دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > مكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم > بيان المُستشكل > تفسير آيات أشكلت لابن تيمية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 14 ربيع الثاني 1432هـ/19-03-2011م, 04:13 PM
ريم الحربي ريم الحربي غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: بلاد الحرمين
المشاركات: 7,079
افتراضي قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا....}

فصل
في قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ}.
وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ}.


قد تنازع المفسرون في معنى «العود في ملتهم» ، على قولين:
أحدهما: وهو الذي وجدته منقولًا عن مفسري السلف، ما ذكر في تفسير عطية عن ابن عباس، وينقل منه عامة المفسرين:
[تفسير آيات أشكلت: 1/160]
ابن جرير، وابن أبي حاتم، وغيرهما.
يروى عن محمد بن سعد العوفي، حدثني أبي، حدثني عمي،
[تفسير آيات أشكلت: 1/161]
حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، وينقل منه عامة المتأخرين من المفسرين: كالماوردي، والثعلبي، والواحدي،
[تفسير آيات أشكلت: 1/162]
والبغوي، وابن الجوزي، وغيرهم.
وقد روى ابن حاتم منه في هذه الآية عن ابن عباس، قال: «كانت الرسل والمؤمنون يستضعفهم قومهم، ويقهرونهم، ويدعون إلى العود في ملتهم فأبى الله لرسوله والمؤمنين أن يعودوا في ملتهم -وهي ملة الكفر-، وأمرهم أن يتوكلوا عليه».
[تفسير آيات أشكلت: 1/163]
وعطية مشهور بالتفسير عن السلف، وأما روايته عن ابن عباس ففيها لين، لكن مثل هذا التفسير مشهور عن عطية، وقد رواه عن ابن عباس السُّدِّي في التفسير المعروف الثابت عنه، وقد نقله عن أشياخه، والسدي ثقة روى له مسلم، وتفسيره رواه عنه أسباط بن نصر، وهو ثقة، روى له مسلم.
[تفسير آيات أشكلت: 1/164]
وقد ذكر في أول تفسيره أنه أخذه عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس،
[تفسير آيات أشكلت: 1/165]
وعن مرة الهَمْداني عن ابن مسعود، وعن ناسٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكن هو ينقله بلفظه ويخلط الروايات بعضها ببعض، وقد
[تفسير آيات أشكلت: 1/166]
يكون فيها المرسل، والمسند، ولا يميز بينهما، ولهذا يقال: ذكره السدي عن أشياخه. ففيه ما هو ثابت عن بعض الصحابة: ابن مسعود، وابن عباس، وغيرهما. وفيه ما لا يجزم به.
قال في تفسيره في قصة {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}: «ليس المراد عودهم إلى الكفر، فإن الأنبياء لم يكونوا كفارًا». وقال ابن عطية: «والعود أبدًا إنما هو
[تفسير آيات أشكلت: 1/167]
إلى حالة قد كانت، والرسل ما كانوا قط في ملة الكفر، والمعنى: أو لتعودن إلى سكوتكم عنا كما كنتم قبل الرسالة وكونكم أغفالًا. قال: وذلك عند الكفار كون في ملتهم».
فصاحب هذا القول أقر العود على معناه المعروف، ولكن جعله عَودًا إلى ترك الأمر والنهي ودعوتهم إلى الإيمان كما كانوا قبل أن يرسلوا، وجعلوا هذا عودًا في ملتهم عند أولئك الكفار، وهذا يرد عليه أمران:
أحدهما: أن هذا العود إنما يكون للرسل خاصة، فهم الذين أمروا ونهوا ودعوهم إلى اتباعهم.
وقال ابن عطية: «أو لتعودن في ملتنا: لتصيرن».
وقال أبو الفرج: «أو لتعودن في ملتنا يعني: ديننا، وهو الشرك، فإن قل: كيف قالوا: «أو لتعودن» ، وشعيب لم يكن في كفر قط؟ فعنه جوابان:
[تفسير آيات أشكلت: 1/168]
أحدهما: أنهم لما جمعوا في الخطاب معه من كان كافرًا، ثم آمن خاطبوا شعيبًا بخطاب أتباعه، وغلبوا لفظهم على لفظه لكثرتهم وانفراده.
والثاني: لتصيرن إلى ملتنا، فوقع القول على معنى الابتداء كما يقال: عاد عَليَّ من فلان مكروه، أي: قد لحقني منه ذلك، وإن لم يكن سبق منه مكروه.
قال الشاعر:
فإن تكن الأيام أحْسنَّ مَرَّة... إليَّ فقد عادت لهن ذنوبُ
قال: وقد شرحنا هذا في سورة البقرة في قوله: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}.
[تفسير آيات أشكلت: 1/169]
قال: وقد ذكر معنى هذين الجوابين الزجاج، وابن الأنباري» ،
[تفسير آيات أشكلت: 1/170]
ولم يذكر في آية إبراهيم شيئًا. والجواب الأول -مع ضعفه- لا يتأتى في سورة إبراهيم.
وكذلك البغوي مع الثعلبي، وغيرهما، ذكرا الوجهين، ووجهًا ثالثًا، فقالا -واللفظ للبغوي-: «لترجعن إلى ديننا الذي نحن عليه. قال شعيب: {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} لذلك فتجبرونا عليه؟ {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} يقول: إلا أن يكون قد سبق لنا في مشيئة الله أنا نعود فيها، فحينئذٍ يمضي قضاء الله فينا، وينفذ حكمه علينا.
قال: فإن قيل: ما معنى قوله: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} ولم يكن شعيب قط في ملتهم حتى يصح قولهم ترجع إلى ملتنا؟ قيل: معناه: أو لتدخلن في ملتنا، فقال: ما يكون لنا أن ندخل فيها.
وقيل معناه: إن صرنا في ملتكم، ومعنى «عاد»: «صار».
وقيل: أراد به قوم شعيب؛ لأنهم كانوا كفارًا فآمنوا فأجاب شعيب عنهم» ، ولم يذكر هذه التأويلات في سورة إبراهيم. بل فسرها بمقتضى
[تفسير آيات أشكلت: 1/171]
اللفظ: إلا أن ترجعوا، أو حتى ترجعوا إلى ديننا.
قلت: هؤلاء فسروا الملة بالكفر كما هو مدلول اللفظ، ولم يذكروا ما قاله ابن عطية. وابن عطية فسره بالعود إلى الحال التي كانوا عليها وقال: «العود إنما هو إلى الحال قد كانت» ، ولم يسوغ أن يكون بمعنى الابتداء. ومما يشهد لما قاله ابن الجوزي في البيت المتقدم، قول لبيد:
وما المَرءُ إلا كالشهاب وضَوئِهِ... يَحُورُ رَمَادًا بَعدَ إذ هو ساطع
[تفسير آيات أشكلت: 1/172]
أراد: يصير رمادًا، لا أنه كان رمادًا. ومثله قول أمية بن أبي الصلت:
تلك المكارِم لا قعبَان من لبَن... شيبًا بماءٍ فعادا بعدُ أبْوالا
قلت: ما ذكروه لا يشهد لمعنى الآية، فإن لفظها: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} وقول شعيب: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} ، وكذلك قالوا للرسل، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «العائد في هبته كالعائد في قيئه، ليس لنا مثل
[تفسير آيات أشكلت: 1/173]
السوء». وفي السنن: «ليس لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما وهبه لولده».
وكذلك قال لعمر: «لا تبتعه ولو أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته
[تفسير آيات أشكلت: 1/174]
كالعائد في قيئه» ، وفي لفظ: «كالكلب يقيء، ثم يعود فيه» ، ومنه قوله: «ومن كان يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار».
ويقال: عاد لذا، كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} ، وقال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} ، واللفظ في مثل هذا الموضع صريح بالعود إلى أمر كان عليه
[تفسير آيات أشكلت: 1/175]
الرسل وأتباعهم لا يحتمل غير ذلك كما قال ابن عطية.
لكن إذا قال: عاد لذا فهو فعل مثل ما كان منه أولاً، كالذين نهوا عن شيء كانوا يفعلونه، ثم عادوا له بعد النهي، وكالمظاهر الذي امتنع من زوجته وحرم عليه إمساكها ووطؤها، ثم عاد لإمساكها وجماعها. ولم يقل أحد قط إن العود في مثل هذا يكون فعلاً مبتدأ.
وأما قوله: فقد عادت لهُن ذنوب، وعادا بعد أبْوَالاً، وحار رمادًا، فتلك أفعال مطلقة ليس فيها أنه عاد لكذا، ولا عاد فيه. ولفظ العود: الرجوع، وهو يقتضي رجوعًا إلى شيء، ورجوعًا عن شيء. فعند الإطلاق قد يراد الرجوع عن
[تفسير آيات أشكلت: 1/176]
هذه الحال، والحور عنها ونحو ذلك، ويقتضي رجوعًا إلى شيء، ولهذا سمي المرتد عن الإسلام مرتدًا وإن كان ولد على الإسلام ولم يكن كافرًا عند عامة العلماء؛ لكونه رجع عن الإسلام.
* * *
[تفسير آيات أشكلت: 1/177]


التوقيع :
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 14 ربيع الثاني 1432هـ/19-03-2011م, 04:19 PM
ريم الحربي ريم الحربي غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: بلاد الحرمين
المشاركات: 7,079
افتراضي

فصل
وأما قولهم: إن شعيبًا والرسل ما كانوا في ملتهم قط، وهي ملة الكفر، فهذا فيه نزاع مشهور، وبكل حال فهذا خبر يحتاج إلى دليل سمعي أو عقلي، وليس في أدلة الكتاب والسنة والإجماع ما يخبر بذلك،

وأما العقل: ففيه نزاع، والذي عليه نظار أهل السنة أنه ليس في العقل ما يمنع ذلك، وهذه المسألة تنازع فيها المتأخرون من المنتسبين إلى السنة الحديث، والمعتزلة.
قال القاضي أبو بكر بن الطيب في بيان الكلام في أن الأنبياء يجوز
[تفسير آيات أشكلت: 1/178]
وقوع الذنوب منهم أم لا؟ وما الذي يجوز وقوعه إن جُوِّز ذلك عليهم؟ وهل يجوز قبل البعثة، أو يفترق الحال في ذلك؟ وما يتصل به من الفصول، وذكر الخلاف في ذلك، ووصف الحق فيه. قال: «فذكرنا قبل ذلك استحالة الكذب عليهم والكتمان والخطأ والسهو والإغفال والتورية والإلغاز فيما طريقه البلاغ والأداء عن الله، وحراستهم من كل سبب يقدح في نبوتهم ودلالة معجزاتهم، وما خصهم الله به من شرف المنزلة وعلو القدر».
[تفسير آيات أشكلت: 1/179]
قال: «وقد اختلف الناس في جواز وقوع الذنوب منهم. فقالت المعتزلة: إنه لا يجوز وقوع الكبائر من المعاصي منهم كالكفر فما دونه لا قبل النبوة ولا بعدها؛ لكون ذلك منفرًا عن طاعتهم والقبول منهم، ومفسدًا عند بعضهم لدلالة الإعلام وما يقتضيه التحمل والبلاغ عن الله، فلا يجوز أن يكون النبي قبل بعثته إلا على التمسك بالفرائض العقلية، والعمل الصالح، والتدين بشريعة نبي قبله».
[تفسير آيات أشكلت: 1/180]
قلت: وكثير من أهل السنة يقولون: إن الأنبياء معصومون من الكفر قبل النبوة، كما قال ذلك: ابن الأنباري، والزجاج، وابن عطية، وابن الجوزي، والبغوي.
قال البغوي: «وأهل الأصول على أن الأنبياء كانوا مؤمنين قبل الوحي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعبد الله قبل الوحي على دين إبراهيم، ولم تبين له شرائع دينه».
قلت: وقوله هذا يناقض ما ذكره في قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} ، قال: «ومعنى الآية: ووجدك ضالاًّ عما أنت عليه اليوم
[تفسير آيات أشكلت: 1/181]
فهداك لتوحيده والنبوة». فجعل التوحيد مما كان ضالًا عنه فهداه إليه، وأيضًا فقوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} يناقض هذا.
وقد روي عن أحمد أنه قال: «من قال إنه كان النبي صلى الله عليه وسلم على دين قومه، فهو قول سوء» ، ولكن قد قال السدي وغيره: «كان على دين قومه
[تفسير آيات أشكلت: 1/182]
أربعين سنة».
قلت: وقد روى ابن أبي حاتم: حدثني عبد الله بن أبي بكر،
[تفسير آيات أشكلت: 1/183]
عن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم، عن عمه نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه جبير بن مطعم قال: «لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على دين قومه، وهو واقف على بعير له بعرفات بين قومه يدفع مع الناس توفيقًا
[تفسير آيات أشكلت: 1/184]
من الله له» ، وقد رواه أحمد من طريق ابن إسحاق به، ورواه أيضًا من طريق سفيان، عن أبيه، ولم يقل: على دين قومه.
والمقصود: أن هذا النزاع في وقوع الذنوب منهم قبل النبوة ليس هو قول
[تفسير آيات أشكلت: 1/185]
المعتزلة فقط، بل هو بين أصحاب الحديث وأهل السنة.
قال أبو بكر بن الطيب: «وقال كثير منهم ومن أصحابنا وأهل الحق: إنه لا تمتنع بعثة من كان كافرًا أو مصيبًا للكبائر قبل بعثته. قال: ولا شيء عندنا يمنع من ذلك على ما نبين القول فيه».
واختلفوا في إصابة الذنوب منهم بعد البعثة.
فقالت الرافضة ومن تابعهم: لا يجوز ذلك عليهم في صغائر الذنوب
[تفسير آيات أشكلت: 1/186]
وكبائرها، ولا يجوز عليهم السهو والغلط في البلاغ ولا في غيره.
وقالت المعتزلة: يجوز وقوع صغائر الذنوب منهم في حال الرسالة اعتمادًا مع العلم بخطرها وقبحها، ولا يجوز أن يقع منهم الكبير من المعاصي، ولا الصغائر المستقبحة المصغرة لشأن فاعليها.
وقال فريق منهم: لا يجوز وقوع الذنوب منهم على القصد إليها والعلم بقبحها وتحريمها، وإنما يقع منهم على جهة الخطأ في التأويل. وهذا قول الجُبَّائي، وكثير من سلفهم.
[تفسير آيات أشكلت: 1/187]
وقال النظام، وجعفر بن بسران: «ذنوبهم إنما تقع على وجه السهو، وأنهم مع ذلك يؤاخذون بها وإن وقعت كذلك، وإن كان ذلك مرفوعًا عن أممهم ومغفورًا لهم لأجل أن معرفتهم بالله وبدينه أقوى ودلائله أكثر، وهم على التدقيق والتحفظ من الغلط والسهو أقدر من أممهم؛ فلذلك غلظ التكليف عليهم».
قال: «وقال أهل الحق والجمهور من الناس وأصحاب الحديث: إنه يجوز وقوع الذنوب منهم في حال نبوتهم، إلا ذنوبًا في حال ما يفسد البلاغ عن الله ويقدح في دلالة الآيات الظاهرة عليهم، وإلا ذنوبًا
[تفسير آيات أشكلت: 1/188]
أجمعت الأمة على أنها لا تقع منهم، مثل ذنوب تقدح في إعلامهم وصحة نبوتهم وتشكك في صدقهم، وأنه ليس في معاصي الله صغائر تقع محبطة لا يُستحَق الذم والعقاب عليها. بل كلما يُعْصَى الله به فهو أكبر من جميع معاصي العباد بعضهم لبعض، وأن ذنوبهم تقع مغفورة لا يعاقبون عليها في المعاد».
قال: «وقال كثير من أهل الحق: لا بد مع مواقعتهم لها أنهم واقعوها من خوفٍ شديدٍ وحذرٍ وإعظام لها وتعقيبها بالتوبة والندم منها في الحال».
قال: «وهذا هو المختار عندنا».
قال: «وقال الجمهور من أهل الحق: إنه لا يجب القطع على مواقعتهم
[تفسير آيات أشكلت: 1/189]
لها في حال النبوة، وأنه لا بد من دليل يدل على ذلك. بل الآي والأخبار المروية في ذلك محتملة لكونهم مصيبين لها قبل النبوة». قال: «وهذا أولى وأليق بهم».


التوقيع :
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 14 ربيع الثاني 1432هـ/19-03-2011م, 04:22 PM
ريم الحربي ريم الحربي غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: بلاد الحرمين
المشاركات: 7,079
افتراضي

ثم قال: «فصل في جواز بعثة من كان مصيبًا للكفر والكبائر قبل الرسالة، والذي يدل على ذلك أمور:


أحدها: أن إرسال الرسول وظهور الأعلام عليه، اقتضى ودل -لا محالة- على إيمانه وصدقه، وطهارة سريرته، وكمال علمه، ومعرفته بالله، وأنه مُؤَدٍّ عنه دون غيره؛ لأنه إنما يُظهرُ الأعلام ليستدل بها على صدقه فيما يدعيه من الرسالة. فإذا صار بدلالة ظهورها عليه إلى هذه الحال من الطهارة والنزاهة، والإقلاع عما كان عليه لم تمتنع بعثته وإلزام توقيره وتعظيمه، وإن وجد فيه ضد ذلك قبل الرسالة.
ويدل على ذلك جواز نصب الإمام للأمة، ويلزمه إقامة الحدود واستيفاء الحقوق مما كان يليه عليه السلام. وإن كان الإمام قبل ذلك كافرًا ومصيبًا للكبائر قبل إمامته، وأمر الله بتعظيمه والانقياد له والخضوع لأوامره؛ فكذلك النبي وإن اختلفت رتبتهما في الفضل.
[تفسير آيات أشكلت: 1/190]
ويدل عليه أيضًا: أنه لا شيء يمنع بعثة من كان كافرًا، ثم صَحَّت توبته وإقلاعه. فمن ظن أن ذلك يوجب محالًا وإفسادًا في التكليف أو غيره، ذكر ذلك له لتريه فساده».
وقد أطال ابن الطيب الكلام على المعتزلة في هذا المقام بنقض أقوالهم.
قلت: المقصود بما ذكر خلاف الناس في هذا الأصل، وأما تحقيق القول فيه: فالله سبحانه إنما يصطفي لرسالته من كان خيار قومه، كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ، وقال: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ}. بل قد يبعث النبي من أهل بيت ذي نسب طاهر، كما قال هرقل لأبي سفيان: «كيف نسبه
[تفسير آيات أشكلت: 1/191]
فيكم؟ قال: هو فينا ذو نسب. قال: وكذلك الرسل تبعث في أنساب قومها» ، وقد قالوا لشعيب -مع استضعافهم له-: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}.
ومن نشأ بين قوم مشركين جهال لم يكن عليه منهم نقص ولا بغض ولا غضاضة إذا كان على مثل دينهم إذا كان عندهم معروفًا بالصدق والأمانة،
[تفسير آيات أشكلت: 1/192]
وفعل ما يعرفون وجوبه واجتناب ما يعرفون قبحه، وقد قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} ؛ فلم يكن هؤلاء مستوجبين العذاب قبل الرسالة، وإن كان لا هو ولا هم يعلمون ما أرسل به.
وفرق بين من يرتكب ما علم قبحه وبين من يفعل ما لم يعرف، فإن هذا الثاني لا يذمونه ولا يعيبونه عليه، ولا يكون ما فعله مما هم عليه منفرًا عنه، بخلاف الأول.
ولهذا لم يكن في أنبياء بني إسرائيل من كان معروفًا بشركٍ، فإنهم نشأوا على شريعة التوراة، وإنما ذكر هذا فيمن كان قبلهم، ولكن هذا الذي ذكره
[تفسير آيات أشكلت: 1/193]
يجيء في إخوة يوسف، إذا قيل أنهم صاروا أنبياء بعد ما فعلوه بيوسف فوقع منهم ما وقع قبل النبوة.
وأما ما ذكره سبحانه في قصة شعيب والأنبياء، فليس في هذا ما ينفر أحدًا عن القبول منهم، وكذلك الصحابة الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد جاهليتهم وكان فيهم من كان محمود الطريقة قبل الإسلام، كأبي بكر الصديق رضي الله عنه، فإنه لم يزل معروفًا بالصدق والأمانة ومكارم الأخلاق، لم يكن فيه قبل الإسلام ما يعيبونه به، والجاهلية كانت مشتركة فيهم كلهم.
فقد تبين أن ما أخبر عنه قبل النبوة -في القرآن- من أمر الأنبياء ليس فيه ما
[تفسير آيات أشكلت: 1/194]
ينفر أحدًا عن تصديقهم، ولا يوجب طعن قومهم فيهم؛ ولهذا لم يذكر أحد من المشركين هذا قادحًا في نبوتهم، ولو كانا يرونه عيبًا لعابوه، ولقالوا أنتم كنتم أيضًا معنا على الحالة المذمومة، ولو ذكروا للرسل هذا، قالوا: كنا كغيرنا لم نعرف ما أوحي به إلينا، بل {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} ، فقالت الرسل: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}.
وقد اتفقوا كلهم على جواز بعثة رسول لم يعرف ما جاءت به الرسل قبله من أمور النبوة والشرائع، ومن لم يقر بهذا الرسول بعد الرسالة فهو كافر، والرسل -قبل الوحي- قد كانت لا تعلم هذا، فضلًا عن أن تقر به، فعلم أن عدم هذا العلم والإيمان لا بقدح في نبوتهم. بل الله إذا نبأهم علمهم ما لم يكونوا يعلمون، وقد قال تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وقال: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}. فجعل إنذارهم بعبادة الله وحده
[تفسير آيات أشكلت: 1/195]
كإنذارهم يوم التلاق، كلاهما عرفوه بالوحي.
[تفسير آيات أشكلت: 1/196]
كإنذارهم بيوم التلاق كلاهما عرفوه بالوحي.
وقد كان إبراهيم الخليل قد ترَبَّى بين قوم كفار ليس فيهم من يوحد الله وآتاه الله رشده وآتاه من العلم والهدى ما لم يكن فيهم كذلك غيره من الرسل.
وموسى لما أرسله الله إلى فرعون قال له فرعون {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}.
وقال تعالى لخاتم الرسل {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}.
وهذه إن المخففة من الثقيلة قد دخلت في خبرها اللام الفارقة ليست النافية كما يظنه من لا يفهم العربية ولا معاني القرآن.
[تفسير آيات أشكلت: 1/196]
وقال تعالى {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} وقال {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} الآية وقال {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} إلى آخر السورة.
وقد تنازع الناس في حال نبينا صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وفي معاني بعض هذه
[تفسير آيات أشكلت: 1/197]
الآيات كما تنازعوا في آية الأعراف وآية إبراهيم.
فقال قوم لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على دين قومه ولم يأكل ذبائحهم وهذا هو المنقول عن أحمد بن حنبل قال من زعم أنه كان على دين قومه فهو قول سوء أليس كان لا يأكل مما ذبحَ على النصُب؟
[تفسير آيات أشكلت: 1/198]
قلت ولعل أحمد قال أليس كان لا يعبد الأصنام فغلط الناقل عنه فإن هذا قد جاء في الآثار أنه كان لا يعبد الأصنام وأما كونه لا يأكل من ذبائحهم فهذا لا يعلم أنه جاء به أثر وأحمد من أعلم الناس بالآثار فكيف يطلق قولًا عن المنقولات لم يرد به نقل ولكن هذا قد يشتبه بهذا وشرك حرمه من حين أرسِل وأما تحريم ما ذبح على النصب فإنما ذكر في سورة المائدة وقد ذكر في السور المكية كالأنعام والنحل تحريم ما أهل به لغير الله.
فتحريم هذا إنما عرف من القرآن وقبل نزول القرآن لم يكن يعرف تحريم
[تفسير آيات أشكلت: 1/199]
هذا بخلاف الشرك وقد كان هو وأصحابه مقيمين بمكة بعد الإسلام يأكلون من ذبائحهم لكن فرق بين ما ذبحوه للحم وما ذبحوه للنصُب على جهة القربة للأوثان فهذا من جنس الشرك لا يباح قط في شريعة وهو من جنس عبادة الأوثان.
وأما ذبائح المشركين فقد ترد الشريعة بحلها كما كانوا يتزوجون المشركات أولًا.
والقول الثاني إطلاق القول بأنه صلى الله عليه وسلم كان على دين قومه وتفسير ذلك بما كانوا عليه من بقايا دين إبراهيم لا بالموافقة لهم على شركهم.
قال ابن قتيبة قد جاء الحديث بأنه كان على دين قومه أربعين سنة ومعناه أن العرب لم يزالوا على بقايا من دين أبيهم إبراهيم صلى الله عليه وسلم من ذلك حج البيت وزيارته والختان والنكاح وإيقاع
[تفسير آيات أشكلت: 1/200]
الطلاق إذا كان ثلاثًا وأن للزوج الرجعة في الواحد والاثنتين ودية النفس مائة من الإبل والغسل من الجنابة وتحريم المحرمات بالقرابة والصهر.
فكان على ما كانوا عليه من الإيمان بالله والعمل بشرائعهم تلك وكان لا يقرب الأوثان بل كان يعيبها وكان لا يعرف شرائع الله التي شرعها لعباده على لسانه حتى أوحي إليه فذلك قوله {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ} يعني
[تفسير آيات أشكلت: 1/201]
القرآن {وَلَا الْإِيمَانُ} يعني شرائع الإيمان ولم يرد الإيمان الذي هو الإقرار بالله لأن آباءه الذين ماتوا على الشرك كانوا يؤمنون بالله ويحجون له مع شركهم.
قلت أما ما ذكره ابن قتيبة من أن العرب كانوا يحجون ويختتنون فهذا متواتر عنهم وهذا كان هو الحنيفية عندهم وكذلك تحريم الأقارب.
قال أبو الحسن الأخفش الحنيف المسلم فكان يقال في الجاهلية لمن اختتن وحج البيت حنيف لأن العرب لم تتمسك بشيء من دين إبراهيم غير الحج والختان فلما جاء الإسلام عادت الحنيفية.
[تفسير آيات أشكلت: 1/202]
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد عن قتادة قال الحنيفية شهادة أن لا إله إلا الله يدخل فيها تحريم الأمهات والبنات والعمات والخالات وما
[تفسير آيات أشكلت: 1/203]
حرم الله والختان وكانت حنيفية من الشرك كان أهل الشرك يُحَرِّمون في شركهم الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وكانوا يحجون البيت وينسكون المناسك.
وقال ابن عباس حنيفًا حاجًّا قال ابن أبي حاتم وروي عن الحسن والضحاك وعطية والسدي نحو ذلك.
وهؤلاء إن أرادوا أن هذا الجنس مختص بالحنفاء لا يحج لا يهودي
[تفسير آيات أشكلت: 1/204]
ولا نصراني لا في الجاهلية ولا في الإسلام ولهذا جاء في الحديث من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فليمت إن شاء يهوديًّا وإن شاء نصرانيًّا وهذا بعد أن فرضه الله فهو من لوازم الحنيفية.
كما أنه لم يكن مسلمًا إلا من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وأما قبل محمد فكان بنو إسرائيل وغيرهم على ملة إبراهيم وكان الحج مستحبًّا قبل محمد لم يكن مفروضًا ولهذا حج موسى ويونس وغيرهما من الأنبياء ولم يكن مفروضًا على بني إسرائيل فكان قبل الإسلام من الكمال المستحب في الحنيفية فلما فرض على لسان محمد صار من الكمال الواجب في الحنيفية فلا تتم إلا به.
والإسلام بُنِي على خمس أحدها حج البيت والكلام في الحنيفية
[تفسير آيات أشكلت: 1/205]
لبسطه موضع آخر ولكن المقصود ما كانت عليه العرب من الحنيفية بقايا دين إبراهيم كالحج والختان وكتحريم من ذكر ولكن هذا التحريم يشاركهم فيه أهل الكتاب والختان يشاركهم فيه اليهود فلم يمتازوا إلا بحج البيت لم يكن يحجه غيرهم والختان والتحريم كان معهم من بقايا دين إبراهيم.
وأما ما ذكره ابن قتيبة من أنهم كانوا يجعلون الطلاق ثلاثًا فليس كذلك بل هذا إنما شرع بالمدينة فإن المسلمين كانوا يُطلقون بعد الإسلام بالمدينة بلا عدد وكان الرجل يُطلق المرأة حتى إذا قاربت انقضاء عدتها طلقها ثم يرتجعها ضرارًا بها فنهاهم الله عن ذلك وقصرهم على ثلاث
[تفسير آيات أشكلت: 1/206]
تطليقات وهذا مشهور في الحديث والتفسير والفقه وهو أشهر من أن يعزى إلى كتاب معين.
وأما كون دية النفس كانت مائة من الإبل فليس هذا من دين إسماعيل بل هذا مما سَنهُ لهم عبد المطلب وأقره النبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام وقد ذكر ابن عباس أنهم كانوا يَدُون النفس مائة من الإبل وكان سبب ذلك نذر عبد المطلب لما نذر أن يذبح آخر ولد يولد له.
[تفسير آيات أشكلت: 1/207]
وقيل إنه نذر إن ولد له عشرة ذكور أن يذبح أحدهم وأنه أراد ذبح عبد الله أبي النبي صلى الله عليه وسلم فمنعه قومه وافتداه من ربه بإبل قصار يقرع وتخرج القرعة على عبد الله ويزيد الإبل حتى صارت مائة فخرجت القرعة على الإبل والقصة مشهورة في السير وغيرها.
وأما تحريم ما ذكر فصحيح وأما التحريم بالصهر فليس كذلك بل كان الرجل يتزوج امرأة أبيه وكان هذا مشهورًا من أفعالهم ولهذا قال الله تعالى {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ
[تفسير آيات أشكلت: 1/208]
إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} ولم يذكر ابن قتيبة أنه لم يكن يأكل من ذبائحهم وكذلك غيره بل قالوا كان يأكل من ذبائحهم خلاف ما نقل عن أحمد.
قال ابن عطية في قوله {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} وجده فأغاثه إنعامه بالنبوة والرسالة على غير الطريق التي هو عليها في نبوته وهذا قول الحسن والضحاك.
والضلال يختلف فمنه البعيد ومنه القريب فالبعيد ضلال الكفار فكان هذا الضلال الذي ذكره الله لنبيه أقرب الضلال وهو كونه واقفًا لا يميز بين
[تفسير آيات أشكلت: 1/209]
المهيع لا لأنه تمسك بطريق آخر بل كان يرتاد وينظر.
وقال السدي أقام على دين قومه أربعين سنة قال ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعبد صنمًا قط ولكنه أكل ذبائحهم حسب حديث زيد بن عمرو بن نفيل في أسفل بلدح وجرى على سنن من أمرهم وهو مع ذلك ينكر
[تفسير آيات أشكلت: 1/210]
خطأ ما هم فيه ودفع من عرفات وخالفهم في أشياء كثيرة.
قلت ما ذكره من حديث زيد بن عمرو بن نفيل رواه البخاري من حديث موسى بن عقبة أخبرني سالم أنه سمع
[تفسير آيات أشكلت: 1/211]
ابن عمر يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل أسفل بلدح وذلك قبل أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي فقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة فيها لحم فأبى أن يأكل منها وقال لا آكل مما تذبحون على أنصابكم أنا لا آكل مما لم يذكر اسم الله عليه.
وكان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول الشاة خلقها الله عز وجل وأنزل لها من السماء ماءً وأنبت لها من الأرض ثم تذبحوها عليها على غير اسم الله إنكارًا لذلك وإعظامًا له.
[تفسير آيات أشكلت: 1/212]
والمنقول أنه عليه السلام كان قبل النبوة يبغض عبادة الأصنام ولكن لم يكن ينهى عنها الناس نهيًا عامًّا وإنما كان ينهى خواصَّه كما روى أبو يعلى
[تفسير آيات أشكلت: 1/213]
الموصلي حدثنا محمد بن بشار بندار حدثنا عبد الوهاب بن
[تفسير آيات أشكلت: 1/214]
عبد المجيد أملاه علينا من كتابه حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة عن أسامة بن
[تفسير آيات أشكلت: 1/215]
زيد بن حارثة عن زيد بن حارثة قال:
خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا حارًّا من أيام مكة وهو مردفي إلى نصب من الأنصاب قد ذبحنا له شاة فأنضجناها قال فلقينا زيد بن
[تفسير آيات أشكلت: 1/216]
عمرو بن نفيل فحَيَّا كل واحد منهما صاحبه بتحية الجاهلية فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا زيد ما لي أرى قومك قد شنؤوك قال يا محمد والله إن ذلك لبغير نائلة لي فيهم ولكني خرجت أبتغي هذا الدين حتى أقدم على أحبار فدَك فوجدتهم يعبدون الله سبحانه ويشركون به.
فقلت ما هذا بالدين الذي أبتغي حتى أقدم على أحبار خيبر
[تفسير آيات أشكلت: 1/217]
فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به فقلت ما هذا بالدين الذي أبتغي فخرجت حتى أقدم على أحبار الشام فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به فقلت ما هذا بالدين الذي أبتغي فخرجت فقال لي شيخ منهم إنك تسأل عن دين ما نعلم أحدًا يعبد الله به إلا شيخ بالحِيرَة قال فخرجت حتى أقدم عليه فلما رآني قال ممن أنت قلت أنا من أهل بيت الله من أهل الشوك والقرَظ.
[تفسير آيات أشكلت: 1/218]
قال إن الذي تطلب قد ظهر ببلادك قد بُعث نبي طلع نجمه وجميع من رأيتهمْ في ضَلال قال فلم أحس بشيء قال فقرب إليه السفرة فقال ما هذا يا محمد قال شاة ذبحت لنصب من هذه الأنصاب قال ما كنت لآكل مما لم يذكر اسم الله عليه.
قال وتفرقا قال زيد بن حارثة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم البيت فطاف به وأنا معه وطاف بين الصفا والمروة وكان عند الصفا والمروة صنمان من نحاس أحدهما يقال له إساف والآخر نائلة وكان المشركون إذا طافوا بهما تمسحوا بهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تمسحهما فإنهما رجس فقلت في
[تفسير آيات أشكلت: 1/219]
نفسي لأمسنهما حتى أنظر ما يقول فمسستهما فقال لي يا زيد ألم تنه؟
قال ومات زيد بن عمرو بن نفيل وأنزل الله على رسوله فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه يبعث يوم القيامة أمة وحده.
قال أبو عبد الله المقدسي هذا حديث حسن
[تفسير آيات أشكلت: 1/220]
له شاهد في الصحيح من حديث ابن عمر.
وقد اختصره أبو بكر البيهقي فرواه بإسناده عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة عن أسامة بن زيد عن زيد بن حارثة قال كان صنم من نحاس يقال له إساف أو نائلة يتمسح به
[تفسير آيات أشكلت: 1/221]
المشركون إذا طافوا فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفت معه فلما مررت به تمسحت به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تمسحه قال زيد فطفنا فقلت في نفسي لأمسنه حتى أنظر ما يكون فمسحته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم تنه؟
قال البيهقي وزاد فيه غيره عن محمد بن عمرو بإسناده قال زيد فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما استلم صنمًا قط حتى أكرمه الله بالذي أكرمه.
قال وروينا في قصة بحيرا الراهب حين حلف باللات والعزى متابعة لقريش فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تسألني باللات والعزى فوالله ما أبغضت
[تفسير آيات أشكلت: 1/222]
بغضهما شيئًا قط.
[تفسير آيات أشكلت: 1/223]
وكان الله قد نزهه عن الأعمال المنكرة أعمال الجاهلية فلم يكن يشهد مجامع لهوهم وكان إذا همَّ بشيء من ذلك ضرب الله على أذنه فأنامه وقد روى البيهقي وغيره في ذلك آثارًا.
وكذلك كانت قريش يكشفون عوراتهم لشيل حَجَر وغيره فنزهه الله عن ذلك كما هو في الصحيحين من حديث جابر وفي مسند أحمد من
[تفسير آيات أشكلت: 1/224]
حديث أبي الطفيل زيادة فنودي لا تكشف عورتك فألقى الحجر ولبس ثوبه.
وكانوا يسمونه الصادق الأمين فكان الله قد صانه من قبائحهم ولم يعرف منه قط كذبة ولا خيانة ولا فاحشة ولا ظلم قبل النبوة بل شهد مع عمومته حلف المُطيَّبين على نصر المظلوم
[تفسير آيات أشكلت: 1/225]
فقال شهدت مع عمومتي حِلفًا في الجاهلية لو ادعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت.
[تفسير آيات أشكلت: 1/226]
وأما الإقرار بالصانع وعبادته وتعظيمه والإقرار بأن السموات والأرض
[تفسير آيات أشكلت: 1/227]
مخلوقة له محدثة بعد أن لم تكن وأنه لا خالق غيره فهذا كان عامتهم يعرفونه ويقرون به فكيف لا يعرفه ويكون مُقِرًّا به؟
وكانوا يتعبدون بالطواف والحج وكان هو يتعبد بذلك وكان أبو طالب قد سن لهم الصعود إلى غار حراء للتعبد فيه وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة يتعبد فيه وفيه أنزل عليه الوحي كما هو في الصحيحين من حديث عائشة.
[تفسير آيات أشكلت: 1/228]
وكان من حين ولد ظهرت فيه علامات الخير وتغير العالم لمولده وظهرت أمور كثيرة من دلائل نبوته لكن هذا الذي جرى له لا يجب أن يكون مثله لكل نبي فإنه أفضل الأنبياء وسيد ولد آدم والله سبحانه إذا أهَّلَ عبده لأعلى المنازل والمراتب رباه على قدر تلك المرتبة والمنزلة.
فلا يلزم إن كان نَبِيٌّ قبل النبوة معصومًا من كبائر الإثم والفواحش صغيرها وكبيرها أن يكون كل نبي كذلك ولا يلزم إذا كان الله قد
[تفسير آيات أشكلت: 1/230]
بَغَّضَ إليه شرك قومه قبل النبوة أن يكون كل نبي كذلك فما عرف من حال نبينا وفضائله لا تناقض ما روي من أخبار غيره إذا كان دون ذلك ولا يمنع كون ذلك بنبينا ولكن الله فضل بعض النبيين على بعض كما فضلهم في الشرائع والكتب والأمم فهذا أصل يجب اعتباره.
وقد أخبر الله تعالى أن لوطًا كان من أمة إبراهيم وممن آمن له ثم إن الله أرسله وكذلك يوشع كان من أمة موسى وكان فتاه ثم إن الله أرسله وكذلك هارون لكن هارون ويوشع كانا على دين بني إسرائيل ملة إبراهيم وأما لوط فلم يكن قبل إبراهيم من قومه ملة نبي يتبعها لوط بل لما
[تفسير آيات أشكلت: 1/231]
بعث الله إبراهيم آمن له.
والرسول الذي ينشأ بين أهل الكفر الذين لا نبوة لهم ثم يبعثه الله فيهم يكون أكمل وأعظم ممن كان من قوم يعرفون النبوة فإنه يكون تأييد الله له أعظم من جهة تأييده بالعلم والهدى ومن جهة تأييده بالنصر والقهر كما كان نوح وإبراهيم ولهذا يضيف الله الأمر إليهما في مثل قوله {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} وقوله {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}.
وذلك أن نوحًا أول رسول بعث إلى المشركين وكان مبدأ شرك قومه من تعظيم الموتى الصالحين وقوم إبراهيم كان مبدأهم شركهم من عبادة الكواكب ذاك الشرك الأرضي وهذا الشرك السماوي.
ولهذا سَدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذريعة هذا وهذا فنهى عن اتخاذ القبور
[تفسير آيات أشكلت: 1/232]
مساجد وعن الصلاة إلى القبور وأمر عَلِيًّا أن لا يدع قبرًا مشرفًا إلا سوَّاه ولا تماثلًا إلا طمسه وكل هذه الأحاديث في
[تفسير آيات أشكلت: 1/233]
الصحيحين.
ونهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها لأجل الشرك السماوي.
والله سبحانه يرسل الرسل من جنس المرسل إليهم لأنه أتم لحصول المقصود بالرسالة قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}.
وقال تعالى {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}.
ولهذا يقول {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} وكان الرسول يُبعث إلى قومه خاصة وبُعِث محمد إلى
[تفسير آيات أشكلت: 1/234]
الناس عامة وهو مرسل إلى الثقلين الجن والإنس ولهذا قالت الجن لما سمعت القرآن {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} الآيات في سورة الأحقاف وقالوا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ} الآيات.
ولهذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم سورة الرحمن وقد خاطب الله بها الثقلين الجن والإنس وقال تعالى {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}
[تفسير آيات أشكلت: 1/235]
هذا يقال لهم يوم القيامة.
وفي قوله {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} و {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} قولان قيل هو خطاب للعرب وقيل هو خطاب لجميع الناس.
والتحقيق أنه خوطب به أولًا العرب بل خوطب به أولًا
[تفسير آيات أشكلت: 1/236]
قريش ثم العرب ثم سائر الناس من أهل الكتاب والأميين غير العرب.
فقوله {لَقَدْ جَاءَكُمْ} الكاف كاف الخطاب فهو خطاب لمن جاءه الرسول وبلغه القرآن الذي جاء به كما قال {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} فكل من بلغه القرآن فهو مخاطب بهذه الآية من جميع الأمم وهو من أنفسهم من الإنس ليس من الملائكة فإنه لو كان من الملائكة لم يطيقوا الأخذ عنه.
وكذلك قوله {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا} هو خطاب لكل من خوطب بالقرآن وهم جميع الخلق والجن يدخلون في ذلك أيضًا فإن الرسول إلى الجن والإنس منهم ليس من الملائكة والجن يأكلون ويشربون وينكحون كالإنس ويطيقون الأخذ عن الإنس ويفهمون كلامهم بخلاف
[تفسير آيات أشكلت: 1/237]
الرسول الملكي ومما يبين أنه عام في العرب وغيرهم قوله تعالى {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} ثم قال {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ}.
* * *
آخر ما وجد في هذا الفصل ولعله انخرم منه شيء والحمد لله رب العالمين.
[تفسير آيات أشكلت: 1/238]


التوقيع :
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
تعالى, قوله

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:59 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir