وَجِمَاعُ الأَمْرِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يَحْصُلُ مِنْهُمَا كَمَالُ الْهُدَى وَالنُّورِ لِمَنْ تَدَبَّرَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ، وَقَصَدَ اتِّبَاعَ الْحَقِّ وَأَعْرَضَ عَنْ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَالإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ.
وَلا يَحْسَبُ الْحَاسِبُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يُنَاقِضُ بَعْضَهُ بَعْضًا الْبَتَّةَ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ يُخَالِفُهُ فِي الظَّاهِرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ}.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ )) وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا غَلَطٌ.
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ مَعَنَا حَقِيقَةً، وَهُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ حَقِيقَةً كَمَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هو الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }.
فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ مَعَنَا أَيْنَمَا كُنَّا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الأَوْعَالِ: ( وَاللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ).
وَذَلِكَ أَنَّ كَلِمَةَ ( مَعَ ) فِي اللُّغَةِ إِذَا أُطْلِقَتْ فَلَيْسَ ظَاهِرِهَا فِي اللُّغَةِ إِلاَّ الْمُقَارَنَةُ الْمُطْلَقَةُ مِنْ غَيْرِ وُجُوبِ مُمَاسَّةٍ أَوْ مُحَاذَاةٍٍ عَنْ يَمِينٍ أو َشِمَالٍ، فَإِذَا قُيِّدَتْ بِمَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي دَلَّتْ عَلَى الْمُقَارَنَةِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَإِنَّهُ يُقَالُ: مَا زِلْنَا نَسِيرُ وَالْقَمَرَ مَعَنَا، أَو النَّجْمَ مَعَنَا. وَيُقَالُ: هَذَا الْمَتَاعُ مَعِي لِمُجَامَعَتِهِ لَكَ، وَإِنْ كَانَ فَوْقَ رَأْسِكَ(1).
فَاللَّهُ مَعَ خَلْقِهِ حَقِيقَةً، وَهُوَ فَوْقَ عَرْشِهِ حَقِيقَةً. ثُمَّ هَذِهِ الْمَعِيَّةُ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا بِحَسَبِ الْمَوَارِدِ، فَلَمَّا قَالَ: {َعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ } دَلَّ ظَاهِرُ الْخِطَابِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْمَعِيَّةِ وَمُقْتَضَاهَا أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْكُمْ، شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ وَمُهَيْمِنٌ عَالِمٌ بِكُمْ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ: ( إِنَّهُ مَعَهُمْ بِعِلْمِهِ ) وَهَذَا ظَاهِرُ الْخِطَابِ وَحَقِيقَتُهُ.
وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } إِلَى قَوْلِهِ: { وَهُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا } الآية، وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبِهِ فِي الْغَارِ: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } كَانَ هَذَا أيضًا حَقًّا عَلَى ظَاهِرِهِ، وَدَلَّت الْحَالُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْمَعِيَّةِ هُنَا – مَعَية الاطِلاَّعِ - النَّصْرُ وَالتَّأْيِيدُ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُّحْسِنُونَ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِمُوسَى وَهَارُونَ: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}هُنَا الْمَعِيَّةُ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَحُكْمُهَا فِي هَذَا الْمَوْطِنِ النَّصْرُ وَالتَّأْيِيدُ.
وَقَدْ يَدْخُلُ عَلَى صَبِيٍّ مَنْ يُخِيفُهُ فَيَبْكِي فَيُشْرِفُ عَلَيْهِ أَبُوهُ مِنْ فَوْقِ السَّقْفِ وفيَقُولُ: لاَ تَخَفْ أَنَا مَعَكَ، أَوْ أَنَا هنا أو حَاضِرٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ، يُنَبِّهُهُ عَلَى الْمَعِيَّةِ الْمُوجِبَةِ بِحُكْمِ الْحَالِ دَفْعَ الْمَكْرُوهِ، فَفَرْقٌ بَيْنَ مَعْنَى الْمَعِيَّةِ وَبَيْنَ مُقْتَضَاهَا، وَرُبَّمَا صَارَ مُقْتَضَاهَا مِنْ مَعْنَاهَا، فَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْمَوَاضِعِ.
فَلَفْظُ الْمَعِيَّةِ قَد اُسْتُعْمِلَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي مَوَاضِعَ يَقْتَضِي فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أُمُورًا لاَ يَقْتَضِيهَا فِي الْمَوْضِعِ الآخَرِ، فَإِمَّا أَنْ تَخْتَلِفَ دَلاَلَتُهَا بِحَسَبِ الْمَوَاضِعِ، أَوْ تَدُلَّ عَلَى قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ جَمِيعِ مَوَارِدِهَا - وَإِن امْتَازَ كُلُّ مَوْضِعٍ بِخَاصِّيَّةٍ - فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَيْسَ مُقْتَضَاهَا أَنْ تَكُونَ ذَاتُ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ مُخْتَلِطَةً بِالْخَلْقِ حَتَّى يُقَالَ قَدْ صُرِفَتْ عَنْ ظَاهِرِهَا.
وَنَظِيرُهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ الرُّبُوبِيَّةُ وَالْعُبُودِيَّةُ، فَإِنَّهَما وَإِن اشْتَرَكَتْ فِي أَصْلِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالتَّعْبِيدِ فَلَمَّا قَالَ: {رَبِ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } كَانَتْ رُبُوبِيَّةُ مُوسَى وَهَارُونَ لَهَا اخْتِصَاصٌ زَائِدٌ عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْخَلْقِ، فَإِنَّ مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْكَمَالِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى غَيْرَهُ: فَقَدَ رَبَّهُ وَرَبَّاهُ، وَرُبُوبِيَّتُهُ وَتَرْبِيَتُهُ أَكْمَلُ مِنْ غَيْرِهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا } وَ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً }.
فَإِنَّ الْعَبْدَ تَارَةً يَعْنِي بِهِ الْمُعَبَّدَ فَيَعُمُّ الْخَلْقَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ
عَبْدًا }، وَتَارَةً يَعْنِي بِهِ الْعَابِدَ فَيَخُصُّ، ثُمَّ يَخْتَلِفُونَ، فَمَنْ كَانَ أَعْبَدَ عِلْمًا وَحَالاً، كَانَتْ عُبُودِيَّتُهُ أَكْمَلَ(2).
فَكَانَت الإِضَافَةُ فِي حَقِّهِ أَكْمَلَ، مَعَ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ. مِثْلُ هَذِهِ الأَلْفَاظِ يُسَمِّيهَا بَعْضُ النَّاسِ ( مُشَكِّكَةً ) لِتَشْكِيكِ الْمُسْتَمِعِ فِيهَا، هَلْ هِيَ مِنْ قِبَيلِ الأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ، أَوْ مِنْ قِبَيلِِ الْمُشْتَرِكَةِ فِي اللَّفْظِ فَقَطْ، وَالْمُحَقِّقُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا لَيْسَتْ خَارِجَةً عَنْ جِنْسِ الْمُتَوَاطِئَةِ; إِذْ وَاضِعُ اللُّغَةِ إِنَّمَا وَضَعَ اللَّفْظَ بِإِزَاءِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَإِنْ كَانَتْ نَوْعًا مُخْتَصًّا مِنَ الْمُتَوَاطِئَةِ فَلاَ بَأْسَ بِتَخْصِيصِهَا بِلَفْظٍ(3).
وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْمَعِيَّةَ تُضَافُ إِلَى كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ - كَإِضَافَةِ الرُّبُوبِيَّةِ مَثَلاً - وَأَنَّ الاسْتِوَاءَ عَلَى الشَّيْءِ لَيْسَ إِلاَّ لِلْعَرْشِ، وَأَنَّ اللَّهَ يُوصَفُ بِالْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَلا يُوصَفُ بِالسُّفُولِ وَلاَ بِالتَّحْتِيَّةِ قَطُّ، لاَ حَقِيقَةً وَلا مَجَازًا: عَلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ.