القِسْمُ الثالِثُ: الإِجَازَةُ
والرِّوَايَةُ بها جائزةٌ عندَ الجُمْهُورِ، وادَّعَى القَاضِي أَبو الوَلِيدِ البَاجِيُّ الإجماعَ على ذلك، ونَقَضَهُ ابنُ الصَّلاحِ بِمَا رَوَاهُ الرَّبِيعُ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أنه مَنَعَ مِن الرِّوَايَةِ بها، وبذلك قَطَعَ المَاوَرْدِيُّ، وعَزَاهُ إلى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.
وكذلك قَطَعَ بالمَنْعِ القَاضِي حُسَيْنُ بنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَرُّوذِيُّ، صاحِبُ التَّعْليقةِ، وقالَا جميعًا: لو جَازَتِ الرِّوَايَةُ بالإجازةِ لَبَطلَتِ الرِّحْلَةُ، وكذا رُوِيَ عن شُعْبَةَ بنِ الحَجَّاجِ وغيرِهِ مِن أَئِمَّةِ الحديثِ وحُفَّاظِهِ، ومِمَّنْ أَبْطَلَهَا إِبراهِيمُ الحَرْبِيُّ، وأَبُو الشَّيْخِ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ الأَصْفَهانِيُّ، وأَبُو نَصْرٍ الوَايِلِيُّ السِّجْزِيُّ، وحَكَى ذلك عن جَماعَةٍ مِمَّنْ لَقِيَهُمْ.
ثم هي أقسامٌ:
- إجازةٌ مِنْ مُعيَّنٍ لِمُعيَّنٍ في مُعيَّنٍ، بأنْ يَقُولَ: "أَجَزْتُكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّيهذا الكتابَ" أو "هذه الكُتُبَ"، وهي المُنَاوَلَةُ، وهي جائزةٌ عند الجماهيرِ حتَّى الظاهِرِيَّةِ، لَكِنْخَالَفُوا في العَمَلِ بها؛ لأنها في مَعْنَى المُرْسَلِ عِندَهُم، إذ لم يَتَّصِلِ السَّمَاعُ.
2- إجازةٌ لِمُعَيَّنٍ في غيرِ مُعيَّنٍ، مثلُ أنْ يَقُولَ: "أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّيمَا أَرْوِيهِ"، أو "ما صَحَّ عِنْدَكَ مِنْ مَسْمُوعَاتِي ومُصنَّفَاتِي"، وهذا مما يُجَوِّزُهُ الجُمْهُورُ أَيْضًا، رِوايةًوَعَملًا.
3- الإجازةُ لِغَيرِ مُعيَّنٍ مِثلُ أَنْ يَقُولَ: "أَجَزْتُ لِلمُسلِمينَ" أو "للمَوجُودِينَ" أو "لِمَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إلا اللهُ"، وتُسمَّى الإجازةَ العَامَّةَ، وقدِ اعتبَرَهَا طائِفَةٌ مِنَ الحُفَّاظِوالعُلَماءِ، ومِمَّنْ جَوَّزَهَا الخَطِيبُ البَغْدَادِيُّ، ونَقَلَها عَنْ شَيْخِه القَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ،ونَقَلَها أَبُو بَكْرٍ الحَازِمِِيُّ عَن شَيْخِه أَبِي العَلاءِ الهَمْدَانِيِّ الحَافِظِ، وغيرِهِم مِنْ مُحَدِّثِيالمَغَارِبَةِ -رَحِمَهُمُ اللهُ.
4- الإجازةُ للمَجْهُولِ بالمجهولِ ففَاسِدَةٌ، ولَيْسَ منها ما يَقَعُ مِن الاستدعاءِلجَماهِيرَ مُسَمَّيْنَ لا يَعْرِفُهُمُ المُجِيزُ، ولا يَتَصفَّحُ أَنْسابَهُم، ولا عِدَّتَهُمْ، فإنَّ هذا سائغٌشَائِعٌ. كما لا يَسْتَحْضِرُ المُسْمِعُ أَنْسَابَ مَن يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ ولا عِدَّتَهُمْ. واللهُ أَعْلَمُ.
ولو قالَ: "أَجَزْتُ رِوايَةَ هذا الكتابِ لِمَنْ أَحَبَّ رِوَايَتَهُ عَنِّي"، فَقَدْ كَتَبَهُ أَبُو الفَتْحِ مُحَمَّدُ بنُ حُسَيْنٍ الأَزْدِيُّ، وسَوَّغَهُ غَيْرُهُ، وقَوَّاهُ ابنُ الصَّلاحِ.
وكَذَلِكَ لَو قالَ: "أَجَزْتُكَ ولِوَلَدِكَ ونَسْلِكَ وعَقِبِكَ رِوَايَةَ هَذا الكتابِ" أو "ما يَجْوزُ لي رِوَايَتُهُ"، فقد جَوَّزَها جَمَاعَةٌ، مِنْهُم أَبُو بَكْرِ بنُ أَبِي دَاوُدَ، قالَ لِرَجُلٍ: "أَجَزْتُ لَكَ ولأَوْلادِكَ ولِحَبَلِ الحَبَلَةِ".
وأما لو قالَ: "أَجَزْتُ لِمَنْ يُوجَدُ مِن بَنِي فُلانٍ"، فقَدْ حَكَى الخَطِيبُ جَوَازَهَا عنِ القَاضِي أَبِي يَعْلَى بنِ الفَرَّاءِ الحَنْبَلِيِّ، وأَبِي الفَضْلِ بنِ عَمْرُوسٍ المَالِكِيِّ، وحَكَاهُ ابنُ الصَّبَّاغِ عنْ طَائِفَةٍ، ثم ضَعَّفَ ذلك وقال: هذا يُبْنَى على أن الإجازَةَ إِذْنٌ أو مُحَادَثَةٌ. وكذلك ضَعَّفَها ابنُ الصَّلاحِ، وأَوْرَدَ الإجازةَ للطِّفْلِ الصَّغيرِ الذي لا يُخاطَبُ مِثلُه، وذَكَرَ الخَطِيبُ أنَّهُ قالَ للقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ: إنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا قالَ: لا تَصِحُّ الإجازةُ إلا لِمَنْ يَصِحُّ سَمَاعُهُ، فقالَ: قَدْ يُجِيزُ الغَائِبُ عَنْهُ ولا يَصِحُّ سَمَاعُهُ مِنْهُ.
ثم رَجَّحَ الخَطِيبُ صِحَّةَ الإجازةِ للصَّغِيرِ، قالَ: وهو الذي رَأَيْنَا كَافَّةَ شُيوخِنَا يَفْعَلُونَهُ، يُجِيزُونَ للأَطْفَالِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْ أَعْمَارِهِمْ، ولم نَرَهُمْ أَجَازُوا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا في الحالِ. واللهُ أَعْلَمُ.
ولو قالَ: "أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ مَا صَحَّ عِنْدَكَ مِمَّا سَمِعْتُهُ ومَا سَأَسْمَعُهُ"، فالأولُ جَيِّدٌ والثاني فَاسِدٌ، فقَد حَاوَلَ ابنُ الصَّلاحِ تَخْرِيجَهُ على أنَّ الإجازةَ إِذْنٌ كالوَكَالَةِ، وفيما لو قالَ: "وَكَّلْتُكَ في بَيْعِ مَا سَأَمْلِكُهُ" خِلافٌ.
وأما الإجازةُ بِمَا يَرْوِيهِ إِجازةً، فالذي عليه الجمهورُ الرِّوَايَةُ بالإجازةِ على الإجازةِ وإن تَعَدَّدَتْ، ومِمَّنْ نَصَّ علَى ذَلِكَ الدَّارَقُطْنِيُّ وشيخُه أبو العبَّاسِ بنُ عُقْدَةَ، والحافظُ أبو نُعَيْمٍ الأَصْفَهانِيُّ، والخَطِيبُ، وغَيْرُ وَاحِدٍ مِن العُلَمَاءِ.
قالَ ابنُ الصلاحِ: وَمَنَعَ مِن ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ المُتَأَخِّرِينَ، والصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ العَمَلُ جَوَازُهُ، وشَبَّهُوا ذَلِكَ بتَوْكِيلِ الوَكِيلِ.