دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > أصول الفقه > متون أصول الفقه > جمع الجوامع

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 17 ذو الحجة 1429هـ/15-12-2008م, 11:28 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي الكتاب الثالث: في الإجماع

الكتاب الثالث: في الإجماع
وَهُوَ اتِّفَاقُ مُجْتَهِدِي الأُمَّةِ بَعْدَ وَفَاةِ (مُحَمَّدٍ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَصْرٍ عَلَى أَيِّ أَمْرٍ كَانَ، فَعُلِمَ اخْتِصَاصُهُ بِالمُجْتَهِدِينَ وَهُوَ اتِّفَاقٌ وَاعْتَبَرَ قَوْمٌ وِفَاقَ العَوَامِّ مُطْلَقًا، وَقَوْمٌ فِي المَشْهُورِ بِمَعْنَى إطْلَاقِ أَنَّ الأُمَّةَ أَجْمَعَتْ لَا افْتِقَارِ الحُجَّةِ إلَيْهِمْ خِلَافًا للآمدي وَآخَرُونَ الأُصُولِيَّ فِي الفُرُوعِ وَبِالمُسْلِمِينَ، فَخَرَجَ مَنْ نَكْفرهُ، وَبِالعُدُولِ إنْ كَانَتْ العَدَالَةُ رُكْنًا وَعَدَمِهِ إنْ لَمْ تَكُنْ، وَثَالِثُهَا فِي الفَاسِقِ يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَرَابِعُهَا إنْ بَيَّنَ مَأْخَذَهُ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الكُلِّ وَعَلَيْهِ الجُمْهُورُ وَثَانِيهَا يَضُرُّ الِاثْنَانِ وَثَالِثُهَا الثَّلَاثَةُ وَرَابِعُهَا بَالِغُ عَدَدِ التَّوَاتُرِ وَخَامِسُهَا إنْ سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِي مَذْهَبِهِ، وَسَادِسُهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَسَابِعُهَا لَا يَكُونُ إجْمَاعًا بَلْ حُجَّةً أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالصَّحَابَةِ وَخَالَفَ الظَّاهِرِيَّةُ، وَعَدَمُ انْعِقَادِهِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ التَّابِعِيَّ المُجْتَهِدَ مُعْتَبَرٌ مَعَهُمْ، فَإِنْ نَشَأَ بَعْدُ فَعَلَى الخِلَافِ فِي انْقِرَاضِ العَصْرِ، وَأن إجْمَاعُ كُلٍّ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ، وَأَهْلِ البَيْتِ، وَالخُلَفَاءِ الأَرْبَعَةِ، وَالشَّيْخَيْنِ، وَأَهْلِ الحَرَمَيْنِ وَأَهْلِ المِصْرَيْنِ الكُوفَةِ وَالبَصْرَةِ غَيْرُ حُجَّةٍ، وَأنَّ المَنْقُولَ بِالآحَادِ حُجَّةٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الكُلِّ، وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ عَدَدُ التَّوَاتُرِ، وَخَالَفَ إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَأَنَّهُ لو لَمْ يَكُنْ إلَّا وَاحِدٌ لَمْ يُحْتَجَّ بِهِ وَهُوَ المُخْتَارُ، وَأَنَّ انْقِرَاضَ العَصْرِ لَا يُشْتَرَطُ وَخَالَفَ أَحْمَدُ وَابْنُ فَوْرَكٍ وَسُلَيْمٌ فَشَرَطُوا انْقِرَاضَ كُلِّهِمْ أَوْ غَالِبِهِمْ أَوْ عُلَمَائِهِمْ أَقْوَالُ اعْتِبَارِ العَامِّيِّ وَالنَّادِرِ، وَقِيلَ يُشْتَرَطُ فِي السُّكُوتِيِّ، وَقِيلَ إنْ كَانَ فِيهِ مَهْلَةٌ، وَقِيلَ إنْ بَقِيَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَمَادِي الزَّمَنِ وَشَرَطَهُ إمَامُ الحَرَمَيْنِ فِي الظَّنِّيِّ، وَأَنَّ إجْمَاعَ السَّابِقِينَ غَيْرُ حُجَّةٍ وَهُوَ الأَصَحُّ، وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَنْ قِيَاسٍ خِلَافًا لِمَانِعِ جَوَازِ ذَلِكَ أَوْ وُقُوعِهِ مُطْلَقًا أَوْ الخَفِيِّ وَأَنَّ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الخِلَافِ جَائِزٌ، وَلَوْ مِنْ الحَادِثِ بَعْدَهُمْ، وَأَمَّا بَعْدَهُ مِنْهُمْ فَمَنَعَهُ الإِمَامُ وَجَوَّزَه الآمِدِيُّ مُطْلَقًا، وَقِيلَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهُمْ قَاطِعًا، وموت المخالف قيل كالاتفاق، وقيل لا، وَأَمَّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَالأَصَحُّ مُمْتَنِعٌ إنْ طَالَ الزَّمَانُ، أو أن وَالتَّمَسُّكَ بِأَقَلَّ مَا قِيلَ حَقٌّ، أَمَّا السُّكُوتِيُّ فَثَالِثُهُا حُجَّةٌ لَا إجْمَاعٌ. وَرَابِعُهَا بِشَرْطِ الِانْقِرَاضِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إنْ كَانَ فُتْيَا وَأَبُو إسْحَاقَ المَرْوَزِيِّ عَكْسَهُ، وَقَوْمٌ إنْ وَقَعَ فِيمَا يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ، وَقَوْمٌ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، وَقَوْمٌ إنْ كَانَ السَّاكِتُونَ أَقَلَّ، وَالصَّحِيحُ حُجَّةٌ، وَفِي تَسْمِيَتِهِ إجْمَاعًا خلف لَفْظِيٌّ، وَفِي كَوْنِهِ إجْمَاعًا حقيقة تَرَدُّدٌ مَثَارُهُ أَنَّ السُّكُوتَ المُجَرَّدَ عَنْ أَمَارَةِ رِضًى وَسُخْطٍ مَعَ بُلُوغِ الكُلِّ وَمُضِيِّ مُهْلَةِ النَّظَرِ عَادَةً عَنْ مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ تَكْلِيفِيَّةٍ وهو صورة السكوتي، هَلْ يَغْلِبُ ظَنُّ المُوَافَقَةِ، وَكَذَا الخِلَافُ فِيمَا لَمْ يَنْتَشِرْ، وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي دُنْيَوِيٍّ وَدِينِيٍّ وَعَقْلِيٍّ لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَيْهِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ إمَامٌ مَعْصُومٌ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُسْتَنَدٍ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِقَيْدِ الِاجْتِهَادِ مَعْنًى، وَهُوَ الصَّحِيحُ في الكل.

  #2  
قديم 18 ذو الحجة 1429هـ/16-12-2008م, 10:31 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح جمع الجوامع لجلال الدين المحلي


(الكتاب الثالث): في الإجماع من الأدلة الشرعية

(وَهُوَ اتِّفَاقُ مُجْتَهِدِ الْأُمَّةِ بَعْدَ وَفَاةِ) نَبِيِّهَا (مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَصْرٍ عَلَى أَيِّ أَمْرٍ كَانَ) وَشَرَحَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْحَدَّ بَانِيًا عَلَيْهِ مُعْظَمَ مَسَائِلِ الْمَحْدُودِ وَنَاهِيك بِحُسْنِ ذَلِكَ. فَقَالَ (فَعُلِمَ اخْتِصَاصُهُ) أَيْ الْإِجْمَاعِ (بِالْمُجْتَهِدِينَ) بِأَنْ لَا يَتَجَاوَزَهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ (وَهُوَ) أَيْ الِاخْتِصَاصُ بِهِمْ (اتِّفَاقٌ) أَيْ فَلَا عِبْرَةَ بِاتِّفَاقِ غَيْرِهِمْ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ وِفَاقُ غَيْرِهِمْ لَهُمْ ؟ نَبَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَاعْتَبَرَ قَوْمٌ وِفَاقَ الْعَوَامِّ) لِلْمُجْتَهِدِينَ (مُطْلَقًا) أَيْ الْمَشْهُورُ وَالْخَفِيُّ (وَقَوْمٌ فِي الْمَشْهُورِ) دُونَ الْخَفِيِّ كَدَقَائِقِ الْفِقْهِ (بِمَعْنَى إطْلَاقِ أَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ) أَيْ لِيَصِحَّ هَذَا الْإِطْلَاقُ (لَا) بِمَعْنَى (افْتِقَارِ الْحُجَّةِ) اللَّازِمَةِ لِلْإِجْمَاعِ (إلَيْهِمْ خِلَافًا لِلْآدَمِيِّ) فِي قَوْلِهِ بِالثَّانِي وَيَدُلُّ لَهُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْمَشْهُورِ وَالْخَفِيِّ (وَ) اعْتَبَرَ (آخَرُونَ الْأُصُولِيَّ فِي الْفُرُوعِ) فَيُعْتَبَرُ وِفَاقُهُ لِلْمُجْتَهِدِينَ فِيهَا لِتَوَقُّفِ اسْتِنْبَاطِهَا عَلَى الْأُصُولِ وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ ; لِأَنَّهُ عَامِّيٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا.
(وَ) عُلِمَ اخْتِصَاصُ الْإِجْمَاعِ (بِالْمُسْلِمِينَ) لِأَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ فِي الِاجْتِهَادِ الْمَأْخُوذِ فِي تَعْرِيفِهِ (فَخَرَجَ مَنْ نَكْرَهُ) بِبِدْعَتِهِ فَلَا عِبْرَةَ بِوِفَاقِهِ وَلَا خِلَافِهِ.
(وَ) عُلِمَ اخْتِصَاصُهُ (بِالْعُدُولِ إنْ كَانَتْ الْعَدَالَةُ رُكْنًا) فِي الِاجْتِهَادِ (وَعَدَمِهِ) أَيْ عَدَمِ الِاخْتِصَاصِ بِهِمْ (إنْ لَمْ تَكُنْ) رُكْنًا فِي الِاجْتِهَادِ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ فَحَصَلَ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّ فِي اعْتِبَارِ وِفَاقِ الْفَاسِقِ قَوْلَيْنِ وَزَادَ عَلَيْهِمَا قَوْلَهُ (وَثَالِثُهَا) أَيْ الْأَقْوَالِ (فِي الْفَاسِقِ يُعْتَبَرُ) وِفَاقُهُ (فِي حَقِّ نَفْسِهِ) دُونَ غَيْرِهِ فَيَكُونُ إجْمَاعُ الْعُدُولِ حُجَّةً عَلَيْهِ إنْ وَافَقَهُمْ وَعَلَى غَيْرِهِ مُطْلَقًا (وَرَابِعُهَا) يُعْتَبَرُ وِفَاقُهُ (إنْ بَيَّنَ مَأْخَذَهُ) فِي مُخَالَفَتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُبَيِّنْهُ إذْ لَيْسَ عِنْدَهُ مَا يَمْنَعُهُ عَنْ أَنْ يَقُولَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. (وَ) عُلِمَ (أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْكُلِّ) لِأَنَّ إضَافَةَ مُجْتَهِدِ إلَى الْأُمَّةِ تُفِيدُ الْعُمُومَ (وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ) فَتَضُرُّ مُخَالَفَةُ الْوَاحِدِ (وَثَانِيهَا) أَيْ الْأَقْوَالِ (يَضُرُّ الِاثْنَانِ) دُونَ الْوَاحِدِ (وَثَالِثُهَا) تَضُرُّ (الثَّلَاثَةُ) دُونَ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ (وَرَابِعُهَا) يَضُرُّ (بَالِغُ عَدَدِ التَّوَاتُرِ) دُونَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ إذَا كَانَ غَيْرُهُمْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ (وَخَامِسُهَا) تَضُرُّ مُخَالَفَةُ مَنْ خَالَفَ (إنْ سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِي مَذْهَبِهِ) بِأَنْ كَانَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَجَالٌ كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِعَدَمِ الْعَوْلِ، فَإِنْ لَمْ يَسَعْ كَقَوْلِهِ بِجَوَازِ رِبَا الْفَضْلِ فَلَا تَضُرُّ مُخَالَفَتُهُ (وَسَادِسُهَا) تَضُرُّ مُخَالَفَةُ مَنْ خَالَفَ وَلَوْ كَانَ وَاحِدًا (فِي أُصُولِ الدِّينِ) لِخَطَرِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ (وَسَابِعُهَا لَا يَكُونُ) الِاتِّفَاقُ مَعَ مُخَالَفَةِ الْبَعْضِ (إجْمَاعًا بَلْ) يَكُونُ (حُجَّةً) اعْتِبَارًا لِلْأَكْثَرِ.
(وَ) عُلِمَ (أَنَّهُ) أَيْ الْإِجْمَاعُ (لَا يَخْتَصُّ بِالصَّحَابَةِ) لِصِدْقِ مُجْتَهِدِ الْأُمَّةِ فِي عَصْرٍ بِغَيْرِهِمْ (وَخَالَفَ الظَّاهِرِيَّةُ) فَقَالُوا يَخْتَصُّ بِهَا لِكَثْرَةِ غَيْرِهِمْ كَثْرَةً لَا تَنْضَبِطُ فَيَبْعُدُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى شَيْءٍ. (وَ) عُلِمَ (عَدَمُ انْعِقَادِهِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مِنْ قَوْلِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ إنْ وَافَقَهُمْ فَالْحُجَّةُ فِي قَوْلِهِ وَإِلَّا فَلَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِهِمْ دُونَهُ. (وَ) عُلِمَ (أَنَّ التَّابِعِيَّ الْمُجْتَهِدَ) وَقْتَ اتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ (مُعْتَبَرٌ مَعَهُمْ) لِأَنَّهُ مِنْ مُجْتَهِدِي الْأُمَّةِ فِي عَصْرٍ (فَإِنْ نَشَأَ بَعْدُ) بِأَنْ لَمْ يَصِرْ التَّابِعِيُّ مُجْتَهِدًا إلَّا بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ (فَعَلَى الْخِلَافِ) أَيْ فَاعْتِبَارُ وِفَاقِهِ لَهُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ (فِي انْقِرَاضِ الْعَصْرِ) إنْ اُشْتُرِطَ اُعْتُبِرَ وَإِلَّا وَهُوَ الصَّحِيحُ فَلَا. (وَ) عُلِمَ (إجْمَاعُ كُلٍّ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) النَّبَوِيَّةِ (وَأَهْلِ الْبَيْتِ) النَّبَوِيِّ وَهُمْ فَاطِمَةُ وَعَلِيٌّ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (وَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ) أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (وَالشَّيْخَيْنِ) أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ (وَأَهْلِ الْحَرَمَيْنِ) مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ (وَأَهْلِ الْمِصْرَيْنِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ غَيْرُ حُجَّةٍ) لِأَنَّهُ اتِّفَاقُ بَعْضِ مُجْتَهِدِ الْأُمَّةِ لَا كُلِّهِمْ.
(وَإِنَّ) الْإِجْمَاعَ (الْمَنْقُولَ بِالْآحَادِ) (حُجَّةٌ) لِصِدْقِ التَّعْرِيفِ بِهِ (وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْكُلِّ)وَقِيلَ إنَّ الْإِجْمَاعَ فِي الْأَخِيرَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ; لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ قَطْعِيٌّ فَلَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَقِيلَ إنَّهُ فِيمَا قَبْلَ الْأَخِيرَةِ مِنْ السِّتِّ حُجَّةٌ أَمَّا فِي الْأُولَى فَلِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ {إنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا} وَالْخَطَأُ خَبَثٌ فَيَكُونُ مَنْفِيًّا عَنْ أَهْلِهَا. وَأُجِيبَ بِصُدُورِهِ مِنْهُمْ بِلَا شَكٍّ لِانْتِفَاءِ عِصْمَتِهِمْ فَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهَا فِي نَفْسِهَا فَاضِلَةٌ مُبَارَكَةٌ. وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِب عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} وَالْخَطَأُ رِجْسٌ فَيَكُونُ مَنْفِيًّا عَنْهُمْ وَهُمْ مَنْ تَقَدَّمَ لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ {عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَفَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ كِسَاءً وَقَالَ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَخَاصَّتِي اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا} وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ {عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةً وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ فَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَأَدْخَلَهُ ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُ ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَدْخَلَهَا ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَأَدْخَلَهُ ثُمَّ قَالَ {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}}. وَأُجِيبَ بِمَنْعِ أَنَّ الْخَطَأَ رِجْسٌ وَالرِّجْسُ قِيلَ الْعَذَابُ وَقِيلَ الْإِثْمُ وَقِيلَ كُلُّ مُسْتَقْذَرٍ وَمُسْتَنْكَرٍ، وَأَمَّا فِي الثَّالِثَةِ فَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَصَحَّحَهُ وَقَالَ {الْخِلَافَةُ مِنْ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَكُونُ مِلْكًا} أَيْ تَصِيرُ، أَخْرَجَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَأَحْمَدُ فِي الْمَنَاقِبِ وَكَانَتْ مُدَّةُ الْأَرْبَعَةِ هَذِهِ الْمُدَّةُ إلَّا سِتَّةَ أَشْهُرٍ مُدَّةُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ فَقَدْ حَثَّ عَلَى اتِّبَاعِهَا فَيَنْتَفِي عَنْهُمْ الْخَطَأُ. وَأُجِيبَ بِمَنْعِ انْتِفَائِهِ، وَأَمَّا فِي الرَّابِعَةِ فَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَحَسَّنَهُ أَمَرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا فَيَنْتَفِي عَنْهُمَا الْخَطَأُ. وَأُجِيبَ بِمَنْعِ انْتِفَائِهِ، وَأَمَّا فِي الْخَامِسَةِ وَالسَّادِسَةِ فَلِأَنَّ إجْمَاعَ مَنْ ذُكِرَ فِيهَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِالْحَرَمَيْنِ وَانْتَشَرُوا إلَى الْمِصْرَيْنِ. وَأُجِيبَ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي عَصْرِهِمْ عَلَى أَنَّ فِيمَا ذُكِرَ تَخْصِيصُ الدَّعْوَى بِعَصْرِ الصَّحَابَةِ.
(وَ) عُلِمَ (أَنَّهُ) (لَا يُشْتَرَطُ) فِي الْمُجْمِعِينَ (عَدَدُ التَّوَاتُرِ) لِصِدْقِ مُجْتَهِدِ الْأُمَّةِ بِمَا دُونَ ذَلِكَ (وَخَالَفَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ) فَشُرِطَ ذَلِكَ نَظَرًا لِلْعَادَةِ. (وَ) عُلِمَ (أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ) فِي الْعَصْرِ (إلَّا) مُجْتَهِدٌ (وَاحِدٌ لَمْ يُحْتَجَّ بِهِ) أَقَلُّ مَا يَصْدُقُ بِهِ اتِّفَاقُ مُجْتَهِدِ الْأُمَّةِ اثْنَانِ (وَهُوَ) أَيْ عَدَمُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ (الْمُخْتَارُ) لِانْتِفَاءِ الْإِجْمَاعِ عَنْ الْوَاحِدِ وَقِيلَ يُحْتَجُّ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إجْمَاعًا لِانْحِصَارِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ. (وَ) عُلِمَ (أَنَّ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ) بِمَوْتِ أَهْلِهِ (لَا يُشْتَرَطُ) فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ لِصِدْقِ تَعْرِيفِهِ مَعَ بَقَاءِ الْمُجْمِعِينَ وَمُعَاصِرِيهِمْ (وَخَالَفَ أَحْمَدُ وَابْنُ فَوْرَكٍ وَسُلَيْمٌ) الرَّازِيُّ (فَشَرَطُوا انْقِرَاضَ كُلِّهِمْ) أَيْ كُلِّ أَهْلِ الْعَصْرِ (أَوْ غَالِبِهِمْ أَوْ عُلَمَائِهِمْ) كُلِّهِمْ أَوْ غَالِبِهِمْ. (أَقْوَالُ اعْتِبَارِ الْعَامِّيِّ وَالنَّادِرِ) هَلْ يُعْتَبَرَانِ أَوْ لَا يُعْتَبَرَانِ كَمَا تَقَدَّمَ أَوْ يُعْتَبَرُ الْعَامِّيُّ دُونَ النَّادِرِ أَوْ الْعَكْسُ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ جَمْعِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَيَنْبَنِي عَلَى الْأَوَّلَيْنِ الْأَوَّلُ وَالرَّابِعُ وَعَلَى الْأَخِيرَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى اشْتِرَاطِ الِانْقِرَاضِ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَطْرَأَ لِبَعْضِهِمْ مَا يُخَالِفُ اجْتِهَادَهُ الْأَوَّلَ فَيَرْجِعُ عَنْهُ جَوَازًا بَلْ وُجُوبًا. وَأُجِيبَ بِمَنْعِ جَوَازِ الرُّجُوعِ عَنْهُ لِلْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ. (وَقِيلَ يُشْتَرَطُ الِانْقِرَاضُ فِي) الْإِجْمَاعِ (السُّكُوتِيِّ) لِضَعْفِهِ بِخِلَافِ الْقَوْلِيِّ وَسَيَأْتِي (وَقِيلَ) يُشْتَرَطُ الِانْقِرَاضُ (إنْ كَانَ فِيهِ) أَيْ فِي الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ (مَهْلَةٌ) بِخِلَافِ مَا لَا مَهْلَةَ فِيهِ كَقَتْلِ النَّفْسِ وَاسْتِبَاحَةِ الْفَرْجِ إذْ لَا يَصْدُرُ إلَّا بَعْدَ إمْعَانِ النَّظَرِ (وَقِيلَ) يُشْتَرَطُ الِانْقِرَاضُ (إنْ بَقِيَ مِنْهُمْ) أَيْ مِنْ الْمُجْمِعِينَ (كَثِيرٌ) كَعَدَدِ التَّوَاتُرِ بِخِلَافِ الْقَلِيلِ إذْ لَا اعْتِبَارَ بِهِ فَالْمُشْتَرَطُ حِينَئِذٍ انْقِرَاضُ مَا عَدَا الْقَلِيلِ. (وَ) عُلِمَ (أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ) فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ (تَمَادِي الزَّمَنِ) عَلَيْهِ لِصِدْقِ تَعْرِيفِهِ مَعَ انْتِفَاءِ التَّمَادِي عَلَيْهِ كَأَنْ مَاتَ الْمُجْمِعُونَ عَقِبَهُ بِخُرُورِ سَقْفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (وَشَرَطَهُ) أَيْ التَّمَادِيَ (إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي) الْإِجْمَاعِ (الظَّنِّيِّ) لِيَسْتَقِرَّ الرَّأْيُ عَلَيْهِ كَالْقَطْعِيِّ وَسَيَأْتِي التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا.

(وَ) عُلِمَ (أَنَّ إجْمَاعَ) الْأُمَمِ (السَّابِقِينَ) عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (غَيْرُ حُجَّةٍ) فِي مِلَّتِهِ حَيْثُ أَخَذَ أُمَّتَهُ فِي التَّعْرِيفِ (وَهُوَ الْأَصَحُّ) لِاخْتِصَاصِ دَلِيلِ حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ بِأُمَّتِهِ كَحَدِيثِ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ {إنَّ أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ} وَقِيلَ إنَّهُ حُجَّةٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَرْعَهُمْ شَرْعٌ لَنَا وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ. (وَ) عُلِمَ (أَنَّهُ) أَيْ الْإِجْمَاعَ (قَدْ يَكُونُ عَنْ قِيَاسٍ) لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ الْمَأْخُوذَ فِي تَعْرِيفِهِ لَا بَدَلِهِ مِنْ مُسْتَنِدٍ كَمَا سَيَأْتِي وَالْقِيَاسُ مِنْ جُمْلَتِهِ (خِلَافًا لِمَانِعِ جَوَازِ ذَلِكَ) أَيْ الْإِجْمَاعِ عَنْ قِيَاسٍ (أَوْ) مَانِعِ (وُقُوعِهِ مُطْلَقًا أَوْ فِي) الْقِيَاسِ (الْخَفِيِّ) دُونَ الْجَلِيّ وَسَيَأْتِي التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا وَالْإِطْلَاقُ وَالتَّفْصِيلُ رَاجِعَانِ إلَى كُلٍّ مِنْ الْجَوَازِ وَالْوُقُوعِ وَوَجْهُ الْمَنْعِ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّ الْقِيَاسَ لِكَوْنِهِ ظَنِّيًّا فِي الْأَغْلَبِ يَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ لِأَرْجَحَ مِنْهُ فَلَوْ جَازَ الْإِجْمَاعُ عَنْهُ لَجَازَ مُخَالَفَتُهُ الْإِجْمَاعَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ مُخَالَفَةُ الْقِيَاسِ إذَا لَمْ يُجْمَعْ عَلَى مَا ثَبَتَ بِهِ وَقَدْ أُجْمِعَ عَلَى تَحْرِيمِ شَحْمِ الْخِنْزِيرِ قِيَاسًا عَلَى لَحْمِهِ وَعَلَى إرَاقَةِ نَحْوِ الزَّيْتِ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ قِيَاسًا عَلَى السَّمْنِ. (وَ) عُلِمَ (أَنَّ اتِّفَاقَهُمْ) أَيْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي عَصْرٍ (عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ) لَهُمْ (قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْخِلَافِ) بَيْنَهُمْ بِأَنَّ قَصَرَ الزَّمَانُ بَيْنَ الِاخْتِلَافِ وَالِاتِّفَاقِ (جَائِزٌ وَلَوْ) كَانَ الِاتِّفَاقُ (مِنْ الْحَادِثِ بَعْدَهُمْ) إنْ مَاتُوا وَنَشَأَ غَيْرُهُمْ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ جَوَازُهُ أَيْضًا لِصِدْقِ تَعْرِيفِ الْإِجْمَاعِ عَلَى كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ الِاتِّفَاقَيْنِ، وَوَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَظْهَرَ مُسْتَنَدٌ جَلِيٌّ يُجْمِعُونَ عَلَيْهِ وَقَدْ أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى دَفْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ الَّذِي لَمْ يَسْتَقِرَّ. (وَأَمَّا) الِاتِّفَاقُ (بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْخِلَافِ (مِنْهُمْ) هُوَ قَيْدٌ لِلِاتِّفَاقِ الْمُقَدَّرِ (فَمَنَعَهُ الْإِمَامُ) الرَّازِيُّ مُطْلَقًا (وَجَوَّزَ الْآمِدِيُّ مُطْلَقًا وَقِيلَ) يَجُوزُ (إلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهُمْ) فِي الِاخْتِلَافِ (قَاطِعًا) فَلَا يَجُوزُ حَذَرًا مِنْ إلْغَاءِ الْقَاطِعِ وَاحْتَجَّ الْمَانِعُ بِأَنَّ اسْتِقْرَارَ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ يَتَضَمَّنُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى جَوَازِ الْأَخْذِ بِكُلٍّ مِنْ شِقَّيْ الْخِلَافِ بِاجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ فَيَمْتَنِعُ اتِّفَاقُهُمْ بَعْدُ عَلَى أَحَدِ الشِّقَّيْنِ. وَأَجَابَ الْمُجَوِّزُ بِأَنَّ تَضَمُّنَ مَا ذُكِرَ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الِاتِّفَاقِ بَعْدُ عَلَى أَحَدِ الشِّقَّيْنِ فَإِذَا وُجِدَ فَلَا اتِّفَاقَ قَبْلَهُ وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ فَإِنْ اُشْتُرِطَ جَازَ الِاتِّفَاقُ مُطْلَقًا قَطْعًا وَفِيمَا نَسَبَهُ الْمُصَنِّفُ إلَى الْإِمَامِ وَالْآمِدِيِّ انْقِلَابٌ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْإِمَامَ جَوَّزَ وَالْآمِدِيُّ مَنَعَ. (وَأَمَّا) الِاتِّفَاقُ (مِنْ غَيْرِهِمْ) أَيْ مِنْ غَيْرِ الْمُخْتَلِفِينَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْخِلَافِ بِأَنْ مَاتُوا وَنَشَأَ غَيْرُهُمْ (فَالْأَصَحُّ) أَنَّهُ (مُمْتَنِعٌ إنْ طَالَ الزَّمَانُ) أَيْ زَمَانُ الِاخْتِلَافِ إذْ لَوْ انْقَدَحَ وَجْهٌ فِي سُقُوطِهِ لَظَهَرَ لِلْمُخْتَلِفِينَ بِخِلَافِ مَا إذَا قَصَرَ فَقَدْ لَا يَظْهَرُ لَهُمْ وَيَظْهَرُ لِغَيْرِهِمْ وَقِيلَ يَجُوزُ مُطْلَقًا لِجَوَازِ ظُهُورِ سُقُوطِ الْخِلَافِ لِغَيْرِ الْمُخْتَلِفِينَ دُونَهُمْ مُطْلَقًا.
(وَ) عُلِمَ أَنَّ (التَّمَسُّكَ بِأَقَلَّ مَا قِيلَ حَقٌّ) لِأَنَّهُ تَمَسُّكٌ بِمَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ مَعَ ضَمِيمَةِ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُجُوبِ مَا زَادَ عَلَيْهِ، مِثَالُهُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي دِيَةِ الذِّمِّيِّ الْوَاجِبَةِ عَلَى قَاتِلِهِ فَقِيلَ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ وَقِيلَ كَنِصْفِهَا وَقِيلَ كَثُلُثِهَا فَأَخَذَ بِهِ الشَّافِعِيُّ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُوبِهِ وَنَفَى وُجُوبَ الزَّائِدِ عَلَيْهِ بِالْأَصْلِ فَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْأَكْثَرِ أُخِذَ بِهِ كَمَا فِي غَسَلَاتِ وُلُوغِ الْكَلْبِ قِيلَ إنَّهَا ثَلَاثٌ وَقِيلَ إنَّهَا سَبْعٌ وَدَلَّ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ عَلَى سَبْعٍ فَأُخِذَ بِهِ.
(أَمَّا) الْإِجْمَاعُ (السُّكُوتِيُّ) بِأَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ حُكْمًا وَيَسْكُتَ الْبَاقُونَ عَنْهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ إلَى آخِرِ مَا سَيَأْتِي فِي صُورَتِهِ (فَثَالِثُهُمَا) أَيْ الْأَقْوَالِ فِيهِ أَنَّهُ (حُجَّةٌ لَا إجْمَاعٌ) وَثَانِيهَا أَنَّهُ حُجَّةٌ وَإِجْمَاعٌ ; لِأَنَّ سُكُوتَ الْعُلَمَاءِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ يُظَنُّ مِنْهُ الْمُوَافَقَةُ عَادَةً وَنَفَى الثَّالِثُ اسْمَ الْإِجْمَاعِ لِاخْتِصَاصِ مُطْلَقِهِ عِنْدَهُ بِالْقَطْعِيِّ أَيْ الْمَقْطُوعِ فِيهِ بِالْمُوَافَقَةِ بِخِلَافِ الثَّانِي كَمَا سَيَأْتِي، وَأَوَّلُهَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ لِاحْتِمَالِ السُّكُوتِ لِغَيْرِ الْمُوَافَقَةِ كَالْخَوْفِ وَالْمَهَابَةِ وَالتَّرَدُّدِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ لِلشَّافِعِيِّ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ لَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ (وَرَابِعُهَا) أَنَّهُ حُجَّةٌ (بِشَرْطِ الِانْقِرَاضِ) لَا مِنْ ظُهُورِ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَهُمْ بَعْدَهُ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ (وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ) إنَّهُ حُجَّةٌ (إنْ كَانَ فُتْيَا) لَا حُكْمًا ; لِأَنَّ الْفُتْيَا يُبْحَثُ فِيهَا عَادَةً فَالسُّكُوتُ عَنْهَا رِضًا بِهَا بِخِلَافِ الْحُكْمِ (وَ) قَالَ (أَبُو إسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ عَكْسَهُ) أَيْ أَنَّهُ حُجَّةٌ إنْ كَانَ حُكْمًا لِصُدُورِهِ عَادَةً بَعْدَ الْبَحْثِ مَعَ الْعُلَمَاءِ وَاتِّفَاقِهِمْ بِخِلَافِ الْفُتْيَا (وَ) قَالَ (قَوْمٌ) إنَّهُ حُجَّةٌ (إنْ وَقَعَ فِيمَا يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ) كَإِرَاقَةِ دَمٍ وَاسْتِبَاحَةِ فَرْجٍ ; لِأَنَّ ذَلِكَ لِخَطَرِهِ لَا يَسْكُتُ عَنْهُ إلَّا رَاضٍ بِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ (وَ) قَالَ (قَوْمٌ) إنَّهُ حُجَّةٌ إنْ وَقَعَ (فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ) لِأَنَّهُمْ لِشِدَّتِهِمْ فِي الدِّينِ لَا يَسْكُتُونَ عَمَّا لَا يَرْضَوْنَ بِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ فَقَدْ يَسْكُتُونَ (وَ) قَالَ (قَوْمٌ) إنَّهُ حُجَّةٌ (إنْ كَانَ السَّاكِتُونَ أَقَلَّ) مِنْ الْقَائِلِينَ نَظَرًا لِلْأَكْثَرِ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّ مُخَالَفَةَ الْأَقَلِّ لَا تَضُرُّ (وَالصَّحِيحُ) أَنَّهُ (حُجَّةٌ) مُطْلَقًا وَهُوَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَقَالَ الرَّافِعِيُّ إنَّهُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ قَالَ وَهَلْ هُوَ إجْمَاعٌ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ (وَفِي تَسْمِيَتِهِ إجْمَاعًا خِلَافٌ لَفْظِيٌّ) وَهُوَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْقَوْلُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ قِيلَ لَا يُسَمَّى لِاخْتِصَاصِ مُطْلَقِ اسْمِ الْإِجْمَاعِ بِالْقَطْعِيِّ أَيْ الْمَقْطُوعِ فِيهِ بِالْمُوَافَقَةِ وَقِيلَ يُسَمَّى لِشُمُولِ الِاسْمِ لَهُ وَإِنَّمَا يُقَيَّدُ بِالسُّكُوتِيِّ لِانْصِرَافِ الْمُطْلَقِ إلَى غَيْرِهِ
(وَفِي كَوْنِهِ إجْمَاعًا) حَقِيقَةً (تَرَدُّدٌ مَثَارُهُ أَنَّ السُّكُوتَ الْمُجَرَّدَ عَنْ أَمَارَةِ رِضًا وَسُخْطٍ مَعَ بُلُوغِ الْكُلِّ) أَيْ كُلِّ الْمُجْتَهِدِينَ الْوَاقِعَةَ (وَمُضِيِّ مُهْلَةِ النَّظَرِ عَادَةً عَنْ مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ تَكْلِيفِيَّةٍ) قَالَ فِيهَا بَعْضُهُمْ بِحُكْمٍ وَعَلِمَ بِهِ السَّاكِتُونَ وَهُوَ صُورَةُ السُّكُوتِيُّ (هَلْ يَغْلِبُ ظَنُّ الْمُوَافَقَةِ) أَيْ مُوَافَقَةِ السَّاكِتِينَ لِلْقَائِلِينَ ؟ قِيلَ نَعَمْ نَظَرًا لِلْعَادَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَيَكُونُ إجْمَاعًا حَقِيقَةً لِصِدْقِ تَعْرِيفِهِ عَلَيْهِ وَإِنْ نَفَى بَعْضُهُمْ مُطْلَقَ اسْمِ الْإِجْمَاعِ عَنْهُ وَقِيلَ لَا فَلَا يَكُونُ إجْمَاعًا حَقِيقَةً فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ وَيُؤْخَذُ تَصْحِيحُ الْأَوَّلِ مِنْ تَصْحِيحِ أَنَّهُ حُجَّةٌ ; لِأَنَّ مُدْرَكَهُ الْمَذْكُورَ هُوَ مُدْرَكُ ذَاكَ وَفِي هَذَا الْكَلَامِ تَحْقِيقٌ لِحَاصِلِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ الْمُصَدَّرِ بِهَا الْمَسْأَلَةُ وَبَيَانٌ لِمُدْرِكِهِ وَفِيمَا قَبْلَهُ تَحْرِيرٌ لِمَا اتَّفَقَ مِنْهَا وَمَا اخْتَلَفَ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ وَظِيفَةِ الشَّارِحِ زَادَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ أَخَّرَ قَوْلَهُ مَعَ بُلُوغِ الْكُلِّ وَمَا عَطَفَ عَلَيْهِ عَنْ قَوْلِهِ تَكْلِيفِيَّةٍ لَسَلِمَ مِنْ الرَّكَاكَةِ وَلَوْ قَالَ هَلْ يُظَنُّ مِنْهُ الْمُوَافَقَةُ بَدَلَ مَا قَالَهُ لَسَلِمَ مِنْ التَّكَلُّفِ فِي تَأْوِيلِهِ بِأَنْ يُقَالَ هَلْ يَغْلِبُ احْتِمَالُ الْمُوَافَقَةِ أَيْ يَجْعَلُهُ غَالِبًا أَيْ رَاجِحًا عَلَى مُقَابِلِهِ وَاحْتُرِزَ عَنْ السُّكُوتِ الْمُقْتَرِنِ بِإِمَارَةِ الرِّضَا فَإِنَّهُ إجْمَاعٌ قَطْعًا، أَوْ السُّخْطِ فَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ قَطْعًا وَعَمَّا إذَا لَمْ تَبْلُغْ الْمَسْأَلَةُ كُلَّ الْمُجْتَهِدِينَ أَوْ لَمْ يَمْضِ زَمَنُ مُهْلَةِ النَّظَرِ فِيهَا عَادَةً فَلَا يَكُونُ فِي مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ وَعَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ بِأَنْ كَانَتْ قَطْعِيَّةً أَوْ لَمْ تَكُنْ تَكْلِيفِيَّةً نَحْوَ: عَمَّارٌ أَفْضَلُ مِنْ حُذَيْفَةَ أَوْ الْعَكْسُ فَالسُّكُوتُ عَلَى الْقَوْلِ فِي الْأُولَى بِخِلَافِ الْمَعْلُومِ فِيهَا وَعَلَى مَا قِيلَ فِي الثَّانِيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ وَإِنَّمَا فُضِّلَ السُّكُوتِيُّ بِأَمَّا عَنْ الْمَعْطُوفَاتِ بِالْوَاوِ لِلْخِلَافِ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً وَإِجْمَاعًا وَأَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ
(وَكَذَا الْخِلَافُ فِيمَا لَمْ يَنْتَشِرْ) مِمَّا قِيلَ بِأَنْ لَمْ يَبْلُغْ الْكُلَّ وَلَمْ يُعْرَفْ فِيهِ مُخَالِفٌ قِيلَ إنَّهُ حُجَّةٌ لِعَدَمِ ظُهُورِ خِلَافٍ فِيهِ وَقَالَ الْأَكْثَرُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ غَيْرُ الْقَائِلِ خَاضَ فِيهِ وَلَوْ خَاضَ فِيهِ لَقَالَ بِخِلَافِ قَوْلِ ذَلِكَ الْقَائِلِ وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ إنَّهُ حُجَّةٌ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى كَنَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ ; لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ خَوْضِ غَيْرِ الْقَائِلِ فِيهِ وَيَكُونُ بِالْمُوَافَقَةِ لِانْتِفَاءِ ظُهُورِ الْمُخَالَفَةِ بِخِلَافِ مَا لَمْ تَعُمَّ بِهِ الْبَلْوَى فَلَا يَكُونُ حُجَّةً فِيهِ وَلَمْ يَزِدْ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحَيْهِ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فَيَكُونُ مُرَادُهُ هُنَا الْخِلَافَ فِي أَصْلِ الْحُجِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ رِعَايَةٍ لِلتَّفَاصِيلِ السَّابِقَةِ فِي السُّكُوتِيِّ. (وَ) عُلِمَ (أَنَّهُ) أَيْ الْإِجْمَاعُ (قَدْ يَكُونُ فِي) أَمْرٍ (دُنْيَوِيٍّ) كَتَدْبِيرِ الْجُيُوشِ وَالْحُرُوبِ وَأُمُورِ الرَّعِيَّةِ (وَدِينِيٍّ) كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ (وَعَقْلِيٍّ لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ) أَيْ الْإِجْمَاعِ (عَلَيْهِ) كَحُدُوثِ الْعَالَمِ وَوَحْدَةِ الصَّانِعِ لِشُمُولِ أَيْ أَمْرِ الْمَأْخُوذِ فِي تَعْرِيفِهِ لِذَلِكَ أَمَّا مَا تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ كَثُبُوتِ الْبَارِي وَالنُّبُوَّةِ فَلَا يُحْتَجُّ فِيهِ بِإِجْمَاعٍ وَإِلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ.(وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ) أَيْ فِي الْإِجْمَاعِ (إمَامٌ مَعْصُومٌ) وَقَالَ الرَّوَافِضُ يُشْتَرَطُ وَلَا يَخْلُو الزَّمَانُ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ عَيْنُهُ وَالْحُجَّةُ فِي قَوْلِهِ فَقَطْ، وَغَيْرُهُ تَبَعٌ لَهُ. (وَلَا بُدَّ لَهُ) أَيْ لِلْإِجْمَاعِ (مِنْ مُسْتَنَدٍ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِقَيْدِ الِاجْتِهَادِ) الْمَأْخُوذِ فِي تَعْرِيفِهِ (مَعْنًى وَهُوَ الصَّحِيحُ) فَإِنَّ الْقَوْلَ فِي الدِّينِ بِلَا مُسْتَنَدٍ خَطَأٌ وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ مِنْ غَيْرِ مُسْتَنَدٍ بِأَنْ يُلْهَمُوا الِاتِّفَاقَ عَلَى صَوَابٍ وَادَّعَى قَائِلُهُ وُقُوعَ صُوَرٍ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ مُعْتَرِضًا بِهِ عَلَى الْآمِدِيِّ فِي قَوْلِهِ الْخِلَافَ فِي الْجَوَازِ دُونَ الْوُقُوعِ.

  #3  
قديم 18 ذو الحجة 1429هـ/16-12-2008م, 10:42 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تشنيف المسامع لبدر الدين الزركشي



الجزء الثالث
الفَصْلُ السَّادِسُ
في
المَصالِحِ المُرسَلَةِ


تَمْهيدٌ
خلَقَ اللَّهُ الإنسانَ وتكفَّلَ بحِفْظِهِ ورِعايَتِهِ، ومهَّدَ له السَّبيلَ لِلحُصولِ على ما يَحتاجُ إليه في مَعاشِه ومَعادِه، وأَرسلَ الرُّسُلَ لِهِدايتِه، وشَرَعَ الأحكامَ لِتنظيمِ حَياتِه وسُلوكِه، فجاءتِ الشَّرائعُ شَريعةً بعدَ شَريعةٍ بِأحكامٍ تُلائِمُ الظُّروفَ والأَحْوالَ والزَّمانَ والمكانَ، وقدِ ارْتَبَطَتِ الأحكامُ بالمَصالِحِ، بَل الشَّرائِعُ نفْسُها قَصَدَتْ إلى تحقيقِ المصلحةِ لِلْخَلْقِ ودفعِ الضَّرَرِ عنهم، والدَّليلُ على ذلكَ حُدوثُ التَّغْييرِ في الشَّرائِعِ ووُقوعُ النَّسْخِ فيها حتَّى كانتْ رِسالةُ سيِّدِنا محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتَمةَ الرِّسالاتِ، وشَريعَتُه خاتَمَةَ الشَّرائِعِ، وقدْ بيَّنَ سبحانَهُ وتعالَى أنَّ شَريعَةَ الإِسلامِ هيَ شَريعةٌ كاملةٌ، بما اشْتَملَتْ عليهِ مِن قواعدَ وأصولٍ يُعرَفُ بها الحُكْمُ مِنَ الدَّليلِ، وعنْ طَريقِها يَستنبِطُ المُجتهدُ الأحكامَ مِنَ النُّصوصِ، فالتَّشريعُ للَّهِ وَحْدَهُ {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} وقدْ نصَّ على بعضِ الأحكامِ صَراحةً، ونبَّهَ علَى البَعْضِ بِطريقِ الإشارةِ والتَّنبِيهِ، كما أشارَ إلَى العِلَلِ والمَعانِي في كَثيرٍ مِن النُّصوصِ الَّتي ارْتَبَطتِ الأحكامُ بها وشُرِعَتْ مِن أجْلِها، فما شَرَعَهُ اللَّهُ مِن أُمورٍ تعبُّديَّةٍ خالِصَةٍ لهُ تعالَى، خصَّها بِنُصوصٍ مُحْكَمَةٍ لا يصِحُّ الخُروجُ عنْها بِالتَّأْوِيلِ؛ لِئَلاَّ يكونَ ذلكَ ذَرِيعَةً لِلابْتِداعِ في الدِّينِ، وأمَّا تَشْريعُه تعالَى في المُعامَلاتِ فقدْ قَصَدَ منْه ما يُصْلِحُ النَّاسَ في دُنْياهمْ وأُخْراهمْ، فوَضعَ الحُدُودَ، وقيَّدَ المُعاملاتِ أوْ أَطْلقَها، وخَصَّ بعضَها بِالذِّكْرِ اتِّباعاً أوِ اجْتِناباً وسَكَتَ عنْ أُمورٍ، أوْ وَكَلَ أمْرَها لِلْقائِمينَ علَى شُؤُونِ المسلِمِينَ، وأوْحَى إِلَى رسولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يُبيِّنَ لهمْ طريقَ الاجتِهادِ في اسْتِنباطِ الأَحْكامِ، فأبانَهُ بِنورِ الحقِّ سُبحانَه وتعالَى، لِيَقِفوا مِن خِلالِه علَى ما يُصْلِحُ حالَهمْ في الدُّنيا والآخرةِ، وبذلكَ تكونُ المصالحُ مِن حيثُ اعتِبارُ الشَّارعِ الحكيمِ لها وعَدَمِهِ ثلاثةَ أنواعٍ:
نوعٌ اعتبَرَه، ونوعٌ ألغاهُ، ونوعٌ سَكَتَ عنه فلمْ يَنُصَّ علَى اعْتِبارِه أوْ إلغائِه.
وقَبلَ بيانِ هذهِ الأنْواعِ نُعَرِّفُ أوَّلاً المصلحةَ في اللُّغَةِ والاصطِلاحِ.
تعريفُ المَصلحةِ:
تُطْلَقُ المصلحةُ في اللُّغةِ بِعِدَّةِ إطْلاقاتٍ:
الأوَّلُ: أنَّ المَصلحةَ مَصدرٌ بِمعنَى الصَّلاحِ، كالمنْفَعةِ بِمعنَى النَّفْعِ، والصَّلاحُ: كونُ الشَّيءِ علَى هيئَةٍ كاِملةٍ بِحَسَبِ ما يُرادُ ذلكَ الشَّيءُ لهُ، كالقَلَمِ يكونُ علَى هيئَتِه الصَّالِحَةِ لِلْكِتابَةِ بِه، والسَّيفِ علَى هيئَتِه الصَّالِحَةِ لِلضَّربِ. كَما تُطْلقُ المصلحةُ علَى الواحِدَةِ مِنَ المَصالِحِ، فهيَ بهذا اسْمٌ كالمنفعةِ واحِدَةُ المَنافِعِ، وعلَى هذا تكونُ المَصْلَحةُ بِهذا الإِطْلاقِ لغةً: واحِدَةُ الْمَصالِحِ، وهيَ إمَّا مَصدرٌ بمعنَى الصَّلاحِ، أوِ المَنفعةِ بمعنَى النَّفْعِ، وإمَّا اسمٌ لِلْواحِدَةِ مِنَ المَصالِحِ؛كالمَنْفعةِ اسْمٌ لِلواحِدَةِ مِن المنافعِ.
الثَّاني: أنَّ المصلحةَ وسيلةُ الشَّيءِ، كالعَمَلِ الَّذي يَبذُلُه الإنسانُ لِيَتَوصَّلَ بِه إلَى ما يَطلُبُه، وفي ذلكَ يقولُ صاحبُ (الْمِصْبَاحِ): وفِي الأمْرِ مَصلحَةٌ؛ أي: خيرٌ، وقالَ فِي مَوضِعٍ آخرَ: والنَّفْعُ: الخَيرُ وهو ما يَتَوصَّلُ بِه الإنسانُ إلَى مَطلوبِه، فإذَنِ المصلحةُ خيرٌ، والخيرُ ما يُتَوصَّلُ بهِ إلَى المَطْلوبِ، فالمصلحةُ ما يُتَوصَّلُ بِه إلَى المَطْلوبِ.
ومِن اسْتِعْمالِها فِي هذا المَعْنَى قولُ الشَّيخَينِ أَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ رضيَ اللَّهُ عنهما: (هوَواللَّهِ خيرٌ) في شأنِ جَمْعِ القُرآنِ الكرِيمِ في المُصْحَفِ حِينَما اسْتَحَرَّ القتلُ بالقُرَّاءِ يومَ اليَمامَةِ، فالضَّميرُ في َقولِهما: (هُوَ) يعودُ إلًى جَمْعِ القرآنِ، ولا شكَّ في أنَّ جَمْعَ القرآنِ مُؤَدٍ إِلى مَطْلوبٍ لهما، بَلْ إلى مَطْلوبٍ عامٍّ وهوَ حِفْظُ القرآنِ الكريمِ مِن أنْ يَضيعَ.
الثَّالِثُ: تُطلَقُ المصلحةُ علَى ذاتِ الفِعْلِ الجالِبِ لِلنَّفْعِ والدَّافِعِ لِلضَّررِ، فإطْلاقُ المصلحةِ علَى الفِعلِ إطْلاقٌ مَجازِيٌّ، مِن بابِ إطْلاقِ المُسَبَّبِ علَى السَّبَبِ، وعَلاقَتُه السَّبَبِيَّةُ والمُسَبَّبِيَّةُ، فأُطْلِقَ لفظُ المصلحةِ الَّتي هي حاصلةٌ بسببِ الفِعلِ علَى الفِعلِ الَّذي هوَ سببٌ لها، فيُقالُ: التِّجارَةُ مَصلَحةٌ؛ أي: َسببٌ لِلمَنافِعِ المادِّيَّةِ، وطَلبُ العِلْمِ مَصلحةٌ، بمعنَى أنَّه سببٌ لِلمَنافِعِ المَعْنَوِيَّةِ، فالمَصلحةُ ضِدُّ المَفْسدَةِ فهُما نَقيضانِ لا يَجتمِعانِ ولا يَرتفِعانِ، كما أنَّ النَّفْعَ ضِدُّ الضَّررِ، وعلى هذا يكونُ دفْعُ المَضرَّةِ مَصْلحةً.
قالَ صاحبُِسَانِ العَرَبِ): الصَّلاحُ ضِدُّ الفَسادِ، وأصْلَحَه ضِدُّ أفْسَدَه، والإصْلاحُ نقيضُ الإِفْسادِ، والمصْلحةُ واحدةُ المَصالِحِ، والاسْتِصْلاحُ نَقيضُ الاسْتِفْسادِ. اهـ.
والمصلحةُ بِمعْناها الأَعمِّ كَما يَتصَوَّرُها الإنسانُ: كلُّ ما فيه نفْعٌ له سَواءٌ أكانَ بالجَلْبِ والتَّحْصيلِ كتَحْصيلِ الفَوائِدِ واللَّّّّّّذائذِ، أوْ بالدَّفْعِ والارْتِقاءِ كاسْتِبْعادِ المَضارِّ والآلاَمِ، فكُلُّ ما فيهِنَفْعٌ جدِيرٌ بأنْ يُسمَّى مَصلَحةً.
وقدْ عرَّفَها الأُصُولِيُونَ في مَوضِعَينِ:
الأوَّلُ: عندَ الكَلامِ على المُناسِبِ المُرْسَلِ، فقالوا: هو الوَصْفُ الظَّاهِرُ المُنضَبِطُ الَّذي يترتَّبُ على شَرْعِ الحُكْمِ عندَه جَلْبُ مصْلحةٍ مقصُودَةٍ للشَّارعِ أو دفْعُ مضرَّةٍ.
وهذا إذا اعتبرْناهُ تعْريفاً للْمَصْلَحةِ، يكونُ تعرِيفاً لها بالفِعْلِ الَّذي اشْتملَ عليها، فهوَ مِن بابِ إِطلاقِ السَّببِ وإرادةِ المُسَبَّبِ، ومِنه تعْريفُ الإمامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ المصْلحةَ بالفِعْلِ الَّذي يجْلِبُ مَنفعَةً راجِحَةً ولمْ يرِدْ في الشَّرْعِ ما ينفِيهِ.
المَوضُوعُ= الثَّانِي: عندَ الكَلامِ عنها بِاعتِبارِها دليلاً شرْعيًّا فقالوا: المصْلَحةُ في الأصْلِ عِبارةٌ عن جلْبِ منفَعَةٍ أوْ دفْعِ مَضرَّةٍ.
فالمصْلَحةُ تُطلَقُ على المَنفَعَةِ أوْ دفْعِ المَضرَّة كما تُطلَقُ على المُناسِبِ، كما أشارَ إلى ذلكَ الغَزَالِيُّ في تعريفِه، قالَ: ونَعْنِي بها ـ أي المصْلحةِ ـ المُناسِبَ المُخَيَّلَّ، وهذا مواِفقٌ لمَعْناها في اللُّغَةِ، فقدْ سبَقَ أنَّ المَصْلحةَ تُطلَقُ على المَنفَعةِ حقيقَةً وعلى السَّبَبِ المُؤَدِّي لها مَجازاً، ولمَّا كانتِ المصلحةُ نقِيضَ المَفْسدَةِ كان دفْعُ المَفْسَدةِ مصْلَحةً أيضاً، ولِهذا جاءَ في تعْريفِها: جلْبُ منْفَعةٍ أوْ دفْعُ مضَرَّةٍ.
وقدْ قسَّموا المَصْلحةَ والمَفْسدَةَ إلى: نفْسِيٍّ، وبدَنِيٍّ، ودُنْيَوِيٍّ، وأُخْرَوِيٍّ، ومثَّلُوا لِلْمصلَحةِ بالمَلَذَّاتِ وأسْبابِها، ولِلمَفْسدَةِ بالآلاَمِ وأسْبابِها.
قالَ العِزُّ بنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: المَصالِحُ أرْبعَةُ أنْواعٍ: اللَّذَّاتُ وأسْبابُها، والأَفْراحُ وأسْبابُها، والمَفاسِدُ أرْبعَةُ أنْواعٍ: الآلاَمُ وأسْبابُها، والغُمُومُ وأسْبابُها، وهي مُنقسِمَةٌ إلى دُنْيَوِيَّةٍ وأُخْرَوِيَّةٍ، فأمَّا لذَّاتُ الدُّنيا وأسْبابُها، وأفْراحُها وأسبابُها، وآلامُها وأسبابُها، وغُمومُها وأسبابُها، فمَعْلومَةٌ بالعاداتِ، ومِن أفْضَلِ لذَّاتِ الدُّنْيا لذَّاتُ المَعارِفِ، وأمَّا لذَّاتُ الآخِرَةِ وأسْبابُها، وأفْراحُها وأسْبابُها وآلامُها وأسْبابُها، وغُمومُها وأسبابُها، فقدْ دَلَّ عليه الوَعِيدُ والزَّجْرُ والتَّهديدُ، وأمَّا اللَّذَّاتُ فمِثْلَ قوْلِه تعالَى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} وأمَّا الأفْراحُ ففي مِثْلِ قوْلِه تعالَى: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وأمَّا الآلاَمُ ففي مِثْلِ قولِه تعالَى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وأمَّا الغُمومُ ففي مِثْلِ قولِه تعالَى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا}.
فصارَتِ المصالِحُ ضرْبَينِ، أحدُهمَا: حقِيقيٌّ، وهو اللَّذَّاتُ والأفْراحُ.
والثَّاني: مَجازِيٌّ، وهو أسْبابُها، وصارتِ المَفسَدةُ كذلكَ.
ورُبَّما تكونُ أسبابُ المصالحِ مَفاسِدَ فيُؤمَرُ بها أو تُباحُ لا لِكَونِها مَفاسِدَ بَلْ لِكَونِها مُؤَدِّيَةً إلى المَصالِحِ، وذلكَ كقَطْعِ الأيْدي المُتآكِلةِ، فإنَّ القَطْعَ مَفْسدَةٌ لكِنْ لمَّا كانَ إبْقاؤُها يُؤدِّي إلى ضرَرٍ أصْبحَ القَطْعُ سَبباً لِمَصلَحةٍ هي: حِفْظُ النُّفُوسِ، وكذلكَ الجِهادُ؛فإنَّ فيه مُخاطرَةً بالنَّفْسِ،فإنَّ هلاكَ النَّفسِ مَفسدَةٌ، لكِنْ شُرِعَ معَ هذه المُخاطَرَةِ لِمصلحةٍ هي: المُحافظةُ على بَقاءِ كِيانِ الأُمَّةِ وإعْلاءِ كَلِمةِ اللَّهِ، وكذلك العقوباتُ مِن قَتْلٍ ورَجْمٍ وجَلْدٍ هي مَضارٌ ومَفاسِدٌ واقِعةٌ على الأشخاصِ الَّتي هي مَحَلُ تلكَ العُقوباتِ، لكنَّها مَصالِحُ اعتَبَرَها الشارِعُ بالنَّظرِ لِما يترَتَّبُ عَليها مِن مَصالِحَ مَقصودَةٍ للشَّارِعِ.
والمصلحةُ أُمورٌ اعْتِبارِيَّةٌ تخْتَلِفُ حَسَبَ اخْتِلافِ مَشاعرِ النَّاسِ وعاداتِهمْ وأخْلاقِهمْ، وليسَ هذا هو المَقْصودُ هُنا، ولَكنَّ المَقصودَ بالمصلحةِ هنا: المُحافظةُ على مَقصودِ الشَّارعِ مِن المَصالِحِ النَّافِعةِ، الَّتي وَضَعَها وحدَّدَ حُدودَها، لاَ على مُقتَضى أهْواءِ النَّاسِ وشَهَواتِهمْ، لأِنَّه لا شَكَّ أنَّ المصالحَ المَبْنِيَّةَ على أهْواءِ النَّاسِ وشَهَوَاتِهمْهي مَفاسدُ في نَظرِ الشَّرْعِ كَوَأْدِ البَناتِ، وغَيرِه قالَ الغَزَالِيُّ: ونَعْني بالمَصلَحةِ: المُحافَظةَ على مَقْصودِ الشَّرْعِ، ومَقصودُ الشَّرعِ مِن الخَلْقِ خَمْسةٌ: وهو أنْ يَحفظَ عليهم دِينَهمْ ونَفْسَهمْ وعَقْلَهمْ ونَسْلَهمْ ومالَهمْ، فكُلُّ ما يضْمنُ حِفْظَ هذه الخَمْسةِ فهو مَصلحةٌ، وكُلُّ ما يُفَوِّتُ هذه الأُصولَ فهو مَفسدَةٌ ودَفْعُه مَصلحةٌ، وإذا أطْلَقْنا المَعْنى المُخَيَّلَ أوِ المُناسِبَ في بابِ القِياسِ أرَدْنا به هذا الجِنسَ. اهـ.
وبَعْدَ تعْريفِ المَصلحةِ نَعودُ إلى بَيانِ أنْواعِها مِن حَيثُ الاعتبارُ الشَّرْعِيُّ لها وعدَمُه:
النَّوعُ الأَوَّلُ: المصلحةُ المُعتَبَرَةُ؛أي: ما عُلِمَ اعْتِبارُ الشَّرْعِ لها، وهي كُلًُّ مَصلحةٍ ثَبَتَ الحُكْمُ المُؤَدِّي إليها بِدَليلٍ مِن نَصٍّ،أوْ إجْماعٍ.وقدْ عبَّرَ الأُصولِيُّونَ عنْها بِالمَصْلَحةِ المُعْتَبرَةِ،أوِ المُناسِبِ المُعْتَبَرِ، وهذا النَّوعُ يَجوزُ بِناءُ الأحْكامِ عليه، والتَّعْليلُ به بِإجْماعِ القائِلينَ بحُجِّيَّةِ القِياسِ.
وقدْ أشارَ الشَّاطِبِيُّ إلى ذلكَ بِقولِه: المَعْنى المُناسِبُ الَّذي يُربَطُ به الحُكْمُ لا يَخْلو مِن ثَلاثَةِ أقْسامٍ:
أحدُها: أنْ يشْهدَ الشَّرعُ بِقَبولِه؛فَلا إشْكالَ في صِحَّتِه،ولا خِلافَ في إعْمالِه، وإِلاَّ كان مُناقَضةً للشَّريعَةِ؛ كشَرْعيَّةِ القِصاصِ حِفْظاً لِلنَّفسِ والأَطْرافِ. اهـ.
وهو أربعةُ أقْسامٍ:
القسْمُ الأوَّلُ: أنْ يُعْتبَرَ عَيْنُ الوَصْفِ في عَينِ الحُكْمِ بِنصٍ أوْ إجْماعٍ، وهو المُؤَثِّرُ، سُمِّيَ بذلكَ لِحُصولِ التَّأْثيرِ فيه عَيْناً وجِنْساً فظَهرَ تأْثيرُه في الحُكْمِ، ويُعْرَفُ عندَ الأُصولِيِّينَ بِالمَصلحةِ المُؤَثِّرَةِ أوِ المُناسِبِ المُؤَثِّرِ، والأمثِلَةُ لِهذا القِسْمِ كَثيرَةٌ. مِثالُ اعْتِبارِه بالنَّصِّ، قولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ)) فقدْ اعْتَبَرَ الشَّارِعُ عَينَ الوَصْفِ، وهو السُّكْرُ، في عَينِ الحُكْمِ،وهو التَّحْريمُ، بالنَّصِّ مُحافظَةً على العَقْلِ، وهو مَقصودٌ للشَّارِعِ فإنَّ العَقلَ مَناطُ التَّكْليفِ، والمُحافظةُ عليه مَصلحةٌ مَقصودةٌ للشَّارِعِ.
ومِثالُه أيضاً قولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ))، فإن الشَّارِعَ اعْتَبرَ عَينَ الوَصْفِ وهو مَسُّ المُتَوَضِّئِ ذَكَرَهُ في عَينِ الحُكْمِ وهو الحَدثُ.
ومِثالُ اعْتبارِه بِالإجْماعِ: وَصفُ الصِّغَرِ فإنَّه مُعتَبرٌ في عَينِ وِلايَةِ المالِ، مُحافظةً على المالِ بِالإجْماعِ، فقدْ أجْمعَ العُلماءُ على أنَّ عَينَ وَصْفِ الصِّغَرِ هو العِلَّةُ في عَينِ وِلايةِ المالِ، قالَ الإِمامُ الغَزَالِيُّ: فإنْ ظَهرَ تأْثيرُ عَينِ الوَصْفِ في عَينِ الحُكْمِ فهو قِياسٌ في مَعْنى الأَصْليِّ، وهو المَقْطوعُ بِه الَّذي رُبَّما اعْترَفَ به مُنْكِرو القِياسِ، إذْ لا يَبقَى بَينَ الأَصلِ والفَرْعِ مُبايَنةٌ إلاَّ تَعَدُّدُ المَحلِّ فإنَّه إذا ظَهرَ أنَّ عَينَ السُّكرِ أثرٌ في تَحريمِ عَينِ الشُّربِ مِن الخَمرِ فالنَّبيذُ مُلْحقٌ به قَطْعاً. اهـ.
القِسمُ الثَّاني: أنْ يَعتَبرَ الشَّارعُ عَينَ الوصْفِ في جِنسِ الحُكمِ، وهذا القِسمُ وما يَليهِ-أي: اعْتبارُ جِنْسِ الوَصفِ في عَينِ الحُكمِ، واعْتبارُ جِنسِ الوَصفِ في جِنْسِ الحُكمِ ـ يُسمَّى مُلائِماً لِكونِه مُوافِقاً لِما اعْتَبرَه الشَّارعُ.
مِثالُه- أي: اعْتبارُ عَينِ الوَصفِ في جِنسِ الحُكمِ- ثُبوتِ وِلايةِ النِّكاحِ على الصَّغيرِ كما ثَبَتَتْ وِلايةُ المالِ لِوَصفِ الصِّغرِ وهو واحِدٌ، والحُكمُ الوِلايةُ وهو جِنسٌ، فاعْتَبرَ عَينَ الصِّغرَ وهو مُعيَّنٌ في جِنسِ الوِلايةِ، وهو جِنسٌ يَشملُ الوِلايَةَ على النَّفسِ في النِّكاحِ والوِلايةِ على المَالِ، ومِثالُه أيضاً: اعْتبارُ الشَّارعِ تَقديمَ الأَخِ مِنَ الأَبَوَينِ على الأَخِ مِن الأبِ في الإِرْثِ، وقِيسَ عليه تَقديمُه في وِلايَةِ النِّكاحِ وغيرِها مِن الأَحكامِ الَّتي قُدِّمَ عليه فيها، فإنَّه وإنْ لَمْ يَعتبِرْهُ الشَّارعُ في غيرِ هذه الأحْكامِ ولَكنِ اعْتبرَهُ في جِنسِها وهو التَّقدُمُ في الجُملَةِ.
قالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ والزَّرْكَشِيُّ وغيرُهما: هذا القِسْمُ دُونَ ما قَبلَه؛لأِنَّ المُقارَنَةَ بينَ المَسْألتَينِ بِحَسَبِ اخْتِلافِ المَحَلَّينِ أقلُّ مِن المُقارَنةِ بينَ نَوعَينِ مُخْتلِفَينِ. اهـ.
القِسمُ الثَّالثُ: أنْ يُعتَبَرَ جِنسُ الوَصفِ في عَينِ الحُكمِ.
مِثالُه: المَشقَّة ُفإنَّها جِنسٌ أثَّرَ في نَوعٍ،وهو إسْقاطُ صلاةٍ، أمَّا في الحَيضِ فبِالكُلِّيَّةِ، وأمَّا في السَّفرِ فبِإسقاطِ نِصفِ الرُّباعيَّةِ،وإنَّما جَعلَ الوَصفَ هنا جِنساً والإِسْقاطَ نَوْعاً، لأِنَّ مَشقَّةَ السَّفرِ نَوعٌ مُخالِفٌ لِمشقةِ الحَيضِ، وأمَّا السُّقوطُ فأمْرٌ واحدٌ وإنِ اخْتَلَفَتْ مَحالُّهُ.
القِسمُ الرَّابعُ: أنْ يُعتبرَ جِنسُ الوَصفِ في جِنسِ الحُكمِ.
مِثالٌ: جِنايَةُ القَتْلِ العَمْدِ العُدْوانُ، فإنَّ هذا الوَصفَ عِلَّةٌ في وجُوبِ القِصاصِ، وقدْ اعْتبرَ الشَّارعُ مُطْلقَ جِنايَةِ العَمدِ العُدْوانَ، والجِنايَةُ جِنسٌ تَشْملُ الجِنايَةَ على النَّفسِ والجِنايَةَ على الأطْرافِ والحُكمُ هو وجُوبُ القِصاصِ، وهو جِنسٌ يَشملُ القِصاصَ في الأنْفُسِ والقِصاصَ في الأطْرافِ فجِنسُ الجِنايَةِ مُعتَبرٌ في جِنسِ قِصاصِ النَّفسِ، قالَ الإِمامُ الزَّرْكَشِيُّ: وهذا القِسْمُ أبْعدُها فإنَّه يكونُ في تَعْليلِ الأحْكامِ بِالحِكْمةِ الَّتي لا تَشْهدُ لها أُصولٌ مُعَيَّنَةٌ.
ومِمَّا تَقدَّمَ يَتَبيَّنُ أنَّ المَصلحَةَ المُعْتبرَةَ تَنقَسِمُ إلى مَصلحةٍ مُؤَثِّرَةٍ :وهي الَّتي اعْتبرَ الشَّارعُ عَينَها في عَينِ الحُكمِ بِنصٍّ أوْ إِجْماعٍ، وإلى مَصلحةٍ مُلائِمَةٍ وهي الَّتي اعْتبَرَ الشَّارعُ عَينَها في جِنسِ الحُكْمِ، أوْ جِنسَها في عَينِ الحُكمِ، أو جِنسَها في جِنسِ الحُكمِ وهي دُونَ المَصلحةِ المُؤَثِّرَةِ.
وتنْقَسِمُ المَصلحةُ المُعْتبَرَةُ بِحَسَبِ قُوَّتِها في ذَاتِها؛أوْ بِالنِّسبَةِ لِحاجَةِ الإنْسانِ إليها إلى: ضَرُورِيَّةٍ، حاجِيَّةٍ، تَحْسِينيَّةٍ.
أوَّلاً: الضَّرُورِيَّةُ: وهي ما لاَ بُدَّ مِنها في قِيامِ مَصالحِ الدِّينِ والدُّنْيا بِحيثُ إذا فُقِدَتْ لَمْ تَجْرِ َمصالحُ الدُّنيا على اسْتِقامَةٍ، بَلْ على فَسادٍ وتَهارُجٍ وفَوتِ حَياةٍ، وفي الآخِرَةِ فَوتِ النَّجاةِ والنَّعيمِ والرُّجُوعِ بالخُسْرانِ المُبينِ.
فَهي الَّتي تَتََضمَّنُ حِفْظَ مَقْصودٍ مِن المَقاصدِ الخَمْسةِ وهي: حِفْظُ الدِّينِ بِشَرْعِيَّةِ القَتْلِ والقِتالِ، فالقَتلُ للرِّدَّةِ وغيرِها مِن مُوجِباتِ القَتلِ لأِجْلِ مَصلحةِ الدِّينِ، والقِتالُ في جِهادِ أهلِ الحَرْبِ، وحِفظُ النَّفسِ بِشَرعِيَّةِ القِصاصِ، وحِفظُ العَقْلِ بِشرعِيَّةِ الحَدِّ على شُرْبِ المُسْكِرِ، وحِفظُ النَّسلِ بِتَحْريمِ الزِّنا وإِيجابِ العُقوبَةِ عليه، وحِفظُ المَالِ بِإيجابِ الضَّمانِ على المُتَعَدِّي فيهِ،وبِالقَطعِ في السَّرِقَةِ، وهي المَجْموعَةُ في قولِه تعالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنُّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} الآيَةُ.
وزَادَ الطُّوفِيُّ الحَنْبَلِيُّ وتَبِعَهُ التَّاجُ السُّبْكِيُّ سادِساً، وهو حِفظُ الأَعْراضِ، فإنَّ عادَةَ العُقلاءِ بَذْلُ نُفوسِهمْ وأَمْوالِهمْ دُونَ أعْراضِهمْ، وما فُدِيَ بِالضَّرورِيِّ أوْلى أنْ يكونَ ضَرُورِيًّا.
وفي الصَّحيحَينِ،أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ في خُطْبةِ الوَداعِ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ)) الحديثَ.
ثانِياً: الحاجِيَّةُ: وهي الأَمْرُ الَّذي يَفتَقِرُ إليه النَّاسُ مِن حيثُ التَّوسِعَةُ ورَفْعِ الحَرَجِ والضِّيقِ اللَّاحِقَينِ بِالإنسانِ.
قالَ الشَّاطِبِيُّ: فَمعْناها أنَّها مُفْتقَرٌ إليها مِن حيثُ التَّوسِعةُ ورَفْعِ الضِّيقِ المُؤَدِّي في الغَالِبِ إلى الحَرَجِ والمَشقَّةِ الَّلاحِقَةِ بِفَوتِ المَطلوبِ، فإذا لَمْ تُراعَ دخَلَ على المُكَلَّفينَ ـ على الجُمْلَةِ ـ الحَرَجُ والمَشقَّةُ ولكِنَّه لا يَبْلُغُ مَبْلَغَ الفَسادِ العادِي المُتَوقَّعِ في المَصالحِ العامَّةِ. اهـ.
وذلكَ كالبَيعِ والإِجارَةِ والمُضارَبَةِ والمُساقاةِ وغيرِها، لأِنَّ مالِكَ الشَّيءِ قدْ لا يهَبُهُ فيحتاجُ إلى شِرائِهِ، ولا يُعِيرُهُ فيَحتاجُ إلى اسْتِئْجارِه، وليسَ كُلُّ ذِي مالٍ يُحْسِنُ التِّجارَةَ فيَحتاجُ إلى مَن يَعملُ له في مالِه، وليسَ كُلُّ مالكِ شَجَرٍ يُحْسِنُ القِيامَ على شَجَرِهِ فيَحتاجُ إلى مَن يُساقِيهِ علَيهِ.
قالَ الآمِدِيُّ: وهذا القِسمُ في الرُّْتبَةِ دُونَ القِسمِ الأَوَّلِ ـ أي: الضَّرُورِي ـ ولِهذا جازَ اخْتِلافُ الشَّرائِعِ فيه دُونَ القِسمِ الأَوَّلِ اهـ.
ثالِثاً التَّحْسِينيَّةُ: وهي الَّتي تَقتَضِيها المُرُوءَةُ ومَكارِمُ الأَخْلاقِ ومَحاسِنُ العاداتِ بحيثُ لَو فُقِدَتِ المَصلحةُ التَّحْسينيةُ لا يَختلُّ بِفُقْدانِها نِظامُ الحَياةِ كما هو الحالُ في المَصلحةِ الضَّرُوريَّةِ، ولا يَدخُلُ على المُكَلَّفِ حَرَجٌ وضِيقٌ بِفَوَاتِها كما في المَصلَحةِ الحاجيَّةِ، ولكنْ بِفَواتِها تَكونُ الحَياةُ مُستَنْكَرَةً عندَ ذَوِي العُقولِ وأصْحابِ الفِطْرَةِ السَّليمةِ، فالعَملُ بِالمَصلحةِ التَّحسِينيَّةِ يَرجِعُ إلى مَكارِمِ الأَخْلاقِ ومَحاسِنِ العاداتِ.
قالَ الإِمامُ الرَّازِيُّ: هي تَقريرُ النَّاسِ على مَكارِمِ الأَخْلاقِ ومَحاسِنِ الشِّيَمِ، وقدْ سمَّاها القَرَافِيُّ بِما هُو مَحَلُّ التَّتِمَّاتِ لأنَّه تَتِمَّةُ المَصالحِ.
النَّوعُ الثَّاني: المَصالِحُ المُلْغاةُ: وهي كُلُّ مَصْلحةٍ عُلِمَ مِن الشَّارِعِ عَدَمُ اعْتِبارِها وشّهِدَ لها بالبُطْلانِ والإِلْغاءِ لِما فيها مِن تَحُقُّقِ الضَّررِ، ولَو تَوَهَّمَ الإنسانُ أنَّ فيها مَصلحةً سَواءٌ أكانَ ضَرَرُها واضِحاً أمْ أنَّها تُؤَدِّي إلى ضَرَرٍ لاحِقٍ أوْ لا يُدْرَكُ ضَررُها إلاَّ بِالنَّظَرِ والفِكْرِ.
مِثالُه: فَتْوَى يَحْيَى بنِ يَحْيَى ـ صاحِبِ الإِمامِ مالكٍ وعالِمِ الأَندَلُسِ ـ لِعَبدِ الرَّحْمَنِ بنِ الحَكَمِ الأُمَوِيِّ ـ المَعْرُوفِ بالمُرْتَضَى، صاحِبِ الأَنْدَلُسِ ـ حيثُ جامَعَ في نَهارِ رمضانَ فأَفْتاهُ بِإيجابِ صيامِ شَهْرَينِ مُتَتابِعَينِ ابْتِداءً، كَفَّارَةً لِجِنايَتِهِ على الصَّومِ، فأنْكَرَ عليه العُلماءُ ذلكَ فعَلَّلَ ذلكَ بأنَّه لَو أفْتاهُ بِالإعْتاقِ أوِ الإِطْعامِ ابْتِداءً لَسَهُلَ عليه ذلكَ لاِتِّساعِ مالِه ولاَنْتَهكَ حُرْمَةَ الشَّرعِ كُلَّما شاءَ، فكانتِ المَصْلَحةُ في إيجابِ الصَّومِ ليَنْزَجِرَ، فهذا وإنْ كانَ مُناسِباً إلاَّ أنَّ الشَّرْعَ ألْغاهُ حيثُ أثبَتَ التَّخْييرَ بينَ الصَّوم أوِ الإِطْعامِ أوِ الإِعْتاقِ، وهذا النَّوعُ لا تُبْنَى عليه الأَحكامُ ولا يَصحُّ التَّعليلُ بِه.
النَّوعُ الثَّالثُ: وهي المَصالِحُ الَّتي سَكتَ الشَّارعُ عنها، فلَمْ يَشْهَدْ لها بِالاعْتِبارِ أوِ الإِلْغاءِ بِنصٍ مُعَيَّنٍ، فلا دَليلَ يدلُّ على الإِذْنِ بِتَحصيلِها وبِناءِ الأَحكامِ عليها، ولا دَليلَ يدُلُّ على المَنْعِ مِن تَحْصيلِها وعَدَمِ بِنَاءِ الأحْكامِ عليها، بَلْ تَرَكَها لأُولِي الأَمْرِ مِن المُجْتَهدينَ يأْخُذونَ بِها إذا اقْتَضَى حالُها الأَخْذَ، ويَتْرُكونَها إذا تَرَتَّبَ عليها مَفْسدَةٌ؛ فَهذا النَّوعُ هو (المَصْلَحةُ المُرْسَلةُ) وهو مَحَلُّ خِلافٍ بَينَ العُلماءِ، وهو المَقْصودُ بِالبَحْثِ.

المَصْلحةُ المُرْسَلَةُ

تعْريفُها في اللُّغَةِ: المَصْلَحةُ المُرْسَلةُ مُرَكَّبٌ تَوصيفِيٌّ مِن المَصلَحةِ والمُرسَلةِ، مَعْناهُ: الخَبَرُ الَّذي لَمْ يُقَيَّدْ وقدْ سَبَقَ بَيانُ المَصلحةِ، فَأَغْنَى عن إِعادَتِه، وأمَّا الإِرْسالُ في اللُّغةِ فمَعناهُ: الإِطْلاقُ عن التَّقَييدِ، قالَ صاحِبُ (المِصْباحِ المُنيرِ): أَرْسَلْتُ الطَّائِرَ مِن يَدِي إِذا أَطلَقْتُه، وأَرْسَلْتُ الكَلامَ إِرْسالاً: أطْلَقْتُه مِن غيرِ تَقْييدٍ.
وقالَ ابنُ مَنظُورٍ: أَرْسَلَ الشَّيءَ أَطْلَقَهُ وأَهْمَلَهُ.
وعلى هذا تَكونُ المَصلحةُ المُرسَلةُ هي: الوَصْفُ المُطْلَقُ الَّذي لَمْ يُقَيَّدْ.
ولكِنْ ليسَ مَعْنى (المُرْسَلَةِ) هو الإِرْسالُ الحَقيقِيُّ؛ أي :الخُلُوُّ التَّامُّ عن أي دَليلٍ شَرْعيٍ، وإنَّما هو اصْطِلاحٌ أُرِيدَ به التَّفْرِقَةُ بَينَهُ وبينَ القِياسِ، فالقِياسُ لا بُدَّ أنْ يَكونَ لِلْفرْعِ فيه شاهِدٌ مِن أصْلٍ وُجِدَتْ فيه عِلَّةُ الفَرْعِ، وقام َالدَّليلُ مِن نَصٍّ أوْ إجْماعٍ على عِلِّيَتِها، أوْ على جَرَيانِ الحُكْمِ على وِفْقِها.
أمَّا المَصالِحُ المُرسَلةُ فهِي: ما كانتْ خَالِيَةً عنْ مِثلِ هذا الشَّاهِدِ، ولكِنَّها في الوَقْتِ نفْسِه مُلائِمَةٌ لاعْتِباراتِ الشَّارِعِ وجُمْلَةِ مَقاصِدِهِ وأحْكامِه، فقَدْ شَهِدَ الشَّارعُ لها بِالاعْتِبارِ في الجُمْلَةِ مِن حيثُ وُجُودِ دَليلٍ يدُلُّ على اعْتِبارِ جِنسِ المَصالِحِ.
تعْريفُها في الاصْطِلاحِ: اختَلَفَ الأُصُولِيُّونَ في التَّعْبيرِ عن المَصْلحةِ المُرسَلَةِ، فقدْ عَبَّرَ بعْضُهم عنها بالمُناسِبِ المُرسَلِ،وبعْضُهم بِالاسْتِدْلالِ المُرْسَلِ،وبعضُهم بِالاسْتِدْلالِ فَقَطْ، وبعْضُهم بِالاسْتِصْلاحِ، وهذه الألْفاظِ وإنْكانتْ مُخْتَلِفةً إلاَّ أنَّها بِمَعْنىً واحِدٍ وهو: الفائِدَةُ أوِ الثَّمَرَةُ المُتَرَتِبَةُ على مَشْرُوعِيَّةِ حُكْمٍ لَمْ يَدلَّ الدَّليلُ المُعَيَّنُ على اعْتِبارِها أو إلْغائِها، غايَةُ الأَمْرِ أنَّ إطْلاقَ الاسْتِدْلالِ فَقَطْ على المَصالِحِ المُرْسَلَةِ فيه تَجَوُّزٌ؛ لأِنَّ الاسْتِدْلالَ دَليلٌ ليسَ بِنصٍّ ولا إِجْماعٍ ولا قِياسٍ؛فيَشْمَلُ كُلَّ الأَدِلَّةِ المُختَلَفِ فيها، فإطْلاقُه على نَوعٍ مُعَينٍ منها وهو المَصالِحُ المُرسَلَةُ، مِن بابِ إطْلاقِ الكُلِّ على البَعْضِ، فأمَّا المُناسِبُ المُرْسَلُ أو الاسْتِدْلالُ المُرْسلُ فهو كما قالَ الغَزَالِيُّ: التَّعلُّقُ بِمُجرَّدِ المَصلَحَةِ مِن غَيرِ اسْتِشْهادٍ بِأصْلٍ مُعَيَّنٍ.
أي: تَعَلُّقُ المُجْتَهِدِ أو الفَقِيهِ في إثْباتِ حُكمٍ مِن الأَحْكامِ بِمُجَرَّدِ حُصُولِه على المَصْلحَةِ الَّتي لَمْ يَدُلَّ الدَّليلًُ المُعيَّنُ على اعْتِبارِها أو إلْغائِها، وهذا هو الإرْسالُ.
ووجْهُ إطْلاقِه -أي: المُناسِبُ المُرسَلُ أو الاسْتِدْلالُ المُرْسَلُ- على المَصْلَحةِ المُرسَلَةِ: أنَّ المَصلحَةَ مُلازِمَةٌ لِلْوَصْفِ المُناسِبِ؛ وذلكَ لأنَّ الحُكْمَ المَبْنِيَّ على هذا الوَصْفِ المُرْسَلِ تَكونُ مَصْلحتُه المُتَرَتِّبةُ عليه مُرسَلةً أيضاً، بِمَعْنى أنَّه كُلَّما كانَ الوَصْفُ أو العِلَّةُ مُرسَلةً كانت المَصلَحةُ المُترتِّبةُ على الحُكمِ المَبْنِيِّ على هذا الوَصفِ أو العِلَّةِ مُرسَلَةً أيضاً.
وأمَّا الاسْتِصْلاحُ فهو: عِبارَةٌ عن اسْتِنباطِ المُجْتَهدِ الحُكمَ مِن الَواقِعةِ الَّتي لا نَصَّ فيها ولا إجْماعَ ولا قِياسَ بِناءً على المَصلحَةِ المُرْسَلَةِ.
ووجْهُ تَسْمِيَةِ المَصلَحَةِ به: أنَّ المُجْتهدَ يَطْلُبُ صَلاحَ المُكَلَّفينَ باتِّباعِ المَصلحَةِ المَذْكورَةِ ومُراعاتِها.
وأمَّا المَصلحَةُ المُرسَلةُ فهي: الوَصْفُ المُناسِبُ لِتشْريعِ الحُكمِ الَّذي لَمْ يَشْهدْ له الشَّارعُ بِالاعْتِبارِ أو الإِلْغاءِ.
أي :هي الوَصف الَّذي يَحصلُ عَقلاً مِن تَرْتيبِ الحُكمِ عليه ما يَصلُحُ أنْ يَكونَ مَقْصوداً لِلشَّارعِ مِن دَفعِ المَفاسِدِ عن الخَلْقِ وجَلْبِ المَصالِحِ لهم، وسَكَتَ عنه الشَّارعُ فَلَمْ يَشْهدْ له بِالاعْتِبارِ ولا بِالإلْغاءِ بَلْ أَرْسَلَ عن دائِرَةِ الاعْتِبارِ والإلْغاءِ لكِنْ عُلِمَ مِن الشَّارِعِ كَونُه مَقْصوداً بِأدِلَّةِ الكِتابِ أو السُّنَّةِ أو الإجْماعِ أوِ قَرائِنِ الأَحْوالِ، فقدْ شَهدَ الشَّرعُ لِجْنسِ المَصلَحةِ بِأدِلَّةٍ مُتَعدِّدَةٍ أثْبَتَتِ القَطْعَ لِهذه القاعِدَةِ ووُجُوبَ العَملِ بها، ولَمْ يَدُلَّ دليلٌ خاصٌ على اعْتِبارِ عَينِها في عَينِ الحُكْمِ، قالَ الغَزَالِيُّ: عُرِفَتْ لا بِدَليلٍ واحِدٍ بَلْ بِأدِلَّةٍ كَثيرَةٍ لا حَصرَ لها مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ وقَرائِنِ الأحْوالِ وتَفارِيقِ الأَماراتِ.
شُروطُ العَمَلِ بالمَصلحَةِ المُرسَلةِ: احْتاطَ الفُقَهاءُ في تََََََََََرْجيحِ المَصلحةِ واعْتِبارِها دَليلاً تُبْنى عليه الأحْكامُ، حتَّى لا يَفْتَحوا البَّابَ على مِصْراعَيْهِ فيَتَهافَتُ النَّاسُ ـ العالِمونَ والمُتَعالِمونَ ـ في طَلَبِ المَصلحَةِ، والعَمَلِ بأحْكامِها؛فَيُهْمِلوا النُّصوصَ، أو يَتَناسَوها حِينَ حُكْمِهمْ بِالمَصلَحةِ؛ فَتَعْتَلِي المَصلحَةُ عِندَهُم مَرْتَبةَ النَّصِّ، لِذا اشْترَطَ الفُقَهاءُ لها شُرُوطاً لا تَتَحقَّقُ المَصلَحةُ المُرسَلَةُ إلاَّ بِها، فمُعْظَمُ الشَّافِعيَّةِ يَشْتَرِطونَ لِتَحقيقِ الأَخْذِ بِالمَصالِحِ المُرسَلَةِ شُروطاً ثَلاثَةً نَصَّ عليها الغَزَالِيُّ في (المُسْتَصْفَى) ونَقَلَها عنه مَن جاءَ بَعدَه واعْتَبرُوها مَذهَباً لَه، وهي.
الأَوَّلُ: أنْ تَكونَ المَصلَحةُ ضَرُورِيَّةً، أي: ليسَتْ حاجِيَّةً ولا تَحْسِينيَّةً، بِمَعْنى أنَّها تَحْفَظُ ضَرورَةً مِن الضَرُورَاتِ الخَمْسِ، أمَّا المَصلحَةُ الحاجِيَّةُ والتَّحْسِينِيَّةُ فَلا يَجوزُ الحُكمُ بِمُجَرَّدِها ما لَمْ تَقْصدْ بِشَهادَةِ الأُصولِ؛ لأِنَّه يَجرِي مَجْرَى وَضْعِ الشَّرعِ بِالرَّأْي ـ وذلكَ لا يَجوزُ ـ وإذا أُيِّدَتْ بِأَصْلٍ فهي قِياسٌ، وقدْ ذَهَبَ الغَزَاِليُّ في (شِفَاءِالغَلِيلِ) إلى أنَّ المَصلحَةَ تَكونُ: ضَرورِيَّةً أو حاجِيَّةً ، وهي -أي: المصلحة الضرورية ـ تَكونُ مِن بابِ ما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلاَّ بِه فَهو واجِبٌ.
الثَّاني: أنْ تَكونَ المَصلحَةُ كُلِّيَّةً لا جُزْئِيَّةً ؛ بِمَعْنَى أنَّها عامَّةٌ تُوجِبُ نَفْعاً لِلْمُسلِمينَ ولَيسَتْ خاصَّةً بِالبَعْضِ، وذلكَ بأنْ يرْجِعَ النَّفعُ، أو دَفْعُ الضَّررِ المُترَتِّبِ على تشْريعِ الحُكمِ لِجميعِ الأُمَّةِ أو لأِكْثرِ أفْرادِها، فإِذا ظَهَرَ في تَشْريعِ الحُكمِ مَصلحَةُ البَعْضِ، كأميرٍ أو مَلِكٍ فَلا يَجوزُ بِناءُ الحُكمِ عليها، لأِنَّها مَصلحةٌ خاصَّةٌ ولَيستْ عامَّةً.
الثَّالِثُ: أنْ تَكونَ المَصلحَةُ قَطْعيَّةً لا ظَنِّيَّةً، بِأنْتَثْبُتَ بِطريقٍ قَطْعِيٍّ لا شُبْهَةَ فيه. وتَتَحَقَّقُ الشُّروطُ الثَّلاثَةُ فيما إذا تَتَرَّسَ الكُفارُ حالَ التِحامِ الحَرْبِ بِأُسارَى المُسلِمينَ ـ بِأنْ يَجعَلوا أَسْرَى المُسْلِمينَ أَمَامَهم كالتُّرْسِ يَتَلَقَّى عنْهم الضَّرْبَ والطَّعْنَ ـ فَيَكونَ مانِعاً لِلْمُسلِمينَ مِن تَوجِيهِ الضَّربِ والرَّمْي إلَيهِمْ، وبِذلكَ يَتَمكَّنُ الكُفَّارُ مِن مُهاجَمَةِ الحُصونِ فَلَو امْتَنَعْنا عَن القَتْلِ لَصَدَمُونا واسْتَولَوا على دِيارِنا وقَتَلوا كافَّةَ المُسْلِمِينَ ثُمَّ يَقتُلُونَ الأَسْرَى أيضاً، ولَو رَمَينا التُّرْسَ لَقَتَلْنا مُسْلِماً مَعْصوماً لَمْ يُقَدِّمْ ذَنْباً يَسْتَحِقُ عليه المَوتَ فَيجوزُ والحَالُ هذه رَمْيُ التُّرْسِ لأِنَّ هذا الأَسيرَ مَقْتولٌ بِكُلِّ حالٍ، لأِنَّا لَوْ كَفَفْنا عنْ قَتْلِه لَتَسَلَّطَ الكُفَّارُ علَى جَميعِ المُسْلِمينَ فَيَقْتُلونَهم ثُمَّ يَقْتُلونَ الأُسارَى أيضاً، فَحِفْظُ جَميعِ المُسْلِمِينَ أقْربُ إلى مَقْصودِ الشَّرعِ، لأِنَّ مَقْصودَه تَقْليلُ القَّتْلِ وحَسْمُ َسَبيلِه عِندَ الإِمْكانِ فإنْ لَمْ نَقْدْرِ على الحَسْمِ فَقَدْ قَدَرْنا على التَّقْليلِ، فهذه مَصلَحَةٌ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ، كَونُها مَقْصودَةً لِلشَّارِعِ، وثَبَتَتْ لا بِدَليلٍ واحِدٍ بَلْ بِأَدِلَّةٍ خارِجَةٍ عَن الحَصْرِ ، ولَكِنَّ تَحْصيلَ هذا المَقْصودِ بِهذا الطَّريقِ وهو قَتْلُ مَن لَمْ يُذْنِبْ لَمْ يَشْهدْ له أَصْلٌ مُعَيَّنٌ فالمَصْلحةُ هُنا غَيرُ مَأْخُوذَةٍ بِطَريقِ القِياسِ على أصْلٍ مُعَيَّنٍ، وإنَّما كانَ اعْتِبارُها مُقَيَّداً بِأوْصافٍ ثَلاثَةٍ كَونُها ضَرُورِيَّةً كُلِّيَّةً قَطْعيةً.
وذَكَرَ الَّشاطِبِيُّ وغَيرُه شُروطاً أُخْرَى غَيرَ الَّتي شَرَطَها الغَزَالِيُّ، وهي أقْرَبُ مِساساً بِالمَصالِحِ المُرسَلَةِ، وأَوْسَعُ في اسْتِعْمالِها وَأَكْثَرُ في رَفْعِ الحَرَجِ مِن غَيرِها:

الأَوَّلُ: أنْ تَكونَ المَصلَحَةُ المُرسَلَةُ مُلائِمَةً لِمَقصودِ الشَّرعِ، بحيثُ لا تُنافِي أَصْلاً مِن أُصولِه ولا دَليلاً مِن دَلائِلِه، فَالمَصلحَةُ المُناقِضَةُ لِمَقْصودِ الشَّرْعِ المُعارِضَةُ لأِصْلٍ مِن أُصولِه ودَليلاً مِن أَدِلَّتِه مَرْدُودَةٌ بِالاتِفاقِ، وقدْ زادَ الغَزَالِيُّ في (شِفاءِ الغَلِيلِ) هذا الشَّرْطَ كما أَشَرْنَا.
الثَّانِي: أنْ تَكونَ مَعْقولَةً في ذاتِها، بِأنْ تَكونَ جارِيَةً عَلى الأَوْصافِ المُناسِبَةِ المَعْقولَةِ بِحيثُ لَوْ عُرِضَتْ على أَهْلِ العُقُولِ السَّليمَةِ تَلَقَّوها بِالقَبُولِ.
الثَّالِثُ: أنْ تَكونَ المَصلحَةُ حقِيقِيَّةً لا وَهْمِيَّةً، وذلكَ يَتَحَقَّقُ عندَ المُجتَهِدِ بِأنَّ بِناءِ الحُكْمِ عَلَيها يَجْلِبُ نَفْعاً ويَدْفَعُ ضَرَراً، فَإِذا تَوَهَّمَ المُجْتَهِدُ النَّفْعَ في المَصلحَةِ دُونَ أنْ يُوازِنَ بَينَهُ وبَينَ الضَّرَرِ لا يَجوزُ بِناءُ الحُكمِ علَيها.
مِثالُه: سَلْبُ الزَّوجِ حَقَّ الطَّلاقِ وجَعْلُه لِلقاضِي في جَميعِ الحالاتِ، بِناءً على أَنَّ هذا مَصْلَحةٌ راجِعةٌ إلى المَرْأَةُ، فَهذِه مَصْلحَةٌ وَهْمِيَّةٌ، لأِنَّ اللَّهَ تَعالى شَرَعَ الطَّلاقَ بِيدِ الرَّجُلِ لأِنَّه هو الَّذي عَليه النَّفَقَةُ ويَتَحَمَّلُ المَسْئُولِيَّةَ، ولا يَقْدُمُ على هذا إلاَّ إذا رَأَى البَقاءَ أَكْثَرَ ضَرَراً مِن الطَّلاقِ.
الرَّابِعُ: أنْ يَكونَ حاصِلُها يَرجِعُ إلى رَفْعٍ لِحَرَجٍ لازِمٍ في الدِّينِ، لِقولِه تَعالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} فَهِي رَاجِعةٌ إلى بابِ التَّخْفيفِ لا إلى التَّشْديدِ، فهذه الشُّروطُ قدْ تَكونُ أيْسَرَ علَى النَّاسِ، وأَوْسَعَ رَحْمَةً بِنا في اسْتِخْراجِ أحْكامِ اللَّهِ تعالَى عنْ طَريقِ المَصالِحِ.
أسْبابُ اخْتِلافِ العُلَماءِ في الاحْتِجاجِ بِالمَصلَحةِ المُرْسَلَةِ:
أوَّلاً: نَظْرَةُ العُلَماءِ إلى المَصْلحَةِ المُرْسَلةِ مِن حيثُ المُرادِ مِنها، وذلكَ مِن حيثُ المُلاءَمَةِ أو الشُّروطِ الَّتي يَجبُ تَوافُرُها فيها كَثْرَةً وقِلَّةً، وعلى ذلكَ فعِندَ الأَئِمَّةِ الأَرْبعَةِ أصْحابِ المذَاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأَرْبَعَةِ نَراها تَأْخُذُ مَساراً عِندَ كُلِّ إِمامٍ حَسْبَما يَرَى مِن تَحقِيقِ المَصْلحَةِ المُرسَلَةِ في الفَرْعِ الَّذي يَحْكُمُ عُليهِ.
ثانِياً: نَظْرَةُ العُلَماءِ إلى المَصلَحةِ في كَونِها دَلِيلاً مُسْتَقِلاًّ بِذاتِه أو مُنْدَرِجَةً تَحْتَ غَيرِه مِن الأَدِلَّةِ، فالَّذينَ مالُوا إلى إنْكارِها ورَدِّها وتَصْحيحِ أنَّ مُعْظَمَ العُلَماءِ لَمْ يَقولوا بِها كالآمِدِيِّ، وابْنِ الحَاجِبِ وغَيرِهِما، إنَّما قَصَدُوا بِذلكَ إنْكارَ كَونِها دَلِيلاً مُسْتَقِلاًّ، وكَلامُهمْ بِهذا القَصْدِ صَحيحٌ، لأِنَّ مُعْظَمَ الأَئِمَّةِ لَمْ يَرَوها أصْلاً مُسْتَقِلا.ًّ
لِذَلكَ جَعَلَها الغَزَالِيُّ مِن الأُصُولِ المَوهُومَةِ في أَوَّلِ كَلامِه عَنها، وهذا يَعْنِي إلْغاءَها وعَدَمَ العَمَلِ بِها، ولَكِنَّه ما لَبِثَ أنْ انْتَهَى في آخِرِ كَلامِه إلى القَولِ بِأنَّ كُلَّ مَصلَحَةٍ داخِلَةٍ ضِمْنَ مَقاصِدِ الشَّرْعِ فَهيَ مَقْبُولَةٌ، حَيثُ يَقولُ: فَإنْ قِيلَ: قدْ مِلْتُمْ في أَكْثَرِ المَسائِل إِلى القَولِ بِالمَصالِحِ ثُمَّ أوْرَدْتُمْ هذا الأَصْلَ في الأُصولِ المَوهُومَةِ، فَلْيُلْحَقْ هذا بِالأُصولِ الصَّحيحَةِ لِيَصيرَ أصْلاً خامِساً بَعْدَ الكِتابِ والسُّنَّةِ والإِجْمَاعِ والعَقْلِ، قُلْنا: هذا مِن الأُصولِ المَوهُومَةِ إذْ مَن ظَنَّ أنَّه أصْلٌ خامِسٌ فقدْ أخْطَأَ، لأِنَّا رَدَدْنَا المَصْلحَةَ إلى حِفْظِ مَقاصِدِ الشَّرْعِ.
فَلَعْلَ سَبَبَ ذلكَ أنَّه لاحَظَ عِندَ وَضْعِ العُنْوَانِ الرَّدَّ علَى مَن اعْتَبَرَ المَصلَحَةَ المُرْسَلَةَ أصْلاً مُسْتَقِلاًّ بِذاتِه، ولاَحَظَ في غِمارِ بَحْثِه بَعْدَ ذلكَ إِيضاحَ أنَّها مَقْبُولَةٌ مِن حيثُ ذاتِها بِقَطْعِ النَّظَرِ عنْ عَدِّها أَصْلاً مُسْتَقِلاًّ.
وأمَّا الَّذينَ مَالُوا إلى القَولِ بِالمَصْلَحةِ المُرْسَلَةِ، ونَقَلوا عنْ مُعْظَمِ الأَئِمَّةِ اعْتِبارَها كإِمامِ الحَرَمَينِ والغَزَاِليِّ وغَيرِهِما، إنَّما أرَادُوا بِذلكَ اعْتِبارَها داخِلَةً في الأُصولِ الأُخْرَى، فَكَلامُهمْ بِهذا القَصْدِ أيضاً صَحيحٌ، لأِنَّ عامَّةَ الأَئِمَّةِ يأْخُذُونَ بِها عَلى هذا الأَساسِ، فكانَ يَنبَغِي أنْ يَخْرُجَ اخْتِلافُ العُلَماءِ في هذه المَسْأَلَةِ على هذا الوَجْهِ، حتَّى يُمْكنَ التَّوافُقُ والانْسِجامُ بَينَ كَلامِهمْ، فَمَحَلُّ الخِلافِ بَينِ العُلَماءِ إِذَنْ لَيسَ في اعْتِبارِ المَصْلحَةِ في حَدِّ ذاتِها فَهذا أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عليهِ بَينَ جُمْهُورِ العُلَماءِ، وإِنَّما هُوَ في أنَّها هَلْ تُعْتَبَرُ أصْلاً مُسْتَقِلاًّ بِذاتِه أَمْ مُنْدَرِجَةً في الأُصولِ الأُخْرَى.
ثَالِثاً: عَدَمُ التَّثَبُّتِ والتَّأَكُّدِ مِن الآرَاءِ المُسْنَدَةِ إلى الإِمامِمَالِكٍ في القَضايَا الَّتي مَبْناها المَصالِحُ المُرْسَلَةُ، والَّتي نُقِلَ عنه بِسَبَبِها أنَّه أَفْرَطَ واسْتَرْسَلَ في الأَخْذِ بِالمَصالِحِ المُرْسَلَةِ، ولَمْ يَلْتَفِتْ فيها إلى ضَرُورَةِ مُلاءَمَتِها لأُصُولِ الشَّرْعِ وتَصَرُّفَاتِه، كاسْتِحْلالِ القَتْلِ، وأَخْذِ المَالِ لِمَصالِحَ يَقْتَضِيهَا غالِبُ الظَّنِّ، وقَتْلِ ثُلُثِ الأُمَّةِ لاِسْتِبْقاءِ ثُلُثَيْها، كَذا حَكاهُ عَنه إِمامُ الحَرَمَينِ في (البُرْهانِ).
فَالواقِعُ أنَّ هذهِ المَسائِلَ لَمْ يَقُلْ بِها الإِمامُ مَالِكٌ، ولا أَحَدٌ مِن أَصْحابِهِ ولا أَساسَ لَه مِن الصِّحَّةِ، وَإَنَّما نَسَبَهُ إِلَيه بَعْضُ العُلَمَاءِ؛ فَلَيسَ بِمَعْقُولٍ أَنْ يَقولَ ذلكَ إِمامُ دارِ الهِجْرَةِ الَّذي عُرِفَ بِاتِّباعِه لِلسُّنَّةِ حتَّى يَتَصوَّرَ المُتَتَبِّعُ لِفِقْهِهِ وأقْوالِهِ أنَّه مُقَلِّدٌ لِمَن قَبْلَه، والَّذي تَفَرَّدَ بِه الإِمامُ مَالِكٌ هُوَ تَوسِعَتُه في المُعامَلاتِ؛ نَظَراً لِتَطْبيقِ هذه القاعِدَةِ في هذا البابِ أَكْثَرَ مِن غَيرِه مِن الفُقَهاءِ، فَشَمَلَتْ كَثِيراً مِن أبْوابِ الفِقْهِ، فقَدْ اسْتَرْسَلَ في المَعانِي المَصْلَحِيَّةِ في بابِ المُعامَلاتِ مَعَ فَهْمِهِ لِلنُّصوصِ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ غَيرَ خارِجٍ عَن مَقْصودِ الشَّارِعِ وغَيرَ مُناقِضٍ له، وقدْ أَثْنَى على الإِمامِ مَالِكٍ الإِمَامُ أَحْمَدٌ، وأبُو دَاوُدَ، وابْنُ مَهْدِي، وإِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بِالاتِّباعِ ومُلازَمَةِ السُّنَّةِ.
قالَ أبُو العِزِّ المُقْتَرِحِ =في حَواشِيهِ على (البُرْهانِ): إنَّ هذا القَولَ لَمْ يَصِحَّ عنْ مالِكٍ، هكَذا قَالَه أصْحابُه، وأنْكَرَهُ ابْنُ شَاشٍ في (التَّحْرِيرِ) علَى الإِمامِ، وقَالَ: أقْوالُه تُؤْخَذُ مِن كُتُبِهِ وكُُتُبِ أصْحابِه لا مِن نَقْلِ النَّاقِلينَ، وكذلكَ اسْتَنْكَرَه القُرْطُبِيُّ، وقالَ: ذَهبَ الشَّافِعِيُّ ومُعْظَمُ أصْحابِ أبِي حَنِيفَةَ إِلى الاعْتِمادِ عَليه، وهُوَ مَذْهَبُ مالِكٍ، قالَ: وقدْ اجْتَرَأَ إِمامُ الحَرَمَينِ وجازَفَ فِيما نَسَبَهُ إلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مِن الإِفْرَاطِ في هذا الأَصْلِ، وهذا لا يُوجَدُ في كِتابِ مَالِكٍ، ولا فِي شَيءٍ مِن كُتُبِ أصْحابِه.
رَابِعاً: نُقِلَ عَن الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنْكارُ الاسْتِحْسانِ بِشِدَّةٍ، واعْتِبارُهُ قَولاً بالتَّشَهِّي وتَشْريعاً بِالهَوَى، دُونَ أنْ يَسْتَثْنِيَ مِن ذلكَ بِعِبارَةٍ صَرِيحَةٍ مَا اسْتَنَدَ فيهِ المُجْتَهِدُ إلَى مَصْلَحَةٍ مُرْسَلَةٍ داخِلَةٍ ضِمْنَ مَقاصِدِ الشَّارِعِ مُلائِمَةٍ لأِحْكامِه وتَصَرُّفاتِه، مِمَّا جَعَلَ كَثيراً مِمَّن لَمْ يَتَدَبَّرُوا أُصُولَ الشَّافِعِيِّ وطُرُقَ اجْتِهاداتِه يَظُنُّونَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يُنْكِرُ الأَخْذَ بِالمَصْلَحَةِ المُرسَلَةِ، لأِنَّهم يَتَصَوَّرُونَ أنَّ مَحَلَّ البَحْثِ إنَّما هُوَ في حُكْمِ المَصْلَحَةِ المُرْسَلةِ مِن حَيث ُاعْتِبارِها أصْلاً مُسْتَقِلاًّ بِذاتِه، ولَمْ يَرَوا مَا يُوجِبُ التَّفْرِقَةَ بَينَ الاسْتِحْسانِ الَّذي يُنْكِرُه الشَّافِعِيُّ وبَينَ المَصلَحَةِ المُرْسَلَةِ الَّتي لَمْ يُرِدْها فِي شَيءٍ مِن أُصُولِه وكِتابَاتِه، وأنَّفي اسْتِدْلاَلاَتِ الشَّافِعِيِّ علَى رَدِّ الاسْتِحْسانِ ما يَكْفِي لِرَدِّ المَصْلَحَةِ المُرْسَلَةِ أيضاً.
والوَاقِعُ أنَّ السَّبَبَ الأَوَّلَ والثَّانِيَ شَكْلِيَّانِ لا يُخْرِجانِ المَصلَحَةَ المُرْسَلَةَ عَن الاحْتِجاجِ بِها، إذْ مَدارُهُما عَلَى تَحْديدِ المَقْصودِ بِالمَصالِحِ المُرْسَلَةِ الَّتي تُعْتَبَرُ حُجَّةً، هَلْ هِيَ المَصالِحُ الغَرِيبَةُ المَسْكُوتُ عَنها ، أو المَصالِحُ المُلائِمَةُ لِمَقاصِدِ الشَّارعِ الَّتي شَهِدَ لِجِنْسِها بِالاعْتِبارِ، وهَلْ المَقْصودُ بِاعْتِبارِها حُجَّةً كَونُها أصْلاً مُسْتَقِلاًّ بِذاتِه أو كَونُها مُنْدَرِجَةً في دَليلٍ آخَرَ؟
أمَّا السَّبَبُ الثَّالِثُ: فقَدْ أشَرْنَا أنَّ الإِمَامَ مالِكاً لَمْ يَعْمَلْ بِالمَصْلَحَةِ المُرْسَلَةِ إلاَّ إذا كانَتْ مُسْتَكْمِلَةً لِمَا اشْتَرَطَهُ فِيها مِن كَونِها مُلائِمةً لِتَصَرُّفاتِ الشَّارِعِ، ودَاخِلَةً تَحْتَ جِنسٍ اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ، وهذا عَينُ مَا اشْتَرَطَهُ العُلَمَاءُ مِن الحَنَفِيَّةِ والشَّافِعِيَّةِ والحَنَابِلَةِ فِيها.
وأمَّا السَّبَبُ الرَّابِعُ: فإنَّه لاَ يَلْزَمُ مِن إنْكارِ الشَّافِعِيِّ لِلاسْتِحْسانِ إنْكارُه لِلْمصالِحِ المُرْسَلَةِ، ولاَ يَلْزَمُ مِن عَدَمِ ذِكْرِه لَها بِصَرِيحِ العِبارَةِ عَدَمُ احْتِجَاجِهِ بِها، بَلْ مَن يَتَدَبَّرُ طُرُقَ اجْتِهادِهِ يَعْلَمُ أنَّه يَحْتَجُّ بِها، ويَتَّضِحُ بِذلكَ: أنَّ المَصْلَحةَ المُرْسَلَةَ قالَ بِها الأَئِمَةُ، ولَمْ يَخْلُ مِن القَولِ بِها مَذْهَبٌ مِن المَذاهِبِ.
قالَ القَرَافِيُّ: وأمَّا المَصلَحَةُ المُرسَلةُ فَغَيرُنا يُصَرِّحُ بِإِنْكارِها، ولَكِنْ عندَ التَّفْرِيعِ نَجِدُهمْ يُعَلِّلُونَ بِمُطْلَقِ المَصلَحَةِ، ولا يُطالِبُونَ أنْفُسَهم عِندَ الفُرُوقِ والجَوَامِعِ بِإِبْداءِ الشَّاهِدِ لها بِالاعْتِبارِ، بَلْ يَعْتَمِدُونَ على مُجَرَّدِ المُناسَبَةِ، وهذا هُو المَصْلَحةُ المُرْسَلةُ.



  #4  
قديم 18 ذو الحجة 1429هـ/16-12-2008م, 10:43 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي الغيث الهامع لولي الدين العراقي


ص: الكتاب الثالث في الإجماع
وهو اتفاق مجتهدي الأمة بعد وفاة محمد صلى الله عليه وسلم في عصر على أي أمر كان.
ش: قدم الإجماع على القياس لعصمته عن الخطأ بخلافه وهذا التعريف بديع يستخرج منه جميع مسائل هذا الكتاب.
فالاتفاق جنس يشمل القول والفعل والاعتقاد وما في معناها من السكوت عند القائل به.
وخرج بالمجتهد اتفاق بعض المجتهدين، واتفاق العوام.
ولفظ المجتهد مفرد أريد به الجنس، وليس جمعا فلا يكتب بالياء كما قاله المصنف وانفصل بذلك عن قول القائل: أقل الجمع ثلاثة، فيخرج ما إذا لم يكن في العصر إلا مجتهدان مع أن اتفاقهما إجماع وإذا كان مفردا مضافا عم.
وقد أورد عليه حينئذ أنه يتناول المجتهد الواحد إذا لم يكن في العصر سواه، والمختار أنه ليس إجماعا، وأجيب عنه بخروج هذه الصورة بلفظ الاتفاق، فإنه إنما يكون من اثنين فصاعدا وخرج بإضافة المجتهد للأمة اتفاق الأمم السالفة فليس حجة على الأصح، وعلى القول بأنه حجة فالكلام فيما هو حجة الآن، وتلك حجة انقرضت.
والألف واللام في الأمة للعهد، والمراد هذه الأمة، وخرج بالوفاة الإجماع في عصره عليه الصلاة والسلام فإنه لا ينعقد، ودل بقوله: (في عصر) على أنه يكفي اتفاق المجتهدين في عصر من الأعصار، ثم يصير حجة عليهم وعلى من بعدهم، ودفع به توهم إرادة اجتماع كلهم في جميع الأعصار إلى يوم القيامة.
وهذا من زيادة الآمدي، وأجاب من لم يذكره بأن المقصود العمل وإنما يكون في عصر.
وقوله: (على أي أمر كان) يعم الإثبات والنفي والأحكام الشرعية واللغوية، والعقلية، والدنيوية، فهي حجة فيها كما جزموا به في الأولين، ورجحوه في الآخرين.
وأدخل المصنف على أمر صيغة عموم ولم يفعل ذلك في عصر تأكيدا للتعميم في الأمر، فإنه قد يتخيل الفرق بين بعض الأمور وبعض، كما منع بعضهم الإجماع في العقليات وفيما أصله أمارة، ولا يتخيل الفرق بين عصر وعصر، ولا يقال: لولا اختلاف الأعصار لما اختص الإجماع بأعصار هذه الأمة وبعصر الصحابة عند القائل به، لأن ذلك ليس لاختلاف الأعصار بل لاختلاف أهلها، ولذلك لو كان بين الصحابة تابعي مجتهد لم يعتد بخلافه من يخص الإجماع بالصحابة، مع أنه في عصرهم، هذا معنى كلام المصنف في انفصاله عن سؤالين والله أعلم.
ص: فعلم اختصاصه بالمجتهدين، وهو اتفاق، واعتبر قوم وفاق العوام مطلقا، وقوم في المشهور بمعنى إطلاق أن الأمة اجتمعت لا افتقار الحجة إليهم، خلافا للآمدي، وآخرون: الأصولي في الفروع.
ش: علم من أخذ المجتهد في التعريف اختصاص الإجماع بالمجتهدين، وأنه لا اعتبار بقول العوام في وفاق ولا خلاف وبهذا قال الأكثرون، واعتبر قوم وفاقهم مطلقا، أي: في المسائل المشهورة والخفية وآخرون: وفاقهم في المسائل المشهورة دون الخفية كدقائق الفقه.
ثم بين المصنف أنه ليس معنى اعتبار وفاقهم أن قيام الحجة تفتقر إلى ذلك، وإنما معناه: أنه لا يصدق إطلاق اجتماع الأمة مع مخالفتهم وإن كان الآمدي خالف في ذلك، فجعله في افتقار الحجة إليهم.
وحكاه الإمام وغيره عن القاضي أبي بكر، وهو غلط عليه، فقد صرح في غير موضع من مختصر (التقريب): بعدم اعتبار قولهم، بل زاد على هذا: أن نقل الإجماع على عدم اعتباره وأن الخلاف إنما هو في أنه هل يصدق أن يقال: أجمعت الأمة، أو لا يقال إلا أجمع علماء الأمة؟ لا في أن لقول العلماء مع مخالفة العوام حجة أم لا.
وبهذا التحقيق يظهر أنه لا خلاف في المسألة في المعنى، ولهذا قال المصنف في أول كلامه: إن اختصاصه بالمجتهدين اتفاق، ثم رتب المصنف على عدم اعتبار قول العوام مسألة أخرى، وهي اعتبار قول المجتهد في فن فيما ليس مجتهدا فيه لأنه في غير فنه كالعامي.
لكن اختلفوا في اعتبار قول الأصولي الذي ليس بفقيه والفقيه الذي ليس أصوليا في الفروع على أربعة أقوال:
الاعتبار مطلقا.
وعدمه مطلقا.
والثالث: اعتبار قول الأصولي، لأنه أقرب إلى مقصود الاجتهاد واستنباط الأحكام من مآخذها، وليس من شرط الاجتهاد حفظ الأحكام، بخلاف الفقيه الحافظ للأحكام، وهذا القول هو المحكي في كلام المصنف، واختاره القاضي أبو بكر، وقال الإمام: إنه الحق.
والرابع: عكسه وهو اعتبار قول الفقيه دون الأصولي، لأنه أعرف بمواقع الاتفاق والاختلاف.
ص: وبالمسلمين فخرج من نكفره.
ش: علم من اعتبار مجتهد الأمة اختصاصه بالمسلمين.
قلت: بناء على أن المراد بالأمة أمة الإجابة لا أمة الدعوة، فلا اعتبار بقول الكافر في علم من العلوم، ولو بلغ رتبة الاجتهاد فيه، سواء في ذلك المعترف بالكفر وغيره، وهو المبتدع إن فرعنا على تكفيره ببدعته، فإن لم نكفره فالمختار: أنه لا ينعقد الإجماع دونه لدخوله في مسمى الأمة.
وقيل: ينعقد دونه، وقيل: لا ينعقد عليه بل على غيره، فيجوز له مخالفة إجماع من عداه، ولا يجوز ذلك لغيره.
قلت: كذا حكاه الشارح، وينبغي عكسه: أنه ينعقد إجماع غيره عليه ولا ينعقد إجماعه على غيره، والله أعلم.
قال الشارح: إذا كان الإجماع في أمر دنيوي فلا يبعد أن لا يختص بالمسلمين لا سيما إذا بلغ المجمعون حد التواتر ولم يشترط في نقل المتواتر الإجماع
قلت: ليس هذا نقلا ورواية وإنما هو اجتهاد واستنباط فلا معنى لما ذكره آخرا. نعم أول بحثه قريب في انعقاد الإجماع بالكافر في الأمور الدنيوية، والله أعلم.
ص: وبالعدول، إن كانت العدالة ركنا، وعدمه إن لم تكن وثالثها: في الفاسق يعتبر في حق نفسه ورابعها: إن بين مأخذه.
ش: ويعلم أيضا من اعتبار الاجتهاد الاختصاص بالعدول إن فرعنا على أن العدالة ركن في الاجتهاد.
فإن قلنا: ليست بركن لم يختص الإجماع بالعدول.
وفهم عنه حكاية خلاف في اعتبار قول الفاسق وبناؤه على اشتراط العدالة في الاجتهاد، وسيأتي في باب الاجتهاد تصحيح عدم اشتراطها فيلزم منه اعتبار الفاسق في ذلك لكن الأكثرون على عدم اعتباره.
وفي المسألة قول ثالث: أنه يعتبر خلافه في حق نفسه دون غيره.
ورابع: إن بين مأخذه اعتبر وإلا فلا.
قال ابن السمعاني: ولا بأس به، ثم هذا في الفاسق بلا تأويل، أما المتأول فكالعدل وقد تقدم من نص الشافعي قبول شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية.
ص: وأنه لا بد من الكل، وعليه الجمهور، وثانيها: يضر الاثنان وثالثها: الثلاثة، ورابعها: بالغ عدد التواتر، وخامسها: إن ساغ الاجتهاد في مذهبه، وسادسها: في أصول الدين، وسابعها: لا يكون إجماعا بل حجة.
ش: علم من قوله (مجتهد الأمة) أنه لا بد من اتفاق جميعهم، لأنه مفرد مضاف فيعم، فلا ينعقد الإجماع مع مخالفة بعض مجتهدي العصر، ولو كان واحدا، هذا هو الصحيح وقول الجمهور.
القول الثاني: أنه إن كان المخالف اثنين قدح في الإجماع، أو واحدا فلا.
الثالث: إنما يضر الثلاثة، حكاه الإمام عن محمد بن جرير الطبري وأبي بكر الرازي وأبي الحسين الخياط من المعتزلة ونقل عنهم البيضاوي: أنه لا يضر مخالفة الأقل، ومقتضاه أن العبرة بقول الذين هم أكثر من النصف، وإن كثر عدد المخالفين ولم يحك المصنف هذا القول.
الرابع: إن بلغ المخالفون عدد التواتر قدحت مخالفتهم في الإجماع، وإلا فلا.
وقال القاضي أبو بكر: إنه الذي يصح عن ابن جرير.
الخامس: إن كان مذهب المخالف في ذلك مما يسوغ الاجتهاد فيه عند الأكثرين قدح في الإجماع، وإلا فلا.
ومثل الشارح الأول بخلاف ابن عباس في العول.
والثاني: بخلافه في المتعة وربا الفضل.
قال: وهو قول الجرجاني من الحنفية، وحكاه السرخسي عن أبي بكر الرازي.
السادس: إن كان في أصول الدين قدح، وإلا فلا.
السابع: إن ندر المخالف لم يكن إجماعا قطعيا لكنه حجة لأنه يبعد أن يكون الراجح مع الأقلين، صححه ابن الحاجب.
قال الشارح: وحكي ثامن: أنه إجماع وحجة.
وتاسع: أنه ليس بحجة ولا إجماع، لكن الأولى اتباع الأكثر وإن كان لا تحرم مخالفتهم.
قلت: وعاشر تقدمت حكايته عن البيضاوي والله أعلم.
ص: وأنه لا يختص بالصحابة وخالف الظاهرية وعدم انعقاده في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأن التابعي المجتهد معتبر معهم فإن نشأ بعد فعلى الخلاف في انقراض العصر.
ش: فيه مسائل:
الأولى: أن الإجماع لا يختص بالصحابة، وهذا مفهوم من إطلاق مجتهد الأمة، وبه قال الجمهور، خلافا للظاهرية.
قال ابن حزم: ذهب داود وأصحابنا إلى أن الإجماع إنما هو إجماع الصحابة فقط، وهو قول لا يجوز خلافه، لأن الإجماع إنما يكون عن توقيف، والصحابة هم الذين شهدوا التوقيف.
فإن قيل: فما تقولون في إجماع من بعدهم أيجوز أن يجمعوا على خطأ؟
قلنا: هذا لا يجوز لأمرين.
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمننا من ذلك بقوله: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق)).
والثاني: أن سعة الأقطار بالمسلمين وكثرة العدد لا يمكن أحد ضبط أقوالهم، ومن ادعى هذا لم يخف على أحد كذبه. انتهى.
ومقتضاه: أن الظاهرية لا يمنعون الاحتجاج بإجماع من بعد الصحابة ولكن يستبعدون العلم به
الثانية: أنه لا ينعقد الإجماع في حياته عليه الصلاة والسلام كما صرح به في التعريف، لأنه إن كان مع المجمعين فالحجة في قوله، وإلا فلا اعتبار بقولهم.
الثالثة: إذا كان في عصر الصحابة تابعي بلغ رتبة الاجتهاد اعتبر قوله معهم، وهذا مأخوذ من إطلاق المجتهد، فلا ينعقد إجماع الصحابة مع مخالفته خلافا لقوم، ولا يخفى أن هذا مبني على اعتبار مخالفة النادر، فإن لم يتصف بصفة الاجتهاد إلا بعد إجماعهم فنشأ له الاجتهاد، وخالف قبل انقراضهم بني على الخلاف في اعتبار انقراض العصر، فإن لم نعتبره لم يعتد بخلافه، وإن اعتبرناه اعتد بخلافه.
ص: وأن إجماع كل من أهل المدينة وأهل البيت والخلفاء الأربعة والشيخين وأهل الحرمين وأهل المصرين الكوفة والبصرة غير حجة.
ش: علم من العموم في قوله: مجتهد الأمة، انتفاء الإجماع في كل من هذه المسائل الست.
فالأولى: خالف فيها مالك، فأخذه أكثر أصحابه على ظاهره، وأوله بعضهم على ترجيح روايتهم على غيرهم.
وخالف في الثانية الشيعة، والمراد بأهل البيت علي وفاطمة وأبناؤهما الحسن والحسين رضي الله عنهم، وحكى الشيخ أبو إسحاق في (شرح اللمع) عن الشيعة أيضا أن قول علي – رضي الله عنه – وحده حجة.
فإن قلت: كيف يجتمع هذا النقل عن الشيعة مع أنه اشتهر عنهم إنكار حجية الإجماع؟
قلت: أنكروا كونه حجة على تفسيره المعروف، لا مطلقا.
وخالف في الثالثة القاضي (أبو خازم بالخاء والزاي المعجمتين) وهو من أئمة الحنفية ولهذا لم يعتبر خلاف زيد في منع توريث ذوي الأرحام بناء على أن الخلفاء الأربعة يورثونهم وأنفذ المعتضد حكمه بذلك، وكتب به إلى الآفاق، وكان قاضيا في زمنه.
وقال بإجماعهم أيضا الإمام أحمد كما نقله ابن الحاجب.
ومدرك المخالف في الرابعة قوله عليه الصلاة والسلام: ((اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)) رواه الترمذي وحسنه، وصححه ابن حبان والحاكم.
ومدرك المخالف في الأخيرتين انتشار الصحابة – رضي الله عنهم – في هذه البلاد دون غيرها.
ص: وأن المنقول بالآحاد حجة.
ش: إذا نقل الإجماع لنا بطريق الآحاد فالصحيح عند الإمام والآمدي وابن الحاجب وغيرهم: أنه حجة كنقل السنة وهذا مفهوم من إطلاق التعريف المتقدم.
وحكى الآمدي عن الأكثرين: أنه لا يكون حجة، إلا إذا نقل إلينا بطريق التواتر.
ص: وهو الصحيح في الكل.
ش: أي أن ما ذكرناه هو الصحيح في جميع المسائل المتقدمة، وعلم من ذلك نقل الخلاف في المسائل الست المتقدمة، وإن لم يصرح به هناك.
ص: وأنه لا يشترط عدد التواتر، وخالف إمام الحرمين.
ش: علم من إطلاق مجتهد الأمة أنه لا يشترط للمجمعين عدد وذلك يقتضي أنه لا يشترط بلوغهم عدد التواتر وبه قال الأكثرون خلافا لإمام الحرمين.
قال الشارح: والذي رأيته في (البرهان) بعد حكاية الخلاف في ذلك: والذي نرتضيه – وهو الحق – أنه يجوز انحطاط عددهم، بل يجوز شغور الزمان عن العلماء وتعطيل الشريعة.
وأما القول بأن إجماع المنحطين عن التواتر حجة فهو غير مرضي، قاله الشارح.
فعلى هذا، هنا مسألتان: جواز ذلك، وهل هو حجة أم لا؟.
والإمام يوافق على الأول ويخالف في الثاني.
وكلام المصنف فيه.
قلت: فلا اعتراض على المصنف، والله أعلم.
ص: وأنه لو لم يكن إلا واحد لم يحتج به، وهو المختار.
ش: علم من لفظ الاتفاق أنه لو لم يكن في العصر إلا مجتهد واحد لم يكن قوله حجة، واختاره المصنف.
وقال أبو إسحاق: إنه حجة، وعزاه الصفي الهندي للأكثرين. وقال بعضهم: لا خلاف في أنه ليس بإجماع.
وقال الغزالي: إن اعتبرنا موافقة العوام: فإن ساعده العوام فهو إجماع الأمة، وإن لم يلتفت إلى قولهم فلم يوجد ما يتحقق به اسم الإجماع، لأنه يستدعي عددا حتى يسمى إجماعا.
ص: وأن انقراض العصر لا يشترط، وخالف أحمد وابن فورك وسليم فشرطوا انقراض كلهم أو غالبهم أو علمائهم، أقوال اعتبار العامي والنادر، وقيل: يشترط الانقراض في السكوتي, وقيل: إن كان فيه مهلة وقيل: إن بقي منهم كثير، وأنه لا يشترط تمادي الزمن واشترطه إمام الحرمين في الظني.
ش: علم من قوله: (في عصر) أنه لا يشترط في انعقاد الإجماع انقراض عصر المجمعين، لحصول مسمى اتفاقهم في عصر، وبهذا قال الأكثرون.
والثاني: اشتراطه فلو رجع بعضهم قبل موتهم فله ذلك، وبه قال أحمد بن حنبل وابن فورك وسليم الرازي من الشافعية.
وإذا قلنا بهذا فهل يشترط انقراض كلهم أو غالبهم أو علمائهم؟
فيه ثلاثة أقوال:
فالأول: قول من يعتبر قول العامي والفرد النادر.
والثاني: قول من لا يعتبر قول النادر.
والثالث: قول من لا يعتبر قول العامي.
القول الثالث: أنه لا يشترط انقراضهم في الإجماع السكوتي دون القولي، وهو قول الأستاذ، واختاره الآمدي.
الرابع: اشتراطه فيما فيه مهلة، فأما ما لا مهلة فيه، ولا يمكن استدراكه من قتل نفس أو استباحة فرج فلا يشترط فيه انقراضهم.
الخامس: أنه إن بقي كثير منهم، وضبط بعدد التواتر لم يكن إجماعهم حجة, وإن كان الباقي منهم قليلا, وهو دون عدد التواتر انعقد الإجماع قبل انقراضهم.
وقوله: (وأنه لا يشترط تمادي الزمن) مفرع على الأول، وهو عدم اشتراط الانقراض أي: لا يشترط أيضا في حصول الإجماع مرور الأزمنة وطول المدة، وهذا مفهوم من إطلاق الاتفاق المذكور في التعريف، واشترطه إمام الحرمين إن كان الحكم ظنيا، فإن قطعوا بالحكم فلا. ويرد على المصنف أن إمام الحرمين لم يقتصر على طول الزمان بل شرط معه تكرار الواقعة وعبارته في (البرهان): وشرط ما ذكرناه أن يغلب عليهم في الزمن الطويل ذكر تلك الواقعة وترداد الخوض فيها فلو وقعت الواقعة، فسبقوا إلى حكم فيها ثم تناسوها إلى ما سواها فلا أثر للزمان، والحالة هذه. ثم بنى على ذلك أنهم لو قالوا عن ظن، ثم ماتوا على الفور، لا يكون إجماعهم إجماعا، ثم أشار إلى ضبط الزمن فقال: المعتبر زمن لا يعرض في مثله استقرار الجم الغفير على رأي إلا عن قاطع أو نازل منزلة القاطع انتهى.
وظهر بذلك أن نقل ابن الحاجب عن إمام الحرمين أنه إن كان عن قياس اشترط انقراض العصر، وإلا فلا – غلط عليه، فإنه لا ينظر إلى الانقراض وإنما تعتبر طول المدة وتكرر الواقعة، والله أعلم.
ص: وأن إجماع السالفين غير حجة وهو الأصح.
ش: علم من لفظ الأمة – وهو للعهد كما تقدم – أن إجماع الأمم السالفة ليس حجة وبه قال الجمهور، لأن العصمة لم تثبت إلا لهذه الأمة وذهب الأستاذ أبو إسحاق إلى أن إجماع كل أمة حجة.
قال الشارح: ولم يثبتوا أن الخلاف في كونه حجة عندنا أو عندهم. ويحتمل أنه عندنا، وهو مفرع على كونه حجة عندهم، ويتفرع على حجيته عندهم الخلاف في أنه شرع عندنا أم لا، فإن قلنا: نعم، كان إجماعهم عندنا حجة، وإلا فلا.
وفيه نظر. انتهى.
ص: وأنه قد يكون عن قياس خلافا لمانع جواز ذلك أو وقوعه مطلقا أو في الخفي.
ش: علم من إطلاق الاجتهاد أنه قد يكون مستنده نصا ولا خلاف فيه أو قياسا وهو جائز واقع عند الجمهور.
وقيل: إنه غير ممكن وقيل: إنه ممكن إلا أنه غير واقع وقيل: إن كانت الأمارة جلية جاز، أو خفية فلا.
وعلى القول الأول: فاختلفوا في تحريم مخالفته إذا وقع مع إطباقهم على أنه حجة.
ص: وأن اتفاقهم على أحد القولين قبل استقرار الخلاف جائز، ولو من الحادث بعدهم، وأما بعده منهم فمنعه الإمام، وجوزه الآمدي مطلقا، وقيل: إلا أن يكون مستندهم قاطعا، وأما من غيرهم فالأصح ممتنع إن طال الزمان.
ش: إذا اختلف أهل العصر على قولين فهل يجوز بعد ذلك الاتفاق على أحدهما؟
للمسألة حالان.
إحداهما: أن يكون قبل استقرار الخلاف، فجزم المصنف بجوازه، سواء أكان الاتفاق منهم أو ممن حدث بعدهم من المجتهدين، وهو مفهوم من إطلاق الاتفاق، وبه قال الجمهور لرجوع الصحابة إلى الصديق رضي الله عنهم في قتال مانعي الزكاة بعد الاختلاف قبل ذلك وخالف فيه الصيرفي.
قلت: ولك أن تقول: إن أريد بالاستقرار الخلاف جزم كل بقوله، فقبل الجزم لا خلاف، وإن أريد موتهم فيرده أن المسألة أعم من اتفاقهم واتفاق من بعدهم كما تقدم، ولست أرتضي قول من قال: إن المراد اشتهاره وأن يصير مذهبا يعزى إلى قائله، لأن شهرة القول لا تحدث له حكما لم يكن له قبل شهرته.
ولعل المراد باستقراره طول الزمان، وتكرر الواقعة مع تصميم كل على قوله، ولا يلزم من كون ذلك غير مشترط في انعقاد الإجماع عدم اشتراطه في هذه الصورة الخاصة عند بعضهم، والله أعلم.
الثانية: أن يكون بعد استقرار الخلاف وتحته صورتان:
إحداهما: أن يكون الاتفاق من أهل ذلك العصر بعينه، ففيه مذاهب.
أحدها: المنع، وهو اختيار الإمام.
والثاني: الجواز، وهو اختيار الآمدي.
والثالث: أنه يجوز إن كان مستندهم ظنيا، ولا يجوز إن كان قطعيا ولا يخفى أن محل الخلاف إذا لم يشترط انقراض العصر، فإن شرطناه جاز قطعا.
الثانية: أن يكون الاتفاق من أهل العصر الذي بعدهم ففيه مذاهب:
الجواز مطلقا وبه قال الإمام وأتباعه وابن الحاجب.
والمنع مطلقا وبه قال الإمام أحمد، والشيخ أبو الحسن، والصيرفي وإمام الحرمين، والغزالي والآمدي ونقل كل منهما عن الجمهور والأصح عند المصنف: الامتناع إن طال الزمان، والجواز إذا قرب وحكي عن إمام الحرمين.
والفرق أن استمرار الخلاف مع طول الزمان يقتضي العرف فيه، بأنه لو كان ثم وجه لسقوط أحد القولين لظهر.
ص: وأن التمسك بأقل ما قيل حق.
ش: من الأدلة التي اعتمدها الشافعي الأخذ بأقل ما قيل إذا لم يجد دليلا سواه، ووافقه القاضي أبو بكر والجمهور، وذلك كدية الكتابي قيل: إنها كدية المسلم، وقيل: على النصف منها، وقيل: الثلث، فأخذ الشافعي بالثلث، وهو مركب من الإجماع والبراءة الأصلية، فإن إيجاب الثلث مجمع عليه، ووجوب الزيادة عليه مدفوع بالبراءة الأصلية، والصورة أنه لم يقم دليل على إيجاب الزيادة، ولذلك أدخله المصنف في مسائل الإجماع، وأشار إلى أنه مفهوم من التعريف المتقدم، وقد عرفت أنه ليس إجماعا محضا بل مركب من أمرين، وقال القاضي أبو بكر: إن الناقل عن الشافعي أنه من الإجماع لعله زل في كلامه.
وقال الغزالي: هو سوء ظن به، فإن المجمع عليه وجوب هذا القدر ولا مخالفة فيه، والمختلف فيه سقوط الزيادة ولا إجماع فيه، وحينئذ فليس تمسكا بالإجماع بل مجموع هذين الدليلين.
قال شارحه العبدري: قوله: (ليس تمسكا بالإجماع) أي: في إبطال الزيادة على أقل ما قيل، أما في أقل ما قيل فهو تمسك بالإجماع بدليل قوله: المجمع عليه وجوب هذا القدر، ولا مخالف، فيه انتهى.
أما إذا قام دليل على الزيادة فإن الشافعي يأخذ به، كما قال بالتسبيع في غسلات الكلب، لقيام الدليل عليه، ولم يتمسك بأقل ما قيل، وهو الاقتصار على ثلاث غسلات. والله أعلم.
ص: أما السكوتي فثالثهما حجة لا إجماع ورابعها: بشرط الانقراض وقال ابن أبي هريرة: إن كان فتيا، وأبو إسحاق المروزي عكسه، وقوم: إن وقع فيما يفوت استدراكه، وقوم: في عصر الصحابة، وقوم: إن كان الساكتون أقل، والصحيح: حجة، وفي تسميته إجماعا خلاف لفظي، وفي كونه إجماعا تردد، مثاره أن السكوت المجرد عن أمارة رضا وسخط مع بلوغ الكل ومضي مهلة النظر عادة عن مسألة اجتهادية تكليفية هل يغلب ظن الموافقة؟
ش: ما تقدم في الإجماع القولي، أما السكوتي وهو أن يفتي بعض المجتهدين ويبلغ الباقين فيسكتوا من غير تصريح بموافقة ولا إنكار، ففيه مذاهب:
أحدها: أنه ليس بإجماع، ولا حجة، لاحتمال توقف الساكت في ذلك أو ذهابه إلى تصويب كل مجتهد، واختاره القاضي أبو بكر، ونقله عن الشافعي، وقال: إنه آخر أقواله وإمام الحرمين وقال: إنه ظاهر مذهبه، ولهذا قال: لا ينسب إلى ساكت قول.
قال إمام الحرمين: وهي من عباراته الرشقة.
وقال الغزالي في (المنخول): نص عليه في الجديد، واختاره الإمام فخر الدين وأتباعه.
الثاني: أنه إجماع وحجة، ويوافقه استدلال الشافعي بالإجماع السكوتي في مواضع، وأجاب من نقل عنه الأول: بأنه إنما استدل به في وقائع تكررت كثيرا بحيث انتفت فيها الاحتمالات التي اعتل بها من منع كونه حجة.
ويمكن الجواب بأن تلك الوقائع ظهرت من الساكتين فيها قرينة الرضى فليست من محل النزاع، كما ادعى الاتفاق على ذلك الروياني من أصحابنا والقاضي عبد الوهاب من المالكية.
الثالث: أنه حجة وليس بإجماع، وهو قول أبي هاشم والصيرفي وهو معنى قول الآمدي: إنه إجماع ظني يحتج به, ووافقه ابن الحاجب في مختصره الكبير وتردد في مختصره الصغير بين القول بكونه إجماعا، والقول بكونه حجة.
الرابع: أنه إجماع بشرط انقراض العصر وبه قال أبو علي الجبائي والبندنيجي من أصحابنا وفي (اللمع) للشيخ أبي إسحاق: إنه المذهب، قال: فأما قبل انقراضه فهل نقول: ليس إجماعا قطعا أو على الخلاف؟ طريقان.
الخامس: أنه إجماع إن كان فتيا لا إن كان حكما، وبه قال ابن أبي هريرة، كذا حكاه الآمدي، والذي في (المحصول) عنه: لا، إن كان من حاكم، وبينهما فرق، فلا يلزم من صدوره من حاكم أن يكون حكما فقد يكون فتوى.
السادس: عكسه، وبه قال أبو إسحاق المروزي، لأن الأغلب أن الصادر من الحاكم لا يصدر إلا عن تشاور.
السابع: أنه إجماع إن كان في أمر يفوت استدراكه كإباحة فرج وإراقة دم، وإلا فلا، حكاه ابن السمعاني.
الثامن: إنه إن كان في عصر الصحابة فإجماع، وإلا فلا، حكاه الماوردي.
التاسع: أنه إجماع إن كان الساكتون أقل، وإلا فلا، حكاه السرخسي من الحنفية.
ولما حكى المصنف هذه المذاهب صحح منها كونه حجة، اقتداء بالرافعي فإنه قال في كتاب القضاء: إنه المشهور.
قال: وهل هو إجماع؟ فيه وجهان.
ثم أشار المصنف إلى أن الخلاف في كونه إجماعا مع الجزم بأنه حجة خلاف لفظي، أي: هل نسميه بذلك أم لا؟ وأن التردد في كونه إجماعا حقيقة مثاره ومنشؤه: أن السكوت المجرد عن أمارة الموافقة والمخالفة مع علم جميع مجتهدي العصر بفتوى أولئك وبمضي مدة يمكن من حيث العادة الاجتهاد فيها في تلك المسألة هل يغلب على الظن الموافقة أم لا؟
وقيد المصنف ذلك بقيدين:
أحدهما: أن يكون السكوت عن مسألة اجتهادية، أي واقعة في محل الاجتهاد ليخرج مسائل الوفاق فليست من ذلك.
ثانيهما: أن يكون من مسائل التكليف ليخرج به ما لو كانت المسألة في تفضيل شخص على آخر.
وفاته قيد ثالث أن يتكرر مع طول الزمان.
ورابع: وهو أن يكون بعد استقرار المذاهب.
ص: وكذا الخلاف فيما لم ينتشر.
ش: تقدم الكلام في فتوى البعض وسكوت الباقين مع علمهم به، فإن انتشر ولم يدر هل علموا به أم لا، فيجري فيه الخلاف المتقدم أيضا، لكن الظاهر هنا أنه ليس بحجة، وهو المحكي عن الأكثرين، واختاره الآمدي وهو خلاف ما يقتضيه عبارة المصنف.
وقال الإمام فخر الدين: الحق أنه إن كان فيما تعم به البلوى –أي: تقع فيه الناس كثيرا كنقض الوضوء بمس الذكر – فهو حجة وإلا فلا، وجزم به البيضاوي.
واعلم أن المراد بالانتشار الشهرة لا العلم ببلوغ الخبر للباقين، وألا تتحد مع المسألة التي قبلها.
واشترط الآمدي وابن الحاجب عدم الانتشار يريدان به نفي العلم باطلاعهم ولم يريدا به عدم الشهرة، فلا خلاف في المعنى.
ص: وأنه قد يكون في دنيوي وديني وعقلي لا تتوقف، صحته عليه.
ش: علم من قوله: (على أي أمر كان) أن الإجماع حجة في الأمور الدنيوية كالآراء والحروب وتدبير الجيوش، وأمور الرعية، وللقاضي عبد الجبار فيه قولان: وجه المنع اختلاف المصالح بحسب الأحوال، فلو كان حجة للزم ترك المصلحة وإثبات المفسدة، وقطع به الغزالي وصححه ابن السمعاني وأما الأمور الدينية فلا خلاف فيها، وأما العقلية فإنها تكون حجة فيما لا يتوقف الإجماع عليه، كحدوث العالم ووحدة الصانع لإمكان تأخر معرفتهما عن الإجماع دون ما يتوقف الإجماع عليه كإثبات الصانع والنبوة، فإن إثبات ذلك بالإجماع يلزم منه الدور.
ص: ولا يشترط فيه إمام معصوم.
ش: المخالف في ذلك الرافضة بناء على زعمهم أنه لا يجوز خلو الزمان عنه، وحينئذ فالحجة به لا بالإجماع.
ص: ولا بد له من مستند وإلا لم يكن لقيد الاجتهاد معنى.
ش: الجمهور على أنه لا بد للإجماع من مستند، أي دليل شرعي من كتاب أو سنة أو قياس على خلاف فيه تقدم، وذلك معلوم من قوله في التعريف: (مجتهد الأمة) وإلا لم يكن لقيد الاجتهاد فائدة.
وجوز قوم حصوله مصادفة بأن يوفقهم الله تعالى لاختيار الصواب من غير توقيف على مستند، لكن وافقوا على أنه غير واقع كما قاله الآمدي.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الثالث, الكتاب

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:46 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir