دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم الحديث الشريف > مكتبة علوم الحديث الشريف > جامع متون الأحاديث > جامع الأصول من أحاديث الرسول

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 20 جمادى الأولى 1431هـ/3-05-2010م, 07:42 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي الباب الثالث: في بيان أصول الحديث، الفصل الأول: في طريق نقل الحديث

الباب الثالث: في بيان أصول الحديث، وأحكامها، وما يتعلق بها
ما نثبته في هذا الباب من أصول الحديث وأحكامها، وشرح أقوال الفقهاء وأئمة الحديث، وذكر مذاهبهم، واصطلاحاتهم، فإنه منقول من فوائد العلماء وكتبهم وتصانيفهم التي استفدناها وعرفناها، مثل كتاب «التلخيص» لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وكتاب «المستصفى» لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، وكتاب «التقويم» لأبي زيد الدبوسي وكتاب، «أصول الحديث» للحاكم أبي عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري، وكتاب «المدخل إلى الإكليل» له، وشيء من رسائل الخطيب أبي بكر بن ثابت البغدادي، وكتاب «العلل» للإمام أبي عيسى الترمذي، وغير ذلك من كتب العلماء وتصانيفهم -رحمه الله عليهم.
فجمعت بين أقوالهم، واختصرت من كل واحد منها طرفاً يليق بهذه المقدمة، أودعته ما يحتاج إليه طالب علم الحديث، ولا يسعه جهله، إلا من قنع بمجرد الرواية، ملغياً فضيلة الدراية.
وليس لي فيه إلا الترتيب والاختصار، والتلفيق، والاختيار، اللهم إلا كلمات تقع في أثناء الفصول والفروع، تتضمن إثبات مهمل، أو إيضاح مشكل، أو تحقيق مغفل، أو تفصيل مجمل، أو تقييد مرسل. وجعلت هذا الباب مشتملا على أربعة فصول.
الفصل الأول: في طريق نقل الحديث وروايته، وفيه سبعة فروع
الفرع الأول: في صفة الراوي وشرائطه
راوي الحديث له أوصاف وشرائط، لا يجوز قبول روايته دون استكمالها، وهي أربعة: الإسلام، والتكليف، والضبط، والعدالة.
وهذه الأوصاف بعينها شرط في الشهادة، كاشتراطها في الرواية.
وتنفرد الشهادة بأوصاف أخر تؤثر فيها كالحرية، فإنها شرط في الشهادة، وليست شرطاً في الرواية، وكالعدد، فإن رواية الواحد تقبل، وإن لم تقبل شهادته إلا نادراً.
وقد خالف في ذلك جماعة، فاشترطوا العدد، ولم يقبلوا إلا رواية رجلين، يروي عن كل واحد منهما رجلان، وهذا فاسد، فإنه مع تطاول الأزمان يكثر العدد كثرة لا تنحصر، ويتعذر إثبات حديث أصلاً، لا سيما في زماننا هذا.
وهذا الشرط قد التزمه البخاري ومسلم في كتابيهما، حسبما ذكره الحاكم النيسابوري رحمه الله، وإن لم يجعلاه شرطاً، وسيجيء فيما بعد من هذا الباب بيان ذلك وإيضاحه.
وقال قوم: لابد من أربعة رجال، تغليظاً وتعظيماً لشأن الحديث، والأصل الأول.
فأما بيان شروط الرواية الأربعة.
فأولها: الإسلام.
ولا خلاف في أن رواية الكافر لا تقبل، لأنه متهم في الدين، وإن كانت شهادة بعضهم على بعض مقبولة عند أبي حنيفة -رضي الله عنه - فلا خلاف في رد روايتهم.
الشرط الثاني: التكليف
فلا تقبل رواية الصبي، لأنه لا وازع، له عن الكذب، فلا تحصل الثقة بقوله، وقول الفاسق أوثق من قول الصبي، وهو مردود، فكيف الصبي؟! ولأن قوله في حق نفسه بإقراره لا يقبل، فكيف في حق غيره؟!.
أما إذا كان طفلاً عند التحمل، مميزاً بالغاً عند الرواية، فتقبل، لأن الخلل قد اندفع عن تحمله وأدائه.
ويدل على جوازه إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على قبول رواية جماعة من أحداث ناقلي الحديث، كابن عباس، وابن الزبير، وأبي الطفيل، ومحمود بن الربيع، وغيرهم من غير فرق بين ما تحملوه قبل البلوغ وبعده.
وعلى ذلك درج السلف الصالح من إحضار الصبيان مجالس الرواية، ومن قبول فيما تحملوه في الصغر.
إلا أن لأصحاب الحديث اصطلاحاً فيما يكتبونه للصغير، إذا كان طفلاً أو غير مميز، فإنهم يكتبون له حضورا، ومتى كان ناشئاً مميزاً، كتبوا له سماعاً، ولقد كثر ذلك فيما بينهم حتى صاروا يكتبون الحضور للطفل الصغير جداً.
الشرط الثالث: الضبط
وهو عبارة عن احتياط في باب العلم، له طرفان.
طرف وقوع العلم عند السماع، وطرف الحفظ بعد العلم عند التكلم حتى إذا سمع ولم يعلم، لم يكن شيئاً معتبراً، كما لو سمع صياحاً لا معنى له، وإذا لم يفهم اللفظ بمعناه على الحقيقة، لم يكن ضبطاً، وإذا شك في حفظه بعد العلم والسماع، لم يكن ضبطاً.
ثم الضبط نوعان: ظاهر، وباطن.
فالظاهر: ضبط معناه من حيث اللغة.
والباطن: ضبط معناه من حيث تعلق الحكم الشرعي به، وهو الفقه.
ومطلق الضبط الذي هو شرط الراوي، هو الضبط ظاهراً عند الأكثر، لأنه يجوز نقل الخبر بالمعنى، على ما سيأتي بيانه، فتلحقه تهمة تبديل المعنى بروايته قبل الحفظ، أو قبل العلم حين سمع، ولهذا المعني قلت الرواية عن أكثر الصحابة -رضي الله عنهم - لتعذر هذا المعنى، فمن كان عند التحمل غير مميز، أو كان مغفلاً، لا يحسن ضبط ما حفظه ليؤديه علي وجهه، فلا ثقة بقوله وإن لم يكن فاسقاً.
وهذا الشرط وإن كان على ما بينا، فإن أصحاب الحديث قلما يعتبرونه في حق الطفل دون المغفل، لأنه متى صح عندهم سماع الطفل، أو حضوره مجلس القراءة، أجازوا روايته، والأول أحوط للدين وأولى.
على أن الضبط في زماننا هذا، بل وقبله من الأزمان المتطاولة، قل وجوده في العالم، وعز وقوعه، فإن غاية درجات المحدث - في زماننا- المشهور بالرواية، الذي ينصب نفسه لإسماع الحديث في مجالس، النقل: أن تكون عنده نسخة قد قرأها أو سمعها، أو في بلدته نسخة عليها طبقة سماع، اسمه مذكور فيها، أو له مناولة، أو إجازة بذلك الكتاب، فإذا سمع عليه، استمع إلى قارئه، وكتب له خطه بقراءته وسماعه، ولعل قارئه قد صحف فيه أماكن لا يعرفها شيخه، ولا عثر عليها، وإن سأله عنها، كان أحسن أجوبته أن يقول: كذا سمعتها، إن فطن لها.
وإذا اعتبرت أحوال المشايخ من المحدثين في زماننا، وجدتها كذلك أو أكثرها، ليس عندهم من الدراية علم، ولا لهم بصواب الحديث وخطئه معرفة، غير ما
ذكرنا من الرواية على الوجه المشروح، على أنه ما يخلي الله بلاده وعباده من أئمة يهتدي بهم العالمون، وحفاظ يأخذ عنهم المهملون، وعلماء يقتدي بهم الجاهلون، وأفاضل يحرسون هذا العلم الشريف من الضياع، ويقرئونه صحيحاً كما انتهى إليهم في الأسماع، ويصونون معاقده من الانحلال، وقواعده من الزلل والاختلال، حفظاً لدينه، وحراسة لقانونه.
نفعاً الله وإياكم معشر الطالبين بما آتاهم الله من فضله، ووفق كلا منا ومنكم للسداد في قوله وفعله.
الشرط الرابع: العدالة
والعدالة: عبارة عن استقامة السيرة والدين، ويرجع حاصلها: إلى هيئة راسخة في النفس، تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعاً، حتى تحصل الثقة للنفوس بصدقه، ولا تشترط العصمة من جميع المعاصي، ولا يكفي اجتناب الكبائر، بل من الصغائر ما ترد به الشهادة والرواية.
وبالجملة: فكل ما يدل على ميل دينه إلي حد يستجيز على الله الكذب بالأغراض الدنيوية، كيف وقد شرط في العدالة التوقي عن بعض المباحات الفادحة في المروءة، نحو الأكل والشرب في السوق، والبول في الشوارع، ونحو ذلك.
وقد قال قوم: إن العدالة: عبارة عن إظهار الإسلام فقط، مع سلامته عن فسق ظاهر، فكل مسلم مجهول عندهم عدل.
والعدالة لا تعرف إلا بخبرة باطنة، وبحث عن سريرة العدل وسيرته.
وقد أخذ جماعة من أئمة الحديث عن جماعة من الخوارج، وجماعة ممن ينسب إلى القدرية والشيعة، وأصحاب البدع والأهواء.
وتحرج عن الأخذ عنهم آخرون، والكل مجتهدون.
والله يلهم الكافة طلب الحق وأخذه من مظانه والعمل به.
فهذه الشروط الأربعة هي المعتبرة في الرواية كما ذكرنا.
وللراوي أوصاف يظن بها أنها شروط، وليست شروطاً، وإنما هي مكملات ومحسنات.
منها: العلم، والفقه، فلا يشترط كونه عالماً فقيها، وسواء خالف ما رواه القياس، أو وافقه، إذ رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه وإلي غير فقيه.
وقال قوم: إنه شرط، وهو بعيد.
ومنها مجالسة العلماء، وسماع الحديث، فليس ذلك شرطاً، فقد قبلت الصحابة -رضي الله عنهم - حديث أعرابي لم يرو إلا حديثاً واحداً، نعم إذا عارضة حديث العالم الممارس، ففي الترجيح نظر.
ومنها: معرفة نسب الراوي، وليس بشرط، بل متى عرفت عدالة شخص بالخبرة قبل حديثه، وإن لم يكن له نسب، فضلاً أن يكون ثم لا يعرف.ولو روى عن مجهول العين لم نقبله، بل من يقبل رواية المجهول الصفة لا يقبل رواية مجهول العين، إذ لو عرف عينه، ربما عرفه بالفسق، بخلاف من عرف عينه ولم يعرفه بالفسق.
ولو روي عن شخص ذكر اسمه، واسمه مردد بين مجروح وعدل، فلا يقبل لأجل التردد، على أن أئمة الحديث قد رووا أحاديث كثيرة عن رجل ولم يذكروا اسمه، وهذا مجهول، وجاء بعدهم من اعتبر تلك، الأحاديث، فرواها من طرق عدة عن راوي ذلك الرجل، وسماه، فصار ذلك الرجل - الذي لم يسمه أئمة الحديث - معروفاً بهذه الطرق، فكأنهم لم يخرجوا تلك الأحاديث عن مجهول، أو قد كانوا عرفوه وتركوا ذكر اسمه لغرض في أنفسهم، والله أعلم.
ولا تقبل رواية من عرف باللعب واللهو والهزل في أمر الحديث، أو بالتساهل فيه، أو بكثرة السهو فيه، إذ تبطل الثقة بجميع ذلك.
ومما يحتاج إليه طالب الحديث، أن يبحث عن أحوال شيخه الذي يأخذ عنه بعدما، يتحقق إيمانه، وحسن عقيدته، أنه ليس بصاحب هوى، ولا بدعة يدعو الناس إليها.
فقد كان على بن طالب -رضي الله عنه - إذا فاته حديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم سمعه من غيره، حلف الذي يحدثه به على صحته.
وعلى ذلك كان أكثر الصحابة والتابعين، وتابعي التابعين، -رحمه الله عليهم، وإن في الاقتداء بهم أسوة حسنة.

الفرع الثاني: في مسند الراوي، وكيفية أخذه
راوي الحديث لا يخلو في أخذه الحديث من طرق ست:
الطريق الأول
وهي العليا: قراءة الشيخ في معرض الإخبار، ليروي عنه،، وذلك تسليط منه للراوي على أن يقول: حدثنا، وأخبرنا، وقال فلان، وسمعته يقول:
ولأئمة الحديث فرق بين «حدثنا» و«أخبرنا» و«أنبأنا».
قال عبد الله بن وهب: ما قلت: «حدثنا» فهو ما سمعت مع الناس، وما قلت: «حدثني» فهو ما سمعت وحدي، وما قلت: «أخبرنا» فهو ما قرئ على العالم وأنا أشاهد، وما قلت: «أخبرني» فهو ما قرأت على العالم.
وكذلك قال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري.
وقال يحيى بن سعيد «أخبرنا، حدثنا» واحد، وهو الصحيح من حيث اللغة. وأما «أنبأنا» فإن أصحاب الحديث يطلقونها على الإجازة والمناولة، دون القراءة والسماع اصطلاحاً، وإلا فلا فرق بين الإنباء والإخبار، لأنهما بمعنى واحد. وقال الحاكم: «أنبأنا» إنما يكون فيما يجيزه المحدث للراوي شفاهاً دون المكاتبة.
الطريق الثانية:
أن يقرأ على الشيخ وهو ساكت، فهو كقوله: هذا صحيح، فتجوز الرواية، خلافاً لبعض الظاهرية، لأنه لو لم يكن صحيحاً، لكان سكوته عليه وهو يقرأ، وتقريره له، فسقاً قادحاً في عدالته.
وإن كان ثم مخيلة إكراه أو غفلة، فلا يكفي السكوت.
وهذا تسليط من الشيخ للراوي على أن يقول: حدثنا، وأخبرنا، قراءة عليه. وقال قوم: لا يجوز أن يقول فيه: حدثنا، ويقول فيه: أخبرنا. ولا فرق إذا قيده بقوله: «قراءة عليه».
أما قوله: «حدثنا وأخبرنا مطلقاً، أو «سمعت فلاناً»، ففيه خلاف.
والصحيح: أنه لا يجوز، لأنه يشعر بالنطق وذلك منه كذب، إلا إذا علم بتصريح أو قرينة حال أنه يريد القراءة على الشيخ، دون سماع نطقه.
قال الحاكم: والقراءة على الشيخ إخبار، وإليه ذهب الفقهاء والعلماء كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، الثوري والأوزاعي، وأحمد وغيرهم.
قال: وعليه عهدنا أئمتنا، وبه قالوا، وإليه ذهبوا، وإليه نذهب وبه نقول، وبه قال أئمة الحديث: إن القراءة على العالم إذا كان يحفظ ما يقرأ عليه، أو يمسك أصله فيما يقرأ عليه إذا لم يحفظ، صحيحه مثل السماع من لفظ الشيخ.
قال ابن جريج: قرأت على عطاء بن أبي رباح، فقلت له: كيف أقول؟ قال: قل: حدثنا.قال ابن عباس -رضي الله عنهما - لقوم من الطائف «اقرؤوا علي، فإن إقراري به كقراءتي عليكم».وقد ذهب قوم إلى أن القراءة على الشيخ أعلى من قراءة الشيخ وأحوط في الراوي قالوا: لأن قراءة الشيخ يتطرق إليها أمران.
أحدهما: جواز تغيير الشيخ في القراءة بعض ما في كتابه سهواً، أو يسبق على لسانه غلط أو تصحيف وهو غافل عنه، والراوي لا لم له به، ليرد عليه، بخلاف ما إذا قرأ الراوي وغير، أو غلط أو صحف، فإن الشيخ يرد عليه سهوه وغلطه.
الأمر الثاني: جواز غفول السامع عن سماع بعض ما يقرؤه الشيخ لعارض يطرأ على قلبه، وهذا كثير جداً، بخلاف ما إذا قرأ على الشيخ، فإنه يتيقن أو يغلب على ظنه أنه قرأ جميع الكتاب، وأن الشيخ سمع ما قرأه.
هذا مستند ما ذهبوا إليه، وإن كان أكثر العلماء والفقهاء والمحدثين على الأول، فإن نسبة هذه الجوائز المحتملة إلى الراوي أقرب من نسبتها إلى الشيخ، ولأن يغلط الراوي ويسهو ويصحف، والشيخ لا يغفل عن سماعه، أقرب وأمكن من جواز غلط الشيخ وسهوه وتصحيفه ونسبه الخلل في السماع، ولكل نظر واجتهاد.
الطريق الثالثة:
سماع ما يقرأ على ا لشيخ، ويتنزل منزلة القراءة عليه، لكنه ينقص عنها بأن السامع ربما غفل عن سماع بعض القراءة كما سبق، فأما القارئ، فلا يجرى هذا في حقه، ويجوز له أن يقول: حدثنا، وأخبرنا سماعاً يقرأ عليه.
الطريق الرابعة:
الإجازة: وهو أن يقول الشيخ للراوي شفاهاً، أو كتابة، أو رسالة: أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلاني، أو ما صح عندك من مسموعاتي، وعند ذلك
يجب الاحتياط في معرفة المسموع، أما إذا اقتصر على قوله: هذا مسموعي من فلان، فلا يجوز له الرواية عنه، لأنه لم يأذن له في الرواية.
وهذا تسليط من الشيخ للراوي علي أن يقول: حدثنا وأخبرنا إجازة، أو أنبأنا، على اصطلاح المحدثين كما سبق، ويقيدها بالمشافهة، أو بالكتابة، أو بالرسالة.
وقال قوم: لا يجوز فيما كان بالكتابة والرسالة أن يقول فيه: حدثنا، وإنما يقول: أخبرنا، كما يقول: أخبرنا الله في كتابه، وعلى لسان رسوله، ولا يقول فيه: حدثنا.
أما قوله في الإجازة: «حدثنا، وأخبرنا» مطلقاً، فجوزه قوم، وهو فاسد و، كما ذكرنا في القراءة على الشيخ.
وقال قوم: لا تحل الرواية بالإجازة، حتى يعلم المجاز له ما في الكتاب ثم يقول المجيز للراوي: أتعلم ما فيه؟ فيقول: نعم، ثم يجيز له الرواية عنه به.
فأما إذا قال له المجيز: أجزت لك عني الحديث بما فيه، والسامع غير عالم به، فلا يحل له، كما أنه لو سمع ولم يعلم، فلا يجوز له، وكما قالوا في القاضي: يشهد الشاهد على كتابه والشاهد لا علم له بما فيه.
وهذا القول راجع إلى من جعل العلم والفقه، ومعرفة حكم الحديث ومعناه شرطاً في الرواية، وقد سبق ذكره في الفرع الأول.
وأعلى درجات الإجازة المشافهة بها، لانتفاء الاحتمال فيها.
ويتلوها: الرسالة، لأن الرسول يضبط وينطق.
وبعدهما: الكتابة، لأن الكتابة لا تنطق، وإن كانت تضبط ثم هذه الإجازة الجائزة، إنما هي في حق الموجود والمعروف عارية من الشرط.
وأما الإجازة للمعدوم والمجهول، وتعليقها بالشرط، ففيها خلاف نذكره.
أما المجهول، فمثل أن يقول المحدث: أجزت لبعض الناس، فلا يصح ذلك، لأنه لا سبيل إلى معرفة البعض الذي أجيز له.
وأما إجازة المعدوم، فمثل أن يقول المحدث: أجزت لمن يولد لفلان، أو لكل من أعقب فلان، أو لعقب عقبه أبداً ما تناسلوا، فقد أجازه قوم، ومنع منه آخرون.
وأما الإجازة المعلقة بشرط فمثل أن يقول المحدث: أجزت لفلان إن شاء، أو يخاطب فلاناً، فيقول: أجزت لمن شئت رواية حديثي، أو أجزت لمن شاء، فمنع منها قوم، وأجازها آخرون.
وقال قوم: لا تجوز الإجازة للمعدوم والمجهول، ولا تعليقها بشرط، لأنها تحمل يعتبر فيه تعيين المحتمل، وهذا الأجدر بالاحتياط، والأولى بحراسه الحديث وحفظه.
وقال قوم: إنما يجوز أن يجيز لمن كان موجوداً حين إجازته، من غير أن يعلق بشرط أو جهالة، سواء كانت الإجازة بلفظ خاص أو عام.
أما الخاص: فقوله: أجزت لفلان بن فلان.
وأما العام: فقوله: أجزت لبني هاشم، ولبني تميم، وكذلك إذا قال: أجزت لجماعة المسلمين.
هذا إذا كان الذين أجاز لهم موجودين والله أعلم.
الطريق الخامسة: المناولة
وتسمى: العرض، وصورته: أن يكون الراوي متقناً حافظاً، فيقدم المستفيد إليه جزاء من حديثه، أو أكثر من ذلك، فيناوله إياه، فيتأمل الراوي حديثه، فإذا خبره وعرف أنه من حديثه، قال للمستفيد: قد وقفت على ما ناولتنيه، وعرفت ما فيه، وأنه روايتي عن شيوخي، فحدث عنى بها.
قال الحاكم: أجاز ذلك خلق كثير من أئمة الحديث أهل المدينة، ومكة، والكوفة، والبصرة، ومصر، وخراسان، رأوا العرض سماعاً.
قال: وقد قال مطرف بن عبد الله: صحبت مالكاً سبع عشرة سنة، فما رأيته قرأ «الموطأ» على أحد، وسمعته يأبى أشد الإباء على من يقول: لا يجزئه إلا السماع ويقول: كيف لا يجزئك هذا في الحديث، ويجزئك في القرآن، والقرآن أعظم؟ !.
وقال غير مطرف، سئل مالك عن حديثه: أسماع هو؟ فقال: منه سماع ومنه عرض، وليس العرض عندنا بأدنى من السماع.
هذا مالك سيد الناس في الحديث، قال: وأما فقهاء الإسلام فلم يروا العرض سماعا.
وقال الغزالي -رحمه الله عليه: صورة المناولة أن يقول: خذ هذا الكتاب وحدث به عني، ومجرد المناولة دون هذا اللفظ لا معنى لها، وإذا وجد هذا اللفظ فلا معنى للمناولة.
وأصحاب الحديث يرتبون المناولة قبل الإجازة، وهي عندهم أعلى درجة منها.
ومنهم من ذهب إلى أنها أوفى من السماع، والظاهر أن المناولة أحوط من الإجازة، لأن أقل درجاتها أنها إجازة مخصوصة محصورة في كتاب بعينه، يعلم الشيخ ما فيه يقيناً، أو قريباً من اليقين، بخلاف الإجازة، على أن الشيخ يشترط في المناولة والإجازة البراءة من الغلط والتصحيف، والتزام شروط رواية الحديث، فبهذه الشروط يخرج من العهدة، وحينئذ يجوز للراوي أن يقول: حدثنا، أخبرنا، مناولة وعرضا، وأنبأنا مطلقاً، باصطلاح المحدثين.
الطريق السادسة: الكتابة
لا يخلو أن يكون الكتاب تذكرة، والرواية عن علم ويقين، بعد ما يتذكر بالنظر فيه، أو يكون الكتاب إماماً لا يتذكر ما فيه، فإن كانت تذكرة، قبلت روايته، لأنه لا فرق بين التذكر بالفكر، أو بمذكر آخر، إذ في الحالتين روى عن مذكر، ولا يمكن اشترط أن لا ينسى، لأن الإنسان لا يمكنه الاحتراز عنه، وإن كان إماماً، فلا يخلو أن يكون كتابة بسماعه وخطة، أو سماعه بخط غيره، والخط معروف، والكاتب ثقة، أو سماع أبيه، بخط أبيه، أو راو معروف بالرواية، معروف الخط.
وعلى ذلك، ففيه خلاف، فمن أهل الحديث من جعل الكتاب كالسماع، وقالوا: إذا وقع في علم الراوي أنه كتابه بسماعه وخطه، أو كتاب أبيه بخطه، وله ثقة بعلمه بخط أبيه، حلت له الرواية، كما لو سمعه وتذكر سماعه ما فيه.
وعلى هذا يجب أن يحل له إذا علم أنه راو معروف، فلا فرق بين خط أبيه وغيره، وهذا القول يجوز له أن يروي بالخط، وإن لم يتذكر.
ومنهم من قال: لا يجوز له الرواية إن لم يتذكر، لأن الخط لم يوضع في الأصل إلا للتذكر.
وقيل: إذا رأى خطة في كتاب، أو خط من يعرفه ويثق إليه، فلا يخلو: إما أن يعلم أنه سمعه، وإما أن يعلم أنه لم يسمع، أو يظن أنه لم يسمع، أو يجوز من نفسه سماعه أو عدم سماعه على السواء، وإما أن لا يذكر أنه سمع أو قرأ و، ولكنه غلب على ظنه سماعه أو قراءته.
ففي الأول: تجوز الرواية.
وفي الثاني والرابع: لا تجوز له الرواية، لأنه كيف يخير عما يعلم كذبه أو يشك فيه؟!.
وفي الثالث: اختلفوا، فأجازه قوم، ومنع منه آخرون، لأن الرواية عن الغير حكم منه بأنه حدثه، فلا يجوز إلا عن علم، ولأن الخط يشبه الخط.
أما إذا قال الشيخ: هذا خطي، قبل منه، لكن لا يروي عنه ما لم يسلطه على الرواية بصريح قوله، أو بقرينة حاله، كالجلوس لرواية الحديث.
فإن قال عدل: هذه نسخة صحيحة من «صحيح البخاري» مثلاً، فرأى فيها حديثاً، فليس له أن يرويه عنه، ولكن هل يلزمه العمل به؟ إن كان مقلداً، فعليه أن يسأل المجتهد، وإن كان مجتهداً، فقال قوم: لا يجوز له العمل به ما لم يسمعه.
وقال قوم: إذا علم صحة النسخة بقول عدل، جاز له العمل.
والقول الجامع لهذا: أنه لا ينبغي له أن يروي إلا ما يعلم سماعه أولاً وحفظه وضبطه إلى وقت الأداء، بحيث يتيقن أن ما أداه هو الذي سمعه، فإن شاك في شيء منه، فليترك الرواية.
أما إذا كان في مسموعاته عن شيخ حديث واحد شك في أنه سمعه منه أو من غيره، فلا يجوز له أن يقول: سمعت فلاناً، ولا أن يقول: قال فلان، لأنه شك، ولا يجوز له أن يروي الحديث بالشك المطلق بل لو سمع من شيخ مائة حديث، وعلم أن حديثاً واحداً لم يسمعه، ولكنه التبس عليه، ولم يعرفه، فلا يجوز له رواية شيء من تلك المائة عن ذلك الشيخ، لأنه ما من حديث منها إلا ويجوز أن يكون هو ذلك المشكوك فيه.
أما إذا أنكر الشيخ الحديث، فلا يخلو من ثلاث جهات:
الأولى: أن ينكره قولاً، ولا يخلو أن ينكره إنكاراً جاحدا قاطعًا بكذب الراوي، وحينئذ لا يعمل به، ولا يصير الراوي مجروحاً، أو ينكره إنكاراً متوقف، وقال: لست أذكره، فيعمل بالخبر، لأن الراوي جازم أنه سمعه منه، وهو ليس قاطعاً بتكذيبه.
وقال قوم: إن نسيان الشيخ للحديث يبطله، وليس بشيء، فإن للشيخ أن يعمل بالحديث إذا روى له العدل عنه، ولهذا تفصيل آخر.
قالوا: ينظر الشيخ في نفسه، فإن كان رأيه يميل إلي غلبة نسيان، أو كان ذلك عادته في محفوظاته، قبل رواية غيره عنه، وإن كان رأيه يميل إلى جهله أصلاً بذلك الخبر، رد، فقلما ينسى الإنسان شيئاً حفظه لا يتذكر بالتذكير، والأمور تبنى على الظواهر، لا على النوادر، وحينئذ يقول الشيخ: حدثني فلان عني أنني حدثته.
والجهة الثانية: أن ينكره فعلاً، فإذا عمل الشيخ بخلاف الخبر، فإن كان قبل الرواية، فلا يكون تكذبياً بوجه، لأن الظاهر أنه تركه لما بلغه الخبر، وكذلك إذا لم يعلم التاريخ، حمل عليه تحرياً لموافقة السنة.
وأما إذا كان بعد الراوية، نظر فيه، فإن كان الخبر يحتمل ما عمل به يضرب تأويل، لم يكن تكذيباً، لأن باب التأويل في الأخبار غير مسدود، لكن لا يكون حجة، لأن تأويله برأيه لا يلزم غيره. وإن كان الخبر لا يحتمل ما عمل به، فالخبر مردود.
الجهة الثالثة: أن ينكره تركاً، فإذا امتنع الشيخ من العمل بالحديث، ففيه دليل على أنه لو عرف صحته لما امتنع من العمل به، فإنه يحرم عليه مخالفته، مع العلم بصحته، وله حكم الجهة الثانية.

الفرع الثالث: في لفظ الراوي وإيراده
النوع الأول: في مراتب الأخبار
المرتبة الأولى:
وهي أعلاها: أن يقول الصحابي: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول كذا، أو حدثني بكذا، أو أخبرني بكذا، أو شافهني بكذا، وكذلك غير
الصحابي من الرواة عمن رووا عنه، فهذا لا يتطرق إليه احتمال، وهو الأصل في الرواية والتبليغ والإخبار.
المرتبة الثانية:
أن يقول الصحابي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كذا، أو حدثنا، أو أخبرنا بكذا، وكذلك غير الصحابي عن شيخه، فهذا ظاهره النقل، وليس نصاً صريحاً، إذ قد يقول الواحد منا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اعتماداً على ما نقل إليه وإن لم يسمعه منه، فلا يستحيل أن يقول الصحابي ذلك اعتماداً على ما بلغه تواتراً أو على لسان من يثق إليه، ألا تري أن ابن عباس روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما الربا في النسيئة» فلما روجع فيه قال: سمعته من أسامة بن زيد، وكذا غيره من الصحابة.
وهذا النوع وإن كانت محتملاً، فهو بعيد لاسيما في حق الصحابي فإن الصحابي إذا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالظاهر من حاله أنه لم يقله إلا وقد سمعه، بخلاف من لم يعاصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن قرينة حاله تعرف أنه لم يسمع، ولا يوهم قوله السماع، والصحابي يوهم قوله السماع، فلا يقدم عليه إلا عن سماعه. هذا هو الظاهر، وجميع الأخبار إنما نقلت إلينا كذلك، إذ يقال: قال أبو بكر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال عمر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يفهم من ظاهر ذلك إلا السماع، وكذلك حكم غير الصحابي فيما يرويه عن شيخه.
المرتبة الثالثة:
أن يقول الراوي: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا، أو نهى عن كذا، فهذا يتطرق إليه احتمالات ثلاثة.
أحدهما: في سماعه، كما في قوله.
والثاني: في الأمر، إذ ربما يرى و، ما ليس بأمر أمراً، فقد اختلف الناس في قوله: افعل، هل هو: الأمر، أم لا؟
فلأجل هذا قال بعض أهل الظاهر: لا حجة فيه ما لم ينقل اللفظ.
والصحيح أنه لا يظن بالصحابي إطلاق ذلك إلا إذا علم تحقيقاً أنه أمر بذلك، بأن يسمعه يقول: أمرتكم بكذا وكذا أو يقول: افعلوا، وينضم إليه من القرائن ما يعرف به كونه أمراً، ويدرك ضرورة قصده إلى الأمر.
والثالث: احتمال العموم والخصوص. حتى ظن قوم أن مطلق هذا يقتضى أمر جميع الأمة.
والصحيح أن من يقول بصيغة العموم أيضا ينبغي أن يتوقف في هذا إذ يحتمل أن يكون ما سمعه أمراً للأمة، أو لطائفة، أو لشخص بعينه.
وكل ذلك يبيح له أن يقول: أمر، فيتوقف فيه إلي الدليل، لكن يدل عليه أن أمره للواحد أمر للجماعة، إلا إذا كان لوصف يخصه من سفر أو حيض، ولو كان ذلك لصرح به الصحابي، كقوله: «أمرنا إذا كما مسافرين ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام» نعم لو قال: أمرنا بكذا وعلم من عادة الصحابي أن لا يطلق إلا في أمر الأمة حمل عليه وإلا احتمل أن يكون أمراً له، أو للأمة، أو للطائفة.
المرتبة الرابعة:
أن يقول الراوي: أمرنا بكذا، نهينا عن كذا، أوجب علينا كذا، أبيح لنا كذا، حظر علينا كذا، من السنة كذا، السنة جارية بكذا.
فهذا جميعه في حكم واحد، ويتطرق إليه الاحتمالات الثلاثة التي تطرقت إلى المرتبة الثالثة.
واحتمال رابع، وهو الآمر، فإنه لا يدري أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو غيره من العلماء.
فقال قوم: لا حجة فيه، لأنه محتمل.
وذهب الأكثرون إلى أنه لا يحمل إلا على أمر الله، وأمر رسوله، لأنه يريد به إثبات شرع، وإقامة حجة.
وقال بعضهم: في هذا تفصيل، وذلك أن كان الراوي أبا بكر الصديق -رضي الله عنه - فيحمل على أن الآمر هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن أبا بكر لا يقول: أمرنا، إلا وآمره النبي، لأن غير النبي لا يأمره، ولا يلتزم أمر غيره، ولا تأمر عليه أحد من الصحابة. فأما غير أبي بكر، فإذا قال: أمرنا، فإنه
يجوز أن يكون الآمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره. لأن أبا بكر تأمر على الصحابة، ووجب عليهم امتثال أمره، وقد كان غير أبي بكر -رضي الله عنه - من الصحابة أميراً في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعده، فيجوز أن يضاف الأمر إليهم.
أما إذا قال: أبيح، وأوجب، وحظر، فيقوى في جنابة أن لا يكون مضافاً إلا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن الإيجاب والإباحة والحظر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - دون غيره، بخلاف الأمر، فإن الإمام قد يأمر بما يوجبه الشرع، ولا يقال: أوجب الإمام، إلا على تأويل إضافة الإيجاب إليه بنوع من المجاز، لصدور الأمر بالإيجاب عنه.
وأما قوله: من السنة كذا، والسنة جارية بكذا فالظاهر أنه لا يريد إلا سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن يجب اتباعه دون غيره، ممن لا تجب طاعته، ولا فرق أن يقول الصحابي ذلك في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو بعد وفاته.
أما التابعي إذا قال: أمرنا، فإنما يحتمل أمر الرسول، وأمر الأمة بإجماعها، والحجة حاصلة به، ويحتمل أمر الصحابة، ولكن لا يليق بالعالم أن يطلق ذلك، إلا وهو يريد من تجب طاعته، لكن الاحتمال في قول التابعي أظهر منه في قول الصحابي.
المرتبة الخامسة:
أن يقول الرواي كنا نفعل كذا، وغرضه تعريف أحكام الشرع، فإن ظاهره يقتضي أن جميع الصحابة فعلوا ذلك على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجه ظهر للنبي ولم ينكره، لأن تعريف الحكم يقع به.
فإن قال: كانوا يفعلون كذا، أضافه إلى زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو دليل على جواز الفعل، لأن ذكره في معرض الحجة يدل على أنه أراد ما فعله الرسول أو سكت عليه، دون ما لم يبلغه، وذلك يدل على الجواز، مثل قول ابن عمر -رضي الله عنهما - «كنا نفاضل على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فنقول: خير الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبو
بكر، ثم عمر ثم عثمان، فيبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فلا ينكره وكقول أبي سعيد الخدري: «كنا نخرج على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعاً من تمر في زكاة الفطر».
فأما قول التابعي: كانوا يفعلون، فلا يدل على فعل جميع الأمة، بل يدل على البعض، فلا حجة فيه، إلا أن يصرح بنقله عن أهل الإجماع، فيكون نقلاً للإجماع.
وفي ثبوته زتخبر الواحد كلام سيأتي بيانه.
وقيل: إنه إذا قال: كانوا يفعلون كذا، فإنه يفيد أن جميع الأمة فعلت ذلك، أو فعل البعض، وسكت الباقون، أو فعلوا بأجمعهم فعلاً على وجه ظهر النبي صلي الله عليه وسلم ولم ينكره عليهم.
وبالجملة فإن الراوي إذا قال قولاً في محل الاجتهاد، فلا يلزمنا تقليده، لأنه يحتمل أنه قال عن اجتهاد، واجتهاده لا يترجح على اجتهاد غيره، أما إذا قال قولاً لا محل للاجتهاد فيه، فحسن الظن يقتضي أنه ما قاله إلا عن طريق، وإذا بطل الاجتهاد تعين السماع.
النوع الثاني: في نقل لفظ الحديث ومعناه
لا خلاف بين العلماء أن المحافظة على لفظ الحديث وحروفه ونقطه وإعرابه أمر من أمور الشريعة عزيز، وحكم من أحكامها شريف، وأنه الأولى بكل ناقل، والأجدر بكل راو، وحتى أوجبه قوم، ومنعوا من نقل الحديث بالمعنى.والكلام في ذلك له تفصيل وشرح، فنقول:
قال العلماء: نقل الحديث بالمعنى دون اللفظ حرام علي الجاهل بمواقع الخطاب، ودقائق الألفاظ، أما العالم بالفرق بين المحتمل وغير المحتمل، والظاهر والأظهر، والعام والأعم، فقد جوز له ذلك الشافعي وأبو حنيفة وجماهير الفقهاء، ومعظم أهل الحديث.
وقال قوم: لا يجوز إلا إبدال اللفظ لما يرادفه ويساويه في المعنى، كما يبدل القعود بالجلوس، والعلم بالمعرفة، والقدرة بالاستطاعة والحظر بالتحريم، ونحو ذلك.
وعلى الجملة: فيما لا يتطرق إليه تفاوت في الفهم وإنما ذلك فيما فهم قطعاً، لا فيما فيهم بنوع استدلا ل يختلف فيه الناظرون. فانقسم القول في هذا إلى أربعة أقسام:
الأول: أن يكون الخبر محكماً، وحينئذ يجوز نقله بالمعنى لكل من سمعه من أهل اللسان، لأنه لا يحتمل إلى معنى واحداً دائماً، فإذا تعين معناه، ولم يقع الخلل في الوقوف عليه ممن عرف اللسان، رخص في نقله بالمعني لحصول الغرض منه بلفظ آخر.
الثاني: أن يكون الخبر ظاهراً، ويحتمل غير ما ظهر، فلا يجوز النقل بالمعني إلا للفقهية العالم بعلم الشريعة وطرق الاجتهاد، لأن المعنى وأن ظهر منه بظاهره، فقد احتمل مجازه، والخصوص في عمومه، فلا يرخص في نقله بالمعنى إلا للعالم بطرق الدين والفقيه حتى بأمن إذا كساه لفظًا آخر من الخلل فاقل الجاهل بالفقه يكسوه لفظاً لا يحتمل صرف مجازه، ولا صرف خصوصه، ويكون المراد باللفظ المسموع، مجازه أو خصوصه، فتفوت الفائدة، أو ينقله بلفظ أعم من اللفظ لجهله بالفرق بين الخاص والعام، فيوجب ما لا يوجبه الأول، فيلزمه المحافظة على اللفظ.
الثالث: أن يكون الخبر مشتركاً أو مشكلاً، فلا يجوز النقل بالمعني على جهة التأويل، لأنه لا يوقف معناه والمراد منه إلا بنوع تأويل، وتأويل الراوي لا يكون حجة على غيره، فإنه يكون ضرباً من القياس، فلا يحل نقله إلا باللفظ المسموع، ولا يظن بالعدل إذا نقل بلفظه إلا أحد القسمين الأولين اللذين يحلان له.
الرابع: أن يكون الخبر مجملاً، فلا يتصور نقله بالمعنى، لأنه لا يوقف على معناه: وما لا يوقف على معناه، فلا يتصور نقله بمعناه، فيكون الامتناع بذاته لا بدليل يحجر الناقل عنه، ويكون ضرباً أخو من الحجة غير الضرب الأول.
والقول الضابط في نقل الحديث بالمعنى: أن اللفظ إذا كان مما يجب نقله للعمل بمعناه، فوقف على معناه حقيقة، ثم أدى بلفظ آخر بغير خلل فيه، سقط اعتبار اللفظ، فالنقل باللفظ عزيمة، وبالمعنى رخصة في بعض الأخبار، على التفصيل المذكور.
ويدل على ذلك: جواز شرح الشريعة للعجم بلسانهم، فإذا جاز إبدال العربية بالعجمية، فلأن يجوز بالعربية أولى.
وذلك لأنا نعلم أن أنه لا تعبد في اللفظ، وإنما المقصود هو المعنى، وإيصاله إلى الخلق، وليس ذلك كالتشهد، التكبير وما تعبد لله فيه باللفظ.
فإن قيل: فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع ورب حامل فقه وليس بفقيه، ورب حامل فقه إلي من هو أفقه منه».
قلنا: هذا الحديث هو الحجة، لأنه ذكر العلة، وهي اختلاف الناس في الفقه، فما لا يختلف فيه الناس من الألفاظ المرادفة لا يمنع منه.
وهذا الحديث بعينه قد نقل بألفاظ مختلفة، والمعنى واحد، وإن أمكن أن يكون جميع الألفاظ قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أوقات مختلفة، لكن الأغلب أنه حديث واحد، نقل بألفاظ مختلفة، وذلك أدل دليل على الجواز.
قال الإمام أبو عيسى الترمذي -رحمه الله -: كل من ضعف قوماً من الرواة، فإنما ضعفهم من قبل الإسناد، فزاد فيه أو نقص أو غيره أو جاء بما يتغير فيه المعنى، فأما من أقام الإسناد وحفظه وغير اللفظ، فإن هذا واسع عند أهل العلم إذا لم يتغير المعنى.
قال: وقال واثلة بن الأسقع -رحمه الله: إذا حدثنا كم على المعني فحسبكم.
وقال ابن سيرين: كنت أسمع الحديث من عشرة، اللفظ مختلف والمعنى واحد.
وقال: كان إبراهيم النخعي والحسن والشعبي -رحمهم الله -يأتون بالحديث على المعاني.
وقال الحسن: إذا أصبت المعنى أجزأك.
وقال سفيان الثوري -رحمه الله -: إذا قلت لكم: إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني، إنما هو المعنى.
وقال وكيع: إن لم يكن المعنى واسعاً فقد هلك الناس.
وقال: كان القاسم بن محمد وابن سيرين ورجاء بن حيوة -رحمهم الله يعيدون الحديث على حروفه.
وقال مجاهد: انقص من الحديث إن شئت، ولا تزد فيه.
وقال: وكان ملك بن أنس -رحمه الله - يشدد في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التاء والياء ونحو هذا.
وعلى ذلك جماعة من أئمة الحديث، لا يرون إبدال اللفظ ولا تغييره، حتى إنهم يسمعونه ملحوناً ويعلمون ذلك، ولا يغيرونه، وذلك هو الأحوط في الدين، والأتقى والأولى.
ولكن أكثر العلماء على خلافة، والقول بالجواز وهو الصحيح، فإن الحديث كذا وصل إليهم، مختلف الألفاظ، متفق المعنى، ونعلم قطعاً في أحاديث كثيرة ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت واحد، ونقلها الصحابة بألفاظهم المختلفة.
وسنورد فيما بعد من هذه المقدمة فصلاً ذكره الإمام أبو عبد الله الحميدي -رحمه الله - في آخر كتابه ما يدل على ذلك وعلى سببه، والعذر فيه، إن شاء الله تعالى.
النوع الثالث: في رواية بعض الحديث
رواية بعض الحديث ممتنعة عند أكثر من منع نقل الحديث بالمعنى.
ومن جوز نقل الحديث بالمعنى جوز ذلك، إن كان قد رواه مرة بتمامه، ولم يتعلق المذكور بالمتروك تعلقاً يغير معناه، فأما إذا تعلق به.
كشرط العبادة أو ركنيها، أو ما به التمام، فنقل البعض تحريف وتلبيس، أما إذا روى الحديث مر ة تاماً، ومرة ناقصا نقصا لا يغير معنى، فهو جائز، ولكن بشرط أن لا يتطرق إليه سوء الظن بالتهمة.
وما العجب إلا ممن منع من ذلك، وقد رأي كتب الأئمة ومصنفاتهم وأحاديثهم، وهي مشحونة
يذكرون كلّ بعض منها في باب يخصّه، يستدلّون به على ذلك الباب، كيف والمقصد الأعظم من ذكر الحديث إنما هو الاستدلال به على الحكم الشرعي؟.
فإذا ذكر من الحديث ما هو دليل على ذلك الحكم المستخرج منه، فقد حصل الغرض، لكن يبقى الأدب بالمحافظة على ألفاظ الرسول صلوات الله عليه، وإيرادها كما ذكرها وتلفّظ بها.
والأولويّة درجة وراء الجواز، وما قصد من منع الاستعمال إلا الأحوط والأتقى والتّحرّز عن التسامح والتساهل في لفظ الحديث.
النوع الرابع: انفراد الثقة بالزيادة
إذا انفرد الثقة بزيادة في الحديث عن جماعة النقلة، فإنه تقبل منه زيادته عند الأكثر، سواء كانت الزيادة من حيث اللفظ، أو من حيث المعنى، لأنه لو انفرد بنقل حديث عن جميع الحفاظ قبل. فكذلك الزيادة.
فإن قيل: يبعد انفراده بالحفظ مع إصغاء الجميع.
قلنا: تصديق الجميع أولى، إذا كان ممكنًا، وهو قاطع بالسماع، والآخرون ما قطعوا بالنفي، فلعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذكره في مجلسين، فحيث ذكر الزيادة لم يحضر إلا ذلك الواحد، أو كرره في مجلس، وذكر الزيادة في إحدى الكرتين، ولم يحضر إلا ذلك الواحد.
ويحتمل أن يكون راوي الناقص حضر في أثناء المجلس، ولم يسمع التمام، أو أنهم اشتركوا في الحضور ونسوا الزيادة، إلا ذلك الواحد، أو طرأ في أثناء الحديث سبب شاغل مدهش، فغفل به البعض عن الإصغاء، فيختص بحفظ الزيادة المقبل على الإصغاء، أو يعرض لبعض السامعين خاطر شاغل عن الزيادة، أو يعرض له ما يوجب قيامه قبل التمام.
فإذا احتمل هذا كله أو بعضه، فلا يكذّب العدل مهما أمكن.
كيف والظاهر من حال المسلم أنه لا يقدم على أن يروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقله، لا سيما وقد سمعه يقول، أو بلغه أنه قال: «من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار».
النوع الخامس: في الإضافة إلى الحديث ما ليس منه.
قد يظن قومٌ أن هذا النوع هو الذي قبله، وليس كذلك، فإن الأول: هو أن ينفرد الراوي بزيادة في الحديث، يرفعها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويجعلها من قوله.
وهذا النوع: هو أن يذكر الراوي في الحديث زيادة، ويضيف إليه شيئًا من قوله، إلا أنه لا يبين تلك الزيادة أنها من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو من قوله نفسه، فتبقى مجهولة.
وأهل الحديث يسمّون هذا النوع «المدرج» يعنون أنه أدرج الراوي كلامه مع كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يميز بينهما، فيظن أن جميعه لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومثاله: حديث ابن مسعود، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده، فعلمه التشهد، قال: «قل: التحيات لله....» فذكر التشهد إلى آخره، ثم قال: «فإذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد».
فقوله: «إذا قلت هذا..» إلى آخره مدرج في الحديث من كلام ابن مسعود، لأن التمييز قد جاء بينهما في رواية أخرى، وذلك أنه ذكر الحديث إلى آخر التشهد، ثم قال الراوي: «قال عبد الله بن مسعود: «إذا فرغت من هذا فقد قضيت صلاتك» فميز هذا الراوي بين الكلامين بزيادته التي ذكرها. والزيادة من الثقة مقبولة، على ما سبق في النوع الرابع.
الفرع الرابع: في المسند والإسناد
المسند: هو أن يروي الحديث واحد عن واحد، رآه وسمع منه أو عليه قراءة أو إجازة، أو مناولة، رواية متصلة إلى من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمع منه.
وللإسناد أوضاع واصطلاح وشرائط.
فمن شروطه: أن لا يكون في الإسناد: أخبرت عن فلان، ولا حدّثت، ولا بلغني، ولا رفعه فلان، ولا أظنه مرفوعًا، إنما يرويه المحدث عن شيخ يظهر
سماعه منه والسن يحتمله، وكذلك سماع شيخه عن شيخه، إلى أن يصل الإسناد إلى صحابي مشهور، إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وعلى الراوي أن يتعرف حال شيخه، وهل يحتمل سماعه من شيوخه الذي يحدّث عنهم؟ ثم يتأمل أصوله، أعتيقة هي، أم جديدة؟ وعليها طبقة سماعه أم لا؟ فكل ذلك احتياط في أخذ الحديث عنه.
ومن المسندات: أن يقول الصحابي المعروف بالصحبة: «أمرنا بكذا ونهينا عن كذا، وكنا نؤمر بكذا، وننهى عن كذا، وكنا نفعل، وكنا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا، وكنا لا نرى بأسًا بكذا، وكان يقال كذا، ومن السنة كذا، فإذا صدر هذا عن صحابي مشهور بالصحبة، فهو حديث مسند، وكله مخرّج في المسانيد.
ومن المسندات: المعنعن، وهو أن يقول: أحد الرواة: «حدثنا فلان عن فلان عن فلان، ولا يذكرون طرق سماعهم ب: «حدثنا» و«أخبرنا» و«سمعنا»، فإن هذا إذا كان رواته موثوقًا بهم مشهورين بالصدق، لا ينسب إليهم التدليس، وليس من مذهبهم: فسواء ذكروا طريق السماع أو لم يذكروه، فإن حديثهم مقبول معمول به، فإن كان رواته أو أحدهم متهمًا، أو من مذهبه التدليس، فيحتاج أن يذكر طريق سماعه حتى يكون حديثه مسندًا.
ومن المسندات: نوع يسمى المسلسل، وهو اصطلاح بين المحدّثين، مثل أن يكون جميع رواة الحديث قد اشتركوا عند سماع ذلك الحديث في قول، أو فعل، أو حالة من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى آخر رواته.
مثل: تشبيك الأصابع، أو الأخذ باللحية، أو المصافحة، ونحو ذلك من الأسباب، فيقول: حدثني فلان، ويده على لحيته، قال: حدثني فلان، ويده على لحيته، قال: حدثني فلان، ويده على لحيته، وكذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك: حدثني فلان، وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثني فلان، وهو أو حديث سمعته منه، قال: حدثني فلان وهو أول حديث سمعته منه، ونحو ذلك.
واعلم أن الإسناد في الحديث هو الأصل، وعليه الاعتماد، وبه تعرف صحة الحديث وسقمه.
قال سفيان الثوري: «الإسناد سلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل؟».
وقال شعبة: «كل علم ليس فيه: أخبرنا، وحدثنا، فهو خل وبقل».
وقال يزيد بن زريع: «لكل دين فرسان، وفرسان هذا الدين أصحاب الإسناد».
وقال أحمد بن حنبل: «إذا روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحلال والحرام والسنن والأحكام - تشددنا في الأسانيد، وإذا روينا عنه في فضائل الأعمال وما لا يضع حكمًا ولا يرفعه، تساهلنا في الأسانيد، ولولا الأسانيد لقال من شاء ما شاء».
ثم من الإسناد عال ونازل، وطلب العالي سنة، فعلى طالب علم الحديث: أن يرغب في طلبه.
وعلو الإسناد على مراتب.
منها: ما هو بقلة العدد. ومنها ما هو بثقة الرواة.
ومنها: ما هو بفقه لرواة. ومنها: ما هو باشتهار الرواة.
ومنها: ما يجمع هذه الأوصاف، وهو أكملها، أو بعضها.
فأما قلة العدد، فأقل ما يروى من الصحيح في زماننا هذا: «ثلاثيات البخاري» من طريق أبي الوقت عبد الأول السّجزي، فإن أصحاب أبي الوقت بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانية أنفس في «ثلاثيات البخاري».
أحدهم: أبو الوقت، ثم الداودي، ثم السرخي، ثم الفربري، ثم البخاري، فهؤلاء خمسة، والذين روى عنهم البخاري ثلاثياته ثلاثة.
وقد تقع أحاديث من الأحاديث الصحاح المخرجة في الصحيحين أو في أحدهما من غير طريق البخاري ومسلم التي يروى بها كتابهما، إلا أن شرط الصحة موجود فيها. مثل ما حدثنا به الشيخ أبو ياسر عبد الوهاب بن هبة الله بن أبي حيّة البغدادي، قراءة عليه، قال: حدثنا الرئيس أبو القاسم هبة الله بن محمد بن عبد الواحد بن الحصين، قال: حدثنا أبو طالب محمد بن محمد بن غيلان البزاز، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي، قال: حدثنا القاضي إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد ومحمد بن سليمان الواسطي، قال إسماعيل: حدثنا وقال محمد: سألت محمد بن عبد الله الأنصاري قال: حدثنا حميد الطويل عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان لي أخ يقال له: أبو عمير، وكان له عصفور يلعب به، فمات العصفور، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل بيتنا، ويقول: «أبا عمير، ما فعل النّغير؟».
وفي حديث القاضي إسماعيل قال: كان ابنٌ لأم سليم يقال له: أبو عمير، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمازحه، إذا دخل على أم سليم، فدخل يومًا، فوجد ه حزينًا، فقال: ما لأبي عمير حزينًا؟ قالوا: يا رسول الله، مات نغيره الذي كان يلعب به، فجعل يقول: «أبا عمير، ما فعل النغير؟».فهذا حديث صحيح قد أخرجه البخاري ومسلم في كتابيهما، ومن يرويه بهذا الطريق الذي ذكرناه عن ابن الحصين يكون بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - سبعة رجال، فهو أعلى من «ثلاثيات البخاري» المروية من طريق أبي الوقت برجل، وشرط الصحة موجود فيه، وقد جاء في هذه الأحاديث «الغيلانيّات» غير هذا الحديث بهذا العدد.
وأما ثقة الرواة، فهو أن يكونوا معروفين بالصدق، مشهورين بالأمانة وصحة النقل والرواية، لا يتطرق إليهم تهمة، ولا جرح ولا ريبة، كمشايخ البخاري ومسلم اللذين خرجا أحاديثهم في كتابيهما، فهذا وأشباهه، وإن بعد طريقه وكثر رجاله، فهو عال، وإن كان غيره أقل رجالاً منه وليست له هذه الحال.
وأما فقه الرواة، فأن يكون رواته أو بعضهم فقيهًا، كسعيد بن المسيب، ومحمد بن شهاب الزهري، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، ومن يجري مجراهم من أئمة الفقه.
فإذا كان الحديث مرويًا من طريق هؤلاء، كان عاليًا وإن كثرت رجاله.
قال علي بن خشرم: قال لنا وكيع: أي الإسنادين أحب إليكم: الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود، أو سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله؟ فقلنا: الأعمش عن أبي وائل، فقال: يا سبحان الله ! الأعمش شيخ،
وأبو وائل شيخ، وسفيان فقيه، ومنصور فقيه، وإبراهيم فقيه، وعلقمة فقيه، وحديث يتداوله الفقهاء، خير من حديث يتداوله الشيوخ.
فهذا من طريق الفقهاء رباعي إلى ابن مسعود، وثنائي من طريق المشايخ، ومع ذلك قدّم الرباعي لأجل فقه رجاله.
وأما اشتهار الرواة، فأن يكونوا معروفين بالرواية عنّن رووا عنه: كعلقمة، وأبي وائل عن ابن مسعود، والقاسم بن محمد وعروة عن عائشة، وإبراهيم عن علقمة، وهشام عن عروة، ونحو ذلك، فإن هؤلاء مشهورون بمن رووا عنه، وذلك يجعل إسنادهم عاليًا وإن كثرت رجاله.
فإذًا أعلى هذه الرتب مختلف فيه، وكل يذهب إلى ما يميل إليه نظره، لكن الأولى أن يكون أعلاها: ما اجتمع فيه هذه الأوصاف، ثم ما كان في طريقه الفقهاء، ثم الثقات، ثم المشهورون، ثم العدد إذا عري من هذه الأوصاف.
ومن تحقق ما ذكرناه في علو الإسناد، فقد عرف النازل منه، لأنه ضده، لكن من طرق النازل ما يكون قد أخذ عن شيخ قد تقدم موته، واشتهر فضله، فأنه أقل نزولاً مما أخذ عن شيخ تأخر موته، وعرف بالصدق.
ومنها: أن ينظر طالب الحديث إلى إسناد شيخه الذي يكتب عنه، فما قرب من سنه طلب أعلى منه.
ومنها: أن يكون له شيخان، أحدهما سمع حديثًا من شيخه عن أمد معين، والآخر سمعه عن أمد أبعد منه، فروايته عن أبعد الأمدين أعلى، وعن أقربهما أنزل.
الفرع الخامس: في المرسل
المرسل من الحديث: هو أن يروي الرجل حديثًا عمن لم يعاصره، وله بين المحدثين أنواع واصطلاح في تسمية أنواعه.
فمنه: المرسل المطلق، وهو أن يقول التابعي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلا يكون الحديث مرسلاً مطلقًا، ما لم يرسله التابعي خاصة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومنه قسم يسمى المنقطع، وهو غير الأول.
قال الحاكم: وقلما تجد من يفرق بينهما، وهو على نوعين:
أحدهما: أن يكون في الإسناد رواية راو لم يسمع من الذي روى عنه الحديث قبل الوصول إلى التابعي الذي هو موضع الإرسال.
والآخر: أن يذكر أحد رواته في الحديث عن رجل ولا يسميه جهلاً به، فإن لم يكن للجهل به، وإنما ترك اسمه وهو يعرفه، فليس بمنقطع، لكونه معروف الاسم.
ومنه قسم يسمى المعضل: وهو أن يكون من المرسل إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أكثر من رجل، ومثاله: أن يروي عمرو بن شعيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل كذا وكذا، أو قال كذا وكذا، ثم لا يسنده، ولا يرسله في حالة ما، ولا أحد من الرواة، وعمرو بن شعيب أقل ما بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنان، فإن كان الحديث قد أسنده وقتًا ما، أو أرسله، فليس بمعضل.
ومن أنواع المعضل: أن يعضله الراوي من أتباع التابعين، فلا يرويه عن أحد، ويجعله كلامًا موقوفًا، فلا يذكره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معضلاً ثم يوجد ذلك الكلام عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متصلاً من طريق آخر.
وأكثر ما تروى المراسيل من أهل المدينة عن سعيد بن المسيب، ومن أهل مكة عن عطاء بن أبي رباح، ومن أهل مصر عن سعيد بن أبي هلال، ومن أهل الشام عن مكحول، ومن أهل البصرة عن الحسن البصري، ومن أهل الكوفة عن إبراهيم بن زيد النخعي.
وأصحها مراسيل ابن المسيب، فإنه أدرك جماعة من أكابر الصحابة، وأخذ عنهم، وأدرك من لم يدركه غيره من التابعين، وقد تأمل الأئمة مراسيله، فوجدوها جميعها بأسانيد صحيحة.
والناس في قبول المراسيل مختلفون.
فذهب أبو حنيفة، ومالك بن أنس، وإبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سليمان، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، ومن بعدهم من أئمة الكوفة إلى أن المراسيل
مقبولة، محتج بها عندهم، حتى إن منهم من قال: إنها أصح من المتصل المسند، فإن التابعي إذا أسند الحديث أحال الرواية على من رواه عنه، وإذا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لا يقوله إلا بعد اجتهاد في معرفة صحته.
وأما أهل الحديث قاطبة. أو معظمهم، فإن المراسيل عندهم واهية غير محتج بها، وإليه ذهب الشافعي، وأحمد بن حنبل، وهو قول ابن المسيب، والزهري، والأوزاعي، ومن بعدهم من فقهاء الحجاز.
ومن هؤلاء الذين قالوا برد المراسيل: من قبل مرسل الصحابي، لأنه يحدث عن الصحابي، وكلهم عدول.
ومنهم من أضاف إليه مراسيل التابعين، لأنهم يروون عن الصحابة.
ومنهم من خصص كبار التابعين، كابن المسيب، ويحكى أنه قول الشافعي، وأنه قبل مراسيل ابن المسيب وحده، واحتج له بأنه وجدها مسندة.
والمختار على قياس رد المرسل أن التابعي والصحابي إذا عرف بصريح خبره أو بعادته أنه لا يروي إلا عن صحابي، قبل مرسله، وإن لم يعرف ذلك، فلا يقبل، لأنهم قد يروون عن غير الصحابي من الأعرابي الذي لا صحبة له.
الفرع السادس: في الموقوف
وهو على أنواع:
أحدها: الموقوف عن الصحابي، وقلما يخفى على أهل العلم.
وذلك: أن يروي الحديث مسندًا إلى الصحابي، فإذا بلغ إلى الصحابي قال: إنه كان يقول كذا وكذا، أو كان يفعل كذا وكذا، أو كان يأمر بكذا وكذا، ونحو ذلك.
الثاني: الموقوف على أحد الرواة قبل الصحابي.
مثل: أن يقول أحد رواة الحديث: قال ابن مسعود، ولم يكن قد أدركه ولا رآه، فهذا موقوف عند ذلك الراوي، وإن كان اللفظ لابن مسعود. وهذا أحد أنواع المرسل، وهو أحد قسمي المنقطع.
الثالث: أن يكون موقوفًا على أحد رواته، وهو مسند في الأصل، إلا أن أحد رواته قصّر به فلم يرفعه، وهو أحد نوعي المعضل.
الرابع: ما يوهم لفظه أنه مسند، وليس بمسند، كما روى المغيرة بن شعبة قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرعون بابه بالأظافير، فهذا يوهم لذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه أنه مسند، وليس كذلك، إنما هو موقوف على صحابي حكى عن أقرانه من الصحابة فعلاً، ولم يسنده واحد منهم.
الفرع السابع: في ذكر التواتر والآحاد
وصول الحديث إلينا لا يخلو من أحد طريقين، إما بطريق التواتر، وإما بطريق الآحاد، ولكل واحد منهما شرح وبيان وأحكام يحتاج إلى ذكرها لئلا تخلو هذه المقدمة منها.
والكلام في ذكرهما ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: في ذكر التواتر، وهو حكم يتعلق بالأخبار
وحدّ الخبر: ما دخله الصدق أو الكذب، أو تطرق إليه التصديق أو التكذيب، وذلك أولى من قولهم: «ما دخله الصدق أو الكذب»، فإن كلام الله تعالى لا يدخله الكذب، والإخبار عن المحالات لا يدخله الصدق. والتواتر يفيد العلم، وذلك ظاهر، لا خلاف فيه، إلا في قول ضعيف قليل وله أربعة شروط:
الشرط الأول: أن يخبر عن علم لا عن ظن، فإن أهل بلد عظيم لو أخبروا عن طائر أنهم ظنوا أنه حمام، أو عن شخص أنهم ظنوا أنه زيد، لم يحصل لنا العلم بكونه حمامًا أو زيدًا.
الشرط الثاني: أن يكون علمهم ضروريًا مستندًا إلى محسوس إذا لو جذوبًا عن حدوث العالم أو عن صدق الأنبياء لم يحصل لنا العلم
الشرط الثالث: أن يستوي طرفاه وواسطته في هذه الصفات وفي كمال العدد، فإذا نقل الخلف عن السلف، وتوالت الأعصار، ولم تكن الشروط قائمة في كل عصر، لم يحصل العلم بصدقهم، لأن خبر أهل كل عصر مستقل بنفسه، فلابد
فيه من الشروط، ولأجل ذلك لم يحصل لنا العلم بصدق اليهود - مع كثرتهم - في نقلهم عن موسى عليه السلام تكذيب كل ناسخ لشريعته، ولا بصدق الشيعة بنقل النص على إمامة علي - كرم الله وجهه-، والبكرية على إمامة أبي بكر - رضي الله عنه -.
ولأن هذا وضعه الآحاد أولاً، وأفشوه، ثم كثر الناقلون في عصره وبعده في الأعصار، فلذلك لم يحصل التصديق، بخلاف وجود موسى عليه السلام وتحديه بالنبوة، ووجود أبي بكر وعلي - رضي الله عنهما - وانتصابهما للإمامة، فإن ذلك لما تساوى فيه الأطراف والوساطة، حصل لنا العلم الضروري الذي لا نقدر على تشكيك أنفسنا فيه، ونقدر على التشكيك فيما نقلوه عن موسى وأبي بكر وعلي.
والشرط الرابع: العدد، وعدد المخبرين ينقسم إلى ناقص، فلا يفيد العلم، وإلى كامل، فيفيد العلم، وإلى زائد يحصل العلم ببعضه، وتقع الزيادة فضلة.
والكامل وهو أقل عدد يورث العلم، ليس معلومًا لنا، لكنا بحصول العلم الضروري نتبين كمال العدد، لا أنا بكمال العدد نستدل على حصول العلم.
ثم العدد الذي يفيد العلم يفيده في كل واقعة وكل شخص، بحيث إنه متى وجد العدد أفاد العلم لكل من سمعه في كل واقعة وذلك إذا تجرد الخبر عن القرائن.
فأما إذا اقترن الخبر بقرائن، فقد اختلف فيه، فقال قوم: لا أثر لها.
وقال آخرون: لها أثر، فإن خمسة أو ستة لو أخبرونا عن موت شخص لم يحصل العلم بصدقهم، لكن إذا انضم إليه خروج والد الميت حاسر الرأس حافيًا، ممزق الثياب، مضطرب الحال، يلطم وجهه ورأسه، وهو رجل كبير، ذو منصب ومروءة، لا يخالف عادته إلا عن ضرورة، فيجوز أن يكون هذا قرينة تنضم إلى قول أولئك، فيقوم في التأثير مقام بقية العدد.فدل ذلك على أن العدد يجوز أن يختلف بالوقائع وبالأشخاص، فرب شخص انغرس في نفسه أخلاق تميل به إلى سرعة التصديق ببعض الأشياء، فيقوم ذلك مقام القرائن، وتقوم تلك القرائن مقام خبر بعض المخبرين، أما متى انتفت القرائن، فأقل عدد يحصل به العلم الضروري معلوم لله تعالى، غير معلوم لنا، ولا سبيل لنا إلى معرفته، لأنا
لا ندري متى حصل لنا العلم بوجود مكة، وبوجود الشافعي مثلاً عند تواتر الخبر إلينا، وأنه كان بعد خبر المائة والمائتين.
ويعسر علينا تجربة ذلك، وإن تكلفناها، فسبيل التكليف أن نراقب أنفسنا إذا قتل رجل في السوق مثلاً وانصرف جماعة من موضع القتل، ودخلوا علينا يخبرون عن قتله، فإن قول الأول يحرك الظن، وقول الثاني والثالث يؤكده، ولا يزال يتزايد تأكده إلى أن يصير ضروريًا لا يمكننا أن نشكك فيه أنفسنا.
فلو تصور الوقوف على اللحظة التي يحصل العلم فيها ضرورة، وحفظ حساب المخبرين وعددهم، لأمكن الوقوف، ولكن درك تلك اللحظة أيضًا عسير، فإنه تتزايد قوة الاعتقاد تزايدًا خفي التدريج، نحو تزايد ضوء الصبح إلى أن يبلغ حد الكمال، فلذلك بقي هذا في غطاء من الإشكال، وتعذر على القوة البشرية إدراكه.
فأما ما ذهب إليه قوم من تخصيص عدد التواتر بالأربعين، أخذًا بعدد الجمعة، وبالسبعين، أخذًا من قوله تعالى: {واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا} [الأعراف: 155] وبثلاثمائة وبضعة عشر، أخذًا بعدد أهل بدر، فكل ذلك تحكمات فاسدة، لا تناسب الغرض، ولا تدل عليه.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: إن الأربعة ناقصة عن العدد الكامل، لأنها بينة شرعية تحصل بها غلبة الظن، ولا يطلب الظن فيما يعلم ضرورة، قال: والخمسة لا توقّف فيها.
فإذًا لا سبيل لنا إلى حصر العدد، لكنا بالعلم الضروري نستدل على أن العدد الذي هو كامل عند الله تعالى قد توافقوا على الإخبار.
وقد شرط قوم لعدد التواتر شروطًا فاسدة.
منها: أن لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد.
ومنها: أن تختلف أنسابهم فلا يكونوا بني أب واحد، وتختلف أوطانهم فلا يكونوا من محلة واحدة، وتختلف أديانهم، فلا يكونوا من مذهب واحد.
ومنها: أن يكونوا أولياء المؤمنين.
ومنها: أن يكونوا غير محمولين بالسيف على الإخبار.
ومنها: أن يكون الإمام المعصوم في جملة المخبرين، وهذا شرطه الرافضة.
القسم الثاني: في أخبار الآحاد
وهي ما لا ينتهي إلى حد خبر التواتر المفيد للعلم، فما نقله جماعة من خمسة أو ستة مثلاً، فهو خبر واحد.
قال إمام الحرمين: ولا يراد بخبر الواحد الخبر الذي ينقله الواحد، ولكن كل خبر عن جائز ممكن، لا سبيل إلى القطع بصدقه، ولا إلى القطع بكذبه، لا اضطرارًا ولا استدلالاً، فهو خبر الواحد وخبر الآحاد، سواء نقله واحد أو جمع منحصرون.
قال: وقد يخبر الواحد، فيعلم صدقه قطعًا، كالنبي- صلى الله عليه وسلم - فيما يخبر به عن الغائبات، ولا يعدّ من أخبار الآحاد.
وخبر الواحد لا يفيد العلم، ولكنا متعبّدون به.
وما حكي عن المحدثين من أن ذلك يورث العلم، فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل، أو سمّوا الظن علمًا، ولهذا قال بعضهم: يورث العلم الظاهر، والعلم ليس له ظاهر وباطن، وإنما هو الظن.
وقد أنكر قوم جواز التعبد بخبر الواحد عقلاً، فضلاً عن وقوعه سمعًا، وليس بشيء.
وذهب قوم إلى أن العقل يدل على وجوب العمل بخبر الواحد، وليس بشيء، فإن الصحيح من المذهب والذي ذهب إليه الجماهير من سلف الأئمة من الصحابة والتابعين والفقهاء والمتكلمين: أنه لا يستحيل التعبد بخبر الواحد عقلاً. ولا يجب التعبد به عقلاً، وأن التعبد واقع سمعًا، بدليل قبول الصحابة لخبر الواحد، وعملهم به في وقائع شتى لا تنحصر، وإنفاذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسله وقضاته وأمراءه وسعاته إلى الأطراف، وهم آحاد، وبإجماع الأمة على أن العامي مأمور باتباع المفتي وتصديقه، مع أنه ربما يخبر عن ظنه، فالذي يخبر عن السماع الذي لا شك فيه أولى بالتصديق.


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الثالث, الباب

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:53 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir