دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > العقيدة الطحاوية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30 ذو القعدة 1429هـ/28-11-2008م, 02:21 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي قوله: (خلق الخلق بعلمه، وقدر لهم أقداراً...)

خَلَقَ الخَلْقَ بِعِلْمِهِ.
وَقَدَّرَ لَهُم أَقْدَارًا.
وَضَرَبَ لَهُم آجَالًا.
وَلَمْ يَخْفَ عليهِ شَيْءٌ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَهُم.
وَعَلِمَ ما هم عَامِلُونَ قبلَ أنْ يَخْلُقَهُم.


  #2  
قديم 1 ذو الحجة 1429هـ/29-11-2008م, 01:52 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التعليقات على الطحاوية لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله ابن باز


[لا يوجد تعليق للشيخ]


  #3  
قديم 1 ذو الحجة 1429هـ/29-11-2008م, 01:53 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي

(1) خَلَقَ الخَلْقَ بِعِلْمِهِ.
(2) وَقَدَّرَ لَهُم أَقْدَارًا.
(3)وَضَرَبَ لَهُم آجَالًا.
(4)وَلَمْ يَخْفَ عليهِ شَيْءٌ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَهُم.
(5) وَعَلِمَ ما هم عَامِلُونَ قبلَ أنْ يَخْلُقَهُم.




(1) قَالَ سُبْحَانَهُ: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (تَبَارَك: 14). فَخَلْقُهُ دليلٌ على عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَقُدْرَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ وَمَا كَانَ اللَّه لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا}.

(2)قَدَّرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا المقاديرَ، ولم يُوجِدْ هذه الأشياءَ بِدُونِ تَقْدِيرٍ، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (الحِجْر: 21) فَكُلُّ شَيْءٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ بِمَقَادِيرَ وَكَيْفِيَّاتٍ لَا تَخْتَلِفُ ولا تَتَغَيَّرُ، فالإنسانُ قَدَّرَ اللَّهُ جِسْمَهُ وحَوَاسَّهُ وأعْضَاءَهُ وتَرْكِيبَهُ وأَوْزَانَهُ، حتى صارَ إِنْسَانًا مُعْتَدِلًا يَمْشِي وَيَقِفُ ولو اخْتَلَّ شَيْءٌ من أعضاءِ هذا الإنسانِ أو مِن تَرَاكِيبِهِ اخْتَلَّ الجسمُ، وكذلكَ سَائِرُ الكائناتِ {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرَّعْد: 8).
فَلِكُلِّ شَيْءٍ مَقَادِيرُ يَنْضَبِطُ بها، وَلِكُلِّ شَيْءٍ مَقَادِيرُ تَخْتَلِفُ عن مقاديرِ الآخرِ.

(3)المَخْلُوقاتُ لها آجالٌ ولها نهايةٌ، قَالَ سُبْحَانَهُ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}
(الرَّحْمَن: 26، 27)، وقَالَ سُبْحَانَهُ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (القَصَص: 88).
كُلُّ شَيْءٍ لَهُ عُمُرٌ مَحْدُودٌ، حَدَّدَهُ اللَّهُ – سُبْحَانَهُ – إِمَّا قَصِيرٌ وَإِمَّا طويلٌ، قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يَنْقُصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (فَاطِر: 11)، فَالأَعْمَارُ بيدِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا يَدُلُّ على كمالِ رُبُوبِيَّتِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، فَمَا شاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.


(4) بلْ هو عالمٌ بالأشياءِ قبلَ أنْ تُوجَدَ، لا أَنَّهُ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا بعدَ أَنْ وُجِدَتْ.

(5) عَلِمَ ما يَعْمَلُ العِبَادُ قبلَ خَلْقِهم، أنَّ هذا من أهلِ الطاعةِ وهذا من أهلِ المَعْصِيَةِ.


  #4  
قديم 4 ذو الحجة 1429هـ/2-12-2008م, 11:04 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي

قوله: "خلق الخلق بعلمه"

ش: خلق: أي: أوجد وأنشأ وأبدع. ويأتي خلق ايضاً بمعنى: قدر. والخلق: مصدر، وهو هنا بمعنى المخلوق. وقوله: بعلمه في محل نصب على الحال، أي: خلقهم عالماً بهم، قال تعالى: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ* وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ}. وفي ذلك رد على المعتزلة.
قال الإمام عبد العزيز المكي صاحب الإمام الشافعي رحمه الله وجليسه، في كتاب الحيدة، الذي حكى فيه مناظرته بشراً المريسي عند المأمون حين سأله عن علمه تعالى: فقال بشر: أقول: لا يجهل، فجعل يكرر السؤال عن صفة العلم، تقريراً له، و بشر يقول: لا يجهل، ولا يعترف له أنه عالم بعلم، فقال الإمام عبد العزيز: نفي الجهل لا يكون صفة مدح، فإن هذه الأسطوانة لا تجهل، وقد مدح الله تعالى الأنبياء والملائكة والمؤمنين بالعلم، لا بنفي الجهل. فمن أثبت العلم فقد نفى الجهل، ومن نفى الجهل لم يثبت العلم، وعلى الخلق أن يثبتوا ما أثبته الله تعالى لنفسه، وينفوا ما نفاه، ويمسكوا عما أمسك عنه.
والدليل العقلي على علمه تعالى: أنه يستحيل ايجاده الأشياء بالجهل، ولأن ايجاده الأشياء بإرادته، والإرادة تستلزم تصور المراد، وتصور المراد: هو العلم بالمراد، فكان الايجاد مستلزما للإرادة، والإرادة مستلزمة للعلم، فالايجاد مستلزم للعلم. ولأن المخلوقات فيها من الأحكام والإتقان ما يستلزم علم الفاعل لها، لأن الفعل المحكم المتقن يمتنع صدوره عن غير علم، ولأن من المخلوقات ما هو عالم، والعلم صفة كمال، ويمتنع أن لا يكون الخالق عالماً. وهذا له طريقان: أحدهما: أن يقال: نحن نعلم بالضرورة أن الخالق أكمل من المخلوق، وأن الواجب أكمل من الممكن، ونعلم ضرورة أنا لو فرضنا شيئين، أحدهما عالم والآخر غير عالم - كان العالم أكمل، فلو لم يكن الخالق عالماً لزم أن يكون الممكن أكمل منه، وهو ممتنع.
الثاني: أن يقال: كل علم في الممكنات، التي هي المخلوقات - فهو منه، ومن الممتنع أن يكون فاعل الكمال ومبدعه عارياً منه بل هو أحق به. والله تعالى له المثل الأعلى، ولا يستوي هو والمخلوقات، لا في قياس تمثيلي، ولا في قياس شمولي، بل كل ما ثبت للمخلوق من كمال فالخالق به أحق، وكل نقص تنزه عنه مخلوق ما فتنزيه الخالق عنه أولى.

قوله: "وقدر لهم أقداراً ".

ش: قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}
وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}. وقال تعالى: و{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا}. وقال تعالى: {الذِي خَلقَ فَسوّى * والذِي قَدرَ فَهدَى}. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)).

قوله: " وضرب لهم آجالاً "

ش: يعني: أن الله سبحانه وتعالى قدر آجال الخلائق، بحيث إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. قال تعالى: {إِذَاجَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً}. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قالت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها: اللهم أمتعني بزوجي رسول الله، و بأبي سفيان، و بأخي معاوية، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم، ((قد سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيئاً قبل أجله، ولن يؤخر شيئاً عن أجله، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار وعذاب في القبر كان خيراً وأفضل )) فالمقتول ميت بأجله، فعلم الله تعالى وقدر وقضى أن هذا يموت بسبب المرض، وهذا بسبب القتل، وهذا بسبب الهدم، وهذا بسبب الحرق، وهذا بالغرق، إلى غير ذلك من الأسباب. والله سبحانه خلق الموت والحياة، وخلق سبب الموت والحياة.
وعند المعتزلة: المقتول مقطوع عليه أجله، ولو لم يقتل لعاش إلى أجله فكأن له أجلان وهذا باطل، لأنه لا يليق أن ينسب إلى الله تعالى أنه جعل له أجلاً يعلم أنه لا يعيش إليه البتة، أو يجعل أجله أحد الأمرين، كفعل الجاهل بالعواقب، ووجوب القصاص والضمان على القاتل، لارتكابه المنهي عنه ومباشرته السبب المحظور. وعلى هذا يخرج قوله صلى الله عليه وسلم: ((صلة الرحم تزيد في العمر)) أي: سبب طول العمر. وقد قدر الله أن هذا يصل رحمه فيعيش بهذا السبب الى هذه الغاية، ولولا ذلك السبب لم يصل إلى هذه الغاية، ولكن قدر هذا السبب وقضاه، وكذلك قدر أن هذا يقطع رحمه فيعيش إلى كذا، كما قلنا في القتل وعدمه.

فإن قيل: هل يلزم من تأثير صلة الرحم في زيادة العمر ونقصانه تأثير الدعاء في ذلك أم لا ؟
فالجواب: أن ذلك غير لازم، لقوله صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة رضي الله عنها: ((قد سألت الله تعالى لآجال مضروبة الحديث، كما تقدم. فعلم أن الأعمار مقدرة، لم يشرع الدعاء بتغيرها، بخلاف النجاة من عذاب الآخرة. فإن الدعاء مشروع له نافع فيه، ألا ترى أن الدعاء بتغيير العمر لما تضمن النفع الآخروي - شرع كما في الدعاء رواه النسائي من حديث عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني اذا كانت الوفاة خيرا لي، إلى آخر الدعاء. ويؤيد هذا ما رواه الحاكم في صحيحه من حديث ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)). وفي الحديث رد على من يظن أن النذر سبب في دفع البلاء وحصول النعماء، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن النذر، وقال: ((انه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل)).
واعلم أن الدعاء يكون مشروعاً نافعاً في بعض الأشياء دون بعض، وكذلك هو. وكذلك لا يجيب الله المعتدين في الدعاء. وكان الامام أحمد رحمه الله يكره أن يدعى له بطول العمر، ويقول: هذا أمر قد فرغ منه.
وأما قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ}، فقد قيل في الضمير المذكور في قوله تعالى: {مِنْ عُمُرِهِ} أنه بمنزلة قولهم: عندي درهم ونصفه، أي: ونصف درهم آخر، فيكون المعنى: ولا ينقص من عمر معمر آخر، وقيل: الزيادة والنقصان في الصحف التي في أيدي الملائكة، وحمل قوله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ* يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}، [على أن المحو والاثبات من الصحف التي في أيدي الملائكة، وأن قوله: وعنده أم الكتاب]. اللوح المحفوظ. ويدل على هذا الوجه سياق الآية، وهو قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}، ثم قال: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ}، أي: من ذلك الكتاب، {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}، أي: أصله، وهو اللوح المحفوظ. وقيل: يمحو الله ما يشاء من الشرائع وينسخه ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، والسياق أدل على هذا الوجه من الوجه الأول، وهو قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}. فأخبر تعالى أن الرسول لا يأتي بالآيات من قبل نفسه، بل من عند الله، ثم قال: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ* يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ}، أي: أن الشرائع لها أجل وغاية تنتهي إليها، ثم تنسخ بالشريعة الأخرى، فينسخ الله ما يشاء من الشرائع عند انقضاء الأجل، ويثبت ما يشاء.
وفي الآية أقوال آخرى، والله أعلم بالصواب.

قوله: "ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم ".

ش: فإنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون [و] ما لم يكن أن لو كان كيف يكون، كما قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}. وإن كان يعلم أنهم لا يردون، ولكن أخبر أنهم لو ردوا لعادوا، كما قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}. وفي ذلك رد على الرافضة والقدرية، والذين قالوا: إنه لا يعلم الشيء قبل أن يخلقه ويوجده. وهي من فروع مسألة القدر، وسيأتي لها زيادة بيان، إن شاء الله تعالى.


  #5  
قديم 4 ذو الحجة 1429هـ/2-12-2008م, 11:19 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح العقيدة الطحاوية لمعالي الشيخ: صالح بن عبد العزيز آل الشيخ (مفرغ)

القارئ: بِسْمِ اللهِ الرَّحَمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال العلامة أبو جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى:
"خلق الخلق بعلمه، وقدر لهم أقدارا، وضرب لهم آجالا، ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، فمشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن، يهدي من يشاء، ويعصم ويعافي فضلا، ويضل من يشاء، ويخذل ويبتلي عدلا، وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله" ـ

الشيخ: سبحانه ـ وهو متعال عن الأضداد والأنداد، لا رادَّ لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره، آمنا بذلك كله، وأيقنا أن كلا من عنده.

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد..,

فأسأل الله جل وعلا أن يعيذني وإياك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعوة لا يستجاب لها، اللهم إنا نعوذ بك أن نَزل أو نُزل، أو نَضل أو نُضل، أو نجهل أو يجهل علينا، اللهم فأعذنا.

شرع الطحاوي رحمه الله في ذكر بعض صفة الرب جل وعلا المتعلقة بقدره السابق وبمشيئته العامة، وأنه سبحانه ذو العلم الكامل المطلق، الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه، وأنه سبحانه الذي أجرى كل شيء على وفق ما أراد، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.

وهذه المسائل التي سمعتم والجمل متصلة ببحث القدر. والمؤلف الطحاوي لم يجمع الكلام في القدر في موضع واحد، بل فرقه في نحو ثلاثة مواضع، ولهذا كان من عيوب هذه الرسالةِ، أنَّها جرت على وفق ما تيسر لمؤلفها. والترتيب ينفع المتلقي، لكن بالنسبة لنا سنجري على وفق ما جرى هو عليه، ونذكر ما يفيد إِنْ شَاءَ اللَّهُ في كل موضع بحسبه.

قال هنا: "خلقَ الخلقَ بعلمِه، وقدر لهم أقدارا، وضرب لهم آجالا"
ردا على مداخلة غير مسموعة: لا شرحناه.
ـ.......................
ـ (اللي) هي (إيش؟)
ـ.......................
ـ لا، هذه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} تكلمنا عنها في أول المقام، "وكل أمر عليه يسير" لا يحتاج إلى شيء، يعني واضحة مع سبق إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

قال: "خلق الخلق بعلمه"، هو سبحانه خلق المخلوقات عالماً بها غير جاهل بما هي عليه، وما سيؤول إليه امرها، وأورد هذه الجملة الطحاوي مخالفاً أهل الاعتزال، الذين لا يجعلون العلم مصاحبا لصفات الله جل وعلا ولأفعاله، وعلْمُ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صفة ملازمة، هو سبحانه وتعالى عالم بعلم، وخالق بعلم، وقادر بعلم، ورحيم بعلم، يرحم من يشاء عن علم، وهذا العلم هو صفته جل وعلا الملازمة له، لا تنفك عنه، وعلمه سُبْحَانَهُ أول، قبل خلق الخلق كان عالماً بما يصلح لهم وما تقتضيه حكمته فيهم.

لهذا قال: "خلق الخلق بعلمه" ففي هذا رد على المعتزلةِ مِن جهةِ الصفات، وفيه رد أيضاً على القدرية، أعني بهم الذين ينفون علم الله السابق، القدرية الغلاة نفاة القدر، الذين يقولون: إن العلم حدث بعد وجود الأشياء، فهو سبحانه علم بعد وقوع الأشياء، فخلق الخلق، ففعل الناس فعلم جل وعلا ذلك.

واستدلوا على هذه النحلَةِ بقوله جل وعلا: {لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} وبقوله جل وعلا في تحويل القبلة: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ} ونحو ذلك من الآيات، التي فيها تعليل بعض الأحكام الكونية، أو الأحكام الشرعيَّة، وحصول الأشياء بأن يعلم الله جل وعلا ذلك، {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ}، قال جل وعلا في هذه الآية: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ } فزعموا أن هذه الآيات، وأشباه هذه الآيات تدل على أنه جل وعلا لا يعلم الأشياء إلا بعد أن تقع.

وأهل السنة مثبتون لعلم الله جل وعلا الكلي بالأشياء، ولعلم الله جل وعلا التفصيلي بأجزاء الأشياء، وحوادثها المفردة، وإذا عُلل شيء في الْقُرْآنِ أو في السنة بكي يعلم الله جل وعلا ذلك الشيء، فإن معناه عندهم بما دلت عليه الأدلة، معناه: حتى يظهر علم الله في الأشياء في هذه الأمور؛ ليقع حسابه، وليقع تعذيبه أو تنعيمه أو نحو ذلك، يعني: إظهار ما تنقطع به الحجة، فقوله سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ} يعني: إلا ليظهر علمنا فيمَن اتبع الرسول ممن انقلب على عقبيه؛ لأن الله جل وعلا لو آخذ العباد، وآخذهم وحاسبهم على علمه السابق فيهم، لكان لهم حجة، فهو سبحانه جعل هذه الأشياء مع علمه السابق بما سيفعله العباد؛ لكي يظهر علمه فيهم، فجاء إذن هنا (لكي) في قوله: {لِنَعْلَمَ} حتى يظهر العلم، فيكون ذلك حجة على الناس، وهذا ظاهر بين؛ لأن علم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالأشياء قبل وقوعها، قال سبحانه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ} وهذا.. وفي الآية الأخرى: {مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ}.

وهذا يدلك على أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علم قبلَ الكتابة، والكتابة متأخرة على العلم، وهذا الذي يجعلنا نقول: إن علم الله جل وعلا أول بالأشياء، وهنا يقيد ذلك بعلم الله جل وعلا بما أراده سبحانه، فإذا أراد الله جل وعلا شيئاً علم تفصيلاته، وخلق الشيء، خلق المخلوقات، وخلق الأشياء بعلمه، يعني: على وفق علمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بها، وهو عالم بها غير جاهل بها.

ولهذا قرأتم ما في.. أو قرأ بعضكم ما في مناظرات المعتزلة مع أهل السنة، في أن المعتزلة يقولون في أسماء الله جل وعلا: إنه سبحانه مثلاً عالم بغير علم، وخالق بغير خلق، وحي بغير حياة وهكذا. يجعلون الصفات مخلوقات منفصلة، فعندهم العلم هو المعلومات، فتعلقت الصفات التي يثبتونها بالمعلوم، فصار عالماً لا لعلم حدث فيه؛ وذلك فراراً منهم من مسألة حدوث مفردات العلم؛ لأن العلم له مفردات، وإذا حلَّت المفردات، يعني علم هذه معناه أنه حل به علم بهذا الشيء، الذي حصل، أو تعلق به خلق هذا الشيء، فكأنه جل وعلا صارت له صفة لم تكن له من قبل، وهذا يستلزم التركيب، والتركيب يستلزم الجسمية، والجسمية تنافي ألوهية الرب جل وعلا، كما هو مقرر في موضعه.

المقصود أن قوله: "خلق الخلق بعلمه" ظاهر معناه أنه خلق سبحانه المخلوقات، وهو عالم بها، وهو جل وعلا علم قبل خلقها، وأيضاً يعلمها بعد خلقها.

ثم قال رحمه الله تعالى: "وقدَّر لهم أقدارا" يعني قدر للخلق أقدارا؛ وذلك لقول الله جل وعلا: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}، ولقوله سبحانه: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}، وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضًا: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}.

والإيمان بقدر الله جل وعلا هذا ركن من أركان صحة الإيمان، فهو واجب؛ لأن التكذيب به باطل، كما سيأتي مفصلاً في موضعه، فقول المؤلف: "وقدر لهم أقدارا" يعني أنه جعل للمخلوقات أقداراً، لا تُحصِّل المخلوقات ما هي عليه بلا ترتيب سابق، بلا تقدير سابق، وهذا يشمل أشياء: الأول.. يعني تقدير الأقدار لهم يشمل أشياء:

الأولُ: تقدير ما به تمام خلقهم؛ فإنَّ الله جل وعلا قدر لكل مخلوق خِلقه، يكون عليها، ووصوله إلى غاية هذه الخلقة أيضاً يحتاج إلى تقدير، فالجنين لا يخرج من بطن أمه إلا وقد سبقه تقدير تفصيلي لكل المراحل، التي سيمر بها، وما يعرض له من كمال أو نقص، كما قال جل وعلا: {اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَار}،{وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَار}.

الثاني: أن مقادير المخلوقات مقدرة في الصفات، التي تكون عليها المخلوقات من الغرائز والأحوال، التي يسميها الآخرون الأعراض، فكل الأعراض التي تعرض على الذوات الله جل وعلا قدرها، فقدر الألوان بتفصيلاتها، وقدر الصفات من الحرارة واليبوسة، وقدر الذكاء، وقدر تفصيلات الحياة التي في المخلوق بجميع الأحوال، سواء في ذلك المخلوقات التي حياتها بالروح، أو المخلوقات التي حياتها بالنماء، أو المخلوقات الجامدة عن الحركة الظاهرة.

الثالث: قدر الله جل وعلا على المكلفين من مخلوقاته ما هم عليه من الشقاوة، ومن السعادة، ومن الهدى، ومن الضلال، ولهذا قال: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}،{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} فرتب الهداية بعد التقدير؛ لأنه عنى بالتقدير هنا المرتبتين الأوليين؛ لأنه جعلها بعد قوله: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} يعني: جعل الخلق على نهايته، يعني سواه، يعني جعله على نهايته المقدرة له، ثم قال: {وَالَّذِي قَدَّرَ} يعني: على.. لما خلق الأشياء الغريزية والخلقية، فهدى للطريقين.

إذا تبين لك ذلك، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قدر للأشياء المقادير. وتعبير المؤلف بقوله: "قدر لهم" هذا مناسب من لو قال: "قدر عليهم أقدارا"؛ لأن التقدير لهم يشمل ما سيكونون عليه من خير أو شر، إذا تبين هذا ففي قوله: "قدر لهم أقدارا" مسائل:

الأولى: القدر معناه في اللغة: تهيئة الشيء لما يصلُحُ له، فإذا هيأت شيئاً لما يصلح له فقد قدرته، وتقول: أقدر أن يكون كذا وكذا، يعني هيأت هذا الأمر على أن يكون كذا، فتكون داخلاً في هذا الأمر بتقدير، إذا دخلت فيه بتهيئة، وهذا هو المعنى اللغوي العام، كما قال سبحانه: {فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} والآيات في هذا كثيرة، {وكُلُّ شَىءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} ونحو ذلك.

أما في الشرع فالقدر سر الله جل وعلا، الذي لم يُطلع عليه أحدا، لا ملكا، لم يطلع عليه ملكاً مقرباً، ولم يطلع عليه نبياً مرسلاً، بل هو سر الله جل وعلا الذي لا يعلمه على وجه الكمال أحد.

وتعريف القدر اختلف فيه الناس، وحتى تعريفه عند المنتسبين للسنة مختلف، لكنه عُرِّف بتعريف أُخذ من مراتب القدر، التي جاءت الأدلةُ على مفرداتها، فقيل في تعريف القدر عند أهل السنة: إنَّه علم الله السابق بالأشياء قبل وقوعها، وكتابتُه لذلك في اللوح المحفوظ قبل خلقها وإيجادها، ومشيئتُه النافذة الشاملة، وخلقه جل وعلا لكلِّ ما قدر، أو خلقه جل وعلا لكل شيء، وهذا يشمل المراتب جميعاً، وسيأتي ذكر مراتب القدر ودرجاته في موضعه، فيما نستقبل من هذه الرسالة.

المسألة الثانية: أن القدر، لما كان هذا أول موضع فيه، يجب أن يبحث من جهة النصوص فقط؛ لأن النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صح عنه أنه قال: ((إذا ذكر القدر فأمسكوا)) يعني: فأمسكوا عن الخوض فيه بما لم يدلكم عليه كلام الله جل وعلا أو كلام نبيكم عليه الصلاة والسلام، فإذا تكلمنا في القدر أو خاض المرء فيه بعقله وفهمه، فيجب ألا يتعدى ما دلت عليه النصوص؛ وذلك لأن تجاوز ما دلت عليه النصوص في باب القدر، بسببه ضل الناس.

وهذا الخوض يسبب الضلال إذا تعرض لأمور، يعني: إذا تعرض الناظر لأمور تسبب له الضلال في القدر:
الأمر الأول: الخوض في أفعال الله جل وعلا بالتعليل: إذا خاض في أفعال الله جل وعلا بالتعليل الذي يظهر له دون حجة فإنه يضل؛ لأن أفعال الله جل وعلا صفاته سبحانه وتعالى وهي مرتبطة عندنا بعلل توافق حكمة الرب جل وعلا، والمخلوق لا يفهم من تعليل الأفعال إلا بما أدركه، أو بما يصل إليه إدراكه، بما أدركه يعني يرى مثيله، علل هذا بهذا؛ لأنه مر عليه، أو أدركه بما شاهد، أو يصل أنه [حوار غير مسموع مع أحد الطلبة] بما أدركه بما شاهد أو يصل إليه إدراكه بالمعلومات المختلفة، التي يقدرها.

وقد قدمنا لكم أن الأساس في صفات الله جل وعلا أنه لا يدرك كيفية الاتصاف بالصفات، كما لا يدرك كمال معرفة حكمةِ الله، ولا كمال التعليل، ولهذا مَن خاض في التعليلات في الأفعالِ بالعللِ، فإنه لابد أن يخطئ، إذا تجاوز ما دل عليه الدليل.

والعلل قسمان: علل كونيَّة، وعلل شرعية. وأفعال الله معللة، لا شك أفعال الله في ملكوته معللة، وأفعال الله في شرعه، يعني: أحكام الله جل وعلا الشرعية معللة، يعني في الغالب، الشرعيات في الغالب معللة.

إذا تبين لك ذلك فإن الخوضَ في التعليلات في الأفعال بالعلل هو سبب ضلال الفرق المختلفة في باب القدر، هو سبب ضلال القدرية المشركية، وهو سبب ضلال القدرية الغلاة النافية للعلم، وهو سبب ضلال القدريَّة المتوسطون أو المعتزلة؛ لأن الفرق الرئيسية في القدر ثلاث كما سيأتي بيانه: قدرية مشركية {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} وقدرية غلاة، نفاة العلم، الذين قالوا: إن الأمر أُنف، ولا يعلم الأشياء. وقدرية متوسطة وهم المعتزلة في باب القدر، والذين لم ينفوا كل مراتب القدر، لم ينفوا العلم السابق، كما سيأتي تفصيله في موضعه.

وكل هذه الفرق خاضوا في مشيئة الله وإرادته، والتعليلات بعقولهم، فلما لم يفهموا التعليل ضلوا، كما قال شيخ الاسلام في تائيته القدرية:



وأصل ضلال الخلق من كل فرقة = هو الخوض في فعل الإلـه بعلة
فإنهم لم يفهمـوا حكـمة لـه = فصاروا على نوع من الجاهلية

فإذن الأمر الأول من أسباب الضلال في هذا الباب: الخوض في الأفعال، لم أغنى؟ ولم أفقر؟ لم أصح؟ ولم؟ لم خلق هذا الشيء على هذا النحو؟ لم أعطى؟ لم شرع؟ لم جعل هذه الأمة كذا، وهذه الأمة كذا؟ لم جعل الأرض كذا؟ لم جعل الجنة كذا؟ لم جعل مصير هذا كذا؟ إلى آخره، كل هذا إذا خاض فيه العبد، فإنه باب ضلال؛ لأن القدر سر الله جل وعلا.

الأمر الثاني مما لا يخاض فيه في باب القدر: قياس أفعالِ الله جل وعلا على أفعالِ المخلوقين، أو جعْل ميزان تقدير الله على وجه الكمالِ والصحة هو ميزان تقدير المخلوقين؛ فإنَّ العباد إذا نظروا في فعل المخلوقِ، في تقديره وتصرفاته، فإنهم يجعلون الصواب والكمالَ في حق المخلوق على نحو ما، فإذا نقلوا هذا الذي أدركوه في المخلوقِ إلى فعْلِ الله جل وعلا فإنه أتى باب كبير من أبواب الضلال، يعني: حصل باب كبير من أبواب الضلال، كما حصل للقدرية من المعتزلة وأشباههم؛ فإنهم قاسوا أفعال الله بأفعال خلقه، فأوجبوا على الله جل وعلا فعل الأصلح، بما عهدوه من فعل الإنسان، وأوجبوا على الله جل وعلا العدل، ونفوا عنه الظلم بما عهدوه من فعل الإنسان، ولهذا قالوا: إن الله جل وعلا يجب عليه فعل الأصلح، وأنه يحسن في فعل الله كذا، ويقبح كذا، فما حسنته عقولهم بما رأوه في البشر حسنوه في فعل الله، وما قبحته عقولهم من أفعال المخلوقين قبحوه في فعل الله، فنفوا أشياء عن الله جل وعلا ثابتة له؛ لأجل هذه المسائل الثلاث التي ذكرتها لكم:
مسألة التحسين والتقبيح، مسألة الصالح والأصلح، ومسألة الظلم والعدل.
فهذه المسائل الثلاث هي أعظم أبواب الضلال القدرية، ولهذا يجب ألا يدخل فيها المكلَّف إلا بما دلت عليه النصوص، والأصل في هذا أن الله سبحانه لا يشبه بخلقه في أفعاله ولا في صفاته، كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}

الأمر الثالث مما ينبغي مراعاته في بحث القدر، وإذا قرأت في هذا الباب: أن العلماء الذين تكلموا في مسائل القدر من المتقدمين من علماء السلف، فصنفوا فيه كابن أبي داود، بل قبله ابن المبارك، ومن كتب في ذلك في مصنفات مستقلة، أو ضمن كتب السنة الأخرى، أو من صنف من المتأخرين في هذا الأمر، يجب أن تنظر إلى كلامه على أنه قابل للأخذ والرد، إذا دخل في أمر عقلي لا دليل عليه، إذا دخلَ في أمر عقلي لا دليل عليه من كلامِ الله جل وعلا، أو كلام رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتوقف؛ لأننا وجدنا أن طائفة من الناس أخذوا كلام من وثقوا به من أهل العلم في مسائل القدر، على أنه مسلَّم، لما كان منتسباً إلى السنة، لكنه خاض باجتهاده في بعض المسائل من جهة العقل، فيأتي الناظر فلا يدرك كلامه على وجه التمام، أو يكون ذاك مخطئاً فيتابعه هذا وينسبه إلى السنة، والسنة في باب القدر هي ما دل عليه الْقُرْآن وحديث المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحسب، وما زاد عنه فيجب الإمساك عنه.

قد يحتاج طالب العلم إلى التفصيل العقلي، بما دلت عليه النصوص والإلزامات بما علم من النصوص في مقام الرد على المخالفين، لا في مقام التقرير.

فإذن ينبغي أن يفهم كلام أهل العلم على مرتبتين:

المرتبة الأولى: مقام تقرير مسائل القدر، هذا واحد،
والثاني مقام الرد على الخصوم في القدر، فإذا كان المقام مقام تقرير للاعتقاد الصحيح في القدر فلا يجوز أن يتجاوز الْقُرْآن والسنة، لا يجوز أن يتجاوز كلام الله جل وعلا وحديث المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن القدر سر الله جل وعلا.

المسألة الثالثة: أن الفِرَقَ في باب القدر.. قبل أن نخوض فيه أو نبحث هذا الموضوع نعطيك تصورا عاما، وسيأتي له تفصيل.

فالفرق في هذا الباب المنتسبة للأمة ثلاث فرق:
الفرقة الأولى: القدرية،
والفرقة الثانية: الجبرية،
والفرقة الثالثة: أهل السنة والجماعة.
والقدرية طوائف كثيرة؛ منهم الغلاة، ومنهم المتوسطون. وقولنا عنهم: قدرية نعني به نفاة القدر، ننسبهم للقدر؛ لأنهم نفوه، قال أهل العلم عنهم: قدرية؛ لأنهم نفوا القدر، منهم من نفى العلم، ومنهم من نفى عموم المشيئة، أو عموم خلق الله جل وعلا لكل شيء.
ومنهم الجبرية الذين قالوا: إن العبد مجبور، وهؤلاء الذين قالوا: إن العبد مجبور، منهم الغلاة كالجهمية، وغلاة الصوفية الذين يقولون: هو كالريشة في مهب الريح، ومنهم المتوسطون الذين قالوا: هو مجبور في الباطن، ومختار في الظاهر، وهم الماتريدية والأشاعرة.
والمؤلف الطحاوي ينتمي في الجملة، في الجملة في المسائل المشكلة إلى الماتريدية، ولهذا ينبغي أن ينتبه لكلامه في المواطن ذات الزلل كمسألة القدر، هل قررها على وجه الجبر أم على وجه كلام أهل السنة والجماعة؟ كما سيأتي.

المسألة الرابعة: نختم بها قوله: "قدر لهم أقدارا" أن هناك ألفاظاً تستعملها الطوائف جميعا في مبحث القدر، ولكل طائفة قصد ومصطلح في استعمالها، وهذه يجب عليك أن تنتبه لها، مثال ذلك.. ستأتي مفصلة في موضعها إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، مثال ذلك مسألة الكسب؛ فإن الكسب عند أهل السنَّة له معنى، وعند الأشاعرة والماتريدية له معنى، وعند المعتزلة له معنى، فلفظ واحد يَرِد في كتب أهل السنة، ويرد في كتب الأشاعرة والماتريدية، ويرد في كتب المعتزلة، وكل له في هذا المقام اصطلاحه ومعناه.

كذلك نفوذ المشيئة، مشيئته نافذة، هذا عند المعتزلة له معنى، وعند الأشاعرة والماتريدية له معنى، وعند أهل السنة له معنى، نفوذ المشيئة، عموم المشيئة، شمول المشيئة؛ فالقدرية يعنون بذلك معنى، يعني المعتزلة ومن نفوا القدر، والجبرية يصرفونه لمعتقدهم، وأهل السنة يستدلون أو يذكرونه على ما دلت عليه النصوص.

المقصود من هذا ها المقدمات دخول لك في هذه المباحث المهمة؛ لأننا في تقرير هذه العقيدةِ الطحاويَّةِ، نريد أن ننتقل بك من سرد المعلومات التفصيلية فقط في معتقد أهل السنة إلى ما يفتح لك آفاقاً في رؤية كتبِ أهل العلمِ في اعتقاد بعامة؛ لأننا الأصل أن الذين يحضرون معنا سبق أن حضروا كتباً كثيرة، يعني كالواسطية وما قبلها في تقرير عقيدة أهل السنة والجماعة.

فتنتبه إلى أن الألفاظ في باب القدر متشابهة، لكن المعاني مختلفة. إذا قرأت كتاباً من كتب التفسير في الآيات التي فيها عموم المشيئة في الهدى والضلال، في عموم خلق الله جل وعلا {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}، في التفضيل، إذا قرأت كلاماً لمفسر سلفي قد يستعمل العبارات التي يستعملها الأشعري، أو يستعملها المعتزلي، وكل له اصطلاحه، ولهذا قال من قال عن كتاب الكشاف للزمخشري: إنه دس فيه مذهب المعتزلة في الصفات وفي القدر، وهو أعظم بحيث لا يدركه إلا الناقد البصير.

هذه المسائل بتفصيلاتها تأتي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في مواضعها.
قال رَحمَهُ اللَّهُ بعد ذلك: "وضرب لهم آجالا" ضرب لهم آجالا الأجل. الآجال: جمع أجل، وضرب الآجال معناه أنه جل وعلا جعل لكل شيء أجلا ينتهي إليه، فما من شيء إلا وله أجل ينتهي إليه المراد من خلقه، فالسماوات لها أجل، والأرض لها أجل تنتهي إليه، وهكذا مخلوقات الله جل وعلا، ومنها ما جعله الله جل وعلا.. ما جعل الله جل وعلا له أجلا يعلمه سبحانه، ولا يعلمه العباد، قد يطول جداً، وقد لا يكون له نهاية بعلم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له.
الآجال غير الأعمار؛ فالعمر أخص من الأجل، ولهذا قال من قال من أهل العلم: إن الأجل في الْقُرْآنِ لا يقبل التغييرات {جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}،{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ}، هذا في الأمم، وقال جل وعلا في العمر: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ}، وهذا يدلك على أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ضرب آجالا، وجعل أعمارا، والجمع بين هذا وهذا عند طائفة من المحققين من أهل العلم: أن الأجل لا يقبل التعديل، ولا التغيير، وأما الأعمار فهي قابلة لذلك بأسباب أناط الله جل وعلا بها التغيير في قدره السابق كما قال سبحانه: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}.

فإذن أجل العباد، أجل المخلوقات، أجل الأمم، هذا هو الذي في اللوح المحفوظ لا يقبل التغيير، ولا يقبل التبديل، جعله الله جل وعلا على هذا النحو، على ما اقتضته حكمته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأما الأعمار فإنها تقبل التغيير، وقبولها للتغيير بما في التقدير السنوي للعباد؛ لأن القدر منه قدر عام، وهو الأصل العظيم، وهو ما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام: ((قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)) هذا التقدير العام في اللوح المحفوظ، ومنه تقدير خاص، التقدير الخاص يختلف، فيه تقدير لكل مخلوق في رحم أمه. وثَم تقدير سنوي في ليلة القدر، وثم تقدير يومي أيضاً بما يفعله العباد.

إذا تبين ذلك فإن التقدير الذي يقبل التغيير هو ما في صحف الملائكة، وهذا الذي يحمل على قول الله جل وعلا: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ}، بعض أهل العلم بالتفسير فهم الآية أن معناها: وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمر معمر آخر إلا في كتاب، وأن تعمير المعمر يكون بسبب قد قُدر، هو والتعمير معاً، فيكونا قد عمرا، لا بالنسبة إلى أنه كان عمره ليس بطويل فأطيل فيه.

وهذا يخالف ما جاءت به السنة الصحيحة من قول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((من سره أن يبسط له في رزقه, وينسأ له في أثره فليصل رَحِمَهُ))، وبقوله عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: ((ولا يزيد العمر إلا البر))، ((ما يزيد العمر إلا البر)).

قال هنا: ((من سرَّه أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره)) يعني: أن زيادة الأرزاق منوطة بسبب، وأن تعمير المعمَّر زيادة في عمره، نسء الأثر هذا مربوط بسبب، وهذا هو الذي ارتبط بالأعمار، بالآثار، أما الآجال فلا، الآجال لا تقبل تغييرات؛ لأنها هي الموافقة لما في اللوح المحفوظ، يعني: الأجل الذي إليه النهاية، أما العمر فهذا يقبل التغيير.
ولهذا صح عن أبن عباس رَضِي اللهُ عَنْهُما أنه قال في قوله تعالى في سورة الرعد: {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ}: إنه في صحف الملائكة، {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} يعني: اللوح المحفوظ. وهذا واضح.

فقول المؤلف رَحِمَهُ اللَّهُ: "وضرب لهم آجالا" يعني: ما كان من التقدير السابق قبل خلق السماوات والأرض.
قال: "لم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم"، لم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، هذا عام، يعني من الطاعات ومن المعاصي، من الخير ومن الشر، من ما سيعملون ومما لم يعملوا، لو عملوه كيف يكون؛ فإنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعلم أحوال الخلق على وجه التفصيل، فيما سيعملون وفيما لم يعملوه، ومثاله قول الله جل وعلا: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا
خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا}
إذن فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تعلق علمه بكل شيء، قال: "لم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم" لم؟ لأنه سبحانه بكل شيء عليم، كما قال جل وعلا: {وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.


  #6  
قديم 5 ربيع الأول 1430هـ/1-03-2009م, 09:49 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح العقيدة الطحاوية للشيخ: يوسف بن محمد الغفيص (مفرغ)

أصول القدر عند أهل السنة والجماعة

قال المؤلف عليه رحمة الله: [ذلك بأنه على كل شيء قدير، وكل شيء إليه فقير، وكل أمر عليه يسير، لا يحتاج إلى شيء، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى:11] ، خلق الخلق بعلمه، وقدر لهم أقداراً، وضرب لهم آجالاً، ولم يخفَ عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن، يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً، وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله، وهو متعال عن الأضداد والأنداد، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره، آمنا بذلك كله، وأيقنا أن كلاً من عنده] .
هذه الجمل التي ذكرها الطحاوي رحمه الله ظاهر سياقها أنه يشير بها إلى أصول أهل السنة في مسألة القدر، وهي مسألة عظيمة تعتبر من أخص مسائل الإيمان؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين أنه قال: ((الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتابه، ورسله، والبعث، والقدر خيره وشره)) . وقد اتفق المسلمون على أن من أصول الإيمان بالله: الإيمان بقضائه وقدره، وهذا الأصل مجمع عليه بين سائر طوائف المسلمين من حيث أنه أصل كلي؛ فإن من كذب بالقدر فهو كافر معاند لله سبحانه وتعالى. والمراد باتفاق المسلمين على هذا الأصل الإيمان المجمل، وإلا فإنه يعلم أن طوائف من هذه الأمة قد غلطت في هذه المسألة الشريفة، وأصول أهل السنة والجماعة في القدر سبعة، وهي متضمَّنَة في كلام المصنف في هذه الجمل. ......

الأصل الأول: عموم علم الرب تعالى
الأصل الأول هو: الإيمان بعموم علم الرب سبحانه وتعالى، فإنه قد علم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون. وهذا الأصل هو أشرف أصول القدر، وأخصها عند المسلمين، لأن سائر الأصول من بعده مبنية عليه، وكان السلف رحمهم الله يردون إلى هذا الأصل في مقام الرد على المخالفين، وقد دل على هذا الأصل العقل والفطرة والسمع، وهو المذكور في مثل قوله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك:14] وفي مثل قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام:59] إلى غير ذلك من النصوص القرآنية، الدالة على أن الله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم. وأما الفطرة: فإن الله فطر الخلق على الإقرار بأنه الخالق، ومن لازم كونه خالقاً أن يكون عليماً، فإنه سبحانه وتعالى قال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}، ولهذا قال المصنف: "خلق الخلق بعلمه"، أي: أنه خلقهم عالماً بهم، فما يكون من نجوى، وما يكون من هَمٍّ في نَفْسٍ، وما يكون من حركة إلى غير ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى قد علمها قبل كونها. والإيمان بأصل علمه سبحانه وتعالى مستقر عند جمهور بني آدم، ولم ينازع فيه إلا من أنكر الخالق سبحانه وتعالى، ولهذا قيل: (الإيمان بعموم علم الرب) لتتقرر بهذا مسألة وهي: أنه دخل في عموم علمه سبحانه وتعالى علمه بأفعال العباد، وهذا هو المقصود من تقرير هذا الأصل في هذا الباب.

الأصل الثاني: الكتابة
الأصل الثاني: الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى كتب في اللوح المحفوظ كل شيء، كما قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام:38] ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري من حديث عمران ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وكتب في الذكر كل شيء)) . فسائر أفعال العباد مكتوبة قبل خلقهم، ولهذا جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)) ، والكتابة جاءت مجملة ومفصلة. ويدخل في عموم الإيمان بهذا الأصل ما تكتبه الملائكة عن كون الإنسان المعين، من الرزق والأجل، والشقاوة والسعادة، وكونه ذكراً أو أنثى، كما جاء في الصحيحين من غير وجه عن عبد الله بن مسعود ، وكما جاء في الصحيح من حديث حذيفة بن أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه.. إلخ)) وهو حديث مشهور معلوم.
وهذا الأصل دليله السمع، وهو الدلائل الشرعية من الكتاب والسنة، بمعنى: أن الله لولا أنه أخبرنا في كتابه، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم حدثنا بهذا الأصل؛ لما كان من شرط العقل أو اقتضاء الفطرة إثبات الكتابة، بخلاف الأصل الأول (العلم) فإن الإيمان به سمعي، وفطري وعقلي. ولا يُفهم من هذا أن العقل أو الفطرة تنازع في هذا الأصل أو تنافيه؛ فإن عندنا قاعدة، وهي: أن كل ما أخبر به الله سبحانه وتعالى أو أخبر به رسله فإنه لا بد أن يكون موافقاً للعقل والفطرة، ولكن فرق بين كون هذا الخبر عُلم بالسمع، ثم العقل والفطرة لا تنافيه، وبين كونه معلوماً بأصل العقل أو الفطرة، ونزل الخبر به. ولهذا فإننا إذا ذكرنا الصفات مثلاً، فقلنا: إن صفة العلو دليلها العقل والشرع، فمعنى هذا: أن العقل والفطرة تدل على إثبات علو الرب سبحانه، وأما صفة الاستواء على العرش فهي صفة دل عليها الشرع؛ لأن الله أخبرنا أنه استوى على العرش، فالعقل قبل ورود الشرع لا يدركها ولا يقتضيها؛ لأنها غيب محض، ولكن كل ما أخبر به الشرع مما جاء في الكتاب أو السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن العقل والفطرة يقتضيه حال كونه خبراً ثابتاً، وفرق بين دلالة العقل على الشيء حال كونه خبراً ثابتاً، وبين دلالة العقل على الشيء قبل ثبوته. وقد قرر شيخ الإسلام رحمه الله قاعدة وهي: (أن الرسل تخبر بمحارات العقول لا بمحالات العقول). ومراده بالمحارات: أي ما يتحير العقل في تصوره، لكن لا يمكن أن يحيل العقل شيئاً أخبرت به الرسل، فمن أحال عقله شيئاً من ذلك، فهذا دليل على فساد في عقله، وغلط في فهمه وإدراكه.

الأصل الثالث: عموم خلق الله تعالى
الأصل الثالث: الإيمان بعموم خلقه سبحانه وتعالى، وإثبات خلق الله سبحانه وتعالى للخلق مستقر عند جماهير بني آدم، إلا من ألحد وأنكر الخالق سبحانه وتعالى؛ ولهذا كان مشركو العرب يقرون بأن الله هو الخالق. وإنما قيل: الإيمان بعموم خلقه؛ ليدخل في هذا العموم أفعال العباد، وهذا هو المقصود عند أهل السنة من ذكر هذا الأصل، وعن هذا صنف الإمام البخاري رحمه الله كتاب (خلق أفعال العباد)، وهي مسألة النزاع فيها مشهور. ومن أخرج أفعال العباد عن هذا الأصل، فقد أخرج من هذا الأصل ما هو منه بغير حجة ودليل، إذ إن من المستقر عند سائر العقلاء أن أفعال العباد شيء؛ فتدخل في عموم قوله تعالى: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}[الرعد:16] . وليس معنى كونه سبحانه وتعالى خالقاً لأفعال العباد أنه هو الفاعل لها، بل الفاعل للفعل هو العبد؛ ولهذا أخبر الله في كتابه أن العباد هم الصائمون، القائمون، المصلون، الساجدون، الراكعون، وأخبر أن منهم المؤمن ومنهم الكافر، فأضاف الأفعال إلى العباد.

الأصل الرابع: الإيمان بعموم مشيئة الله تعالى
الأصل الرابع: الإيمان بعموم مشيئته سبحانه وتعالى، فإن كل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا ينازع أحد من المسلمين بل ولا من جماهير الكفار في كون الباري متصفاً بالمشيئة؛ على معنى أن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأما معنى الاتصاف بالصفة التي هي قيام الصفة بموصفوها، فهذا باب آخر، ينازع فيه المعتزلة وطوائف. ولهذا نجد أن طرفة بن العبد -وهو جاهلي- يذكر هذا المعنى في شعره، فيقول: فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد وأصبحت ذا مال كثيرٍ وزارني بنون كــرام سـادة لمســود بل إن الله ذكر هذا في كتابه عن المشركين في قوله سبحانه: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ الله مَا أَشْرَكْنَا}[الأنعام:148] ، وإنما عاب الله عليهم ذلك، لأنهم احتجوا بالقدر على إسقاط الشرع الذي هو التوحيد، وإلا فإن شركهم بمشيئة الله. وإنما قيل: الإيمان بعموم مشيئته، ليدخل في ذلك أفعال العباد، فإن سائر أفعال العباد سواء كانت أفعالاً عادية أو من الطاعة، أو من المعاصي والفسوق والكفر، فهي بمشيئة الله سبحانه وتعالى، وإن كان سبحانه وتعالى قد يكره المعاصي والكفر ولا يرتضيه لعباده.

الأصل الخامس: أن للعباد مشيئة حقيقية
الأصل الخامس: الإيمان بأن للعباد مشيئة على الحقيقة، وهي تابعة لمشيئة الله سبحانه وتعالى كما قال سبحانه: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ}[التكوير:29] . ولفظ الحقيقة استعمل في كلام طائفة من أهل السنة في بعض مسائل القدر والصفات والإيمان والأسماء والأحكام، مع أن هذا اللفظ لم يستعمل في النصوص، وإنما استعمله من استعمله؛ لأن طائفة من متكلمة الصفاتية المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة، صاروا يستعملون ألفاظاً وجملاً لأهل السنة المتقدمين، وصاروا يتأولونها على المجاز عند تفصيلها. فمثلاً: الجبرية لا يثبتون مشيئة للعبد، فلما جاء متكلمة الصفاتية، كـأبي الحسن الأشعري وأصحابه، قالوا: إن للعبد مشيئة، فخالفوا الجبرية بذلك، ولكنهم لم يجعلوا هذه المشيئة على الحقيقة، وإنما جعلوها مشيئة مجازية.
ولهذا فإنك تجد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كثيراً ما يقول: وأنه سبحانه وتعالى فوق عرشه على الحقيقة، وأنه مستوٍ على عرشه على الحقيقة، لأن جملة: (مستوٍ على العرش)، يقر بها كثير من متكلمة الصفاتية، ومن تأثر بهم من الفقهاء، لكنهم لا يسلمون أن هذه الجملة على الحقيقة، بل يقولون: على المجاز، ثم يتأولون المجاز على أكثر من معنى، وقد يختلفون فيه. ومن حيث الأصل لا ينبغي أن يستعمل هذا التقييد لسببين:
السبب الأول: أن الأصل في الكلام الشرعي وكلام الأئمة عدم التقييد.
السبب الثاني: أن استعمال لفظ الحقيقة، يكون فيه إقرار بتقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز، والمشهور في تعريف الحقيقة أنها لفظ مستعمل فيما وضع له، والمجاز لفظ مستعمل في غير ما وضع له؛ وهذا التقسيم عليه إشكالات كثيرة منها: أنهم يقولون إن الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له، والمجاز اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، فأثبتوا معنيين: الوضع والاستعمال. والاستعمال هو استعمال العرب، وعليه فيكون الوضع سابقاً للاستعمال، وهنا يأتي السؤال: من هم الذين وضعوا اللغة؟ ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله في رده لهذه المسألة: (إن التعريف فيه تعذر من جهة العلم؛ فإنه يستلزم العلم بالوضع والعلم بالاستعمال، أما العلم بالاستعمال فإنه ممكن؛ لأنه استعمال العرب، وأما الوضع فإنه متقدم عليه ليس بمتحصل العلم)، قال: (وعن هذا تكلم من تكلم من المعتزلة في أصل وضع اللغة ومبدئها). ومن فقه الأئمة رحمهم الله أنه قد يُستعمل من الكلام في أبواب أصول الدين ما يكون مقتضى استعماله هو قول المخالفين، ولهذا لما ناظر الإمام أحمد أئمة الجهمية، كان من سؤال الإمام أحمد لأحد أعيانهم أن قال له: قولكم بأن القرآن مخلوق، هذا من الدين أو ليس من الدين؟
فقال الجهمي: إنه من الدين. قال: أهذا الدين علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر و عمر و عثمان و علي أو لم يعرفوه؟
فقال الجهمي: بل عرفوه.
فقال الإمام أحمد : أين في كلام الرسول وأصحابه أن القرآن مخلوق؟ فانقطع. ولما كان مجلسٍ آخر، استعمل الجهمي نفس الحجة، فقال للإمام أحمد : القرآن ليس مخلوقاً، أهذا من الدين؟ فقال الإمام أحمد : نعم. فقال الجهمي: أعرفه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر و عمر و عثمان و علي أو لم يعرفوه؟ قال أحمد : بل عرفوه. فقال للإمام أحمد : أين في كلام الرسول وأصحابه أن القرآن ليس مخلوقاً؟ قال الإمام أحمد : اسكتوا نسكت، أي: أن أئمة السنة قالوا: القرآن ليس مخلوقاً، من باب النفي لباطل طرأ على الدين، ولو لم تقل الجهمية: إن القرآن مخلوق، لكان تعبير الأئمة: إن القرآن كلام الله، ولا يحتاجون أن يقولوا: ليس بمخلوق، لأن ما كان كلاماً لله فإنه بالضرورة ليس مخلوقاً، لأن كلامه صفة من صفاته، ولهذا لا يوجد في كلام الأئمة أن يقولوا: سمع الله ليس مخلوقاً، أو علم الله ليس مخلوقاً، لأنه لم يقل أحد بخلقه. والقاعدة العقلية الشرعية: أن الباطل إذا طرأ يجب نفيه، ولهذا لما أشرك من أشرك، وزعم من زعم أن لله ولداً، قال الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ الله مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:91] .

الأصل السادس: إثبات الحكمة في أفعال الله
الأصل السادس: الإيمان بأن سائر أفعاله وخلقه وأمره سبحانه وتعالى لحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى، وقال سبحانه: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}[الأعراف:54] ، والحكمة التي أجمع عليها السلف رحمهم الله، ليست هي الحكمة التي يثبتها المتكلمون من المعتزلة وغيرهم، فإن إثباتهم فيها قاصر، فإن السلف كما قرر شيخ الإسلام ، يؤمنون بحكمة الباري سبحانه وتعالى، المتعلقة بذاته صفة له، والمتعلقة بمفعولاته على ما تقتضيه هذه الحكمة، نعمةً، أو ابتلاءً، أو عقوبة، أو غير ذلك، ولهذا قد يكون الشيء الواحد لبعض العباد نعمة ولبعضهم عقوبة، ولبعضهم ابتلاءً ومحنة. مثال ذلك المـال؛ فإن الله سبحانه وتعالى آتى داود مالاً عظيماً، فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ}[سبأ:10] .
ولاشك أن هذا الملك والمال الواسع الذي أوتيه داود عليه الصلاة والسلام هو نعمة، ولذلك سماه الله سبحانه وتعالى فضلاً، وأضافه إليه فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا}. وقد يكون المال عقوبة، كقوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ}[الأنعام:44] قال طائفة من السلف: فتح الله عليهم الدنيا، وكما في قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}[الكهف:28]، والإغفال قد يكون بالدنيا، وقد يكون بغيرها، ولهذا قال الله تعالى لنبيه: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}[طه:131] . وقد يكون المال ابتلاءً ومحنة كالولد، كما قال تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ}[الأنفال:28] ، وكل هذا يرجع إلى حكمته سبحانه وتعالى وقضائه وعدله، أو فضله وإحسانه.

الأصل السابع: عدم التعارض بين الشرع والقدر
الأصل السابع: الإيمان بأن العباد مأمورون بما أمرهم الله به، منهيون عما نهاهم الله عنه، مع الإيمان بوعده ووعيده، وأنه لا حجة لأحد من الخلق على الله سبحانه وتعالى بل لله الحجة البالغة، وأن عموم قدره وقضائه ومشيئته وحكمه وإرادته لا يصح أن يكون معارضاً لشيءٍ من أمره وشرعه. ومحصل هذا الأصل أن السلف يؤمنون بالجمع بين مقام الشرع ومقام القدر.



أقوال الفرق الأخرى في الأصول السبعة للقدر

الطوائف التي نازعت في هذه الأصول:
الأصل الأول: الإيمان بعموم علم الرب: لم ينازع أحد من المسلمين في كون أفعال العباد داخلة في هذا العموم، وإنما ظهر قوم من غلاة القدرية، يزعمون أن الله سبحانه وتعالى لا يعلم أفعال العباد إلا عند كونها، وهؤلاء الغلاة ليسوا من الإسلام في شيء، وقد أجمع السلف وجماهير طوائف المسلمين على تكفيرهم بأعيانهم، وقد صرح بتكفير هذا النوع من القدرية بعض أئمة الصحابة الذين أدركوا هذه البدعة. كما صرح بتكفيرهم من الأئمة: أحمد ، ووكيع ، وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم من متقدمي أئمة السنة والجماعة. بل إن المعتزلة -وهم قدرية- قد صرحوا في كتبهم بأن منكر العلم من الكفار ولا ينسبون إلى الإسلام، فهؤلاء لا يعدون في أهل القبلة.
الأصل الثاني: الكتابة، وهذا الأصل عامة طوائف المسلمين يقرون به مجملاً، أما السلف من أهل السنة والجماعة وأتباعهم فهم يقرون به مفصلاً، على ما جاء في النصوص. وفرق بين من أقر بالأصل مجملاً وبين من أقر به مفصلاً، ولا سيما التفاصيل النبوية. ......

مذهب المعتزلة القدرية في خلق أفعال العباد
الأصل الثالث: الخلق، وقد وقع فيه نزاع وغلط كثير، وصارت جماهير القدرية، يقولون بأن الله يعلم أفعال العباد قبل كونها، وأنه كتبها، ولكنها خلق للعباد، والتحرير لمذهب المعتزلة من القدرية: أنهم أجمعوا على أن الله لم يخلق أفعال العباد، ثم قالوا ثلاثة أقوال:
القول الأول: إن الله لم يخلقها وخلقها العبد.
القول الثاني: إن الله لم يخلقها وكذلك العبد لم يخلقها.
القول الثالث: التوقف. وهذا النزاع هو في الجملة نزاع لفظي لا حقيقة له في المذهب؛ فإن عمدة المذهب هو إجماعهم على أن الله لم يخلق أفعال العباد، وهذا القول بدعة مخالفة لإجماع السلف، فهذا قول القدرية.

الفرق بين القدرية المتكلمة والقدرية الرواة
والقدرية الذين قالوا إن الله لم يخلق أفعال العباد صنفان:
الصنف الأول: متكلموهم، وأعيانهم في الأصل هم المعتزلة، ومن اقتدى بهم من متكلمة الشيعة وغيرهم، الذين قرروا هذا المذهب بالدلائل والطرق الكلامية.
الصنف الثاني: وهم معشر من رجال الرواية والإسناد، وأكثرهم في البصرة، وبعض الأقاليم العراقية والشامية، قالوا بجملة المسألة، ولكنهم لم يقولوا هذه الجملة على الطريقة الكلامية التي كانت تستعملها القدرية المعتزلة المتكلمة. فيشترك الصنفان في أن أفعال العباد ليست خلقاً لله. ويفترقون من وجهين:
الوجه الأول: الاستدلال، فمنهج الاستدلال على المسألة بين الصنفين مختلف.
الوجه الثاني: أن المعتزلة المتكلمة رتبت على هذه المسألة مسائل أخرى تتعلق بالهداية والإضلال، وتتعلق بمسائل التكليف، ومسألة التحسين والتقبيح. ومسائل كثيرة ربطوها بهذه المسألة، وجعلوها من نتائج هذه المسألة. وهذا الربط لم يستعمله رجال الرواية، فيكون قولهم أخف من قول متكلمة القدرية، وقد كان الإمام أحمد رحمه الله يقول: (لو تركنا الرواية عن القدرية لتركناها عن أكثر أهل البصرة)، ومراده بذلك أن هذا الوهم شاع في طائفة من رجال الرواية، لكنه ليس على الطريقة الكلاميـة. والفرق بين المنهجين في الاستدلال: أن كل مسألة من مسائل الصفات أو القدر مرتبة على الطريقة الكلامية، فإنه لا بد أن يكون فيها مأخذ فلسفي هو الأساس، ودلائل عقلية ومقاصد من الشريعة، فمثلاً: مأخذ مسألة القدر عند المعتزلة أن الأثر لا يصدر عن مؤثرين، وهذه قاعدة فلسفية، وبالتالي أدخلوا عليها مقاصد من الشرع، كتنزيه الله عن الظلم والفسوق والعصيان.. إلى غير ذلك.
فمن قال إن الله خلق القبائح فقد أضافها إليه. وهذه المقاصد عند التحقيق لا تلزم أبداً؛ لكن إشكالهم الأول الحقيقي هو الإشكال الفلسفي. وهذا هو الدليل الذي بنى عليه الجبرية مذهبهم، وهو الدليل الذي استعمله علماء الأشاعرة في كتبهم، وصرحوا باستعماله، كالقاضي أبي بكر بن الطيب ، وأبي المعالي الجويني ، ومحمد بن عمر الرازي ، فالقاعدة واحدة تستعملها طوائف نتائجها متناقضة. وذلك يدل على أن هذه القاعدة غلط من الأصل، وهي من باب قياس الخالق على المخلوق، بل إنها عند التحقيق -كما يقول شيخ الإسلام - لا تصح في المخلوق نفسه، ولو فرض جدلاً أنها صحت في المخلوق فإنه يمتنع أن تكون صحيحة في حق الخالق سبحانه وتعالى.

المخالفون في مشيئة الله
الأصل الرابع: المشيئة، والمخالف في هذا الأصل هم المخالفون في الأصل الثالث، فالمعتزلة تقول: إن الله لم يشأ أفعال العباد ولم يُرِدْها، ويجعلون العبد خالقاً لفعله مستقلاً بمشيئته، ولا شك أن هذا تعطيل لربوبية الله سبحانه وتعالى.

المخالفون في إثبات المشيئة للعبد
الأصل الخامس: أن العباد لهم مشيئة على الحقيقة، وقد خالف في هذا الأصل الجبرية، وإمام الجبرية هو الجهم بن صفوان الذي يقول: إن العبد مجبورٌ على فعله، وقارب مذهب الجبرية مذهب أبي الحسن الأشعري ، الذي يقول: إن للعبد مشيئةً مسلوبة التأثير، يقع الفعل مقارناً لها لا بها، ولهذا قال صاحب جوهرة التوحيد: ومن يقل بالطبع أو بالعلة فذاك كفر عند أهل الملة فينفون السببية والتعليل، وهذا جبر لكنه دون جبر الجبرية المحضة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: (والفرق بين أبي الحسن و جهم بن صفوان في مسألة القدر غالبه فرق لفظي)، وبعض الفرق بينهم فرق لا يعقل عند العقلاء، وطائفة من الفرق بينهم فرق له معنى. فمن العدل أن يقال: إن قول أبي الحسن وعامة أصحابه ليس جبراً محضاً كجبر الجهم بن صفوان ، ولكنه ينتهي إلى هذا المذهب في الجملة، وهو موافق لعبارات أهل السنة والجماعة في اللفظ، ولكنه في المعنى ينزع إلى قول الجبرية، وقد انغلق هذا الباب على علماء الأشاعرة، فلا يرون في الباب إلا قول القدرية أو قول الجبرية، فأتوا إلى قول الجبرية؛ لأن إمامهم رفض قول القدرية، ولكنه استعمل تحته ألفاظ السلف والشريعة. والذين صرحوا بأن قول الأشعرية جبر دون جبر الجهم بن صفوان ليس هو شيخ الإسلام أو نحوه من علماء السنة، بل الرازي و أبو الفتح الشهرستاني ، وأبو المعالي الجويني صرحوا بذلك، ورجع الجويني عن هذا المذهب، وقال: إن هذا مذهب جبري لا معنى له، فانتحل في الرسالة النظامية مذهباً ملفقاً.

تنبيه حول رجوع الجويني عن مذهب الأشعرية في القدر
بعض الباحثين من المعاصرين قال: الجويني رجع في آخر عمره عن مذهب الكسب الجبري إلى مذهب أهل السنة، ولا شك أن هذا غلط، بل ذكر الجويني في الرسالة النظامية قولاً ملفقاً من قول أهل السنة، ومقاصد من مقاصد المعتزلة، وجملاً من جمل الفلاسفة، فقوله مركب، وإذا قارنت بين هذا القول وقول أبي الوليد ابن رشد في (مناهج الأدلة)، وجدت أنه يشترك معه في بعض المنازع. وقد صرح طائفة من الأشعرية كـالشهرستاني بأن إمام الحرمين قد نزع إلى قول الحكماء -أي: الفلاسفة- وإن كان يزعم أنه رجع إلى مذهب السلف في الصفات؛ ثم يفسر مذهب السلف في الرسالة النظامية بالتفويض، ولا شك أن مذهب التفويض كما قال شيخ الإسلام رحمه الله من شر مقالات أهل البدع والإلحاد.

المخالفون في إثبات الحكمة لله تعالى
الأصل السادس: إثبات الحكمة لله، وقد نازع في هذا الأصل الجهم بن صفوان ، فنفى حكمة الله سبحانه وتعالى في أفعاله، وتبعه على ذلك في الجملة أبو الحسن الأشعري ؛ فإن مسألة الحكمة فرع عن أصل مسألة القدر، فجعل الجهم و الأشعري أفعال الباري سبحانه مبنية على محض المشيئة. والأشاعرة يقولون في كتبهم: إن الله منزه عن الأغراض والحاجات، ويريدون بذلك أن أفعاله ليست لحكمة أو لعلة، وإذا ذكر لفظ الحكمة بالشريعة، فسرها جمهورهم بالإرادة والمشيئة. وجمهور طوائف المسلمين من أهل السنة والحديث وجماهير الصوفية، والشيعة والمعتزلة يقرون بهذا الأصل، وهو الحكمة، ولكن الفرق بين السلف وهذه الطوائف التي تشاركهم: أن السلف يجعلون الحكمة صفة تقوم بذات الباري، وهي متعدية إلى خلقه، في حين أن المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة وغيرهم يجعلون الحكمة متعدية إلى الخلق، ولا يجعلونها صفة قائمةً بذات الباري.

المخالفون في الجمع بين الشرع والقدر
الأصل السابع: الجمع بين الشرع والقدر، وأهل السنة والجماعة وسط في هذا الأصل، فإنهم معظّمون لشرع الله وقدره، وهم وسط بين القدرية، وبين طرق الصوفية، فالقدرية من المعتزلة ومن وافقهم على أصلهم مقصرون في باب القدر، حيث يقولون: إن العبد يخلق فعله، وهو غالون في باب الشرع، حيث قالوا: إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، وأما طرق الصوفية فهم على العكس، فهم مقصرون في باب الأمر والنهي، غالون في باب القدر، حتى أسقط طوائف من غلاتهم مقام الشرع بمقام القدر، وهم يسمونه مقام الربوبية، وهذه حالٌ تعرض لغلاة الصوفية، ولا سيما المتصوفة المتفلسفة الذين فسروا الشريعة على هذا التفسير كـابن عربي و ابن سبعين و التلمساني ، وأمثال هؤلاء.

الكلام على حال أبي إسماعيل الهروي
ويقع نوع من ذلك في كلام من دونهم من الصوفية الذين عندهم قدر من الانحراف عن جادة السلف في باب السلوك والأحوال، كحال أبي إسماعيل الأنصاري الهروي الحنبلي ، صاحب كتاب (ذم الكلام) وكتاب (منازل السائرين)، فهو في منازله يسقط بعض مقامات الشرع بمقام القدر، فلم يحقق هذا الأصل، بل غلط فيه غلطاً شديداً. بل إنه قال كلاماً ظاهره الموافقة لمذهب وحدة الوجود حيث قال: ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد لكن الهروي رحمه الله لا شك أنه بريء من مذهب ابن عربي و التلمساني وأمثالهم من الصوفية المتفلسفة القائلين بوحدة الوجود، وإن كان قد يستعمل بعض حروفهم، بل هو فاضل في إثبات صفات الله سبحانه، وله رد على الجهمية، وتقرير حسن للصفات، وإن كان يزيد ويبالغ في إثبات الصفات.
كما أن منهجه في التكفير ليس معتبراً على جادة السلف، ولما تكلم عن الأشاعرة قال عن أبي الحسن الأشعري في كتابه (ذم الكلام): (وقد شاع في المسلمين أن رأسهم علي بن إسماعيل الأشعري ، لا يصلي ولا يتوضأ، وأخبرني فلان -ثم ساق سنداً عنده- أنه مات متحيراً). وهذا ليس كذلك، بل الأشعري يعرف بكثير من الخير والإيمان، كما قال شيخ الإسلام عنه: (وقد استفاض في المسلمين ما له من الديانة والقصد إلى السنة)، وقال عن عبد الله بن سعيد بن كلاب : (وأبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب إمام له علم وفقه). والقصد أن الهروي شديد في هذا الباب، حتى قال شيخ الإسلام في (منهاج السنة): (إن أبا إسماعيل الأنصاري من المبالغين في ذم الجهمية وتكفيرهم). كما أن للهروي أغلاطاً شديدة في القدر، بل قال شيخ الإسلام : (إن قول أبي الحسن الأشعري في القدر خير من قول أبي إسماعيل الأنصاري ). وعليه فإن أخص من نازع في مقام الجمع بين الشرع والقدر هم: الصوفية الذين أسقطوا بعض مقامات الشرع، بما هو من القدر، وأصل إسقاط مقام الشرع بالقدر هو مذهب المشركين، الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ الله مَا أَشْرَكْنَا}[الأنعام:148] وليس في المسلمين من عطل سائر الشرع بالقدر، ومن أطلق هذا التعطيل كما أطلقه بعض غلاة الصوفية كـالتلمساني ، فليعلم أنه من الكفر المحض الذي لا يُنظر في شأن صاحبه، ذلك أن المقالات الكفرية التي تخالف مذهب السلف تنقسم إلى قسمين: ......

حكم التكفير دون إقامة الحجة على من لا شبهة له
الأول: ما يكون قائلها كافراً ابتداءً، كمن نفى علم الله بما سيكون من أفعال العباد، فإنه يكفر ابتداءً ولا يقال: نقيم عليه الحجة، بل الحجة على مثل هذا لا بد أن تكون قائمة، لأنه مخالف للعقل والفطرة وأصول الأنبياء أجمعين.
الثاني: مقالات هي في حكم السلف كفر، ولكن قائلها لا يكفر ابتداءً إلا إذا أقيمت عليه الحجة، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: (والإمام أحمد وإن تواتر عنه تكفير الجهمية، إلا أنه لم يكن هو وغيره من أئمة السلف مشتغلاً بتكفير أعيانهم). وكذلك شيخ الإسلام عندما ناظر علماء الأشاعرة المتأخرين في مسألة العلو كان يقول لهم: (أنا لو أقول بقولكم كفرت، لكنكم لستم كفاراً عندي)، فمثل هذه المسائل يدخل فيها نوع من الاشتباه والانغلاق على بعض الناس، لموجب من الموجبات، فلا يكفر بها ابتداءً. فقول المصنف: "خلق الخلق بعلمه": أي: عالماً بهم. "وقدر لهم أقدراً" أي: قدر ما سيكون لهم من الأحوال والأفعال والمآلات. "وضرب لهم آجالاً" أي: قدر آجالهم، فجعل لكلٍ أجلاً، ولا يستقدم أحد ولا يستأخر عن أجله كما هو صريح في القرآن: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}[الأعراف:34] .
وقوله: "ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم": هذا هو أصل العلم. "وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته" هذا الجمع بين مقام الشرع ومقام القدر. وقوله: ("كل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ": هذا طرد لعموم مشيئة الرب سبحانه، وأنه دخل في عموم مشيئته أفعال العباد. وقوله: "لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم" أي: أن للعباد مشيئة على الحقيقة خلافاً للجبرية وللكسبية، ولكنها تابعة لمشيئة الله خلافاً للمعتزلة الذين جعلوا العبد مستقلاً بمشيئته. ......

منازعة المعتزلة في هداية التوفيق
قوله: (يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً): من أصول أهل السنة في هذا المقام، الإيمان بأن لله نعمة وفضلاً على المؤمنين، وأن كل من آمن فإنه إنما آمن بفضل الله ونعمته عليه، وكل من كفر فإنما كفر بما صرف نفسه، أو صرفه الشيطان عن الهدى، والله سبحانه وتعالى يهدي على معنى أنه يوفق، ويهدي على معنى أنه يبين بما ينزل في كتابه، أو يبعث به رسله عليهم الصلاة والسلام. وقد نازعت المعتزلة في هذه المسألة، فقالوا: إن الله -سبحانه وتعالى وتقدس عن قولهم- يهدي بمعنى: يبين، وأما الهدى الذي هو التوفيق فإنه يستوي فيه الناس.
ولا شك أن هذا أصل باطل، فإن الله قال لنبيه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] ، ولو كانت الهداية هي البيان لم يصح نفيها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم من حيث كونه هادياً مبيناً يهدي من يشاء، وقد هدى عمه بأن علمه وبين له، وإنما المراد هنا: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} أي: لا تستطيع التوفيق؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بشر ليس بيده هذا الأمر، ولهذا قال: {وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أي: يوفق من يشاء. وتوفيقه سبحانه لعباده المؤمنين للإيمان تابع لعلمه وحكمته، ولهذا قال سبحانه: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}[الأنفال:23] ، ولما علم أن الأنبياء محل لاصطفائه اصطفاهم، ولهذا فإن الله تعالى إذا ذكر الضلال في القرآن فلا بد أن يقيده إما بجهة أو سبب من العبد، أو يذكره معه الهداية، كما في قوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}[فاطر:8] ، فإذا علقه بمحض المشيئة ذكر معه الهداية، وإلا ذكره مقيداً بجهة وسبب من العبد، كقوله تعالى: {وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ}[إبراهيم:27] . فقوله: {وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ} سياق كلمة {الظالمين} يدل على السبب، وأن الظلم جاء من جهتهم، ولهذا فإنه سبحانه وتعالى لا يعذب إلا من قامت عليه الحجة: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}[النساء:165] {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] . ......

تقدير الآجال والزيادة فيها
قول المصنف: "وضرب لهم آجالاً" آجال العباد مقدرة، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس و أبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه)) . وهذا الحديث أشكل على كثير من المتأخرين، إذ قالوا: إن الذي يغير فيه هو الأجل المكتوب في صحف الملائكة المذكور في مثل حديث ابن مسعود المتفق عليه في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ويكتب رزقه وأجله)) وهذا قال به طوائف من أهل العلم، وأضافه طائفة من الشراح المتأخرين إلى طائفة من الصحابة، كـعمر وغيره، وإن كان في ثبوته عنهم بعض التردد. ولكن الصحيح في هذا المقام أن يقال: إن قوله عليه الصلاة والسلام: ((من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه)) أن صلة الرحم سبب، والله سبحانه وتعالى قدر وعلم السبب والمسبب قبل خلق الخلق، والأجل والرزق مرتبط في علم الله وحكمته بأسباب.
وقد يكون من هذه الأسباب ما هو معروف المناسبة كالتجارة لبسط الرزق مع أن اشتغاله بهذه التجارة مكتوب ومقدر، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يندب إلى سبب شرعي ليس معروف المناسبة عند بني آدم، فعلق زيادة العمر والرزق بصلة الرحم، التي لا يعرف عند بني آدم عادةً أنها مناسبة لبسط الرزق وطول العمر، فهذا هو أجود ما يقال في هذه المسألة. وطول العمر وسعة الرزق تارةً يكون نعمة وتارةً لا يكون نعمة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث عمار رضي الله عنه الذي أخرجه الإمام أحمد و الحاكم في المستدرك: ((اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما كانت الحياة خيراً لي)) . إلا أنه هنا نعمة؛ لأنه جعل صلة الرحم سبباً شرعياً مطلوباً من العبد القيام به، وجعل بسط الرزق وطول العمر، نتيجة لذلك السبب أي أن العبد سيوفق في ماله وعمره إلى الخير.
وأما قول من قال: إنه يمحى من صحف الملائكة فهذا ليس عليه دليل من الشرع، ولم يثبت في الكتاب ولا السنة أن شيئاً مما في صحف الملائكة يُمحى. وأما قوله تعالى: {يَمْحُو الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[الرعد:39] فالصحيح في تفسيرها أن هذا في الشرائع وليس في القدر، وسياق الآيات يدل على ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُو الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[الرعد:38-39] والشرائع يدخلها النسخ والمحو كما هو معروف ومجمع عليه. وأما ما في (اللوح المحفوظ)، فبإجماع السلف أنه لا تغيير فيه، ومن زعم من المتأخرين أنه قد يدخله التغيير فهذا غلط بالإجماع. ......


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
خلق, قوله

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:43 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir