تفسير القرآن بلغة العرب
10. تناسب الألفاظ والمعاني
النوع العاشر: تناسب الألفاظ والمعاني.
تناسب الألفاظ والمعاني في القرآن الكريم علم لغوي لطيف المأخذ، عزيز المنال، يلتئم من معرفة صفات الحروف، ودرجاتها، وتناسب ترتيبها، ومراتب الحركات، مع العلم بالاشتقاق، والتصريف، والأشباه والنظائر والفروق اللغوية، وقد اعتنى به جماعة من المفسّرين لفائدته في إحسان تبليغ معاني القرآن، وتقريب دلائل ألفاظه، وهو معين على إدراك التناسب بين بعض الأقوال الصحيحة، والترجيح بين بعض الأوجه التفسيرية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (أكثر المحققين من علماء العربية والبيان يثبتون المناسبة بين الألفاظ والمعاني).
وهذا العلم من العلوم التي لم ينضج التأليف فيها بعد، ولم تزل معالمه بحاجة إلى تشييد وتجديد، وكثير من أبوابه ومسائله بحاجة إلى تأصيل وتفصيل.
ومما يذكره العلماء في مسائل هذا العلم ما هو ظاهر يدركه من له فقه في العربية، وذوق في حسن بيانها، ومنه ما يحتاج في معرفته إلى تفكّر ونظر دقيق في الألفاظ وتركيبها ونظائرها وصفات حروفها وتناسب حركاتها.
نشأة علم التناسب بين الألفاظ والمعاني
لهذا العلم أصول مأثورة عن بعض علماء اللغة المتقدمين كالخليل بن أحمد وسيبويه ومن في طبقتهما.
ثم ابن قتيبة وأبي العباس المبرّد وثعلب ومن في طبقتهم.
ثمّ أبي القاسم الزجاجي وأبي سعيد السيرافي وأبي منصور الأزهري وأبي علي الفارسي ومن في طبقتهم.
لكن كلام هؤلاء الأعلام في هذا العلم إنما هو إشارات متفرقّة لا تبلغ أن يستفاد من مجموعها مادّة كتاب، حتّى أتى أبو الفتح ابن جنّي(ت:392هـ) فحاول كشف مكنونات هذا العلم والتنقيب عن أصوله، وإبراز معالمه؛ فكتب في "الخصائص" باباً سماه "تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني"، وقال فيه: (هذا غَورٌ من العربية لا يُنتَصف منه، ولا يكاد يحاط به، وأكثر كلام العرب عليه، وإن كان غُفْلًا مسهوًّا عنه) إلى آخر ما قال في هذا الباب.
وقال في بيان بعض أنواع مسائله: (من ذلك قول الله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} أي: تزعجهم وتقلقهم، فهذا في معنى تهزّهم هزًّا، والهمزة أخت الهاء؛ فتقارب اللفظان لتقارب المعنيين، وكأنهم خصّوا هذا المعنى بالهمزة لأنها أقوى من الهاء، وهذا المعنى أعظم في النفوس من الهزِّ؛ لأنَّك قد تهزّ ما لا بالَ له كالجذع وساق الشجرة، ونحو ذلك.
ومنه "العَسْف" و"الأسَف"، والعين أخت الهمزة، كما أن الأسف يعسف النفس وينال منها، والهمزة أقوى من العين، كما أن أسف النفس أغلظ من "التردد" بالعسف؛ فقد ترى تصاقب اللفظين لتصاقب المعنيين)ا.هـ.
ثم قال في آخر هذا الباب: (وهذا النحو من الصنعة موجود في أكثر الكلام وفرش اللغة, وإنما بقي من يثيره ويبحث عن مكنونه, بل مَنْ إذا أوضح له وكشفت عنده حقيقته طاع طبعه لها فوعاها وتقبلها. وهيهات ذلك مطلبًا, وعزَّ فيهم مذهبًا)ا.هـ.
ثمّ أتبع هذا الباب باباً طويلاً سمّاه : (إمساسَ الألفاظ أشباه المعاني) وهو من أنواع تناسب الألفاظ والمعاني.
وكان في عصره أحمد بن فارس الرازي(ت:395هـ) صاحب "معجم المقاييس" و"مجمل اللغة" و"الصاحبي في فقه اللغة" وغيرها، وله في هذا العلم كلام حسن متفرّق في كتبه.
ثمّ أتى شيخ الإسلام ابن تيمية(ت:728هـ) فتكلم في أمثلة لهذا العلم بكلام بديع في عدد من كتبه، واستعمله في الترجيح بين بعض الأوجه التفسيرية، والتنبيه على علل بعضها.
وقد ذكر تلميذه النجيب ابن القيّم (ت:751هـ) أنّه سأله عن هذا العلم، فشرح له فيه فصلاً عظيم النفع، وقد وقع هذا الشرح من تلميذه موقعاً حسناً؛ فأخذه وحبّره، وزاد في أمثلته، وفرّع عليه، حتى فتح له في هذا العلم أبواب لطيفة بديعة، وتمنّى أنْ يؤلّف فيه كتاباً مستقلاً، وذكر فيه كلاماً مطوّلاً في كتابه "جلاء الأفهام" ثم قال: (وهذا أكثر من أن يحاط به، وإن مدَّ الله في العمر وضعت فيه كتاباً مستقلاً إن شاء الله تعالى، ومثل هذه المعاني تستدعي لطافة ذهن ورقة طبع، ولا تتأتَّى مع غلظ القلوب، والرضا بأوائل مسائل النحو والتصريف، دون تأمّلها وتدبّرها والنظر إلى حكمة الواضع، ومطالعة ما في هذه اللغة الباهرة من الأسرار التي تدقّ على أكثر العقول، وهذا باب ينبّه الفاضل على ما وراءَه {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور}).ا.هـ
وكان الذي جرّه إلى هذا الاستطراد شرح معنى الميم في "اللهمّ" فذكرَ الأقوال فيها وبيّن مآخذها وعللها ثمّ قال: (وقيل: زيدت الميم للتعظيم والتفخيم كزيادتها في زُرْقُم لشديد الزرقة، وابنم في الابن، وهذا القول صحيح ولكن يحتاج إلى تتمة، وقائله لحظَ معنى صحيحاً لا بد من بيانه، وهو أنَّ الميم تدل على الجمع وتقتضيه، ومخرجها يقتضي ذلك، وهذا مطرد على أصل من أثبت المناسبة بين اللفظ والمعنى، كما هو مذهب أساطين العربية وعقد له أبو الفتح بن جني بابا في الخصائص، وذكره عن سيبويه، واستدلَّ عليه بأنواع من تناسب اللفظ والمعنى، ثم قال: "ولقد كنت برهة يرد علي اللفظ لا أعلم موضوعه وآخذ معناه من قوة لفظه ومناسبة تلك الحروف لذلك المعنى ثم أكشفه فأجده كما فهمته أو قريبا منه" فحكيت لشيخ الإسلام هذا عن ابن جني؛ فقال: "وأنا كثيرا ما يجري لي ذلك".
ثم ذكر لي فصلاً عظيم النفع في التناسب بين اللفظ والمعنى، ومناسبة الحركات لمعنى اللفظ، وأنهم في الغالب يجعلون الضمة التي هي أقوى الحركات للمعنى الأقوى، والفتحة الخفيفة للمعنى الخفيف، والمتوسطة للمتوسط:
فيقولون: "عزَّ يَعَزُّ" بفتح العَين إذا صلب، وأرض عزاز: صلبة.
ويقولون: "عَزَّ يَعِزُّ بكسرها، إذا امتنع، والممتنع فوق الصلب؛ فقد يكون الشيء صلباً ولا يمتنع على كاسره.
ثم يقولون: عزَّه يَعُزُّه إذا غَلَبَه، قال الله تعالى في قصة داود عليه السلام: {وعزني في الخطاب}.
والغلبة أقوى من الامتناع؛ إذ قد يكون الشيء ممتنعاً في نفسه، متحصناً من عدوّه، ولا يَغْلِب غيرَه؛ فالغالب أقوى من الممتنع؛ فأعطوه أقوى الحركات، والصلب أضعف من الممتنع؛ فأعطوه أضعف الحركات، والممتنع المتوسط بين المرتبتين؛ فأعطوه حركة الوسط). إلى آخر ما قال، وهو فصل طويل.
وهذا نوع من أنواع تناسب الألفاظ والمعاني.
وقال ابن القيّم أيضاً: (الألفاظ مشاكلة للمعاني التي هي أرواحها، يتفرَّس الفطنُ فيها حقيقة المعنى بطبعه وحسّه كما يتعرّف الصادقُ الفراسةَ صفاتِ الأرواح في الأجساد من قوالبها بفطنته، وقلت يوما لشيخنا أبي العباس بن تيمية قدس الله روحه: "قال ابن جني: مكثت برهة إذا ورد علي لفظ آخذ معناه من نفس حروفه وصفاتها وجرسه وكيفية تركيبه ثم أكشفه؛ فإذا هو كما ظننته أو قريبا منه.
فقال لي رحمه الله: وهذا كثيرا ما يقع لي".
وتأمَّل حرف "لا" كيف تجدها لاماً بعدها ألِفٌ يمتدّ بها الصوت ما لم يقطعه ضيق النفس؛ فآذَنَ امتدادُ لفظها بامتداد معناها ولن بعكس ذلك؛ فتأمَّله فإنه معنى بديع.
وانظر كيف جاء في أفصح الكلام كلام الله: {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً} بحرف "لا" في الموضع الذي اقترن به حرف الشرط بالفعل؛ فصار من صيغ العموم؛ فانسحب على جميع الأزمنة وهو قوله عز وجل: {إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} كأنه يقول: متى زعموا ذلك لوقت من الأوقات أو زمن من الأزمان وقيل لهم: تمنوا الموت فلا يتمنونه أبدا.
وحرف الشرط دلَّ على هذا المعنى، وحرف "لا" في الجواب بإزاء صيغة العموم لاتساع معنى النفي فيها.
وقال في سورة البقرة: {ولن يتمنوه} فقصر من سعة النفي وقرَّب لأن قبله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ} لأنَّ "إن كان" هنا ليست من صيغ العموم؛ لأن كان ليست بدالة على حدث، وإنما هي داخلة على المبتدأ والخبر عبارة عن مضي الزمان الذي كان فيه ذلك الحدث؛ فكأنه يقولُ عزَّ وجلَّ إن كان قد وجبت لكم الدار الآخرة وثبتت لكم في علم الله فتمنوا الموت الآن ثم قال في الجواب: {ولن يتمنوه} فانتظم معنى الجواب بمعنى الخطاب في الآيتين جميعا)ا.هـ.
ائتلاف الألفاظ والمعاني عند أهل البديع
مما ينبغي التنبّه له أنّ أهل البديع لهم عناية بما يقارب هذا العلم في اسمه ويخالفه في بحث مسائله؛ ففي عدد من كتب البديع باب في "ائتلاف اللفظ والمعنى"، وأوّل من ذكر هذا الباب قدامة بن جعفر في كتابه "نقد الشعر" وجعل له أنواعاً، ثمّ تبعه جماعة من أهل البديع، فزادوا عليه فيها، وضمّ بعضهم إلى أنواعه أنواعاً أخرى، ومنهم من يسمّيها "التهذيب والتأديب"
وكلّ تلك المباحث غير داخلة فيما نحن بصدده من ذكر مناسبة الألفاظ في صفات حروفها وترتيبها وحركاتها وطريقة نطقها للمعاني الدالة عليها وإن لم تكن في جمل مفيدة.
وسألخّص ما ذكره أهل البديع في باب "ائتلاف اللفظ والمعنى" حتى يحصل تصوّر ما يريده أهل البديع، ويُعرف اختلافُه عن موضوع علم التناسب بين الألفاظ والمعاني.
فما ذكره أهل البديع في "ائتلاف اللفظ والمعنى" راجع إلى الموازنة بين الألفاظ والمعاني من جهة مقدار الدلالة فيهما، ولذلك يقسّمونها إلى إيجاز ومساواة وإطناب، ويتفرّع على هذه الدرجات أنواع أخرى: كالإشارة والإرداف والمقابلة وغيرها.
أ. فأمّا الإشارة، فهي أن تدلّ بألفاظ قليلة على معنى كثير لا تقتضيه دلالة الألفاظ بوضعها، ولكن بتنبيهها وإشارتها.
ومثاله قوله تعالى: {كانا يأكلان الطعام} فأشارت هذه الألفاظ اليسيرة إلى معانٍ كثيرة، ودلّت على حجج بليغة في الردّ على النصارى الذين غلوا في عيسى وأمّه وادّعوا فيهما الألوهية:
- منها: احتياجهما إلى الطعام كسائر البشر، والمحتاج لا يصلح أن يكون إلهاً.
- ومنها أن لهما مالآكل الطعام من الجوف والقنوات التي يتصرف فيها الطعام داخل الجسم، وأنّ الذي قَدّر لهما تصريف الطعام في أجسادهما إنما هو الله، وأنّ الذي لا يستطيع أن يدبّر تصريف الطعام الذي يأكله في جسده كيف يستطيع تدبير شؤون الخلق؟!!
- ومنها أنّ آكل الطعام عرضة للجوع والأمراض، وقد قيل: فإنّ الداء أكثر ما تراه .. يكون من الطعام أو الشراب
- ومنها: أن آكل الطعام محتاج إلى إخراج فضلاته، والإله الحقّ إنما هو القدوس السلام المتنزّه عما لا يليق بجلاله وعظمته.
فانظر كيف دلّت هذه الإشارة الوجيزة على معانٍ كثيرة وحجج بليغة.
ومثال هذا النوع في الشعر:
قول حجل بن نضلة: جاء شقيقٌ عارضاً رمحه .. إن بني عمّك فيهم رماح
فقوله: (عارضاً رمحه) وقوله: (فيهم رماح) فيهما إشارة إلى ما ورائهما من المعاني التي ترك الشاعرُ ذِكْرَها، واكتفى بالتنبيه عليها.
ب: وأمّا المساواة؛ فقد عرّفها أبو هلال العسكري بأن تكون المعاني بقدر الألفاظ، والألفاظ بقدر المعاني، لا يزيد بعضها على بعض، وهو المذهب المتوسط بين الإيجاز والإطناب، ومثّل له بقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}.
ومثّل له قدامة بن جعفر بقول امرئ القيس:
فإن تكتمُوا الداءَ لا نخفهِ ... وإن تبعَثُوا الحربَ لا نقعدِ
وإن تقتلونَا نقتّلكمُ ... وإن تقصدُوا لدمٍ نقصدِ
ج: وأمّا الإرداف، فهو أن تدلّ على معنى بلفظ غير مباشر الدلالة عليه يكون كالمرادف للعبارة الأصلية، وقد مثّل له قدامة بن جعفر بقول عمر بن أبي ربيعة:
بعيدة مهوى القرط إما لنوفل .. أبوها وإما عبد شمس وهاشم
فعبّر عن طول عنقها بلفظ مرادف، وهو بُعْد مهوى القرط.
د. وأمّا المقابلة فهي أن تُوائم بين لفظين لمناسبة معنوية على جهة المقابلة، ومثاله: قوله تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار} فقابل الركون بالمسّ؛ وبينهما مناسبة معنوية من جهة أنّ الراكن إلى شيء أوّل ما يتحقق به ركونه إليه هو مماسّته له، وكان السامع يتوقّع الإخبار عمّا يحصل بهذا الركون؛ فناسب أنّ يكون جزاء الراكنِ أن تمسّه النار لا أن يمسّ هو ما يطمئنّ إليه، وفي الآية مقابلة أخرى بديعة وهي مقابلة الفعل بالفعل جزاء وفاقاً؛ فلما ابتدأوا الركون بكونهم الفاعلين في {تركنوا}، كان من جزائهم أن تبدأهم النار بالمسّ، ولذلك قال {فتمسّكم النار} ولم يقل [فتمسّوا النار].
ولأهل البديع في هذا الباب تفصيل طويل، ومما ذكروه في هذا الباب ما هو حَسَنٌ ظاهر الحسن، ومنه ما فيه نظر.
والمقصود التنبيه على الفرق بين ما أراده أهل البديع ببحثهم "ائتلاف اللفظ والمعنى" وبين علم تناسب الألفاظ والمعاني.
وإن كان بعضهم قد يُدخل فيه ما يَدخُل في هذا العلم كقول ابن أبي الإصبع المصري: (ومن ائتلاف اللفظ مع المعنى أن يكون اللفظ جزلاً إذا كان المعنى فخماً، ورقيقاً إذا كان المعنى رشيقاً، وغريباً إذا كان المعنى غريباً بحتاً).
أنواع مسائل التناسب بين الألفاظ والمعاني
النظر في أقوال العلماء في مسائل تناسب الألفاظ والمعاني يدلّ على أنّها على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: تناسب صفات الحروف وترتيبها للمعنى المدلول عليه باللفظ، حتى كأنّها تحكي المعنى بجَرْسها وطريقة نطقها.
والنوع الثاني: تناسب الحركات ومراتبها، ودلالتها على الفروق المتناسبة بين دلائل الألفاظ على المعاني.
والنوع الثالث: مناسبة أحرف الزيادة في الجملة لمعنى الكلام.
وهذه الأنواع متآلفة غير متزايلة، فقد تجتمع كلها في جملة واحدة، وإنما الغرض من التقسيم بيان طرق العلماء في الحديث عن كلّ نوع منها.
وقد يظهر للناظر في مجموع كلامهم من التأصيل والزيادة ما يظهر.
ولا أدّعي أنّ هذه الأنواع حاصرة لأنواع التناسب، لكنّها بحسب ما وقفت عليه، وقد يقع للمستزيد أنواع أخرى بحسب نظره وتأمّله.
وسأمثّل لكلّ نوع بما يبيّنه إن شاء الله تعالى.
النوع الأول: تناسب صفات الحروف وترتيبها.
وهذا النوع هو أخصّ أنواع التناسب وأنفعها، وله أمثلة ظاهرة الدلالة على المراد، وقد قيل: (الألفاظ في الأسماع كالصور في الأبصار).
ولبعض العلماء عناية بهذا النوع، ومن أمثلة ما ذُكِرَ فيه:
ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان معنى "الصمد": (إذا قيل: الصمد بمعنى المصمت وأنه مشتق منه بهذا الاعتبار؛ فهو صحيح فإن الدال أخت التاء؛ فإن الصمت السكوت وهو إمساك. وإطباق للفم عن الكلام. قال أبو عبيد: المصمت الذي لا جوف له وقد أصمته أنا وباب مصمت قد أبهم إغلاقه. والمصمت من الخيل البهيم أي لا يخالط لونه لون آخر ومنه قول ابن عباس: إنما حرم من الحرير المصمت فالمصمد والمصمت متفقان في الاشتقاق الأكبر، وليست الدال منقلبة عن التاء، بل الدال أقوى، والمصمد أكمل في معناه من المصمت، وكلما قوي الحرف كان معناه أقوى؛ فإن لغة العرب في غاية الإحكام والتناسب ولهذا كان الصمت إمساك عن الكلام مع إمكانه والإنسان أجوف يخرج الكلام من فيه لكنه قد يصمت بخلاف الصمد فإنه إنما استعمل فيما لا تفرق فيه كالصمد، والسيد، والصَّمْد من الأرض، وصماد القارورة ونحو ذلك؛ فليس في هذه الألفاظ المتناسبة أكمل من ألفاظ "الصمد" فإن فيه الصاد والميم والدال، وكل من هذه الحروف الثلاثة لها مزية على ما يناسبها من الحروف، والمعاني المدلول عليها بمثل هذه الحروف أكمل)ا.هـ.
وقال ابن القيّم رحمه الله: (انظر إلى تسميتهم الغليظ الجافي بالعتل والجعظري والجواظ كيف تجد هذه الألفاظ تنادي على ما تحتها من المعاني)ا.هـ.
وقال أيضاً: (تأمل قولهم: "حجر" و"هواء" كيف وضعوا للمعنى الثقيلِ الشديدِ هذه الحروفَ الشديدةَ، ووضعوا للمعنى الخفيفِ هذه الحروفَ الهوائيةَ التي هي من أخف الحروف)ا.هـ.
وقريب من ذلك ما قيل في لفظ "يصطرخون" في قول الله تعالى: {وهم يصطرخون فيها} وأنّ صفات هذه الحروف وترتيبها مشعر بمعناها، حتى لو قُدّر وجود مَن تطرق سمعَه هذه اللفظة لأوّل مرّة، وذُكرت له في موضعها، لهداه جرْسُها وتناسب حروفها إلى معرفة معناها، وأنّ أهل النار تتعالى أصواتهم فيها صراخاً وتألّماً واضطراباً وطلباً للنجدة، ودلَّ ضمير "هم" على التمكن والاختصاص، والفعل المضارع على التجدد؛ فصوّرت هذه الآية معنى بليغاً واختصرت شرحاً كثيراً للحال المخزية والمؤلمة للكفار في النار.
وكذلك "يصَّعَّد" في قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} كأنّها تحكي حال الصعود وضيق النَفَس به، وما يعالجه الصاعدُ من الكرب والضيق.
النوع الثاني: تناسب الحركات ومراتبها
تقدّم ذكر ما نقله ابن القيّم عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية في دلالات مراتب الحركات في "عزّ يعزّ".
ونَظَرُ العارف اللبيب في دلائل الحركات وترتيبها في اللفظة يهديه إلى تصوّر معناها في الذهن.
قال ابن القيم رحمه الله: (تأمّل قولهم: "دار دَوَرَانا" و"فارت القِدْرُ فَوَرَانا" و"غَلَتْ غَلَيَانا" كيف تابعوا بين الحركات في هذه المصادر لتتابع حركة المسمى؛ فطابق اللفظ المعنى)ا.هـ.
وقال أيضاً: (وانظر إلى تسميتهم الطويل بالعَشَنَّق، وتأمَّل اقتضاء هذه الحروف ومناسبتها لمعنى الطويل، وتسميتهم القصير بالبُحْتُر، وموالاتهم بين ثلاث فتحات في اسم الطَّويل وهو العَشَنَّق، وإتيانهم بضمتين بينهما سكون في البُحْتُر؛ كيف يقتضي اللفظ الأول انفتاح الفم وانفراج آلات النطق وامتدادها، وعدم ركوب بعضها بعضا، وفي اسم البُحْتُر الأمر بالضد.
وتأمَّل قولهم: "طَال الشيءُ فهو طويل"، و"كَبُرَ فهو كَبير"؛ فإن زاد طوله قالوا: طُوالا وكُبارا؛ فأتوا بالألف التي هي أكثر مدا وأطول من الياء في المعنى الأطول؛ فإن زاد كِبَر الشيء وثَقُلَ مَوقِعُه من النفوس ثقَّلوا اسمه فقالوا "كُبَّارا" بتشديد الباء.
ولو أطلقنا عنان القلم في ذلك لطال مداه واستعصى على الضبط)ا.هـ.
النوع الثالث: مناسبة أحرف الزيادة في الجملة لمعنى الكلام
ومن أحسن من وجدته تكلّم في هذا النوع مصطفى صادق الرافعي (ت:1356هـ) في كتابه "إعجاز القرآن والبلاغة النبوية"، وذكر له أمثلة حسنة، منها قوله: (الكلمات التي يظن أنها زائدة في القرآن كما يقول النحاة، فإن فيه من ذلك أحرفًا: كقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} وقوله: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} فإن النحاة يقولون إن "ما" في الآية الأولى و"أن" في الثانية، زائدتان، أي: في الإعراب؛ فيظن من لا بصر له أنهما كذلك في النظم ويقيس عليه، مع أن في هذه الزيادة لونًا من التصوير لو هو حذف من الكلام لذهب بكثير من حسنه وروعته.
- فإن المراد بالآية الأولى: تصوير لين النبي صلى الله عليه وسلم لقومه، وإن ذلك رحمة من الله، فجاء هذا المد في "ما" وصفًا لفظيا يؤكد معنى اللين ويفخمه، وفوق ذلك فإن لهجة النطق به تشعر بانعطاف وعناية لا يبتدأ هذا المعنى بأحسن منهما في بلاغة السياق، ثم كان الفصل بين الباء الجارة ومجرورها "وهو لفظ رحمة" مما يلفت النفس إلى تدبر المعنى وينبه الفكر على قيمة الرحمة فيه، وذلك كله طبعي في بلاغة الآية كما ترى.
- والمراد بالثانية: تصوير الفصل الذي كان بين قيام البشير بقميص يوسف وبين مجيئه لبعد ما كان بين يوسف وأبيه عليهما السلام, وأن ذلك كأنه كان منتظرًا بقلق واضطراب تؤكدهما وتصف الطرب لمقدمه واستقراره، غنة هذه النون في الكلمة الفاصلة؛ وهي "أن" في قوله: "أن جاء".
وعلى هذا يجري كل ما ظن أنه في القرآن مزيد: فإن اعتبار الزيادة فيه وإقرارها بمعناها، إنما هو نقص يجل القرآن عنه، وليس يقول بذلك إلا رجل يعتسف الكلام ويقتضي فيه بغير علمه أو بعلم غيره ... فما في القرآن حرف واحد إلا ومعه رأي يسنح في البلاغة، من جهة نظمه، أو دلالته، أو وجه اختياره، بحيث يستحيل ألبتة أن يكون فيه موضع قلق أو حرف نافر أو جهة غير محكمة أو شيء مما تنفذ في نقده الصنعة الإنسانية من أي أبواب الكلام إن وسعها منه باب)ا.هـ.
صعوبات علم التناسب بين الألفاظ والمعاني
الباحث في هذا العلم تعترضه صعوبات كثيرة من أبرزها:
قلة مراجع هذا العلم، وندرة أمثلته المشروحة، ولذلك يحتاج الباحث فيه إلى قريحة ونباهة تعينه على استخراج الأمثلة وشرحها وحسن البيان عنها.
القول باطّراد ما ذكر من قواعد التناسب في جميع ألفاظ العربية، وهي قضيّة كبيرة ما تزال محلّ نظر واجتهاد، وعندي أنّها نظير القول باطّراد معاني الاشتقاق، والسبيل إلى حلّ هذه المعضلة لا يتمّ إلا بأمرين:
أحدهما: الكشف عن قواعد مطّردة تتبيّن بها أصول التناسب وتطبيقاته، ولو على وجه العموم.
والآخر: الكشف عن علل عدم الاطّراد؛ فإنّ لكثير من القواعد شواذّ وموانع من استغراقها لما يندرج تحتها.
ومما بُذل من الجهود المشكورة في هذا العلم في هذا العصر كتاب "تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني"، للدكتور عبد الكريم محمد حسن جبل، وهو مطبوع في جزأين، وقد حاول فيه إجراء دراسة تحليلية استقرائية للجذور الثلاثية، إلا أنّ القيود التي وضعها على مجال البحث جعلته ينحى منحى الانتقاء لا القيام بحقيقة الاستقراء، وعذره أنّ الاستقراء التامّ يُحتاج فيه إلى عمل مؤسسي يقوم عليه جماعة من الباحثين المتأهلين.
ودراسته جديرة بالنظر، يمكن الاستفادة منها، والبناء عليها للوصول إلى تحقيق المراد من حسن التأصيل لهذا العلم.
فائدة معرفة تناسب الألفاظ والمعاني للمفسّر
ينبغي أن يكون المفسّر على قدر من المعرفة بتناسب الألفاظ والمعاني، ولو أنّ يتأمّل الأمثلة التي ذكرها العلماء، ويُعمِل الذهن في نظائرها؛ فإنّه يستفيد بذلك من حسن البيان عن معاني القرآن، والتأثير على قلوب المتلقّين، ما لا يدركه بالعلوم الأخرى.
ومن الأمثلة التي يتّضح بها المراد - إن شاء الله تعالى - تفسيرُ "ضيزى" في قول الله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)}
فتأمَّلْ حروفَ "ضيزى" في هذا الموضع تجد هذا اللفظ منادياً على معناه من الغرابة، والتشنيع، والجور، والنقصان، والاعوجاج.
ذلك أنّ الضَّيز في اللغة يفسّر بالجور وبالنقص وبالاعوجاج، وهذه الأوصاف القبيحة قد جمعتها هذه القسمة الجائرة الناقصة المعوجّة.
وأقوال السلف في تفسيرها قد انتظمت معانيها في اللغة:
1. فقال مجاهد: عوجاء، وقال به من أصحاب المعاجم اللغوية: ابن دريد وابن فارس في معجم المقاييس وابن سيده.
2. وقال قتادة: جائرة، وقال به من أهل اللغة: أبو زيد الأنصاري، والجوهري، وابن فارس في مجمل اللغة، وأبو بشر البندنيجي في كتابه "التفقيه في اللغة"، وأنشد شاهداً له قول الشاعر:
فبات يضوز التمرَ والتمر معجب .. بِوَرْدٍ كَلَوْنِ الأُرجوان سبائبه
3. وقال سفيان الثوري: منقوصة، يقال: ضزته حقَّه أضيزه، وضأزتُه أضأزه إذا نقصته، وقال به من أهل اللغة: الخليل بن أحمد، وأنشد ابن الأنباري شاهداً عليه قول الشاعر:
إن تنأ عنا ننتقصك وإن تؤب ... فحظك مضؤوزٌ وأنفُك راغمُ
وهذه المعاني كلّها صحيحة في اللغة.
وفي ضيزى لغات منها: "ضِئزى" بالهمز وهي قراءة ابن كثير، وضَيزى وفيها قراءة نسبت إلى أبيّ بن كعب، وضَأزى، وضُؤزى.
وقد أفاد تركيب حروف هذه اللفظة، وغرابة استعمالها معنى الغرابة والتشنيع، وتقبيح هذه القسمة، وحكاية حقيقتها.
وأفاد بناؤها الصرفي على مثال "فُعلى" الدلالةَ على بلوغ منتهى الغاية في الضيز، وهذا فيه تبكيت وتشنيع على المشركين إذْ بلغت قسمتهم ما لا أضأز منه؛ فهي قسمة ضيزى.
ولو أدرت الألفاظ العربية لفظةً لفظةً لم تجد لفظاً أنسب من هذا اللفظ في هذا الموضع، مع موافقتها لفواصل الآي.
قال مصطفى صادق الرافعي(ت:1356هـ): (وفي القرآن لفظة غريبة هي من أغرب ما فيه، وما حسنت في كلام قط إلا في موقعها منه، وهي كلمة "ضيزى" من قوله تعالى: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} ومع ذلك فإن حسنها في نظم الكلام من أغرب الحسن وأعجبه؛ ولو أردت اللغة عليها ما صلح لهذا الموضع غيرها؛ فإن السورة التي هي منها وهي سورة النجم، مفصلة كلها على الياء؛ فجاءت الكلمة فاصلة من الفواصل ثم هي في معرض الإنكار على العرب؛ إذ وردت في ذكر الأصنام وزعمهم في قسمة الأولاد، فإنهم جعلوا الملائكة والأصنام بنات الله مع أولادهم البنات؛ فقال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} فكانت غرابة اللفظ أشد الأشياء ملاءمة لغرابة هذه القسمة التي أنكرها، وكانت الجملة كلها كأنها تصور في هيئة النطق بها الإنكار في الأولى والتهكم في الأخرى؛ وكان هذا التصوير أبلغ ما في البلاغة، وخاصة في اللفظة الغريبة التي تمكنت في موضعها من الفصل، ووصفت حالة المتهكم في إنكاره من إمالة اليد والرأس بهذين المدين فيها إلى الأسفل والأعلى، وجمعت إلى كل ذلك غرابة الإنكار بغرابتها اللفظية.
والعرب يعرفون هذا الضرب من الكلام، وله نظائر في لغتهم، وكم من لفظة غريبة عندهم لا تحسن إلا في موضعها، ولا يكون حسنها على غرابتها إلا أنها تؤكد المعنى الذي سبقت له بلفظها وهيئة منطقها، فكأن في تأليف حروفها معنى حسيا، وفي تآلف أصواتها معنى مثله في النفس؛ وقد نبهنا إلى ذلك في باب اللغة من تاريخ آداب العرب)ا.هـ.
وقال عبد الرحمن بن حسن حبنكة الميداني(ت: 1425هـ ) في كتابه "البلاغة العربية": (ونلاحظ أنّ اختيار كلمة "ضِيزَى" في هذا الموضع دون الكلمات التي تُؤدّي معناها له نُكْتَتَان: معنوية، ولفظيّة.
- أما المعنويّة فهي الإِشعار بقباحة التعامل مع الرّبّ الخالق بقسمة جائرة، يختار المشركون فيها لأنفسهم الذكور ويختارون فيها لربّهم الإِناث، عن طريق استخدام لفظ يدلُّ بحروفه على قباحة مُسَمَّاه.
- وأمّا اللفظية فهي مراعاة رؤوس الآي، في الآيات قبلها، وفي الآيات بَعْدَها)ا.هـ.
خاتمة الحديث عن أنواع العناية اللغوية بالألفاظ القرآنية
الناظر في الأنواع العشرة المتقدّم ذكرها يتبيّن له ما بذله علماء هذه الأمّة من جهد كبير في العناية بالقرآن العظيم على مرّ القرون، فأقاموا سنن البحث العلمي ودراسة المعاني والألفاظ، وهذه السنن ينبغي أن تكون دائمة متنامية في الأمة، وأن تتجدد بتجدد وسائل المعرفة وإمكانات البحث العلمي.
وكثير من الأعمال المبذولة في كلّ علم قد يجد المتأخر فيها مجالاً رحباً لعمل يقوم به يفيد في تقريبها وتيسيرها للمتعلّمين، ويعين على تحقيق كثير من مسائلها.
وما مضى من الشرح والبيان لتلك الأنواع إنما هو على سبيل التلخيص والإيجاز، وإنما ذكرت في كلّ نوع أمثلة يسيرة؛ لتقريب تصوّر تلك العلوم، وبيان طرق بحث مسائلها، وفائدتها للمفسّر.
وهذه الأنواع منها ما هو داخل في صميم التفسير اللغوي، ومنها ما هو من أنواع عناية علماء اللغة بألفاظ القرآن الكريم، وله صلة بالتفسير اللغوي من أوجه متعددة.
وليس بعد فتح الباب وتمهيد الطريق إلا السير فيه بجدّ، والأخذ من تلك العلوم بحظوظ وافرة؛ فإنّ المفسّر كلما ازداد نصيبه من العلوم اللغوية وحسنت معرفته ببحث مسائلها ازداد تحقيقه لمسائل التفسير، وحَسُنَت معرفته بطرق التمييز بين الأقوال الصحيحة والخاطئة، وعرف كيف يخرّج أقوال السلف في التفسير على أصول لغوية صحيحة، وكيف يستخرج المعاني الدقيقة والأوجه التفسيرية اللطيفة، وتوسّعت معرفته بطرق الإبانة عنها.
وأسأل الله تعالى لي ولكم التوفيق والسداد، والقبول والرشاد.