دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > العقيدة الطحاوية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30 ذو القعدة 1429هـ/28-11-2008م, 02:23 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي قوله: (وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وكل شيء يجري بتقديره)

وَأَمَرَهُم بِطَاعَتِهِ، وَنَهَاهُم عن مَعْصِيَتِهِ.
وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِتَقْدِيرِهِ.


  #2  
قديم 1 ذو الحجة 1429هـ/29-11-2008م, 02:24 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التعليقات على الطحاوية لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله ابن باز


[لا يوجد تعليق للشيخ]


  #3  
قديم 1 ذو الحجة 1429هـ/29-11-2008م, 02:25 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التعليقات المختصرة للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان

(1)وَأَمَرَهُم بِطَاعَتِهِ، وَنَهَاهُم عن مَعْصِيَتِهِ.
(2)وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِتَقْدِيرِهِ.




(1) كما في قولِهِ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذَّارِيَات: 56)، خَلَقَهُم أَوَّلًا، ثم أَمَرَهُم بِعِبَادَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو سُبْحَانَهُ أَمَرَهُم بِطَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، مع أَنَّهُ يَعْلَمُ ما هم عاملونَ مِن قبلُ، ولكنَّ الجزاءَ لا يَتَرَتَّبُ على العلمِ، وَإِنَّمَا الجزاءُ يَتَرَتَّبُ على العملِ، فاللَّهُ لا يُعَذِّبُ العبدَ بِحَسَبِ العِلْمِ إِلَّا إذا وَقَعَ منهُ الذنبُ، ولا يُكْرِمُ المُحْسِنَ حتى يَقَعَ منه الفعلُ، فالجزاءُ مُرَتَّبٌ على العملِ، لا على العلمِ, ولا على القَدَرِ، فَفَرْقٌ بين العلمِ وبينَ الجزاءِ، ولذلكَ أَمَرَهُم اللَّهُ ونَهَاهُم، فمن أطاعَ الأوامرَ وَتَرَكَ النواهيَ حصلَ على الثوابِ، ومَن خالفَ الأوامرَ وَارْتَكَبَ النَّوَاهِيَ حصَلَ على العقابِ بِأَفْعَالِهِ هو, لا بأفعالِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فالعبدُ هو المُصَلِّي والمُزَكِّي والحاجُّ والمجاهدُ، فالأعمالُ تُنْسَبُ إليهِ لا إلى اللَّهِ، إِلَّا من جهةِ الخلقِ والعلمِ والتقديرِ والتوفيقِ.

(2)لا شكَّ أنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِتَقْدِيرِهِ لا يَخْرُجُ عن تقديرِ اللَّهِ من الخيرِ والشرِّ، والطاعةِ والمعصيةِ، والكفرِ والإيمانِ، والمرضِ والصحَّةِ، والغنَى والفقرِ، والعلمِ والجهلِ، كُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِتَقْدِيرِهِ، وليسَ في مُلْكِهِ شَيْءٌ لم يُقَدِّرْهُ ولا يُرِيدُهُ.


  #4  
قديم 4 ذو الحجة 1429هـ/2-12-2008م, 12:22 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي

قوله: ( وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته ).

ش: ذكر الشيخ الأمر والنهي، بعد ذكره الخلق والقدر، إشارة إلى أن الله تعالى خلق الخلق لعبادته، كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، وقال تعالى: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً}.

قوله: ( وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد، إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن )

ش: قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} وقال: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ}. وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}. وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} وقال تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّد فِي السَّمَاء}. وقال تعالى حكاية [عن] نوح عليه السلام إذ قال لقومه: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ‏}. وقال تعالى: {مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. إلى غير ذلك من الأدلة على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وكيف [يكون] في ملكه ما لا يشاء ! ومن أضل سبيلاً وأكفر ممن يزعم أن الله شاء الإيمان من الكافر والكافر شاء الكفر فغلبت مشيئة الكافر مشيئة الله!!
تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
فإن قيل: يشكل على هذا قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا}، الآية. وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}، الآية. وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}. فقد ذمهم الله تعالى حيث جعلوا الشرك كائناً منهم بمشيئة الله، وكذلك ذم إبليس حيث أضاف الإغواء إلى الله تعالى، إذ قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}.
قيل: قد أجيب على هذا بأجوبة، من أحسنها: أنه أنكر عليهم ذلك لأنهم احتجوا بمشيئته على رضاه ومحبته، وقالوا: لو [كره] ذلك وسخطه لما شاءه، فجعلوا مشيئته دليل رضاه، فرد الله عليهم ذلك. أو أنه أنكر عليهم اعتقادهم أن مشيئة الله دليل على أمره به. أو أنه أنكر عليهم معارضته شرعه وأمره الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه بقضائه وقدره، فجعلوا المشيئة العامة دافعة للأمر، فلم يذكروا المشيئة على جهة التوحيد، وإنما ذكروها معارضين بها لأمره، دافعين بها لشرعه، كفعل الزنادقة، والجهال إذا أمروا أو نهوا احتجوا بالقدر. وقد احتج سارق على عمر رضي الله عنه بالقدر، فقال: وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره. يشهد لذلك قوله تعالى في الآية: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}. فعلم أن مرادهم التكذيب، فهو من قبل الفعل، من أين له أن الله لم يقدره ؟ أطلع الغيب ؟
فإن قيل: فما يقولون في احتجاج آدم على موسى عليهما السلام بالقدر، اذ قال له: أتلومني على أمر قد كتبه الله علي قبل أن أخلق بأربعين عاماً ؟ وشهد النبي صلى الله عليه وسلم أن آدم حج موسى، أي: غلب عليه بالحجة؟
قيل: تتلقاه بالقبول والسمع والطاعة، لصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تتلقاه بالرد والتكذيب لراوية، كما فعلت القدرية، ولا بالتأويلات الباردة. بل الصحيح أن آدم لم يحتج بالقضاء والقدر على الذنب، وهو كان أعلم بربه وذنبه، بل آحاد بنيه من المؤمنين لا يحتج بالقدر، فإنه باطل. وموسى عليه السلام كان أعلم بأبيه وبذنبه [من] أن يلوم آدم على ذنب قد تاب منه وتاب الله عليه واجتباه وهداه، وإنما وقع اللوم على المصيبة التي أخرجت أولاده من الجنة، فاحتج آدم بالقدر على المصيبة، لا على الخطيئة، فان القدر يحتج به عند المصائب، لا عند المعائب. وهذا المعنى أحسن ما قيل في الحديث. فما قدر من المصائب يجب الاستسلام له، فإنه من تمام الرضى بالله ربا، وأما الذنوب فليس للعبد أن يذنب، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب. فيتوب من المعائب، ويصبرعلى المصائب. قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}. وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا }.
وأما قول إبليس: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي}، انما ذم على احتجاجه بالقدر، لا على اعترافه بالمقدر وإثباته له. ألم تسمع قول نوح عليه السلام: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِيَ إِنْ أَرَدْتّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. ولقد أحسن القائل:

فما شئت كان [و] إن لم أشأ = وما شئت إن لم تشأ لم يكن
وعن وهب بن منبه، أنه قال: نظرت في القدر فتحيرت، ثم نظرت فيه فتحيرت، ووجدت أعلم الناس بالقدر أكفهم عنه، وأجهل الناس بالقدر أنطقهم به.


  #5  
قديم 4 ذو الحجة 1429هـ/2-12-2008م, 12:54 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح العقيدة الطحاوية لمعالي الشيخ: صالح بن عبد العزيز آل الشيخ (مفرغ)

وقوله: "كل شيء" هذا عموم، لا يخرج منه شيء، والأشياء كما فسرناها لكم قبل ذلك جمع شيء، والشيء ما يصح أن يُعلم.

الشيخ:... نافذ فيهم، ومع ذلك أمرهم سبحانه بطاعته، ونهاهم عن معصيته جل وعلا، وهذا الأمر بالطاعة، والنهي عن المعصية أراد منه مخالفة المعتزلة في أن الأمر بالطاعات، والنهي عن المعاصي أنه جاء عقلياً، وليس شرعياً، ولكن الحق أنه إنما جاء في الشرع، لا في العقل.
لبسط هذه المسائل تفصيل، يأتينا إِنْ شَاءَ اللَّهُ في موضعه، هذه كلها (اللي) قدمناها من أول العقيدة إلى الآن وإلى الآن، وإلى قوله: وإن محمداً عبده المصطفى. هذه كلها مقدمات ما دخلنا في تفصيل الكلام على معتقد أهل السنة والجماعة في مواضعه، لذلك أن أرجئ الكلام على تفصيلات القدر ومسائله في موضعه؛ حتى يكون لك في مكانه مجتمعاً غير ما ذكرناه في هذا الموضع. نقف عند هذا. [كلام ليس له فائدة علمية] وفقكم الله.

فيه كثير من الإخوة سألني في مسائل (اللي) كنا تكلمنا عنها الأسبوع الماضي، مثل مسألة التسلسل، والتسلسل الماضي، والمستقبل، وحلول الحوادث، وكلام الشارح أيضاً في هذا الموطن، والمسألة هذه شائكة، لكن ما ذكرته لك هو الحد الأدنى لفهمها، فينبغي ألا تكثر من الخوض فيها؛ لأنها عَسِرةٌ بعض الشيء.

سؤال: يقول: ما أفضل كتاب تكلم عن القدر وتعريفه ومراتبه، وجميع ما يتصل به؟
جواب: أفضل كتاب، كتاب شفاء العليل لابن القيم، شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر، والحكمة والتعليل، ومن الكتب المعاصرة كتاب القدر للدكتور عبد الرحمن المحمود، كتاب قرَّب فيه المسألة لطالب العلم، فهو كتاب نافع في هذا الباب جداً.

سؤال: ألا نستفيد من قوله سبحانه: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} ألا نستفيد من تغيير الأجل لقوله سبحانه: {يَمْحُوا}؟
جواب: لا، {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} يعني فيما في صحف الملائكة، أما الآجال فهي ثابتة، ((لا يرد القدر إلا الدعاء))، هذا جاء في الحديث الذي رواه الحاكم وغيره وهو حديث صحيح.

سؤال: ذكرتم في الدرس السابق: أن الخلق في اللغة يشمل مراتب، منها التقدير، فأرجو إيضاح هذه المرتبة بتفصيل أكثر.
جواب: لعلك ترجع إليها؛ لأنه يحتاج إلى تفصيل.

سؤال: ذكرتم في الدرس السابق: أن صفات الله تعالى متلازمة، وله الكمال المطلق، ما معنى قولك: متلازمه؟ وهل تجوز هذه العبارة: إن الله على ما يشاء قدير؟
جواب: أما كون الصفات متلازمة فنعم، الصفات بعضها ملازم للآخر، أو الصفة تدل على الصفة الأخرى بالتلازم يعني: لا يُتصور أن صفة الرحمة بلا صفة الحياة، ولا يتصور أن هناك صفة قهر بلا صفة القدرة، ولا يتصور أن هناك صفة علم بلا صفة إرادة، ولا أن هناك صفة كلام بلا صفة إرادة، وملك وقوة.

إذن فصفات الله جل وعلا متلازمة، لهذا أهل العلم لما تكلموا عن الأسماء الحسنى قالوا: إن الاسم من أسماء الله الحسنى يدل على مسماه، ومعناه جميعاً، بالمطابقة، ويدل على أحدهما بالتضمن، ويدل على الصفة الأخرى، أو على الاسم الآخر باللزوم كما هو معروف في موضعه.

قال: هل تجوز هذه العبارة: إن الله على ما يشاء قدير؟ كنا ذكرنا لكم تفصيلات الكلام عليها، (على ما يشاء قدير) هذه عبارة الأشاعرة، وأشباههم؛ لأنهم علقوا القدرة؛ قدرة الله جل وعلا بما يشاؤه، وأما ما لم يشأه فعندهم أن الله جل وعلا ليس بقادر عليها، هذا كلام الأشاعرة، المعتزلة علقوا القدرة بما هو مقدور له، وما لم يكن مقدوراً له فليس بقادر عليه، يعني عندهم أن ثَم أشياء ليست بمقدورة لله جل وعلا، فليس بقادر عليها، مثل الظلم، والأصل الظلم هو غير قادر عليه، لم؟ لأنه ليس ظالماً، فليس بمقدور له جل وعلا أن يكون.. أن يظلم جل وعلا.

وعندنا أن الله جل وعلا قادر على كل شيء، ما يشاؤه وما لم يشأه، والظلم لم يشأه سبحانه، بل حرمه على نفسه ((إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)).

إذن فتعلق القدرة هذه مسائل تعلق الصفات، يعني القدرة لها متعلق، العلم له متعلق عند الطوائف جميعاً، الكلام له متعلق، الرحمة لها متعلق، وهكذا، فتعلق الصفات هذه تختلف فيها الفرق المختلفة، وهو معلوم في موضعه.

المقصود أن قول القائل: إن الله على ما يشاء قدير هذا من البدع التي لا تجوز، وقائلها ينبه على مخالفته لما جاء في الْقُرْآنِ: {إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

سؤال: هلا أوضحتم ثمرة الخلاف المرتبة (إيش؟) المرتبة الناتجة عن الاختلاف في كون الموت صفة وجودية أو عدمية.
جواب: يعني هو المقصود الكلام على أن هل الموت صفة وجودية، أو صفة عدمية، هذا متعلق بحياة الروح، والعذاب والنعيم، هذا الخلاف بين أهل السنة، وبين الفلاسفة (اللي) يقولون: إن الموت عدم، أو الموت حياة، يعني هل الموت حياة جديدة، أو هو عدم حياة وزوالها؟ الفلاسفة لهم مذهب في هذا، في أن الروح هنا الموت، موت البدن، الروح هذه تذهب إلى مكان لها، ثم تعود في جسد جديد تناسبه، فعندهم الموت عدم الحياة انتهى عندنا لا، الروح كل روح مستقلة روح المكلف هذه باقية، خلقت للقاء، فلا تنتقل من فلان إلى فلان كما هو قول الفلاسفة، ومن شابههم بعض من ينطق بهذه الكلمة، يعني: أن الموت صفة عدمية، قد لا يستحضر، أو قد لا يقول بهذا المذهب، لكن هو من أنشأ هذا الكلام، ويقول بهذا المذهب، من أن الأرواح محدودة، والأجساد متعددة، فالأرواح تنتقل فيها يعني مثلاً عندهم (طيب) نعيم الروح، كيف روح منعمة يقول: الروح تعذب بمصيرها في جسد حياته شقاء.

يعني الآن فلان مثلاً أعوذ بالله يعني ما نريد أن نقلق أسماعكم بهذا الباطل، نعوذ بالله منه، لكن ما من مسألة نتكلم عنها إلا ولها ثمرات خلاف، ما في يعني خلاف لا ثمرة له، يعني في العقيدة ما في خلاف لا ثمرة له خذها كلية.

سؤال: كيف عُرف ميل الإمام الطحاوي إلى مذهب الأشاعرة في مسألة اتصاف الله بصفاته؟
جواب: لا ما هو مسألة الصفات، مسألة التسلسل.

سؤال: هل يصح أن يقال: إن العلم بالله جل وعلا لا يكون إلا بالعلم النظري لا الضروري؟
جواب: يعني يصح مع أحد الاعتبارات، لكنه قد يصل العبد إلى أن يكون علمه بالله ضرورياً، لا يحتاج معه إلى استدلال، (خلاص) صار واضحاً عنده بحيث إنه لا يحتاج منه إلى نظر، نظر واستقر الإيمان في قلبه، واتضح له حتى صار عنده وجود الحق جل وعلا ضرورة لا يحتاج إلى استدلال {أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}؛ لأنه أصبح ضرورياً، لأن الضروري هو ما لا يحتاج له إلى استدلال. والنظري ما يحتاج في إثباته إلى نظر واستدلال.

سؤال: ذكرت أن الروح له صفة البقاء، فكيف نوفق بين هذا وبين المراد من المستثنى عند قوله تعالى: {إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ} وهل معنى هذا أن أرواح غيرهم ميتة؟
جواب: لا، مالها علاقة إلا من شاء الله في الاستثناء، يعني أرواح الشهداء، أو أشباه ذلك، الأرواح لا يحلها الموت في الصور، تجتمع في الصور فينفخ فيه فتعود إلى أجسامها.

سؤال: هل الموت مرض أو عين، أو عرض يقلبه الله عيناً؟
جواب: لا، الموت صفة و إذا سميت الصفات أعراضا فلا بأس الموت حياة جديدة، حالة فيها حياة جديدة، يعني سمي الانتقال من الحياة الدنيا إلى الحياة البرزخية سُمي موتاً، هو انتقال إلى حياة جديدة {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وكذلك كل مؤمن حي عند ربه يرزق.

سؤال: هل الموت عرض أو عين، أو عرض يقلبه الله عيناً؟
جواب: في الآخرة يؤتى بالموت على صفة كبش، فيكون قد قُلب إلى عين.

سؤال: هل لابد أن يكون لله مخلوقات ليوصف بالخلق، أو أنه يوصف بالخلق ولو لم يخلق شيئاً أبداً؟
جواب: هذا سؤال في غير مكانه؛ لأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خالق، وله مخلوقات، ولم يزل سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خالقاً جل وعلا؛ لأن هذه صفة ملازمة له سبحانه.

سؤال: هل كان ابن حزم من أهل السنة والجماعة؟
جواب: لا، ابن حزم ليس سنيا، بل له مذهب خاص، ابن عبد الهادي وغيره يعتبرونه من الجهمية، وطائفة تعتبره من الفلاسفة، ويعني خليط، وفي العقيدة مخلط يعني ما.. لا يتبع مذهباً من المذاهب، عنده تجهم، وعنده أشعريات، وعنده فلسفة يعني مختلط، مختلط.

سؤال: ما هو الرد على من استدل بحديث: ((إن أول شيء خلقه الله القلم)) على عدم التسلسل في الماضي بالنسبة للمخلوقات؟
جواب: الأخ سألني قبل الصلاة أظنه عن ذلك، وقلت: اترك المسألة إلى وقت آخر. وحديث: ((إن أول شيء خلقه الله القلم)) هذا لفظ و واللفظ الآخر المعروف: ((إن أول ما خلق الله القلم))، أول هنا بمعنى حين، إن، إنه حين خلق الله القلم قال له: اكتب، لماذا فسرناه بهذا التفسير؟

لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص: ((قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة))، هذا التقدير هل هو راجع إلى العلم، علم الله؟ (إيش) الجواب: لا؛ لأن علم الله ما يعلق بقبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.

إذن يتعلق بالكتابة و إن كتب الله مقادير الخلائق قبل خلقها بخمسين ألف سنة، هذا الحديث: ((إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب))، وفي رواية: ((فقال له اكتب)) هنا، يعني خلق القلم فأمره بالكتابة، يعني التقدير، فكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة.

فالمراد من الحديث أن الله جل وعلا خلق القلم فأمره بكتابة المقادير فور خلقه لها، هذا الذي نفهمه مع حديث عبد الله بن عمرو بن العاص؛ لأن التقدير هناك لابد أن يكون للكتابة، والأولية هنا إن كانت أولية مطلقة قبل المخلوقات يعني وُجد قلم وليس ثم مخلوق ألبتة، فقوله هنا: ((فقال له: اكتب)) تقتضي الترتيب، خلق فقال، وهذا يعني أن هناك زمن طويل ما بين خلقه، وما بين ابتداء الكتابة، وهذا يشوش يعني على الموضوع.

إذن فهذا الحديث فهم منه منع التسلسل في الماضي كما هو معلوم، وأن أول المخلوقات القلم، وهذا عند المحققين كشيخ الإسلام، وابن القيم الذين ضموا الأحاديث في هذا الباب، وفهموها مع فهم صفات الله جل وعلا، وما دل عليها من الآيات وكلام السلف، فهموا أن القلم في هذا الحديث أوليته هنا بالنسبة إلى الكتابة، فحين خلق القلم كتب ((إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب))، أو ((فقال له: اكتب)) يعني حين خُلق القلم قيل له: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى قيام الساعة.

فالحديث ليس في أولية المخلوقات الأولية بالنسبة لغيرها، وإنما هي من جهة التقدير، والكتابة. ولهذا تنازع العلماء مع ورود هذا الحديث، تنازعوا في أول المخلوقات من هذا العالم المعلوم في الكتاب والسنة، هل أول المخلوقات من هذا العالم المعلوم العرش، أو القلم؟
والصواب أن العرش كان قبل؛ لأنه في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال عليه الصلاة والسلام: ((قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات، والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)) صار عندنا خلق للقلم، كتابة، كتابة المقادير، وجود العرش على الماء، وهذا هو الذي عقده ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ في النونية بقوله:


والناس مختلفون في القلـم الذي = كُتب القضاء به من الديـان
هل كان قبل العرش أو هو بعده = قولان عند أبي العلاء الهمذاني
والحق أن العـرش قبـل لأنـه = عند الكتابة كان ذا أركـان

والمسألة فيها بحث أطول من هذا، نرجئه إلى وقته إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وفقكم الله ونلتقي إِنْ شَاءَ اللَّهُ على خير وتقوى وصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ على نبينا محمد.

مـجـلـس آخـر

الحمد لله، وأشهد ألا إِلَهَ إِلاَ الله وحده لا شريك له، وأشهد أَن مُحَمَّداً عبد الله ورَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وصحبه وَسَلَّمَ تسليماً كثيراً، أما بعد..,

فأسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من المتقربين إليه بما يحب، ومن المخلصين له دينهم، وأن يجعلنا من أهل الدعاء المسموع، والقلب الخاشع، وألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

وقد جرت العادة أنه في ابتداء هذه الدروس أن نقدم بمقدمة نافعة في آداب المتعلم في الطلب، في طلبه للعلم، ومع مشايخه، وفي صلته بالكتب، وبالحفظ وأشباه ذلك مما يحتاجه المتعلمون.

ولا شك أن الأدب العام لطالب العلم مهم كأهمية العلم؛ لأن من لم يدرك الأدب، ولم يكن متأدباً بآداب أهل العلم فيما يأتي وفيما يذر وفي منهجه، وفي طريقته فإنه يفوته الانتفاع بالعلم كثيراً؛ لأن هناك صلة قوية متينة ما بين الأدب والعلم، أدب طالب العلم، وما بين العلم نفسه، وقد ذكروا أنه كان يحصى في مجلس أحمد رحمه الله تعالى، الإمام أحمد بن حنبل يحصى فيه عدد من الألوف، كلهم يسمعون كلامه، وكان الذين يكتبون منهم قريباً من خمسمائة، وأما الباقي فيستفيدون الأدب، والهدى والعلم، ويعني العلم العام.

وهذا ملاحظ، فإنه ليس كل من يحضر متحققاً بالعلم، متحققاً بطريقة تحصيله، ولكن لن يعدم خيراً وفائدة، وقد قال أبو الدرداء رَضِي اللهُ عَنْهُ: ((لا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين؛ متكلم عالم، أو صامت واع)) وهذا ظاهر بيِّن فيما تلاحظه؛ فإن الدنيا لا خير فيها إلا لعالم متكلم يفيد، أو صامت كاف عما لا يعنيه، واعٍ للعلم النافع الذي يُلقى إليه كما قال ربنا جل وعلا: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ
النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}.

وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً، أو ليصمت)) وهذا كما قال أبو الدرداء: لا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين صامت واعٍ، أو عالم متكلم. أو كما قال.

لهذا عرضنا فيما سبق عدداً من الآداب في صدر هذه الدروس التي ينبغي لطالب العلم أن يتعاهدها، وأن يتعلمها، ونذكر في هذه الليلة أدب طالب العالم مع مشايخه، ومعلميه، وقبل هذا نذكر بعض الكتب التي عنيت بذكر آداب طالب العلم بعامة، ومع المشايخ بخاصة، فمن ذلك كتاب ابن عبد البر (الجامع)، وكتاب الخطيب البغدادي أيضاً (الجامع) ومن ذلك كتاب ابن جماعة (تذكرة السامع والمتعلم) ومن ذلك مقدمة المجموع شرح المهذب للنووي رَحمهُ اللَّهُ، ومن ذلك أيضاً ما تفرق في كتاب (سير أعلام النبلاء) من آداب كثيرة منها ما جاء في مقدمة سنن الدارمي أيضاًً وفي عدد من الكتب التي ذُكرت فيها آداب كثيرة لطالب العلم.

وقد صنف في هذا الوقت المتأخر يعني في زماننا هذا كتبت مؤلفات كثيرة ما بين من أجاد، ومن توسط، ومن كان ضعيفاً.

والمقصود من ذلك أن يحصل طالب العلم مع العلم الأدب، ونعني بالأدب الهدي، والسمت الذي يكون عليه، ولهذا كان من الأصول العامة التي ينبغي التواصي بها أن يكون طالب العلم ذا سمت حسن، وذا هدي ودل، وقد قال بعض الصحابة رضوان الله عليهم ما كان أحد أشبه هدياً وسمتاً ودلا برَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ابن مسعود، وقال بعض أصحاب ابن مسعود: ما كان أحد أشبه سمتاً بابن مسعود من الربيع ابن خثيم.

وهكذا في أمثلة كثيرة يكون المتعلم يأخذ مع العلم الهدي والسمت والأدب؛ لأن هذه لا يحصلها المتعلم بالقراءة من الكتب، ولا يحصلها بالاطلاع، ولا يحصلها بكثرة السماع المجرد عن الاختلاط، ولهذا كان كثيرٌ من طلاب العلم الذين لا يخالطون المشايخ، ولا يقتربون منهم بفقدون كثيراً من الهدي والسمت والمنهج؛ لأجل عدم القرب من أهل العلم والمشايخ.

فالأصل العام أن يكون طالب العلم حريصاً على الهدي، وعلى السمت، وعلى العلم وأن يكون متأدباً بآداب المشايخ، وكلما كان المرء أصحب للمشايخ، وأقل صحبة لأقرانه كلما كان أقرب إلى العلم؛ لأن هناك صلة وثيقة ما بين إدراك العلم، والمخالطة، فإذا خالط من هو أكبر منه من أهل العلم، والمشايخ فإنه يكون هديه، وفهمه، وفكره يكون قريباً من هديهم، وعلمهم، وفكرهم، وسمتهم، ورؤيتهم للأشياء وكيف تعلموا؟ وكيف أخذوا؟ وكيف يتعاملون مع الكتب ومع الناس... إلى آخر ذلك مما يدركه من قرأ في الكتب وحدها.

ولهذا قال بعض المتقدمين، كما ذكره العسكري في بعض كتبه، وذكره غيره قال: من أعظم البلية تشيخ الصحفية، يعني الذين أخذوا العلم عن الصحف، ولم يخالطوا المشايخ؛ فإن تصدرهم يحدث بلاءً، وإن انتفع الناس بهم لكن عدم مخالطتهم لأهل العلم، وأخذهم الهدي، والدَّل والسمت من أهل العلم فإنه يفقدهم ذلك شيئاً كثيراً.

لهذا في هذا الدرس الموجز كمقدمة لهذه الدروس نعرض لبعض آداب طالب العلم مع المتعلم، ومع شيخه؛ وذلك إكمالاً لجملة آداب عرضنا لها فيما مضى في صدر هذه الدروس:

أول الأدب مع المشايخ والمعلمين أن يكون الطالب حسن الظن بشيخه في العلم الذي يتعلمه منه، وهذا يعني أنه ينتقي لنفسه من يحسن العلم الذي يعلمه، معلوم أن أهل العلم لا يدركون كل العلوم، فليس من شرط العالم، أو الشيخ الذي يعلم أن يكون متصدراً في كل فن، وفي كل علم، هذا قل من يؤتاه، ولكن المهم أنه إذا تكلم في علم من العلوم أجاده، يحسن تقرير العقيدة، يحسن تقرير الفقه، يحسن تقرير الحديث، ويحسن تقرير التفسير، الأصول، النحو... إلى آخر العلوم.

فتأخذ العلم ممن يحسن تقريره، وهذا إذا تحريت، وأقلبت على العالم عالماً بمنزلته في العلم الذي يعلمه فإن الذي ينبغي عليك أن تحسن الظن به فيما يقول، يعني: أن تأخذ ما يقول أخذ المستفيد، لا أخذ المعترض، وهذا كتقعيد عام ينفع في حسن التلقي؛ وقبول العلم، واستقرار العلم في الصدر؛ لأن من المتعلمين من يحضر عند شيخ مثلاً، وهذا المعلم أو الشيخ إذا تكلم تجد أن المتعلم يورد الاعتراضات على هذا الشيخ وهو يتكلم، يورد الاعتراضات فيما بينه وبين نفسه، فتجد أن هذه الاعتراضات التي يوردها على كلامه تفوته ربط الكلام بعضه ببعض، وتفوته أيضاً الاستفادة من الشيخ، والمعلم فيما يقول.
وفيما يقرر لهذا:
أولاً انتقاء المشايخ، وأن تنتقي العالم الذي يحسن تقرير العلم الذي يدرسه كلٌ في مجاله، وإذا اخترت فتحسن الظن به في أن الأصل فيما يقوله هو الصواب في هذا العلم، وألا تكثر الاعتراضات عليه فيما يقول، وفيما يقرر.
الثاني من الآداب أن يكون طالب العلم متأدبا مع شيخه في لفظه، وفي جلسته، وفي فعله، وهذا أخذه أهل العلم من قصة جبريل مع المصطفى عليه الصلاة والسلام في الحديث المشهور المعروف؛ وهو أن جبريل لما أتي النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام في صورة رجل جاء إليه متعلماً، فأقبل على النَّبِيِّ عليه والصلاة والسلام، وثنى ركبتيه بين يديه، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، وجعل يديه على فخذيه، فهذا أدب الجلسة بين يدي المتعلم،
وهذا الأدب يفيد فوائد منها:
أولاً: أن يتعلم طالب العلم الصبر في التعلم.
والثاني: أن يكون هذا داعياً لإقبال الشيخ على المتعلم بالإجابة؛ لأن للمشايخ حب ورغبة فيمن يكون متأدبا في كلام معهم؛ لأنه من سنن أهل العلم المتوارثة أن العلم إنما يكون في المتأدبين، ابن عباس رَضِي اللهُ عَنْهُما أمسك بذمام ناقة زيد بن ثابت فقالوا له: هذا وأنت ابن عم رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: هكذا أُمرنا أن نفعل بعلمائنا.

وقد جاء في بعض الآثار أن من السنة توقير العالم، وهذا له شواهده العلمية من هدي الصحابة رضوان الله عليهم.
فإذن الجلسة أمام العالم لها أثر، والتكلم معه في طريقته له أثر على المتعلم، وعلى العالم جميعاً، أما أثره على المتعلم فهو أن يوطن نفسه على احترام العلم وأهله، وإذا احترم العالم الذي يكون أمامه فإنه سيحترم العلماء الأولين، وكم رأينا من ذوي فظاظة وغلظة على العلماء الحاضرين، فصاروا ذوي فظاظة وغلظة على العلماء العابرين السابقين، والأمر من جهة ما يقر في نفس المتعلم واحد، فإذا تعلم الأدب فإنه في اللفظ، فإنه يكون متأدباً في العلم وحمله.

كان رجلان أتيا إلى الأعمش، أحدهما صاحب حديث، والآخر ليس بصاحب حديث، فأغلظ الأعمش، وكان فيه نوع حدة على صاحب الحديث بكلام فيه غلظة، فلما انتهوا قال الآخر لصاحب الحديث في حضرة الأعمش: لو قال لي ما قال لك لم أحضر إليه أبداً. فقال الأعمش: أو يكون أحمق كمثلك يترك خيري الدنيا والآخرة لغلظتي.

إذا كان هذا تركب في نفس بعض المشايخ، أو في كلامه، أو في طريقة تعامله أن فيه غلظة فهل يترك المتعلم الأدب لأجل شدة الشيخ؟ أو لأجل تعنيفه أو نحو ذلك، هذا ليس بصحيح؛ لأن طالب العلم ما أخذ في طريق العلم إلا وهو مؤثر له على الدنيا، مؤثر له على الراحة، ومن جملة الدنيا والراحة أن يكون الكلام معه دائماً بعبارة لا تسوؤه.

ولهذا يدخل ذلك في التأدب في اللفظ، بحيث إنه إذا سأل يسأل متأدباً ينتقي أحسن العبارات، وإذا تكلم في حضرة شيخه تكلم بأحسن العبارات، وإذا أراد المعلم أو الشيخ أن يعنف، أو عنف، أو تكلم فإن ذلك الطالب يحتمله، ولا يرد عليه مقالته.

من الأدب أيضاً مع الشيخ الأدب في الأفعال، وهو ألا يرى العالم طالب العلم على هيئة لا تحسن في لباسه، أو في مشيته، أو في خفة في تصرفاته، أو في نقص في الأدب معه وهو يكلمه، فيكون معه في فعل حسن، قالوا: ومن الآداب ألا يمشي المتعلم بين يدي شيخه إلا بأمر شيخه، وأن يكون وقوراً في مماشاة المشايخ، غير مكثر للحديث، غير مكثر للحركة، وهذا لا شك له أثر على المتعلم. وعلى الشيخ فيما يفيد به المتعلم. فإذن هذه الثلاث: الأقوال، والأفعال، والجلسة، هيئة الجلوس لها أثر في إقبال المتعلم على العلم، واحترامه لأهله، وفي إقبال المعلم على إفادة المتعلم.

من الآداب وهو الأدب الثالث، أن يكون طالب العلم متأدباً مع شيخه في السؤال، عمر رَضِي اللهُ عَنْهُ كما في الصحيح أراد ابن عباس أن يسأله عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: مكثت سنة، يقول ابن عباس مكثت سنة أتحين الفرصة لأسأله، حتى إذا كان وقت قفولنا من الحج ذهب عمر إلى شجرة أراك؛ ليقضي حاجة له فانتظرته، فلما فرغ سألته فقلت له: يا أمير المؤمنين، من المرأتان اللتان تظاهرتا على رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال هما عائشة وحفصة. قال ابن عباس: يا أمير المؤمنين لقد كان هذا في نفسي سنة أريد أن أسأل عنه فما سألت هيبة لك. قال عمر له: لا تفعل ما بدا لك، فاسأل وما كان عندي من علم أخبرتك به. أو كما قال عمر رَضِي اللهُ عَنْهُ، هذا الكلام من عمر وهو الرجل المهيب من أثر أدب ابن عباس، فانفتح الباب لأجل هذا الأدب وهذه الهيبة التي كانت عند ابن عباس لعمر رَضِي اللهُ عَنْهُم أجمعين.

هذا الأدب في المخاطبة، وفي السؤال، وتحري الوقت المناسب هذا مهم جداً لطالب العلم مع شيخه لم؟ أولا: ليس كل وقت يكون بال العلم، أو بال المعلم جيداً محبذاً لإجابة السؤال، هو بشر يعتريه ما يعتري البشر، وأعظم إذا كان السؤال بالهاتف في مثل هذا الزمان، فإن المتصل لا يدري ما حال الشيخ، فقد يكون جوابه ليس تاما، وقد يكون لا يريد الجواب ونحو ذلك.

فالطالب يكون عاذراً لشيخه في كل ما يحصل منه من جهة السؤال، والجواب، وأن يكون ذا هيبة، وأن يتحرى الوقت المناسب للسؤال، فلا يسأله مثلاً وهو متعب، لا يسأله في وقت يكون من حقوقه، يعني من حقوق الشيخ مع نفسه، أو مع أهله، لا يسأله في وقت يكون يريد الانصراف؛ لأن باله يكون مشغولاً، وقد لا يحسن، أو قد لا يستحضر الجواب من كل جهة، ومراد المتعلم من السؤال أن يستفيد من شيخه، وهذا إنما يكون في حال يكون فيها الشيخ مع طلابه حسن الاستحضار، مرتاح البال، فيفيض عليهم مما عنده، أما إذا كان باله غير جيد فينبغي لطالب العلم أن يتحرى، وأن يكون محسا، أن يكون شيخه محسا بأن هذا الطالب يهابه، ويحترمه، ويحبه، فإنه يختصه، ويخصه بأشياء قد لا يفيضها على الآخرين.

وهذا ظاهر بيِّن في سيرة كثير من أهل العلم، انظر مثلاً كم نقل ابن القيم رَحمَهُ اللَّهُ عن شيخ الإسلام ابن تيمية من مسائل لم ينقلها غيره، بل كان يختصه بكلمات وبفوائد، وبعلوم لم يجعلها أو لم يعطها غيره، وكذلك أهل العلم فيما يتواردون فإنهم يختصون بعض طلابهم بأشياء، وهذا إنما كان نتيجة لحسن أدب الطالب، وحسن إظهار هيبة الشيخ، ووقت السؤال ونحو ذلك مما هو من الآداب العامة.

صيغة السؤال أيضاً مهمة، عدم الاعتراض في الجواب هذا مهم، فإذا كان مثلاً في الدرس فلا يحسن إذا أجاب الشيخ إجابة أن يعترض الطالب، بل يذهب معه، وينبهه إلى رأيه في المسألة، إذا كان هو مثلاً يعني الشيخ ترك شيئاً، أو ما استحضر الجواب، أو أخطأ، أو ذهب وهلة إلى شيء آخر ونحو ذلك من عوارض البشر فينبهه. والأصل في أهل العلم أن يكونوا رجاعين إلى الحق، فإذا استبان الصواب للشيخ من جراء كلام الطالب عنده فإنه ينبه الطلاب بعد ذلك على هذا الأمر.

فإذن نخلص من هذا إلى شيئين:

الأول: أنه لا يشترط أن يكون العالم مصيبا دائما، مفصلا للمسائل دائما قال: كنا يعني في رواية الحديث كنا إذا نشطنا أسندنا، وإذا كسلنا أرسلنا، يعني قد يكون الحديث مسنداً عند العالم فيختار أن يكون مرسلاً، فيقول مثلاً عن ابن عباس أن النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قال كذا، أو يقول الزهري: قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا، وإذا نشط أسند، وهذا يعني أن العالم قد يكون عنده الجواب مفصلاً لكن لأجل شيء في باله، أو ضيق المجلس، أو ما يعتري المرء عادة يختصر الجواب، وقد يكون ثَمَّ في الاختصار شيء من من الخلل.
الـوجـه الثـانـي: يأخذ الجواب ويعرف اجتهاد العالم، أو رأيه في هذه المسألة، أو جوابة على السؤال؛ لأن الشيخ أو العالم، أو المعلم ليس دائماً نشيطاً أن يقول كل ما عنده، فتارة يكون نشيطا، وتارة لا يكون نشيطاً، فتجد الجواب مختصراً، وأحياناً ربما كلمة واحدة.

من الآداب أيضاً، وهو الأدب الرابع: أن يكون طالب العلم مع شيخه صبوراً، والصبر يعني في التعلم، والصبر على أخلاق شيخه، والصبر على انتزاع، والفوائد منه، فهذه ثلاثة أشياء:
أما المسألة الأولى: فصبره على التعلم، في أن يكون صابراً على حضور الدرس كما قلنا إذا كان واثقاً بعلم شيخه، فلا يحكمن على شيخه، أو يزهد فيه إذا حضر درساً، أو درسين، أو ثلاثة، فهذا ربما تأتي عوارض، أو نوع الدرس يحدده، أو المتن مثلاً ما فيه مجال للتفصيل، وللإفادة فلا يكون الطالب عجلاً غير صبور في الحكم في التعامل مع شيخه، وفي الحكم عليه.
وهذا كثير عند الشباب في أنهم يستعجلون في الحكم، ولا يصبرون، خاصة مع المشايخ الكبار الذين لهم علم بالعلوم الأصلية في الشريعة، والصبر عليهم معهم يفيد الطالب كثيراً.

أما الثاني: فالصبر على الشيخ من جهة اخلاقة، وهذا قدمنا طرفاً منه ما يشير إشارة إلى أصل ذلك، وقصة موسى عليه السلام مع الخضر معلومة لديكم، وكيف أن موسى عليه السلام كما روى البخاري وغيره سئل فقيل له: من أعلم أهل الأرض؟ فقال موسى: أنا، فأوحى الله إليه: ائت عبدنا خضراً؛ فإنه أعلم منك. في القصة المعروفة، وموسى عليه السلام لما صحب الخضر لم يصبر عليه، قال في المرة الأولى له، ركبا السفينه فخرقها الخضر فقال له موسى: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا; قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} إن الأصل الصبر، المرة الثانية سأل فكرر عليه الجواب فقال الخضر لموسى: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} وهذه فيها تخويف، وفيها غلظة {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}، ثم فارق الكليم الخضر بسبب عدم الصبر، ولو صبر ووددنا أن موسى صبر لأخذ منه علماً كثيراً.

فهذا الأصل العام، وهو أن الطالب مع الشيخ يكون صبوراً، ولا يستعجل عليه في مسائل لا يحسنها الطالب، وهذا وجدناه من بعض الإخوان أنهم يستعجلون، يكون مثلاً علم قبل مخالطته لهذا العالم، أو الشيخ علم مسألتين، أو ثلاث مثلاً في مصطلح الحديث، علم حكم المرسل، أو حكم الحديث الضعيف والاستدلال به، أو نحو ذلك، أو الحديث هذا ضعيف، أو الحديث هذا ليس بصحيح، أو علم أن الراجح في المسألة كذا، فإذا خالط عالماً وابتدأ هذا بكلام ذهب ذاك، ولعدم صبره يعارضه فيقول مثلاً معترضا: هذا حديث مرسل، أليس الحديث هذا مرسلا يا شيخ، مثلاً يقول: هذا الحديث أليس حديثًا ضعيفًا ونحو ذلك، وهذا الطالب لقلة صبره، وأيضاً قلة العلم فإنه اعترض، وهذا الاعتراض الذي هو من جرَّاء عدم الصبر يسبب المفارقة، وعدم إحسان الشيخ الظن بهذا الطالب، وعدم إفادته.
ومعلوم كما قلنا أن العلوم مختلفة، وأن المشايخ مختلفون في استعدادتهم، وفي علومهم، وأيضاً الطالب قد يكون متأثراً بكلام عالم فيأخذ هذا الكلام، ويدلي به على عالم آخر فيقع منه عدم الصبر، والاستعجال.

الثالث من.. في مسائل عدم الصبر (إيش؟) (مداخلة غير مسموعة) ترك الصبر الذي يفضي إلى خسارة في اقتناص الفوائد، العلم مراتب، هناك علم هو تقرير للعلم، مثل تحضر تسمع شرح كتاب، وتقرير على متن، أو تقرير على كتاب مطوَّل، هذا علم يمكن أن يؤدى والطالب يسمع، لكن هناك فوائد لا يجدها الطالب في كتاب بسهولة، فوائد متنوعة حصَّلها الشيخ من مشايخه المتنوعين، ومن معلومات كثيرة، ومن قراءات متنوعه بضوابط، وفوائد ونحو ذلك، وهذه الفوائد، والضوابط، والنكات الرصينة هذه لا يوصلها الشيخ للطالب، لأي طالب، بل يخص بها بعض طلابه؛ لأنها من الفوائد المهمة عنده فلا يظهرها لكل أحد.

لهذا إذا صبر المتعلم على العالم فإنه يخصه بأشياء تفتح له باب العلم، بل ربما كانت الواحدة من تلك الفوائد تساوي رحلة كما يقال، لهذا ينبغي لطالب العلم أن يكون صبوراً، وأن يعلم أنه كلما طالت صحبته لشيخه، وحسن أدبه كلما طال حسن أدبه معه، وكلما كان صبره عليه أكثر كلما أعطاه من العلم، من العلم الخاص الذي قد لا يكون ثمَّ مناسبة لإبدائه لكل أحد، رأي العالم، رأي العالم في الناس، رأي العالم في الأوضاع، رأي العالم في بعض المسائل الخاصة، ونحو ذلك هذه قد لا يحسن أن تبدى في الدروس، وإنما قد يخص بها بعض الطلاب، وإنما هذا يكون لمن عنده الأدب مع الشيخ، وحسن ظن الشيخ بالطالب في أنه حافظ لكلامه مستفيد منه الأدب.

الذي يلي هذا، وهو الخامس: أن يعلم الطالب أن حضوره لمجلس الشيخ، إما في علم، أو في مجلس ليس من مجالس العلم، يعني في مجلس معتاد في بيته، أو يصحبه في رحلة أو يمشي معه في وعظ أو إلقاء دروس أو محاضرات، أو علم أو نحو ذلك، أو يصحبه في حج، أو في سفر... إلى آخره، أن يكون طالب العلم مع الشيخ متحريا للاستعداد، يعني ألا يبتدئ الكلام دون استعداد منه لذلك، بل يقتنص هذا الوقت، ولو كان ضئيلاً في أن يأتي بالأسئلة المهمة المشكلة، أو أن يتحرى الفوائد التي لا يكون المجال مفتوحاً أن يلقيها دائماً، وهذا يحتاج إلى استعداد.

ومعلوم أن كل طالب علم إذا قرأ فإن لديه مشكلات، يشكل عليه قراءة في الكتاب الفلاني، وكلام العالم، ويشكل عليه فتوى العالم، ولا يدري ما وجه هذا هذا الحديث، كيف يوجه الفتوى على كذا، والحديث فيه كيف نوجه هذا، أنت قلت مثلا مرة كذا، والسنة دلت على كذا بما توجه هذا؟ وأشباه ذلك من المشكلات التي تعترض طالب العلم في قرآته، ومن المشكلات التي تعترض طالب العلم فيما يسمع من الفتاوى والعلم، فإن هذه تحتاج منه إلى وقت مناسب للسؤال، وهذا كما ذكرت يحتاج إلى استعداد.

فإذن صلة طالب العلم بشيخه في مجلس العلم، أو في خارج مجلس العلم لا بد أن يكون على استعداد، لا يأتي المجلس هكذا عفواً، وخاصة في هذا الزمن الذي الوقت فيه أصبح أقل من القليل، فإذا أراد طالب العلم أن يستفيد من المعلم، أو من شيخه، أو من العالم فيكون مستعداً للحضور فيما يفكر به، وفيه، وفيما سيعرضه قبل حضوره، من الناس مثلاً من يظهر على باله سؤال وقت الجلوس فيلقيه وهذا غير مناسب؛ لأنه قد لا تكون أنت مفكراً في السؤال من كل جهة, فيأخذ العالم، أو الشيخ الانطباع عنك بأنك تستعجل في السؤال، وبالتالي قد لا يفتح لك، أو يفصل لك، أو يعطيك المنزلة اللائقة بعلمك، فينبغي أن يكون طالب العلم مستعداً في مخالطته للعلماء، وللمشايخ في أن يكون حذراً في الكلام، هائباً في ألا يسأل إلا بشيء يحسن السؤال عنه، لا يورد إشكالا إلا بإشكال يحسن الاستفهام عنه، وهكذا، وأما أن يحضر ويلقي أي سؤال، وأي كلام ونحو ذلك فهذا ليس مناسباً؛ لأنه قد يعطي الشيخ نظراً على طالب العلم ليس بحسن.

هذه بعض آداب عامة مع المشايخ. والأدب الذي ينبغي حفظه وتجده في الكتب التي ذكرنا بكثرة أن موالاة طالب العلم لشيخه أنها واجبة، ومعنى الموالاة يعني أن يحبه، وأن ينصره، وأن يذب عنه ونحو ذلك بما يعلمه هو، ولهذا جاء في كتب الآداب، أو في بعضها أنه يحرم الطالب من علم الشيخ إذا كان مغتاباً له، وهذه مجربة؛ لأن غيبة طالب العلم للشيخ تفقد محبته، وتفقد الاستفادة من علمه بعد ذلك، والأمور تأتي شيئاً فشيئاً؛ لأن القلب كلما كان أكثر محبة، وأكثر قبولاً لما يقال ورغبة في هذا المعلم، أو في هذا الشيخ، أو العالم، كلما كان أذب عنه، وأحفظ لعرضه، وأكف في اللسان عنه، وما علمنا أحداً من خاصة طلبة أحد من أهل العلم المتقدمين، أو المتأخرين إلا وينشرون محاسنهم.

معلوم أن العلماء، أو طلبة العلم ليسوا بأنبياء، ولا يشترط فيهم الولاية يعني أن يكونوا من كمل المؤمنين، وإنما يستفاد منهم على ما فيهم، وكلما كان العالم، أو الشيخ أكثر اتباعاً، وأكثر استقامة، وأكثر مجاهدة، وأمداً بالمعروف، ونهياً عن المنكر فهو أعلى لمقامه، لكن يؤخذ من العالم ما عنده، وألا يتبع العالم بزلته، فالعالم لا يتبع في زلته، وكذلك لا يتبع بزلته، فلا يشنع عليه بأشياء يقولها مثلاً، وتنتشر عنه، ويترك الخير الكثير الذي يقوله، فلا تتبع الناس سقطات العلماء في الماضي من الأموات رحمهم الله تعالى، ورفع درجتهم لوجدوا شيئاً كثيراً، فما من عالم إلا وله ذلة.

ولما ذكر الذهبي في (سير أعلام النبلاء) في ترجمة قتادة بعض ما رمي به، مع أن فيما ذكر كلام لكن قال: ولو أخذنا ذلك لما سلم، بل هو في ترجمة محمد بن نصر المروزي ليس في ترجمة قتادة لما ذكر بعض ما قيل قال: ولو فتحنا هذا الباب، يعني ما يقال لما سلم لنا محمد بن نصر المروزي، ولما سلم لنا ابن منده، ولما سلم لنا فلان وفلان.

فإذن العالم يغتفر قليل خطؤه في كثير صوابه, كما قال ابن رجب في فاتحة كتابه القواعد حيث قال: فلقد سنح بالبال، يعني يصف كتابه، فلقد سنح بالبال على جناح الاستعجال في أيام يسيرة وليال. والمنصف من اغتقر قليل خطأ المرء في كثير صوابه، وهذا هو المنصف، يعني كل عالم لابد أن يكون له غلط، هل يشترط في العالم أن يحرر كل مسألة أن يكون إماماً في كل مسألة، ولو ذكرنا ما نقل، فمالك رحمه الله تعالى نقلت عنه أشياء. كما هو معلوم الشافعي رَحَمَهُ اللَّهُ نقلت عنه أشياء، أحمد رَحمَهُ اللَّهُ نقلت عنه أشياء، أبو حنيفة رَحمَهُ اللَّهُ نقلت عنه أشياء، وهكذا العلماء، ما منهم من أحد إلا، وثم شيء قال بعض أهل العلم: هذا فيه حكمة من الله جل وعلا؛ حتى لا يظن الناس بعالم أنه وصل مرتبة الأنبياء في أنه يؤخذ قوله كله، وأن يقبل بعمله في الاقتداء كله، يعني أن يقبل بعلمه كله في الاقتداء، فلابد من ظهور بعض النقص، وكلما قل النقص كلما ظهرت إمامة العالم، وازدادت مكانته في الناس، وكلما زاد النقص كلما قلت مكانته وهكذا.

فإذن ينبغي لطالب العلم أن يتحقق قول الله جل وعلا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، وأن يتحقق قول الله جل وعلا: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ‏} وأن يعلم أن أهل العلم هم أهل الرفعة في هذه الدنيا، وأن أهل العلم درجات، فلا يجعلنهم في مرتبة واحدة، وأن يطلب الكمال في العالم، أو في المعلم، أو في شيخه هذا لا يكون، وما من أحدٍ إلا وله قصوره، إما في مقاله، أو في أفعاله، أو في تصوره للمسائل، أو في إلقائه للعلم، فيأخذ الطالب من العالم أحسن ما يجده، والحكم في ذلك كله سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام.

هذه كلمات مختصرة في ابتداء هذا الدرس، وأسأل الله جل وعلا أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا متأدبين مع علمائنا ومشايخنا، وأن يلحقنا بالصالحين، وأن يحعلنا في زمرة العلماء العاملين؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

سؤال: يكتب لثالث مرة، يقول: ورد عن الإمام أحمد أنه كان يترك السنة الراتبة، فإذا سئل عن ذلك قال: اكتفينا بدرس أبي زرعة و أو كلمة نحوها، اكتفينا عن الرواتب بمذاكرة العلم مع أبي زرعة، هذه كلمة الإمام أحمد، فهل ينطبق هذا على وضعنا في هذا المسجد؟
جواب: لا، لا يتصور في عالم، أو في طالب علم، أو في رجل صالح يرجو ما عند الله جل وعلا، ويحب المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يترك النوافل، فمن ترك النوافل ردت شهادته كما قال أهل العلم، وإنما قد يترك العالم، أو طالب العلم بعض النوافل لمصلحة راجحة؛ لأن النوافل نفعها قاصر، وقد ينشغل طالب العلم بما نفعه متعدٍ، ويفوت وقته.

فأبو زرعة من أهل الري، فلما قدم بغداد تذاكر العلم مع أحمد ليلة كاملة حتى أصبح من بعد صلاة العشاء، وفي النهار، فترك الإمام أحمد الرواتب والوتر فيما يذكر؛ وهذا لأجل أن مذاكرة العلم مع أبي زرعة هذا نفعها متعدٍ للأمة، مصلحتها عامة في العلم، وفي الإرشاد، وفي نقد الأحاديث، وفي تعليلها ونحو ذلك، والرواتب قاصرةٌ، قاصر نفعها على من أداها، وأيضاً مذاكرة أبي زرعة تفوت، والرواتب يمكن أن يزيد من النوافل المطلقة في وقت لاحق، ويأتيه الثواب، يعني أن الأصل المتابعة للسنة، الأصل أداء هذه الرواتب، وقد يعرض لطالب العلم، قد يعرض للشيخ ما يرجحه من جهة أنه أفضل شرعاً، لا من جهة هواه، أو من جهة رغبته.

ومعلوم أن الرواتب ليست بمفروضة، لكن من جهة المصلحة التي يرجوها في تركها المصلحة المتعدية فهذا يسوغ، لكن لا يكون ديدناً له، ولا هدياً له، وهذه لها نظائر؛ فبعضهم ترك قيام الليل لأجل التفكر، وبعضهم ترك بعض الصلوات لأجل التأليف، يعني الرواتب لأجل التأليف، ونحو ذلك مما هو معلوم.

سؤال: ما حكم تحية المسجد؟ وماذا أفعل لو دخلت المسجد وقت نهي؟
جواب: تحية المسجد سنة مؤكدة، وليست بواجبة على الصحيح، وإذا دخلت المسجد وقت نهي، فالعلماء اختلفوا في ذلك اختلافاً كثيراً طويلاً، والاختلاف من جهة الترجيح فيه صعوبة، ومن أهل العلم من قال: النهي يقدم، النهي عن الصلاة في هذه الأوقات، يعني أوقات النهي، وتحية المسجد سنة، والنهي يدل على التحريم، فلا تصلي وقت النهي.

وهذا مذهب الإمام أحمد، وجمع من أهل الحديث، وآخرون من أهل العلم قالوا: إن النهي عن الصلاة في وقت النهي في الأوقات الخمسة المعروفة ثلاثة أوقات مضيقة، ووقتان واسعان، هذا لغير الصلوات ذوات السبب، فأما إذا كانت الصلاة لها سبب مثل ركعتي الوضوء، ومثل تحية المسجد والاستخارة، وركعتي الطواف، وركعتي الدخول في الإحرام عند من قال به ونحو ذلك فإن هذا يعتبر من ذوات السبب، فتفعل وقت النهي، وهذا مذهب طائفة من أهل العلم، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وينصره طائفة من أهل العلم في هذا الزمن.

والشوكاني رَحمَهُ اللَّهُ لما عرض إلى هذه المسألة ذهب مذهباً غريباً، هو أصولي وتعارضت عنده الأدلة؛ لأن الدليل الذي فيه الأمر بصلاة المسجد فيه الأمر بتحية المسجد، هذا فيه عموم فيه أنه إذا دخل في أي وقت، فليركع ركعتين، والنهي عن الصلاة هذا فيه خصوص الأوقات، ولكنه في عموم الصلوات، وذاك فيه عموم الأوقات، وفيه خصوص الصلاة, فأي العمومين يقضى به على الآخر؟ وأي الخصوصين يقضى به على الآخر؟ نظر فيه نظر أصولي ولم يترجح له شيء في نيل الأوطار وقال: فإن قلت ما الذي تحصل لك في هذه المسألة المشكلة قلت: تحصل لي ألا تدخل المسجد وقت النهي؛ حتى لا تصلي تحية مسجد، ولا يعني لا تدخل المسجد أصلاً.

وهذا يبين لك أن المسألة مشكلة، أن المسألة مشكلة من جهة الترجيح؛ لتعارض العمومين فيها، والخصوصين، وإذا أعملنا القاعدة أن الاحتياط يقضي بالترك لأجل النهي، وأن درء المفسدة مقدم، وإذا اجتمع حاضر ومبيح فيقدم الحاضر ونحو ذلك من القواعد، فإنه يرجح بذلك عدم أداء الصلاة وقت النهي كما هو مذهب الإمام أحمد، ومن نظر في أنها ذات سبب، وأن النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أمر الرجل الذي أتى وهو يخطب في جمعة وقال له: ((أصليت ركعتين؟ قال: لا. قال: قم فصلهما))، وأن ذلك كان وقت نهي جعل ذلك من ذوات الأسباب، وتبقى المسألة فيها هذه المذاهب.

سؤال: ما رأيك يا شيخ في الإكثار من الأسئلة على الشيخ من باب أخذ أكبر كمية من العلم، أي: حرصاً من الطالب؟
جواب: أولاً: العلم ليس بالسؤال، العلم بالتعلم، السؤال كاشف عما يشكل في العلم، وإذا كان طالب العلم يكثر من السؤال لأخذ العلم فلن يحصل علماً؛ لأن الأسئلة لا يجمعها زمام، ومعلوم أن تقرير العلم من جهة الكتب غير الجواب على الأسئلة؛ فقد يأتي نقرر المسألة في كتاب، ونفصل الكلام فيها، ويأتي السؤال ويكون الجواب عليه مقتضباً، أو يكون الجواب عليه له منحى آخر.

فإذن العلم التأصيلي ليس بالأسئلة، هذا كأصل تأخذه معك، الأسئلة إنما تنفع لكشف ما يشكل شيء يشكل عليك في العلم تسأل عنه لكشفه، وأما إذا كان السؤال للتعلم فليس كذلك، العلم ليس بالسؤال؛ وإنما يؤخذ العلم بالتعلم، والسؤال مهم في كشف ما يشكل من العلم.

سؤال: من الملحوظ قلة من يتصدى لتدريس علوم الآلة من أهل العلم فما هو السبب، وما هو الحل بالنسبة للطالب؟
جواب: علوم الآلة محدودة، ولا ينبغي للطالب أن يكثر من علوم الآلة على حساب العلوم الأصلية؛ علوم الشريعة، العقيدة, التوحيد، فقه، حديث، تفسير، هذه هي العلوم الأصلية التي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بما، ويأخذ من علوم الآلة ما يحتاجه لفقه الكتاب والسنة، هذا هو الأصل الذي ينبغي لطالب العلم أن يتعاهده، علوم الآلة طويلة عريضة ليس لها طرف، بحر لا ساحل له، وهي علوم اصطلاحية، والتحقيق فيها وفهمها يحتاج منك إلى وقت طويل، وإلى أخذ عن عدد من العلماء؛ لأن استيعاب تلك العلوم متنوع، وعرض تلك العلوم أيضاً متنوع، فمنهم من يعرضها بتوسط، منهم من يعرضها بطول، منهم من أهل العلم من يعرضها بحاجة الطالب، بما هو فوق حاجة الطالب... إلى آخر ذلك.

فلهذا أنت تأخذ منها ما ينفعك في فقه الكتاب والسنة، وخاصة النحو، وأصول الفقه، النحو، وأصول الفقه، هذه ينبغي لكل طالب علم أن يعتني بهما، ولم أذكر أصول الحديث يعني المصطلح؛ لأن الغالب يهتم بالمصطلح غالب من نرى من الإخوان الاهتمام بالمصطلح لكنهم لا يهتمون بالنحو، ولا بأصول الفقه، وهما علمان مهمان، العلوم الثلاثة هذه أصول الفقه، أصول الحديث، أصول العربية، يعني النحو هذه أهم علوم الآلة.

سؤال: قد يوجد تقرير لبعض العلوم عند الأصاغر بما لا يجده المرء عند الأكابر، فهل يترك هؤلاء ويلزم أولئك ليأخذ العلوم؟
الجواب: : أن العلم يؤخذ ممن يفيد فيه، فقد يكون الصغير أكثر إفادة لكن لا يترك طالب العلم أهل العلم الكبار، لا يسألهم ولا يحضر دروسهم، ولا يأخذ من هديهم، ولا يحضر مجالسهم، هذا يعطي خللاً في بنية طالب العلم في نفسه، فالذي ينبغي أن يأخذ العلم ممن يفيده إذا كان طالب العلم الذي هو أقل في سنه أكثر إفادة للطالب فيأخذ منه، ولكن لا يترك أهل العلم الكبار، والمشايخ.

وهنا مسألة ينبغي التنبيه عليها؛ وهي أنه ليس تقييم طالب العلم من جهة الفائدة الكبرى، أو كثرة الفوائد يكون بكثرة الكلام، قد يكون الشرح طويلاً لكن الفائدة قليلة، مثلما قال ابن رجب في كتابه (فضل علم السلف على علم الخلف)، وهو كتاب مهم ومفيد جداً (فضل علم السلف على علم الخلف) قال: كلام السلف قليل، كثير الفائدة، وكلام الخلف كثير، قليل الفائدة، قد يكون المعلم (اللي) هو سماه الأخ السائل سماه من الأصاغر يعني مِن مَن يصغر الكبار في سنه، أو نحو ذلك، قد يكون أكثر تفصيلاً، وأكثر معلومات لكن طريقته لا تفيد الطالب، هذا لا يعني أنه أكثر إفادة، قد تكون المعلومات أكثر، ولكن الإفادة أقل، قد يكون كلامه من جهة التفصيل ومن جهة الاستطراد أكثر، ولكن إفادته أقل؛ لأن العالم يربي طالب العلم في العلوم، يربيه شيئاً فشيئاً، يعطيه ما ينفعه، وما يحتاجه في فهم المتن، في فهم الكتاب الذي يقرأ عليه، وهذا لابد فيه من رعاية.

ولهذا ذكر العلماء في قوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} أن الرباني هو الذي يربي الطلاب بصغار العلم قبل كباره، يعني فيه تربية {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} ففي تعليم الكتاب، وفي الدرس يحتاج إلى تدرج، فإذن ينتبه الطالب في أن الأصاغر لا يعني كثرة كلامهم وتفصيلاتهم أنها أنفع فقد تكون أنفع، وقد لا تكون أنفع بحسب المنهجية والطريقة.

سؤال: بعض الطلاب يهتمون كثيراً بالدروس في المساجد، ولا يهتمون بالدراسة المنهجية في الجامعة مثلاً، فيكون الطالب متعثراً في الدراسة المنهجية بحجة أن العلم يؤخذ من المساجد.
جواب: هذا غير صحيح بأن الدراسة الجامعية ليست بمفيدة؛ لا، الدراسة الجامعية مفيدة، ولكن كثرة المعلومات:
واحد: عدم بروز المعلمين فيما يعلمون.
اثنين: وعدم ثقة الطالب في مشايخه في الجامعة لأسباب.
ثلاثة: أيضاً ضعف بعض الأساتذة في الجامعة في المستوى العلمي يجعل الطالب لا يتفاعل مع الدرس في الجامعة، أيضاً الهدي العام، والسمت، وملازمة السنة، وإذا سأل الطلاب المشايخ بعض الأساتذة في الجامعة وجاءت إجاباتهم ليست بمستقيمة فإنه لا يحسن الظن به، أو لا يستفيد منه، فيه عوامل كثيرة، وأسباب كثيرة تجعل الطالب لا يحسن أو لا يحبذ الدراسة في الجامعة من جهة الجد, وهذا غير جيد، الكتب التي تدرسها في الجامعة في الإجمال كتب منهجية عظيمة، لكن قد تكون أعلى من مستوى بعض الطلاب؛ لأنها موضوعة لمستوى الطلاب قبل ثلاثين سنة، نفس الكتب التي تدرسها الآن يدرسها الطلاب مثلاً في الشريعة، يدرسوها في أصول الدين، هي نفس الكتب التي كانت تدرس من عشرين ثلاثين سنة لما كان الطلاب يقرؤون على المشايخ, وكانوا أفرغ، وكانوا أقوى إلى آخره، وكانوا يتخرجون من المعاهد العلمية ومستواهم أعلى.

فإذن الخلل متنوع، فكثرة المعلومات التي يتلقاها الطالب في الكلية تجعله ما يتحمل، ويجد أن الدراسة في المسجد أيسر، أيضاً أن الدراسة في الجامعة يجد أنها ليست بالطريقة التي يرتاح إليها، هذه نظرة عامة، يبقى ولا شك أن المسجد له بركته، مكان عبادة، وهو أحب البقاع إلى الله جل وعلا، واجتماع الطلاب وهم جالسون على الأرض ويسمعون، ويثقون بالمعلم، ويأخذون منه، وكلٌ يحرص على هذا الدرس، هذا أمرٌ نفسي، وأيضاً عبادي يجعل النية فيه صالحة، ولهذا يستفيد أكثر، فإذن المسألة تحتاج من طالب العلم إلى تعاهد في نفسه وكلٌ يقيم نفسه.

سؤال: هل يصح أن يقال: إن من صفات طالب العلم كثرة الشيوخ؛ حتى يتجرد طالب العلم من التعصب للرجال, كما يظهر من حال أهل الحديث، بخلاف حال كثير من الفقهاء؟
جواب: التعصب مذموم بالاتفاق، التعصب مذموم بالاتفاق، باتفاق المحدثين، والفقهاء، وجميع أصناف العلماء، لكن ما هو التعصب، التعصب أن تأخذ بقول، وتنصره، وتدفع غيره مع عدم وضوح الدليل عليه و هذا هو التعصب، تأخذ بقول فلان؛ لأنه قاله. والأصل عندنا أن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال يعرفون بالحق، هذا الأصل العام عند السلف، يعني أن قبول كلام المتكلم إذا كان على إطلاقه، وتدفع عنه، وتنصره، سواءً وافق الحق أم لم يوافقه، ولو ظهر لك الدليل بخلاف، فهذا هو التعصب المذموم هذا هو الذي يقال فيه التعصب، أما أن يكون الرجل محباً لشيخ من المشايخ، ويأخذ بأقواله لظهور دليلها عنده، أو يأخذ طائفة من الناس بمذهب من المذاهب؛ لظهور الدليل عندهم فيه، أو لمتابعتهم لتأصيل المذهب فهذا ليس بتعصب، إذا لم يرد القول الحق إذا ظهر الدليل.

فإذن ثم فرق ما بين المتابعة والتقليد، فقد يتابع المذهب في مسألة، ويتابع شيخاً معيناً في مسألة؛ لاقتناعه بكلامه، مع أن السنة تكون بخلافه، لكن هو مقتنع بكلام هذا العالم، وبوجهة نظره في هذا الدليل، وبتوجيهه للاستلال ونحو ذلك, فيأخذ به، لا يعد تعصباً، ولو كان كذلك لقيل في كل من أخذ بقول أحد من أهل العلم: إنه يتعصب له، وهذا ليس بصحيح.

فإذن كثرة الشيوخ قد تكون محمودة، قد تكون مذمومة، قد تكون محمودة إذا كانت في تنوع العلوم، وقد تكون مذمومة إذا كانت كثرة الشيوخ تسبب الإرباك لطالب العلم في طلب العلم.

بعض الناس يذهب هنا يحضر لعشرة، (ولا) ستة، (ولا) ثمانية من أهل العلم هنا وهناك، وفي النهاية تذهب ماذا حصل؟ فتجد أنه لم يحصل، والأفضل أن يجعل له شيخاً مختصاً في التوحيد والعقيدة، فيأخذ طريقته حتى ينهيها معه، ثم بعد ذلك يريد أن ينتقل إلى غيره لا بأس، ويأخذ له شيخاً في الفقه، ويأخذ ما عنده في ذلك، ويأخذ له شيخاً يثق به في السنة، في الحديث، ويأخذ ما عنده في ذلك، ثم كل طالب العلم تتكون شخصيته بقدر تأثير الشيخ المعين فيه، فهو يميل إلى فلان في الفقه، يميل إلى فلان في الحديث بحسب استعداداته، وما جعل له طلاب شيخ الإسلام ابن تيمية منهم المتخصص في العقيدة، ومنهم المتخصص في الفقه، كابن مفلح مثلاً ويكون غيره في غير ذلك أقل، ومنهم المتخصص في الرد على المتصوفة، ومنهم المتخصص في الرجال ونحو ذلك.

فإذن لا يعني الأخذ من شيخ، والذب عنه، وتلقي ما يقول أن يكون الرجل الطالب كهيئة شيخه في كل شيء، لا يعني ذلك، بل يكون له هو باستعداداته، وبما وهبه الله جل وعلا، وما يسر له، وما قدر له، واعملوا فكل ميسر لما خلق له، يكون ينصبغ بصبغة جديدة بحسب ما كتب الله جل وعلا له كما يظهر من حال أهل الحديث، بخلاف حال كثير من الفقهاء، بعض أهل الحديث يتعصبون أكثر من تعصب الفقهاء، وبعض أهل الفقه يتعصبون أكثر، وهذا ليس على إطلاقه أن كل من كان من أهل الحديث ليس بمتعصب، وكل من كان من أهل الفقه فهو متعصب هذا ليس بصحيح، ولا يقول هذه من يفقه العلم، ويعرف مدارك أهله؛ لأن أصلاً التقليد يجري لأنه مثلاً أخذ قول العالم الفلاني في أن الحديث صحيح، أحد العلماء قال هذا الحديث صحيح، وبناء عليه نأخذ منه كذا وكذا وكذا.

(طيب) هل هو شارك العالم هذا الذي أخذ قوله؟ هل شاركه في صحة الحديث؟ هل شاركه في البحث، وصارت صحة الحديث عنده عن دليل لا عن تقليد له؟ سؤال الثاني: هل إذا نظر الرجال نظراً متجرداً سيشارك هذا العالم؟

لا، الخلاف في درجات الحديث، وهل الحديث هذا صحيح، أو حسن، أو ضعيف بين أهل العلم بالحديث أكثر من خلاف الفقهاء؛ لأنها مبنية على الحكم على الرجال، ومعلوم أن الرجال من الرواة المتفق عليهم قليل جداً، وأكثر الرواة مختلف فيهم، إما من جهة الثقة والضعف، هل هو ثقة أم هو ليس بثقة؟ وإما من جهة صحة حديثه مطلقاً، أو في بعض الأحيان كحال المختلطين، وإما من جهة صحة حديثه في بلد وعدم صحته في بلد آخر، كحال عدد مثل معمر وغيره معمر من رواة الصحيح، لكن حديثه في البصرة إذا علمنا أن الحديث هذا في البصرة فإنه ضعيف، وإن كان من رواة، من رواة الصحيحين وهو من الأفذاد في العلم، وهل هذا الحديث معلل ومعلوم، أن العلل والتعليل يدخلها الاجتهاد في كثير من الأحيان، هل يرجح قول يحيى القطان في هذا الرجل على قول أحمد؟ هل يرجح قول بلد الرجل؟ يعني إذا كان الرجل كوفياً نرجح قول العالم من أهل الكوفة في ثقته، أم نرجح قول البغدادى في توثيقه؟

هذه مسائل كلها تبين لك أن الكلام في صحة الإسناد أيضاً فيه خلاف وميدان للاجتهاد، والأخذ والنظر هل يؤثر العمل في صحة الحديث أم لا يؤثر؟ هل تؤثر رواية الصحابي في تقوية المرفوع أم لا؟ وهذه مسائل كثيرة تحتاج إلى نظر، ولهذا نقول: إن التقليد يكون من أهل الحديث في صحة الأحاديث، وفي قبولها كما يكون في أهل الفقه في قبول الفتوى ونحو ذلك، فالتقليد موجود، لن يسلم أحدٌ من التقليد لكن هو درجات، والتعصب هو المذموم.

سؤال: كيف نفسر قبول كثير من السلف عند النظر في بعض شيوخهم أنهم أهل نحل وملل من غير أهل السنة والجماعة، مع أن المشهور عن السلف انتقاء الشيوخ؟
جواب: هذا الكلام ليس صحيحاً على إطلاقه، فالسلف في رواية المبتدعة لم يجعلوا المبتدعة على درجة واحدة، بل التحقيق أن المبتدعة في.. من فن أهل الرواية درجات، فإذا علموا أن هذا الراوي الذي اتهم بالبدعة أنه صادق في قوله، صادق في روايته فإنه يقبل حديثه، ولا يقبل مطلقاً، بل يقبل بعض حديثه انتقاءً، كما خرج البخاري لعمران بن حطان، وكما خرج لقتادة، وكان يرى القدر وكما.. إلى آخره هناك عدد من أهل العلم من الرواة للحديث لم تؤثر بدعتهم في صدق حديثهم، وكان منهم من أثرت بدعته في صدق حديثه، كما قال أحدهم: كنا إذا هوينا أمراً صيرناه حديثاً، بعض أهل العلم....


  #6  
قديم 5 ربيع الأول 1430هـ/1-03-2009م, 09:50 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح العقيدة الطحاوية للشيخ: يوسف بن محمد الغفيص (مفرغ) (مكرر)

أصول القدر عند أهل السنة والجماعة

قال المؤلف عليه رحمة الله: [ذلك بأنه على كل شيء قدير، وكل شيء إليه فقير، وكل أمر عليه يسير، لا يحتاج إلى شيء، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، خلق الخلق بعلمه، وقدر لهم أقداراً، وضرب لهم آجالاً، ولم يخفَ عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن، يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً، وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله، وهو متعال عن الأضداد والأنداد، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره، آمنا بذلك كله، وأيقنا أن كلاً من عنده]
. هذه الجمل التي ذكرها الطحاوي رحمه الله ظاهر سياقها أنه يشير بها إلى أصول أهل السنة في مسألة القدر، وهي مسألة عظيمة تعتبر من أخص مسائل الإيمان؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين أنه قال: ((الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتابه، ورسله، والبعث، والقدر خيره وشره)) . وقد اتفق المسلمون على أن من أصول الإيمان بالله: الإيمان بقضائه وقدره، وهذا الأصل مجمع عليه بين سائر طوائف المسلمين من حيث أنه أصل كلي؛ فإن من كذب بالقدر فهو كافر معاند لله سبحانه وتعالى. والمراد باتفاق المسلمين على هذا الأصل الإيمان المجمل، وإلا فإنه يعلم أن طوائف من هذه الأمة قد غلطت في هذه المسألة الشريفة، وأصول أهل السنة والجماعة في القدر سبعة، وهي متضمَّنَة في كلام المصنف في هذه الجمل. ......

الأصل الأول: عموم علم الرب تعالى
الأصل الأول هو: الإيمان بعموم علم الرب سبحانه وتعالى، فإنه قد علم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون. وهذا الأصل هو أشرف أصول القدر، وأخصها عند المسلمين، لأن سائر الأصول من بعده مبنية عليه، وكان السلف رحمهم الله يردون إلى هذا الأصل في مقام الرد على المخالفين، وقد دل على هذا الأصل العقل والفطرة والسمع، وهو المذكور في مثل قوله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] وفي مثل قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] إلى غير ذلك من النصوص القرآنية، الدالة على أن الله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم.
وأما الفطرة: فإن الله فطر الخلق على الإقرار بأنه الخالق، ومن لازم كونه خالقاً أن يكون عليماً، فإنه سبحانه وتعالى قال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}، ولهذا قال المصنف: (خلق الخلق بعلمه)، أي: أنه خلقهم عالماً بهم، فما يكون من نجوى، وما يكون من هَمٍّ في نَفْسٍ، وما يكون من حركة إلى غير ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى قد علمها قبل كونها. والإيمان بأصل علمه سبحانه وتعالى مستقر عند جمهور بني آدم، ولم ينازع فيه إلا من أنكر الخالق سبحانه وتعالى، ولهذا قيل: (الإيمان بعموم علم الرب) لتتقرر بهذا مسألة وهي: أنه دخل في عموم علمه سبحانه وتعالى علمه بأفعال العباد، وهذا هو المقصود من تقرير هذا الأصل في هذا الباب.

الأصل الثاني: الكتابة
الأصل الثاني: الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى كتب في اللوح المحفوظ كل شيء، كما قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري من حديث عمران ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وكتب في الذكر كل شيء)) . فسائر أفعال العباد مكتوبة قبل خلقهم، ولهذا جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)) ، والكتابة جاءت مجملة ومفصلة. ويدخل في عموم الإيمان بهذا الأصل ما تكتبه الملائكة عن كون الإنسان المعين، من الرزق والأجل، والشقاوة والسعادة، وكونه ذكراً أو أنثى، كما جاء في الصحيحين من غير وجه عن عبد الله بن مسعود ، وكما جاء في الصحيح من حديث حذيفة بن أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه.. إلخ) وهو حديث مشهور معلوم.
وهذا الأصل دليله السمع، وهو الدلائل الشرعية من الكتاب والسنة، بمعنى: أن الله لولا أنه أخبرنا في كتابه، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم حدثنا بهذا الأصل؛ لما كان من شرط العقل أو اقتضاء الفطرة إثبات الكتابة، بخلاف الأصل الأول (العلم) فإن الإيمان به سمعي، وفطري وعقلي. ولا يُفهم من هذا أن العقل أو الفطرة تنازع في هذا الأصل أو تنافيه؛ فإن عندنا قاعدة، وهي: أن كل ما أخبر به الله سبحانه وتعالى أو أخبر به رسله فإنه لا بد أن يكون موافقاً للعقل والفطرة، ولكن فرق بين كون هذا الخبر عُلم بالسمع، ثم العقل والفطرة لا تنافيه، وبين كونه معلوماً بأصل العقل أو الفطرة، ونزل الخبر به. ولهذا فإننا إذا ذكرنا الصفات مثلاً، فقلنا: إن صفة العلو دليلها العقل والشرع، فمعنى هذا: أن العقل والفطرة تدل على إثبات علو الرب سبحانه، وأما صفة الاستواء على العرش فهي صفة دل عليها الشرع؛ لأن الله أخبرنا أنه استوى على العرش، فالعقل قبل ورود الشرع لا يدركها ولا يقتضيها؛ لأنها غيب محض، ولكن كل ما أخبر به الشرع مما جاء في الكتاب أو السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن العقل والفطرة يقتضيه حال كونه خبراً ثابتاً، وفرق بين دلالة العقل على الشيء حال كونه خبراً ثابتاً، وبين دلالة العقل على الشيء قبل ثبوته. وقد قرر شيخ الإسلام رحمه الله قاعدة وهي: (أن الرسل تخبر بمحارات العقول لا بمحالات العقول). ومراده بالمحارات: أي ما يتحير العقل في تصوره، لكن لا يمكن أن يحيل العقل شيئاً أخبرت به الرسل، فمن أحال عقله شيئاً من ذلك، فهذا دليل على فساد في عقله، وغلط في فهمه وإدراكه.


الأصل الثالث: عموم خلق الله تعالى
الأصل الثالث: الإيمان بعموم خلقه سبحانه وتعالى، وإثبات خلق الله سبحانه وتعالى للخلق مستقر عند جماهير بني آدم، إلا من ألحد وأنكر الخالق سبحانه وتعالى؛ ولهذا كان مشركو العرب يقرون بأن الله هو الخالق. وإنما قيل: الإيمان بعموم خلقه؛ ليدخل في هذا العموم أفعال العباد، وهذا هو المقصود عند أهل السنة من ذكر هذا الأصل، وعن هذا صنف الإمام البخاري رحمه الله كتاب (خلق أفعال العباد)، وهي مسألة النزاع فيها مشهور. ومن أخرج أفعال العباد عن هذا الأصل، فقد أخرج من هذا الأصل ما هو منه بغير حجة ودليل، إذ إن من المستقر عند سائر العقلاء أن أفعال العباد شيء؛ فتدخل في عموم قوله تعالى: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] . وليس معنى كونه سبحانه وتعالى خالقاً لأفعال العباد أنه هو الفاعل لها، بل الفاعل للفعل هو العبد؛ ولهذا أخبر الله في كتابه أن العباد هم الصائمون، القائمون، المصلون، الساجدون، الراكعون، وأخبر أن منهم المؤمن ومنهم الكافر، فأضاف الأفعال إلى العباد.


الأصل الرابع: الإيمان بعموم مشيئة الله تعالى
الأصل الرابع: الإيمان بعموم مشيئته سبحانه وتعالى، فإن كل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا ينازع أحد من المسلمين بل ولا من جماهير الكفار في كون الباري متصفاً بالمشيئة؛ على معنى أن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأما معنى الاتصاف بالصفة التي هي قيام الصفة بموصفوها، فهذا باب آخر، ينازع فيه المعتزلة وطوائف. ولهذا نجد أن طرفة بن العبد -وهو جاهلي- يذكر هذا المعنى في شعره، فيقول: فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد وأصبحت ذا مال كثيرٍ وزارني بنون كــرام سـادة لمســود بل إن الله ذكر هذا في كتابه عن المشركين في قوله سبحانه: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ الله مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148] ، وإنما عاب الله عليهم ذلك، لأنهم احتجوا بالقدر على إسقاط الشرع الذي هو التوحيد، وإلا فإن شركهم بمشيئة الله. وإنما قيل: الإيمان بعموم مشيئته، ليدخل في ذلك أفعال العباد، فإن سائر أفعال العباد سواء كانت أفعالاً عادية أو من الطاعة، أو من المعاصي والفسوق والكفر، فهي بمشيئة الله سبحانه وتعالى، وإن كان سبحانه وتعالى قد يكره المعاصي والكفر ولا يرتضيه لعباده.


الأصل الخامس: أن للعباد مشيئة حقيقية
الأصل الخامس: الإيمان بأن للعباد مشيئة على الحقيقة، وهي تابعة لمشيئة الله سبحانه وتعالى كما قال سبحانه: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] . ولفظ الحقيقة استعمل في كلام طائفة من أهل السنة في بعض مسائل القدر والصفات والإيمان والأسماء والأحكام، مع أن هذا اللفظ لم يستعمل في النصوص، وإنما استعمله من استعمله؛ لأن طائفة من متكلمة الصفاتية المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة، صاروا يستعملون ألفاظاً وجملاً لأهل السنة المتقدمين، وصاروا يتأولونها على المجاز عند تفصيلها. فمثلاً: الجبرية لا يثبتون مشيئة للعبد، فلما جاء متكلمة الصفاتية، كـأبي الحسن الأشعري وأصحابه، قالوا: إن للعبد مشيئة، فخالفوا الجبرية بذلك، ولكنهم لم يجعلوا هذه المشيئة على الحقيقة، وإنما جعلوها مشيئة مجازية. ولهذا فإنك تجد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كثيراً ما يقول: وأنه سبحانه وتعالى فوق عرشه على الحقيقة، وأنه مستوٍ على عرشه على الحقيقة، لأن جملة: (مستوٍ على العرش)، يقر بها كثير من متكلمة الصفاتية، ومن تأثر بهم من الفقهاء، لكنهم لا يسلمون أن هذه الجملة على الحقيقة، بل يقولون: على المجاز، ثم يتأولون المجاز على أكثر من معنى، وقد يختلفون فيه. ومن حيث الأصل لا ينبغي أن يستعمل هذا التقييد لسببين:
السبب الأول: أن الأصل في الكلام الشرعي وكلام الأئمة عدم التقييد.
السبب الثاني: أن استعمال لفظ الحقيقة، يكون فيه إقرار بتقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز، والمشهور في تعريف الحقيقة أنها لفظ مستعمل فيما وضع له، والمجاز لفظ مستعمل في غير ما وضع له؛ وهذا التقسيم عليه إشكالات كثيرة منها: أنهم يقولون إن الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له، والمجاز اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، فأثبتوا معنيين: الوضع والاستعمال. والاستعمال هو استعمال العرب، وعليه فيكون الوضع سابقاً للاستعمال، وهنا يأتي السؤال: من هم الذين وضعوا اللغة؟ ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله في رده لهذه المسألة: (إن التعريف فيه تعذر من جهة العلم؛ فإنه يستلزم العلم بالوضع والعلم بالاستعمال، أما العلم بالاستعمال فإنه ممكن؛ لأنه استعمال العرب، وأما الوضع فإنه متقدم عليه ليس بمتحصل العلم)، قال: (وعن هذا تكلم من تكلم من المعتزلة في أصل وضع اللغة ومبدئها).
ومن فقه الأئمة رحمهم الله أنه قد يُستعمل من الكلام في أبواب أصول الدين ما يكون مقتضى استعماله هو قول المخالفين، ولهذا لما ناظر الإمام أحمد أئمة الجهمية، كان من سؤال الإمام أحمد لأحد أعيانهم أن قال له: قولكم بأن القرآن مخلوق، هذا من الدين أو ليس من الدين؟ فقال الجهمي: إنه من الدين. قال: أهذا الدين علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر و عمر و عثمان و علي أو لم يعرفوه؟ فقال الجهمي: بل عرفوه. فقال الإمام أحمد : أين في كلام الرسول وأصحابه أن القرآن مخلوق؟ فانقطع. ولما كان مجلسٍ آخر، استعمل الجهمي نفس الحجة، فقال للإمام أحمد : القرآن ليس مخلوقاً، أهذا من الدين؟ فقال الإمام أحمد : نعم. فقال الجهمي: أعرفه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر و عمر و عثمان و علي أو لم يعرفوه؟ قال أحمد : بل عرفوه. فقال للإمام أحمد : أين في كلام الرسول وأصحابه أن القرآن ليس مخلوقاً؟ قال الإمام أحمد : اسكتوا نسكت، أي: أن أئمة السنة قالوا: القرآن ليس مخلوقاً، من باب النفي لباطل طرأ على الدين، ولو لم تقل الجهمية: إن القرآن مخلوق، لكان تعبير الأئمة: إن القرآن كلام الله، ولا يحتاجون أن يقولوا: ليس بمخلوق، لأن ما كان كلاماً لله فإنه بالضرورة ليس مخلوقاً، لأن كلامه صفة من صفاته، ولهذا لا يوجد في كلام الأئمة أن يقولوا: سمع الله ليس مخلوقاً، أو علم الله ليس مخلوقاً، لأنه لم يقل أحد بخلقه. والقاعدة العقلية الشرعية: أن الباطل إذا طرأ يجب نفيه، ولهذا لما أشرك من أشرك، وزعم من زعم أن لله ولداً، قال الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ الله مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:91] .


الأصل السادس: إثبات الحكمة في أفعال الله
الأصل السادس: الإيمان بأن سائر أفعاله وخلقه وأمره سبحانه وتعالى لحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى، وقال سبحانه: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] ، والحكمة التي أجمع عليها السلف رحمهم الله، ليست هي الحكمة التي يثبتها المتكلمون من المعتزلة وغيرهم، فإن إثباتهم فيها قاصر، فإن السلف كما قرر شيخ الإسلام ، يؤمنون بحكمة الباري سبحانه وتعالى، المتعلقة بذاته صفة له، والمتعلقة بمفعولاته على ما تقتضيه هذه الحكمة، نعمةً، أو ابتلاءً، أو عقوبة، أو غير ذلك، ولهذا قد يكون الشيء الواحد لبعض العباد نعمة ولبعضهم عقوبة، ولبعضهم ابتلاءً ومحنة. مثال ذلك المـال؛ فإن الله سبحانه وتعالى آتى داود مالاً عظيماً، فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10] .
ولاشك أن هذا الملك والمال الواسع الذي أوتيه داود عليه الصلاة والسلام هو نعمة، ولذلك سماه الله سبحانه وتعالى فضلاً، وأضافه إليه فقال: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا). وقد يكون المال عقوبة، كقوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44] قال طائفة من السلف: فتح الله عليهم الدنيا، وكما في قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف:28]، والإغفال قد يكون بالدنيا، وقد يكون بغيرها، ولهذا قال الله تعالى لنبيه: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه:131] . وقد يكون المال ابتلاءً ومحنة كالولد، كما قال تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال:28] ، وكل هذا يرجع إلى حكمته سبحانه وتعالى وقضائه وعدله، أو فضله وإحسانه.


الأصل السابع: عدم التعارض بين الشرع والقدر
الأصل السابع: الإيمان بأن العباد مأمورون بما أمرهم الله به، منهيون عما نهاهم الله عنه، مع الإيمان بوعده ووعيده، وأنه لا حجة لأحد من الخلق على الله سبحانه وتعالى بل لله الحجة البالغة، وأن عموم قدره وقضائه ومشيئته وحكمه وإرادته لا يصح أن يكون معارضاً لشيءٍ من أمره وشرعه. ومحصل هذا الأصل أن السلف يؤمنون بالجمع بين مقام الشرع ومقام القدر.


أقوال الفرق الأخرى في الأصول السبعة للقدر

الطوائف التي نازعت في هذه الأصول:
الأصل الأول: الإيمان بعموم علم الرب: لم ينازع أحد من المسلمين في كون أفعال العباد داخلة في هذا العموم، وإنما ظهر قوم من غلاة القدرية، يزعمون أن الله سبحانه وتعالى لا يعلم أفعال العباد إلا عند كونها، وهؤلاء الغلاة ليسوا من الإسلام في شيء، وقد أجمع السلف وجماهير طوائف المسلمين على تكفيرهم بأعيانهم، وقد صرح بتكفير هذا النوع من القدرية بعض أئمة الصحابة الذين أدركوا هذه البدعة. كما صرح بتكفيرهم من الأئمة: أحمد ، ووكيع ، وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم من متقدمي أئمة السنة والجماعة. بل إن المعتزلة -وهم قدرية- قد صرحوا في كتبهم بأن منكر العلم من الكفار ولا ينسبون إلى الإسلام، فهؤلاء لا يعدون في أهل القبلة.
الأصل الثاني: الكتابة، وهذا الأصل عامة طوائف المسلمين يقرون به مجملاً، أما السلف من أهل السنة والجماعة وأتباعهم فهم يقرون به مفصلاً، على ما جاء في النصوص. وفرق بين من أقر بالأصل مجملاً وبين من أقر به مفصلاً، ولا سيما التفاصيل النبوية. ......

مذهب المعتزلة القدرية في خلق أفعال العباد
الأصل الثالث: الخلق، وقد وقع فيه نزاع وغلط كثير، وصارت جماهير القدرية، يقولون بأن الله يعلم أفعال العباد قبل كونها، وأنه كتبها، ولكنها خلق للعباد، والتحرير لمذهب المعتزلة من القدرية: أنهم أجمعوا على أن الله لم يخلق أفعال العباد، ثم قالوا ثلاثة أقوال: القول الأول: إن الله لم يخلقها وخلقها العبد. القول الثاني: إن الله لم يخلقها وكذلك العبد لم يخلقها.
القول الثالث: التوقف. وهذا النزاع هو في الجملة نزاع لفظي لا حقيقة له في المذهب؛ فإن عمدة المذهب هو إجماعهم على أن الله لم يخلق أفعال العباد، وهذا القول بدعة مخالفة لإجماع السلف، فهذا قول القدرية.

الفرق بين القدرية المتكلمة والقدرية الرواة
والقدرية الذين قالوا إن الله لم يخلق أفعال العباد صنفان:
الصنف الأول: متكلموهم، وأعيانهم في الأصل هم المعتزلة، ومن اقتدى بهم من متكلمة الشيعة وغيرهم، الذين قرروا هذا المذهب بالدلائل والطرق الكلامية.
الصنف الثاني: وهم معشر من رجال الرواية والإسناد، وأكثرهم في البصرة، وبعض الأقاليم العراقية والشامية، قالوا بجملة المسألة، ولكنهم لم يقولوا هذه الجملة على الطريقة الكلامية التي كانت تستعملها القدرية المعتزلة المتكلمة. فيشترك الصنفان في أن أفعال العباد ليست خلقاً لله. ويفترقون من وجهين:
الوجه الأول: الاستدلال، فمنهج الاستدلال على المسألة بين الصنفين مختلف.
الوجه الثاني: أن المعتزلة المتكلمة رتبت على هذه المسألة مسائل أخرى تتعلق بالهداية والإضلال، وتتعلق بمسائل التكليف، ومسألة التحسين والتقبيح.
ومسائل كثيرة ربطوها بهذه المسألة، وجعلوها من نتائج هذه المسألة. وهذا الربط لم يستعمله رجال الرواية، فيكون قولهم أخف من قول متكلمة القدرية، وقد كان الإمام أحمد رحمه الله يقول: (لو تركنا الرواية عن القدرية لتركناها عن أكثر أهل البصرة)، ومراده بذلك أن هذا الوهم شاع في طائفة من رجال الرواية، لكنه ليس على الطريقة الكلاميـة. والفرق بين المنهجين في الاستدلال: أن كل مسألة من مسائل الصفات أو القدر مرتبة على الطريقة الكلامية، فإنه لا بد أن يكون فيها مأخذ فلسفي هو الأساس، ودلائل عقلية ومقاصد من الشريعة، فمثلاً: مأخذ مسألة القدر عند المعتزلة أن الأثر لا يصدر عن مؤثرين، وهذه قاعدة فلسفية، وبالتالي أدخلوا عليها مقاصد من الشرع، كتنزيه الله عن الظلم والفسوق والعصيان.. إلى غير ذلك. فمن قال إن الله خلق القبائح فقد أضافها إليه.
وهذه المقاصد عند التحقيق لا تلزم أبداً؛ لكن إشكالهم الأول الحقيقي هو الإشكال الفلسفي. وهذا هو الدليل الذي بنى عليه الجبرية مذهبهم، وهو الدليل الذي استعمله علماء الأشاعرة في كتبهم، وصرحوا باستعماله، كالقاضي أبي بكر بن الطيب ، وأبي المعالي الجويني ، ومحمد بن عمر الرازي ، فالقاعدة واحدة تستعملها طوائف نتائجها متناقضة. وذلك يدل على أن هذه القاعدة غلط من الأصل، وهي من باب قياس الخالق على المخلوق، بل إنها عند التحقيق -كما يقول شيخ الإسلام - لا تصح في المخلوق نفسه، ولو فرض جدلاً أنها صحت في المخلوق فإنه يمتنع أن تكون صحيحة في حق الخالق سبحانه وتعالى.

المخالفون في مشيئة الله
الأصل الرابع: المشيئة، والمخالف في هذا الأصل هم المخالفون في الأصل الثالث، فالمعتزلة تقول: إن الله لم يشأ أفعال العباد ولم يُرِدْها، ويجعلون العبد خالقاً لفعله مستقلاً بمشيئته، ولا شك أن هذا تعطيل لربوبية الله سبحانه وتعالى.

المخالفون في إثبات المشيئة للعبد
الأصل الخامس: أن العباد لهم مشيئة على الحقيقة، وقد خالف في هذا الأصل الجبرية، وإمام الجبرية هو الجهم بن صفوان الذي يقول: إن العبد مجبورٌ على فعله، وقارب مذهب الجبرية مذهب أبي الحسن الأشعري ، الذي يقول: إن للعبد مشيئةً مسلوبة التأثير، يقع الفعل مقارناً لها لا بها، ولهذا قال صاحب جوهرة التوحيد: ومن يقل بالطبع أو بالعلة فذاك كفر عند أهل الملة فينفون السببية والتعليل، وهذا جبر لكنه دون جبر الجبرية المحضة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: (والفرق بين أبي الحسن و جهم بن صفوان في مسألة القدر غالبه فرق لفظي)، وبعض الفرق بينهم فرق لا يعقل عند العقلاء، وطائفة من الفرق بينهم فرق له معنى. فمن العدل أن يقال: إن قول أبي الحسن وعامة أصحابه ليس جبراً محضاً كجبر الجهم بن صفوان ، ولكنه ينتهي إلى هذا المذهب في الجملة، وهو موافق لعبارات أهل السنة والجماعة في اللفظ، ولكنه في المعنى ينزع إلى قول الجبرية، وقد انغلق هذا الباب على علماء الأشاعرة، فلا يرون في الباب إلا قول القدرية أو قول الجبرية، فأتوا إلى قول الجبرية؛ لأن إمامهم رفض قول القدرية، ولكنه استعمل تحته ألفاظ السلف والشريعة. والذين صرحوا بأن قول الأشعرية جبر دون جبر الجهم بن صفوان ليس هو شيخ الإسلام أو نحوه من علماء السنة، بل الرازي و أبو الفتح الشهرستاني ، وأبو المعالي الجويني صرحوا بذلك، ورجع الجويني عن هذا المذهب، وقال: إن هذا مذهب جبري لا معنى له، فانتحل في الرسالة النظامية مذهباً ملفقاً.

تنبيه حول رجوع الجويني عن مذهب الأشعرية في القدر
بعض الباحثين من المعاصرين قال: الجويني رجع في آخر عمره عن مذهب الكسب الجبري إلى مذهب أهل السنة، ولا شك أن هذا غلط، بل ذكر الجويني في الرسالة النظامية قولاً ملفقاً من قول أهل السنة، ومقاصد من مقاصد المعتزلة، وجملاً من جمل الفلاسفة، فقوله مركب، وإذا قارنت بين هذا القول وقول أبي الوليد ابن رشد في (مناهج الأدلة)، وجدت أنه يشترك معه في بعض المنازع. وقد صرح طائفة من الأشعرية كـالشهرستاني بأن إمام الحرمين قد نزع إلى قول الحكماء -أي: الفلاسفة- وإن كان يزعم أنه رجع إلى مذهب السلف في الصفات؛ ثم يفسر مذهب السلف في الرسالة النظامية بالتفويض، ولا شك أن مذهب التفويض كما قال شيخ الإسلام رحمه الله من شر مقالات أهل البدع والإلحاد.

المخالفون في إثبات الحكمة لله تعالى
الأصل السادس: إثبات الحكمة لله، وقد نازع في هذا الأصل الجهم بن صفوان ، فنفى حكمة الله سبحانه وتعالى في أفعاله، وتبعه على ذلك في الجملة أبو الحسن الأشعري ؛ فإن مسألة الحكمة فرع عن أصل مسألة القدر، فجعل الجهم و الأشعري أفعال الباري سبحانه مبنية على محض المشيئة. والأشاعرة يقولون في كتبهم: إن الله منزه عن الأغراض والحاجات، ويريدون بذلك أن أفعاله ليست لحكمة أو لعلة، وإذا ذكر لفظ الحكمة بالشريعة، فسرها جمهورهم بالإرادة والمشيئة. وجمهور طوائف المسلمين من أهل السنة والحديث وجماهير الصوفية، والشيعة والمعتزلة يقرون بهذا الأصل، وهو الحكمة، ولكن الفرق بين السلف وهذه الطوائف التي تشاركهم: أن السلف يجعلون الحكمة صفة تقوم بذات الباري، وهي متعدية إلى خلقه، في حين أن المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة وغيرهم يجعلون الحكمة متعدية إلى الخلق، ولا يجعلونها صفة قائمةً بذات الباري.

المخالفون في الجمع بين الشرع والقدر
الأصل السابع: الجمع بين الشرع والقدر، وأهل السنة والجماعة وسط في هذا الأصل، فإنهم معظّمون لشرع الله وقدره، وهم وسط بين القدرية، وبين طرق الصوفية، فالقدرية من المعتزلة ومن وافقهم على أصلهم مقصرون في باب القدر، حيث يقولون: إن العبد يخلق فعله، وهو غالون في باب الشرع، حيث قالوا: إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، وأما طرق الصوفية فهم على العكس، فهم مقصرون في باب الأمر والنهي، غالون في باب القدر، حتى أسقط طوائف من غلاتهم مقام الشرع بمقام القدر، وهم يسمونه مقام الربوبية، وهذه حالٌ تعرض لغلاة الصوفية، ولا سيما المتصوفة المتفلسفة الذين فسروا الشريعة على هذا التفسير كـابن عربي و ابن سبعين و التلمساني ، وأمثال هؤلاء.

الكلام على حال أبي إسماعيل الهروي
ويقع نوع من ذلك في كلام من دونهم من الصوفية الذين عندهم قدر من الانحراف عن جادة السلف في باب السلوك والأحوال، كحال أبي إسماعيل الأنصاري الهروي الحنبلي ، صاحب كتاب (ذم الكلام) وكتاب (منازل السائرين)، فهو في منازله يسقط بعض مقامات الشرع بمقام القدر، فلم يحقق هذا الأصل، بل غلط فيه غلطاً شديداً. بل إنه قال كلاماً ظاهره الموافقة لمذهب وحدة الوجود حيث قال: ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد لكن الهروي رحمه الله لا شك أنه بريء من مذهب ابن عربي و التلمساني وأمثالهم من الصوفية المتفلسفة القائلين بوحدة الوجود، وإن كان قد يستعمل بعض حروفهم، بل هو فاضل في إثبات صفات الله سبحانه، وله رد على الجهمية، وتقرير حسن للصفات، وإن كان يزيد ويبالغ في إثبات الصفات.
كما أن منهجه في التكفير ليس معتبراً على جادة السلف، ولما تكلم عن الأشاعرة قال عن أبي الحسن الأشعري في كتابه (ذم الكلام): (وقد شاع في المسلمين أن رأسهم علي بن إسماعيل الأشعري ، لا يصلي ولا يتوضأ، وأخبرني فلان -ثم ساق سنداً عنده- أنه مات متحيراً). وهذا ليس كذلك، بل الأشعري يعرف بكثير من الخير والإيمان، كما قال شيخ الإسلام عنه: (وقد استفاض في المسلمين ما له من الديانة والقصد إلى السنة)، وقال عن عبد الله بن سعيد بن كلاب : (وأبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب إمام له علم وفقه). والقصد أن الهروي شديد في هذا الباب، حتى قال شيخ الإسلام في (منهاج السنة): (إن أبا إسماعيل الأنصاري من المبالغين في ذم الجهمية وتكفيرهم). كما أن للهروي أغلاطاً شديدة في القدر، بل قال شيخ الإسلام : (إن قول أبي الحسن الأشعري في القدر خير من قول أبي إسماعيل الأنصاري ). وعليه فإن أخص من نازع في مقام الجمع بين الشرع والقدر هم: الصوفية الذين أسقطوا بعض مقامات الشرع، بما هو من القدر، وأصل إسقاط مقام الشرع بالقدر هو مذهب المشركين، الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ الله مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148] وليس في المسلمين من عطل سائر الشرع بالقدر، ومن أطلق هذا التعطيل كما أطلقه بعض غلاة الصوفية كـالتلمساني ، فليعلم أنه من الكفر المحض الذي لا يُنظر في شأن صاحبه، ذلك أن المقالات الكفرية التي تخالف مذهب السلف تنقسم إلى قسمين: ......

حكم التكفير دون إقامة الحجة على من لا شبهة له
الأول: ما يكون قائلها كافراً ابتداءً، كمن نفى علم الله بما سيكون من أفعال العباد، فإنه يكفر ابتداءً ولا يقال: نقيم عليه الحجة، بل الحجة على مثل هذا لا بد أن تكون قائمة، لأنه مخالف للعقل والفطرة وأصول الأنبياء أجمعين.
الثاني: مقالات هي في حكم السلف كفر، ولكن قائلها لا يكفر ابتداءً إلا إذا أقيمت عليه الحجة، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: (والإمام أحمد وإن تواتر عنه تكفير الجهمية، إلا أنه لم يكن هو وغيره من أئمة السلف مشتغلاً بتكفير أعيانهم). وكذلك شيخ الإسلام عندما ناظر علماء الأشاعرة المتأخرين في مسألة العلو كان يقول لهم: (أنا لو أقول بقولكم كفرت، لكنكم لستم كفاراً عندي)، فمثل هذه المسائل يدخل فيها نوع من الاشتباه والانغلاق على بعض الناس، لموجب من الموجبات، فلا يكفر بها ابتداءً. فقول المصنف: (خلق الخلق بعلمه): أي: عالماً بهم. (وقدر لهم أقدراً) أي: قدر ما سيكون لهم من الأحوال والأفعال والمآلات. (وضرب لهم آجالاً) أي: قدر آجالهم، فجعل لكلٍ أجلاً، ولا يستقدم أحد ولا يستأخر عن أجله كما هو صريح في القرآن: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] .
وقوله: (ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم): هذا هو أصل العلم. (وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته) هذا الجمع بين مقام الشرع ومقام القدر. وقوله: (وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ): هذا طرد لعموم مشيئة الرب سبحانه، وأنه دخل في عموم مشيئته أفعال العباد. وقوله: (لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم) أي: أن للعباد مشيئة على الحقيقة خلافاً للجبرية وللكسبية، ولكنها تابعة لمشيئة الله خلافاً للمعتزلة الذين جعلوا العبد مستقلاً بمشيئته. ......

منازعة المعتزلة في هداية التوفيق
قوله: (يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً): من أصول أهل السنة في هذا المقام، الإيمان بأن لله نعمة وفضلاً على المؤمنين، وأن كل من آمن فإنه إنما آمن بفضل الله ونعمته عليه، وكل من كفر فإنما كفر بما صرف نفسه، أو صرفه الشيطان عن الهدى، والله سبحانه وتعالى يهدي على معنى أنه يوفق، ويهدي على معنى أنه يبين بما ينزل في كتابه، أو يبعث به رسله عليهم الصلاة والسلام. وقد نازعت المعتزلة في هذه المسألة، فقالوا: إن الله -سبحانه وتعالى وتقدس عن قولهم- يهدي بمعنى: يبين، وأما الهدى الذي هو التوفيق فإنه يستوي فيه الناس. ولا شك أن هذا أصل باطل، فإن الله قال لنبيه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] ، ولو كانت الهداية هي البيان لم يصح نفيها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم من حيث كونه هادياً مبيناً يهدي من يشاء، وقد هدى عمه بأن علمه وبين له، وإنما المراد هنا: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} أي: لا تستطيع التوفيق؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بشر ليس بيده هذا الأمر، ولهذا قال: {وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أي: يوفق من يشاء.
وتوفيقه سبحانه لعباده المؤمنين للإيمان تابع لعلمه وحكمته، ولهذا قال سبحانه: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23] ، ولما علم أن الأنبياء محل لاصطفائه اصطفاهم، ولهذا فإن الله تعالى إذا ذكر الضلال في القرآن فلا بد أن يقيده إما بجهة أو سبب من العبد، أو يذكره معه الهداية، كما في قوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:8] ، فإذا علقه بمحض المشيئة ذكر معه الهداية، وإلا ذكره مقيداً بجهة وسبب من العبد، كقوله تعالى: {وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] . فقوله: {وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ} سياق كلمة {الظَّالِمِينَ} يدل على السبب، وأن الظلم جاء من جهتهم، ولهذا فإنه سبحانه وتعالى لا يعذب إلا من قامت عليه الحجة: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] . ......

تقدير الآجال والزيادة فيها
قول المصنف: "وضرب لهم آجالاً" آجال العباد مقدرة، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس و أبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه)) . وهذا الحديث أشكل على كثير من المتأخرين، إذ قالوا: إن الذي يغير فيه هو الأجل المكتوب في صحف الملائكة المذكور في مثل حديث ابن مسعود المتفق عليه في قوله صلى الله عليه وسلم: (ويكتب رزقه وأجله) وهذا قال به طوائف من أهل العلم، وأضافه طائفة من الشراح المتأخرين إلى طائفة من الصحابة، كـعمر وغيره، وإن كان في ثبوته عنهم بعض التردد.
ولكن الصحيح في هذا المقام أن يقال: إن قوله عليه الصلاة والسلام: ((من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه)) أن صلة الرحم سبب، والله سبحانه وتعالى قدر وعلم السبب والمسبب قبل خلق الخلق، والأجل والرزق مرتبط في علم الله وحكمته بأسباب. وقد يكون من هذه الأسباب ما هو معروف المناسبة كالتجارة لبسط الرزق مع أن اشتغاله بهذه التجارة مكتوب ومقدر، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يندب إلى سبب شرعي ليس معروف المناسبة عند بني آدم، فعلق زيادة العمر والرزق بصلة الرحم، التي لا يعرف عند بني آدم عادةً أنها مناسبة لبسط الرزق وطول العمر، فهذا هو أجود ما يقال في هذه المسألة. وطول العمر وسعة الرزق تارةً يكون نعمة وتارةً لا يكون نعمة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث عمار رضي الله عنه الذي أخرجه الإمام أحمد و الحاكم في المستدرك: ((اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما كانت الحياة خيراً لي)) .
إلا أنه هنا نعمة؛ لأنه جعل صلة الرحم سبباً شرعياً مطلوباً من العبد القيام به، وجعل بسط الرزق وطول العمر، نتيجة لذلك السبب أي أن العبد سيوفق في ماله وعمره إلى الخير. وأما قول من قال: إنه يمحى من صحف الملائكة فهذا ليس عليه دليل من الشرع، ولم يثبت في الكتاب ولا السنة أن شيئاً مما في صحف الملائكة يُمحى. وأما قوله تعالى: {يَمْحُو الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] فالصحيح في تفسيرها أن هذا في الشرائع وليس في القدر، وسياق الآيات يدل على ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُو الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:38-39] والشرائع يدخلها النسخ والمحو كما هو معروف ومجمع عليه. وأما ما في (اللوح المحفوظ)، فبإجماع السلف أنه لا تغيير فيه، ومن زعم من المتأخرين أنه قد يدخله التغيير فهذا غلط بالإجماع. ......


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
وأمرهم, قوله

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:08 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir