دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > العقيدة الطحاوية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30 ذو القعدة 1429هـ/28-11-2008م, 03:12 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي قوله: (والإيمان هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان)

والإيمانُ: هو الإقرارُ باللسانِ، والتصديقُ بالجَنَانِ.

  #2  
قديم 1 ذو الحجة 1429هـ/29-11-2008م, 06:32 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التعليقات على الطحاوية لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله ابن باز

والإيمان: هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان([1]).



([1]) هذا التعريف فيه نظر وقصور والصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أكثر من أن حصر، وقد ذكر الشارح ابن أبي العز جملة منها فراجعها إن شئت، وإخراج العمل من الإيمان هو قول المرجئة، وليس الخلاف بينهم وبين أهل السنة فيه لفظيا بل هو لفظي ومعنوي ويترتب عليه أحكام كثيرة يعلمها من تدبر كلام أهل السنة وكلام المرجئة، والله المستعان.


  #3  
قديم 1 ذو الحجة 1429هـ/29-11-2008م, 06:34 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التعليقات المختصرة للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان

(1) والإيمانُ: هو الإقرارُ باللسانِ، والتصديقُ بالجَنَانِ.



(1) هذا تعريفُ المرجئةِ، قَصَرُوا الإيمانَ على الإقرارِ باللسانِ والتصديقِ بالجَنَانِ.
فالقولُ الحقُّ: أنَّ الإيمانَ قولٌ باللسانِ، واعتقادٌ بالقلبِ، وعَمَلٌ بالجوارحِ، فالأعمالٌ داخلةٌ في حقيقةِ الإيمانِ، وليستْ بشيءٍ زائدٍ عن الإيمانِ، فَمَن اقْتَصَرَ على القولِ باللسانِ والتصديقِ بالقلبِ دونَ العملِ، فلَيْسَ من أهلِ الإيمانِ الصحيحِ.

فالإيمانُ – كما قَالَ العلماءُ -: قولٌ باللسانِ وتصديقٌ بالجنانِ وعَمَلٌ بالجوارحِ، يَزِيدُ بالطاعةِ ويَنْقُصُ بالعصيانِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، (الأَنْفَال: 2) وقَالَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (التَّوْبَة: 124) وقَالَ: {وَيَزْدَادُ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} (المُدَّثِّر: 31) هذهِ الآياتُ تَدُلُّ على زيادةِ الإيمانِ والنقصِ، كَمَا في قولِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الإيمانَ يَنْقُصُ. وفي روايةٍ: (ولَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ) دَلَّ على أنَّ الإيمانَ يَنْقُصُ، حتى يكونَ على وَزْنِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ.
وكما في الحديثِ الصحيحِ: (أَخْرِجُوا مِن النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ).
فالإيمانُ قولٌ باللسانِ واعتقادٌ بالقلبِ وعَمَلٌ بالأركانِ، يَزِيدُ بالطاعةِ ويَنْقُصُ بالعصيانِ، هذا تعريفُهُ الصحيحُ المأخوذُ من الكتابِ والسُّنَّةِ.
فلَيْسَ كما تقولُهُ الحَنَفِيَّةُ: قولٌ باللسانِ واعتقادٌ بالجَنَانِ فقطْ.
ولَيْسَ كما تقولُهُ الكَرَّامِيَّةُ: قولٌ باللسانِ فقطْ.
ولَيْسَ كما تقولُهُ الأشاعرةُ: اعتقادُ القلبِ فقطْ.
ولَيْسَ كما تقولُهُ الجَهْمِيَّةُ: هو المعرفةُ بالقلبِ فقطْ.
فالمُرْجِئَةُ أربعُ طوائفَ، أَبْعَدُهَا الجهميَّةُ، وعلى قولِهِم يكونُ فرعونُ مُؤْمِنًا؛ لِأَنَّهُ عارِفٌ، وإبلَيْسُ يكونُ مُؤْمِنًا؛ لِأَنَّهُ عارفٌ بقلبِهِ.
وعلى قولِ الأشاعرةِ: إِنَّهُ التصديقُ بالقلبِ، يكونُ أبو لَهَبٍ وأبو طالبٍ وأبو جَهْلٍ وسائرُ المشركينَ يكونونَ مُؤْمِنِينَ؛ لأَنَّهُم مُوقِنُونَ بقلوبِهِم ومُصَدِّقُونَ، يُصَدِّقُونَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قلوبِهِم، ولكنْ مَنَعَهُم الكِبْرُ والحَسَدُ مِن اتِّبَاعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
واليهودُ يَعْتَرِفُونَ أَنَّهُ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قلوبِهِم، ولكنَّ الحسدَ والكِبْرَ: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (البقرة: 146)، وقَالَ في المشركِينَ: { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأَنْعَام: 33)، فمعنى {لا يُكَذِّبُونَكَ} أي: أَنَّهُم يُصَدِّقُونَكَ.
وأبو طالبٍ يقولُ:
وَلَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ = مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا
لَوْلاَ الْمَلاَمَةُ أَوْ حَذَارَ مَسَبَّةٍ = لَرَأَيْتُنِي سَمِحًا بِذَاكَ مُبِينَا

  #4  
قديم 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م, 09:25 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي


قوله: ( والإيمان: هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان. وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق. والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى ).

ش: اختلف الناس فيما يقع عليه اسم الإيمان، اختلافاً كثيراً: فذهب مالك و الشافعي و أحمد و الأوزاعي و إسحق بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة رحمهم الله وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين: إلى أنه تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان. وذهب كثير من أصحابنا إلى ما ذكره الطحاوي رحمه الله: أنه الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان. ومنهم من يقول: إن الإقرار باللسان ركن زائد ليس بأصلي، وإلى هذا ذهب أبو منصور الماتريدي رحمه الله، ويروى عن أبي حنيفة رضي الله عنه. وذهب الكرامية إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط ! فالمنافقون عندهم مؤمنون كاملو الإيمان، ولكنهم يقولون بأنهم يستحقون الوعيد الذي أوعدهم الله به ! وقولهم ظاهر الفساد. وذهب الجهم بن صفوان وأبو الحسن الصالحي أحد رؤساء القدرية - إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب ! وهذا القول أظهر فساداً مما قبله ! فإن لازمه أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين، فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام، ولم يؤمنوا بهما، ولهذا قال موسى لفرعون: لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر. وقال تعالى: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً فانظر كيف كان عاقبة المفسدين. وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، ولم يكونوا مؤمنين به، بل كافرين به، معادين له، وكذلك أبو طالب عنده يكون مؤمناً، فإنه قال:
ولقد علمت بأن دين محمد = من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة = لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
بل إبليس يكون عند الجهم مؤمناً كامل الإيمان ! فإنه لم يجهل ربه، بل هو عارف به، قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون. قال: رب بما أغويتني. قال: فبعزتك لأغوينهم أجمعين. والكفر عند الجهم هو الجهل بالرب تعالى، ولا أحد أجهل منه بربه ! فإنه جعله الوجود المطلق، وسلب عنه جميع صفاته، ولا جهل أكبر من هذا، فيكون كافراً بشهادته على نفسه ! وبين هذه المذاهب مذاهب أخر، بتفاصيل وقيود، أعرضت عن ذكرها اختصاراً، ذكر هذه المذاهب أبو المعين النسفي في تبصرة الأدلة وغيره.
وحاصل الكل [يرجع] إلى أن الإيمان: إما أن يكون ما يقوم بالقلب واللسان وسائر الجوارح، كما ذهب إليه جمهور السلف من الأئمة الثلاثة وغيرهم رحمهم الله، كما تقدم، أو بالقلب واللسان دون الجوارح، كما ذكره الطحاوي عن أبي حنيفه وأصحابه رحمهم الله. أو باللسان وحده، كما تقدم ذكره عن الكرامية. أو بالقلب وحده، وهو إما المعرفة، كما قاله الجهم، أو التصديق كما قاله أبو منصور الماتريدي رحمه الله. وفساد قول الكرامية والجهم بن صفوان ظاهر.
والاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة - اختلاف صوري. فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب، أو جزءاً من الإيمان، مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه -: نزاع لفظي، لا يترتب عليه فساد اعتقاد. والقائلون بتكفير تارك الصلاة، ضموا إلى هذا الأصل أدلة أخرى. وإلا فقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب، ولم يوجب ذلك زوال اسم الإيمان عنهم بالكلية، اتفاقاً. ولا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل، وأعني بالقول: التصديق بالقلب والإقرار باللسان، وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم: الإيمان قول وعمل. لكن هذا المطلوب من العباد: هل يشمله اسم الإيمان ؟ أم الإيمان أحدهما، وهو القول وحده، والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر، وإن أطلق عليهما كان مجازاً ؟ هذا محل النزاع.
وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه -: [أنه] عاص لله ورسوله، مستحق للوعيد، لكن فيمن يقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال: لما كان الإيمان شيئاً واحداً فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق و عمر رضي الله عنهما ! بل قال: كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبرائيل وميكائيل عليهم السلام ! ! وهذا غلو منه. فإن الكفر مع الإيمان كالعمى مع البصر، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه، فمنهم الأخفش والأعشى، و[من] يرى الخط الثخين، دون الدقيق إلا بزجاجة ونحوها، ومن يرى عن قرب زائد على العادة، وآخر بضده.
ولهذا - والله أعلم - قال الشيخ رحمه الله: وأهله في أصله سواء، يشير إلى أن التساوي إنما هو في أصله، ولا يلزم منه التساوي من كل وجه، بل تفاوت [درجات] نور لا إله إلا الله في قلوب أهلها لا يحصيها إلا الله تعالى: فمن الناس من نور [لا إله إلا الله] في قلبه كالشمس، ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري، وآخر كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيىء، وآخر كالسراج الضعيف. ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور الإيمان والتوحيد علماً وعملاً، وكلما اشتد نور هذه الكلمة وعظم أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته، بحيث إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف شهوة ولا شبهة ولا ذنباً إلا أحرقه، وهذه حال الصادق في توحيده، فسماء إيمانه قد حرس بالرجوم من كل سارق. ومن عرف هذا عرف معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله، وقوله: لا يدخل النار من قال. لا إله إلا الله، وما جاء من هذا النوع من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس، حتى ظنها بعضهم منسوخة، وظنها بعضهم قبل ورود الأوامر والنواهي، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأول بعضهم الدخول بالخلود، ونحو ذلك. والشارع صلوات الله وسلامه عليه لم يجعل ذلك حاصلاً بمجرد قول اللسان فقط، فإن هذا من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين في الدرك الأسفل من النار، فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب. وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة، وتطيش السجلات، فلا يعذب صاحبها. ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار. وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان، التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية، وحملته وهو في تلك الحال أن جعل ينوء بصدره وهو يعالج سكرات الموت وتأمل ما قام بقلب البغي من الإيمان، حيث نزعت موقها وسقت الكلب من الركية، فغفر لها. وهكذا العقل أيضاً، فإنه يقبل التفاضل، وأهله في أصله سواء، مستوون في أنهم عقلاء غير مجانين، وبعضهم أعقل من بعض. وكذلك الإيجاب والتحريم، فيكون إيجاب دون إيجاب، وتحريم دون تحريم. هذا هو الصحيح، وإن كان بعضهم قد طرد ذلك في العقل والوجوب.
وأما زيادة الإيمان من جهة الإجمال والتفصيل -: فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله، ولا يجب على كل أحد من الإيمان المفصل مما أخبر به الرسول ما يجب على من بلغه خبره، كما في حق النجاشي وأمثاله. وأما الزيادة بالعمل والتصديق، المستلزم لعمل القلب والجوارح -: [ فهو] أكمل من التصديق الذي لا يستلزمه، فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به، فإذا لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس المخبر كالمعاين وموسى عليه السلام لما أخبر أن قومه عبدوا العجل لم يلق الألواح، فلما رآهم قد عبدوه ألقاها، وليس ذلك لشك موسى في خبر الله، لكن المخبر، وإن جزم بصدق المخبر، فقد لا يتصور [المخبر به نفسه، كما يتصوره] إذا عاينه، كما قال إبراهيم الخليل صلوات الله على نبينا محمد وعليه: رب أرني كيف تحيي الموتى قال: أولم تؤمن قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي. وأيضاً: فمن وجب عليه الحج والزكاة مثلاً، يجب عليه [من] الإيمان أن يعلم ما أمر به، ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب على غيره [الإيمان به] إلا مجملاً، وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل. وكذلك الرجل أول ما يسلم، إنما يجب عليه الإقرار المجمل، ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها، فلم يتساو الناس فيما أمروا به من الإيمان. ولا شك أن من قال بقلبه التصديق الجازم، الذي لا يقوى على معارضته شهوة ولا شبهة -: لا تقع معه معصية، ولولا ما حصل له من الشهوة والشبهة أو إحداهما لما عصى، بل يشتغل قلبه ذلك الوقت بما يواقعه من المعصية، فيغيب عنه التصديق والوعيد فيعصي. ولهذا - والله أعلم - قال صلى الله عليه وسلم: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، الحديث. فهو حين يزني يغيب عنه تصديقه بحرمة الزنا، وإن بقي أصل التصديق في قلبه، ثم يعاوده. فإن المتقين كما وصفهم الله بقوله: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون. قال ليث عن مجاهد: هو الرجل يهم بالذنب فيذكر الله فيدعه. والشهوة والغضب مبدأ السيئات، [فإذا أبصر رجع. ثم قال تعالى: وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون، أي: وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي ثم لا يقصرون. قال ابن عباس: لا الإنس تقصر عن السيئات]، ولا الشياطين تمسك عنهم. فإذا لم يبصر بقي قلبه في عمى، والشيطان يمده في غيه، وإن كان التصديق في قلبه لم يكذب، فذلك النور والإبصار، وتلك الخشية والخوف تخرج من قلبه. وهذا كما أن الإنسان يغمض عينه فلا يرى، وإن لم يكن أعمى، فكذلك القلب، بما يغشاه من رين الذنوب، لا يبصر الحق وإن لم يكن أعمى كعمى الكافر. وجاء هذا المعنى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: إذا زنا العبد نزع منه الإيمان، فإذا تاب أعيد إليه.
إذا كان النزاع في هذه المسألة بين أهل السنة نزاعاً لفظياً، فلا محذور فيه، سوى ما يحصل من عدوان إحدى الطائفتين على الأخرى والافتراق بسبب ذلك، وأن يصير ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام المذموم من أهل الإرجاء ونحوهم، وإلى ظهور الفسق والمعاصي، بأن يقول: أنا مؤمن مسلم حقاً كامل الإيمان والإسلام ولي من أولياء الله ! فلا يبالي بما يكون منه من المعاصي. وبهذا المعنى قالت المرجئة: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله ! وهذا باطل قطعاً. فالإمام أبو حنيفة رضي الله عنه نظر إلى حقيقة الإيمان لغة مع أدلة من كلام الشارع. وبقية الأئمة رحمهم الله نظروا إلى حقيقته في عرف الشارع، فإن الشارع ضم إلى التصديق أوصافاً وشرائط، كما في الصلاة والصوم والحج ونحو ذلك.
فمن أدلة الأصحاب لأبي حنيفة رحمه الله: أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق، قال تعالى خبراً عن إخوة يوسف: وما أنت بمؤمن لنا، أي بمصدق لنا، ومنهم من ادعى إجماع أهل اللغة على ذلك. ثم هذا المعنى اللغوي، وهو التصديق بالقلب، هو الواجب على العبد حقاً لله، وهو أن يصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله، فمن صدق الرسول فيما جاء به من عند الله فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى، والإقرار شرط إجراء أحكام الإسلام في الدنيا. هذا على أحد القولين، كما تقدم، ولأنه ضد الكفر، وهو التكذيب والجحود، وهما يكونان بالقلب، فكذا ما يضادهما. وقوله: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، يدل على أن القلب هو موضع الإيمان، لا اللسان، ولأنه لو كان مركباً من قول وعمل، لزال كله بزوال جزئه، ولأن العمل قد عطف على الإيمان، والعطف يقتضي المغايرة، قال تعالى: آمنوا وعملوا الصالحات وغيرها، في مواضع من القرآن.
وقد اعترض على استدلالهم بأن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق - بمنع الترادف بين التصديق والإيمان، وهب أن الأمر يصح في موضع، فلم قلتم إنه يوجب الترادف مطلقاً ؟ وكذلك اعترض على دعوى الترادف بين الإسلام والإيمان. ومما يدل على عدم الترادف: أنه يقال للمخبر إذا صدق: صدقه، ولا يقال، آمنه، ولا آمن به، بل يقال: آمن له، كما قال تعالى: فآمن له لوط. فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف. وقال تعالى: يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين، ففرق بين المعدى بالباء والمعدى باللام، فالأول يقال للمخبر به، والثاني للمخبر. ولا يرد كونه يجوز أن يقال: ما أنت بمصدق لنا، لأن دخول اللام لتقوية العامل، [ كما إذا تقدم المعمول، أو كان العامل ] إسم فاعل، أو مصدراً، على ما عرف في موضعه. فالحاصل أنه لا يقال: قد آمنته، ولا صدقت له، إنما يقال. آمنت له، كما يقال: أقررت له. فكان تفسيره بأقررت - أقرب من تفسيره بصدقت، مع الفرق بينهما، لأن الفرق بينهما ثابت في المعنى، فإن كل مخبر عن مشاهد أو غيب، يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال له: كذبت. فمن قال: السماء فوقنا، قيل له: صدقت. وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغائب، فيقال لمن قال: طلعت الشمس -: صدقناه، ولا يقال: آمنا له، فإن فيه أصل معنى الأمن، و الإئتمان إنما يكون في الخبر عن الغائب، فالأمر الغائب هو الذي يؤتمن عليه المخبر. ولهذا لم يأت في القرآن وغيره لفظ آمن له - إلا في هذا النوع. ولأنه لم يقابل لفظ الإيمان قط بالتكذيب كما يقابل لفظ التصديق، وإنما يقابل بالكفر، والكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق ولكن لا أتبعك، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك -: لكان كفراً أعظم، فعلم أن الايمان ليس التصديق فقط، ولا الكفر التكذيب فقط، بل إذا كان الكفر يكون تكذيباً، ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب. فكذلك الإيمان، يكون تصديقاً وموافقة وانقياداً، ولا يكفي مجرد التصديق، فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان. ولو سلم الترادف، فالتصديق يكون بالأفعال أيضاً. كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: العينان تزنيان، وزناهما النظر، والأذن تزني، وزناها السمع إلى أن قال: والفرج يصدق ذلك ويكذبه. وقال الحسن البصري رحمه الله: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في الصدور وصدقته الأعمال. ولو كان تصديقاً فهو تصديق مخصوص، كما في الصلاة ونحوها كما قد تقدم، وليس هذا نقلاً للفظ ولا تغييراً له، فإن الله لم يأمرنا بإيمان مطلق، بل بإيمان خاص، وصفه وبينه. فالتصديق الذي هو الإيمان، أدنى أحواله أن يكون نوعاً من التصديق العام، فلا يكون مطابقاً له في العموم والخصوص، من غير تغير اللسان ولا قلبه، بل يكون الإيمان في كلام الشارع مؤلفاً من العام والخاص، كالإنسان الموصوف بأنه حيوان ناطق. ولأن التصديق التام القائم بالقلب مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح، فإن هذه من لوازم الإيمان التام، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم. ونقول: إن هذه لوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة، وتخرج عنه أخرى، أو إن اللفظ باق على معناه في اللغة، ولئن الشارع زاد فيه أحكاماً، أو أن يكون الشارع استعمله في معناه المجازي، فهو حقيقة شرعية، مجاز لغوي، أو أن يكون قد نقله الشارع. وهذه الأقوال لمن سلك هذا الطريق.
وقالوا: إن الرسول قد وافقنا على معاني الإيمان، وعلمنا من مراده علما ضرورياً أن من قيل إنه صدق ولم يتكلم بلسانه بالإيمان، مع قدرته على ذلك، ولا صلى، ولا صام، ولا أحب الله ورسوله، ولا خاف الله بل كان مبغضاً للرسول، معادياً له يقاتله -: أن هذا ليس بمؤمن. كما علمنا أنه رتب الفوز والفلاح على التكلم بالشهادتين مع الإخلاص والعمل بمقتضاهما. فقد قال صلى الله عليه وسلم: الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: الحياء شعبة من الإيمان. وقال ايضاً صلى الله عليه وسلم: أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً.
وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: البذاذة من الايمان. فإذا كان الإيمان أصلاً له شعب متعددة، وكل شعبة منها تسمى: إيماناً، فالصلاة من الإيمان، وكذلك الزكاة والصوم والحج، والأعمال الباطنة، كالحياء والتوكل والخشية من اللة والإنابة إليه، حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق، فإنه من شعب الايمان. وهذه الشعب، منها ما يزول الإيمان بزوالها [ إجماعاً ]، كشعبة الشهادتين، ومنها ما لا يزول بزوالها إجماعاً، كترك إماطة الأذى على الطريق، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً، منها ما يقرب من شعبة الشهادة، ومنها ما يقرب من شعبة إماطة الأذى. وكما أن شعب الإيمان إيمان، فكذا شعب الكفر كفر، فالحكم بما أنزل الله - مثلاً من شعب الإيمان، والحكم بغير ما أنزل الله كفر. وقد قال صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. رواه مسلم. وفي لفظ: ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل. وروى الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله -: فقد استكمل الإيمان. ومعناه - والله أعلم - أن الحب والبغض أصل حركة القلب، وبذل المال ومنعه هو كمال ذلك، فإن المال آخر المتعلقات بالنفس، والبدن متوسط بين القلب والمال، فمن كان أول أمره وآخره كله لله، كان الله إلهه في كل شيء، فلم يكن فيه شيء من الشرك، وهو إرادة غير الله وقصده ورجاؤه، فيكون مستكملاً الإيمان. إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على قوة الإيمان وضعفه بحسب العمل.
وسيأتي في كلام الشيخ رحمه الله في شأن الصحابة رضي الله عنهم: وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان. فسمى حب الصحابة إيماناً، وبغضهم كفراً.
وما أعجب ما أجاب به أبو المعين النسفي وغيره، عن استدلالتهم بحديث شعب الإيمان المذكور، وهو: أن الراوي قال: بضع وستون أو بضع وسبعون، فقد شهد الراوي بفعله نفسه حيث شك فقال: بضع وستون أو بضع وسبعون، ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم الشك في ذلك ! وأن هذا الحديث مخالف للكتاب.
فطعن فيه بغفلة الراوي ومخالفته الكتاب. فانظر إلى هذا الطعن ما أعجبه ! فإن تردد الراوي بين الستين والسبعين لا يلزم منه عدم ضبطه، مع أن البخاري رحمه الله إنما رواه: بضع وستون من غير شك. وأما الطعن بمخالفة الكتاب، فأين في الكتاب ما يدل على خلافه ؟! وإنما فيه ما يدل على وفاقه، وإنما هذا الطعن من ثمرة شؤم التقليد والتعصب.
وقالوا أيضاً: وهنا أصل آخر، وهو: أن القول قسمان: قول القلب وهو الإعتقاد، وقون اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب، وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح. فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لم ينفع بقية الأخر، فإن تصديق القلب شرط في اعتبارها وكونها نافعة، وإذا بقي تصديق القلب وزال الباقي فهذا موضع المعركة ! !
ولا شك أنه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب، إذا لو أطاع القلب وانقاد، لأطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعة القلب وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة. قال صلى الله عليه وسلم: إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب. فمن صلح قلبه صلح جسده قطعاً، بخلاف العكس. وأما كونه يلزم من زوال جزئه زوال كله، فإن أريد أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت، فمسلم، ولكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء، فيزول عنه الكمال فقط.

تابع قوله: ( والإيمان: هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان. وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق. والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى ).

والأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب والسنة والآثار السلفية كثيرة جداً: منها: قوله تعالى: وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً. ويزيد الله الذين اهتدوا هدى. ويزداد الذين آمنوا إيماناً. هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم. الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل. وكيف يقال في هذه الآية والتي قبلها إن الزياده باعتبار زيادة المؤمن به ؟ فهل في قول الناس: قد جمعوا لكم فاخشوهم زيادة مشروع ؟ وهل في إنزال السكينة على قلوب المؤمنين زيادة مشروع ؟ وإنما أنزل الله السكينة في قلوب المؤمنين مرجعهم الحديبية ليزدادوا طمأنينة ويقيناً، ويؤيد ذلك قوله تعالى: هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان. وقال تعالى: وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون. وأما ما رواه الفقيه أبو الليث السمرقندي رحمه الله، في تفسيره عند هذه الآية، فقال: حدثنا محمد بن الفضل و أبو القاسم الساباذي، قالا: حدثنا فارس بن مردويه، قال: حدثنا محمد بن الفضل العابد، قال: حدثنا يحيي بن عيسى، قال: حدثنا أبو مطيع، عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم، عن أبي هريرة، قال: جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، الإيمان يزيد وينقص ؟ فقال: لا الإيمان مكمل في القلب، زيادته كفر، ونقصانه شرك. فقد سئل شيخنا عماد الدين ابن كثير رحمه الله عن هذا الحديث ؟ فأجاب: بأن الإسناد من أبي ليث إلى أبي مطيع مجهولون لا يعرفون في شيء من كتب التواريخ المشهورة. وأما أبو مطيع، فهو: الحكم بن عبدالله بن مسلمة البلخي، ضعفه أحمد بن حنبل، و يحيى بن معين، و عمرو بن علي الفلاس، و البخاري، و أبو داود، و النسائي، و أبو حاتم الرازي، و أبو حاتم محمد بن حبان البستي، و العقيلي، و ابن عدي، و الدار قطني، وغيرهم. وأما أبو المهزم، الراوي عن أبي هريرة، وقد تصحف على الكتاب، واسمه: يزيد بن سفيان، فقد ضعفه أيضاً، غير واحد، وتركه شعبة بن الحجاج، وقال النسائي: متروك، وقد اتهمه شعبة بالوضع، حيث قال: لو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حديثاً !
وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم النساء بنقصان العقل والدين. وقال صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين. والمراد نفي الكمال، ونظائره كثيرة، وحديث شعب الإيمان، وحديث الشفاعة، وأنه يخرج من النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فكيف يقال بعد هذا: إن إيمان أهل السماوات والأرض سواء؟ ! وإنما التفاضل بينهم بمعان أخر غير الإيمان ؟ ! وكلام الصحابة رضي الله عنهم في هذا المعنى كثير أيضاً. منه: قول أبي الدرداء رضي الله عنه: من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم ينتقص، وكان عمر رضي الله عنه يقول لأصحابه: هلموا نزدد إيماناً، فيذكرون الله تعالى عز وجل. وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً. وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول لرجل: اجلس بنا نؤمن ساعة. ومثله عن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه. وصح عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال: ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان: إنصاف من نفسه، والإنفاق من إقتار، وبذل السلام للعالم ذكره البخاري رحمه الله في صحيحه. وفي هذا المقدار كفاية وبالله التوفيق.
وأما كون عطف العمل على الإيمان يقتضي المغايرة، فلا يكون العمل داخلاً في مسمى الإيمان -: فلا شك أن الإيمان تارة يذكر مطلقاً عن العمل عن الإسلام، وتارة يقرن بالعمل الصالح، وتارة يقرن بالإسلام. فالمطلق مستلزم للأعمال، قال تعالى: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم الآية. إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا الآية. ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء. وقال صلى الله عليه وسلم: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، الحديث. لا تؤمنوا حتى تحابوا. من غشنا فليس منا. من حمل علينا السلاح فليس منا. وما أبعد قول من قال: إن معنى قوله: فليس منا - أي فليس مثلنا ! فليت شعري فمن لم يغش يكون مثل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
أما إذا عطف عليه العمل الصالح، فاعلم أن عطف الشيء على الشيء يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه مع الاشتراك في الحكم الذي ذكر لهما، والمغايرة على مراتب: أعلاها: أن يكونا متباينين، ليس أحدهما هو الآخر، ولا جزءاً منه، ولا بينهما تلازم، كقوله تعالى: خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور. وأنزل التوراة والإنجيل. وهذا هو الغالب، ويليه: أن يكون بينهما تلازم، كقوله تعالى: ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون. وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول. الثالث: عطف بعض الشيء عليه، كقوله تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى. من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال، وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك. وفي مثل هذا وجهان: أحدهما: أن يكون داخلاً في الأول، فيكون مذكوراً مرتين. والثاني: أن عطفه عليه يقتضي أنه ليس داخلاً فيه هنا، وإن كان داخلاً فيه منفرداً، كما قيل مثل ذلك في لفظ الفقراء والمساكين ونحوهما، تتنوع دلالته بالإفراد والإقتران. الرابع: عطف الشيء على الشيء لاختلاف الصفتين، كقوله تعالى: غافر الذنب وقابل التوب. وقد جاء في الشعر العطف لاختلاف اللفظ فقط، كقوله:
فألفى قولها كذباً وميناً
ومن الناس من زعم أن في القرآن من ذلك قوله تعالى: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً. والكلام على ذلك معروف في موضعه.
فإذا كان العطف في الكلام يكون على هذه الوجوه، نظرنا في كلام الشارع: كيف ورد فيه الإيمان فوجدناه إذا أطلق يراد به ما يراد بلفظ البر، والتقوى، والدين، ودين الإسلام. ذكر في أسباب النزول أنهم سألوا عن الإيمان ؟ فأنزل الله هذه الآية: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب الآيات. قال محمد بن نصر: حدثنا إسحق بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن يزيد المقرىء، و الملائي، قالا: حدثنا المسعودي، عن القاسم، قال: جاء رجل إلى أبي ذر رضي الله عنه، فسأله عن الإيمان ؟ فقرأ: ليس البر أن تولوا وجوهكم إلى آخر الآية، فقال الرجل: ليس عن هذا سألتك، فقال: جاء رجل الى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه، فقرأ [عليه] الذي قرأت عليك، فقال له الذي قلت لي، فلما أبى أن يرضى، قال: إن المؤمن الذي إذا عمل الحسنه سرته ورجا ثوابها، وإذا عمل السيئة ساءته وخاف عقابها. وكذلك أجاب جماعة من السلف بهذا الجواب. وفي الصحيح قوله لوفد عبد القيس: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ماالإيمان بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخمس من المغنم. ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيماناً بالله بدون إيمان القلب، لما قد أخبر في مواضع أنه لا بد من إيمان القلب، فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان. وأي دليل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان فوق هذا الدليل ؟ فإنه فسر الإيمان بالأعمال ولم يذكر التصديق، للعلم بأن هذه الأعمال لا تفيد [مع] الجحود. وفي المسند عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: الإسلام علانية، والإيمان في القلب. وفي هذا الحديث دليل على المغايرة بين الإسلام والإيمان. ويؤيده قوله [في حديث سؤالات جبريل، في معنى الإسلام والإيمان.،] وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: هذا جبرائيل أتاكم يعلمكم دينكم. فجعل الدين هو الإسلام والإيمان والإحسان، فتبين أن ديننا يجمع الثلاثة. لكن هو درجات ثلاثة: فمسلم، ثم مؤمن، ثم محسن. والمراد بالإيمان ما ذكر مع الإسلام قطعاً، كما أنه أريد بالإحسان ما ذكر مع الإيمان والإسلام، لا أن الإحسان يكون مجرداً عن الإيمان. هذا محال. وهذا كما قال تعالى: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله. والمقتصد والسابق كلاهما يدخل الجنة بلا عقوبة، بخلاف الظالم لنفسه، فإنه معرض للوعيد. وهكذا من أتى بالإسلام الظاهر مع التصديق بالقلب، لكن لم يقم بما يجب عليه من الإيمان الباطن فإنه معرض للوعيد. فأما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أهله، والإيمان أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أهله من الإسلام. فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أخص من المسلمين. وهذا كالرسالة والنبوة، فالنبوة داخلة في الرسالة، والرسالة أعم من جهة نفسها وأخص من جهة أهلها، فكل رسول نبي، ولا ينعكس.
وقد صار الناس في مسمى الإسلام على ثلاثة أقوال: فطائفة جعلت الإسلام هو الكلمة، وطائفة أجابوا بما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الإسلام والإيمان، حيث فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان [بالإيمان] بالأصول الخمسة. وطائفة جعلوا الإسلام مرادفاً للإيمان، وجعلوا معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة، الحديث -: شعائر الإسلام. والأصل عدم التقدير، مع أنهم قالوا: إن الإيمان هو التصديق بالقلب، ثم قالوا الإسلام والإيمان لشيء واحد، فيكون الإسلام هو التصديق ! وهذا لم يقله أحد من أهل اللغة، وإنما هو الانقياد والطاعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم لك أسلمت وبك آمنت. وفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة. فليس لنا إذا جمعنا بينهم أن نجيب بغير ما أجاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأما إذا أفرد اسم الإيمان فانه يتضمن الإسلام، وإذا أفرد الإسلام فقد يكون مع الإسلام مؤمناً بلا نزاع، وهذا هو الواجب، وهل يكون مسلماً ولا يقال له مؤمن ؟ وقد تقدم الكلام فيه.
وكذلك هل يستلزم الإسلام الإيمان ؟ فيه النزاع المذكور. وإنما وعد الله بالجنة في القرآن وبالنجاة من النار باسم الإيمان، كما قال تعالى: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون. وقال تعالى: سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله وأما اسم الإسلام مجرداً فما علق به في القرآن دخول الجنة، لكنه فرضه وأخبر أنه دينه الذي لا يقبل من أحد سواه، وبه بعث النبيين، ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه.
فالحاصل أن حالة اقتران الإسلام بالإيمان غير حاله إفراد أحدهما عن الآخر، فمثل الإسلام من الإيمان، كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى، فشهادة الرسالة غير شهاده الوحدانية، فهما شيئان في الأعيان وإحداهما مرتبطه بالأخرى في المعنى والحكم، كشيء واحد. كذلك الإسلام والإيمان، لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان [له]، إذ لا يخل المؤمن من إسلام به يتحقق إيمانه، ولا يخلو المسلم من إيمان به صح إسلامه. ونظائر ذلك في كلام الله ورسوله وفي كلام الناس كثيرة، أعني في الإفراد والإقتران، منها: لفظ الكفر والنفاق، فالكفر إذا ذكر مفرداً في وعيد الآخرة دخل فيه المنافقون، كقوله تعالى: ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين. ونظائره كثيرة. وإذا قرن بينهما كان الكافر من أظهر كفره، والمنافق من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه. وكذلك لفظ البر والتقوى، ولفظ الإثم والعدوان، ولفظ التوبة والإستغفار، ولفظ الفقير والمسكين، وأمثال ذلك.
ويشهد للفرق بين الإسلام والإيمان، قوله تعالى: قالت الأعراب آمنا. قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا إلى آخر السورة. وقد اعترض على هذا بأن معنى الآية: قولوا أسلمنا: انقدنا بظواهرنا، فهم منافقون في الحقيقة، وهذا أحد قولي المفسرين في هذه الآية الكريمة. وأجيب بالقول الآخر، ورجح، وهو أنهم ليسوا بمؤمنين كاملي الإيمان، لا أنهم منافقون، كما نفى الإيمان عن القاتل، والزاني، والسارق، ومن لا أمانة له. ويؤيد هذا سياق الآية، فإن السورة من أولها إلى هنا في النهي عن المعاصي، وأحكام بعض العصاة، ونحو ذلك، وليس فيها ذكر المنافقين. ثم قال بعد ذلك: وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً، ولو كانوا منافقين ما نفعتهم الطاعة، ثم قال: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا الآية، يعني - والله أعلم - أن المؤمنين الكاملي الإيمان، هم هؤلاء، لا أنتم، بل أنتم منتف عنكم الإيمان الكامل. يؤيد هذا: أنه أمرهم، أو أذن لهم، أن يقولوا: أسلمنا، والمنافق لا يقال له ذلك، ولو كانوا منافقين لنفى عنهم الإسلام، كما نفى عنهم الإيمان، ونهاهم أن يمنوا بإسلامهم، فأثبت لهم إسلاماً، ونهاهم أن يمنوا به على رسوله، ولو لم يكن إسلاماً صحيحاً لقال: لم تسلموا، بل أنتم كاذبون، كما كذبهم في قولهم: نشهد إنك لرسول الله. والله أعلم بالصواب.
وينتفي بعد هذا التقدير والتفصيل دعوى الترادف، وتشنيع من ألزم بأن الإسلام لو كان [هو] الأمور الظاهرة لكان ينبغي أن لا يقابل بذلك، ولا يقبل إيمان المخلص ! وهذا ظاهر الفساد، فإنه قد تقدم تنظير الإيمان والإسلام بالشهادتين وغيرهما، وأن حالة الاقتران غير حالة الانفراد. فانظر إلى كلمة الشهادة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، الحديث، فلو قالوا: لا إله إلا الله، وأنكروا الرسالة -: [ما] كانوا يستحقون العصمة، بل لا بد أن يقولوا: لا إله إلا الله قائمين بحقها، ولا يكون قائما بـ لا إله إلا الله حق القيام، إلا من صدق بالرسالة، وكذا من شهد أن محمداً رسول الله، [لا يكون قائما بهذه الشهادة حق القيام، إلا من صدق هذا الرسول في كل ما جاء به. فتضمنت التوحيد وإذا ضممت شهادة أن لا إله إلا الله إلى شهادة أن محمداً رسول الله] - كان المراد من شهادة أن لا إله إلا الله ثبات التوحيد، ومن شهادة أن محمداً رسول الله إثبات الرسالة. كذلك الإسلام والإيمان: إذا قرن أحدهما بالآخر، كما في قوله تعالى: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات. وقوله صلى الله عليه وسلم: اللهم لك أسلمت وبك آمنت -: كان المراد من أحدهما غير المراد من الآخر. وكما قال صلى الله عليه وسلم: الإسلام علانية، والإيمان في القلب. وإذا انفرد أحدهما شمل معنى الآخر وحكمه، وكما في الفقير والمسكين ونظائره، فإن لفظي الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، فهل يقال في قوله تعالى: إطعام عشرة مساكين - أنه يعطى المقل دون المعدم، أو بالعكس ؟ وكذا في قوله تعالى: وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم.
ويندفع أيضاً تشنيع من قال: ما حكم من آمن ولم يسلم ؟ أو أسلم ولم يؤمن ؟ في الدنيا والآخرة ؟ فمن يثبت لأحدهما حكماً ليس بثابت للآخر ظهر بطلان قوله ! ويقال له في مقابلة تشنيعه: أنت تقول: المسلم هو المؤمن، والله تعالى يقول: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات فجعلهما غيرين، وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك عن فلان والله إني لأراه مؤمناً ؟ قال: أو مسلما، قالها ثلاثاً، فأثبت له الإسلام وتوقف في اسم الإيمان، فمن قال: هما - كان مخالفاً، والواجب رد موارد النزاع إلى الله ورسوله. وقد يتراءى في بعض النصوص معارضة، ولا معارضة بحمد الله تعالى، ولكن الشأن في التوفيق، وبالله التوفيق.

تابع قوله: ( والإيمان: هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان. وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق. والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى ).

وأما الاحتجاج بقوله تعالى: فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين - على ترادف الإسلام والإيمان، فلا حجة فيه، لأن البيت المخرج كانوا متصفين بالإسلام والإيمان، ولا يلزم من الاتصاف بهما ترادفهما.
والظاهر أن هذه المعارضات لم تثبت عن أبي حنيفة رضي الله عنه، وإنما هي من الأصحاب، فإن غالبها ساقط لا يرتضيه أبو حنيفة ! وقد حكى الطحاوي حكاية أبي حنيفة مع حماد بن زيد، [ وأن حماد بن زيد ] لما روي له حديث: أي الإسلام أفضل الى آخره، قال له: ألا تراه يقول: أي الإسلام أفضل، قال: الإيمان، ثم جعل الهجرة والجهاد من الإيمان ؟ فسكت أبو حنيفة، فقال بعض أصحابه: ألا تجيبه يا أبا حنيفة ؟ قال: بما أجيبه ؟ وهو يحدثني بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن ثمرات هذا الاختلاف: مسألة الاستثناء في الإيمان، وهو أن يقول [ أي ] الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله. والناس فيه على ثلاثة أقوال: طرفان ووسط، منهم من يوجبه، ومنهم من يحرمه، ومنهم من يجيزه باعتبار ويمنعه باعتبار، وهذا أصح الأقوال.
أما من يوجبه فلهم مأخذان: أحدهما: أن الإيمان هو ما مات الإنسان عليه، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمناً أو كافراً باعتبار الموافاة وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به، قالوا: والإيمان الذي يعقبه الكفر فيموت صاحبه كافراً -: ليس بإيمان، كالصلاة التي أفسدها صاحبها قبل الكمال، والصيام الذي في صاحبه قبل الغروب، وهذا مأخذ كثير من الكلابية وغيرهم، وعند هؤلاء أن الله يحب في الأزل من كان كافراً إذا علم منه أنه يموت مؤمناً، فالصحابة ما زالوا مجوبين قبل إسلامهم، وإبليس ومن ارتد عن دينه ما زال الله يبغضه وإن كان لم يكفر بعد ! وليس هذا قول السلف، ولا كان يقول بهذا من يستثنى من السلف في إيمانه، وهو فاسد، فإن الله تعالى قال: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله، فأخبر أنهم يحبهم إن اتبعوا الرسول، فاتباع الرسول شرط المحبة، والمشروط يتأخر عن الشرط، وغير ذلك من الأدلة. ثم صار إلى هذا القول طائفة غلوا فيه، حتى صار الرجل منهم يستثني في الأعمال الصالحة، يقول: صليت إن شاء الله ! ونحو ذلك، يعني القبول. ثم صار كثير منهم يستثنون في كل شيء، فيقول أحدهم: هذا ثوب إن شاء الله ! هذا حبل إن شاء الله ! فإذا قيل لهم: هذا لا شك فيه ؟ يقولون: نعم، لكن إذا شاء الله أن يغيره غيره ! ! المأخذ الثاني: أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك ما نهاه عنه كله، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن، بهذا الاعتبار-: فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين، القائمين بجميع ما أمروا به، وترك كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله المقربين ! وهذا مع تزكية الإنسان لنفسه، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة، لكان ينبغي أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال. وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون، وإن جوزوا ترك الاستثناء، بمعنى آخر، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. ويحتجون أيضاً بجواز الاستثناء فيما لا شك فيه، كما قال تعالى: لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين. وقال صلى الله عليه وسلم حين وقف على المقابر: وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. وقال أيضاً: إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله. ونظائر هذا.
وأما من يحرمه، فكل من جعل الإيمان شيئاً واحداً، فيقول: أنا أعلم أني مؤمن، كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين، فقولي: أنا مؤمن، كقولي: أنا مسلم، فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه، وسموا الذين يستثنون في إيمانهم الشكاكة. وأجابوا عن الاستثناء الذي في قوله تعالى: لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين - بأنه يعود إلى الأمن والخوف، فأما الدخول فلا شك فيه ! وقيل: لتدخلن جميعكم أو بعضكم، لأنه علم أن بعضهم يموت ! وفي كلا الجوابين نظر: فإنهم وقعوا فيما فروا منه، فأما الأمن والخوف فقد أخبر أنهم يدخلون آمنين، مع علمه بذلك، فلا شك في الدخول، ولا في الأمن، ولا في دخول الجميع أو البعض، فإن الله قد علم من يدخل فلا شك فيه أيضاً، فكان قول: إن شاء الله هنا تحقيقاً للدخول، كما يقول الرجل فيما عزم على شيء أن يفعله لا محالة: والله لأفعلن كذا إن شاء الله، لا يقولها لشك في إرادته وعزمه، ولكن إنما لا يحنث الحالف في مثل هذه اليمين لأنه لا يجزم بحصول مراده. وأجيب بجواب آخر لا بأس به، وهو: أنه قال [ذلك] تعليماً لنا كيف نستثني إذا أخبرنا عن مستقبل. وفي كون هذا المعنى مراداً من النص - نظر فإنه ما سيق الكلام إلا أن يكون مراداً من إشارة النص. وأجاب الزمخشري بجوابين آخرين باطلين، وهما: أن يكون الملك قد قاله، فأثبت قرآناً ! أو أن الرسول قاله ! ! فعند هذا المسكين يكون من القرآن ما هو غير كلام الله ! فيدخل في وعيد من قال: إن هذا إلا قول البشر. نسأل الله العافية.
وأما من يجوز الاستثناء وتركه، فهم أسعد بالدليل من الفريقين، وخير الأمور أوسطها: فإن أراد المستثني الشك في أصل إيمانه منه من الاستثناء، وهذا مما لا خلاف فيه. وإن أراد أنه مؤمن من المؤمنين الذين وصفهم الله في قوله: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم، وفي قوله تعالى: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون. فالاستثناء حينئذ جائز. وكذلك من استثنى وأراد عدم علمه بالعاقبة، وكذلك من استثنى تعليقاً للأمر بمشيئة الله، لا شكاً في إيمانه. وهذا القول في القوة كما ترى.

  #5  
قديم 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م, 01:27 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح العقيدة الطحاوية لمعالي الشيخ: صالح بن عبد العزيز آل الشيخ (مفرغ)


القارئ: والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان , وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق.

الشيخ: قال الطحاوي في هذا الموضوع "والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان" يريد بالإيمان، الإيمان الذي أمر الله جل وعلا به الناس , والذي يصير به المرء معصوم الدم والمال , فعرف الإيمان بأنه الإقرار باللسان والتصديق بالجنان , وهذا التعريف من جهة مورد الإيمان وهو اللسان والجنان , ويتعلق باللسان عبادة الإقرار في الإيمان , ويتعلق بالجنان عبادة التصديق في الإيمان , وهذا التعريف من جهة المورد هو المشهور عن الطائفة التي يسميها العلماء: مرجئة الفقهاء , وهم الإمام أبو حنيفة ومن تبعه من أصحابه , ومنهم أبو جعفر الطحاوي صاحب هذه العقيدة وهذه الجملة مما وافق فيه المؤلف الطحاوي ما وافق فيه المرجئة , وقرر فيها عقيدتهم وطريقة أهل السنة , ومذهب أهل الحق خلاف هذا لأدلة كثيرة في هذا الموطن.
إذا تبين ذلك من جهة أن الطحاوي في هذا الموطن لم يقرر عقيدة أهل السنة والجماعة , وإنما ذكر معتقد طائفته وهم الحنفية في هذه المسألة , وقول المرجئة مرجئة الفقهاء , فإنا نقول: لا بد من بيان لهذا الأصل العظيم , وذلك يرتب على مطالب ثلاثة: الأول من المطالب أو المسائل: أن الإيمان لفظ مستعملٌ في اللغة قبل ورود الشرع والألفاظ لها في استعمالها قبل ورود الشرع لها حالان:
الأول: الحال العرفي.
والثاني: الحال الأصلي.
والحال العرفي جعلناه الأول لقربه، والحال الثاني الأصلي جعلناه الثاني؛ لأنه تعريف من جهة العموم , وهذا هو الذي يسميه طائفة من العلماء يسمونها الحقيقة اللغوية والحقيقة العرفية؛ فإن الألفاظ المستعملة لها حقائق لغوية حقيقة ليست مجازا , ولها حقائق عرفية يعني في استعمال أهل العرف لها , مثال ذلك: لفظ الدابة؛ فإنه في اللغة الأصلية مثل لغة العرب في الاستعمال العام دابة كل ما يدب على الأرض , سواءٌ أكان يدب على بطنه أم يدب على رجلين , أم يدب على أربع , ودل على هذا قول الله جل وعلا: ] وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُمْ [ يعني من الدواب ] مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [ ثم خصت في الاستعمال العرفي بأن الدابة هي ذات الأربع التي تركب في الاستعمال , يعني يركبها الناس أو يحرثون عليها أو … إلخ، فهذه تسمى حقيقة عرفية والمعنى الأول يُسمى حقيقة لغوية.

فإذن صارت الحقيقة العرفية أخص من الحقيقة اللغوية، اللغة دائماً تكون عامة , ثم الناس يقيدون المعنى اللغوي ببعض ما يحتاجون إليه في الاستعمال , فتكون الحقيقة العرفية دائماً أضيق من الحقيقة اللغوية، ثم لما أتى الشرع ظهرت ما سماه العلماء الحقائق الشرعية , الحقيقة الشرعية، أو ما سماه طائفة ممن ألف في فقه اللغة بالأسباب الإسلامية، الأسباب الإسلامية يعني ألفاظ جعل لها معان لأجل سبب مجيء الإسلام من الأمثلة على ذلك لفظ السجود , لفظ السجود في اللغة للخضوع والذل بحركة البدن , ثم في العرف أن السجود يكون بالانحناء , إما بركوع أو بما نسميه السجود , يعني وضع الجبهة على الأرض، ثم في الشرع السجود هو من وضع جبهته وأنفه على الأرض , قال جل وعلا لبني إسرائيل: ] ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً [ يعني راكعين؛ لأن السجود العرفي يدخل فيه الركوع , أما في شريعة الإسلام صارت الحقيقة الشرعية للسجود هي وضع الجبهة على الأرض.
هذه المقدمة مهمة في تأصيل هذه الحقائق الثلاث على مسألة الإيمان، الإيمان في أصل اللغة، اللغة مرتبطة بالاشتقاق، اللغة لها اشتقاق يجمع الكلام الذي حروفه واحدة، فالإيمان والأمن والأمان هذه كلماتها واحدة أمنٌ وأمانٌ وإيمان, فاشتقاقها من حيث الأصل واحد , ولهذا الإيمان يرجع إلى الأمن في اللغة , والأمان يرجع إلى الأمن وإلى الإيمان , فهذه الألفاظ في أصل اللغة اشتقاقها واحد , وذلك من الأمن الذي هو المصدر. ما علاقة الإيمان في اللغة بالأمن؟ يعني في دلالة اللغة؛ لأنه من آمن فقد أمن , آمن بالشيء أمن على نفسه , آمن يعني صدق , استسلم , أطاع… إلخ. فإنه يعتبر مستسلماً يعني يعتبر أمن عدوه، لو آمن بما قال عدوه صدقه فإنه يكون أمن غائلته.
إذا تبين هذا فهذه هذا الأصل اللغوي الذي هو مجيء الاشتقاق من كلمة واحدة يدلك على أن أصل كلمة الإيمان في اللغة من حيث الاشتقاق
[من الأمن، ثم في الاستعمال العرفي عرف العرب]*


الـوجـه الـثـانـي

خصت ذلك المعنى إلى أن الإيمان هو التصديق , التصديق الجازم الذي يكون معه عملٌ يأمن معه تصديق جازم يكون معه عمل يأمن معه , وهذا جاء في القرآن يعني في استعمال المعنى اللغوي للإيمان في مواضع كقوله جل وعلا في قصة يوسف مخبراً عن قول إخوة يوسف لأبيهم: ] وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [ لاحظ الأمن يعني بمصدقٍ لنا التصديق الجازم الذي يتبعه عمل أنك لا تؤاخذنا بما فعلنا ] قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً [ فما أعطاهم الأمن , كذلك قال جل وعلا في قصة إبراهيم -u-: ] فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [ آمن له لوط يعني صدقه تصديقاً جازماً تبعه عملٌ له , بحيث يأمن من العذاب الذي توعد به إبراهيم قومه , كذلك في وصف النبي r في سورة براءة قال: ] وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [ يؤمن أي: يصدقهم فيما يقولون , فيأمنون معه عقوبة النبي عليه الصلاة والسلام.

إذًا فالإيمان في اللغة استعمل ويراد به التصديق الجازم الذي يكون معه عمل يأمن معه؛ لأنه فيه صلة دائما ما بين المعنى العرفي , الحقيقة العرفية والحقيقة اللغوية، جاء الشرع فأمر الناس بالإيمان , أمر الله جل وعلا الناس بالإيمان , فهذا الإيمان فيه كما ذكرنا لك أن الحقيقة العرفية تخصيص للحقيقة اللغوية , والحقيقة الشرعية أسباب زائدة فيها زيادة على الحقيقة العرفية، قد تكون تخصيصاً لها، وقد تكون رجوعا إلى أصل المعنى اللغوي , وتكون أوسع منها، فالإيمان في الشرع جاء بأنه متجه إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله.. إلخ , أركان الإيمان الستة وهذا الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر عرفنا منه أنه لا يكون إلا بعمل , ولا يكون إلا بإقرار , ولا يكون إلا بتصديق , قال جل وعلا: ] آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنَزلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً [] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ [ بل: ] لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى…[ الآية ] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [.

فإذًا وصف الله جل وعلا المطلوب من المؤمن بأن المؤمن مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله , وأيضاً أنه يعمل، وأيضاً أنه يقوله بلسانه، ولهذا جعل الله جل وعلا الصلاة للدلالة على هذا الأصل جعل الصلاة هي الإيمان فقال سبحانه: ] وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [، نحن الآن نبحث من جهة (إيش؟) لغوية من جهة تأصيلية للكلمة , لا من جهة التعريف ] وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [ هذا استعمال , استعمال كلمة الإيمان ويراد بها الصلاة , فهذا.. الصلاة هي الإيمان معنى هذا: هذا تخصيص؛ لأنه تصديق فهو ليس تصديقاً فقط , بل الإيمان صار صلاةً.
إذاً هذا من جهة الاستعمال اللغوي زاد على العرف , ورجع إلى سعة اللغة , وهو تخصيص في الواقع للتصديق ببعض ما يشمله التصديق الذي يتبعه عمل , إذا تبين هذا فيظهر لك أن الإيمان في الشرع نُقل عن الإيمان في العرف , كما أن الإيمان في العرف نقل عن الإيمان في اللغة , فتأصيل الإيمان على أنه في اللغة هو إقرارٌ وتصديق ليس صحيحاً؛ لأن الإيمان في اللغة أعم من ذلك مثل ما ذكرنا لك , الإيمان ما يجلب الأمن من عمل , من إقرار، من تصديق، من تصرف، من موالاة , كل ما يجلب الأمن فهو إيمان في اللغة , قيد ذلك على نحو ما ذكرت لك من الآيات , في الشرع جاء تسمية الإقرار إيماناً , وجاء تسمية الاعتقاد إيماناً، وجاء تسمية العمل إيمانًا.

فإذًا من حيث الدلالة اللغوية والدلالة العرفية والدلالة الشرعية تبين لك أن هناك اختلاف في معنى الإيمان. المرجئة مع أهل السنة في هذه المسألة اختلفوا , وهذا الاختلاف طويل الذيول كما هو معلوم، لكنهم اتفقوا من حيث الأصول , أصول الفقه , على أن الكلمة إذا اعتراها هذه الأمور الثلاثة الحقيقة اللغوية والشرعية والعرفية , اتفق الجميع الحنفية مع الشافعية والمالكية والحنابلة وغيرهم , اتفقوا على أن تقدم الشرعية , لماذا؟ لأن الألفاظ الشرعية تخصيص , فلا يقول الحنفية: إن الذين قالوا في الإيمان بهذا التعريف , لا يقولون: إن السجود إذا أمر به فإنه يصلح بالركوع يعني مثلاً: لو كان قرأ القارئ وهو القرآن.. وهو يمشي , ثم مرت آية سجدة فهل يركع ويكتفى بها , أم أنه يصير إلى السجود؟ قالوا: هنا في السنة السجود السجود الشرعي لماذا؟؛ لأن السجود جاء بهذا اللفظ الشرعي وبينته السنة , فإذًا يكون هو المراد , لا السجود العرفي , المسألة لها نظائر في الفقه وفي العقيدة وفي اللغة بعامة.
فإذًا نقول: اجتمعوا على أن الحقيقة الشرعية مقدمة , وثم هل تقدم اللغوية أو العرفية؟ خلافٌ بينهم , ولهذا نقول: ما دام أن الجميع اتفقوا على تقديم الحقيقة الشرعية , فما هي أدلة الحقيقة الشرعية في الإيمان؟ الأدلة على ذلك يطول الكلام عليها , ومرجعها مع تفصيلات الكلام والمذاهب في الدرس القادم , لكن نكمل المقدمة. أنا أريدك تفهم مسألة الإيمان؛ لأنها مسألة مشكلة , وكثير ممن خاض فيها في هذا العصر ما أدرك حقيقة الفرق ما بين قول أهل السنة، وقول المرجئة في هذا الباب.
المسألة الثانية.. انتهينا من الأولى.
المسألة الثانية: الإيمان في اللغة هو التصديق الجازم كما ذكرنا لك الذي يتبعه عمل يأمن معه المؤمن الغائلة أو العقوبة إلخ , وقولنا: التصديق الذي معه عمل هذا تحصيل حاصل؛ لأنه إذا كان الشيء يلزم منه العمل فإنه لا يطلق في اللغة على من صدق به مصدقاً حتى يعمل , فمن قال: أنا مصدق بهذا الشيء , واحد جاء وقال: سيارتك الآن تُسرق , قال: جزاك الله خيراً عم فيها لك فيها فلوس , ولك فيها أشياء ترى الآن تُسرق. قال: جزاك الله خيراً. وجلس ما تحرك , فهل يعتبر في اللغة مصدقاً؟ إذا كان قد صدق الخبر فإنه لا بد أن يتبعه بعمل يدل على صدقه؛ لأن الناس ما يفرطون بأموالهم ولا يفرطون بما فيه قوام حياتهم , فإذا مكث وقال: أنا مصدق وهو ما ذهب ما اتبعه عمل , فلا يسمى مصدقاً في اللغة , ليس في الشرع , لا يسمى مصدقاً في اللغة.
ودل على هذا الأصل قول الله جل وعلا في قصة إبراهيم الخليل مع ابنه إسماعيل في سورة الصافات قال: ] يا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [ لاحظ العمل , فلما.. ولما تنتبه لكلمة لما: ] فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ* وَنَادَيْنَاهُ أَن يإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [ الرؤيا , رؤيا الأنبياء حق , فإذا رآها النبي صدق بها أنها وحي من الله جل وعلا , لكن متى صار مصدقاً للرؤيا؟ لما امتثل دلالتها ] فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ* وَنَادَيْنَاهُ أَن يإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [ وهذا تصديق لغوي , وهو أيضاً تصديق شرعي.
إذاً فالإيمان في اللغة.. في العرف , في الحقيقة العرفية , ولو أرجعناه إلى التصديق فإن حقيقة التصديق أن يكون معه عمل , فلا يسمى مصدقاً , من ليس يعمل أصلاً فيما صدق به.
المسألة الثالثة:
يمكن أن يضبط ما جاء في القرآن من استعمال الإيمان في الحقيقة اللغوية والعرفية والشرعية , يمكن أن يضبط بضابط وهو أنه إذا اقتُرن بالإيمان الأمن أو كانت الدلالة عليه، فإن المراد به سعة المعنى اللغوي , وإذا عُدّي الإيمان باللام في القرآن أو في السنة فإن المراد به الإيمان العرفي –يعني اللغوي العرفي- وإذا عُدي الإيمان بالباء فإنه يراد به الإيمان الشرعي , وهذه كل واحد لها طائفة من الأدلة تدل عليها ] الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [] آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ [ , هذا دلالة على عموم المعنى اللغوي , المعنى العرفي ] وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا [ لاحظ التعدية باللام ] بِمُؤْمِنٍ لَّنَا [ , ] فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [] وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ] يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [ هذا المعنى العرفي ] آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ [ لاحظ الباء عُدي بالباء للدلالة الشرعية لماذا اختلفت التعدية؟؛ لأن المطلوب اختلف كيف الإيمان اللغوي ما دام أنه تصديق , تقول العرب: صدّق لفلان تعديه باللام , صدّق لفلان , وتقول: صدَّق بكذا أيضاً فتعديه بالباء، لكن الإيمان الشرعي آمن بكذا , لاحظ التعدية ومضمن أقر بكذا , أقرَّ تتعدى بالباء في اللغة , أليس كذلك؟ أقر بكذا صحيحة , عمل بكذا صحيحة، صدقَّ بكذا صحيحة، ولهذا لما عُدي الإيمان في اللغة بالباء علمنا أنه ضُمِّن المعنى الأصلي في اللغة وزيادة تصلح للتعدية بالباء , فالمعنى اللغوي يتعدى باللام , فلماذا عُدي بالباء؟ تفريقاً ما بين الإيمان الشرعي والإيمان اللغوي , هو تضمين العمل للإيمان الذي هو زيادة على ما جاء في المعنى العرفي , هذا كثير في القرآن وفي اللغة أنه يأتي الفعل ويراد منه معنى.

ثم تختلف التعدية بالحرف فيضمن الفعل معنى فعل آخر , أنا (بضرب) له مثالاً حاضرا عندكم جميعاً , وإن كان يعني الأمثلة كثيرة , لكن لقربه منكم مثلاً تعلمون قول ابن القيم وابن تيمية وعدد من مشايخنا حفظ الله الجميع ورحم الأموات في قوله تعالى في المسجد الحرام: ] وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [ قالوا: هنا معنى الإرادة (إيش؟) الهم يعني الهم الجازم , لماذا؟ قالوا: لأن الإرادة بنفسها تتعدى الإرادة المعروفة تتعدى بنفسها تقول: أردت الذهاب , أردت المجيء , أردت القراءة , ما تقول: أردت بالقراءة , فلما قال: ] وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ [ , ما قال: ومن يرد فيه إلحادًا , قال: ] وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ [ علمنا أن كلمة يرد هذه فيها.. فعل يناسب التعدية بالباء وهو هَمَّ , هَمَّ بكذا , هم فلان بكذا , هذا الذي يناسب , ولذلك فسره الأئمة بأن المراد بالإرادة هنا الهم الجازم , فيؤاخذ عليه , ولو لم تتحقق الإرادة من كل وجه، وإنما يصدق عليه الهم , إذا هم بالفعل هم به صار داخلاً في الآية.
نرجع هنا في اللغة: ] فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [ يعني صدق له , أقر له , تقول: أنا أقررت لك , إيش تقول أقررت إياك؟ لا , أقررت بكذا لكن لفلان أقررت بفلان ولا أقررت لفلان , ما قال: أقررت لفلان , ما قال ] فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [ يعني صدق له أقر له إلخ , لاحظ هذا التصديق والإقرار الذي هو المعنى اللغوي , لكن جاء المعنى الشرعي في القرآن بزيادة عن التعدية باللام إلى التعدية بالباء، قال جل وعلا: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [ ما قال: آمنوا لله ولرسوله , مع أنه قال في النبي صلى الله عليه وسلم: ] وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [ , وقال في لوط: ] فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [ قال: ] آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ [ إلخ ] ومن يكفر بالله وملائكته ورسله [.

فإذًا دلنا على أن هذا المعنى هو المعنى اللغوي , وزيادة عليه ما دخل فيه مما يناسب التعدية بالباء وهو العمل , تقول: علمت بكذا يعني آمنت بكذا فعملت به , آمنت بأن الأمر واقع فعملت به , يعني عملت بما آمنت , فلذلك دخلت زيادة تعدية الباء لتدلنا على أن العمل دخل في مسمى الإيمان أصلاً , وهذه يأتي لها مزيد تفصيل في الأدلة إن شاء الله تعالى , إذا تبين هذا فمن المهم في تأصيل هذه المسألة التي غلط فيها كثيرون منذُ نشأت المرجئة أن يعرف أن الإيمان في اللغة في حقيقته تصديقٌ وإقرارا , لكن تصديق معه نوع عمل وليس لازماً في حقيقته , لكن لا يسمى تصديقاً حتى يكون معه عمل يأمن به لصلته بالمعنى اللغوي العام , أما في الشرع فهو إقرار وتصديق وعمل؛ لأن الشرع جاء بزيادة عن المعنى اللغوي في هذه المسألة العظيمة.

المسألة الرابعة:
تعريف الطحاوي لهذه المسألة وهي الإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان , هذا فيه , فيه إخراج العمل أن يكون مورداً للإيمان , وقصر الإيمان من حيث المورد على الإقرار والتصديق , وهذا كما ذكرت لك مذهب مرجئة الفقهاء , والمرجئة في هذه المسألة لهم أقوال متعددة , أشهرها قولان: قول جمهور المرجئة وهو أن الإيمان هو التصديق ولا يلزم معه إقرار , ثم مرجئة الفقهاء الماتريدية وذهب إليه الماتُريدية والأشاعرة وجماعة , أن الإيمان إقرارٌ باللسان وتصديق بالجنان , وسموا مرجئة؛ لأنهم أرجؤوا العمل عن مسمى الإيمان , يعني أخروه عن مسمى الإيمان فجعلوا الإيمان متحققاً بلا عمل , واستدلوا لمذهبهم بعدة أدلة من أشهرها قول الله جل وعلا في آيات كثيرة: ] الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [ , فعطف العمل على الإيمان , وهذا من أقوى أدلتهم على هذه المسألة , قالوا: فهذا يدل على التغاير ما بين العمل وما بين الإيمان؛ لأنه لو كان عمل الصالحات في الإيمان لما قال: ] الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [ , فلما عطف العمل على الإيمان قالوا: دلنا على تأخير العمل وإرجاء العمل عن مسمى الإيمان.

والجواب عن ذلك , يعني عن هذا الاستدلال بجواب مختصر , ونرجئ الجواب المطول , الجواب عن ذلك أن اللغة فيها العطف بالواو , ويراد بالعطف بالواو التغاير , والتغاير تارة يكون تغاير ذوات , وتارة يكون تغاير صفات , وتارة يكون العطف بالواو لا لأجل التغاير , ولكن تغاير ما بين الجزء والكل , وما بين العام والخاص , ما معنى هذا؟ معناه أنك تقول مثلاً في اللغة: دخل محمدٌ وخالد , محمد ذاته غير ذات خالد , هذا له حقيقة ذات , وهذا له حقيقة، هذا يُسمى تغاير ذوات, تغاير الصفات تقول: عندي مهندٌ وصارمٌ وحسام , والذي عندك سيف واحد , يعني الذي عند العرب سيفٌ واحد لكن يقول: مهند من جهة وصفه أنه صنع في الهند , وصارمٌ من جهة شهرته وأنه يصرمه، وحسام من جهة أنه من وقع عليه حسمه وقتله. منه في القرآن قال جل وعلا في تغاير الصفات: ] الرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ [ الكتاب هو القرآن , والقرآن هو الكتاب , عطف بالواو هل لتغاير الذوات؟ الكتاب شيء والقرآن شيء؟
لا أحد يقول بهذا من المتقدمين , لا أحد يقول بهذا , فصار العطف لتغاير الصفات ] تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ [ نُظر فيه إلى جهة كونه مكتوباً باقياً ] وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ [ يعني أنه يقرأ فينظر فيه إلى التلاوة والقراءة فهذا تغاير صفات.
الثالث: أن يكون العطف بالواو للتغاير ما بين الجزئي والكلي , وما بين الكلي والجزئي , فيعطف الخاص على العام, ويعطف العام على الخاص , مثاله قول الله جل وعلا في سورة البقرة: ] مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ [ عدو لله وملائكته لا شك الملائكة غير الله جل وعلا , الملائكة مخلوقة والرب جل وعلا هو مالك الملك وخالق الخلق , وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ الرسل منهم رسل من الملائكة ومنهم رسل من: ] اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ [ فالرسل هنا نعم من الملائكة؛ لأن منهم الرسل من الملائكة ومنهم الرسل من البشر , فإذن هنا صار عطفا , عطف الكلي على الجزئي , ثم قال: ] وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [ جبريل وميكال من الرسل أو لا؟ من الرسل , من الملائكة؟ نعم , فعطفهم , هل حقيقة جبريل وميكال غير الملائكة؟ لا , هذا تغاير صحيح ولكن تغاير بين حقيقة الكل والجزء وليس تغاير ذوات , ولا تغاير صفات , ولا تغاير حقيقة، ومن هذا عطف الخاص على العام لأجل التغاير ما بين الجزء والكل في قوله: ] الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [] وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَـنُ وُدّاً [] الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ… [ الآيات كثيرة , آمنوا وعملوا الصالحات عطف العمل على الإيمان لأجل هذا , وإلا فهو داخل في حقيقته هنا , لماذا يخص الخاص بالذكر بعد العام؟

لأجل التنبيه على شرفه , فالعرب تعطف الخاص على العام , وتغاير في هذا؛ لأجل التنبيه على شرف ما ذكر لأنك بتقول مثلاً: جاءني.. مثلاً جاءني المشايخ تقول: جاءني المشايخ وسماحة الشيخ عبدالعزيز , هذا نقول: ما هو من المشايخ , لكن هنا للتنبيه على شرفه , والمقصود جاءك المشايخ جميعاً، وجاءك المقصود أو المقدم فيهم والأكبر إلخ؛ تنبيهاً على شرفه ومنزلته إلخ.
فإذًا الاستدلال بهذا هذا جوابٌ مختصر , ونذكر لكم بقية الأدلة والإجابة عليها فيما يأتي. أنا أردت بهذا التطويل اللغوي تأصيل المسألة لكم؛ لأن مسألة الإيمان خاض فيها كثيرون في هذا العصر , كتبوا فيها كتابات , سواء في الإيمان أو في التكفير , وهم لم يدركوا حقيقة مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، فمنهم من أدخل مذاهب المرئجة في مذهب أهل السنة وقصروا الكفر على التكذيب والإيمان على التصديق إما قولاً أو باللازم، ومنهم من ذهب إلى أن الإيمان قولٌ واعتقاد , وأن العمل ليس من الإيمان أصلاً كما هو قول المرجئة والأقوال في هذا متعددة , نسأل الله جل وعلا أن يثبتني وإياكم على طريقة أئمتنا , وأن يكف عنا الشر، وأن لا يخذلنا , وأن ينور بصائرنا وبصائر أحبابنا , إنه جواد كريم. نكتفي بهذا القدر ونكمل المرة القادمة [إن شاء الله وفقكم الله وصلى الله على نبينا محمد.]*

مـجـلـس آخـر

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم , الحمد لله حق حمده، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد..,
فأسأل الله جل جلاله أن يجمع لي ولك بين العلم والعمل، وبين الصدق في الاعتقاد والصدق في القول والصدق في الأعمال، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً، واجعل دعاءنا مسموعاً، وقلبنا لك خاشعاً خضوعا يا أرحم الراحمين.
كنا نتكلم في الدرس الأخير قبل رمضان عن مسائل الإيمان، وأذكر أنا ذكرنا بعض المسائل التي هي توطئة لشرح كلام الطحاوي رحمه الله , نبتدئ بسماع المتن، اقرأ (غير مسموع):
القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم , والحمد لله رب العالمين , وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الطحاوي رحمه الله تعالى:
والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق، والإيمان واحد وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى وملازمة الأولى، والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن وأكرمهم عند الله أطوعهم، وأتبعهم للقرآن، والإيمان هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وحلوه ومره من الله تعالى، ونحن مؤمنون بذلك كله لا نفرق بين أحد من رسله ونصدقهم كلهم على ما جاؤوا به، وأهل الكبائر.

الشيخ: يكفي. قال رحمه الله تعالى: "والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان"، هذه الجملة من كلامه في تعريف الإيمان المقصود بها التعريف الشرعي للإيمان عند الطحاوي رحمه الله , والذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع الأئمة، أئمة أهل الحديث والسنة , أن الإيمان قول وعمل , وبعض أهل العلم يعبّر بقوله: الإيمان قول وعمل ونية , كما قالها الإمام أحمد في موضع , ويعني بالنية الإخلاص، يعني الإخلاص في القول والعمل، وهذا الأصل وهو أن الإيمان قول وعمل وُضِّحَ بقول أهل العلم: الإيمان اعتقاد بالقلب , يعني بالجنان , وقول باللسان , وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بطاعة الرحمن وينقص بطاعة الشيطان.

فشمل الإيمان إذن فيما دلت عليه الأدلة هذه الأمور الخمسة وهي: أنه اعتقاد وأنه قول وأنه عمل وأنه يزيد وأنه ينقص. وتعريف الطحاوي للإيمان بقوله: "هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان" هذا تعريف بالمقارنة مع ما سبق فيه قصور وهو موافقٌ لما عليه الإمام أبوحنيفة رحمه الله وأصحابه؛ فإنهم لم يجعلوا العمل من مسمى الإيمان وجعلوا الإيمان تصديق القلب وإقرار اللسان، وجعلوا الأعمال زائدة عن مسمى الإيمان مع كونها لابد منها ولازمة للإيمان , فقول الطحاوي هذا ليس مستقيماً مع معتقد أهل السنة والجماعة، أتباع أهل الحديث والأثر , وفيه قصور؛ لأنه أخرج الإيمان.. أخرج العمل عن تعريف الإيمان , وكون العمل من الإيمان له أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، أظن أني قدمت لكم بعضها قبل رمضان. ومنها في هذا المقام قول الله جل وعلا: ] وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [ ويعني بالإيمان الصلاة، فسمى الصلاة إيماناً والصلاة عمل , وقال أيضاً جل وعلا: ] الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [ وقال: ] آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [ دلت الآية على أن الإيمان له حقيقة هي الاعتقاد والإيمان بهذه الأركان الخمسة ] آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [ فإذا كان العمل ناشئاً عن هذه، فإنه لا يتصور الانفكاك ما بين العمل والإيمان , ولهذا في آية البقرة: ] وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [ جعل العمل هو الإيمان؛ لأنه منه , ولأنه ينشأ عنه.
فنفهم إذن أن قوله: ] إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [] الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [ ونحو ذلك، بما فيه عطف العمل على الإيمان كما قدمنا آنفاً أن هذا عطف الخاص بعد العام , وعطف الجزء بعد الكل، وهذا كثير في القرآن وفي اللغة كما قدمته لك. ومن السنة قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((آمركم بالإيمان)) لما قال لوفد عبدالقيس لما أتوه في المدينة قال: ((آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟)) ثم فسر بأركان الإيمان ثم قال: ((وأن تؤدّوا الخمس من المغنم))، وهذا أداء الخمس عمل، فجعله تفسيراً للإيمان.
كذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة , أعلاها قول: لا إله إلا الله , وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) فجعل الإيمان له قول مرتبط بالنطق، وله عمل الذي هو إماطة الأذى عن الطريق، يعني الذي هو نوع العمل، وجعل له عمل القلب وهو الحياء، ففي هذا الحديث مثل النبي عليه الصلاة والسلام شعب الإيمان بثلاثة أشياء، منها القول ومنها الاعتقاد أو عمل القلب، ومنها عمل الجوارح، ويأتي مزيد بيان لهذا الأصل في المسائل إن شاء الله تعالى.
ثم زيادة الإيمان ونقصانه، دل على الزيادة قول الله جل وعلا: ] وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً [، وكذلك قوله: ] ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم [ وكذلك قوله: ] زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ [ ونحو ذلك مما فيه زيادة. وإذا كان فيه زيادة فإنه لابد أن يكون فيه النقص بمقابل ما ترك مِمَّ يسبب الزيادة في الإيمان , ولهذا قال بعض الصحابة لما ذكر زيادة الإيمان وذكر نقصانه، قال: إذا سبّحنا الله وحمدناه وذكرناه فذلك زيادته , وإذا غفلنا فذلك نقصانه , فزيادة الإيمان ونقصانه دل عليها قول الله جل وعلا والسنة وقول الصحابة رضوان الله عليهم.
فمن هذا يتقرر أن قول الطحاوي: "الإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان" هذا يوافق قول مرجئة الفقهاء وهم أبوحنيفة النعمان بن ثابت الإمام المعروف وأصحابه , ممن أخرجوا العمل عن كونه جزءاً من الماهية , عن كونه ركناً في الإيمان. إذا تقرر هذا فإن في مسألة الإيمان مباحث كثيرة جداً؛ وذلك لكثرة الخلاف في هذه المسألة وطول الكلام عليها , وكثرة التصانيف التي صنفها السلف ومن بعدهم في هذه المسألة، لكن يمكن تقريب هذه المسألة لطالب العلم في مسائل:
الأولى: الإيمان يجمع الاعتقاد بالقلب وهو الذي يسميه المرجئة مرجئة الفقهاء أو يسميه العامة التصديق.
والثانية: قول اللسان.
والثالثة: عمل الجوارح والأركان.
والرابع: الزيادة
والخامسة: النقصان.
هذه خمسة أشياء فيها اختلف المنتسبون إلى القبلة على أقوال.
القول الأول: هو أن الإيمان تصديق فقط. وهذا هو قول جمهور الأشاعرة وهو قول أيضاً أبي منصور الماتريدي والماتريدية العامة , وهذا مبني منهم على أن القول ينشأ عن التصديق، وعلى أن العلم ينشأ عن التصديق، فنظروا إلى أصله في اللغة بحسب ظنهم , وإلى ما يترتب عليه فجعلوه التصديق فقط , واستدلوا له بعدة أدلة مما فيه أن الإيمان تصديق كقوله: ] آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [ وهذه أمور غيبية , والإيمان بها يعني التصديق بها. وغير ذلك من الأدلة التي فيها حصر الإيمان بالغيبيات والإيمان بالغيبيات يفهم على أنه التصديق. وهؤلاء يسمون المرجئة، وهم المشهورون بهذا الاسم.
ومن المرجئة طائفة غالية جداً، وهم الذين جعلوا الإيمان ليس التصديق بالقلب ولكن هو المعرفة بالقلب , وهو القول المنسوب إلى الجهمية وغلاة الصوفية كابن عربي ونحوه، ممن صنفوا في إيمان فرعون. الفئة الثانية أو الفرقة الثانية: (غير مسموع) قال: إن الإيمان قول باللسان فقط , هؤلاء يسمون الكرّاميّة بالتشديد، الكرّاميّة ينسبون إلى محمد بن كرّام، هذا يقول: الإيمان هو الإقرار باللسان , لم؟ قال: لأن الله جل وعلا جعل المنافقين مخاطبين باسم الإيمان، في آيات القرآن , فإذا نودي المؤمنون في القرآن فيدخل في الخطاب أهل النفاق والمنافقون , إنما أقرّوا بلسانهم، ولم يصدقوا بقلوبهم، فدخلوا في اسم الإيمان لهذا الأمر.
المذاهب الثالث: هو مذهب الخوارج والمعتزلة.. بل قبله، المذهب الثالث هو مذهب مرجئة الفقهاء الذين قالوا: إن الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان. وهو قول أبي حنيفة وأصحابه: إقرار باللسان وتصديق بالجنان، ويجعلون أن الناس في التصديق كما سيأتي، وفي أعمال القلوب أنهم واحد، فأعمال القلوب التي أصلها التصديق عندهم شيء واحد، والعمل ليس من الإيمان عندهم يعني من حقيقة الإيمان....

وأظن شبهتهم نص أبي حنيفة في هذه المسألة, وهو بناه على أن الذين خوطبوا بالإيمان هم المؤمنون والمنافقون, والمنافقون ليس لهم عمل، عملهم باطل, وإنما أقرّوا باللسان فقط, والمؤمنون مصدقون مقرون، فجمع لهم ما بين –يعني: بين الطائفتين- ما بين الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، يعني: في الخطاب الظاهر، وأما الأعمال فالحساب عليها آخر, ومن أدلتهم الأصل اللغوي الذي هو حسب ما قالوا: إن الإيمان هو التصديق, والإقرار أخذ من زيادة في الشريعة؛ لأنه لابد من قول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

الرابع: هو قول الخوارج والمعتزلة: هو أن الإيمان اعتقاد بالجنان, أو تصديق بالجنان, وإقرار باللسان, وعمل بالجوارح، وهذا العمل عندهم بكل مأمور به, والانتهاء عن كل منهي عنه, فما أمر به وجوباً فيدخل في مسمى الإيمان بمفرده, وما نهي عنه تحريماً فيدخل في مسمى الإيمان بمفرده, يعني: أن كل واجب يدخل في مسمى الإيمان على حدة، فيكون جزءاً وركناً في الإيمان، وكل محرم يدخل في الانتهاء عنه, يدخل في مسمى الإيمان بمفرده، وبناء على ذلك قالوا: فإذا ترك واجباً؛ فإنه يكفر, وإذا فعل محرماً من الكبائر؛ فإنه يكفر؛ لأن جزء الإيمان وركن الإيمان ذهب, فعندهم أن هذا العمل جزء واحد, إذا فقد بعضه فقد جميعه, وبينهم خلاف –يعني: بين الخوارج والمعتزلة- فيمن استحق النار في الآخرة ماذا يسمى في الدنيا؟! على القول المعروف عندهم: وهو أنه في الدنيا عند الخوارج يسمى كافرا, وعند المعتزل هو في منزلة بين المنزلتين, لا يقال: مؤمن, ولا يقال: كافر. مع اتفاقهم على أنه في النار مخلد فيها؛ لانتفاء الإيمان في حقه.

الخامس: هو قول أهل الحديث والأثر، وقول صحابة رسول الله r:وهو أن الإيمان اعتقاد, ومن الاعتقاد التصديق، وقول باللسان, وهو إعلان لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعمل بالأركان، وأنه يزيد وينقص, ويعنون بالعمل جنس العمل, يعني: أن يكون عنده جنس طاعة وعمل لله جل وعلا، فالعمل عندهم الذي هو ركن الإيمان ليس شيئًا واحدًا, إذا وجد بعضه وجد جميعه، إذا ذهب بعضه ذهب جميعه، أو إذا وجد بعضه وجد [جميعه][1], بل هذا العمل مركب من أشياء كثيرة, لابد من وجود جنس العمل، وهل هذا العمل الصلاة؟! أو هو أي عمل من الأعمال الصالحة؟! امتثال الواجب طاعة, وترك المحرم طاعة, هذا ثم خلاف بين علماء الملة في المسألة المعروفة في تكفير تارك الصلاة تهاوناً أو كسلاً, الفرق ما بين مذهب أهل السنة والجماعة وما بين مذهب الخوارج والمعتزلة أن أولئك جعلوا ترك أي عمل واجب أو فعل أي عمل محرم؛ فإنه ينتفي عنه اسم الإيمان، وأهل السنة قالوا: العمل ركن وجزء من الماهية، لكن هذا العمل أبعاض، ويتفاوت, وأجزاء إذا فات بعضه أو ذهب جزء منه؛ فإنه لا يذهب كله، فيكون المراد من الاشتراط جنس العمل، يعني: أن يوجد منه عمل صالح ظاهرًا بأركانه وجوارحه, يدل على أن تصديقه الباطن، وعمل القلب الباطن على أنه استسلم به ظاهرًا، وهذا متصل بمسألة الإيمان والإسلام، فإنه لا يتصور وجود إسلام ظاهر بلا إيمان، كما أنه لا يتصور وجود إيمان باطن بلا نوع استسلام لله –جل وعلا- بالانقياد له بنوع طاعةٍ ظاهرة.

المسألة الثانية: الطحاوي هنا ترك العمل, يعني: ما ذكر العمل في مسمى الإيمان، وكما ذكرت لك, أن العمل عند أهل السنة والجماعة داخل في مسمى الإيمان, وفي ماهيته, وهو ركن من أركانه, والفرق بينهما يعني: بين قول مرجئة الفقهاء, وهو الذي قرره الطحاوي, وبين قول أهل السنة والجماعة أتباع الحديث والأثر- الفرق بينهما من العلماء من قال: إنه صوري لا حقيقة له –يعني: لا يترتب عليه خلاف في الاعتقاد- ومنهم من قال: لا هو معنوي وحقيقي، ولبيان ذلك؛ لأن الشارح ابن أبي العز –رحمه الله - على جلالة قدره وعلو كعبه ومتابعته للسنة ولأهل السنة والحديث، فإنه قرر أن الخلاف لفظي وصوري, وسبب ذلك أن جهة النظر إلى الخلاف منفكة,[فمنهم من ينظر إلى][2] الخلاف بأثره في التكفير، ومنهم من ينظر إلى الخلاف بأثره في الاعتقاد، فمن نظر إلى الخلاف بأثره في التكفير، قال: الخلاف صوري، الخلاف لفظي؛ لأن الحنفية الذين يقولون: هو الإقرار باللسان, والتصديق بالجنان، هم متفقون مع أهل الحديث والسنة؛ مع أحمد والشافعي على أن الكفر والردة عن الإيمان تكون بالقول, وبالاعتقاد، وبالعمل، وبالشك, فهم متفقون معهم على أن من قال قولاً يخالف ما به دخل في الإيمان؛ فإنه يكفر، ومن اعتقد اعتقادا يخالف ما به دخل في الإيمان؛ فإنه يكفر، وإذا عمل عملاً ينافي ما به دخل في الإيمان؛ فإنه يكفر، وإذا شك أو ارتاب؛ فإنه يكفر، بل الحنفية في باب حكم المرتد في كتبهم الفقهية أشد في التكفير من بقية أهل السنة, مثل: الحنابلة, والشافعية, ونحوه، فهم أشد منهم, حتى إنهم كفروا بمسائل لا يكفر بها بقية الأئمة, كقول القائل مثلاً:سورة صغيرة, فإنهم يكفرون بها, أو مسيجيد أو نحو ذلك أو إلقاء كتاب فيه آيات؛ فإنهم يكفرون إلى آخر ذلك. فمن نظر مثلما نظر الشارح ونظر جماعة من العلماء, من نظر في المسألة إلى جهة الأحكام, وهو حكم الخارج من الإيمان, قال: الجميع متفقون, سواء كان العمل داخلا في المسمى, أو خارجاً من المسمى؛ فإنه يكفر بأعمال, ويكفر بترك أعمال, فإذن لا يترتب عليه على هذا النحو دخول في قول المرجئة, الذي يقولون: بلا عمل ينفع, ولا يخرج من الإيمان بأي عمل يعمله, ولا يدخلون مع الخوارج في أنهم يكفرون بأي عمل, أو بترك أي واجب, أو فعل أي محرم, فمن هذه الجهة إذا نظر إليها تُصُوِّر أن الخلاف ليس بحقيقي, بل هو لفظي وصوري.

الجهة الثانية التي ينظر إليها: وهي أن العمل عمل الجوارح والأركان, هو مما أمر الله –جل وعلا- به في أن يعتقد وجوبه, أو يعتقد تحريمه من جهة الإجمال والتفصيل، يعني: أن الأعمال التي يعملها العبد لها جهتان؛ جهة الإقرار بها, وجهة الامتثال لها، وإذا كان كذلك؛ فإن العمل بالجوارح والأركان, فإنه إذا عَمِل فإما أن نقول: إن العمل داخل في التصديق الأول، تصديق بالجنان, وإما أن نقول: إنه خارج عن التصديق بالجنان، فإذا قلنا: إنه داخل في التصديق بالجنان, يعني: العمل بالجوارح باعتبار أنه إذا أقر به امتثل؛ فإنه يكون التصديق إذن ليس تصديقاً، وإنما يكون اعتقادًا شاملاً للتصديق وللعزم على الامتثال, وهذا ما خرج عن قول وتعريف الحنفية.
والجهة الثانية: أن العمل يمتثل فعلاً، فإذا كان كذلك؛ كان التنصيص على دخول العمل في مسمى الإيمان هو مقتضى الإيمان بالآيات وبالأحاديث؛ لأن حقيقة الإيمان فيما تؤمن به من القرآن، في الأوامر والنواهي في الإجمال والتفصيل, أنك تؤمن بأن تعمل, وتؤمن بأن تنتهي, وإلا فلو لم يدخل هذا في حقيقة الإيمان؛ لم يحصل فرق ما بين الذي دخل في الإيمان بيقين, والذي دخل في الإيمان بنفاق, يبين لك ذلك أن الجهة هذه وهي جهة انفكاك العمل عن الاعتقاد، انفكاك العمل عن التصديق، هذه حقيقة داخلة فيما فرق الله –جل وعلا- به فيما بين الإسلام والإيمان، ومعلوم أن الإيمان إذا قلنا:إنه إقرار وتصديق؛ فإنه لابد له من إسلام وهو امتثال الأوامر والاستسلام لله بالطاعات, بهذا نقول: إن مسألة الخلاف هل هو لفظي أو هو حقيقي؟! راجعة إلى النظر في العمل، هل العمل داخل امتثالاً فيما أمر الله –جل وعلا- به أم لم يدخل امتثالاً فيما أمر الله –جل وعلا- به؟! والنبي r بين أنه يأمر بالإيمان، ((آمركم بالإيمان بالله وحده)). والله –جل وعلا- أمر بالإيمان: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ [ فالإيمان مأمور به، وتفاصيل الإيمان بالاتفاق بين أهل السنة وبين مرجئة الفقهاء, يدخل شعب الإيمان, يدخل فيها الأعمال الصالحة, لكنها تدخل في المسمى من جهة كونها مأمورا بها، فمن امتثل الأمر على الإجمال والتفصيل فقد حقق الإيمان, وإذا لم يمتثل الأمر على الإجمال والتفصيل؛ فإنه بعموم الأوامر لا يدخل في الإيمان, وهذه يكون فيها النظر مشكلاً من جهة هل يتصور هل يتصور أن يوجد أحد يؤمن بالإيمان يؤمن بما أنزل الله –جل وعلا- ولا يفعل خيراً البتة؟ لا يفعل خيرًا قط؟! لا يمتثل واجبًا؟! ولا ينتهي عن محرم؟! مع اتساع الزمن وإمكانه في الحقيقة هذا لا يتصور أن يكون أحد يقول: أنا مؤمن, ويكون إيمانه صحيحاً, ولا يعمل صالحًا مع إمكانه لا يعمل أي جنس من الطاعات؛ خوفاً من الله –جل وعلا- ولا ينتهي عن أي معصية؛ خوفاً من الله جل وعلا، هذا لا يتصور, ولهذا حقيقة المسألة ترجع إلى الإيمان بالأمر، الإيمان بالأمر.. الأمر بالإيمان في القرآن وفي السنة كيف يؤمن به، كيف يحققه؟! يحقق الإيمان بعمل بجنس العمل الذي يمتثل به، فرجع إذن أن الامتثال داخل في حقيقة الإيمان بأمره, وإلا فإنه حينئذ لا يكون فرقاً بين منيعمل ومن لا يعمل. لهذا نقول: إن الإيمان الحق بالنص بالدليل –يعني: بالكتاب والسنة, بالله وبرسوله r وبكتابه- لابد له من امتثال، وهذا الامتثال لا يتصور أن يكون غير موجود من مؤمن، أن يكون مؤمن ممكن أن يعمل ولا يعمل البتة، وإذا كان كذلك كان إذا جزءًا من الإيمان، أولاً لدخوله في تركيبه، والثاني أنه لا يتصور في الامتثال, يعني: للإيمان, والإيمان بالأمر أن يؤمن ولا يعمل البتة, إذن فتحصل من هذه الجهة: أن الخلاف ليس صورياً من كل جهة، بل ثم جهة فيه تكون لفظية، وثم جهة فيه تكون معنوية، وجهات المعنوية والخلاف المعنوي كثيرة متنوعة,لهذا قد ترى من كلام بعض الأئمة من يقول: إن الخلاف بين المرجئة وبين أهل السنة- مرجئة الفقهاء ليس كل المرجئة- أن الخلاف صوري؛ لأنهم يقولون: العمل شرط زائد لا يدخل في المسمى، وأهل السنة يقولون: لا هو داخل في المسمى، فيقول: إذن الخلاف صوري، من قال: الخلاف صوري فلا يظن أنه يقول به في كل صور الخلاف، وإنما يقول به من جهة النظر إلى التكفير وإلى ترتب الأحكام على من لم يعمل، أما من جهة الأمر, من جهة الآيات, والأحاديث, والاعتقاد بها والإيقان بالامتثال, فهذا لابد أن يكون الخلاف حينئذ حقيقي.

المسألة الثالثة في الزيادة والنقصان: زيادة الإيمان ونقصانه اختلف فيها العلماء على أقوال:
القول الأول: وهو قول جمهور أهل العلم من أهل السنة ومن المرجئة ومن غيرهم، قول الجمهور من جميع الطوائف: إن الإيمان يزيد وينقص.
القول الثاني: إن الإيمان يزيد ولا ينقص، وهذا منسوب إلى بعض أئمة أهل السنة؛ لأن الدليل دل على زيادته, وهذا أمر لا يدخله القياس، فلا نقول بنقصانه لعدم ورود الدليل في ذلك.

الثالث: من قال: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وهو قول طائفة من المرجئة ومن غيرهم، لا ارتباط ما بين الإرجاء والخلاف في الثلاثة أركان الأولى, وما بين القول بزيادة الإيمان ونقصانه، تارةً تجد من ذهب إلى أحد الأقوال، يقول بزيادته ونقصانه, ومن ذهب إليه لا يقول بزيادته ونقصانه, يعني: مثلاً الأشاعرة الذين هم مرجئة, والماتريدية منهم من يقول بزيادته ونقصانه, ومنهم من لا يقول بذلك، لعدم ترتبها على حقيقة الإيمان, هذا أمر زائد أدخلوه في في البحث, فإذن لا أثر في الخلاف مسألة زيادته ونقصانه على كونه مرجئا، إذا قال أحد: الإيمان ما يزيد ولا ينقص, لا يدل على كونه.. على كونه مثلاً مرجئة, لكنه يدل على أنه ليس من أهل السنة, إذا قال: الإيمان نقول بزيادته ونقصانه, لا يدل على أنه من أهل السنة والجماعة,بل قد يكون مرجئاً, فلا ارتباط ما بين مسألة الزيادة والنقصان ومسائل التعريف السالفة للإيمان.

المسألة الرابعة: عرف الإيمان بقوله:"إقرار باللسان, وتصديق بالجنان". وقلنا في التعريف: اعتقاد بالجنان, والفرق ما بين التصديق والاعتقاد أن التصديق شيء واحد –بمعنى أنه أمر واحد عبادة واحدة- وأما الاعتقاد فإنه يشمل أشياء كثيرة من أعمال القلوب, لهذا قالت طائفة من السلف في تعريف الإيمان: الإيمان قول وعمل، وهذا دقيق؛ لأنه يشمل قول القلب, وقول اللسان, وقول القلب هو تصديقه وإخلاصه لله جلا وعلا, وقول اللسان هو إعلانه الشهادة, وعمل يشمل عمل القلب وعمل الجوارح, وعمل القلب من محبة الله جلا وعلا, والتوكل عليه، والخوف منه –جل جلاله- ورجاؤه, والإنابة إليه، وخشية الرب جل جلاله, ونحو ذلك من أعمال القلوب.

فإذن ما يتصل بالقلب من أمور الإيمان ليست شيئاً واحدًا, ليس هو التصديق فقط، بل ثم أشياء كثيرة في القلب والتصديق, هو أحدها, ولهذا فإن التفاضل الزيادة والنقصان، زيادة ونقصان باعتبار العمل الظاهر، وزيادة ونقصان باعتبار عمل القلب الباطن, فالناس يتفاوتون في الإيمان, من جهة زيادته ونقصانه في أعمالهم الظاهرة, وهي أمور الإسلام من الصلاة, والزكاة, والصيام, والحج, والاستسلام لله جلا وعلافي الأوامر والانقياد ونحو ذلك, والانتهاء عن المحرمات، وكذلك أعمال القلوب، وأعمال القلوب نوعان:
أعمال واجبة الفعل, وأعمال محرمة العمل, أو واجبة الترك, أما واجبة الفعل مثل محبة الله -جلا وعلا- والإنابة إليه, والتوكل عليه, وخشيته, والخوف منه, والطمأنينة له ونحو ذلك من أعمال القلوب، وما يجب تركه ما يجب تركه من أعمال القلوب المحرمات، محرمات أعمال القلوب التي هي الكبر والبطر وتزكية النفس وسوء الظن بالله -جلا وعلا- ونحو ذلك، هذه كلها يجب تركها, فإذن أعمال القلوب مشتملة على تصديق, ومشتملة على أمور واجب أن يعملها القلب، وأمور واجب أن ينتهي عنها القلب، وهذه كلها في الحقيقة متصلة، فالتصديق متأثر زيادةً ونقصاناً بأعمال القلوب، فأعمال القلوب تؤثر على تصديقه, فأعمال القلوب الواجبة إذا زادت محبته لله جلا وعلا؛ زاد تصديقه, إذا زادت إنابته إلى الله وزاد خشوعه وخضوعه بين يدي الله؛ زاد توكله على الله –سبحانه وتعالى- زاد تصديقه, وزاد يقينه، وكذلك إذا انتهى عن المحرمات خضع لله جلا وعلا, لم يكن متكبراً ذليلاً لله جلا وعلا, غير مترفع على الخلق، محباً لسلامته سلامة قلبه, مبتعداً عما يفسد القلب، هذه كلها مؤثرة في تصديقه, فإذن رجع الأمر في زيادة الإيمان وفي نقصانه إلى زيادة الإيمان في أركانه الثلاثة، ونقصان الإيمان في أركانه الثلاثة فإذن زيادة الإيمان نقول: يزيد بطاعة الرحمن, يعني: يزيد التصديق والاعتقاد بطاعة الرحمن, يزيد الإقرار باللسان بطاعة الرحمن، يزيد العمل بالأركان أيضًا بطاعة الرحمن، فزيادة الإيمان راجعة للثلاثة جميعاً؛ لأن الزيادة تارة تكون بالعمل الظاهر؛ زيادة صلاة, زيادة صدقة, زيادة بر, زيادة جهاد في سبيل الله، طلب علم ونحو ذلك، فيرجع هذا إلى التصديق, وإلى الإقرار بزيادة. [فيكون تصديقه و][3]اعتقاده أكثر وأعظم وأمتن وأثبت. وكذلك إقرار... وهذا الإنسان يحسه من نفسه, فإنه إذا زاد إيمانه؛ زاد لهجه بذكر ربه –جلا وعلا- تهليلاً, وتسبيحًا, وتحميدًا, وتكبيرًا, وتمجيدًا,المسائل كثيرة عن.. نرجئ البقية إلى موضع آت إن شاء الله.


* ما بين المعقوفتين غير مسموع في الشريط .

* ما بين المعقوفتين غير مسموع في الشريط .

[1] هذه الكلمة غير موجودة بالشريط

[2] هذا الجزء غير موجود بالشريط

[3] هذا الجزء غير مسموع بالشريط


  #6  
قديم 5 ربيع الأول 1430هـ/1-03-2009م, 11:10 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح العقيدة الطحاوية للشيخ: يوسف بن محمد الغفيص (مفرغ)


مذهب السلف في الإيمان والفرق المخالفة فيه
قال المصنف رحمه الله: [والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق، والإيمان واحد أهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى] . ......

قول أبي حنيفة في الإيمان
في مقدمة هذه الرسالة التي كتبها الإمام الطحاوي رحمه الله ذكر أنه يقرر معتقد أبي حنيفة وصاحبيه، ومعلوم أن أخص ما اختص به أبو حنيفة من هذه المسائل هي مسألة الإيمان، فإن الذي عليه الجماهير من أهل العلم والمقالات أن أبا حنيفة يقول بأن الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالجنان، ومعنى هذا أن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان، وهذا القول ليس عليه أئمة السنة والحديث، وليس مأثوراً عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، بل المأثور عن الصحابة، وعليه عامة أئمة السلف أن الإيمان قول وعمل، والنزاع في مسألة مسمى الإيمان هو أول نزاع حصل في هذه الأمة في مسائل أصول الدين، وأول من خالف في ذلك الخوارج، ثم تبعهم من تبعهم من المعتزلة في الجملة، وحدث ما يقابل بدعة الخوارج وهي بدعة المرجئة.

مذهب السلف في الإيمان
قول السلف الذي حكى الإجماع عليه غير واحد من الأئمة أن الإيمان قول وعمل، وألفاظ السلف في هذا المقام مختلفة، ولكن اختلافها من باب اختلاف الألفاظ، فالذي عبر به الجماهير من أئمة السنة والحديث هو أن الإيمان قول وعمل، وعبر طائفة منهم بأن الإيمان قول وعمل واعتقاد، وعبر طائفة منهم البخاري في صحيحه بأن الإيمان: (قول وفعل)، وعبر بعضهم بأن الإيمان: (قول وعمل ونية واتباع للسنة)، إلى أمثال ذلك من الجمل المأثورة عن بعض أعيان السلف. وهذه الجمل ليس بينها اختلاف عند التحقيق، بل هي جمل متفقة من حيث المعنى، وإن كان المأثور عن جماهير من السلف هو أجود التعبيرات، وهو قولهم: الإيمان قول وعمل، ومرادهم بالقول هنا: قول القلب وقول اللسان، ومرادهم بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح، فأما قول اللسان فبين، وأما عمل الجوارح فبين، وهي الشرائع الظاهرة كالصلاة والصوم والحج وأمثال ذلك، وأما قول القلب -وهو أصل الإيمان عند السلف ومبناه- فمرادهم به: تصديق القلب. وأما عمل القلب فهو: حركته بهذا التصديق في أعماله المناسبة له، كالمحبة والرضا والخوف والاستعانة إلى غير ذلك من أعمال القلوب، وعليه فأصول الإيمان على هذا الاعتبار تكون أربعة: تصديق القلب وعمل القلب وقول اللسان وعمل الجوارح. وأما ذكره الشافعي وأمثاله -وهو الشائع في كلام أكثر المتأخرين من أهل السنة- من أنه قول وعمل واعتقاد، فإنهم يريدون بالقول: قول اللسان، ويريدون بالعمل: الأعمال الظاهرة والباطنة، ويريدون بالاعتقاد: التصديق. فالقصد أن هذه الجمل المأثورة عن السلف لا خلاف بينها في نفس الأمر. وعلى هذا المعنى أجمع السلف رحمهم الله، وأجمعوا على أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وزيادته ونقصانه متعلقة بأصوله الأربعة، فليست مختصة بالعمل وحده، بل يزيد وينقص من جهة الأعمال الظاهرة، ومن جهة الأقوال إذا ما فسر قول اللسان بغير الشهادتين، ويزيد وينقص في أعمال القلوب، بل حتى التصديقات متفاضلة.

زيادة الإيمان ونقصانه
ليس بين أهل السنة نزاع في كون الزيادة والنقصان متعلقة بالأركان الثلاثة الأولى، وإنما تكلم بعض أهل السنة والجماعة ممن أحسنوا تقرير هذا الأصل في التصديق، ومن ذلك ما ذكره ابن حزم ، فإن كلامه في أصول الدين ليس على وجه واحد، فإنه لما قرر مسائل الصفات قال فيها قولاً مباعداً للقول المأثور عن أئمة السلف، وقوله في هذا من جنس قول طائفة من المعتزلة، وإن كان يذكر جمل الأئمة رحمهم الله، بل إن شيخ الإسلام رحمه الله في شرح الأصفهانية يقول: (إن القول الذي قرره ابن حزم مقارب لقول طائفة من الفلاسفة)، فتقرير ابن حزم في مسائل الصفات ليس حسناً، ولكن كلامه في مسائل الإيمان جيد في الجملة، إلا أن من أغلاطه أنه قرر أن التصديق لا يتفاضل، وقد ثبت عن الإمام أحمد وغيره من أعيان المتقدمين من السلف أنهم ذكروا أن التصديق يتفاضل، وهذا معلوم بالشرع والعقل، فإن التصديق لا يختص بمسائل التصديقات الكلية، بل سائر أحكام الشريعة وإن كانت تكليفاً من جهة، لكنها من جهة أخرى تكون تصديقاً. ......

الخوارج والمعتزلة لا يرون زيادة الإيمان ونقصانه
قرر الخوارج والمعتزلة أن الإيمان قول وعمل، ولكنهم لم يروا زيادته ونقصانه، وهذا هو محصل الفرق بين مذهب السلف ومذهب الخوارج والمعتزلة، فقالت الخوارج: إن مرتكب الكبيرة يكون كافراً، وقالت المعتزلة: إنه يكون فاسقاً قد عدم الإيمان، وبنى الخوارج والمعتزلة قولهم في مسمى الإيمان على قولهم في أهل الكبائر، وهذا الترتيب خطأ في الاستدلال فإن مسألة حكم أهل الكبائر فرع عن مسمى الإيمان وليس العكس.

أقوال المرجئة في الإيمان والرد عليهم
وأما من قابلهم وهم سائر طوائف المرجئة، فإنهم أجمعوا على أن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان، وهذه الجملة هي جامع أقوال المرجئة. ثم بعد ذلك اختلفت المرجئة على أقوال، وقد ذكر الأشعري في (المقالات): (أن مقالات المرجئة في مسمى الإيمان اثنتا عشرة مقالة)، وقد أجمعوا على أن أشد هذه المقالات غلطاً وبعداً عن السنة والجماعة هي مقالة الجهم بن صفوان ؛ فإنه قال: الإيمان هو المعرفة، ويقاربه في الجملة قول أبي الحسين الصالحي ، وأخف مقالات المرجئة هو قول حماد بن أبي سليمان . ولا يوجد أصل من أصول الدين قد خالف فيه بعض المعروفين بالإمامة والسنة والجماعة من المتقدمين إلا هذا الأصل، وإلا فإن كلام السلف في الصفات والقدر وأمثاله كلام متصل محكم، وإنما نازع في هذا الأصل حماد بن أبي سليمان ، وهو إمام من أعيان أئمة الكوفة، ومن تلاميذ إبراهيم النخعي ، وقد أجمع أهل العلم على أنه من المعروفين بالسنة والجماعة، ولكنه غلط حين أخرج العمل عن مسمى الإيمان، فهذه البدعة أول من ابتدعها من أهل السنة والجماعة هو حماد بن أبي سليمان ، ومن جهته دخلت على أبي حنيفة وجماهير أصحابه. وسبب غلطهم في مسمى الإيمان لم يكن موجبه خارجاً عما يصح الاستدلال به الكتاب والسنة، ومعنى ذلك أن هذا القول لم يكن دخل على حماد من أصل خارج عن الاستدلال بالشرع، بل كان يستدل على مقالته هذه بنوع من الاستدلال الشرعي وإن كان استدلاله غلطاً، وذلك مثل استدلاله بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} [الكهف:107] ، فجعل ذكر العمل مع الإيمان دليلاً على أن العمل ليس داخلاً في مسماه، ولا شك أن هذا إشكال بين يُدفع به عن حماد وأمثاله أنهم كانوا ينتحلون هذا القول على أصول بدعية. ويتحقق التفريق إذا نظرت في أقوال القدرية أو معطلة الصفات، فإنهم لم يكونوا يبنون تعطيلهم على شيء من الاستدلال بالأصول الشرعية، وإنما مبنى أقوالهم على نوع من الشبهات التي دخلت عليهم من المقالات الفلسفية أو نحوها، وإن كان يستدل بعضهم بما هو من القرآن فهذا ليس هو مبنى أو موجب المقالة في مسائل الصفات والقدر وأمثالها. ولم يكن حماد بن أبي سليمان رحمه الله من المعروفين بشيء من أصول البدع كعلم الكلام ونحوه، ولكنه قال هذه المقالة التي أجمع الأئمة على أنه خالف فيها الإجماع عن غلط في الاستدلال، ويراد بالإجماع هنا الإجماع المتقدم، أي: أن السلف قبل حماد وهم طبقة الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن بعدهم، لم يكن أحد منهم يقول: إن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان، وعلى هذا قيل: إن قول حماد بن أبي سليمان و أبي حنيفة وأمثالهما مخالف للكتاب والسنة والإجماع، وليس من شرط كونه مخالفاً للإجماع أن لا يُضاف حماد وأمثاله ممن قال بذلك من أصحاب السنة إلى السنة والجماعة، بل الإجماع يتحقق من وجه متقدم. ولهذا نجد أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تارة يقول: وقد أجمع السلف على أن الإيمان قول وعمل، وتارة يقول: والقول الذي عليه الجماهير من السلف أن الإيمان قول وعمل، وكلا الاستعمالين صحيح، فإنه إن قال: إن السلف أجمعوا فإنه يعني الإجماع المتقدم على حماد ، ومخالفة حماد هنا لا تعتبر؛ لكونه خالف الإجماع المتقدم، وإذا قال: إنه قول جماهير السلف، فإنه يعني بذلك أن حماداً وأمثاله لا يخرجون عن السنة خروجاً مطلقاً، بل هم يعدون في أصحاب السنة والجماعة، وإن كان قولهم بدعة بالإجماع فضلاً عن كونه غلطاً. ......

الجواب على مرجئة الفقهاء في مسألة الإيمان
وأما دلائل قول السلف: إن الإيمان قول وعمل، فهي متواترة في الكتاب والسنة، فقد ذكر الآجري في الشريعة أن العمل ذكر في بضع وخمسين موضعاً وهو محصل أو داخل في مسمى الإيمان، وهذا استدل به الآجري في الشريعة على أن العمل داخل في مسمى الإيمان وإن كان قد ينازع في بعضه، ولكن الدلائل متواترة في كون العمل داخلاً في مسمى الإيمان. ويرد اسم الإيمان في الكتاب والسنة مطلقاً تارة ومقيداً تارة، ويرد به في مقام أصله وفي مقام آخر يراد به تمامه، فهو في مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277] ، يراد به الأصل على الصحيح من التفسيرين اللذين أجاب بهما أهل السنة والجماعة عن استدلال المرجئة كما سيأتي، وهذه الآية وأمثالها هي أقوى ما استدل به المرجئة ولا سيما الفقهاء منهم، على أن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان، وعنها جوابان: الجواب الأول: أن هذا من باب عطف الخاص على العام، وهذه الطريقة وإن كانت صحيحة في الجملة إلا أنها ليست هي الطريقة الأجود. الجواب الثاني: وهو الذي رجحه شيخ الإسلام رحمه الله: أن الإيمان هنا هو الأصل، وإذا ذكر الأصل فإن العمل يكون لازماً له، ولزومه له في مقام لا يستلزم عدم دخوله في ماهيته في مقام آخر، فإن ما كان لازماً يكون تابعاً، ولا يمكن في العقل أن ينفك اللازم عن الملزوم، قال شيخ الإسلام : (وإذا كان العمل لازماً في مقام لأصل الإيمان أو لمسمى الإيمان لم يلزم أن يكون في سائر الموارد كذلك، ولم يمنع ذلك أن يكون داخلاً في ما هيته في نفس الأمر، لأنه قد جاء إدخاله في ماهيته صريحاً في مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [الأنفال:2-3]، فجعل من أصل الإيمان إقام الصلاة وإيتاء الزكاة إلى غير ذلك من الأعمال الظاهرة، ومثله قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] فإن عامة السلف فسروها بصلاتهم إلى بيت المقدس، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال كما ثبت عنه في صحيح مسلم ، وإن كان أصله متفقاً عليه: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) . فالآثار النبوية والكلمات القرآنية متضافرة على تسمية العمل إيماناً، وليس في الأدلة الشرعية ما يشكل إلا من هذا الوجه الذي ذكره بعض فقهاء المرجئة وغيرهم، وهو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277] .

مناقشة متكلمة المرجئة في تفسيرهم الإيمان بالتصديق
وأما الاستدلال الذي احتج به جمهور متكلمة المرجئة، فهو استدلال من جهة اللغة، فإنهم قالوا: الإيمان في اللغة هو التصديق، وعلى هذا قالوا: الإيمان الشرعي هو التصديق، ثم رتبوا على ذلك أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، وبنوا ذلك على مقدمتين:
المقدمة الأولى: أن الإيمان في اللغة مرادف للتصديق.
المقدمة الثانية: أنه إن كان في اللغة يراد به التصديق لزم أن يكون في الشرع كذلك ولا يتعداه إلى غيره. وكلا المقدمتين مما ينازعون فيه، فإن الإيمان وإن استعمل في كلام العرب مرادفاً للتصديق في بعض السياقات، إلا أنه يقع في بعض السياقات بخلاف ذلك، وبينه وبين التصديق فرق من جهة اللفظ والمعنى ذكره جماعة من أهل السنة. والجواب عن المقدمة الثانية من وجهين: الوجه الأول: أنه إذا سلم أن الإيمان في اللغة مرادف للتصديق فإنه لا يلزم أن يكون في سائر موارده في الشريعة كذلك، ومعلوم أن المرجئة يسمون العمل إسلاماً، مع أن هذا مما لا توجبه اللغة، فما كان مسوغاً أو موجباً عندهم لتسمية العمل إسلاماً من جهة اللغة فيمكن طرده على مسمى الإيمان، فإذا قالوا: إن الصلاة لا تسمى في اللغة إيماناً، بل الصلاة في اللغة هي الدعاء، والإيمان هو التصديق، قيل لهم: وهل الصلاة والزكاة والحج والأعمال الظاهرة تسمى في اللغة إسلاماً؟ فالجواب: لا. فيقال: فما الذي سوغ أن تسمى إسلاماً مع أن الإسلام اسم شرعي بالإجماع، كاسم الإيمان من جهة كونه اسماً شرعياً؟ فتبين أن هذا مما لا توجبه اللغة بذاتها، بل لا بد فيه من اعتبار تسمية الشارع، فلما كان الأمر كذلك تعلق اسم الإيمان بسائر الأعمال على هذا الوجه. الوجه الثاني: أن يقال: إن ما استعمله متكلمة المرجئة -لِمَا دخل في أصولهم الكلامية- من تجريد الماهيات إلى صور يفرضها الذهن لا حقيقة لها في الخارج، ومعنى هذا الكلام: أنهم إذا قالوا: الصلاة عمل، والعمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان، إذ الإيمان هو التصديق. فإنا نقول: ليس في الأعمال الشرعية الظاهرة كلها عمل ينفك عن التصديق، أما العمل الظاهر من حيث هو عمل ظاهر مجرد عن التصديق فإنه لا يسمى إيماناً بالإجماع، وهذا مما لا ينازع فيه أحد، والعمل الذي قصد السلف أنه إيمان هو العمل الشرعي، وهو العمل الذي أوجبه الشارع أو ندب إليه، كالصلاة والصيام والطواف بالبيت، إلى غير ذلك، وإلا فالأعمال العادية كلعب بني آدم وحركتهم لا تسمى إيماناً. فالصلاة لا يمكن أن تكون شرعية وهي مجردة عن التصديق بالباطن، وهو التصديق بأن هذه الصلاة أوجبها الله، وأن الله أوجبها أربع ركعات مثلاً كصلاة الظهر، وأنه شرعها في هذا الوقت، وأنه يقال فيها كذا وأركانها كذا، ويتعبد بها إلى القبلة، وأن من شرطها الإخلاص والإيمان؛ فإن هذه وإن كانت أعمالاً ظاهرة كالركوع والسجود والقيام والقراءة إلى غير ذلك إلا أنها متعلقة بالتصديق، ولهذا لو أن أحداً صلى صلاة الظهر خمساً فإن عمله يسمى بدعة وضلالاً، ومن صلى صلاة وقال: إن الصلاة ما شرعها الله وإنما هي من أقوال الفقهاء، فهذا يكون كافراً، ولا تكون صلاته شرعية. فتحقق من هذا أن سائر الأعمال الظاهرة الشرعية ليست هي مجرد أعمال ظاهرة منفكة عن التصديق. وقد تفطن بعض أئمة المرجئة من المتكلمين لهذا، فقالوا: العمل من حيث هو ليس إيماناً. فيقال: العمل من حيث هو عمل إذا لم يكن له وجود في الخارج لا يمكن أن يسمى إيماناً عند أحدٍ من المسلمين، فهم يقولون: الصلاة من حيث هي صلاة -أي: كحقيقة مجردة وعمل ظاهر- ليست إيماناً. فيقال: الحقيقة المجردة عن التصديق لا يلتفت إليها، وليس هناك أحد من المسلمين يصلي هذه الصلاة. ولهذا لو أن الإنسان أثناء لعبه أو رياضته مثلاً أتى بحركة تشاكل حركة الركوع لم يُسمّ راكعاً في الشرع وعمله هذا لا يسمى إيماناً، لكن لو أدى ذلك داخل ركن من أركان الصلاة فإنه يكون ركوعاً شرعياً ويسمى إيماناً، فتحقق من هذا أن الأصول الشرعية والعقلية واللغوية إذا سلمنا أنها تدل على أن الإيمان مرادف للتصديق، فإن كل ما تضمن التصديق وتحقق به فإنه يسمى إيماناً. ولهذا فإن الصلاة وإن كانت عملاً ظاهراً من جهة، إلا أن فيها تصديقات وفيها أعمال قلوب. ويقال: إذا لم تكن الصلاة إيماناً امتنع أن تكون إسلاماً، وامتنع أن يكون الإيمان تصديقاً، وعليه فإن قولهم: إن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان لأن الإيمان هو التصديق، يعتبر مناقضاً للعقل فضلاً عن مخالفته للشرع، فإنه مبني على مقدمة مفروضة يفرضها الذهن، وهي: أن العمل الظاهر الذي سماه السلف إيماناً يمكن تجريده عن التصديق، وليس الأمر كذلك. فإن قالوا: إن التصديق الذي في الصلاة يسمى إيماناً، والحركة الظاهرة لا تسمى إيماناً؟ قيل: هذا فرض يفرضه الذهن ولا وجود له في الخارج، فإنه إذا تجرد هذا العمل عن التصديق لم يسمِّ صلاة ولا ركوعاً ولا سجوداً، ولا يوجد في الخارج إلا حركة يقصد بها التعبد أو حركة لا يقصد بها التعبد، أما وجود حركة في الخارج يقال إن تصديقها إيمان، وأما هي من حيث هي فليست إيماناً، فهذا، فإن من حنى ظهره إما أن يكون راكعاً لله سبحانه وتعالى في صلاة من الصلوات، وإما أن يكون فعل ذلك لغرض وموجب احتاجه من أجله. ومعلوم أن الأول يسمى عمله إيماناً، والثاني لا يسمى إيماناً..

الدليل على أن العمل من الإيمان
ومن أخص ما يستدل به السلف على كون العمل داخلاً في مسمى الإيمان، بل إن قلت: إنه أشرف حديث استدل به السلف على هذه المسألة من السنة، فإن الأمر كذلك؛ حديث ابن عباس رضي الله عنهما في حديث وفد عبد القيس فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمساً من المغنم..) إلى آخر الحديث، وقد رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مفرداً، واتفق عليه الشيخان من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. فهذا الحديث المعروف عند أهل العلم بحديث وقد عبد القيس صريح في أن العمل داخل في مسمى الإيمان، بل صريح في أن العمل أصل في الإيمان كما جعله النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً في الإسلام، كما في حديث ابن عمر المتفق عليه: (بني الإسلام على خمس) وذكر المباني الأربعة بعد الشهادتين، وكذلك لما ذكر الإسلام في حديث جبريل المتفق عليه، وهنا لما ذكر الإيمان ذكر الشهادتين وذكر بعد ذلك العمل، ففسر الإيمان في حديث عبد القيس بما فسر به الإسلام في حديث ابن عمر وأمثاله. وأما فك هذا عن هذا في حال واحد، فهذا من فرضيات الذهن التي لا وجود لها في الخارج.

موافقة قول السلف للشرع والعقل واللغة
قول السلف رحمهم الله إن الإيمان قول وعمل, هو الذي توجبه اللغة, حتى ولو فسر الإيمان بالتصديق, فإن اللغة توجب ذلك من هذا الوجه، فلا يتحقق التصديق الشرعي إلا بالعلم. وكذلك يوجبه العقل، فإن ما صح تسميته إسلاماً من الأعمال صح تسميته إيماناً. وقد غلط بعض المرجئة فظنوا أن السلف إنما سموا الأعمال إسلاماً لكون المنافق يأتي بها بخلاف الإيمان, ولا شك أن المنافق يسمى مسلماً ولا يسمى مؤمناً, ولكن ليس هذا هو الموجب للتسمية بالإسلام ومنع الإيمان, وإنما ذلك من جهة أن الإيمان أصله في القلب وأنه أخص بالأعمال الباطنة، وأن الإسلام أخص بالأعمال الظاهرة. فهذا هو محصل ما ذهب إليه أئمة السلف رحمهم الله, وتبين من هذا أن قولهم موافق للشرع وللعقل وللغة.

أعمال القلوب داخلة في مسمى الإيمان عند أكثر المرجئة
ومقالات المرجئة المتقدمة والتي تبين أن أشدها بلاء هو قول جهم بن صفوان : أن الإيمان هو التصديق أو المعرفة، تشكل عليهم مسألة أعمال القلوب, وجماهير المرجئة يجعلون ما هو من أعمال القلوب داخلاً في مسمى الإيمان, ولهذا لما فسر الأشعري مقالة جهم بن صفوان ومقالة أبي الحسين الصالحي في مقصودهم بالمعرفة فسر ذلك بما هو من أعمال القلوب مع المعرفة القلبية. وإذا كان داخلاً في مسمى الإيمان؛ لزم من هذا أن يكون العمل الظاهر داخلاً في مسمى الإيمان, فإن ما كان موجباً لدخول الأعمال الباطنة عندهم في مسمى الإيمان، يكون موجباً لدخول الأعمال الظاهرة, فإن عمل القلب ليس هو التصديق, وإذا قالوا: الإيمان هو التصديق, وجعلوا ما هو من أعمال القلوب داخلاً في مسمى الإيمان، لزم من ذلك أن يجعلوا ما هو من أعمال الجوارح داخلاً في مسمى الإيمان, بل لزم من ذلك أن تكون أعمال الجوارح كلها داخلة في مسمى الإيمان.

حقيقة الخلاف بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء في الإيمان
ومن مسائل هذا الباب وأصوله: أن القول الذي قاله حماد بن أبي سليمان و أبو حنيفة رحمهما الله جعل كثيراً من أهل العلم يتكلمون في نوعية الخلاف بينه وبين القول الذي عليه عامة السلف, فالشارح ابن أبي العز رحمه الله يقول: إن الخلاف صوري بين أبي حنيفة رحمه الله وجماهير السلف، وهذا باعتبار أن أبا حنيفة و حماد بن أبي سليمان يقولان: إن مرتكب الكبيرة ليس مخلداً في النار, ويجعلانه تحت المشيئة, ويقران بعذاب من يعذب من أهل الكبائر. ونقول: نعم. قال بعض الحنفية: إنه خلاف صوري, وقال بعضهم: إنه خلاف لفظي, أي: لا ثمرة له, ولهذا يذكر الأصوليون في كتبهم بعض مسائل النظر الخلافية فيقولون: والخلاف لفظي, أي: ليس له ثمرة. وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: (بأن الخلاف جمهوره لفظي), وقال مرة: (إن أكثر الخلاف بين حماد والجمهور خلاف لفظي), ومراده بأن أكثره لفظي أي: أن حماداً يقر بوجوب الواجبات وأصول الشرائع, ويعطيها أحكامها في الدنيا من جهة الحدود، وكذلك في الآخرة على ما قرره أئمة السلف أجمعين, وإنما لا يسمِّي هذه الأعمال الظاهرة إيماناً, ومن هنا كان أكثر الخلاف لفظياً، وبهذا يتبين للناظر في هذه المسألة ماذا يقصد بالقول إن الخلاف فيها لفظي. وأما من جهة الفرق فهو من وجوه: الأول: وهومن أخصها: أن عدم تسمية العمل الظاهر إيماناً مخالف للكتاب والسنة, فإن الله سماها إيماناً, ومنع تسميتها إيماناً مخالفة للكتاب والسنة من حيث التسمية, وعليه فثمرة الخلاف هي أن هذا القول مخالف للكتاب والسنة، ولا يلزم بالضرورة أن تكون الثمرة مسألة عملية من هذا الوجه. الوجه الثاني: أن حماداً وأمثاله يقولون: إن الإيمان واحد, فلا يجعلون العمل مما يحصل به الزيادة والنقصان, وهذا هو المقطوع به في قول حماد بن أبي سليمان و أبي حنيفة رحمهما الله. وبعض أهل العلم يعبرون فيقولون: إن حماداً وأبا حنيفة لا يقولون بأن الإيمان يتفاضل, وهذا مما يكرره شيخ الإسلام رحمه الله. وهناك مسألة دون الأولى في التحقق في كونها مذهباً لـحماد بن أبي سليمان ، وهي: هل حماد يقول: إن الإيمان واحد مطلقاً، لا يزيد ولا ينقص كما هو قول المرجئة؟ يجزم شيخ الإسلام رحمه الله بذلك ويقول: (ومن الفرق بين قول حماد وقول الجمهور: أن حماداً وأمثاله لا يجعلون الإيمان متفاضلاً, ويجعلون أهل الإيمان في إيمانهم على حال واحدة). وهذا ينبني على صحة النقل عنه, وإلا فإن هذا من لازم قول حماد ؛ لكن من المعلوم أن لوازم المذاهب ليس بالضرورة أن تكون مذاهباً تضاف إلى أعيان القائلين بأصل المذهب, ولهذا يُتردد في هذا الإطلاق, فهو وإن كان يُجزم بكونه لا يجعل العمل موجباً لزيادة الإيمان, لكن هذه مسألة دون الإطلاق. الوجه الثالث: أنه على طريقة حماد و أبي حنيفة لا يكفر العبد بتركه للأعمال الظاهرة, سواء كان تركه لجنس الأعمال الظاهرة, أو كان تركه لبعض أعيانها. هذا مع أن الإجماع منعقد على أن من هجر جنس العمل الظاهر فإن هجره له كفر, وهذا مذهب مستقر عند متقدمي أئمة السلف المخالفين لـحماد بن أبي سليمان ، وقد ذكر هذا الفرق من متأخري المحققين الإمام ابن تيمية رحمه الله. وبعض من تكلَّم في هذه المسألة يذكر عن شيخ الإسلام ما هو مخالف لذلك, وليس الأمر كذلك، بل لا شك أنه يرى أن من قامت عنده القدرة والإرادة الموجبة لحصول المقدور والمراد, ومع هذا كله هجر جنس العمل فما ركع لله ركعة، ولا سجد له سجدة، ولا صام له يوماً، ولا أتى البيت الحرام، ولا أدى زكاة, فإن هذا لا يكون إلا كافراً. وقد قال إسحاق بن إبراهيم -وهو من أعيان المتقدمين- كما رواه الخلال وغيره بسند صحيح: (غلت المرجئة حتى كان من قولهم: أن من ترك الصلاة والصيام والزكاة والحج وعامة الفرائض من غير جحود لها لا نكفره, إذ هو مقر -أي: لا يكفر لأنه مقر عندهم- فهؤلاء الذين لا شك عندي أنهم مرجئة)، وكلمة إسحاق هذه هي أحسن كلمة أثرت عن المتقدمين في هذه المسألة التي تكلَّم فيها كثير من المتقدمين والمتأخرين. وبنحو هذه الكلمة جاء عن سفيان بن عيينة , وقد حكى الآجري و أبو عبد الله ابن بطة الإجماع على هذه المسألة.

مسائل في الإيمان ومنهج السلف
طرق معرفة إجماع السلف على تكفير تارك جنس العمل
وإجماع السلف على هذه المسألة يعرف من عدة طرق: الطريق الأول: أن العمل عندهم أصل في الإيمان, ولما كان أصلاً فإن عدمه كفر. الطريق الثاني: أن هجر جنس العمل لا يكون إلا مع نوع من الكفر الباطن, وهذا ليس معناه أنه لا يُكفَّر بالأعمال الظاهرة ولكن لدلالتها على كفر باطن؛ لأنه بإجماع المسلمين وبصريح العقل أنه لا يمكن أن نقول: إن هذا كافر في نفس الأمر بعمل ظاهر، ويكون في نفس الأمر مؤمناً في الباطن, بل من ثبت كفره في نفس الأمر -أي: في الحكم الشرعي- ووافى ربه بالكفر الظاهر فلا بد أن يكون في الباطن كافراً, وما يبقى معه من العلم والمعرفة الباطنة، فهي من جنس العلم والمعرفة التي تقع لكثير من الكفار في بعض مسائل الربوبية، أو كحالهم إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين, إلى غير ذلك. الطريق الثالث: أنه جاء عن الجماهير من أهل الحديث أنهم يكفرون تارك الصلاة، فدلّ ذلك من باب أولى على أنهم يذهبون إلى كفر تارك جنس العمل. وهذا الوجه وإن لم يلزم به تحقق الإجماع, إلا أنه يُعلم به معنىً مهماً في هذه المسألة وهو: أن من قال إن ترك جنس العمل ليس كفراً بإجماع السلف, فإن قوله غلط ولا بد؛ لأنه قد جاء عن كثير من أعيان المتقدمين -ولا سيما من أهل الحديث- التكفير بترك الصلاة, فكيف يقال مع هذا: إن إجماع السلف منعقد على أن ترك العمل مطلقاً ليس كفراً, مع أنهم كفروا تارك الصلاة؟ وإنما يتحقق هذا المعنى ولا يتحقق الإجماع به؛ لأنه مبني على مسألة تكفير تارك الصلاة: هل هي من معاقد الإجماع أم لا؟ والتحقيق أن بين جنس العمل وبين آحاده فرقاً, فأما جنس العمل وأركانه الأربعة: (الصلاة والزكاة والصيام والحج)، فمن عدم جنس العمل بأصوله الأربعة التي هي أصول الفرائض؛ فهذا لا يكون إلا كافراً.

حكم تارك الصلاة
وأما من ترك ما دون الفرائض الأربع من الواجبات الظاهرة فإن هذا ليس بكافر, وإنما تنازع السلف رحمهم الله في الأركان الأربعة, ولم يحك الإجماع منضبطاً أو غير منضبط إلا في مسألة الصلاة وحدها, فإن إسحاق بن إبراهيم كما ذكر ذلك عنه محمد بن نصر المروزي بإسناد متصل إليه، وذكره عن أيوب السختياني ؛ كان يحكيان الإجماع على أن ترك الصلاة كفر, وكان إسحاق يقول: (مضت سنة رسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده إلى زماننا هذا أن من أدركته فريضة فما أداها إلى أن خرج وقتها فإنه يكون كافراً)، ويقول أيوب السختياني : (ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه)، ومن هنا قال طائفة من أصحاب الإمام أحمد وبعض أهل العلم: إن ترك الصلاة كفر بالإجماع, وزعموا أنه لم يخالف في ذلك إلا بعض المتأخرين. والصحيح أن الكفر بترك الصلاة ليس من معاقد الإجماع البين, فإن الإجماع إذا استعمل في مسائل أصول الدين أريد به الإجماع التام الذي تكون مخالفته بدعة وضلالة, كقولك: إن السلف أجمعوا على أن الإيمان قول وعمل, وأجمعوا على إثبات الصفات, وأجمعوا على أن الله خلق أفعال العباد، إلى غير ذلك. فمن قال: إن ترك الصلاة كفر بالإجماع اللازم القطعي فإن الأمر ليس كذلك؛ لأنه جاء عن طائفة من المتقدمين كـمكحول و الزهري و مالك و الشافعي أنهم ما كانوا يرون ترك الصلاة كفراً، وأما قول عبد الله بن شقيق : (كان أصحاب محمد لا يرون شيئاً من العمل تركه كفر إلا الصلاة)، فهذا صحيح عن عبد الله بن شقيق , ولكن لا شك أن الزهري و مالكاً رحمهما الله أعلم بالسنن والآثار من عبد الله بن شقيق , وإن كان متقدماً عليهما, فهذا اجتهاد وتحصيل حصله عبد الله بن شقيق ، وهذا الإجماع الذي يذكره عبد الله بن شقيق ويذكره غيره, إذا سمِّي إجماعاً سكوتياً كان ممكناً, ومعلوم أن الصحيح من مذاهب الأصوليين أن الإجماع السكوتي حجة, ولكنه ليس حجة قطعية. فالقول الراجح هو أن ترك الصلاة كفر، ودليل هذا القول ظاهر الكتاب وظاهر السنة, وإن كانت دلالة السنة أخص من دلالة الكتاب, ومن أخص دلائل السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) . وأيضاً من دلائل كون ترك الصلاة كفراً أنه ظاهر مذهب الصحابة, فلم يصح عن صحابي من الصحابة أنه صرَّح بأن ترك الصلاة ليس كفراً, ولكن تحقق أن جماعة من الصحابة صرَّحوا بكون ترك الصلاة كفراً, وذكر ابن شقيق أنه لم يخالف فيه أحد، فيكون هذا استدلالاً حسناً, ويسمى إجماعاً سكوتياً لا قطعياً؛ لأن الإجماع القطعي يكون حجة لازمة، ومن اجتهد بخلافه فقد قال بدعة, وإذا اجتهد مجتهد بخلافه سمي اجتهاده غلطاً وبدعة, ولا يجوز لأحدٍ من بعده أن يقلده فيه, وعلى هذا يلزم أن قول من يقول إن ترك الصلاة ليس كفراً؛ أن يكون قوله بدعة, وأنه قول مخالف لصريح الكتاب والسنة, ويلزم أن يكون هذا القول لا تجوز متابعته ولا اعتباره كسائر البدع. ولم يكن قدر هذه المسألة عند جماهير السلف كذلك, وإن كان إسحاق قد نقل الإجماع لكنه شاذ في تحصيل الإجماع, ولا سيما أنه قال: من زمان رسول الله إلى زماننا هذا، مع أنه يعلم أن مالكاً و الزهري و مكحولاً قد خالفوا, ولا يصح قصر المخالفة على المتأخرين، ثم لو كانت المسألة من معاقد الإجماع لشاع ذلك في كلام أئمة السنة، كالإمام أحمد وغيره، فإنه لم ينطق بالإجماع أبداً، بل الرواية عنه مختلفة في تكفير تارك الصلاة. وقد غلط بعض المالكية والشافعية على الشافعي و مالك رحمهما الله في هذه المسألة في بعض مواردها, لكنهم لم يغلطوا في أصلها, فإن الأصل في مذهب الشافعي وأصح قوليه: أن ترك الصلاة ليس كفراً, وإذا قيل هذا فإن الجماهير من أهل الحديث على أنه كفر، وهو الراجح من جهة الاختيار, وعليه ظاهر الكتاب والسنة, وظاهر مذهب الصحابة.

الخلاف في تكفير تارك الزكاة
أما مسألة الزكاة فلم يذكر أحد من السلف أن فيها إجماعاً, ودعوى الإجماع فيها غلط، وقد دخل على بعض المتأخرين من أهل العلم من أصحاب أحمد وغيره, فقالوا: إن فيها إجماعاً, ومأخذهم في هذا الإجماع قتال أبي بكر رضي الله تعالى عنه لمانعي الزكاة, وما ذكره أبو عبيد وأمثاله من المتقدمين: أن الصحابة أجمعوا على قتال هؤلاء وأنهم كانوا يرونهم مرتدين، وهذا خلط في المسألة، فإن ترك الزكاة المجرد عن الجحد لها أو القتال عليها لم يجمع السلف على كونه كفراً, وذلك كترك آحاد الناس أن يؤدي زكاة ماله. وثمة فرق بين من ترك الزكاة، وبين من تركها وقاتل على تركها، ولهذا كان أئمة المدينة النبوية كالإمام مالك و الزهري وأمثالهم, وأئمة العراق كـالثوري والإمام أحمد وأمثالهم, وأئمة الشام كـالأوزاعي وأمثاله, يذهبون إلى أن ترك الزكاة ليس كفراً, ولكنهم قرروا أن المقاتلين على منعها كفار. وقد حكى أبو عبيد وجماعة الإجماع على ذلك, وهذا الإجماع ليس في المأثور عن السلف ما يشكل عليه, وهو التفريق بين ترك الزكاة وبين تركها مع المقاتلة, فمن تركها مع المقاتلة فهو كافر. فإن قيل: هل كفر بالترك، أم كفر بالمقاتلة؟ فإن قلت: إنه كفر بالمقاتلة، لزم تكفير كل من قاتل من البغاة, وإن قلت: كفر بالترك, قيل: فالمقاتلة ليست شرطاً. فيقال: هذا فرض يفرضه الذهن, وهو إنما كفر بهما, أي: باجتماعهما, وإلا فإن المقاتلة وحدها لا تستلزم الكفر, والترك وحده كترك آحاد المسلمين الذين لم يقاتلوا لا يستلزم الكفر، نعم. هذا ذهب طائفة من السلف إلى كونه كفراً, وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد , وذهب جماهير السلف إلى أنه ليس كفراً، ويقول الإمام أحمد رحمه الله في الرواية الأخرى: (ليس شيء من العمل تركه كفر إلا الصلاة), والمقصود من هذا: أنه لم يقل أحد من أهل العلم: إن ترك الزكاة تركاً مجرداً عن المقاتلة كفر بالإجماع, ولكن لا يُنتقد من جعله كفراً, فإن القول بكونه كفراً قاله طائفة من السلف وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله.

الخلاف في تكفير تارك الصوم والحج
وأما الصوم والحج فقد ذهب طائفة من السلف إلى أن ترك الصوم كفر, وذهب طائفة من السلف إلى أن ترك الحج كفر, والجماهير من السلف والخلف على أن ترك الصوم وحده أو ترك الحج وحده ليس كفراً. ولا شك أن مسألة الإيمان قد حصل فيها خفض ورفع عند كثير من المتأخرين، فصار بعضهم وإن سموا العمل إيماناً لكنهم لا يجعلونه أصلاً في الإيمان, فلا يكفرون تارك جنس العمل، فمن ترك الصلاة والصيام والزكاة والحج مجتمعة لا يجعلونه كافراً, وفوق ذلك يقع من بعضهم أنهم يجعلون هذا مذهباً لسائر السلف. ولا شك أن هذا من الغلط, إذ كيف يقال إن هذا مذهب لسائر السلف مع شهرة النزاع بين السلف في هذه المباني الأربعة كل على حدة؟! وهذا النزاع المأثور إنما هو في ترك الواحد منها, وأما من جمع تركها فلم ينقل عن أحد من السلف أنه لم ير كفره, ولو أن أصحاب هذا القول قالوا: إن هذا هو أحد القولين لأهل السنة أو لأئمة السلف لكان هذا مما يمكن أن يقع فيه بعض التأويل، لكن أن يقال: إن تركها مجتمعة ليس كفراً عند السلف، مع أنه قد صرَّح طوائف من السلف بأن ترك الواحد منها يكون كفراً, كقول جماهيرهم: إن ترك الصلاة كفر, وقول طائفة منهم: ترك الزكاة كفر، إلى غير ذلك؛ فهذا قول لا شك أن فيه شيئاً من الزيادة. وقابل هذا القول قول من يقول: ترك الصلاة كفر بالإجماع, وقول من يقول: ترك الزكاة كفر بالإجماع, أو من يقول: ترك الصوم أو الحج كفر بالإجماع.

طرق تحصيل مذهب السلف
وهنا مسألة مهمة وهي: كيف يمكن تحصيل مذهب السلف؟ والجواب: أن الطريقة المعتبرة عند المحققين من أرباب السنة والجماعة هي أن مذهب السلف يُعرف بأحد وجهين, واستعمل بعض المتأخرين من متكلمة الصفاتية المعظمين للسنة والجماعة وبعض الفقهاء طريقاً ثالثاً هو الذي يستعمله المعاصرون. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإن قيل: بمَ يُعرف مذهب السلف، ليعلم أن مذهب السلف الذي يضاف إليهم يكون لازم الاتباع, وإذا قيل في مسألة: إنها مذهب للسلف, فإن معنى هذا أنها من معاقد إجماعهم, وأن هذا من الدين اللازم الذي لا تجوز مخالفته أو الاجتهاد بخلافه, ويكون سائر ما خالفه بدعة. ثم قال: ومذهبهم على هذا الوجه يُعرف بأحد طريقين: الطريق الأول: إما بالنقل المتواتر عن أعيانهم, ولا يُعلم عن أحد من الأعيان ما يخالف هذا النقل. بمعنى: أن يستفيض عن أعيان السلف التعبير بجملة, كقولهم مثلاً: الإيمان قول وعمل, وكقولهم: أفعال العباد مخلوقة, وكقولهم: القرآن ليس مخلوقاً, فهذه جمل مستفيضة عن السلف, ولم ينقل عن السلف في ذلك خلاف. الطريق الثاني: بذكر علماء الإسلام الكبار -أي: المعتبرين والمحققين- عن شيء من هذه المسائل أنه مذهب للسلف، ولا شك أن هذا الوجه إنما ينتظم إذا لم يُعرف عن أحد من السلف مخالفة لما ذكره بعض الكبار, وإلا صار هذا من التحصيل المظنون, كقول إسحاق : (أجمع الناس من زمان رسول الله إلى زماننا هذا)، ومعلوم أن إسحاق من الأكابر, لكن لم نقل: إن نقله للإجماع قطعي؛ لكون المخالفة قد ظهرت ممن هم أجل كـالزهري وأمثاله). فهذان الطريقان بهما يُعرف مذهب السلف. ثم قال شيخ الإسلام رحمه الله: (واستعمل كثير من المنتسبين إلى السنة والجماعة من أصحاب الكلام, وبعض الفقهاء من أصحاب الأئمة طريقاً ثالثاً لتحصيل مذهب السلف, وهو أنهم يعتبرون دلائل الكتاب والسنة, فإذا انتظم عندهم مقام الاستدلال على قول ولزم, جعلوا ما انتظم عليه مقام الاستدلال ولزم مذهباً للسلف, لكون السلف لا يخرجون عما لزم من دلائل الكتاب والسنة، وهذا مما يمكن أن نعبِّر عنه بأنه تحصيل مذهب السلف بالفهم). وكتلخيص لهذه المسألة نقول: إما أن يكون مذهب السلف محصلاً بالنقل, وإما أن يكون محصلاً بالفهم. أما تحصيله بالنقل فمن وجهين: الوجه الأول: إما النقل المتواتر المستفيض عن أعيانهم, بأن يصرحوا بعبارات تدل على مذهبهم، كما جاء عنهم في مسألة القرآن أو الرؤية أو غيرها، ولا ينقل مع ذلك خلاف عن أحد من أعيانهم. الوجه الثاني: بتنصيص العلماء المحققين الكبار أن على هذه المسألة إجماع للسلف, أو أنها مذهب للسلف. أما تحصيل مذهب السلف بالفهم: فذلك بأن يجتهد في نصوص الكتاب والسنة، فيرى أن النصوص تحصل مذهباً واحداً لا ثاني له, فيرى أن هذا المذهب الذي تحصل باجتهاده هو وحده الممكن في المسألة ولا يمكن غيره فيجعله مذهباً للسلف؛ لأن الأدلة من الكتاب والسنة لا تدل إلا على هذا القول, والسلف لا يخرجون عن الكتاب والسنة. والتحصيل على هذا الوجه لا شك أنه غلط, ومعلوم أن القول إذا قيل: إنه مذهب للسلف، فمعناه: أن خلافه يكون بدعة.

خطأ نسبة المذهب المعين للسلف بمجرد الفهم
من فروع الوجه الثالث وهو تحصيل مذهب السلف بطريقة الفهم -وهي طريقة غير مناسبة كما ذكر شيخ الإسلام - أن بعض الناظرين في بعض مسائل فقه الشريعة إذا رجح عندهم قول بما استعملوه من الأدلة النبوية المفصلة قالوا: إن من هدي السلف ذلك، فجعلوا تلك المسألة من المسائل التي يحصل بها تمييز للسلفي من غيره، كمسألة وضع اليدين على الصدر بعد القيام من الركوع, فيجتهد بعض أهل العلم من السلفيين فيجعلون السنة في وضعها, طرداً لحديث سهل بن سعد , ويجتهد آخر فيرى أن السنة في عدم وضعها. فلا شك أن كلا الاجتهادين صحيح, ومعنى كونه صحيحاً مع أن الحق في نفس الأمر لا بد أن يكون واحداً، أن كلا القولين من الأقوال الفقهية الممكنة المعروفة عند الفقهاء, لكن الإشكال أن تُجعل السنة اللازمة السلفية هي أحد الوجهين, فمعناه: أن من ترك وضعهما يكون عند طائفة مخالف لهدي السلف, ومن وضعهما يكون عند الطائفة الأخرى مخالف لهدي السلف. ولا شك أن هذا منهج غلط؛ لأنه يلزم على ذلك أن كل من اجتهد في مسألة فقهية, فرجح قولاً هو الظاهر عنده من دلائل الكتاب والسنة؛ أن يجعله هو مذهب السلف, ولا تجد إماماً واحداً من أئمة السلف في مسائل النزاع التي كانوا يتنازعون فيها يطرد هذه الطريقة، أي: يجعل ما خالف قوله يكون بدعة؛ لأنك إن قلت: إن هذا القول هو قول السلف أو هو المذهب السلفي لزم أن يكون خلافه بدعة. فلن تجد أن أحمد كان يعد من خالفه من الفقهاء على بدعة, ولا الشافعي ولا مالكاً ولا أبا حنيفة ولا غيرهم، وإنما تستعمل عبارة: (مذهب السلف) و(الذي عليه أئمتنا) و(الإجماع) إلى غير ذلك في مسائل الأصول, وأما مسائل الفقه المفصلة التي تنازع فيها المتقدمون من السلف, فلا يصح لواحد إذا اختار قولاً من أقوالهم أن يجعله مذهباً للسلف, وهو يعلم أن بعض أئمة السلف يخالفونه في هذا، وإنما يقول: هو أحد قولي السلف, بل لكون مسائل الفقه المختلف فيها بعيدة عن هذه الإضافة السلفية، ترى أن أكثر تعبيرهم يقع باسم الفقه, فيقولون: اختلف الفقهاء, والذي عليه الفقهاء, وأحد قولي الفقهاء, إلى غير ذلك.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
والإيمان, قوله

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:34 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir