القارئ: الحمد لله رب العالمين,وصلى الله على أشرف الأنبياء والمرسلين,نبينا وحبيبنا محمد بن عبد الله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين,أما بعد..,
قال المصنف رحمه الله تبارك وتعالى,ونفعنا بعلمه,وبعلم شيخنا,وأجزل لهما المثوبة في الدارين:
الشاذ
قال الشافعي: وهو أن يروي الثقة حديثا يخالف ما روى الناس، وليس من ذلك أن يروي ما لم يرو غيره، وقد حكاه الحافظ أبو يعلى الخليلي القزويني عن جماعة من الحجازيين أيضاً.
قال: والذي عليه حفاظ الحديث,أن الشاذ: ما ليس له إلا إسناد واحد,يشذ به ثقة أو غير ثقة,فيتوقف فيما شذ به الثقة,ولا يحتج به، ويرد ما شذ به غير الثقة.
وقال الحاكم النيسابوري: هو الذي ينفرد به الثقة,وليس له متابع.
قال ابن الصلاح: ويشكل على هذا حديث((الأعمال بالنيات))؛ فإنه تفرد به عمر,وعنه علقمة,وعنه محمد بن إبراهيم التيمي,وعنه يحيى بن سعيد الأنصاري.
قال: قلت: ثم تواتر عن يحيي بن سعيد هذا,فيقال: إنه رواه عنه نحو من مائتين,وقيل: أزيد من ذلك، وقد ذكر له ابن منده متابعات غرائب,ولا تصح كما بسطناه في مسند عمروفي الأحكام الكبير.
قال: وكذلك حديث عبد الله بن دينار عند عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته.
وتفرد مالك,عن الزهري,عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر.
وكل من هذه الأحاديث الثلاثة في الصحيحين من هذه الوجوه المذكورة فقط، وقد قال مسلم: للزهري تسعون حرفاً,لا يرويها غيره.
وهذا الذي قاله مسلم عن الزهري من تفرده بأشياء لا يرويها غيره, ويشاركه في نظيرها جماعة من الرواة؛ فإن الذي قاله الشافعي أولا هو الصواب، أنه إذا روى الثقة شيئاً قد خالفه فيه الناس فهو الشاذ، يعني: المردود,وليس من ذلك أن يروي الثقة ما لم يرو غيره,بل هو مقبول إذا كان عدلاً ضابطاً حافظاًَ؛ فإن هذا لورد لردت أحاديث كثيرة من هذا النمط,وتعطلت كثير من المسائل عن الدلائل.والله أعلم.
وأما إن كان المنفرد به غير حافظ,وهو مع ذلك عدل ضابط,فحديثه حسن,فإن فقد ذلك فمردود.والله أعلم.
الشيخ: من بعد حمد لله,والصلاة والسلام على رسول الله..,
هذا مبحث الحديث الشاذ، وهو من أهم مباحث علم المصطلح، والشاذ: هو المنفرد,إذا شذ الرجل عن الجماعة,أي: انفرد عنهم.
وقبل أن نتكلم عن التعريف,ونناقشه ونناقش الأقوال التي وردت,أود التنبيه على مسألة تتعلق بالدرس الذي كنا أخذناه في الصبح، وهو أن التدليس في مبحث التدليس,أن التدليس ورد عن بعض العلماء عدم رد عنعنة المدلس,إلا إذا تبين من طريق آخر بأن ذلك الحديث دلسه ذلك الراوي,وإلا قبلت عنعنته,ولا فرق بينها وبين عنعنة غير المدلس.
ولعلكم تعجبون من مثل هذا، ولولا أن هناك من أصبح يتبنى هذا القول في هذا الزمن, لرأيت أن هذا القول من الضعف,بحيث لا يستحق أن يشار إليه؛ لأننا بهذه الصورة نعتبر أن جهد هؤلاء المحدثين,وإتعابهم أنفسهم في تتبع الرجال,ومعرفة ما إذا كان الراوي يدلس أولا؟ ونصهم على تدليسه وإفراد بعض المصنفات في ذلك,كمصنف النسائي,أو ابن حبان,أو الكرابيسي أو غيرهم,وهلم جرا من جاء بعد ذلك، بل إفرادهم نوع من أنوع الحديث في المصطلح والكلام عنه بهذه الصورة وإعلال بعض الروايات بعنعنة بعض المدلسين.
كل هذا لا قيمة له,كان ينبغي أن يلقى به في مكان لا يلتفت إليه بناء على هذه الدعوى؛ لأن هذا الكلام الذي يقال: إن عنعنة المدلس مقبولة,إلا إذا تبين من طريق أخرى بأن ذلك المدلس دلس هذا الحديث,هذا الكلام لا يخص به من وصف بالتدليس,هذا يشمل المدلس وغير المدلس، كما سيتضح معنا إن شاء الله من مباحث علم المصطلح التي نأخذها,وبخاصة حينما نتكلم على زيادة الثقة، فلو جاءنا إسنادان:
أحدهما: فيه زيادة راو بين راويين.
والآخر: ليس فيه تلك الزيادة.
فكما سيأتي معنا,إن شاء الله,أنه إذا كان الموضع هذا عبر فيه بصيغة (عن) قبلت الزيادة,واعتبر الإسناد الخالي من الزيادة إما مدلسا وإما مرسلاً إرسالا خفياً,كما سيأتي معنا إن شاء الله، حتى وإن كان ذلك الراوي لا يعرف بالتدليس.
فهذه المسألة ليست مختصة بمدلس ولا بغير مدلس، وأما المدلس فله شأن آخر,وهو الكلام في عنعنته؛ لأنه كما قال الشافعي رحمه الله: أبان لنا عورته.
وذلك الصنيع من الأئمة حينما يتقون عنعنة بعض المدلسين,حينما يصنعونه تعمدا,كما أن صاحبي الصحيح حينما تجد الواحد منهم يأتي بالرواية التي بالعنعنة من طريق المدلس,ثم بعد ذلك يأخذها بطريق أخرى,يتضح فيها أنه صرح بالتحديث,ما يصنع هذا إلا عمداً؛ليقول لك: انتبه؛فهذا الذي تخشاه من تدليس هذا قد زالت عنعنته بتلك الطريقة.
فعلى كل حال,هذه المسألة يبدو لي أن من كان نابها في علم الحديث,وألقى روعه لكتب الأئمة ومصنفاتهم وما قالوه,وأصبح عندهم من الملكة الحديثية ما يستطيع أن يوازن بين الأقوال,ويعرف ما لهذا وما عليه، فعلا يرى أنه لا بد من القضاء في هذه المسألة بما ذكرناه، من أن عنعنة المدلس إذا عرف بالتدليس,وبخاصة بالتدليس عن المجروحين، أن عنعنته مردودة,إلا أن يكون من المقلين من التدليس ممن لا يلتفت إلى تدليسه,كما ذكرناه من سفيان بن عيينة,وسفيان الثوري,والزهري,ممن جعلوا في الطبقة الثانية,وهم كلا مدلس,أو يكون في أحوال نادرة,كأن يكون الراوي عنه ممن لا يأخذ عنه إلا ما صرح فيه بالتحديث,كما ذكرناه عن شعبة، وهلم جرا على ما كنا فصلناه سابقاً.
أما بالنسبة لمبحث الحديث الشاذ,فنقدم بين يديه بتذكير بأحوال الرواة، فالرواة أيها الإخوة لا بد من أن يتوفر في الراوي منهم الذي نريد قبول حديثه,لا بد أن يتوفر فيه صفتا العدالة والضبط، وهذه مسألة سبق أن ذكرتها,وأكرر عليها لأهميتها في هذا المبحث، العدالة والضبط,فالعدالة أمر أساس في قبول رواية الراوي، أما مسألة الضبط فمسألة اعتبارية,فالرواة يختلفون في ضبطهم وحفظهم وإتقانهم؛فمنهم من هو في الضبط كالجبال الرواسي,كشعبة والثوري وعبد الله بن المبارك,وعلى هذا النحو، ومنهم من هو دونهم كمثل: سهيل بن أبي صالح,والعلاء بن عبد الرحمن,وهذا الضرب من الناس أيضاً، ومنهم من هو دون ذلك أيضاً كعمرو بن شعيب,وهذا النحو من الرواة,إذا عرفنا أنهم يختلفون في ضبطهم وحفظهم وإتقانهم نستطيع أن نتصور ما سيأتي من خلاف.
فمن الرواة من بلغ الدرجة العليا,ومنهم من هو دونه,ومنهم من هو دون ذلك، ومنهم من هو دون ذلك أيضاً، لكن الكل يتصفون بصفة العدالة، وتبقى مسألة الحفظ مسألة اعتبارية.
استهل ابن كثير رحمه الله هذا المبحث بقول الشافعي وتعريفه للحديث الشاذ: ليس الشاذ ما يرويه الثقة,أو ما يتفرد به الثقة,أو ما يروي الثقة ما لم يروه غيره، ولكن الشاذ ما يرويه الثقة مخالفاً من هو أوثق منه، فقيد الشافعي رحمه الله الشذوذ بالمخالفة.
لذلك نستطيع أن نعرف الشاذ بتعريفين,ثم بعد ذلك نبين ما فيهما وما عليهما:
التعريف الأول: هو ما يتفرد به الثقة. هذا تعريف.
التعريف الثاني: ما يرويه الثقة مخالفا من هو أوثق منه.
ويعبر الحافظ ابن حجر رحمه الله بتعبير أدق؛ليشمل جميع هؤلاء الذين وصفت,ممن يختلفون في حفظهم وضبطهم وإتقانهم,فيقول: يقال:.. أو من الأولى أن يقال: ما يرويه المقبول مخالفاً من هو أولى منه، ما يرويه المقبول مخالفاً من هو أولى منه؛ليدخل فيه الثقة الضابط والصدوق الذي دون ذلك.
فهذا التعريف الثاني عرفنا أنه قيد الشذوذ بالمخالفة,ونجد العلماء أحياناً يطلقون على الشذوذ النكارة,وعلى النكارة الشذوذ,بمعنى: لو كان المخالف ضعيفاً فإنهم أحياناً يطلقون عليه وصف الشذوذ,ولو كان المتفرد ثقة أو المخالف ثقة كلاهما,فيطلقون عليه أحياناً وصف النكارة، بمعنى: أن هناك تداخلاً بين مبحث الحديث الشاذ ومبحث الحديث المنكر، فهذا وجد في إطلاقات الأئمة السابقين, ولكننا نتكلم الآن لنحدد كل نوع بحد, بحيث لا يشتبه بما سواه, كما ذكرنا ذلك سابقا في مبحث المنقطع وغيره.
لذلك ينبغي أن يلتزم بهذا التعريف في حال تطبيقه وذكره, وما وجد من كلام لأئمة سابقين قبل أن يستقر الاصطلاح, نعرف أن المسألة ليست ذات بال كبير, ولكن نريد من الأجيال اللاحقة أن تنضبط بهذه التعاريف؛ حتى تحد علوم الحديث بحدود لا يحصل بينها شيء من التداخل.
هناك من عرف الحديث الشاذ من علماء الحديث بتعريف قد تستغربونه, وهما : أبو يعلى الخليلي, وأبو عبد الله الحاكم النيسابوري صاحب (المستدرك), الخليلي هو صاحب كتاب (الإرشاد) المطبوع والمعروف, والحاكم هو صاحب كتاب (المستدرك)؛ فإنهما عرفا الحديث الشاذ أو قيداه بما يتفرد به الثقة, فكأنهم بهذا لا يقبلون الحديث الذي يجيء من طريق الفرد, أي: يردون غرائب الأحاديث, فكل حديث لا يرد إلا من طريق واحد بناء على هذا القول, فكأنه مردود, فهل يا ترى يريد أبو يعلى الخليلي والحاكم هذا المراد أو لا ؟
الجواب: لا؛ فإنهما يصححان أحاديث ما جاءت إلا من طريق واحدة, ولكنهما أرادا معنى آخر, فالعبارة يبدو أنها حصل فيها شيء من الضبط, أو لم تنقل بتمامها.
ولعلكم ترجعون إلى نقل الشيخ ربيع في تعليقه على كتاب النكت لابن الصلاح؛ فإنه علق على هذا الموضع بنقل أنا نسيته؛ لطول عهدي به, ولم يسعفني الوقت للرجوع إليه, لكنني متذكر تماما أنه نقل عن أبي يعلى الخليلي تفريقه بين الثقات, فجعل منهم من يعتبر ما يتفرد به من الحديث صحيحا مقبولا, ومنهم من يعتبر ما يتفرد به من الحديث مردودا شاذا, آسف.. متوقفا فيه, وهو الذي يصفه بالشذوذ, ومنهم من يعتبر (مداخلة) أحسنت ممكن تعطني (غير مسموع) لعلي أذكر لكم العبارة حتى يتضح المقصود, ما دام أن أحد الإخوة جزاه الله خيرا جاء بالكتاب:
ذكر الشيخ ربيع, حفظه الله, نقلا عن الخليلي من كتاب (الإرشاد) أنه قال: وأما الأفراد فما تفرد به حافظ مشهور ثقة -لاحظوا العبارة ودققوا فيها - فما تفرد به حافظ مشهور ثقة أو إمام من الحفاظ والأئمة, فهو صحيح متفق عليه, ثم روي بإسناده إلى مالك بن أنس, عن الزهري, عن أنس: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم" يعني: مكة "وعلى رأسه المغفر". ثم قال: وهذا تفرد به مالك عن ابن شهاب.
ثم قال: فهذا وأمثاله من الأسانيد متفق عليها.
ثم قال في الشاذ: ما نقله عنه ابن الصلاح ونقلناه عنه, فقد غاير بينهما في التعريف والحكم, وإن كان ذلك غير دقيق ويقع به في التناقض.
ثم قال بعد ذلك: وقد ظهر لي ما يمكن أن يوجه كلام الخليلي, وهو أنه يقصد بقوله: يشذ به شيخ ثقة, تفرد الصدوق الذي لم يكمل ضبطه, فيكون ما حكاه عن حفاظ الحديث صحيحا؛ فإنهم يسمون ما كان كذلك شاذا ومنكرا, أما إذا تفرد به حافظ مشهور أو إمام من الحفاظ والأئمة؛ فإن الخليلي لا يحكم عليه بالشذوذ, بل هو صحيح في نظره, وحكى الاتفاق عليه, وبناء على هذا التوجيه يَخرج الخليلي من التناقض, وتسقط الإلزامات التي ألزمه بها العلماء.
هذا كلام جيد, ونرى أنه عين الصواب, لكن العبارات التي استخدمت يبدو أنها فهمت على غير ما أرادها من أطلقها, لذلك إذا وضح القول وبين ما فيه, فهمنا المقصود, وخرجنا من هذه المعمعة.
فالخليلي رحمه الله لا يفرق بين الصدوق والثقة الجبل, كلهم يطلق عليهم وصف الثقة, هذا جار في كلام الأئمة, مَن نظر في كتب الرجال وجدهم يقولون: هذا مثل توثيق يحيى بن معين لمحمد بن إسحاق صاحب السيرة, والصواب: أنه صدوق حسن الحديث, لكن من العلماء كما ذكرت لكم سابقا عن الإمام أحمد أنه يعتبر ما يتفرد به محمد بن إسحاق منكرا, لا يقبل مفاريده.
فالمسألة إذًا ينبغي أن تؤخذ بهذه الصورة, فمن الثقات من هو جبل في الحفظ لا يتردد إطلاقا في قبول ما يتفرد به, فما يتفرد به كما يقول الخليلي متفق عليه صحيح لا شك فيه, ومن الثقات من توفرت فيهم صفة العدالة, ولكن صفة الضبط تجعل ما يتفرد به هذا الرجل إما شاذا على قول بعض العلماء, وإما منكرا على قول بعضهم, وهو الذي يقولون عنه: يعد ما يتفرد به تفردا منكرا, وهذا يطلقونه على بعض من وصف بأنه صدوق.
وهذا كله قبل أن تستقر هذه الاصطلاحات التي قعدت بعد مجيء ابن الصلاح, أما بعد مجيء ابن الصلاح فحددت مراتب الجرح والتعديل, وكما سيأتي إن شاء الله معنا, أن مراتب التعديل قسمت إلى ست مراتب بعد مجيء الحافظ ابن حجر, وقبله الذهبي والعراقي زادا مرتبة على مرتبة ابن أبي حاتم, فعندهم مراتب التعديل خمس مراتب, وهلم جرا, من هذه المراتب مرتبة عند ابن حجر وهي المرتبة الرابعة, جعل فيها من حديثهم يعتبر حديثا حسنا لذاته, وهم من قيل فيه: صدوق أو مأمون أو خيار, أو لا بأس به, ونحو هذه العبارات كلها تدل على أن صاحب هذه المرتبة ممن حديثه حديث حسن لذاته, وما قبلها من المراتب حديثهم حديث صحيح لذاته.
لكن كلامنا الآن على ما نجده من إطلاقات لبعض الأئمة, قبل أن يستقر الاصطلاح, فهذه الإطلاقات ينبغي أن يكون عندنا مرونة وفهم واسع لمراد الأئمة من هذه الإطلاقات, فإذا فهمناها على هذا النحو خرجنا من الشعور بأن هناك تناقضا بين أقوال الأئمة, أو بين قول الإمام الواحد نفسه وأقواله الأخرى وهلم جرا.
كذلك أيضا يتنزل على هذا الكلام كلام أبي عبد الله الحاكم, كما قلناه عن الخليل نقوله عن أبي عبد الله الحاكم, فنخلص من هذه القضية, ونعتبر أن الشاذ في الحقيقة الاصطلاحية ينبغي أن يؤخذ بتعبير الشافعي له, وهو ما يرويه الثقة مخالفا من هو أوثق منه, أو لو وسعنا الدائرة أخذنا بتعريف الحافظ ابن حجر: ما يرويه المقبول مخالفا من هو أولى منه؛ ليدخل فيه من حديثه حديث حسن على انفراده, هذا هو التعريف الراجح.
لكن ليس معنى هذا أننا نقول: إنهم لم يكونوا يطلقون الشذوذ على مطلق التفرد, بل يطلقونه على مطلق التفرد, ولكن هذا إما لكونهم خلطوا بين الشاذ والمنكر, فلم يتميز الاصطلاح حينذاك, أو أنهم أرادوا الرجل الذي يمكن أن يعبر عنه بأنه صدوق, لكن ليس حديثه من الحديث المحتج به, وإنما يعتبر ما يتفرد به شاذا, فهذا وصف خاص لبعض من يمكن أن يتوسع في إطلاق وصف الثقة عليه. والله أعلم.
بعد هذا نفهم ما يقوله ابن الصلاح: ويشكل على هذا حديث: ((إنما الأعمال بالنيات)). لأن حديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) من الأحاديث التي اتفق على صحتها, ولا نعرف أحدا طعن في هذا الحديث.
وذكرت لكم سابقا, أن مدار الحديث على يحيى بن سعيد الأنصاري, وأنه روي عنه من طرق كثيرة جدا, قال بعض العلماء: إنها بلغت ستمائة أو أكثر, ولكن قلت لكم: إن ابن منده ألف في ذلك جزءا وحصر الروايات, فبلغت مائتي رواية أو مائتي طريق عن يحيى بن سعيد الأنصاري, رحمه الله.
والذهبي سرد هذا الطريق سردا في (سير أعلام النبلاء), أظنه في ترجمة يحيى بن سعيد الأنصارى.
أما ما يشير إليه ابن كثير ههنا, حينما قال وذكر له ابن منده متابعات وغرائب, فالمقصود المتابعات التي وقعت ليحيى بن سعيد الأنصاري, أو لمحمد بن إبراهيم التيمي, أو لعلقمة بن وقاص, أو لعمر بن الخطاب رضي الله عنه, نعم جاء الحديث من طريق أبي سعيد, وأظنه أيضا من طريق أبي هريرة, لكن تلك الطرق تكاد تقرب من الموضوع, أو على الأقل ضعيفة جدا, منكرة, لا يلتفت إليها, فلا يصح الحديث ولا يثبت إلا من طريق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
ولذلك ما اعتبروا تلك الطرق رافعة للحديث عن وصف الغرابة والتفرد المطلق, وإنما هو باق على تلك الحال؛ لأنها طرق لا يلتفت إليها, مثل حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته. فهذا الحديث كما ترون تفرد به عبد الله بن دينار, والحديث مخرج في الصحيحين, فهو صحيح بلا مرية, ولا ريب إن شاء الله, ويعتبر هذا أيضا من غرائب الصحيح.
وكذلك حديث: أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل مكة وعلى رأسه المغفر. هذا الحديث يرويه الزهري, عن أنس بن مالك, ولا يرويه عن الزهري من الثقات إلا الإمام.. رواه الزهري, عن أنس بن مالك, ولا يرويه من الثقات عن الزهري إلا الإمام مالك رحمه الله تعالى.
وفي هذه نكتة عجيبة, حكاها الحافظ ابن حجر في كتاب (النكت)؛ وذلك أن ابن العربي رحمه الله, ذكر في أحد مجالسه, بأن الإمام مالك لم يتفرد بهذا الحديث, بل توبع من ثلاثة عشر طريقا, وكان هذا الحديث يذكر في كتب الأئمة على أنه تفرد به الإمام مالك, فحينما ذكر أنه توبع من ثلاثة عشر طريقا, استغرب الناس الذين في ذلك العصر مثل هذا الكلام؛ فالبون شاسع بين أن يطلق عليه لفظ التفرد, وبين أن يتابع من ثلاثة عشر طريقا, على الأقل لو قال: توبع من واحد من اثنين, لقيل: يمكن أن يكون أولئك العلماء عزبت عنهم هذه الطرق, لكن ثلاثة عشر طريقا بهذه الكثرة.
فلذلك طالبوه بإخراجه, فماطلهم, يبدو أنه رحمه الله قصد ذلك إما أراد أن يدفعهم إلى البحث والنظر, أو لغير ذلك, فبدأ بعض أقرانه -والحسد أحيانا يفعل أفاعيله في النفوس- بدأ بعض الأقران يتكلم فيه لهذا الغرض في ابن العربي, فجاء الحافظ ابن حجر بعد ذلك وقال: ما ينبغي لإمام من أئمة المسلمين أن يتكلم فيه بمثل هذا الكلام دونما تثبت.
قال: وقد تتبعت فوجدت فعلا أنه روي من ثلاثة عشر طريقا, بل قال: وجدته من خمسة عشر طريقا, فمع طريق الإمام مالك تكون ستة عشر طريقا, وخرجها كلها الحافظ ابن حجر, ثم بعد ذلك أخذ ينبه على قول الأئمة: تفرد به مالك, فقال: قولهم صحيح؛ لأن هذه الخمسة عشر طريقا كلها ضعيفة, لا تصح ولا تثبت جميع هذه المتابعات, ولا يكون هذا الحديث صحيحا إلا من طريق الإمام مالك, فلن يروه ثقة عن الزهري, أولم يصح عن الزهري إلا من طريق الإمام مالك, فيصح بهذا قول من قال كذا وقول من قال كذا.
أما قول الإمام مسلم رحمه الله: للزهري تسعون حرفا لا يرويها إلا غيره. وفي مقدمة صحيحه: للزهري تسعون حرفا بأسانيد جياد, لا يرويها غيره. فمقصود مسلم رحمه الله من هذا: أن الزهري تفرد بأحاديث كثيرة, لا يرويها غيره من الأحاديث, فهل بلغت هذه الأحاديث عدد التسعين, أو أراد مسلم بالتسعين التكثير على لغة العرب, كما قال الله جل وعلا: {إن تستغفر لهم سبعين مرة} فليس المقصود أنه لو استغفر إحدى وسبعين مرة أنه سيغفر لهم، ولكن المقصود التكثير على لغة العرب, فهل أراد مسلم هذا أو أراد الحصر في عدد التسعين؟
الله أعلم بذلك، لكن على كل حال المقصود أنه الزهري رحمه الله تفرد بأحاديث لا يرويها غيره, ولا يستغرب هذا على مثل الزهري؛ فإنه إمام مكثر, وحق له أن يكثر؛ لأنه هو الذي نهض بتلك المهمة الصعبة, وهي مهمة تدوين السنة بأمر من عمر بن عبد العزيز رحمه الله له.
فلما جمع تلك الأحاديث, وتصدى لتدوين السنة, حصل له ما حصل من هذا العلم الجم. فجعل الله ذلك في ميزان حسناته, ورحمه وغفر له؛ فإنه هو وأبو هريرة رضي الله تعالى عنه قد حفظا سنة النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ الله جل وعلا لها.
أما قول ابن كثير بعد ذلك: فإن هذا لو رد لردت أحاديث كثيرة من هذا النمط, وتعطلت كثير من المسائل عن الدلائل. فهذا كلام صحيح؛ لأن الأحاديث المفاريد كثيرة, فلو وردت تلك الأحاديث لترتب عليه إهدار جزء كبير من سنة النبي صلى الله عليه وسلم, استنبط العلماء منها أحكام ودارت عليها سنن, واستفاد منها المسلمون في حياتهم العملية، فكل هذا لو رد لانبنت عليه مفاسد، بل إن رد هذا مربوط بأصل القضية، وهو رد أحاديث الآحاد, وهذا مسلك غير صحيح مخالف لمسلك أهل السنة, ولا يسلكه إلا أهل البدع.
وسننبه إن شاء الله على هذا في مبحث الحديث الآحاد, إن شاء الله, فله علاقة وصلة وثيقة بهذا المبحث, فننتظر إن شاء الله باقي الكلام في ذلك الموضع.
وأما تأويله بعد هذا بقوله: وأما إن كان المنفرد به غير حافظ, وهو مع ذلك عدل ضابط, فحديثه حسن، فإن انتقد ذلك فمردود. هذا كله بناء على التقسيم الذي ذكرته في أقسام الرواة: منهم من بلغ من الحفظ والإتقان الدرجة العليا, ومنهم من هو دون ذلك, ومنهم من هو دون ذلك وهلم جرا, نعم.