دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > مكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم > بيان المُستشكل > تفسير آيات أشكلت لابن تيمية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 14 ربيع الثاني 1432هـ/19-03-2011م, 04:46 PM
ريم الحربي ريم الحربي غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: بلاد الحرمين
المشاركات: 7,079
افتراضي قوله تعالى {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا

فصل
في قوله تعالى {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}.


قد ذكرنا في غير هذا الموضع أن هذه الآية في حق التائبين وأما آية النساء وهي قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ
[تفسير آيات أشكلت: 1/293]
ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فلا يجوز أن تكون في حق التائبين كما يقوله من يقوله من المعتزلة فإن التائب من الشرك يغفر له الشرك أيضًا بنصوص القرآن واتفاق المسلمين.
وهذه الآية فيها تخصيص وتقييد وتلك الآية فيها تعميم وإطلاق.
هذه خص فيها الشرك بأنه لا يغفره وما عداه لم يجزم بمغفرته بل علقه بالمشيئة فقال {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
وقد ذكرنا في غير موضع أن هذه الآية كما ترد على الوعيدية من الخوارج
[تفسير آيات أشكلت: 1/294]
والمعتزلة فهي أيضًا ترد على المرجئة الواقفية الذين يقولون يجوز أن يعذب كل فاسق فلا يغفر لأحد ويجوز أن يغفر للجميع فإنه قد قال {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فأثبت أن ما دون ذلك هو مغفور لكن لمن يشاء.
فلو كان لا يغفره لأحد بطل قوله {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} ولو كان يغفره لكل
[تفسير آيات أشكلت: 1/295]
أحدٍ بطل قوله {لِمَنْ يَشَاءُ} فلما أثبت أنه يغفر ما دون ذلك وأن المغفرة هي لمن يشاء دل ذلك على وقوع المغفرة العامة مما دون الشرك لكنها لبعض الناس وحينئذٍ فمن غفر له لم يعذب ومن لم يغفر له عُذب وهذا مذهب الصحابة والسلف والأئمة وهو القطع بأن بعض عصاة الأمة يدخل النار وبعضهم يغفر له.
لكن هل ذلك على وجه الموازنة والحكمة أو لا اعتبار بالموازنة؟
فيه قولان للمنتسبين إلى السنة من أصحابنا وغيرهم بناءً على أصل الأفعال الإلهية هل يعتبر فيها الحكمة والعدل؟
وأيضًا فمسألة الجزاء فيها نصوص كثيرة دلت على الموازنة كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع.
[تفسير آيات أشكلت: 1/296]
والمقصود هنا أن قوله تعالى {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} فيها نهي عن القنوط من رحمة الله تعالى وإن عظمت الذنوب وكثرت فلا يحل لأحد أن يَقنط من رحمة الله وإن عظمت ذنوبه ولا أن يُقنط الناس من رحمة الله.
قال بعض السلف إن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله ولا يحرضهم على معاصي الله.
والقنوط يكون بأن يعتقد أن الله لا يغفر له إما لكونه إذا تاب لا يقبل الله توبته ولا يغفر له ذنوبه وإما بأن يقول إن نفسه لا
[تفسير آيات أشكلت: 1/297]
تطاوعه على التوبة بل هو مغلوب معها والشيطان ونفسه قد استحوذا عليه فهو يائس من توبة نفسه وإن كان يعلم أنه إذا تاب غفر له وهذا يعتري كثيرًا من الناس والقنوط يحصل بهذا تارة وبهذا تارة.
فالأول كالراهب الذي أفتى قاتل تسعة وتسعين نفسًا أن الله لا يغفر له فقتله وكمل به مائة ثم دُل على عالم آخر فأتاه فسأله فأفتاه بأن الله يقبل توبته والحديث في الصحيحين.
[تفسير آيات أشكلت: 1/298]
والثاني كالذي يرى للتوبة شروطًا كثيرة أو يقال له لها شروط كثيرة يتعذر عليك فعلها فييأس من أن يتوب.
وقد تنازع الناس في العبد هل يصير إلى حال يمتنع عليه فيه التوبة إذا أرادها أم لا؟
والصواب الذي عليه أهل السنة والجمهور أن التوبة ممكنة من كل ذنب لمن أرادها وممكن أن الله يغفره وقد فرضوا في ذلك من توسط أرضًا مغصوبة ومن توسط جرحى فكيف ما تحرك قتل بعضهم.
فقيل هذا لا طريق له إلى التوبة والصحيح أن هذا وغيره إذا تاب قبل الله توبته وأما من توسط الأرض المغصوبة فهذا خروجه بنية تخلية المكان وتسليمه إلى مستحقه ليس بمنهي عنه ولا محرم بل الفقهاء متفقون على أن من غصب دارًا وترك قماشه وماله إذا أمر بتسليمها
[تفسير آيات أشكلت: 1/299]
إلى مستحقها فإنه يؤمر بالخروج منها وبإخراج أهله وماله منها وإن كان ذلك نوع تصرف فيها لكنه لأجل إخلائها.
والمشرك إذا دخل الحرم أمر بالخروج منه وإن كان لا يخرج منه إلا بمرور فيه.
ومثل هذا حديث الأعرابي المتفق على صحته لما بال في المسجد فقام الناس إليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تزرموه أي لا تقطعوا عليه بوله وأمرهم أن يصبوا على بوله دَلوًا من ماءٍ فهو لما بدأ بالبول كان إتمامه في
[تفسير آيات أشكلت: 1/300]
محله الذي بال فيه خيرًا من أن يقطعوه فيلوث ثيابه وبدنه وإفضاء النجاسة إلى أمكنة أخرى من المسجد فينجسها.
ولو زنا رجل بامرأة ثم تاب قبل أن ينزع ذكره منها ثم نزعه لم يكن مذنبًا بالنزع وهل هو وطء فيه قولان هما روايتان عن أحمد وكذلك الذين يقولون إذا طلع الفجر وهو مُجَامِع لهم في
[تفسير آيات أشكلت: 1/301]
النزع قولان في مذهب أحمد وغيره.
وكذلك إذا حلف بالطلاق الثلاث أن لا يطأ امرأته فالذين يقولون إنه يقع به الطلاق الثلاث إذا وطئها تنازعوا هل يجوز له وطؤها على
[تفسير آيات أشكلت: 1/302]
قولين هما روايتان عن أحمد.
أحدهما يجوز كقول الشافعي.
والثاني لا يجوز كقول مالك فإنه يقول إذا أجزت الوطء لزم أن يباشرها في حال النزع وهي مُحَرَّمة وهذا إنما يجوز للضرورة لا يجوز ابتداءً ولذلك يقول النزع ليس بمحرم.
وأما على ما نصرناه فلا يحتاج إلى شيء من هذه المسائل فإن الحالف إذا حنث كفر عن يمينه ولا يلزمه الطلاق الثلاث وما فعله الناس حال
[تفسير آيات أشكلت: 1/303]
التبين من أكل أو جماع فلا بأس به لقوله {حَتَّى يَتَبَيَّنَ}.
والمقصود أنه لا يجوز أن يَقنط أحد ولا يُقنط أحدًا من رحمة الله فإن الله نهى عن ذلك وأخبر أنه يغفر الذنوب جميعًا.
فإن قيل قوله {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} معه عموم على وجه الإخبار فدل على أن الله يغفر كل ذنب ومعلوم أنه لم يرد أن من أذنب من كافرٍ وغيره أنه يغفر له ولا يعذبه لا في الدنيا ولا في الآخرة فإن هذا خلاف المعلوم بالضرورة والحس والتواتر والقرآن والإجماع إذ كان الله أهلك أممًا كثيرة بذنوبها ومن هذه الأمة من عذب بذنوبه إما قدرًا وإما شرعًا في الدنيا قبل الآخرة.
وقد قال تعالى {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} وقال
[تفسير آيات أشكلت: 1/304]
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
فهذا يقتضي أن هذه الآية ليست على ظاهرها بل المراد أن الله يغفر الذنوب جميعًا أي ذلك مما قد يفعله أو أنه يغفر لكل تائب.
لكن يقال فلم جاء بصيغة الجزم والإطلاق في موضع التردد والتقييد قيل بل الآية على مقتضاها فإن الله أخبر أنه يغفر جميع الذنوب ولم يذكر أنه يغفر لكل مذنب بل قد ذكر في غير موضع أنه لا يغفر لمن مات كافرًا فقال {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} وقال في حق المنافقين {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}.
لكن هذا اللفظ العام في الذنوب هو مطلق في المذنبين فالمذنب لم يتعرض له بنفي ولا إثبات لكن يجوز أن يكون مغفورًا له ويجوز أن لا يكون مغفورًا له إن أتى بما يوجب المغفرة غفر له وإن أصر على ما يناقضها لم يغفر له.
[تفسير آيات أشكلت: 1/305]
وأما جنس الذنب فإن الله يغفره في الجملة سواء كان كفرًا أو شركًا أو غيرهما يغفرها لمن تاب منها وليس في الوجود ذنب لا يغفره الرب تعالى بحال بل ما من ذنب إلا والله تعالى يغفره في الجملة.
وهذه آية عظيمة جامعة من أعظم الآيات نفعًا وفيها رد على طوائف رد على من يقول الداعية إلى البدعة لا يغفر
[تفسير آيات أشكلت: 1/306]
له ولا تقبل توبته ويحتجون بحديث الإسرائيلي وفيه أنه قيل لذلك الداعية فكيف بمن أضللت؟
[تفسير آيات أشكلت: 1/307]
وهذا يقوله طائفة ممن ينتسب إلى السنة والحديث وليسوا من العلماء بذلك كأبي علي الأهوازي وأمثاله ممن لا يميزون بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة وما لا يحتج به وما لا يحتج به بل يروون كل ما في الباب محتجين به.
وقد حكى هذا طائفة قولًا في مذهب أحمد أو رواية عنه.
وظاهر مذهبه مع سائر مذاهب أئمة المسلمين أنه تقبل توبته كما
[تفسير آيات أشكلت: 1/308]
تقبل توبة الداعية إلى الكفر وتوبة من فتن الناس عن دينهم.
وقد تاب قادة الأحزاب كأبي سفيان والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم بعد أن
[تفسير آيات أشكلت: 1/309]
قتل على الكفر بدعائهم وحضهم عليه من قتل وكانوا من أحسن الناس إسلامًا وغفر الله لهم كما قال تعالى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}.
وكذلك عمرو بن العاص كان من أعظم الدعاة إلى الكفر والإيذاء للمسلمين وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم لما أسلم يا عمرو أما علمت أن الإسلام يجب ما كان قبله.
[تفسير آيات أشكلت: 1/310]
وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود في قوله تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} قال كان ناس من الإنس يعبدون ناسًا من الجن فأسلم أولئك الجن والإنس يعبدونهم ففي هذا دليل على أنه لم يضر الجن الذين أسلموا عبادة غيرهم لهم بعد إسلامهم وإن كانوا هم أضلوهم أولًا.
وأيضًا فالداعي إلى الكفر والبدعة وإن كان أضل غيره فذلك الغير يعاقب على ذنبه لكونه قبل من هذا وتبعه وهذا عليه وزره
[تفسير آيات أشكلت: 1/311]
ووزر من اتبعه إلى يوم القيامة مع بقاء أوزار أولئك عليهم فإذا تاب هذا من ذنبه لم يبق عليه وزره ووزر من اتبعه ولا ما حمله هو لأجل إضلالهم.
وأما هم فسواء تاب من أضلهم أو لم يتب حالهم واحد ولكن توبته من هذا تحتاج إلى ضد ما كان عليه من الضلال إلى الهدى كما تاب كثير من الكفار وأهل البدع وصاروا دعاة إلى الإسلام والسنة وسحرة فرعون كانوا أئمة في الكفر وتعليم السحر وتعلمه ثم أسلموا
[تفسير آيات أشكلت: 1/312]
وَخُتِمَ لهم بخير.
ومن ذلك توبة قاتل النفس والجمهور على أنها مقبولة وقال ابن عباس لا تقبل
[تفسير آيات أشكلت: 1/313]
وعن أحمد روايتان.
وحديث قاتل المائة في الصحيحين يرد ذلك وهو دليل على قبول توبته وهذه الآية تدل على ذلك وآية النساء إنما فيها وعيد قاتل النفس إذا لم يتب كسائر وعيد في القرآن كما قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
[تفسير آيات أشكلت: 1/315]
نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}.
ومع هذا فهو إذا لم يتب وكل وعيد في القرآن فهو مشروط بعدم التوبة باتفاق الناس فبأي وجه يكون وعيد القاتل لاحقًا به وإن تاب هذا في غاية الضعف.
ولكن قد يقال لا تقبل توبته بمعنى أنه لا يسقط حق المظلوم بالقتل وإنما التوبة تسقط حق الله تعالى والمقتول له مطالبته بحقه.
فهذا صحيح في جميع حقوق الآدميين حتى الدَّين فإن في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الشهيد يُغفر له كل شيءٍ إلا الدَّين
[تفسير آيات أشكلت: 1/316]
وحق الآدمي يعطاه من حسنات من ظلمه.
فمن تمام التوبة أن يكثر العبد من الحسنات ليوفي غرماءه وتبقى له بقية يدخل بها الجنة ولعل ابن عباس رأى أن القتل أعظم الذنوب بعد الكفر فلا يكون لصاحبه حسنات تقابل حق المقتول فلا بد أن يبقى له سيئات
[تفسير آيات أشكلت: 1/317]
يعذب بها وهذا الذي رآه قد يقع من بعض الناس.
فيبقى الكلام فيمن تاب وأصلح وعجز عن حسنات تعادل حق المظلوم هل يجعل عليه من سيئات المظلوم ما يعذب به وهذا موضع دقيق على مثله يحمل حديث ابن عباس لكن هذا كله لا ينافي ظاهر الآية وهو أن الله تعالى يغفر كل ذنب الشرك والقتل والزنا وغير ذلك من حيث الجملة فهي عامة في الأفعال مطلقة في الأشخاص.
ومثل هذا قوله تعالى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} عام في الأشخاص مطلق في الأحوال.
وكذلك قوله {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}
[تفسير آيات أشكلت: 1/318]
عام في الأرجل لكنه مطلق في أحوال الأرجل إذ قد تكون تارة ظاهرة وقد تكون مستورة بالخف واللفظ لم يتعرض للأحوال.
وكذلك قوله تعالى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} عام في الأولاد مطلق في الأحوال إذ قد يكون الولد موافقًا في الدين ومخالفًا وَحُرًا وَعبدًا واللفظ لم يتعرض للأحوال.
[تفسير آيات أشكلت: 1/319]
وكذلك قوله {يَغْفِرُ الذُّنُوبَ} عام في الذنوب مطلق في أحوالها فإن الذنب قد يكون صاحبه تائبًا منه وقد يكون مُصِرًا عليه واللفظ لم يتعرض لذلك بل الكلام بين أن الذنب يغفَر في حال دون حال فإن الله أمر بفعل ما تغفر به الذنوب ونهى عما به يحصل العذاب يوم القيامة بلا مغفرة فقال بعدها:
{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}.
فهذا إخبار منه تعالى أنه يوم القيامة يُعذب نفوسًا لم يغفر لها كالتي كذبت بآياته واستكبرت عن التوبة والإنابة إليه ولم تعمل صالحًا
[تفسير آيات أشكلت: 1/320]
تنجو به من عذابه ومثل هذه الذنوب التي عذبت بها تلك النفوس غفر الله لآخرين لأنهم تابوا منها وأنابوا وعملوا صالحًا.
فإن قيل فقد قال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} وفي الآية الأخرى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}.
قيل إن القرآن قد بين توبة الكافر وإن كان قد ارتد ثم عاد إلى الإسلام في غير موضع كقوله تعالى {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا
[تفسير آيات أشكلت: 1/321]
بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
فقوله {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ} أي أنه لا يهديهم مع كونهم مرتدين ظالمين ولهذا قال {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} فمن ارتد عن دين الإسلام لم يكن إلا ضالًّا فلا يحصل له الهدى إلى أي دين ارتد.
والمقصود أن هؤلاء لا يهديهم الله ولا يغفر لهم إلا أن يتوبوا.
وكذلك قال في قوله {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} ومن كفر بالله بعد إيمانه من غير إكراه فهو مرتد قال: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.
فهو سبحانه في آل عمران ذكر المرتدين ثم ذكر التائبين منهم ثم ذكر
[تفسير آيات أشكلت: 1/322]
من لا تقبل توبته ومن مات كافرًا فقال {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}.
وهؤلاء الذين لا تقبل توبتهم قد ذكروا فيهم أقوالًا قيل لنفاقهم.
وقيل لأنهم تابوا مما دون الشرك ولم يتوبوا منه.
وقيل لن تقبل توبتهم بعد الموت.
[تفسير آيات أشكلت: 1/323]
وقال الحسن والسدي وقتادة وعطاء الخراساني لن تقبل توبتهم حين يحضرهم الموت.
[تفسير آيات أشكلت: 1/324]
وكذلك قوله {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} قال مجاهد وغيره من المفسرين {ازْدَادُوا كُفْرًا} ثبتوا عليه حتى ماتوا.
قلت وذلك لأن التائب راجع عن الكفر وغيره ومن لم يتب فإنه مستمر يزداد كفرًا بعد كفر فقوله {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} بمنزلة قول القائل ثم أصروا على الكفر واستمروا على الكفر وداموا على الكفر فهم كفروا بعد إسلامهم ثم ازدادوا كفرًا أي زادوا كفرهم ما نقص.
فهؤلاء لا تقبل توبتهم وهي التوبة عند حضور الموت لأن من تاب قبل حضور الموت فقد تاب من قريب ورجع عن كفره فلم يزدد بل
[تفسير آيات أشكلت: 1/325]
نقص بخلاف المصر على الكفر والمعاصي إلى حين المعاينة فإنه في ازديادٍ من ذلك وما بقي له زمان مخفف لبعض كفره فضلًا عن هدمه.
وفي الآية الأخرى قال {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} فذكر أنهم آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا.
قيل لأن المرتد إذا تاب غفر له كفره فإذا كفر بعد ذلك ومات كافرًا حبط إيمانه فعوقب بالكفر الأول والثاني كما في الصحيحين عن ابن مسعود قال قيل يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية فقال من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر.
[تفسير آيات أشكلت: 1/326]
فلو قال إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لم يكن الله ليغفر لهم كان هؤلاء هم الذين ذكرهم في آل عمران فقال {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} بل ذكر أنهم آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا بعد ذلك وهو المرتد التائب فهذا إذا كفر وازداد كفرًا لم يغفر له كفره السابق أيضًا فلو آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا لم يكونوا قد ازدادوا كفرًا فلا يدخلون في الآية.
والفقهاء إذا تنازعوا في قبول توبة من تكررت رِدته أو قبول توبته
[تفسير آيات أشكلت: 1/327]
الزنديق فذاك إنما هو في الحكم الظاهر لأنه لا يوثق بتوبته.
أما إذا قدر أنه أخلص التوبة لله في الباطن فإنه يدخل في قوله {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
ونحن حقيقة قولنا إن التائب لا يعذب لا في الدنيا ولا في الآخرة لا شرعًا
[تفسير آيات أشكلت: 1/328]
ولا قدرًا والعقوبات التي تقام في حَد أو تعزيرٍ إما أن يثبت سببها بالبينة مثل قيام البينة بأنه زنا أو سرق أو شرب فهذا إذا أظهر التوبة لم يوثق بها ولو درئ الحد بإظهارها لم يقم حد فإن كل من تقام عليه البينة يقول قد تبت.
وإن كان تائبًا في الباطن كان الحد مُكفرًا وكان مأجورًا على صبره وأما إذا جاء هو بنفسه فاعترف وجاء تائبًا فهذا لا يجب أن يقام عليه الحد في ظاهر مذهب أحمد نص عليه في غير موضع وهي من مسائل التعليق واحتج عليها القاضي بعدة أحاديث وحديث الذي قال قد أصبت
[تفسير آيات أشكلت: 1/329]
حدًّا فأقمه عليَّ فأقيمت الصلاة فصلى يدخل في هذا لأنه جاء تائبًا.
وإن شهد على نفسه كما شهد ماعز والغامدية واختار إقامة
[تفسير آيات أشكلت: 1/330]
الحد أقيم عليه وإلا فلا كما في حديث ماعز فهلا تركتموه والغامدية رَدَّها مرة بعد مرة فالإمام والناس ليس عليهم إقامة الحد على مثل هذا ولكن هو إذا طلب ذلك أقيم عليه كالذي يذنب سرًّا.
[تفسير آيات أشكلت: 1/331]
وليس على أحد أن يقيم حَدًّا إلا إذا اختار صاحبه وهذا قتله كقتل الذي ينغمس في العدو وهو مما يرفع الله به درجته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لقد تابت توبة لو تابها صاحب مَكس لغفر له وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله؟!
[تفسير آيات أشكلت: 1/332]
وقد قيل في ماعز إنه رجع عن الإقرار وهذا هو أحد القولين في مذهب أحمد وغيره وهو ضعيف والأول أجود وهؤلاء يقولون سقط الحد لأنه رجع عن الإقرار ويقولون رجوعه عن الإقرار مقبول وهو ضعيف بل فرق بين من أقر تائبًا وبين من أقر غير تائب فإسقاط العقوبة بالتوبة كما دلت عليه النصوص أولى من إسقاطها بالرجوع عن الإقرار.
والإقرار شهادة منه على نفسه ولو قبل الرجوع لما قام حَد بإقرار فإذا لم تقبل التوبة بعد الإقرار مع أنه قد يكون صادقًا فالرجوع الذي هو فيه
[تفسير آيات أشكلت: 1/333]
كاذب أولى والله سبحانه أعلم.
[تفسير آيات أشكلت: 1/334]


التوقيع :
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
تعالى, قوله

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:28 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir