظ الإسلام إذا أطلق يدخل فيه المنافق. ولكن الجماهير من السلف يقولون: إن هؤلاء الأعراب من أهل الإيمان، أي: أن معهم أصل الإيمان، وأنهم مسلمون ظاهراً وباطناً وليسوا منافقين، لكن الإيمان لا يضاف إلا لمن استقامت حاله ظاهراً وباطناً على الإطلاق، ولهذا قال النبي لـسعد : (أو مسلم)، عندما كان يقول: (أعط فلاناً فإنه مؤمن)، مع أن معه أصل الإيمان.

الفرق بين الإيمان والإسلام
وعن التفسير الذي ذكره البخاري رحمه الله، قال بعض الشراح كـابن حجر وغيره بأن البخاري يذهب إلى أن الإيمان والإسلام سواء، وأنه لا فرق بين الإيمان والإسلام، وهي مسألة نزاعٍ بين أهل السنة، وجمهور النزاع فيها نزاعٌ لفظي أو من نزاع التنوع، ولكن نُسب إلى البخاري و سفيان الثوري أنهم يقولون: إن الإيمان والإسلام سواء، وهذا القول لم يثبت عن الإمام البخاري رحمه الله أنه صرح به، وإنما فُهم من تبويب ذكره في صحيحه، فإنه قال: (باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، وكان على الاستسلام خوف القتل) وذكر قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات:14] ، وذكر حديث سعد : (أعط فلاناً فإنه مؤمن، فقال النبي: أو مسلم) ، قال: فإذا كان على الحقيقة فهو قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، ففهم من ترجمته رحمه الله، أنه يرى أن الإيمان والإسلام سواء، وكذلك فهم من تفسيره. ولا شك أن الأمر ليس كذلك، فلم يعرف عن أحدٍ من السلف أنه سوى بين الإيمان والإسلام، والدلالة الشرعية بينة في أن منزلة الإيمان أعظم من منزلة الإسلام، بل إن ابن كثير والسمعاني وجماعة ذكروا إجماع أهل السنة على أن الإيمان والإسلام ليسا على درجةٍ واحدة، بل درجة الإيمان أخص، بل ذكر ابن كثير أن التسوية بينهما هي من أقوال المعتزلة. وعلى كل حال فعامة السلف على أن الإيمان والإسلام ليسا على درجة واحدة، بل الإيمان أخص وأولى، وإن كان كل ما كان إسلاماً صحيحاً، فلا بد أنه معه إيمان، وأما إظهار الإسلام الذي يعرض لبعض المنافقين، فلا شك أنه متجردٌ عن الإيمان.

شرح العقيدة الطحاوية [20]
من المسائل التي حصل فيها خلاف كبير بين الطوائف المنتسبة للإسلام: مسألة الإيمان، فقد تكلمت فيها كثير من الطوائف بكلام مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وهدى الله أهل السنة والجماعة إلى القول الحق في هذه المسألة، فقالوا: إن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأهله فيه متفاضلون. وأهل السنة مع ذلك لا يتسرعون في الحكم على المخالف لمجرد مخالفته؛ بل إن هناك أصولاً وقواعد يسيرون عليها عند حكمهم على أهل البدع والمقالات المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.
قواعد الحكم على المقالات البدعية
هناك قواعد في الحكم على المقالات البدعية التي ابتدعها من ابتدعها من المخالفين لإجماع السلف، فعند النظر في هذه المقالات وأربابها ينبغي أن تُعتبر بعض القواعد. ......
القاعدة الأولى: لا يلزم من كون المقالة كفراً أن يكفر قائلها
فمن القواعد في ذلك: أن كون المقالة كفراً لا يلزم منه أن يكون القائل كافراً، وهذه الجملة قد حكى شيخ الإسلام رحمه الله الإجماع عليها، كما في بعض رسائله، ولكن يقع في فقهها بعض الغلط، حتى تجد بعض من يتكلم من طلاب العلم، فيقول: كان السلف لا يكفرون الأعيان. ولا شك أن هذا غلط، فإن القول إذا قيل: إنه كفر، فمعناه أن الأصل فيمن قاله أن يكون كافراً، وإنما امتنع كفره لمانع، وعليه فمن رتب على هذه الجملة المجمع عليها أن السلف كانوا لا يكفرون الأعيان فقد غلط، بل لا شك أن من ثبت كفره لزم أن يسمى كافراً، ومعلوم أن المسلمين يكفرون اليهود والنصارى وأمثالهم من أهل الشرك والكفر والإلحاد. وأما أهل القبلة الذين قالوا مقالات كفرية، كمقالات من قال في الصفات وغيرها؛ فإن هذا المقالات تسمى كفراً، ولكن القائل بها لما كان مظهراً للصلاة والشعائر الظاهرة لا يكفر إلا إذا علم أن الحجة قد قامت عليه؛ لأنه إذا أصر فإن كفره لا يكون إلا عن نفاق في الظاهر، ويكون في الباطن كافراً، وعليه: فإن الأقوال تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: من المقالات ما يعلم أنها كفر ابتداءً، كمن قال: إن الله لا يعلم ما سيكون، تعالى الله عن ذلك، فهذا قول لا يقوله إلا كافر، وكمن سب الله وسب رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا لا يكون إلا كافراً. القسم الثاني: كالقول بخلق القرآن، وإنكار الرؤية، فهي كفرٌ في نفس الأمر، لكن قائلها لا يكون كافراً إلا إذا علم أن الحجة قامت عليه.
القاعدة الثانية: الذي يُكفَّر من أهل الشرائع الظاهرة لا يكون إلا منافقاً
ومن القواعد التي وذكرها شيخ الإسلام أن قال: إن الواحد من أهل الصلاة لا يكون كافراً في نفس الأمر إلا إذا كان ما يظهره من الصلاة ونحوها على جهة النفاق، وهذا يرجع إلى التقسيم المذكور في القرآن، من أن الناس إما منافق، وإما مؤمن ظاهراً وباطناً، وإما كافر ظاهراً وباطناً، قال: (فإذا كُفّر أحد أعيان أهل البدع المظهرين للصلاة ونحوها، فإن هذا لا بد أن يكون منافقاً، قال: ولهذا كان بعض أئمة السنة المتقدمين، إذا كفروا واحداً من هؤلاء سموه زنديقاً، والزنديق هو المنافق في لسان الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وإن كان اسم الزنديق استعمل فيما هو أوسع من ذلك، كمن صرح بالردة والإلحاد وأظهر ذلك، فإن مثل هذا يسمى في كلام الفقهاء زنديقاً، ولهذا اختلفوا في قبول توبته وعدمه).
القاعدة الثالثة: في بيان من هو المعذور بالخطأ
أما القاعدة الثالثة: فهي ما ذكره شيخ الإسلام في في أكثر من موضع، ومنها في درء التعارض: أن كل من أراد الحق واجتهد في طلبه من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخطأه فإن خطأه مغفورٌ له، وهذه لها ثلاثة شروط: الشرط الأول: أن يريد الحق: فمن لم يرد الحق في هذه الأبواب -كأبواب الصفات- وإنما أراد الباطل؛ فإنه يكون كافراً. الشرط الثاني: أن يجتهد في طلبه: أي في تحصيله، فمن عدم الاجتهاد وإنما قال بالخرص والظن فإنه لا يعذر. الشرط الثالث: أن يطلب الحق من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم: فمن طلب الحق من جهة غيره، كاليهود والنصارى وأمثالهم لم يعذر، فمن الأحبار والرهبان من يزعمون أنهم يطلبون الحق، ولكن طلبهم للحق واقع من غير جهته صلى الله عليه وسلم، فلا يعتبر طلبه وإرادته. قال شيخ الإسلام : (وأهل البدع من أهل القبلة في الجملة هم مريدون للحق مجتهدون في طلبه من جهة الرسول، ولكنهم في هذه المقامات الثلاثة مقصرون: فإنهم في مقام الإرادة يعرض لهم من الانتصار لأقوالهم وأقوال أئمتهم ما ينقص مقام الإرادة. وفي مقام الاجتهاد يعرض لهم من الاشتغال بالطرق العقلية وأمثالها ما ينقص مقام الاجتهاد. وفي مقام الاتباع للرسول صلى الله عليه وسلم يعرض لهم من الموجبات الكلامية وغيرها ما يؤخر مقام الاستدلال عندهم بكلام الله ورسوله. قال: فمن صاحبه حال من التقصير فهو من الظالمين لأنفسهم، وهذه حال عامة أهل البدع، وإن كان يقع فيهم من هو من الزنادقة الكفار، وإن كانوا في الظاهر مسلمين، وهذا يقع في بعض أهل البدع من الجهمية وغيرهم، قال: وقد كفّر السلف بعض أعيانهم، ولا يلزم أن من كان كافراً في نفس الأمر من أهل البدع أن يكون السلف قد علموه أو قد عينوا كفره، بل قد يكون ليس معلوماً كما كان طرف وأعيان من المنافقين زمن النبوة ليسوا معلومين لجماهير الصحابة، وربما لم يشتغلوا بتعيين كفره لأنهم مشتغلون عن هذه المجادلة وهذا الخوض بتقرير الحق وغير ذلك).
القاعدة الرابعة: لا بد من مراعاة درجة المخالفة وسببها
وهي مما ينبغي الاعتناء به: وذلك أنه إذا نُظر في مقالة وقائلها فإنه يعتبر في هذه المقالة والقائل بعض المعتبرات: الأول: النظر في حال المقالة عند السلف، ودرجة مخالفة هذه المسألة لمذهب السلف. الثاني: أن ينظر في موجب هذه المقالة عند صاحبها. فمثلاً: من نفى صفة قد يشترك هو وبعض أهل البدع في نفيها، لكن موجب النفي أهل البدع شيء، وموجب النفي عنده شيء آخر، كالحال التي عرضت لـابن خزيمة وبعض أهل العلم في بعض مسائل الصفات كمسألة إثبات الصورة، فمثل هؤلاء لا يخرجون عن مسمى السنة والجماعة، وإن كان الإمام أحمد لما سُئل عن حديث: (خلق الله آدم على صورته) قالوا: يا أبا عبد الله : إن قوماً يقولون على صورة آدم أو على صورة المضروب..إلخ، قال الإمام أحمد : هذا قول الجهمية. فمع قول الإمام أحمد فيمن منع تفسير حديث الصورة بما هو معروف عن السلف أنه قول الجهمية، فلا يلزم من هذا أن يكون ابن خزيمة جهمياً، ومثله قول الإمام أحمد : من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي، ونسب للبخاري أنه يقول ذلك، وقصته مع الذهلي مشهورة، فلا يجوز بحال أن يقال: إن البخاري جهمي، فهذا كلامٌ لا يقوله إلا ساقط الفقه، وعليه أن ينفقه في هذا الباب موجبات المقالات. وإنما كان السلف يقصدون بالتجهم والكفر وأمثال ذلك من الإغلاظ، مَنْ كان موجب هذه المقالات عنده أصولاً من الغلط البين، وعلامته أن يطرد على أصوله الفاسدة، وأما من كانت حاله على السنة والجماعة في الجملة، فإنه قد يقع في كلامه من الأقوال البدعية التي تكون مخالفةً للإجماع، بل قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى في المجلد التاسع عشر: (وكثيرٌ من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، لكنهم لم يعلموا أنها من البدعة المخالفة لسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بل كانوا يظنون أنهم موافقون للسنة، فمثل هؤلاء لا شك أنهم معذورون). وحتى في مقالات الجهمية الكُفرية، يقول: (ومع هذا فهذه المقالات الكفرية تعرض لبعض أهل الإيمان فيقولها، ويكون عند الله مؤمناً ظاهراً وباطناً، ويكون قوله هذا غلطاً قد يغفره الله له).

حكم سب الله ورسوله
أحياناً تقع الإشكالات عند بعض المعاصرين في مسائل بينة، كمسألة سب الله أو سب نبيه، يكثر بعضهم من الجدل والخوض الذي لا معنى له في مسألة شرط الاعتقاد أو عدم شرط الاعتقاد، وهذا كله قدرٌ من التكلف. ومعلوم أن سب الله أو سب رسوله عليه الصلاة والسلام كفرٌ بإجماع المسلمين، ولكن من الغلط أن يُقال: إن من لم يكفّر من سب الله أو سب نبيه فهو على قول المرجئة؛ لأن المرجئة كانوا يكفرون بذلك، وقد حكى أبو المعالي الجويني -وهو من المرجئة الأشعرية- والرازي وغيرهما إجماع المسلمين على أن هذا كفر، وليس هناك أحدٌ في المسلمين يخالف ذلك. وإنما قد يقع بعض الإشكال في بعض الصور التي يتردد فيها في مسألة ثبوت العلم عند القائل في كون الكلام من السب مثلاً، أو في كون هذا هو القرآن، أو نحو ذلك على صورٍ يفرضها من يفرضها في بعض أحوال الجدل أو المناظرة أو المباحثة؛ فهذه مسائل لا ينبغي كثرة شغل الناس بها؛ لأنها مسائل محكمة، ومعلومٌ أن من نطق عاقلاً فسب الله أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم؛ أنه يكون كافراً ولا بد. وأما إذا كان في حالٍ من الإغماء أو في حال من فقد العقل، أو غير ذلك من الصور التي تعرض؛ فمن البدهي في العقل والشرع أن مثل هذه الأحوال لا يؤاخذ بها العبد، فإن الكفر لا يكون إلا على قدرٍ من التكليف المصاحب لحال العبد عند وقوعه، أو عند الحكم به عليه. ......

التعبير بأن العمل شرط صحة في الإيمان
يقول البعض: إن العمل شرط صحة في الإيمان. ولا شك أنها من التعبيرات المتأخرة، وأن الأولى تركها، لأن الشرط إذا اعتبر في الاصطلاح كان خارجاً عن ماهية المشروط وإن كان ملازماً له، كأن تقول: إن من شروط الصلاة الطهارة مثلاً، فإنه من صلى بغير طهارة فلا شك أن صلاته تكون باطلة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) ، فهذا من باب هل هذا داخل في الماهية أم أنه ملازمٌ للماهية. وشيخ الإسلام أشار إلى أن هذه مسألة فيها طرف من النزاع، والصواب أن بعض الدلائل تدل على أن العمل لازم وشرط، وبعض الدلائل تدل على أن العمل داخل في الماهية، والقول بأن التعبير بالركن أولى لأن الركن داخل في الماهية، قول حسن، والأولى إذا ذكر مذهب السلف، أن تستعمل التعبيرات المأثورة عن السلف، فعند الكلام على الإيمان نترك استعمال لفظ الجنس ولفظ الركن ولفظ الشرط. ......

الفرق بين مذهب المعتزلة ومذهب السلف في الإيمان
بعد أن تقرر أن العمل أصلٌ في الإيمان، استشكل بعض الشراح الفرق بين مذهب أهل السنة والمعتزلة عند من يقول بأن العمل أصلٌ في الإيمان، فنقول: الفرق بَيِّن، وذلك من جهة أن المعتزلة فضلاً عن الخوارج، يلتزمون أن الواحد من الواجبات يكون تركه موجباً لعدم الإيمان، إما بالكفر عند الخوارج، وإما بالفسق المطلق عند المعتزلة، أما السلف فإنهم يخالفونهم في ذلك، ويجعلون الأصل في الواجبات الظاهرة أن ترك الواحد منها ليس كفراً ولا يوجب عدم الإيمان، ولم يتنازعوا في الواجبات الظاهرة إلا في المباني الأربعة على الخلاف المتقدم، فهذا هو جهة الفرق. وأما من فرق بينهما فقال: إن المعتزلة يجعلون العمل أصلاً في الإيمان، وأهل السنة أو السلف يجعلون العمل ليس أصلاً، فلا شك أن هذا غلط، وإنما الفرق باعتبار الآحاد، وأما باعتبار الأصل فإن السلف مجمعون على أن من ترك سائر العمل مطلقاً مع وجود الإرادة والقدرة فإنه يكون كافراً. ولا يعترض على هذا بأن يقال: رجل قال: لا إله إلا الله ثم مات، فإن قلتم: إنه مات مسلماً لزم أن العمل ليس أصلاً في الإيمان. ولا شك أن هذا إذا نظرته نظراً عقلياً مجرداً وجدت أنه ليس له قوة، لأنك إذا قلت: إن العمل ليس أصلاً في الإيمان، قلنا: فما حكمه؟ فإن قلت: واجب، من تركه يكون آثماً يوافي ربه بالإثم، قيل لك: فهل من قال: لا إله إلا الله ومات -على قول من يقول: إن العمل ليس أصلاً في الإيمان- يوافي ربه بالإثم؟ فالجواب: أنه لا أحد يلتزم بهذا. ويقال: العمل أصل إذا تركه مع وجود الإرادة والقدرة، أي: أنه يشترط تحقق الاستطاعة وتحقق القدرة، وهذا هو الأصل في سائر أحكام التكليف الشرعية. ......

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
وجميع, قوله

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:20 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir