دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > ثلاثة الأصول وأدلتها

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 28 شوال 1429هـ/28-10-2008م, 07:46 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي الأصل الثالث: معرفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

الأَصْلُ الثَّالِثُ
مَعْرِفَةُ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍصلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.
وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ بنِ هَاشِمٍ، وَهَاشمٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقُرَيْشٌمِنَ العَرَبِ، وَالعَرَبُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الخَلِيلِ،عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ.
وَلَهُ مِنَ العُمْرِ ثَلاَثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، مِنْهَا أَرْبَعُونَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَثَلاَثٌ وَعِشْرُونَ نَبِياًّ رَسُولاً.
نُبِّئَ بِإقْرَا، وَأُرْسِلَ بِالمُدَّثِّرِ، وَبَلَدُهُ مَكَّةُ.
بَعَثَهُ اللهُ بِالنِّذَارَةِ عَنِ الشِّرْكِ، وَيَدْعُو إِلى التَّوْحِيدِ.
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}.
وَمَعْنَى: {قمْ فَأَنْذِرْ} يُنْذِرُ عَنِ الشِّرْكِ، وَيَدْعُو إِلى التَّوْحِيدِ.
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أَيْ: عَظِّمْهُ بِالتَّوْحِيدِ.
{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أَيْ: طَهِّرْ أَعْمَالَكَ عَنِ الشِّرْكِ.
{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} الرُّجْزُ: الأَصْنَامُ، وَهَجْرُهَا: تَرْكُهَا وَأَهْلِهَا، وَالبَرَاءَةُ مِنْهَا وَأَهْلِهَا، وَعَدَاوَتُها وَأَهْلِهَا، وَفِرَاقُهَا وَأَهْلِهَا.
أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشْرَ سِنِينَ يَدْعُو إِلى التَّوْحِيدِ، وَبَعْدَ العَشْرِ عُرِجَ بِهِ إِلى السَّمَاءِ، وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَصَلَّى في مَكَّةَ ثَلاَثَ سِنِينَ، وَبَعْدَهَا أُمِرَ بِالهِجْرَةِ إِلى المَدِينَةِ.


  #2  
قديم 16 ذو القعدة 1429هـ/14-11-2008م, 07:29 PM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي شرح ثلاثة الأصول لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله ابن باز

(1) هذا هوَ الأصلُ الثالثُ، وهوَ معرفةُ نبيِّنا محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعلى الإنسانِ أنْ يعرفَ نبيَّه الذي أرسلَهُ اللَّهُ إليهِ، وبلَّغَهُ الرسالةَ، وبَيَّنَ لَهُ الشرائعَ التي أمَرهُ اللَّهُ بها، وأوضحَ لَهُ العبادةَ التي خلَقَنا اللَّهُ لها.

(2) هذا النبيُّ هوَ محمدٌ عليهِ الصلاةُ والسلامُ، خاتمُ الأنبياءِ، ورسولُ اللَّهِ لهذهِ الأمةِ منَ الجنِّ والإنسِ، أرسلهُ اللَّهُ للناسِ جميعًا قالَ تعالى: {قُلْ يَأَيُّها النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}.
وقالَ سبحانَهُ:

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذيِرًا} فاسمُهُ محمدٌ، واسمُهُ أحمدُ، واسمُهُ الحاشرُ،والماحي، والمُقَفِّي؛ لأنَّهُ خاتمُ الأنبياءِ، وهوَ نبيُّ التوبةِ، ونبيُّ الرحمةِ، ونبيُّ المَلْحَمةِ.
هذه كلُّها أسماؤُهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ، لكنَّ أشهرَها وأفضلَها وأعظمَها محمدٌ الذي سمَّاهُ بِهِ أهلُهُ، وجاءَ بِهِ القرآنُ، قالَ تعالى: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ}.

وهكذا أحمدُ كما بشَّرَ بِهِ عِيسى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} فهوَ محمدٌ وأبوهُ اسمُهُ عبدُ اللَّهِ، وجدُّهُ اسمُهُ عبدُ المطلبِ، وعبدُ المطلبِ لقبٌ، وإلاَّ فاسمُهُ شَيْبَةُ، وأبو جدِّهِ اسمُهُ هاشمٌ، وهوَ سيدٌ منْ ساداتِ قريشٍ، كما أنَّ عبدَ المطلبِ كذلك، وهاشمٌ منْ قريشٍ، قبيلةٌ عظيمةٌ وهيَ أفضلُ العربِ.
والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منْ خاصَّتِهِم منْ بني هاشمٍ، وهُمْ أفضلُ قريشٍ، واسمُهُ فِهْرُ بنُ مالكٍ، وقيلَ: قريشٌ هوَ النَّضْرُ بنُ كِنانةَ جدُّ فِهْرِ بنِ مالكٍ، وقريشٌ منَ العربِ المُسْتَعْرِبةِ التي اسْتَعْرَبَ لسانُها فَصَارَ لها لسانٌ عربيٌّ واضحٌ، فهيَ أكثرُ عروبةً منْ قَحْطانَ، ولهذا يقالُ لهُمُ: العربُ العاربةُ والعربُ المُسْتَعْرِبةُ، وهُمْ منْ ذريةِ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ الخليلِ.

(3) وهذا النبيُّ العظيمُ وهوَ محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم نُبِّيءَ باقرأْ، فأوَّلُ ما نزلَ عليهِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، وصارَ بها نبيًّا، وقَد أتاهُ جبريلُ وهوَ في الغارِ، غارِ حِرَاءٍ فأقرأَه هذهِ السورةَ.

(4) ثمَّ بعدَ مدةٍ يسيرةٍ جاءَهُ بالمدثِّر فصارَ رسولاً بقولِهِ: {يَأَيُّها المُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ}. {وَالمُدَّثِّرُ} المُلْتَحِفُ؛ لأنَّهُ بعدَ ما جاءَهُ الوحيُ، اشتدَّ عليهِ الأمرُ وقالَ: ((زَمِّلُوني زَمِّلُوني..دَثِّرُوني دَثِّرُوني)) مِنْ شدةِ ما أصابَهُ منَ الخوفِ لـمَّا ضَغطَ عليهِ جَبْرائيلُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ مراتٍ، ثمَّ قالَ: اقْرَأْ تمهيدًا لأعباءِ الرسالَةِ وعظمتِها، ثُمَّ قالَ اللَّهُ: {قُمْ فَأَنذِرْ} أيْ: قمْ فأنذرِ الناسَ، فصارَ رسولاً بأمرِه بالنذارةِ.
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أيْ: عظِّمْهُ بالتوحيدِ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أيْ: طهِّرْ أعمالَكَ منَ الشركِ؛ لأنَّ تطهيرَ الملابسِ غيرُ مرادةٍ في هذهِ الآيةِ؛ لأنَّ الصلاةَ لَمْ تُفْرَضْ فِي ذلكَ الوقتِ، فالمرادُ هنا الأعمالُ، كما قالَ تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}..فالعملُ يسمَّى لباسًا: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}فالرجزُ: الأصنامُ، وهجرُها تركُها، والبراءةُ منها وأهلِها.

(5) أخَذَ على هذا الأمرِ عشرَ سنينَ، يَدْعُو إلى التوحيدِ ويُحَذِّرُ منَ الشركِ، ويأمرُ بخلعِ عبادةِ ما سوى اللَّهِ سبحانَهُ، وتركِ عبادةِ الأصنامِ والأوثانِ، ويأمرُهُم أنْ يَخُصُّوا اللَّهَ بالعبادةِ في دعائِهم ونذرِهِم وذبائِحِهِم وغيرِ ذلكَ.

(6) ثمَّ بعدَ العشرِ عُرِجَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى السماءِ معَ جَبْرائيلَ، وفُتِحَتْ لَهُ السماواتُ إلى موضعٍ رفيعٍ فوقَ السماءِ السابعةِ، حتىَّ سَمِعَ فيهِ صَرِيفَ الأقلامِ، ثمَّ ناداه اللَّهُ جلَّ وعلا، وكلَّمَهُ وفرضَ عليهِ الصلواتِ الخمسَ، فَرَضَها خمسينَ صلاةً، ثمَّ لمْ يَزَلْ يَطْلُبُهُ التخفيفَ حتىَّ جَعَلَها اللَّهُ خمسًا.

فقالَ اللَّهُ سبحانَهُ:
((هيَ خمسٌ فِي العددِ، وهيَ خمسونَ فِي أمِّ الكتابِ)).
فمنْ حافَظَ على الصلواتِ الخمسِ وأدَّاها، كتبَ اللَّهُ لَهُ أجرَ خمسينَ، فالحسنةُ بعشرِ أمثالِها.
فنزلَ بذلكَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ فاسْتَقَرَّت الصلاةُ خمسَ صلواتٍ في اليومِ والليلةِ؛ الظهرِ والعصرِ والمغربِ والعشاءِ والفجرِ، صلاَّهُا فِي مكةَ ثلاثَ سنينَ قبلَ أنْ يُهَاجِرَ.

(7) ثمَّ هاجرَ إلى المدينةِ بعدَ ما اشتدَّ عليهِ أذَى قريشٍ لَهُ ولأصحابِهِ، فأَذنَ اللَّهُ لَهُ بالهجرةِ منْ مكةَ؛ لأجلِ أذَى وظلمِ قريشٍ، إلى المدينةِ إلى الأنصارِ وقدْ بايعوهُ في موسمِ الحجِّ على أن ينتقلَ إليهِم ويَنْصُرُوهُ رضِيَ اللَّهُ عنهُم وأرضاهُم، فلمَّا تمَّت البيعةُ وأذِنَ اللَّهُ لَهُ بالهجرةِ هاجرَ إليهِم، وكانَ بعضُ أصحابِهِ قدْ هاجرَ قبلَ ذلكَ إلى الحبشةِ ومكَثُوا عندَ النَّجاشي مدةً، ثمَّ هاجَرَ بقيتُهُم إلى المدينةِ، فلمَّا استقرَّ بالمدينةِ جاءَ الّذِينَ فِي الحبشةِ إلى المدينةِ، واستقرَّ الجميعُ فِي المدينةِ، والحمدُ للَّهِ.


  #3  
قديم 16 ذو القعدة 1429هـ/14-11-2008م, 07:30 PM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي شرح ثلاثة الأصول للشيخ: محمد بن صالح العثيمين

(1) أيْ: من الأصولِ الثلاثةِ التي يَجِبُ على الإنسانِ معرفَتُهَا، وهيَ معرفةُ العبدِ رَبَّهُ وَدِينَهُ وَنَبِيَّهُ.
وقدْ سَبَقَ الكلامُ على معرفةِ العبدِ ربَّهُ وَدِينَهُ.
وأمَّا معرفةُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَتَضَمَّنُ خمسةَ أمورٍ:
الأَوَّلُ:معرفتُهُ نَسَبًا؛ فهوَ أَشْرَفُ النَّاسِ نَسَبًا؛ فهوَ هاشِمِيٌّ قُرَشِيٌّ عَرَبِيٌّ، فهوَ مُحَمَّدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ بنِ هاشمٍ، إلى آخرِ ما قَالَهُ الشيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الثاني:مَعْرِفَةُ سِنِّهِ، وَمَكَانِ وِلادَتِهِ، وَمُهَاجَرِهِ.
وقدْ بَيَّنَهَا الشيخُ بقولِهِ: (وَلَهُ من الْعُمُرِ ثلاثٌ وسِتُّونَ سَنَةً، وَبَلَدُهُ مَكَّةُ، وَهَاجَرَ إلى المدينةِ). فقَدْ وُلِدَ بِمَكَّةَ، وَبَقِيَ فيها ثلاثًا وخمسينَ سَنَةً، ثُمَّ هَاجَرَ إلى المدينةِ فَبَقِيَ فيها عَشْرَ سِنِينَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ فيها في ربيعٍ الأَوَّلِ سنةَ إِحْدَى عَشْرَةَ بعدَ الهجرةِ.
الثالثُ:معرفةُ حياتِهِ النبويَّةِ، وهيَ ثلاثٌ وعشرونَ سنةً، فقدْ أُوحِيَ إليهِ ولهُ أربعونَ سنةً، كما قالَ أَحَدُ شُعَرَائِهِ:
وَأَتَتْ عليهِ أربعونَ فَأَشْرَقَتْ = شَمْسُ النبوَّةِ منهُ في رمضان
الرابعُ:بِمَاذَا كانَ نَبِيًّا وَرَسُولاً؟ فقدْ كانَ نَبِيًّا حينَ نَزَلَ عليهِ قولُ اللَّهِ تَعَالَى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.

ثُمَّ كانَ رَسُولاً حينَ نَزَلَ عليهِ قولُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (5) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}.

فَقَامَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْذَرَ وَقَامَ بِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
والفَرْقُ بينَ الرَّسُولِ والنبيِّ كَمَا يقولُ أهلُ العلمِ: أَنَّ النبيَّ هوَ مَنْ أُوحِيَ إليهِ بِشَرْعٍ ولم يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ، والرسولَ مَنْ أَوْحَى اللَّهُ إليهِ بِشَرْعٍ وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ والعملِ بهِ، فَكُلُّ رسولٍ نبيٌّ، وليسَ كلُّ نَبِيٍّ رسولاً.

الخامسُ:بِمَاذَا أُرْسِلَ، ولماذا؟ فقدْ أُرْسِلَ بتوحيدِ اللَّهِ تَعَالَى وشريعتِهِ المُتَضَمِّنَةِ لفعلِ المأمورِ وَتَرْكِ المحظورِ، وَأُرْسِلَ رَحْمَةً للعالمينَ لإخْرَاجِهِم منْ ظُلْمَةِ الشِّرْكِ والكُفْرِ والجَهْلِ إلى نورِ العلمِ والإيمانِ والتوحيدِ، حتَّى يَنَالُوا بذلكَ مَغْفِرَةَ اللَّهِ ورِضْوَانَهُ، وَيَنْجُوا منْ عقابِهِ وسَخَطِهِ.

(2) أيْ: يُنْذِرُهُم عن الشركِ، وَيَدْعُوهُم إلى توحيدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ في رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.

(3) النداءُ لرسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

(4) يَأْمُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يَقُومَ بِجِدٍّ ونشاطٍ، وَيُنْذِرَ النَّاسَ عن الشركِ، وَيُحَذِّرَهُم منهُ، وقدْ فَسَّرَ الشيخُ هذهِ الآياتِ.

(5) أيْ: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَقِيَ عَشْرَ سِنِينَ يَدْعُو إلى توحيدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِفْرَادِهِ بالعبادةِ سبحانَهُ وتَعَالَى.

(6) العُرُوجُ: الصُّعُودُ، ومنهُ قولُهُ تَعَالَى: {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}.
وهُوَ منْ خصائصِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العظيمةِ، التي فَضَّلَهُ اللَّهُ بِها قبلَ أنْ يُهَاجِرَ منْ مكَّةَ، فَبَيْنَمَا هوَ نائمٌ في الحِجْرِ في الكعبةِ أَتَاهُ آتٍ، فَشَقَّ مَا بَيْنَ ثَغْرَةِ نَحْرِهِ إلى أَسْفَلِ بَطْنِهِ، ثُمَّ اسْتَخْرَجَ قَلْبَهُ فَمَلأَهُ حِكْمَةً وَإِيمَانًا؛ تَهْيِئَةً لِمَا سيقومُ بِهِ، ثُمَّ أَتَى بِدَابَّةٍ بيضاءَ دونَ البغلِ وفوقَ الحمارِ يُقَالُ لها: البُرَاقُ، يَضَعُ خَطْوَهُ عندَ مُنْتَهَى طرفِهِ، فَرَكِبَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِصُحْبَتِهِ
جبريلُ الأمينُ، حتَّى وَصَلَ بيتَ المقدسِ، فَنَزَلَ هناكَ وصلَّى بالأنبياءِ إِمَامًا، بِكُلِّ الأنبياءِ والمرسلِينَ يُصَلُّونَ خَلْفَهُ؛ لِيَتَبَيَّنَ بذلكَ فَضْلُ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَفُهُ، وأنَّهُ الإمامُ المتبوعُ.

ثُمَّ عَرَجَ بِهِ جبريلُ إلى السماءِ الدنيا، فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هذا؟ قالَ: جبريلُ، قِيلَ: ومَنْ مَعَكَ؟ قالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وقدْ أُرْسِلَ إليهِ؟ قالَ: نَعَم، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ. فَفُتِحَ لهُ، فَوَجَدَ فيها آدمَ، فقالَ جبريلُ: هذا أَبُوكَ آدَمُ؛ فَسَلِّمْ عليهِ، فَسَلَّمَ عليهِ، فَرَدَّ عليهِ السلامَ وقالَ: مْرَحبًا بِالابْنِ الصالحِ والنَّبِيِّ الصالحِ، وإذا عَلَى يَمِينِ آدمَ أَرْوَاحُ السُّعَدَاءِ، وعلى يَسَارِهِ أَرْوَاحُ الأشقياءِ منْ ذُرِّيَّتِهِ.

فإذا نَظَرَ إلى اليمينِ سُرَّ وَضَحِكَ، وإذا نَظَرَ قِبَلَ شمالِهِ بَكَى، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ جبريلُ إلى السماءِ الثانيَةِ فَاسْتَفْتَحَ... إلخ، فَوَجَدَ فِيها يَحْيَى وعيسَى عَلَيْهِمَا الصلاةُ والسلامُ، وَهُمَا ابْنَا الْخَالَةِ، كلُّ واحدٍ منهما ابنُ خالةِ الآخَرِ، فقالَ جبريلُ: هذانِ يَحْيَى وعيسَى؛ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا. فَسَلَّمَ عليهما، فَرَدَّا السلامَ وقالاَ: مَرْحَبًا بالأخِ الصالحِ والنبيِّ الصالحِ.
ثُمَّ عَرَجَ بِهِ جبريلُ إلى السماءِ الثالثةِ، فَاسْتَفْتَحَ... إلخ، فَوَجَدَ فيها يُوسُفَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: هذا يُوسُفُ؛ فَسَلِّمْ عليهِ، فَسَلَّمَ عليهِ، فَرَدَّ السلامَ وقالَ: مَرْحَبًا بالأخِ الصالحِ والنبيِّ الصالحِ.
ثُمَّ عَرَجَ بِهِ جبريلُ إلى السماءِ الرابعةِ، فَاسْتَفْتَحَ... إلخ، فَوَجَدَ فيها إِدْرِيسَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالَ جبريلُ: هذا إدريسُ؛ فَسَلِّمْ عليهِ، فَسَلَّمَ عليهِ، فَرَدَّ السلامَ وقالَ: مَرْحَبًا بالأخِ الصالحِ والنبيِّ الصالحِ.
ثُمَّ عَرَجَ بِهِ جبريلُ إلى السماءِ الخامسةِ فَاسْتَفْتَحَ... إلخ، فَوَجَدَ فيها هارونَ بنَ عِمْرَانَ، أَخَا مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالَ جبريلُ: هذا هارونُ؛ فَسَلِّمْ عليهِ، فَسَلَّمَ عليهِ، فَرَدَّ عليهِ السلامَ وقالَ: مَرْحَبًا بالأخِ الصالحِ والنبيِّ الصالحِ.
ثُمَّ عَرَجَ بِهِ جبريلُ إلى السماءِ السادسةِ فَاسْتَفْتَحَ... إلخ، فَوَجَدَ فيها مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ جبريلُ: هذا مُوسَى فَسَلِّمْ عليه، فَسَلَّمَ عليهِ، فَرَدَّ عليهِ السلامَ وقالَ: مَرْحَبًا بالأخِ الصالحِ والنبيِّ الصالحِ.
فَلَمَّا تَجَاوَزَهُ بَكَى موسَى، فَقِيلَ لهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قالَ: أَبْكِي لأنَّ غُلاَمًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الجنَّةَ منْ أُمَّتِهِ أكثرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا منْ أُمَّتِي.
فكانَ بُكَاءُ موسَى حُزْنًا على ما فاتَ أُمَّتَهُ من الفضائلِ، لاَ حَسَدًا لأُِمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ عَرَجَ بِهِ جبريلُ إلى السماءِ السابعةِ فَاسْتَفْتَحَ... إلخ، فَوَجَدَ فيها إبراهيمَ خَلِيلَ الرحمنِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ جبريلُ: هذا أَبُوكَ إِبْرَاهِيمُ؛ فَسَلِّمْ عليهِ، فَسَلَّمَ عليهِ، فَرَدَّ السلامَ وقالَ: مَرْحَبًا بالابنِ الصالحِ والنبيِّ الصالحِ.
وَإِنَّمَا طَافَ جبريلُ برسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هؤلاءِ الأنبياءِ تَكْرِيمًا لهُ، وَإِظْهَارًا لشرفِهِ وَفَضْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكانَ إبراهيمُ الخليلُ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إلى البيتِ المعمورِ في السماءِ السابعةِ الَّذِي يَدْخُلُهُ كلَّ يومٍ سَبْعُونَ أَلْفًا من الملائكةِ يَتَعَبَّدُونَ وَيُصَلُّونَ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ ولا يَعُودُونَ في اليومِ الثاني، يَأْتِي غَيْرُهُم من الملائكةِ الذينَ لا يُحْصِيهِم إلاَّ اللَّهُ.
ثُمَّ رُفِعَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، فَغَشِيَهَا منْ أَمْرِ اللَّهِ من الْبَهَاءِ والحُسْنِ مَا غَشِيَهَا، حتَّى لا يَسْتَطِيعَ أحدٌ أنْ يَصِفَهَا منْ حُسْنِهَا.
ثُمَّ فَرَضَ اللَّهُ عليهِ الصلاةَ خَمْسِينَ صلاةً كلَّ يومٍ وليلةٍ، فَرَضِيَ بذلكَ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَزَلَ.
فَلَمَّا مَرَّ بِمُوسَى قالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ على أُمَّتِكَ؟ قالَ: ((خَمْسِينَ صَلاَةً فِي كُلِّ يَوْمٍ))، فقالَ: إنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ ذلكَ، وقدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إسرائيلَ أَشَدَّ المُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُِمَّتِكَ، قالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَرَجَعْتُ، فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا)).
وما زالَ يُرَاجِعُ رَبَّهُ حتَّى اسْتَقَرَّت الفريضةُ على خَمْسٍ، فَنَادَى مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي، وَخَفَّفْتُ على عِبَادِي.

وفي هذهِ الليلةِ أُدْخِلَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجنَّةَ، فإذا فيها قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ، وإذا تُرَابُهَا المِسْكُ، ثُمَّ نَزَلَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتَّى أَتَى مَكَّةَ بِغَلَسٍ، وَصَلَّى فيها الصُّبْحَ.

(7) وكانَ يُصَلِّي الرباعيَّةَ رَكْعَتَيْنِ، حتَّى هَاجَرَ إلى المدينةِ، فَأُقِرَّتْ صلاةُ السفرِ، وَزِيدَ في صلاةِ الحضرِ.

(8) أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالهجرةِ إلى المدينةِ؛ لأنَّ أهلَ مَكَّةَ مَنَعُوهُ أنْ يُقِيمَ دَعْوَتَهُ.
وفي شهرِ ربيعٍ الأَوَّلِ من العامِ الثالثَ عَشَرَ من الْبَعْثَةِ وَصَلَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينةِ مُهَاجِرًا منْ مَكَّةَ البلدِ الأَوَّلِ للوحْيِ، وَأَحَبِّ البلادِ إلى اللَّهِ ورسولِهِ.

خَرَجَ منْ مَكَّةَ مُهَاجِرًا بِإِذْنِ رَبِّهِ بَعْدَ أنْ قامَ بِمَكَّةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُبَلِّغُ رسالةَ رَبِّهِ، وَيَدْعُو إليهِ على بَصِيرَةٍ، فلم يَجِدْ منْ أَكْثَرِ قريشٍ وَأَكَابِرِهِم سِوَى الرفضِ لدعوتِهِ، والإعراضِ عنها، والإيذاءِ الشديدِ للرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومَنْ آمَنَ بِهِ حَتَّى آلَ الأمرُ بهم إلى تَنْفِيذِ خُطَّةِ المَكْرِ والخداعِ لِقَتْلِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ حَيْثُ اجْتَمَعَ كُبَرَاؤُهُم في دارِ النَّدْوَةِ، وَتَشَاوَرُوا ماذا يَفْعَلُونَ برسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَوْا أصحابَهُ يُهَاجِرُونَ إلى المدينةِ، وأنَّهُ لا بُدَّ أنْ يَلْحَقَ بهم، وَيَجِدَ النُّصْرَةَ والعونَ من الأنصارِ الذينَ بَايَعُوهُ على أَنْ يَمْنَعُوهُ مِمَّا يَمْنَعُونَ منهُ أَبْنَاءَهُم وَنِسَاءَهُم، وَحِينَئِذٍ تكونُ لهُ الدَّوْلةُ على قُرَيْشٍ، فقالَ عَدُوُّ اللَّهِ أبو جَهْلٍ: (الرأيُ أنْ نَأْخُذَ منْ كلِّ قبيلةٍ فَتًى شَابًّا جَلْدًا؛ ثُمَّ نُعْطِي كلَّ واحدٍ سَيْفًا صَارِمًا، ثُمَّ يَعْمِدُوا إلى مُحَمَّدٍ فَيَضْرِبُوهُ ضَرْبَةَ رَجُلٍ واحدٍ، فَيَقْتُلُوهُ وَنَسْتَرِيحُ منهُ، فَيَتَفَرَّقُ دَمُهُ في القبائلِ، فلا يَسْتَطِيعُ بَنُو عبدِ مَنَافٍ - يَعْنِي عَشِيرَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنْ يُحَارِبُوا قَوْمَهُم جَمِيعًا، فَيَرْضَوْنَ بالدِّيَةِ، فَنُعْطِيهِم إِيَّاهَا).
فَأَعْلَمَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا أَرَادَ المشركونَ، وَأَذِنَ لهُ بالهجرةِ، وكانَ أبو بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قدْ تَجَهَّزَ مِنْ قَبْلُ للهجرةِ إلى المدينةِ، فَقَالَ لهُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((عَلَى رِسْلِكَ؛ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي))، فَتَأَخَّرَ أبو بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَصْحَبَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَتْ عائشةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: (فَبَيْنَمَا نحنُ في بيتِ أبي بكرٍ في نَحْرِ الظَّهِيرةِ في مُنْتَصَفِ النهارِ، إذا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على البابِ مُقْتَنِعًا، فقالَ أبو بكرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أبي وَأُمِّي، واللَّهِ ما جاءَ بِهِ في هذهِ الساعةِ إلاَّ أَمْرٌ. فَدَخَلَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالَ لأبي بكرٍ: ((أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ)) فقالَ: إِنَّما هُم أَهْلُكَ، بِأَبِي أنتَ وأُمِّي، فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ))، فقالَ أبو بكرٍ: الصُّحْبَةَ يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: ((نَعَمْ))، فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، فَخُذْ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ، فقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بِالثَّمَنِ)).
ثُمَّ خَرَجَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأَبُو بكرٍ فَأَقَامَا في غارِ جَبَلِ ثَوْرٍ ثلاثَ لَيَالٍ، يَبِيتُ عِنْدَهُما عبدُ اللَّهِ بنُ أبي بكرٍ، وكانَ غُلاَمًا شَابًّا ذَكِيًّا وَاعِيًا، فَيَنْطَلِقُ في آخِرِ الليلِ إلى مَكَّةَ، فَيُصْبِحُ في قُرَيْشٍ؛ فلا يَسْمَعُ بِخَبَرٍ حولَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحبِهِ إلاَّ وَعَاهُ، حتَّى يَأْتِيَ بِهِ إليْهِمَا حينَ يَخْتَلِطُ الظلامُ، فَجَعَلَتْ قريشٌ تَطْلُبُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منْ كُلِّ وجهٍ، وَتَسْعَى بكلِّ وسيلةٍ لِيُدْرِكُوا النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتَّى جَعَلُوا لِمَنْ يَأْتِي بِهِمَا أوْ بِأَحَدِهِمَا دِيَتَهُ مِائَةً من الإبلِ.
ولكنَّ اللَّهَ كان مَعَهُمَا يَحْفَظُهُمَا بِعِنَايَتِهِ وَيَرْعَاهُمَا، حتَّى إنَّ قُرَيْشًا لَيَقِفُونَ على بابِ الغارِ فلا يَرَوْنَهُمَا.
قالَ أبو بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (قُلْتُ للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونَحْنُ في الغارِ: لوْ أنَّ أَحَدَهُم نَظَرَ إلى قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا، فقالَ: ((لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا، مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا)) ).
حتَّى إذا سَكَنَ الطَّلَبُ عنْهُمَا قليلاً خَرَجَا من الغارِ بعدَ ثلاثِ ليالٍ، مُتَّجِهَيْنِ إلى المدينةِ على طريقِ الساحلِ.
ولَمَّا سَمِعَ أهلُ المدينةِ من المهاجرينَ والأنصارِ بخروجِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم، كَانُوا يَخْرُجُونَ صباحَ كُلِّ يَوْمٍ إلى الْحَرَّةِ، يَنْتَظِرُونَ قُدُومَ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحبِهِ، حتَّى يَطْرُدَهُم حَرُّ الشمسِ.
فَلَمَّا كانَ اليومُ الَّذِي قَدِمَ فيهِ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتَعَالَى النهارُ وَاشْتَدَّ الحَرُّ رَجَعُوا إلى بُيُوتِهِم، وإذا رَجُلٌ من اليهودِ على أُطُمٍ منْ آطَامِ المدينةِ يَنْظُرُ لحاجةٍ لهُ، فَأَبْصَرَ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابَهُ مُقْبِلِينَ يَزُولُ بهم السَّرَابُ، فلمْ يَمْلُكْ أنْ نَادَى بأعلَى صوتِهِ: يا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، هذا جَدُّكُم - يَعْنِي هذا حَظُّكُم وَعِزُّكُم الَّذِي تَنْتَظِرُونَ.
فَهَبَّ المسلمونَ للقاءِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معهم السلاحُ؛ تَعْظِيمًا وإجلالاً لرسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِيذَانًا باستعدادِهِم للجهادِ والدفاعِ دونَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم، فَتَلَقَّوْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بظاهرِ الحَرَّةِ، فَعَدَلَ بهم ذاتَ اليمينِ، وَنَزَلَ في بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ في قُبَاءَ، وَأَقَامَ فِيهم بِضْعَ لَيَالٍ، وأسَّسَ المسجدَ.
ثُمَّ ارْتَحَلَ إلى المدينةِ والناسُ معَهُ وآخَرُونَ يَتَلَقَّوْنَهُ في الطُّرُقَاتِ.
قالَ أبو بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (خَرَجَ النَّاسُ حينَ قَدِمْنَا المدينةَ في الطُّرُقِ وعلى البُيُوتِ، والغِلْمَانُ والخَدَمُ يقولونَ: اللَّهُ أكبرُ، جَاءَ رسولُ اللَّهِ، اللَّهُ أكبرُ، جَاءَ مُحَمَّدٌ).


  #4  
قديم 16 ذو القعدة 1429هـ/14-11-2008م, 07:32 PM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي حاشية ثلاثة الأصول للشيخ: عبد الرحمن بن محمد ابن قاسم

المتن :

الأَصْلُ الثَّالِثُ

(1): مَعْرِفَةُ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ(2)وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ(3) بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ بنِ هَاشِمٍ(4)، وَهَاشمٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقُرَيْشٌ مِنَ العَرَبِ،(5) وَالعَرَبُ(5) مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الخَلِيلِ، عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ(6).وَلَهُ مِنَ العُمْرِ ثَلاَثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً(7)، مِنْهَا أَرْبَعُونَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ(8)، وَثَلاَثٌ وَعِشْرُونَ نَبِياًّ رَسُولاً(9). نُبِّئَ بِإقْرَأْ(10)، وَأُرْسِلَ بِالمُدَّثِّرِ(11)، وَبَلَدُهُ مَكَّةُ(12)، وَهَاجَرَ إِلى المَدِينَةِ(13).بَعَثَهُ اللهُ بِالنِّذَارَةِ عَنِ الشِّرْكِ، وَيَدْعُو إِلى التَّوْحِيدِ(14). وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ(15)(2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (16)(3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ(17)(4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (18)(5) وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (19)(6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ(20)}.
وَمَعْنَى: {قمْ فَأَنْذِرْ} يُنْذِرُ عَنِ الشِّرْكِ، وَيَدْعُو إِلى التَّوْحِيدِ(21). {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أَيْ: عَظِّمْهُ بِالتَّوْحِيد(22).{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أَيْ: طَهِّرْ أَعْمَالَكَ عَنِ الشِّرْكِ(23).{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} الرُّجْزُ: الأَصْنَامُ(24)، وَهَجْرُهَا: تَرْكُهَا وَأَهْلِهَا(25)، وَالبَرَاءَةُ مِنْهَا وَأَهْلِهَا
(26)، وَعَدَاوَتُها وَأَهْلِهَا، وَفِرَاقُهَا وَأَهْلِهَا.أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشْرَ سِنِينَ يَدْعُو إِلى التَّوْحِيدِ(27)، وَبَعْدَ العَشْرِ عُرِجَ بِهِ إِلى السَّمَاءِ(28)، وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ(29)، وَصَلَّى في مَكَّةَ ثَلاَثَ سِنِينَ(30)، وَبَعْدَهَا أُمِرَ بِالهِجْرَةِ إِلى المَدِينَةِ(31).





الحاشية :

(1) أيْ: مِن أُصُولِ الدِّينِ الثَّلاَثَةِ، التي يَجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ مَعْرِفَتُها.

(2) فَمَعْرِفَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هي: أَحَدُ الأُصُولِ الثَّلاَثَةِ، فَكَمَا أنَّ الأَصْلَ الأَوَّلَ، وهو مَعْرِفَةُ اللَّهِ عَظِيمٌ، ووَاجِبٌ مَعْرِفَتُه.

وكذلك الأَصْلُ الثَّانِي،وهو مَعْرِفَةُ دِينِ الإِسْلاَمِ، الذي خَلَقَنَا اللَّهُ له، وتَعَبَّدَنا بالقِيَامِ به، أَصْلٌ عَظِيمٌ ووَاجِبٌ مَعْرِفَتُه.

فكذلك هذا الأَصْلُ الثَّالِثُ،وهو: مَعْرِفَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أصلٌ عَظِيمٌ يَجِبُ مَعْرِفَتُه، فإنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هو الوَاسِطَةُ بَيْنَنا وبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، ولاَ وُصُولَ لَنَا، ولاَ اطِّلاَعَ لَنَا، ولاَ طَرِيقَ لَنَا، ولاَ نَعْرِفُ مَا يُنْجِينَا، مِن غَضَبِ اللَّهِ وعِقَابِهِ، ويُقَرِّبُنَا مِن رِضَى اللَّهِ وثَوَابِهِ، إلاَّ بِمَا جَاءَ به نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وإذا كانَ كذلك، عَرَفْنَا وَجْهَ كَوْنِ مَعْرِفَتِه، أَحَدَ الأُصُولِ الثَّلاَثَةِ، التي يَجِبُ مَعْرِفَتُها، فإنَّا لاَ نَعْرِفُ الأَصْلَ الأَوَّلَ، الذي هو مَعْرِفَةُ الرَّبِّ جَلَّ جَلاَلُه، ولاَ الأَصْلَ الثَّانِيَ، الذي هو دِينُ الإِسْلاَمِ، إلاَّ بالوَاسِطَةِ بَيْنَنا وبَيْنَ اللَّهِ، فَتَحَتَّمَتْ مَعْرِفَتُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصَارَتْ أَصْلاً ثَالِثًا، إذ لاَ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ المُرْسِلِ، إلاَّ بِمَعْرِفَةِ رَسُولِهِ، فَصَارَ مِن الضَّرُورِيَّاتِ مَعْرِفَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبذلك ظَهَرَ، أنَّ مَعْرِفَتَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَحَدُ الأُصُولِ الثَّلاَثَةِ.

ومَعْرِفَتُه تَنْتَظِمُ أَشْيَاءَ عَدِيدَةً: منها مَعْرِفَةُ اسْمِهِ، ونَسَبِهِ وعُمُرِه، وبَقَائِهِ في الدُّنْيا، ووَفَاتِهِ، ومَعْرِفَةُ ما نُبِّئَ بِهِ ومَا أُرْسِلَ به وبَلَدِه ومُهَاجَرِه ومنها - وهو أعْظَمُها - مَعْرِفَةُ مَا بُعِثَ به، وغيرِ ذلك، مِمَّا ذَكَرَ المُصَنِّفُ، وغيرُه.

(3) كَانَ له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَّةُ أَسْمَاءٍ، أَشْهَرُها مُحَمَّدٌ، ولِهَذا جَاءَ في القُرْآنِ بِهَذا الاسْمِ، عَلَى وجْهِ التَّنْويه:

- كَمَا في قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ}.

-{وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ}.

-{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ}.
فهذا أَشْهَرُ أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومَعْنَاهُ: الذي يُحْمَدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُحْمَدُ غيرُه، وهو عَلَمٌ مُشْتَقٌّ مِن التَّحْمِيدِ، ولِمَا فيه مِن الخِصَالِ الحَمِيدَةِ، ولَقَبُه: أَبو القَاسِمِ، وأَبُوه عبدُ اللَّهِ، وهو الذَّبِيحُ الثَّانِي، المَفْدِيُّ بِمِائَةٍ مِن الإِبِلِ.

(4) عبدُ المُطَّلِبِ، اسْمُه: شَيْبَةُ، ويُقَالُ له: شَيْبَةُ الحَمْدِ، لِجُودِهِ، وجِمَاعُ أَمْرِ قُرَيْشٍ إليه.

وإنَّمَا سُمِّيَ بعَبْدِ المُطَّلِبِ؛ لأَِنَّ عَمَّه المُطَّلِبَ قَدِمَ بِهِ مَكَّةَ، وهو رَدِيفُه، وقَدْ تَغَيَّرَ لَوْنُه بالسَّفَرِ، فحَسِبُوه عَبْدًا لَهُ، فَقَالُوا: هذا عبدُ المُطَّلِبِ، فَعَلِقَ بِهِ هذَا الاسْمُ، وهَاشِمٌ اسْمُه: عَمْرٌو.
وإنَّما سُمِّيَ، هَاشِمًا: لِهَشْمِه الثَّرِيدَ مَعَ اللَّحْمِ لقَوْمِهِ، في سِنِي المَحْلِ.

(5) قُرَيْشٌ هو: النَّضْرُ؛ فإنَّ إليه جِمَاعَ قُرَيْشٍ، ولاَ خِلاَفَ بَيْنَ العُلَمَاءِ أنَّ هَاشِمًا ابنٌ لعَبْدِ مَنَافٍ، واسْمُه: المُغِيرَةُ بنُ قُصَيِّ بنِ كِلاَبِ، بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيِّ، بنِ غَالِبِ، بنِ فِهْرِ، بنِ مَالِكِ، بنِ النَّضْرِ، بنِ كِنَانَةَ، بنِ خُزَيْمَةَ، بنِ مُدْرِكَةَ، بنِ إِلْياسَ، بنِ مُضَرَ، بنِ نِزَارِ، بنِ مَعَدِّ، بنِ عَدْنَانَ، وما فَوْقَه فيه خِلاَفٌ.

والعَرَبُ هنا، المُرَادُ بِهِم: المُسْتَعْرِبَةُ، فإِنَّ العَرَبَ قِسْمَانِ، عَارِبَةٌ ومُسْتَعْرِبَةٌ، والعَارِبَةُ قَحْطَانُ، والمُسْتَعْرِبَةُ عَدْنَانُ، وهم: أَفْضَلُ مِن العَرَبِ العَارِبَةِ، كيفَ ومِنْهُم النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو القَائِلُ:
((إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى بَنِي إِسْمَاعِيلَ مِن العَرَبِ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، فَأَنَا خِيَارٌ مِنْ خِيَارٍ)).

وقَالَ أَبُو سُفْيانَ لِهِرَقْلَ، لَمَّا سَأَلَه (كيفَ هو فيكم؟) قالَ: (هو فينا ذُو نَسَبٍ).
قَالَ: (وهَكَذا الرُّسُلُ، تُبْعَثُ في أَنْسَابِ قَوْمِهَا) يَعْنِي: في أَكْرَمِهَا أَحْسَابًا.

(6) وهذا لاَ خِلاَفَ فيه، ولاَ خِلاَفَ أنَّ الخَلِيلَ: مِن ذُرِّيَّةِ سَامِ بنِ نُوحٍ؛ وذَكَرَ جُمْهُورُ المُؤَرِّخِينَ: أَنَّ الخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، بنُ تارِخَ، بنِ نَاحُورَ، بنِ سَارُوغَ، بنِ راعو، بنِ فالِعَ، بنِ عَابِرَ، بنِ شَالِحَ، بنِ أَرْفَخْشَذَ، بنِ سامِ، بنِ نوحٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

(7) وُلِدَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ: يَوْمَ الاثْنَيْنِ، ثَانِيَ عَشَرَ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، عَامَ الفِيلِ، وفيه بُعِثَ، وفيه عُرِجَ به إلى السَّمَاءِ، وفيه هَاجَرَ إلى المَدِينَةِ، وفيه تُوفِّيَ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلاَمُه عَلَيْهِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ذَلِكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَأُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ)) وارْتَجَسَ لِمَوْلِدِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيوَانُ كِسْرَى، وخَمَدَتِ النِّيرَانُ، وَخَرَّ كَثِيرٌ مِن الأَصْنَامِ، وظَهَرَ النُّورُ مَعَه، حتَّى أَضَاءَتْ له قُصُورُ الشَّامِ، وهَتَفَتْ بِهِ الجِنُّ، وجَرَى مِن مُعْجِزَاتِ آيَاتِهِ غيرُ ذلك.
وتُوفِّيَ أَبُوه وهو حَمْلٌ، وكَانَ عندَ جَدِّه، ثُمَّ عَمِّه أَبِي طَالِبٍ.
وتَزَوَّجَ خَدِيجَةَ، وله خَمْسٌ وعِشْرُونَ سَنَةً، ومنها أَوْلاَدُه، إلاَّ إِبْرَاهِيمَ فمِن مَارِيَةَ.
وشَهِدَ حِلْفَ المُطَيَّبِينَ، وبناءَ الكَعْبَةِ، وكَانَ يُسَمَّى الأَمينَ، قبلَ مَبْعَثِه صَلاَةُ اللَّهِ وسَلاَمُه عَلَيْهِ.

(8) عندَ جَمَاهِيرِ أَهْلِ العِلْمِ بِسِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والنُّبُوَّةُ: مِن النَّبَأِ؛ وهو الخَبَرُ؛ لأَِنَّهُ يُخْبِرُ عن اللَّهِ، وقيلَ: مِن النَّبْوَةِ، وهو الارْتِفَاعُ، لاِرْتِفَاعِ رُتْبَتِه، وإِنَّما كَانَ كَذَلِكَ؛ لأَِنَّه ارْتَفَعَ عَلَى غيرِه.

(9) والنَّبِيُّ: إِنْسَانٌ ذَكَرٌ، أُوحِيَ إليه بِشَرْعٍ، وإنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِه؛ وإنْ أُمِرَ بِتَبْلِيغِه فرَسُولٌ.
وبينَهُما عُمُومٌ وخُصُوصٌ، فالرِّسَالَةُ أَعَمُّ مِن جِهَةِ نَفْسِهَا، وأَخَصُّ مِن جِهَةِ أَصْحَابِهَا؛ والنُّبُوَّةُ أَخَصُّ مِن جِهَةِ نَفْسِهَا وأَعَمُّ مِن جِهَةِ أَصْحَابِهَا.
فالنُّبُوَّةُ جُزْءٌ مِن الرِّسَالَةِ؛ إذ الرِّسَالَةُ تَتَنَاوَلُ النُّبُوَّةَ وغيرَها، وكلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ، وليس كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولاً.

(10) أيْ: أُنْزِلَ عَلَيْهِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، بِلاَ خِلاَفٍ، والمَشْهُورُ: أَنَّه أُنْزِلَ عَلَيْهِ في رَمَضَانَ بغارِ حِرَاءٍ صَدْرُ سُورَةِ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} ففيها: التَّنْبِيهُ عَلَى ابْتِدَاءِ خَلْقِ الإنْسَانِ مِن عَلَقَةٍ، وخَصَّ الإنْسَانَ، لِمَا أَوْدَعَهُ مِن عَجَائِبِ آياتِهِ، ومِن كَرَمِ اللَّهِ: أَنْ عَلَّمَه مَا لَمْ يَعْلَمْ، فَشَرَّفَهُ بالعِلْمِ.
والعِلْمُ تارَةً يكونُ في الأذهانِ، وتَارَةً في اللِّسَانِ، وتَارَةً في الكِتَابَةِ بالبَنَانِ، ولِهَذا قَالَ: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} ورَجَعَ بِهَا يَرْجُفُ فُؤَادُه، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: (واللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ، وأَخْبَرَتْ وَرَقَةَ بنَ نَوْفَلٍ، فَقَالَ: هذا النَّامُوسُ الأَكْبَرُ، الذي كانَ يَأْتِي مُوسَى).

(11) أيْ: بصَدْرِ سُورَةِ {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ} الآياتِ، بعدَ فَتْرَةِ الوَحْيِ، ولَمَّا جَاءَ المَلَكُ فَرَقَ منه، فَقَالَ: ((دَثِّرُونِي)) فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ} ثُمَّ حَمِيَ الوَحْيُ وتَتَابَعَ، وكَانَ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، بعدَ فَتْرَةِ الوَحْيِ، وحينَئذٍ: شَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن سَاقِ العَزْمِ، ودَعَا إِلَى اللَّهِ.

(12) وُلِدَ بِهَا فِي شِعْبِ عَلِيٍّ، ونَشَأَ بِهَا إلاَّ مَا كَانَ منه، وهو مَعَ مُرْضِعَتِه السَّعْدِيَّةِ، في البَرِّيَّةِ، ثُمَّ رَجَعَ إليها في حَضَانَةِ جَدِّه، ثُمَّ عَمِّهِ، وأُوحِيَ إليه بِهَا، وبَقِيَ بِهَا ثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً، بعدَ أنْ أُوحِيَ إليه.

(13) بعدَ أنْ هَمُّوا بِقَتْلِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتَغَيَّبَ في الغَارِ، ثُمَّ سَارَ هو وأَبُو بَكْرٍ، مُهَاجِرًا إلى المَدِينَةِ، وذلك بعدَ أَنْ بايَعُوه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النُّصْرَةِ والمُؤَازَرَةِ، وأَرَّخَتِ الأُمَّةُ مِن مُهَاجَرِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

(14) ذَكَرَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللَّهُ: جُمْلَةً مِمَّا يُعْرَفُ به النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأَعْظَمُها وأَعْلاَهَا: مَعْرِفَةُ مَا بُعِثَ به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأَنَّه بُعِثَ بالنَّذَارَةِ عن الشِّرْكِ، والدَّعْوَةِ إلى التَّوْحِيدِ.
وقَدَّمَ المُصَنِّفُ: النَّذَارَةَ عن الشِّرْكِ، قَبْلَ الدَّعْوَةِ إلى التَّوْحيدِ؛ لأَِنَّ هذا مَدْلُولُ كَلِمَةِ التَّوْحيدِ (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللَّهُ) ولأَِنَّ الآيةَ الآتيةَ: تَقْتَضِي ذلك، فَبَدَأَ بِجَانِبِ الشِّرْكِ، لكَوْنِ العِبَادَةِ لاَ تَصِحُّ مَعَ وجُودِ المُنَافِي، فلو وُجِدَتْ، والمُنَافِي لَهَا مَوْجُودٌ لَمْ تَصِحَّ، ثُمَّ ثَنَّى بالتَّوْحيدِ؛ لأَِنَّه أَوْجَبُ الواجِبَاتِ، ولاَ يُرْفَعُ عَمَلٌ إلاَّ بِهِ.

(15) هذه أَوَّلُ آيَةٍ أُرْسِلَ بِهَا، وَأَوَّلُ أَمْرٍ طَرَقَ سَمْعَه، في حَالِ إِرْسَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك أنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا رَأَى المَلَكَ، الذي جَاءَه بِحِرَاءٍ، حينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ{اقْرَأْ}رُعِبَ منه، فَأَتَى إلى أَهْلِه، فَقَالَ: ((دَثِّرُونِي)) فَأَنْزَلَ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ} أيْ: المُتَدَثِّرُ بثِيابِهِ، المُتَغَشِّي بِهَا مِن الرُّعْبِ، الذي حَصَلَ له مِن رُؤْيَةِ المَلَكِ، عندَ نُزُولِ الوَحْيِ.
{قُمْ} أي: مِن دِثَارِكَ، فَأَنْذِرْهُم وحَذِّرْهُم مِن عَذَابِ رَبِّكَ، إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، وبِهَذا حَصَلَ الإِرْسَالُ، كَمَا حَصَلَ بالأَوَّلِ النُّبُوَّةُ.

(16) أي: عَظِّمْ رَبَّكَ، عَمَّا يَقُولُه عَبَدَةُ الأَوْثَانِ.

(17) أيْ: نَفْسَكَ طَهِّرْهَا عن الذُّنُوبِ، كَنَّى عَنِ النَّفْسِ بالثَّوْبِ؛ لأَِنَّها تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، وهذا قَوْلُ المُحَقِّقِينَ مِن أَهْلِ التَّفْسِيرِ، أو عَمَلَكَ فَأَصْلِحْ، وفُسِّرَ بغَيْرِ ذلك.

(18) أيْ: اتْرُكِ الأَوْثَانَ، ولاَ تَقْرَبْها. {والرُّجْزَ} القَذَرَ، مثلَ الرِّجْسِ، وقَالَ تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} بل فَسَّرَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللَّهُ هذه الآياتِ، بِمَا فيه كِفَايَةٌ.

(19) أيْ: لاَ تُعْطِ مَالَكَ مُصَانَعَةً، لتُعْطَى أَكْثَرَ منه، أو لاَ تَمْنُنْ عَلَى اللَّهِ بِعَمَلِكَ، فتَسْتَكْثِرَه، أو لاَ يَكْثُرُ مِن عَملِكَ في عَيْنِكَ، أو لاَ تَضْعُفْ أنْ تَسْتَكْثِرَ مِن الخَيْرِ.

(20) أيْ: عَلَى طَاعَتِه وأَوَامِرِه، أو: عَلَى ما أُوذِيتَ في اللَّهِ.

(21) فإنَّ الشِّرْكَ: أَعْظَمُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ به، ولاَ يُرْفَعُ مَعَه عَمَلٌ.
والتَّوْحيدُ: أَوْجَبُ الواجِبَاتِ، وأَوَّلُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، مِن أَوَّلِهِم إلى آخِرِهِم {مَالَكُم مِّنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} فَشَمَّرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن سَاقِ العَزْمِ، وأَنْذَرَ النَّاسَ، وعَمَّ وخَصَّ، وأُوذِيَ عَلَى ذلك، هو ومَن اتَّبَعَه، وجَرَى للمُصَنِّفِ، مُجَدِّدِ هذه الدَّعْوَةِ، رَحِمَه اللَّهُ نحوٌ مِمَّا جَرَى عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو وأَصْحَابِه، وصَبَرُوا، وكَانَتْ لَهُم العَاقِبَةُ، وأَظْهَرَ اللَّهُ الدِّينَ بعدَ دُرُوسِهِ، عَلَى يَدَيْهِ وأَتْبَاعِهِ، فلِلَّهِ الحَمْدُ والمِنَّةُ، وجَزَاهُ اللَّهُ ومَن آواه ونَصَرَه عَن الإِسْلاَمِ والمُسْلِمِينَ أَحْسَنَ الجَزَاءِ.

(22) فهو سبحانَه: الإِلَهُ الحَقُّ، لاَ نِدَّ لَهُ ولاَ مِثْلَ لَهُ، فَلاَ شَرِيكَ لَهُ في إِلَهِيَّتِه، ولاَ في رُبُوبِيَّتِه، بل هو المُسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وحْدَه، لاَ يُشْرَكُ مَعَه أَحَدٌ في عِبَادَتِه، فإِنَّ الشِّرْكَ مَعَ كَوْنِه أَظْلَمَ الظُّلْمِ، فهو هَضْمٌ للرُّبُوبِيَّةِ، وتَنَقُّصٌ للألُوهِيَّةِ، وسُوءُ ظَنٍّ بِرَبِّ العَالَمِينَ.

(23) وهو أَعْظَمُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ به.أو طَهِّرْ نَفْسَك مِمَّا يُسْتَقْذَرُ، مِن الأَقْوَالِ والأَفْعَالِ.

(24) قَالَه ابنُ عَبَّاسٍ وغَيْرُه مِن المُفَسِّرِينَ، ويُقَالُ: الشِّرْكُ، ويُقَالُ: الزَّايُ مُنْقَلِبَةٌ عَن سِينٍ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قولُه: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أيْضًا: (اتْرُكِ المَآثِمَ). والمَعْنَى: اتْرُكْ كلَّمَا أَوْجَبَ لَكَ العَذَابَ، مِن الأَقْوالِ والأَفْعَالِ.

(25) والإِعْرَاضُ عَنْها، وهَجَرَ الشَّيْءَ يَهْجُرُه: صَرَمَه وقَطَعَه، والهَجْرُ ضِدُّ الوَصْلِ، فالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ بِتَرْكِ الأَوْثَانِ، ومُبَاعَدَتِهَا، ومُصَارَمَتِهَا، وجَمِيعِ المَآثِمِ.

(26) قالَ تَعَالَى عن الخَلِيلِ: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}، {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} فَلاَ يَتِمُّ تَوْحِيدُ العَبْدِ، حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِن الكُفْرِ، وأَهْلِ الكُفْرِ، ويُبَاعِدَهُم ويُنَابِذَهُم.

(27) أيْ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بَيَانِ التَّوْحيدِ، والدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وبَيَانِ الشِّرْكِ، والإِنْذَارِ عنه، والتَّحْذِيرِ منه عَشْرَ سِنِينَ، قَبْلَ فَرْضِ الصَّلاَةِ التي هي عِمَادُ الدِّينِ، وقبلَ بَقِيَّةِ الشَّرَائِعِ؛ وبِهَذا يَتَبَيَّنُ لَكَ: أَنَّ حَقِيقَةَ ما بُعِثَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودَعَتْ إليه الرُّسُلُ كُلُّهُم، هو الإِنْذَارُ عَن الشِّرْكِ، والنَّهْيُ عنه، والدَّعْوَةُ إلى التَّوْحيدِ، وبَيَانُهِ وتَوْضِيحُه:

-كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إلاَّ أَنا فَاعْبُدُونِ}.

-وقَالَ: {وَلقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.

وقَالَ عن نُوحٍ، وهُودٍ، وصَالِحٍ، وشُعَيْبٍ، أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَؤُوا بِهِ قَوْمَهُم، أَنْ قَالُوا: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} وخَاتَمُهم مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوَّلُ شَيْءٍ دَعَاهُم إِلَيْهِ، أَنْ قَالَ: ((قُولُوا لاَ إِلَهَ إلاَّ اللَّهُ تُفْلِحُوا)) فَقَالُوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}.

وقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمُعَاذٍ، لَمَّا بَعَثَه إِلَى اليَمَنِ: ((فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلهَ إلاَّ اللَّهُ)) وفي رِوَايَةٍ: ((إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ)) وفِي رِوَايَةٍ: ((فَادْعُهُمْ إِلى تَوْحِيدِ اللَّهِ)).

وهذه الرِّوَايَاتُ يُفَسِّرُ بَعْضُها بعضًا،فالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا بُعِثَ بالدَّعْوَةِ إلى التَّوْحِيدِ؛ وذلك لأَِنَّه أَسَاسُ المِلَّةِ الذي تُبْنَى عَلَيْهِ، وبِدُونِهِ لاَ يَنْبَنِي شَيْءٌ مِن الأَعْمَالِ.




فالتَّوْحِيدُ هو الأَصْلُ، وبَقِيَّةُ شَرَائِعِ الدِّينِ فَرْعٌ عنه، فإِذَا زَالَ الأَصْلُ زَالَ الفَرْعُ، فأَيُّ بيانٍ أَبْيَنُ مِن هذا؟ عَلَى أنَّ التَّوْحِيدَ أَوْجَبُ الوَاجِبَاتِ، ومَعْرِفَتَه أَفْرَضُ الفَرَائِضِ: كَوْنُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ عَشْرَ سِنِينَ يَدْعُو إلى التَّوْحيدِ، ويُنْذِرُ عن الشِّرْكِ، قَبْلَ أنْ تُفْرَضَ عَلَيْهِ الفَرَائِضُ.

(28) أُسْرِيَ بِجَسَدِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورُوحِهِ جَمِيعًا، مِن المَسْجِدِ الحَرَامِ، عَلَى البُرَاقِ، إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، يَقَظَةً لاَ مَنَامًا، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ.
ثُمَّ صَعِدَ بِهِ جَبْرَائِيلُ إلى السَّمَاءِ عَلَى المِعْرَاجِ، وهو المِصْعَدُ الذي تَصْعَدُ فيه المَلاَئِكَةُ، كُلَّمَا مَرَّ بِسَمَاءٍ تَلَقَّاهُ مُقَرَّبُوهَا، حَتَّى جَاوَزَهُم إِلَى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، فَبَلَغَ مِن الارْتِفَاعِ والعُلُوِّ إِلَى مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ، ودَنَا مِن الجَبَّارِ جَلَّ جَلاَلُه، وكَلَّمَه بِلاَ وَاسِطَةٍ، فَأَوْحَى إِلَيْهِ مَا أَوْحَى.

(29) وكَانَ أَوَّلُ فَرْضِهَا خَمْسينَ صَلاَةً، ولَمْ يَزَلْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ مُوسَى ورَبِّه، حَتَّى وضَعَهَا إلى خَمْسٍ، وقَالَ: ((هِيَ خَمْسٌ، وَهِيَ خَمْسُونَ، الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا)) ثُمَّ هَبَطَ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ، وهَبَطَ الأَنْبِياءُ مَعَهُ، وأَمَّهُم في بَيْتِ المَقْدِسِ، ثُمَّ رَكِبَ البُرَاقَ ورَجَعَ إلى مَكَّةَ، وحَدَّثَهم عَمَّا رَآه في مَسِيرِه، صَلَواتُ اللَّهِ وسَلاَمُه عَلَيْهِ.

(30) يَعْنِي: بعدَ أَنْ عُرِجَ بِهِ، وفُرِضَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ الهِجْرَةِ، كَمَا هو ظَاهِرُ سِياقِ ابْنِ إسْحَاقَ: أَنَّ الإِسْرَاءَ قَبْلَ الهِجْرَةِ بِثَلاَثِ سِنِينَ، وقيلَ: سَنَةٍ؛ وقيلَ: ونِصْفٍ؛ وقِيلَ: بِخَمْسٍ، فاللَّهُ أَعْلَمُ.

(31) أيْ: وبعدَ الثَّلاَثَ عَشْرَةَ مِن بَعْثَتِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُمِرَ بِمُفَارَقَةِ المُشْرِكِينَ وأَوْطَانِهِم، بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِن إِظْهَارِ دِينِه، والدَّعْوةِ إلى اللَّهِ في غَيْرِ بِلاَدِهِم، فإِنَّ ذلك واجِبٌ وفَرْضٌ، ومَا لاَ يَتِمُّ الوَاجِبُ إلاَّ به، فهو وَاجِبٌ، ولاَ يَتِمُّ الفَرْضُ والوَاجِبُ، إلاَّ مَعَ مُفَارَقَةِ المُشْرِكِينَ عن الأَوْطَانِ، فإِنَّه إذا كانَ في بَلَدٍ لاَ يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ دِينِه، والتَّصْرِيحِ بِهِ وتَبْيِينِهِ، وجَبَ عَلَيْهِ مُفَارَقَةُ ذلك الوَطَنِ لإِظْهَارِ دِينِهِ.


  #5  
قديم 16 ذو القعدة 1429هـ/14-11-2008م, 07:33 PM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي حصول المأمول لفضيلة الشيخ: عبد الله بن صالح الفوزان

(1) قولُهُ: (الأَصْلُ الثالثُ: مَعْرِفَةُ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) هذا هوَ الأَصْلُ الثالثُ مِن الأصولِ الثلاثةِ التي يَجِبُ علَى العَبْدِ مَعْرِفَتُها.
وهذا الأَصْلُ تأتي مَعرِفَتُهُ بعدَ مَعْرِفَةِ العبدِ رَبَّهُ، ومَعْرِفَةِ العبدِ دِينَهُ؛ لأنَّهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هوَ الوَاسطةُ بينَنا وبينَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
فاللهُ هوَ الذي يُشَرِّعُ الشرائعَ ويُحْكِمُ الأحكامَ، ولا يُمْكِنُ تَلَقِّي أحكامِ الشرْعِ إلاَّ عنْ طريقِ هذا النبيِّ الكريمِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؛ لأنَّنَا لا نَستطيعُ أن نَعْرِفَ ربَّنا عنْ طريقِ السمْعِ، ولا أن نَعْرِفَ دِينَنا إلاَّ بوَاسِطَةِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، بلْ ولا يُمْكِنُ أن نَقومَ بعِبادةِ اللهِ تعالَى علَى الوَجْهِ المطلوبِ إلاَّ عنْ طريقِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
والعِبادةُ لها رُكنانِ:
-الإخلاصُ .
-والْمُتابَعَةُ.
ولا يُمْكِنُ للإنسانِ أن يَعْبُدَ اللهَ تعالَى علَى عِلْمٍ وبَصيرةٍ وتكونَ عِبادتُهُ صحيحةً مَقبولةً إلاَّ عنْ طريقِ التَّلَقِّي مِن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
ومَعْرِفَةُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ تَشْتَمِلُ علَى أمورٍ كثيرةٍ:

الأمرُ الأَوَّلُ: مَعْرِفَةُ نَسَبِهِ، وهوَ قولُهُ: (وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ) وقد اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ علَى جَدَّيْنِ مِنْ أَجدادِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
والنبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لهُ عِدَّةُ أسماءٍ، وقدْ وَرَدَ عنْ جُبيرِ بنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قالَ: ((أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يُمْحَى بِيَ الْكُفْرُ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى عَقِبِي، وَأَنَا الْعَاقِبُ)).

وَالْعَاقِبُ: الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ، ولهُ أسماءٌ أخرَى، وأشهرُها: (مُحَمَّدٌ) وقدْ جاءَ ذِكْرُهُ في القُرآنِ علَى وَجْهِ التنويهِ، ومعناهُ: الذي يُحْمَدُ أَكْثَرَ ممَّا يُحْمَدُ غيرُهُ.

(2) قولُهُ: (وهَاشِمٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقُرَيْشٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ بِنْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلاَةِ وَالسَّلاَمُ)

قولُهُ: (وَهَاشِمٌ مِنْ قُرَيْشٍ) هوَ هاشمُ بنُ عبدِ مَنافٍ، قالَ مُؤَرِّخُوهُ: اسْمُهُ عَمْرٌو، وغَلَبَ عليهِ لَقَبُهُ (هاشمٌ)؛ لأنَّهُ أَوَّلُ مَنْ هَشَمَ الثَّرِيدَ معَ اللَّحْمِ لقومِهِ في مَكَّةَ في سِنِي الْمَحْلِ، وهوَ أَحَدُ الأجوادِ الذينَ ضُرِبَ بهم الْمَثَلُ في الكَرَمِ، وأَحَدُ مَن انْتَهَتْ إليهِ السيادةُ في الْجَاهليَّةِ.
قُريشٌ: هوَ النَّضْرُ بنُ كِنانةَ، لِمَا وَرَدَ عن الأَشْعَثِ بنِ قَيْسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: (أَتيتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في وَفْدٍ لا يَرَوْنَ أَنِّي أَفْضَلُهم، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إننا نَزْعُمُ أَنَّا مِنْكُمْ، قالَ: ((نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ لاَ نَقْفُوا أُمَّنَا وَلاَ نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا))).

والمقصودُ بهذا: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بُعِثَ في أَكْرَمِ العرَبِ نَسَبًا.

وقدْ وَرَدَ عنْ واثلةَ بنِ الأَسْقَعِ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: (سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقولُ: ((إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ)).

وقالَ أبو سفيانَ لِهِرَقْلَ - لَمَّا سَأَلَهُ: كيفَ نَسَبُهُ فيكم؟ - قالَ: هوَ فينا ذو نَسَبٍ، قالَ هِرَقْلُ: (فكذلكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ في نَسَبِ قومِها؛ أيْ: في أَكْرَمِها نَسَبًا، وأَشْرَفِها قَبيلةً).

قولُهُ: (وقريشٌ مِن العَرَبِ، والعربُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إسماعيلَ) الْمُرَادُ بالعرَبِ هنا: العرَبُ الْمُسْتَعْرِبَةُ، فإنَّ العرَبَ قِسمانِ:
- عرَبٌ عَارِبَةٌ: وهم أَصْلُ العرَبِ الباقيَةِ جميعًا ويُسَمَّونَ (القَحْطَانِيِّينَ) ويَنتسبونَ إلَى سَبَأِ بنِ يَشْجُبَ بنِ يَعْرُبَ بنِ قَحطانَ، وقدْ سَكَنُوا اليمَنَ ثمَّ تَفَرَّقُوا في بَقِيَّةِ شِبهِ الجزيرةِ.

-عَرَبٌ مُسْتَعْرِبَةٌ: ويُسَمَّوْنَ (العَدْنَانِيِّينَ) وقدْ نَشَأُوا في مَكَّةَ ومِنها تَفَرَّقُوا في جِهاتٍ كثيرةٍ مِن الْحِجازِ وتِهامةَ، ويَنتهِي نَسَبُهم إلَى إسماعيلَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ كما تَقَدَّمَ؛ لأنَّهُ لَمَّا أَصْهَرَ إلَى قَبيلةِ (جُرْهُمَ) كانَ مِنْ نَسْلِهِ (عَدنانُ) الذي تَنتسِبُ إليهِ العرَبُ الْمُسْتَعْرِبَةُ.

قولُهُ: (وَالْعَرَبُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ) أيْ: فيكونُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مِنْ أولادِ إسماعيلَ عليهِ السلامُ وليسَ مِنْ أولادِ (إسحاقَ) وأنبياءُ بني إسرائيلَ كلُّهم مِنْ يَعقوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ.
و(إسماعيلُ) وُلِدَ لإبراهيمَ عليهِ السلامُ مِنْ أَمَتِهِ (هاجَرَ) علَى كِبَرٍ مِنه، قالَ تعالَى: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}، وهوَ الذي أُمِرَ إبراهيمُ عليهِ السلامُ بذَبْحِهِ، كما ذَكَرَ اللهُ تعالَى في القُرآنِ. (3) قولُهُ: (وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثَلاَثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً) هذا الأَمْرُ الثاني: وهوَ مَعْرِفَةُ عُمُرِهِ ومكانِ وِلادتِهِ.

وقدْ وَرَدَ عنْ عائشةَ - رَضِيَ اللهُ عنهُا - قالَتْ: (تُوُفِّيَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وهوَ ابنُ ثلاثٍ وسِتِّينَ ).
وأمَّا مَوْلِدُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ففي يومِ الاثنينِ الثانِيَ عَشَرَ مِنْ رَبيعٍ الأَوَّلِ مِنْ عامِ الفيلِ.

(4) قولُهُ: (مِنها أَربعونَ قبلَ النُّبُوَّةِ، وثلاثٌ وعِشرونَ نَبِيًّا رَسولاً) هذا وَرَدَ مِنْ حديثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُ - وفيهِ: (أُنْزِلَ عليهِ وهوَ ابنُ أَربعينَ ).
وإذا كانَ الرسولُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ماتَ وعُمرُهُ ثلاثٌ وسِتُّونَ سَنَةً، وثَبَتَ في حديثِ
أَنَسٍ أنَّهُ بُعِثَ علَى رَأْسِ الأربعينَ، فهذا يَدُلُّ دَلالةً قَاطِعَةً علَى أنَّ مُدَّةَ النُّبُوَّةِ والرسالةِ كانت ثلاثًا وعِشرينَ سنةً.
وقدْ وَرَدَ في (صحيحِ البخاريِّ) حديثُ أَنَسٍ قالَ: (أُنْزِلَ عليهِ القرآنُ وهوَ ابنُ أربعينَ، فلَبِثَ في مَكَّةَ عشرَ سنينَ يُنَزَّلُ عليهِ القرآنُ، وبالمدينةِ عَشْرَ سِنينَ ).
وظاهِرُ هذا: أنَّ مُدَّةَ النُّبُوَّةِ والرسالةِ عِشرونَ سَنَةً، لكنَّ الصحيحَ أنَّها ثَلاثٌ وعِشرونَ؛ لأنَّهُ وَرَدَ عنْ عائشةَ أنَّهُ ماتَ عنْ ثَلاثٍ وسِتِّينَ، ووَرَدَ عنْ أَنَسٍ نفسِهِ في (الصحيحينِ) أنَّ الرسولَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ماتَ ولهُ ثلاثٌ وسِتُّونَ.
وقدْ يكونُ قولُهُ: (وبالمدينةِ عَشْرَ سِنينَ) مِنْ بابِ حَذْفِ الكسْرِ، لكنْ علَى أيِّ حالٍ ما اتُّفِقَ عليهِ أَوْلَى مِمَّا اخْتُلِفَ فيهِ.

(5) قولُهُ: (وَثَلاثٌ وعشرونَ نَبِيًّا رسولاً: نُبِّئَ باقْرَأْ، وأُرْسِلَ بالْمُدَّثِّرِ) هذا الأَمْرُ الثالثُ: وهوَ مَعْرِفَةُ حياتِهِ النَّبَوِيَّةِ.
ومعنى (نُبِّئَ) أيْ: خُبِّرَ؛ لأنَّ أَصْلَ النُّبُوَّةِ مَأخوذةٌ مِن النَّبأِ وهوَ الخبَرُ.

قولُهُ: (وأُرْسِلَ بالْمُدَّثِّرِ) أيْ: بُعِثَ؛ لأنَّ الإرسالَ معناهُ البَعْثُ والتوجيهُ.

وقولُهُ: (باقْرَأْ) يعني: قولَهُ تعالَى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وهذا نَزَلَ عليهِ يومَ الاثنينِ في رمضانَ وهوَ في غارِ حِرَاءٍ.
قولُهُ: (وأُرْسِلَ بالْمُدَّثِّرِ) أيْ: بصَدْرِ السورةِ.
وقولُ المُصَنِّفِ: (نُبِّئَ باقْرَأْ، وأُرْسِلَ بالْمُدَّثِّرِ) دليلٌ علَى أنَّ هناكَ فَرْقًا بينَ النبيِّ والرسولِ، وهذا هوَ الصحيحُ الْمُعْتَمَدُ: أنَّ النبيَّ غيرُ الرسولِ، والرسولَ غيرُ النبيِّ، وقدْ تَقَدَّمَ ذلكَ.

ومِن الأَدِلَّةِ علَى هذا قولُ اللهِ تعالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}، والعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، وكذلكَ مَجيءُ (لا) في قولِهِ: {ولا نَبِيٍّ} فهذا يَدُلُّ علَى أنَّ النبيَّ غيرُ الرسولِ.

(6) قولُهُ: (وبَلَدُهُ مَكَّةَ) أيْ: وُلِدَ فيها، ونَشَأَ بها إلاَّ الْمُدَّةَ التي أَقامَها عندَ مُرْضِعَتِهِ حَليمةَ بنتِ أبي ذُؤَيْبٍ السَّعْدِيَّةِ، في بَادِيَةِ بني سَعْدٍ، ثمَّ رَجَعَ إليها في حَضانةِ جَدِّهِ عبدِ الْمُطَّلِبِ، ثمَّ عَمِّهِ أبي طالبٍ؛ لأنَّ أمَّهُ آمِنَةَ بنتَ وَهْبٍ مَاتَتْ وعُمُرُه سِتُّ سِنينَ، وبَقِيَ في مَكَّةَ ثلاثَ عَشرةَ سَنةً بعدَ أنْ أُوحِيَ إليهِ.

(7) قولُهُ: (وهاجَرَ إلَى المدينةِ) الْهِجرةُ يأتي الكلامُ عليها، إنْ شاءَ اللهُ.
والمدينةُ: اسمٌ غالبٌ لمدينةِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ دونَ غَيْرِها مِن الْمُدُنِ، كالنَّجْمِ للثُّرَيَّا، و(ابنُ عبَّاسٍ) لعَبدِ اللهِ دونَ إخوتِهِ مِنْ أولادِ العَبَّاسِ.
وقدْ روَى أبو موسَى رَضِيَ اللهُ عنهُ، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قالَ: ((رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهُ الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ))!!

وكانتْ هِجرتُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إلَى المدينةِ - فيما يَظهرُ - فِرارًا مِنْ أَذَى الْمُشرِكينَ، وَطَلَبًا للنَّجاةِ بالدِّينِ، والْتِمَاسًا لِمَكَانٍ تَنْمُو فيهِ الدعوةُ، وتُؤْتِي أُكُلَها؛ حتَّى يَقْوَى ساعدُها، ويَشْتَدَّ أَزْرُها؛ وذلكَ بعدَ أن تَابَعَتْهُ الأنصارُ علَى الإسلامِ وبايَعوهُ علَى النصْرِ والْمُؤازرةِ.

ولَمَّا رأتْ قُريشٌ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قدْ صارَ لهُ شِيعةٌ وأصحابٌ مِنْ غَيْرِهم في غيرِ بَلَدِهم، ورَأَوْا خُروجَ أصحابِهِ مِن الْمُهاجِرِينَ إليهم، خافُوا مِن انتشارِ دَعوتِهِ، ومُحارَبَتِهِ لهم، فعَزَمُوا علَى قَتْلِهِ، وتَشَاوَرُوا في صِفةِ ذلكَ.

فخَرَجَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ برِعايَةِ اللهِ تعالَى وحِفْظِهِ، ومعه أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وتَغَيَّبَا في غارِ ثَوْرٍ - جبلٍ بأَسْفَلَ مَكَّةَ - ثمَّ سارا إلَى المدينةِ فوَصلاها، وفَرِحَتْ بذلكَ الأنصارُ فَرَحًا عظيمًا، وكلُّ ذلكَ مُدَوَّنٌ في السيرةِ.


(8) قولُهُ: (بَعَثَهُ اللهُ بالنِّذارةِ عن الشرْكِ ويَدْعُو إلَى التوحيدِ) هذا الأَمْرُ الرابعُ: مِمَّا يَتَعَلَّقُ بمَعْرِفَةِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وهوَ مَعْرِفَةُ ما بُعِثَ به.
وهذا أَعْظَمُها وأَعْلاَها، فالنبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بَعَثَهُ اللهُ تعالَى يُنْذِرُ عن الشرْكِ، ويَدْعُو إلَى توحيدِ اللهِ تعالَى في رُبوبيَّتِهِ وأُلوهِيَّتِهِ، وأسمائِهِ وصِفاتِهِ.

والإنذارُ بمعني: التحذيرِ،
والْمُنْذِرُ: الْمُحَذِّرُ، وأَصْلُ الإنذارِ: الإبلاغُ، ولا يكونُ إلاَّ في التخويفِ.

(9) قولُهُ: (والدليلُ قولُهُ تعالَى: {يا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}) أي: الدليلُ علَى أنَّهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بُعِثَ بالإنذارِ عن الشرْكِ، والدعوةِ إلَى توحيدِ اللهِ سُبحانَهُ وتعالَى.
وقولُهُ تعالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ….}هذه أوَّلُ آيَةٍ أُرْسِلَ بها النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.

وقدْ ثَبَتَ عنْ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ،أنَّهُ سَمِعَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُحَدِّثُ عنْ فَترةِ الوحيِ فقالَ في حديثِهِ: ((فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَجَثَثْتُ مِنْهُ حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ، فَجِئْتُ إِلَى أَهْلِي فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي؛ فَزَمَّلُونِي؛ فَأَنْزَلَ اللهُ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} إلَى {فَاهْجُرْ})).
قالَ أبو سَلَمَةَ: {الرِّجْزُ}الأوثانُ، ثمَّ حَمِيَ الوحيُ وتَتَابَعَ.
وهذه الآياتُ قدْ فسَّرَ الشيخُ أكثرَها، وسنذكرُ تفسيرَها بعونِ اللهِ تعالَى.
فقولُهُ تعالَى:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}أي: الذي قَدْ تَدَثَّرَ بثِيابِهِ؛ أيْ: تَغَشَّى بها مِن الرُّعْبِ الذي حَصَلَ لهُ مِنْ رؤيَةِ الْمَلَكِ، كما تَقَدَّمَ، وأَصْلُهُ: الْمُتَدَثِّرُ، فأُدْغِمَت التاءُ في الدالِ لتَجَانُسِهما.

(10) (ومعنَى {قُمْ فَأَنْذِرْ}) أي: انْهَضْ فخَوِّفِ المشرِكينَ وحَذِّرْهُمُ العذابَ إنْ لم يُؤْمِنوا، وبهذا حَصَلَ الإرسالُ، كما حَصَلَ بقولِ اللهِ تعالَى: {اقْرَأْ} النُّبُوَّةُ.

(11) وقولُ الشيخِ رَحِمَهُ اللهُ: (يُنْذِرُ عَنِ الشِّرْكِ وَيَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ) هوَ معنَى ما تَقَدَّمَ؛ فإنَّ مَنْ أَشْرَكَ معَ اللهِ غيرَهُ قدْ عَرَّضَ نفسَهُ للعَذابِ فهوَ بحاجةٍ إلَى إِنذارٍ.


(12) {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أيْ: عَظِّمْهُ بالتوحيدِ، وصِفْهُ بالكبرياءِ والعَظَمَةِ، وأنَّهُ أَكبرُ مِنْ أنْ يكونَ لهُ شَريكٌ كما يقولُ الكُفَّارُ.

(13) {وثيابَكَ فطَهِّرْ} أيْ: طَهِّرْ أعمالَكَ عن الشرْكِ، وهذا أَحَدُ تَفاسير الآيَةِ، اقْتَصَرَ عليهِ الشيخُ رَحِمَهُ اللهُ.

والقولُ الثاني: أنَّ الْمُرَادَ بها الثيابُ الْمَلبوسةُ، أَمَرَهُ اللهُ بتطهيرِ ثِيابِهِ وحِفْظِها عن النجاساتِ، وهذا مِنْ تَمامِ التطهيرِ للأعمالِ خُصوصًا في الصلاةِ.
واختارَ ذلكَ ابنُ جَريرٍ الطبريُّ، والشوكانيُّ؛ لأنَّ ذلكَ هوَ المعنَى اللُّغويُّ للكلمةِ.
قالَ ابنُ كثيرٍ: (وقدْ تَشْمَلُ الآيَةُ جميعَ ذلكَ معَ طَهارةِ القلْبِ؛ فإنَّ العرَبَ تُطْلِقُ الثيابَ عليهِ).


(14) {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}قَرأَ حَفْصٌ بضَمِّ الراءِ، بمعنَى:
-الأصنامِ والأوثانِ.

وهَجْرُها: تَرْكُها والإعراضُ عنها، والبَراءةُ مِنْ أَهْلِها، كما قالَ تعالَى عن الخليلِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ:
{وَأَعْتَزِلُكْمُ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ}.

ويُحْتَمَلُ أنَّ الْمُرَادَ بالرُّجْزِ:
أعمالُ الشَّرِّ كلُّها؛ فيكونُ أمرًا لهُ بِتَرْكِ الذنوبِ صِغارِها وكِبارِها، ظاهِرِها وباطنِها، فيَدْخُلُ في هذا الشرْكِ فما دُونَهُ.
وقَرَأَ بَقِيَّةُ السبعةِ بكَسْرِ الراءِ، بمعنَى: العذابِ.
والقراءتان بمعنًى واحدٍ؛ لأنَّ عِبادةَ الأوثانِ تُؤَدِّي إلَى العذابِ، فأَمَرَ أن يَهْجُرَ ما يَحِلُّ العذابُ بسَبَبِهِ، واللهُ أَعْلَمُ.

{وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} بضَمِّ الراءِ علَى أنَّهُ حالٌ؛ أيْ: ولا تَمْنُنْ حالَ كونِكَ مُسْتَكْثِرًا.

والمعنَى: لا تَمْنُنْ علَى ربِّكَ بما تَقومُ بهِ مِنْ أَعباءٍ، كالذي يَسْتَكْثِرُ ما يَتَحَمَّلُهُ بسببِ الغيرِ، قالَهُ الحسَنُوالربيعُ بنُ أنَسٍ، واختارَهُ ابنُ جَريرٍ.
وقيلَ: لا تُعْطِ العَطِيَّةَ تَلْتَمِسُ أَكْثَرَ مِنها، قالَهُ ابنُ عَبَّاسٍ وجماعةٌ مِن السلَفِ، واختارَهُ ابنُ كثيرٍ.

{وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} أيْ: لرَبِّكَ وَحدَهُ دونَ سِواهُ فاصْبِرْ علَى كلِّ ما تَلقاهُ في سبيلِ الدعوةِ وإبلاغِ الرسالةِ.

قالَ الشيخُ عبدُ الرحمَنِ السعديُّ رَحِمَهُ اللهُ: (فامْتَثَلَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لأمْرِ ربِّهِ وبادَرَ فيهِ، فأَنْذَرَ الناسَ، وأَوْضَحَ لهم بالآياتِ البَيِّنَاتِ جميعَ الْمَطالِبِ الإِلَهِيَّةِ، وعَظَّمَ اللهَ تعالَى، ودعا الْخَلقَ إلَى تَعظيمِهِ، وطَهَّرَ أعمالَهُ الظاهرةَ والباطنةَ مِنْ كلِّ سُوءٍ، وهَجَرَ كلَّ ما يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، وما يُعْبَدُ معه مِن الأصنامِ وأَهْلِها، والشرِّ وأهلِهِ، ولهُ الْمِنَّةُ علَى الناسِ - بعدَ مِنَّةِ اللهِ - مِنْ غيرِ أنْ يَطْلُبَ عليهم بذلكَ جَزاءً ولا شُكورًا.
وصَبَرَ لربِّهِ أَكملَ صَبْرٍ: فصَبَرَ علَى طاعةِ اللهِ، وعنْ مَعاصيهِ، وصَبَرَ علَى أَقدارِهِ الْمُؤْلِمَةِ، حتَّى فاقَ أُولِي العَزْمِ مِن الْمُرْسَلينَ، صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ وعليهم أَجْمَعِينَ).

(15) قولُهُ: (أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشْرَ سِنِينَ يَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ) أيْ: أَخَذَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَشْرَ سِنينَ يَدْعُو إلَى توحيدِ اللهِ تعالَى، ويُبَيِّنُ الشرْكَ ويُحَذِّرُ مِنه.
وذلكَ أنَّ المقصودَ الأَعْظَمَ مِنْ بَعثةِ النِّبِيِّينَ، وإرسالِ الْمُرْسَلينَ، وإنزالِ الكُتُبِ، هوَ الإنذارُ مِن الشرْكِ والنهيُ عنه، والدعوةُ إلَى توحيدِ اللهِ تعالَى وإفرادِهِ بالعِبادةِ.
وكان النداءُ الأَوَّلُ لكلِّ رسولٍ: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.
-وقالَ تعالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}

-وقالَ تعالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}.
فالتوحيدُ هوَ أساسُ الْمِلَّةِ الذي تُبْنَى عليهِ، وبدونِهِ لا يَقومُ عَمَلٌ مِن الأعمالِ؛ ولهذا لم تُفْرَض الصلاةُ - التي هيَ عِمادُ الدِّينِ - وبَقِيَّةُ الشرائعِ إلاَّ بعدَ إرساءِ دَعائمِ التوحيدِ وبُنيانِ العقيدةِ.
وهذا يَدُلُّ علَى أنَّ التوحيدَ مِنْ أَوْجَبِ الواجباتِ، وأنَّهُ يُبدَأُ بهِ قبلَ غيرِهِ.
وقدْ قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لِمُعاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى اليمَنِ: ((فَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةَ: أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)).

(16) قولُهُ: (وبعدَ العشرِ عُرِجَ بهِ إلَى السماءِ) اعْلَمْ أنَّ الإسراءَوالْمِعراجَمِن الأمورِ التي ثَبَتَتْ بطريقِ الشرْعِ وليسَ للعقْلِ فيها مَدْخَلٌ.

والجمهورُ مِن الْمُحَدِّثِينَ والفُقهاءِ أنَّ الإسراءَ والْمِعراجَ وَقَعَا في ليلةٍ واحدةٍ في اليَقَظَةِ بجَسَدِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ورُوحِهِ؛ لأنَّ قُرَيْشًا أَكْبَرَتْهُ وأَنْكَرَتْهُ، ولوْ كانَ مَنامًا لم تُنْكِرْهُ؛ لأنَّها لا تُنْكِرُ الْمَنَاماتِ.
والإسراءُ لغةً: السيرُ بالشخصِ ليلاً.
وشَرْعًا: سَيْرُ جِبريلَ بالنبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إلَى بيتِ الْمَقْدِسِ؛ لقولِهِ تعالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.

والْمِعراجُ لغةً: الآلةُ التي يُعْرَجُ بها، وهيَ الْمِصْعَدُ.
وشَرْعًا: السُّلَّمُ الذي عَرَجَ بهِ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مِن الأرضِ إلَى السماءِ.

وقدْ ثَبَتَ الْمِعراجُ بالقرآنِ في قولِهِ تعالَى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} إلَى قولِهِ تعالَى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}.

وخُلاصةُ ما دَلَّتْ عليهِ الأحاديثُ الصحيحةُ: أنَّ جِبريلَ أَمَرَهُ اللهُ أنْ يَسْرِيَ بالنبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلَى بيتِ الْمَقْدِسِ علَى الْبُرَاقِ، ثمَّ يَعْرُجَ بهِ إلَى السماواتِ العُلَى سماءً سماءً، حتَّى بَلَغَ مَكانًا سَمِعَ فيهِ صَريرَ الأقلامِ، وفَرَضَ اللهُ عليهِ الصلواتِ الخمْسَ - كما سَيأتِي - واطَّلَعَ علَى الْجَنَّةِ والنارِ، واتَّصَلَ بالأنبياءِ الكِرامِ، وصَلَّى بهم إمامًا، ثمَّ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ، فحَدَّثَ الناسَ بما رأَى، فكَذَّبَهُ الكافرونَ، وصَدَّقَ بهِ المؤمِنونَ، وتَرَدَّدَ فيهِ آخَرُونَ.

(17) قولُهُ: (وَفُرِضَتْ عليهِ الصلواتُ الخمسُ) أيْ: فَرَضَ اللهُ تعالَى علَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وعلَى أُمَّتِهِ الصلواتِ الخمْسَ ليلةَ الْمِعراجِ خَمسينَ صَلاةً في كلِّ يومٍ وليلةٍ، ثمَّ لم يَزَلْ يَخْتَلِفُ بينَ موسَى وبينَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ حتَّى وَضَعَها الربُّ - جَلَّ جَلالُهُ، ولهُ الحمْدُ والْمِنَّةُ - إلَى خمسٍ، وقالَ: ((هِيَ خَمْسٌ وَهُنَّ خَمْسُونَ)).


(18) قولُهُ: (وصَلَّى في مَكَّةَ ثلاثَ سِنينَ) أيْ: فيكونُ الإسراءُ قبلَ الْهِجرةِ بثلاثِ سنينَ.
وكان صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي الرُّبَاعِيَّةَ رَكعتينِ حتَّى هاجَرَ إلَى المدينةِ، وقدْ دَلَّ علَى ذلكَ ما وَرَدَ عنْ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنهُا قالَتْ: (فُرِضَتِ الصَّلاَةُ رَكعتينِ، ثمَّ هاجَرَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ففُرِضَتْ أربعًا، وتُرِكَتْ صلاةُ السفَرِ علَى الأُولَى).
ورواهُ ابنُ حِبَّانَ في (صحيحِه)، ولَفْظُهُ قالَتْ: (فُرِضَتْ صَلاةُ السفَرِ والْحَضَرِ ركعتينِ، فلَمَّا أَقامَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بالمدينةِ زِيدَ في صلاةِ الْحَضَرِ رَكعتانِ رَكعتانِ، وتُرِكَتْ صَلاةُ الفَجْرِ لطولِ القِراءةِ، وصَلاةُ الْمَغْرِبِ؛ لأنَّها وِتْرُ النهارِ).

(19) قولُهُ: (وبعدَها) أيْ: بعدَ الثلاثَ عشرةَ مِنْ بَعْثَتِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؛ لأنَّهُ صَلَّى بعدَ العشرِ ثلاثَ سِنينَ بِمَكَّةَ.

(20) قولُهُ: (أُمِرَ بالهجرةِ إلَى المدينةِ) أيْ: بِمُفارَقَةِ المشرِكينَ وأوطانِهم؛ ليَتَمَكَّنَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مِنْ إظهارِ دِينِهِ.
والدليلُ علَى أنَّ الهجرةَ بعدَ ثلاثَ عشرةَ سنةً مِن البَعثةِ حديثُ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما قالَ: (بُعِثَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لأربعينَ سنةً، فمَكَثَ بمكةَ ثلاثَ عشرةَ سنةً يُوحَى إليهِ، ثمَّ أُمِرَ بالهجرةِ فهاجَرَ عَشْرَ سنينَ، وماتَ وهوَ ابنُ ثلاثٍ وسِتِّينَ).


  #6  
قديم 16 ذو القعدة 1429هـ/14-11-2008م, 07:35 PM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي شرح معالي الشيخ :صالح بن عبدالعزيزبن محمد آل الشيخ (مفرغ)


[أهمية الأصل الثالث وهو: معرفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم]
قال -رحمه الله تعالى-: (الأصل الثالث: معرفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم) :
الأصل الأول: معرفة العبد ربه، يعني معبوده.
والأصل الثاني: معرفة دين الإسلام بالأدلة.
والأصل الثالث: معرفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
والمراد هاهنا بالمعرفة العلم به، على نحو ما أوضحت لكم في الكلام على الأصل الأول.
فمعرفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم معناه العلم به وبحاله، العلم بنسبه وأنه من العرب، بل من أشرف العرب قبيلةً، وأنه كان في عمره له كذا وكذا، نُبئ وأرسل، قام داعياً يدعو إلى التوحيد وينذر عن الشرك وما يتصل بذلك من المباحث.
فحقيقة هذا الأصل العلم ببعض سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا العلم متعين لتكون الشهادة بأن محمداً رسول الله عن علم ومعرفة، فإنه إذا قال: أشهد أن محمداً رسول الله، لو قيل له: من محمد هذا ؟ فلم يعرفه، كانت شهادته مدخولة، ولهذا فإن معرفة هذا الأصل يكون به الجواب - بتوفيق الله - على سؤال القبر الثالث، ألا وهو: (من نبيك؟) فهو يشهد المسلم أن محمداً رسول الله، لكن هذه الشهادة يتبعها أن يكون عالماً وعارفاً بمحمد هذا، من هو عليه الصلاة والسلام؟.
[شرح قوله: (وهو محمد بن عبد الله....) ]
فقال - رحمه الله تعالى - موضحاً هذا الأمر: (هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم) تسميته عليه الصلاة والسلام بمحمد قال طائفة من أهل العلم: (لم يسمَّ قبله عليه الصلاة والسلام في العرب أحد بهذا الاسم، وإنما كانت العرب تسمي أحمد وتسمي حَمْد، وكل ذلك مشتق من الحمد، يعني رغبةً في أن يكون هذا الولد من ذوي الحمد، يعني: ممن يحمده الناس على خصاله).
وقال آخرون: (لا، بل العرب سمت بمحمد لكن قليل، إما اثنان أو ثلاثة) وهذا الثاني صحيح - إن صح النقل عن أهل التاريخ بتسمية أولئك النفر بمحمد ممن هم بعصره عليه الصلاة والسلام أو قبل ذلك بقليل -.
محمد معناه: كثير الخصال التي يستحق عليها الحمد.
فذو العرش محمودٌ وهذا محمدُ
ذو العرش - الله جل وعلا - صفاته وأفعاله وأسماؤه كلها يُحمد عليها، يُثنى عليه بها.
وتسمية جدّ النبي عليه الصلاة والسلام له بمحمد، على رجاء أن يكون من أهل خصال الخير، الذي يكثر من أجلها حمد الناس له عليها، وهذا كان وصار ظاهراً، فإنه عليه الصلاة والسلام خصاله كلها وصفاته كلها يُحمد عليها؛ لأن خصاله عليه الصلاة والسلام خير، حتى ما كان منه قبل البعثة، قبل النبوءة وقبل الرسالة، فقد كان كثير صفات الخير.
فإذاً: التسمية بـمحمد تسمية من قبيل التفاؤل، كانت العرب تعرف ذلك، كانوا يسمون خالداً تفاؤلاً بأن يكون من أهل المكث الطويل في الدنيا، يعني من أهل الأعمال الطويلة، كانوا يسمون عاصياً تفاؤلاً بأن يكون على أعدائهم من ذوي العصيان، كانوا يسمون صخراً ليكون شديداً كالصخر على أعدائهم، وهكذا.
فكثير من العرب إذا سمّوا رأوا المعنى، وتسمية النبي عليه الصلاة والسلام لُحِظَ فيها ذلك على رجاء أن يكون عليه الصلاة والسلام كثير الصفات التي يحمد عليها، وكان ما أمله جده في تسميته بـمحمد، فأعظم ذلك أنه كان عليه الصلاة والسلام رسولاً منبأً من عند الله جل وعلا.
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي، وقريش أفضل العرب وصفوتهم، فأفضل قبائل العرب قريش، وهذا كما جاء في الحديث: ((إن الله اصطفى قريشاً من كنانة)) وأفضل قريش بنو هاشم، وأفضل بني هاشم محمد عليه الصلاة والسلام، فكما جاء في الحديث الصحيح قال بعد ذلك: ((فأنا خيارٌ من خيار من خيار)) .
[شرح قوله: (وقريش من العرب) ]
والمراد بالعرب، العرب المستعربة؛ لأن العرب قسمان عند أهل النسب:
- عرب عاربة، وهؤلاء انقرضوا إلا قحطان في اليمن.
- وعرب مستعربة، وهم الذين لم يكونوا أصلاً من العرب، لكنهم دخلوا وصاروا عرباً بانفتاق لسانهم عن العربية، وبتكلمهم بالعربية، وأكثر قبائل العرب من هذا الجنس: العرب المستعربة، وهم العرب.
وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((أول من فُتق لسانه بالعربية الفصحى إسماعيل عليه السلام))، وذلك كما هو معلوم أن إسماعيل لما أتى به أبوه إبراهيم وأتى بأمه وجعله في مكة ناسب العرب فصار مُلهماً من عند الله -جل وعلا- بالانفتاق، انفتاق اللسان عن العربية الفصحى، وهذا كما جاء في الحديث، مع أن كثيراً من أهل النسب ينازعون في هذا الأخير.
[شرح قوله: (والعرب من ذرية إسماعيل...) ]
قال: (العرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل) يعني: أن قبائل العرب القبائل المعروفة: قريش، وهذيل، بنو تميم، بنو دوس، إلى آخره، أن هؤلاء جميعاً من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام.
النسابون يصلون بالنسب في تارات بأنساب القبائل إلى إسماعيل، ولكن المعروف عند العرب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقبله، أنهم يمكنهم وصل أنسابهم إلى عدنان، وأما بعد ذلك إلى إسماعيل فإن ذلك لا يثبت، ولا يمكن التصديق به.
فالنبي عليه الصلاة والسلام بعث من العرب، كما قال جل وعلا: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} (من أنفُسِكم) يعني: من جنسكم، من قبائلكم، من جنسكم العربي {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} وقال جل وعلا: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ونحو ذلك من الآيات، فإذاً النبي عليه الصلاة والسلام ابن لعبد الله وهو والده الأدنى، وابن لإسماعيل بن إبراهيم وهو والده الأعلى.
وهذان وهما عبد الله وإسماعيل هما الذبيحان، فقد جاء في حديثٍ - ضعيف السند لكنه صحيح المعنى - أنه قال: ((أنا ابن الذبيحين)) المراد بالذبيحين عبد الله؛ لأنه كما تعلمون قصة أبيه لما استقسم فخرج له، فنذر أن يذبح إن خرج له سهم فنذر أن يذبح، فكان النذر أن يذبح ولده ثم حصل من القصة ما هو معروف، فصار ذبيحاً، يعني قد كاد أن يُذبح.
إسماعيل كذلك، وهو الذي جاء فيه قول الله جل وعلا: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} وهذا هو الصحيح، فإن الابن الذي استسلم لأبيه صابراً محتسباً مطيعاً لأبيه ومطيعاً لربه جل وعلا هو إسماعيل أبو العرب.
واليهود تزعم أن الذبيح هو إسحاق، وهذا باطل؛ ذلك لأن الله -جل وعلا- قال في سورة الصافات هذه: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} فوصف هذا الابن بأنه حليم وهذا الوصف بالحلم في القرآن لإسماعيل عليه السلام، وأما إسحاق، فإنه يوصف بأنه عليم.
قال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} هذا من صفة إسماعيل، ولهذا في هذه الآيات بعدها قال: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} فذكر إسحاق بعد ذلك.
فالصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم هو ابن الذبيح عبد الله والده الأدنى، وهو ابن الذبيح إسماعيل والده الأعلى.
وأما القول بأن الذبيح إسحاق، فإن هذا باطل، وإنما دسه اليهود في المسلمين حتى كثر في كتب التفسير حتى يأخذوا هذا الفخر وهو أن إسحاق عليه السلام هو الذي صبر واحتسب واستسلم وابتُلي بهذا البلاء العظيم.
قال: (والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام) الخليل هو إبراهيم، كما قال جل وعلا: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} ووصِف بالخُلة إبراهيم ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإبراهيم هو خليل الله، وموسى كليم الله، وأما محمد عليه الصلاة والسلام - نبينا - فإنه اجتمع فيه الوصفان اللذان خُصَّ بهما إبراهيم وموسى، فهو خليل الله كما أن إبراهيم خليل الله، وهو كليم الله كما أن موسى كليم الله، كلَّمه الله جل وعلا ليلة المعراج.
[شرح قوله: (وله من العمر ثلاث وستون...) ]
قال هنا: (وله من العمر ثلاث وستون سنة) يعني: من مبدأ ميلاده إلى وفاته عليه الصلاة والسلام، عمره ثلاث وستون سنة، ولد عليه الصلاة والسلام عام الفيل - العام المعروف -، وعاش أربعين سنة، ثم بعد ذلك نبئ، وبعدها أرسل، ولما مضى عليه بعد ذلك عشر سنين عرج به كما ذكر، وبعد ذلك بثلاث سنين ترك مكة إلى المدينة مهاجراً، فصار عُمره إذاً حين الهجرة ثلاثاً وخمسين سنة، ومكث في المدينة عشرة أعوام وأشهراً، وصار عُمره ثلاثاً وستين سنة عليه الصلاة والسلام.
[شرح قوله: (منها أربعون قبل النبوة) ]
فصَّل ذلك فقال: (منها أربعون قبل النبوة) النبوة تسبق الرسالة، أربعون قبل النبوة (وثلاث وعشرون نبياً رسولاً) قال بعض أهل العلم: إنه عليه الصلاة والسلام مكث ثلاث سنين نبياً، ثم عشرون سنة نبياً رسولا؛ لأنه كما قال الشيخ هنا: (نبئ بإقرأ وأرسل بالمدثر) .
قال: (أربعون قبل النبوة) ثم قال: (نُبئ) وهذان لفظان مختلفان:
الأول: النبوة.
والثاني: قال: (نُبئ).
(نبئ) من النبوءة - بالهمز- و(نُبيَ) من النبوة، وفرق بين النبوة والنبوءة، وفرق بين النبي والنبيء لغةً، أما من حيث الشرع: فالنبي والنبيء واحد، وهما قراءتان مشهورتان سبعيتان متواترتان في القرآن كله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} والقراءة الأخرى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} {وَالنَّبِيِّينَ} والقراءة الأخرى {وَالنَّبِيئِينَ} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} {يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ اتَّقِ اللَّهَ} قراءتان مشهورتان أشهر من يقرأ بـ(النبي) عاصم وأشهر من يقرأ بـ(النبيء) نافع.
النبوة من الارتفاع، كأنه صار في نَبوَة من المكان، يعني في مرتفع منه، وسبب هذا الارتفاع الإنباء.
والنبوءة من الإنباء، أنبأه فصار نبيئاً، يعني مُنَبَّأً، قال: (نُبئ باقرأ) هذا من الإنباء.
(نُبيَ بإقرأ) لا يصلح؛ لأن (نُبيَ) من الارتفاع ليست من الإنباء والإخبار والإيحاء، (نُبيَ) من الارتفاع فيقال: نبوة، وإذا أردت الفعل فقل: نُبئ، أُنبئ؛ لأنه من الإنباء، فإذاً نقول: يا أيها النبي، السلام على النبي ورحمة الله وبركاته، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته؛ لأنه صار مرتفعاً عن غيره من أهل الأرض بما أوحى الله جل وعلا إليه، أو النبوءة وهي التي هنا.
[الفرق بين النبي والرسول]
قال: (ثلاثٌ وعشرون نبياً رسولاً) يعني: يريد: بعضاً منها نبياً، وبعضاً منها نبياً رسولاً.
مرَّ معنا الفرق بين النبي والرسول، وأن النبي: هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه أو أمر بتبليغه لقوم موافقين.
معلوم أنه إذا قلنا: لم يؤمر بتبليغه، أن هذا على سبيل الوجوب، لكن قد يبلغ ولا يكون التبليغ واجباً عليه، فالنبي: هو من أوحي إليه بشرع - يعني بدين - وأمر بتبليغه أو لم يؤمر بتبليغه.
إذا قلنا: لم يؤمر بتبليغه، يعني وجوباً، وقد يبلغ ذلك استحباباً، فالنبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يُرسَل بالمدثر بلغ ما أوحى الله -جل وعلا- إليه، بلَّغه خاصته كأبي بكر وكخديجة ونحو ذلك.
وهذا التبليغ على التعريف ليس على سبيل الوجوب، بل هذا من جهة الاستحباب؛ لأن هذه فترة النبوة.
فإذا كان تعريف النبي: هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه - يعني وجوباً - أو أُمر بتبليغه لقوم موافقين، فإنه يكون تبليغه فيما لو بلغه، يكون على وجه الاستحباب، ليس على وجه المطالبة من الله -جل وعلا- له بذلك، وقد يطالب، يؤمر بتبليغه فإذا أمر بتبليغه لقوم يخالفونه، لقوم مشركين، فإنه يكون ذلك الأمر إرسالاً.
[شرح قوله: (نبئ باقرأ)]
ولهذا قال: (نبئ باقرأ) قال جل وعلا: بسم الله الرحمن الرحيم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} كما هو معروف في حديث عائشة المشهور أنها قالت - الذي في أول الصحيح -: (أول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يتحنث أي يتعبد الليالي ذوات العدد) وساقت خبر إتيانه بالوحي، ورجوعه إلى خديجة، وما حصل في ذلك، فنبئ بإقرأ، جاءه الوحي فقال: ((ما أنا بقارئ، قال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ)) .
ظن عليه الصلاة والسلام أن جبريل يريد منه أن يقرأ شيئاً مكتوباً، فقال: ((ما أنا بقارئ)) يعني: لست من أهل القراءة خلافاً، لما قد يُظن أو ما حمل عليه بعضهم أن قوله: ((ما أنا بقارئ)) يعني: لن أقرأ، هولم يرفض هذا الطلب عليه الصلاة والسلام لكن قال: ((ما أنا بقارئ)) يعني: لست بقارئ، لست من أهل القراءة؛ لأنه لا يقرأ ولا يكتب عليه الصلاة والسلام.
فقال له مرة أخرى : ((اقرأ، قال: ما أنا بقارئ)) ثم جاءه في الأخيرة ككل مرة، فغطه ثم قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)} فنزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من غار حراء الذي كان يتحنث فيه، يرجف بها فؤاده، حتى أتى خديجة فقص عليها الخبر، فقالت له: (كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتحمل الكل، وتُعين على نوائب الدهر، وتصل الرحم) - أو كما قالت - ثم قالت لورقة بن نوفل ما قاله لها عليه الصلاة والسلام، وقص عليه - عليه الصلاة والسلام- الخبر؛ فقال: (هذا والله هو الناموس الذي كان يأتي موسى) . (الناموس) : يعني الملك، الوحي (الذي كان يأتي موسى، ليتني كنت فيها - يعني في مكة - حياً إذ يُخرجك قومك؛ فقال: ((أو مخرجيَّ هم؟)) قال: لم يأتِ أحدٌ بمثل ما جئت به إلا عودي، فما لبث ورقةُ أن توفي وفتر الوحي). أو كما جاء في الحديث، حديث عائشة المعروف المُخرَّج في الصحيحين، وهو في أوائل صحيح البخاري. نبئ بإقرأ فمكث مدة وهذه المدة فتر فيها الوحي.
[شرح قوله: (وأرسل بالمدثر) ]
ثم بعد ذلك أرسل بالمدثر، أنزل الله -جل وعلا- عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} فصار الواجب هنا الإنذار، والإنذار يكون - كما سيأتي - لقوم وقعوا في شيء ينذرون عنه، فصار هذا علامة على الرسالة {قُمْ فَأَنْذِرْ} أنذر من؟
جاء مبيناً في الآية الأخرى حيث قال: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} هذه كانت بداية الإرسال وبداية إنذاره عليه الصلاة والسلام. (وأرسل بالمدثر) (أرسل) صار رسولاً بنزول أول سورة المدثر عليه.
[شرح قوله: (وبلده مكة) ]
(وبلده مكة) هو من أهل مكة عليه الصلاة والسلام، وقدكان يقول في مكة: ((إنك لأحب بلاد الله إلي ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت منك)) بلده مكة، وكان عليه الصلاة والسلام يحبها، و قال: ((إني لأعرف حجراً بمكة ما لقيته إلا سلم علي)) كانت أحجار مكة تحبه عليه الصلاة والسلام، وهذا الحجر بخصوصه أنطقه الله بالسلام عليه - عليه الصلاة والسلام - قال: ((إني لأعرف حجراً بمكة ما مررت عليه إلا سلم علي)) يعني: بصريح السلام (السلام عليك يا رسول الله). (بلده مكة) وهذه البلد هي التي نبئ فيها، وهي التي أرسل فيها، وهي التي بها عشيرته وقومه وأهله وقرابته.
[شرح قوله: (بعثه الله بالنذارة)]
أوضح الشيخ هنا قال: (بعثه الله بالنَذارة - أو بالنِذارة - عن الشرك، ويدعو إلى التوحيد) : {قُمْ فَأَنْذِرْ} ينذر عن أي شيء ؟ ينذر عن الشرك، يخوف.
الإنذار: إعلام فيه تخويف عن شيء يمكنُ تداركه، لكن وقت تداركه يطول، بخلاف الإشعار، فهناك عندنا ثلاثة ألفاظ: إعلامٌ، إنذار، إشعار.
الإعلام: مجرد إيصال العلم، خبر.
الإنذار: إعلام فيه تخويف، وهناك فترة يمكن تصحيحها.
الإشعار: إعلام فيه تخويف لكن مدة استدراكه قليلة، كما قال الشاعر:

أنذرت عَـمـرواً وهــو في مهلٍ=قبل الصباح فقد عصى عمرو

فدل على أن الإنذار يكون بعده مدة يمكن الاستدراك بها.
ينذر عن الشرك، أيضاً يخوف من النار، يخوف من عذاب الله، يخوف من سخط الله، كما قال جل وعلا: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فإذاً: الإنذار يكون عن الشرك وعما يكون عقاباً لأهل الشرك من أنواع العقوبات في الدنيا بالهلاك والاستئصال وفي الآخرة بالعذاب والنكال.
[شرح قوله: (ويدعو إلى التوحيد) ]
(ويدعو إلى التوحيد) الإنذار والنهي عن الشرك مقدم هنا، قدمه على الدعوة إلى التوحيد، وهذا التقديم هو المفهوم من كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، وهو المفهوم من قوله تعالى: {قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} {قُمْ فَأَنْذِرْ} يعني: أنذر عن الشرك {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} كما سيأتي أن معناه: عظمه بالتوحيد.
فإذاً قال: (بالنذارة عن الشرك ويدعو إلى التوحيد) هو معنى لا إله إلا الله.
ذكر العلماء أن ثمَّ مناسبة هاهنا، وهي: أن الإنذار عن الشرك هذا فيه تخلية، والدعوة إلى التوحيد تحلية، ومن القواعد المقررة أن التخلية تسبق التحلية، لهذا النهي عن الشرك، والإنذار عن الشرك، إخراج لكل ما يتعلق به القلب، كأنه قال: لا يتعلق القلب بأي أحدٍ من هذه الآلهة، ثم إذا خلا القلب من التعلق بأحدٍ أمره بأن يتعلق بالله -جل وعلا- وحده دون ما سواه.
[شرح قوله: والدليل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} ]
قال هنا : (والدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ) المدثر: هو المتغطي المتدثر بأغطيته وأكسيته وملابسه أونحو ذلك.
{قُمْ فَأَنْذِرْ} : قال الشيخ رحمه الله: (ومعنى {قُمْ فَأَنْذِرْ} ينذر عن الشرك ويدعو إلى التوحيد).
[تفسير قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}]
( {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي عظمه بالتوحيد) يعني: أن قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} معناه: خص ربك بالتكبير؛ لأنه قدم المفعول؛ أصل الكلام: كبِّر ربَّك، فقدم المفعول على العامل فيه، وهو الفعل، فدل على الاختصاص.
قال: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} قال الشيخ: معنى {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (أي: عظمه بالتوحيد) وهذه - لا شك - من الشيخ - رحمه الله تعالى - من العلم الغزير العظيم الذي يحتاج إلى إيضاح وبسط؛ ذلك: أن التكبير جاء في القرآن، وله خمسة موارد:
- فتكبير الله جل وعلا يكون بربوبيته، يعني اعتقاد أنه أكبر من كل شيء يُرى أو يُتوهم أو يتصور أنه موجود، هوأكبر من كل شيء في ربوبيته، في ملكه، في تصريفه لأمره، في خلقه، في رزقه، في إحيائه، في إماتته، إلى آخر معاني الربوبية، هذا الأول.
قال جل وعلا: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} (الله أكبر) يشمل هذا المعنى، ويشمل غيره من معاني التكبير التي ستأتي.
إذاً: قوله هنا: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} يدخل فيه أولاً: اعتقاد أن الله جل وعلا أكبر من كل شيء في مقتضيات ربوبيته.
الثاني: أن الله جل وعلا أكبر من كل شيء، باستحقاقه الإلهية والعبادة وحده دون ما سواه، فإن العبادة صرفت لغير الله، فهو جل وعلا أكبر وأعظم وأجل من كل هذه الآلهة التي صرفت لها أنواع من العبادة.
فتكبير يرجع إلى الربوبية، وهو الأول، وهذا التكبير يرجع إلى استحقاقه للإلهية.
وتكبيرٌ - وهو الثالث -: باعتقاد؛ كما قال: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أن ربك أكبر من كل شيء في أسمائه وصفاته، فإنه في أسمائه أكبر من كل ذوي الأسماء، الأشياء لها أسماء، لكن أسماء الله -جل وعلا- أكبر من ذلك، (أكبر) يرجع الكبر هنا لأي شيء ؟
لما فيها من الحسن والبهاء، والعظمة، والجلال، والجمال، ونحو ذلك، وكذلك في الصفات، فصفاته عُلى، كما قال جل وعلا: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} .
وقال جل وعلا: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} يعني: له الاسم الأعلى، وله النعت الأعلى.
وقال جل وعلا: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} .
وقال جل وعلا: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} ونحو ذلك فهو جل وعلا أكبر من كل شيء في أسمائه وصفاته.
- كذلك قوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} يعني: في قضائه وقدره الكوني، فالله -جل وعلا- في قضائه وقدره الكوني أكبر، يعني: أن قضاءه وقدره له فيه الحكمة البالغة، وأما ما يقضيه ويقدره العباد لأنفسهم، يقدر الأمر بنفسه، ويفعل الأمر لنفسه، فإن هذا يناسب نقص العبد، والله جل وعلا في قضائه وقدره فيما يحدثه في كونه فهو أكبر.
الأخير: تكبير الله -جل وعلا- في شرعه وأمره.
قال: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} تدخل فيها هذه الخمسة.
الأخير يعني: اعتقاد أن الله -جل وعلا- أكبر فيما أمر به ونهى، وفيما أنزله من هذا القرآن العظيم، أكبر وأعظم من كل ما يُشرِّعه العباد، أو يحكم به العباد، أو يأمر العباد به وينهون عنه، ولهذا صارت هذه الكلمة: (الله أكبر) من شعارات المسلمين العظيمة، يدخلون في الصلاة بها، ويرددونها في الصلاة، وهي من الأوامر الأولى التي جاءت للنبي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى له: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} إذا لحظت هذه المعاني الخمسة - وكل واحدةٍ منها لها أدلة كثيرة من القرآن، تدبر وأنت تقرأ القرآن الآيات التي فيها ذكر تكبير الله - تجد أن بعضها فيه:
- ذكر الربوبية.
- وبعض الآيات فيه ذكر الألوهية.
- وبعضها فيه ذكر الأسماء والصفات.
- وبعضها فيه ذكر قضاء الله الكوني - أفعال الله جل وعلا -.
- وبعضها فيه شرع الله جل وعلا.
إذا اجتمعت هذه الخمس رأيت أن هذا التفسير من أحسن وأعظم ما يكون.
قال: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} عظمه بالتوحيد، إذا اجتمعت هذه الخمس في الفهم، صار {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} عظمه بالتوحيد؛ لأن معاني التكبير هي معاني التعظيم، وتلك المتعلَّقات هي التوحيد بأنواعه، فصار تفسير الشيخ هنا لقوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي عظمه بالتوحيد، وهو من التفاسير المنقولة عن السلف، صار هاهنا اختياراً مناسباً ملائماً واضح الدِلالة.
[تفسير قوله تعالى: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} ]
قال بعدها: ( {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي: طهر أعمالك من الشرك) فسر الثياب بالعمل، الثوب أصله في اللغة: ما يثوب إلى صاحبه، يعني ما يرجع إلى صاحبه، سُمي اللباس سواءٌ كان قميصاً، أو إزاراً، أو كان سراويل، أو نحو ذلك، أو كانت عمامة يسمى ثوباً؛ لأنه يرجع إلى صاحبه بالتباسه به حال لُبسه، هذا أصل الثوب، ولهذا يقال للعمل أيضاً: ثوبٌ، وتجمع على ثياب باعتبار أنه يرجع إلى صاحبه، لهذا فسر قوله تعالى هنا: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي: طهر أعمالك.
فسر الثياب بالأعمال؛ لأنها راجعةٌ إلى صاحبها باعتبار أصلها اللغوي، أو يقال: إن العمل مشبه بالثوب لملازمته لصاحبه، فالثوب يلازم لابسه، والعمل كذلك يلازم عامله، كما قال جل وعلا: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} الطائر: هو ما يطير عنه من العمل من خير أو شر، أُلْزِمَ به: يعني: صار ملازماً له كملازمة ثوبه له.
هنا اختار الشيخ أحد التفسيرين المنقولين عن السلف وهو أن معنى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي:
- طهر أعمالك من الشرك.
- وفسرت بطهر ثيابك من النجاسات.
وثيابك فطهر هذا التفسير الأعم أنسب ها هنا؛ لأنه يناسب ما قبله وما بعده، فإن ما قبله فيه الإنذار وتعظيم الله بالتوحيد، وما بعده فيه ترك للرجز، وهجر للأصنام، والبراءة منها.
بقي قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} فاتساق الكلام وكونه جميعاً جاء بمعنى مترابط يقضي بأن يُختار تفسير الثياب بالأعمال؛ لأن ما قبله {قُمْ فَأَنْذِرْ} ينذر عن الشرك ويدعو إلى التوحيد {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} عظمه بالتوحيد {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ثم قال: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} التي هي الأصنام والأوثان اتركها وتبرأ منها، صار الجميع في البراءة من الشرك، والبعد عن الشرك والنهي عنه، والدعوة والالتزام بالتوحيد، بقي قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} لها تفسيران، تفسير للثياب بالثياب المعروفة؛ ثيابك طهرها من النجاسة، أو ثيابك التي هي الأعمال طهرها من الشرك، فصار الأنسب للسياق أن يفسر: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} بطهر أعمالك من الشرك.
وهذا مما يعتني به المحققون من المفسرين، أنهم يختارون في التفسير التفسير الذي يناسب السياق، يناسب ما بعده وما قبله، واللغة لها محامل كثيرة، ولهذا اختلف السلف في تفسيراتهم.
[تفسير قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} ]
قال: ( {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} الرجز: الأصنام وهجرها تركها وأهلها والبراءة منها وأهلها) يعني: ترك الأصنام وترك أهلها والبراءة من الأصنام، والبراءة من أهلها، قال: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} الرجز: اسم عام لما يعبد من دون الله، قد يكون صنماً، وقد يكون وثناً، قال هاهنا: (الرجز: الأصنام) يعني أن قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} أي: الأصنامَ اترك، ويلزم من ذلك أن يترك أهلها وأن يتبرأ منها ومن أهلها. (الرجز: الأصنام) الأصنام: جمع صنم، والصنم: اسم لما عُبد من دون الله، مما كان على هيئة صورة، عند كثير من العلماء.
يعني: الصنم، يكون مصوراً على هيئة صورة، إما صورة كوكب، أو صورة جني، أو صورة شجرة، أو صورة آدمي، أو صورة نبي، أو صورة صالح أو طالح، يعني يكون على هيئة صورة؛ أو صورة حيوان.
فإذا كان هناك شيء مصنوع على هيئة صورة، إما صورة كوكب، أو صورة شيء مما هو على الأرض مما يعبد من دون الله صار صنماً.
- فإن كان ما يعبد من دون الله ليس على هيئة صورة صار اسمه الوثن، لهذا قال عليه الصلاة والسلام: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)) لا يصلح (صنماً يعبد)؛ لأن القبر لا يكون على هيئة مصورة، قال ((وثناً يعبد))؛ لأن الوثن: اسم لما يعبد من دون الله، إذا لم يكن مصوراً على هيئة صورة.
- قال بعض أهل العلم: (الوثن قد يكون أيضاً على هيئة صورة)، فيكون الصنم ماله صورة، والوثن يشمل ما كان له صورة، وما لم يكن له صورة، وهذا هو القول الثاني.
فيكون كل صنم وثناً، وليس كل وثنٍ صنماً، وأخذوا هذا من قوله تعالى في سورة العنكبوت قال جل وعلا: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ} مخبراً عن قول إبراهيم لقومه: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} فحصر، قال: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً} قد بين جل وعلا في آيات أُخر أن إبراهيم سألهم عن عبادتهم قال: {مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}.
فصار الوثن يشمل الصنم وغير الصنم، فهذا القول أدق وهو الذي أختاره: أن الوثن يشمل الصنم وغير الصنم، يعني: ماله صورة مما عبد من دون الله وما ليس له صورة، وأما الصنم فهو في الغالب ما كان على هيئة صورة.
قال: (والرجز: الأصنام) ومعلوم أنه إذا نهاه عن عبادة الأصنام فإنه بذلك ينهاه عن عبادة الأوثان؛ لأن العلة فيهما واحدة وهي عبادة غير الله -جل وعلا-، (وهجرها تركها وأهلها، والبراءة منها وأهلها).
[شرح قوله: (وأخذ على هذا عشر سنين...) ]
قال: (أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد) يعني بذلك: أنه مكث عليه الصلاة والسلام عشر سنين، يدعو قومه، ويدعو عشيرته الأقربين وجوباً؛ لقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} يدعو إلى التوحيد قبل أن تنزل الفرائض، لم تنزل فريضة الصلاة على هذا النحو، ولا فريضة الزكاة على هذا النحو، ولا سائر التشريعات على هذا النحو، لم تحرم الخمر، ولم يحرم الزنا، ولم يحرم الربا في تلك المدة، وهذا معنى قوله: (أخذ على هذا) ، يعني على الدعوة إلى التوحيد والنهي عن الشرك. (أخذ على هذا) على الإنذار عن الشرك والدعوة إلى التوحيد؛ أخذ (عشر سنين يدعو إلى التوحيد) ، ما كان يدعو فيها إلى الأعمال، لا إلى الصلاة، ولا إلى الزكاة، مع أنه كان له صلاة في ذلك.
قال كثير من أهل العلم: كانت الصلاة المفروضة في العشر السنين تلك صلاتين في اليوم والليلة:
أحدها: في إقبال النهار.
والأخرى: في إقبال الليل.
يعني: أحدها: الفجر، والثانية: المغرب، وحملوا عليه قوله تعالى في سورة طه: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا}، وكذلك قوله في سورة ق: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} ونحو ذلك من الآيات، أما الصلوات الخمس فلم تُفرض إلا بعد ذلك.
[شرح قوله: (وبعد العشر عرج...) ]
قال: (وبعد العشر عُرج به إلى السماء) كانت الصلاة ركعتين، أول النهار وآخره - على قول كثير من العلماء - قال: (وبعد العشر عرج به إلى السماء) المعراج معناه: الصعود، (عرج به إلى السماء) يعني صُعد به إلى السماء، ومن أسماء السلم والمِرقاة التي يُرتقى عليها المعراج، فمعنى المعراج: السلم الذي يصعد عليه، (عُرج به) أي صعد به، ليلة المعراج، يعني الليلة التي صُعد بالنبي صلى الله عليه وسلم فيها على المعراج، يعني: على السلم ذلك، تسمية لليلة بوسيلة الصعود وهو المعراج.
عليه الصلاة والسلام أسري به تلك الليلة من مكة إلى بيت المقدس، وبعد ذلك عرج به.
الدابة ربطت عند بيت المقدس ثم أخذه جبريل وعَرج به بالمعراج، يعني بالسلم الخاص الذي يصعد عليه إلى السماء.(إلى السماء) : المقصود بها جنس السماء، يعني: السماوات، حتى ارتفع إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام عليه الصلاة والسلام، حتى إنه قرب من ربه ـ جل وعلا ـ وكلمه ربه ـ جل وعلا ـ بدون واسطة.
ورأى عليه الصلاة والسلام تلك الليلة نور الله جل وعلا، ورأى الحجاب الذي احتجب الله ـ جل وعلا ـ به عن خلقه فلا يرونه، كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل: هل رأيت ربك ؟ - يعني: ليلة المعراج- فقال: ((رأيت نوراً)) وفي رواية أخرى قال: ((نورٌ أنى أراه)) يعني: ثمَّ نور فكيف أراه؟
وهذا من الفضل العظيم له عليه الصلاة والسلام، أنه ارتفع من الأرض إلى ما بعد السماء السابعة ورأى الجنة، ورأى النار في ليلة ورجع، والسماء الواحدة لا يقطعها القاطع إلا بمسيرة خمسمائة سنة، وما بين السماء والسماء لا يقطعها القاطع إلا بمسيرة خمسمائة سنة، وهكذا حتى تصل إلى السماء السابعة، ثم بعد ذلك الماء، ثم بعد ذلك الكرسي، إلى آخره.
فهو عليه الصلاة والسلام لا شك أن المعراج له عليه الصلاة والسلام مما يدل على عظم قدره عند ربه جل وعلا، لهذا قال تعالى في الإسراء - وهو من العجب بمكان- قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} يعني: في بعض الليل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم رجع، وهذا من مكة إلى بيت المقدس محل عجب عند العرب - ولاشك أنه محل عجب - حيث ما كان عندهم من المركوبات، فكيف من بيت المقدس إلى ما بعد السماء السابعة، ثم يرجع إلى بيت المقدس، ثم يرجع من بيت المقدس إلى مكة وفراشه لم يبرد بعد، هذا لاشك أنه مما أكرم الله ـ جل وعلا ـ به نبيه عليه الصلاة والسلام.
قال: (فرضت عليه الصلوات الخمس) يعني: على هذا النحو، بعد أن فرضت عليه خمس صلوات، وصبح صباحه في مكة نزل عليه جبريل يعلمه أوقات الصلوات وأنواعها.
قال: (صلى في مكة ثلاث سنين وبعدها أُمر بالهجرة إلى المدينة) يعني: صلى السنة العاشرة، الحادية عشر، الثانية عشر من البعثة، ثم بعد ذلك أمر بالهجرة إلى المدينة.


  #7  
قديم 16 ذو القعدة 1429هـ/14-11-2008م, 07:36 PM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي العناصر

بيان الأصل الثالث
- بيان أهمية هذا الأصل
- بيان ركني العبادة
- ذكر بعض فضائل النبي صلى الله عليه وسلم
- ذكر عموم رسالته إلى الثقلين
- ذكر بعض أسماء النبي صلى الله عليه وسلم
بيان معنى النبوة
نسب النبي صلى الله عليه وسلم
ذكر نسب إبراهيم الخليل عليه السلام
قسمي العرب
بيان عُمْرِ النبي صلى الله عليه وسلم
بيان بم نبئ وبم أرسل
- الفرق بين النبوة والرسالة
بلد النبي صلى الله عليه وسلم
بيان بم بعث النبي صلى الله عليه وسلم
ذكر بدء الوحي
تفسير صدر سورة المدثر
- معنى قوله تعالى: (يا أيها المدثر)
- معنى قوله تعالى: (قم فأنذر)
- معنى قوله تعالى: (وربك فكبر)
- معنى قوله تعالى: (وثيابك فطهر)
- معنى قوله تعالى: (والرجز فاهجر)
- معنى قوله تعالى: (ولا تمنن تستكثر)
- معنى قوله تعالى: (ولربك فاصبر)
مدة دعوة رسول الله إلى التوحيد
بيان متى عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم
- قول الجمهور في الإسراء والمعراج
- تعريف الإسراء
- تعريف المعراج
- مما دلت عليه الأحاديث الصحيحة في الإسراء والمعراج
ذكر بدء فرض الصلاة
كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في مكة
بيان متى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة
ذكر قصة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة


  #8  
قديم 16 ذو القعدة 1429هـ/14-11-2008م, 07:37 PM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي الأسئله

الأسئلة
س1: تكلم باختصار عن أهمية الأصل الثالث.
س2: اذكر بعض ما يتضمنه معرفة النبي صلى الله عليه وسلم.
س3: اذكر نسب النبي صلى الله عليه وسلم.
س4: كم له من العمر؟ ومتى نبئ ؟
س5: بم نبئ؟ وبم أرسل ؟
س6: في أي بلد نشأ؟ وإلى أي بلد هاجر؟
س7: بم بعثه الله عز وجل؟ مع الدليل.
س8: كم له من العمر حين هاجر إلى المدينة ؟
س9: متى عرج به إلى السماء ؟
س10: متى فرضت الصلاة ؟
س11: فسر باختصار صدر سورة المدثر.
س12: لم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ؟
س13: مَن صاحبه حين هاجر إلى المدينة ؟
س14: اذكر باختصار قصة هجرته إلى المدينة.
س15: ما معنى اسم (محمد) ؟
س16: ما معنى النبوة ؟
س17: ما الفرق بين النبي والرسول ؟
س18: من حضن النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أمه ؟
س19: ما معنى هجر الرجز ؟
س20: لماذا سمي عبد المطلب بهذا الاسم ؟
س21: ما الفرق بين الوثن والصنم ؟


  #9  
قديم 28 رجب 1430هـ/20-07-2009م, 07:28 AM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 6,511
افتراضي إجابات على أسئلة طلاب الدورات العلمية بالمعهد

السؤال الأول : من المتن في تفسير قول الله تعالى {ولا تمنن تستكثر}
فهل هي مقيدة بين بني البشرأم حتى في التعامل مع الله تبارك وتعالى ؟
كأن من أن يتقرب بقربه رجاء أن ينال مافوقها ؟
الجواب : هي على هذا القول خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الناس بأنه ينهى عن أن يعطي عطية لأحد من الناس لأجل أن يأخذ أكثر منها على سبيل المعاوضة أو المكافأة . وهذا القول فيه نظر ، ولعل تفصيله يأتي في تفسير جزء تبارك بإذن الله
لكن الذي أود أن أشير إليه أن أقرب الأقوال إلى الصواب عندي قول مجاهد رحمه الله : ولا تمنن تستكثر ، أي ولا تضعف عن الاستكثار من الطاعات ، فإن (تمنن) تأتي في اللغة بمعنى تضعف وله شواهد منها قول امرئ القيس:

بسير يضج العود منه يمنه = أخو الجهد لا يلوي على من تعذرا
يمنه: أي يضعفه
ويقال: حبل منين ، أي ضعيف.
ويؤيد هذا القول أمران:
الأول: قراءة ابن مسعود فيما روي عنه: (ولا تمنن أن تستكثر)
والأمر الثاني: مراعاة سياق الآيات فإنها في الحث على التقرب إلى الله والتوحيد ونبذ الشرك
وأمر ثالث مهم ، وهو مراعاة مقصد السورة.




السؤال الثاني :
اقتباس:
أن عائشة رضي الله عنها قالت ورواها عنها بن حبان (فُرِضَتْ صَلاةُ السفَرِ والْحَضَرِ ركعتينِ، فلَمَّا أَقامَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بالمدينةِ زِيدَ في صلاةِ الْحَضَرِ رَكعتانِ رَكعتانِ، وتُرِكَتْ صَلاةُ الفَجْرِ لطولِ القِراءةِ، وصَلاةُ الْمَغْرِبِ؛ لأنَّها وِتْرُ النهارِ).

الظاهر أن أمي عائشة رضي الله عنها أوردت الحكمة من عدم زيادة الركعات في الفجر والمغرب
فهمت الفجر لأنه يستحب فيه تطويل القراءة ، ولكن لم أفهم مقصودها رضي الله عنها في المغرب!
ما معنى وِتـر النهار ؟


الجواب : أي تركت المغرب على حالها ثلاث ركعات لأنها وتر النهار أي أن الصلوات في النهار كلها شفع فصلاة المغرب توتر للعبد نهاره ، فتكون آخر صلاته في النهار وتراً ، كما أن وتر الليل يندب أن يكون في آخر صلاة الليل لحديث (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)
فيكون للعبد وتر في نهاره بصلاة المغرب ، ووتر في ليله بصلاة الوتر




السؤال الثالث : قول المصنف رحمه الله ((نبئ بأقراء وأرسل بالمدثر))هذا القول هل عليه دليل ؟
وهل يفهم منه أن الفرق بين الرسول والنبي
اذا أعلن دعوته على قومه فهو رسول وإذا اسرها فهو نبي
فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في الحالتين( النبوة والرسالة ) بعث برسالة جديدة الى مخالفين وأنزل عليه كتاب جديد ونسخ شريعة من قبله
لكن في أول الدعوة كان نبي لما كانت سرا ثم صار رسولا لما جهر بها على قول المصنف
فهل قول المصنف صحيح وله مستند؟
ولو كان القول له مستندا يكون نصا في الفرق بين الرسول والنبي
الجواب :
قول الشيخ – رحمه الله -: (نبئ بإقرأ وأرسل بالمدثر) مستنده الفهم لكتاب الله تعالى وكلام أهل العلم، إذ لا ريب أن بدء النبوة كان بنزول قول الله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق)
وهذا لا نزاع فيه بين أهل العلم، وأما ما كان يأتيه قبل ذلك من الرؤى الصادقة فمن إرهاصات النبوة وليست هي النبوة.
واستدل رحمه الله بقوله تعالى: (يا أيها المدثر قم فأنذر) على أن بدء الرسالة كان بنزول هذه السورة بناء على ما عليه الجمهور من التفريق بين النبوة والرسالة
وقد سبقه إلى هذا الاستدلال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية لما ذكر أن أول ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم سورة اقرأ ثم سورة المدثر قال: (وبهذا حصل الإرسال إلى الناس وبالأول حصلت النبوة).
كما نبه إلى ذلك الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد – رحمه الله - في رسالة له.
وقبلهما قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في منهاج السنة النبوية: (وأما خديجة وعلي وزيد فهؤلاء كانوا من عيال النبي صلى الله عليه وسلم وفي بيته وخديجة عرض عليها أمره لما فجأه الوحي وصدقته ابتداء قبل أن يؤمر بالتبليغ وذلك قبل أن يجب الإيمان به فإنه إنما يجب إذا بلغ الرسالة فأول من صدق به بعد وجوب الإيمان به أبو بكر من الرجال).
وقبلهم قال الحليمي شيخ البيهقي فيما نقله عنه في (شعب الإيمان): (وكانت للنبي صلى الله عليه وسلم قبل فرض الجهاد منازل مع المشركين فأول ذلك أنه كان يوحى إليه ولا يؤمر في غير نفسه بشيء ثم أمر بالتبليغ فقيل له: ( قم فأنذر ).... ).
فعلم بذلك أن الشيخ له سلف في هذه العبارة ولم يبتدع معناها.

ومسألة الفرق بين النبي والرسول مما وقع فيه لبس وخلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى
فذهب ذاهبون إلى أنه لا فرق بين النبي والرسول وهذا القول حكاه الماوردي في تفسيره ولم ينسبه لأحد، ونسبه الرازي للمعتزلة، وممن نصر هذا القول من المتأخرين الشيخ: عبد الله الحمود – رحمه الله – رئيس محاكم قطر سابقاً، وكتب فيه رسالة أسماها (إتحاف الأوفياء برسالة الأنبياء)، ورد عليه الألباني وحمود التويجري، وعبد العزيز الرشيد رحمهم الله.
والفرق بين النبي والرسول متحقق لدلالة قول الله تعالى: (وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته...) الآية
وقوله تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي) وقوله: (فآمنوا بالله ورسوله النبي) وقوله تعالى عن بعض أنبيائه: (وكان رسولاً نبياً) .
ولما في الصحيحين من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل اللهم إني أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذى أنزلت ونبيك الذى أرسلت.
فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة واجعلهن آخر ما تتكلم به).
قال البراء بن عازب: فرددتها على النبي صلى الله عليه وسلم فلما بلغت اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت قلت: ورسولك، قال: (لا، ونبيك الذي أرسلت).
ولدلالة حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين في حديث الشفاعة الطويل وفيه أن الناس يأتون نوحاً فيقولون له: أنت نوح أول الرسل إلى أهل الأرض). وقد علم بنص الحديث أن آدم عليه السلام نبي مكلم.
ولدلالة حديث أبي ذر في بيان عدة الأنبياء والمرسلين ، وفي ثبوته نزاع بين أهل العلم

فالفرق بين النبي والرسول متحقق.
وجواب هذه المسألة يتبين ببيان أمرين:
الأمر الأول: أن الرسالة أخص من النبوة فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، وهذا قول جماهير العلماء لم يخالف فيه إلا قلة
قال القاضي عياض (ت:544هـ): (والصحيح و الذي عليه الجمع الغفير أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا)
وقال البيهقي (ت:458هـ): (فكل رسول نبي و ليس كل نبي رسولا).
وقال البغوي (ت:516هـ): (وكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا).
وقال ابن عطية (ت:542هـ): (الرسول أخص من النبي ، وكثير من الأنبياء لم يرسلوا، وكل رسول نبي)
وقال ابن الأثير: (الرسول أخص من النبي لأن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد علم أن كل رسول نبي، وكل نبي ولي، ولا ينعكس).
قال ابن كثير: (مقام الرسالة أخص من مقام النبوة فإن كل رسول نبي ولا ينعكس).
وقال ابن حزم: (أفضل الإنس والجن الرسل ثم الأنبياء على جميعهم من الله تعالى ثم منا أفضل الصلاة والسلام ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الصالحون).
وكلام العلماء في هذا المعنى مستفيض، بل قد نقل بعضهم الإجماع عليه.
وهو يدلك على وجود فرق بين الرسول والنبي، وإن اختلف في تحديده.
فلو فهم الطالب أن الرسالة منزلة أخص وأفضل من منزلة النبوة كفاه ذلك وإن لم يعلم حدود ما يتميز به الرسول عن النبي.

الأمر الثاني: بيان الفرق بين مطلق الإرسال ومنزلة الرسالة
فمطلق الإرسال حاصل للأنبياء كلهم كما دل عليه قول الله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فإن الآيات الدالة على نبوة الأنبياء دلت على أنهم معصومون فيما يخبرون به عن الله عز وجل فلا يكون خبرهم إلا حقا وهذا معنى النبوة، وهو يتضمن أن الله ينبئه بالغيب وأنه ينبىء الناس بالغيب والرسول مأمور بدعوة الخلق وتبليغهم رسالات ربه
ولهذا كان كل رسول نبيا وليس كل نبى رسولا وإن كان قد يوصف بالإرسال المقيد في مثل قوله: ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى القى الشيطان فى أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم) ).

ويدل على ثبوت قدر من الإرسال للأنبياء ما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ، و ينذرهم شر ما يعلمه لهم)
فهذا حق واجب على جميع الأنبياء لم يستثن منه أحد منهم.
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في حديث الشفاعة أن الناس يأتون نوحاً فيقولون له: (يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض) فعلم بذلك أن نوحاً عليه السلام أول الرسل.
ونبوة آدم عليه السلام ثابتة، بل هو نبي مكلَّم كما في حديث أبي ذر وأبي أمامة في المسند والمستدرك وغيرهما
وتكليم الله تعالى لآدم ثابت بنص القرآن، ولا بد له ولمن معه من شرع يتعبدون الله تعالى به كما قال الله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) وقد قال الله تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) واتباع الهدى هو امتثال ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه وهو معنى الشريعة.
وهذا يقتضي أنه أمر بتبليغ ذلك الهدى زوجه وذريته، ومع ذلك فهو نبي مكلم وليس برسول لدلالة حديث أبي هريرة.
ونظير هذه المسألة مسألة الإيمان والإسلام فمع أن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم بمؤمن إلا أنه لا بد في الإسلام من قدر من الإيمان يصح به، وإلا فلو انتفى الإيمان جملة عن العبد لانتفى عنه الإسلام جملة.

إذا تبين ذلك فليعلم أن العلماء قد اختلفوا في مسألة الفرق بين الرسول والنبي على أقوال أشهرها خمسة أقوال:
القول الأول: أن الرسول من أوحي إليه وأمر بالتبليغ، والنبي من أوحي إليه ولم يؤمر بالتبليغ ،
وهذا القول عليه جمهور أهل العلم، ولم يكن يُعبَّر عنه في أول الأمر هذا التعبير، وقد سبب هذا التعبير إشكالاً وفُهم على غير مراد من أطلقه في أول الأمر
وأول من علمته عبر هذا التعبير أبو سليمان الخطابي (ت:388 هـ) إذ قال: ( والفرق بين النبي والرسول أن الرسول هو المأمور بتبليغ ما أنبئ وأخبر به ، والنبي هو المخبر ولم يؤمر بالتبليغ ، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا).
واشتهر هذا التعبير وتداوله أهل العلم في كتبهم لا سيما شراح الأحاديث ومن ينقل عنهم
قال البيهقي(ت:458هـ): (و النبوة اسم مشتق من النبأ و هو الخبر إلا أن المراد به في هذا الموضع خبر خاص و هو الذي يكرم الله عز و جل به أحدا من عباده فيميزه عن غيره بإلقائه إليه و يوقفه به على شريعته بما فيها من أمر ونهي ووعظ وإرشاد ووعد ووعيد فتكون النبوة على هذا الخبر والمعرفة بالمخبرات الموصوفة فالنبي صلى الله عليه و سلم هو المخبر بها فإن انضاف إلى هذا التوقيف أمر بتبليغه الناس و دعائهم إليه كان نبيا ورسولا
و إن ألقي إليه ليعمل به في خاصته و لم يؤمر بتبليغه و الدعاء إليه كان نبيا و لم يكن رسولا فكل رسول نبي و ليس كل نبي رسولا).

وهذا القول في أصله مأثور عن مجاهد بن جبر فيما رواه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما ذكره السيوطي في الدر المنثور ، وهو موجود في التفسير المطبوع باسم تفسير مجاهد ، وهو الذي يرويه عبد الرحمن بن الحسن الهمذاني وجادة عن إبراهيم بن ديزيل الحافظ أنبأنا آدم بن أبي إياس، قال أنبأنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: (رسولاً نبياً) قال: النبي هو الذي يُكَلَّم ويُنْزَلُ عليه ولا يُرْسَلُ ، والرسولُ هو الذي يُرسَل).
وقال الفراء: (فالرسول النبىّ المرسل، والنبى: المحدَّث الذى لم يُرسَل).
وقال ابن جرير في آية الحج: (فتأويل الكلام: ولم يرسل يا محمد من قبلك من رسول إلى أمة من الأمم، ولا نبيّ محدث ليس بمرسل...)
فهذا أصل هذا القول، لكن تعبير الخطابي ومن تبعه كان هو منشأ الإشكال، ومع ذلك احتمله الجمهور إذ كان الأصلان السابقان متقررين
ومن أهل العلم من رد هذا التعبير إذ فهموا من قولهم: (لم يؤمر بالتبليغ) النفي المطلق
وفرَّع بعضهم عليه لوازم باطلة ليست مرادة لأصحاب هذا القول
وهذا الأمر مما ينبغي لطالب العلم التفطن له، وله نظائر في المسائل العلمية، وهو أن أقوال أهل العلم التي يذكرونها لتوضيح بعض المسائل أو التعبير عن بعض الأقوال بعبارات جامعة مما يقع فيه الاجتهاد لإصابة المعنى المراد ثم قد يكون في تعبيرهم عموم غير مراد إذ ألفاظ العلماء ليست كألفاظ الوحي.
وطالب التحقيق في هذه المسائل ينبغي له النظر في أصول الأقوال ونشأتها وعبارة العلماء عنها ليضع الأقوال مواضعها، فإن الغالب عليهم أنهم إنما يترجمون عن معان مقررة بعبارات تبينها وتوضح المراد منها حسب اجتهادهم، ويقع في تلك الألفاظ ما لهم فيه مراد وقد يفهمه بعضهم على غير مرادهم.
فلا ينبغي لطالب العلم أن يحمله الخطأ في التعبير عن القول – إن وجد – على رده جملة.
فانظر الفرق بين كلام مجاهد والفراء والطبري وكلام الخطابي والبيهقي ومن تبعهم
بل انظر الفرق بين كلام البيهقي وما اشتهر لدى أهل العلم أن الرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، والنبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه.
فقول البيهقي: (ليعمل به في خاصته) دليل على وجود قدر من التبليغ يؤمر به النبي
فبذلك تعلم أن مراد الخطابي والبيهقي هو مراد من تقدم لكنهم أرادوا تفسير لفظ الإرسال بما يبينه لئلا يكرر اللفظ ، والتبليغ هو مقتضى الإرسال كما قال تعالى: (وما على الرسول إلا البلاغ المبين) ففسروا اللفظ بمقتضاه
فقولهم: (وأمر بتبليغه) هو معنى قول من تقدم (وأرسل) لأن الأمر بالتبليغ هو مقتضى الإرسال.
فليس المراد من قولهم: (ولم يؤمر بتبليغه) نفي مطلق الإرسال، وإنما المراد نفي مقتضى ما تختص به منزلة الرسالة عن منزلة النبوة.
فإن منزلة الرسالة تقتضي تميز (الرسول) برسالة لا يشترك معه فيها (النبي)، وهذا هو القدر المنفي عن النبي في قول العلماء، ولم يريدوا نفي الإرسال عنه جملة.

القول الثاني: أن الرسول هو الذي يأتيه جبرئيل بالوحي عياناً وشفاهاً، والنبي هو الذي تكون نبوّته إلهاماً أو مناماً
وهذا قول الثعلبي في تفسيره، وتبعه الواحدي والبغوي والخازن، وحكاه الماوردي في تفسيره قولاً، ولم يعزه لأحد، وكذلك فعل أبو المظفر السمعاني.

وهذا القول في التفريق لا يصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نبئ بنزول (اقرأ باسم ربك الذي خلق)
وأما قول عائشة رضي الله عنها في الصحيحين: (كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصدقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح).
فالمراد به مقدمات النبوة ، لا النبوة نفسها.
فإن بدء النبوة كان بنزول قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق).
قال النووي نقلاً عن القاضي عياض وغيره من العلماء: (إنما ابتدىء صلى الله عليه و سلم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك ويأتيه صريح النبوة بغتة فلا تحتملها قواه البشرية)
وبنحوه قال غير واحد من أهل العلم رحمهم الله تعالى.

القول الثالث: أن الرسول من أنزل معه كتاب والنبي غير الرسول من لم ينزل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله، وهذا قول الزمخشري في تفسيره، واختاره النسفي.

القول الرابع: الرسول من أرسل إلى قوم مخالفين ليبلغهم رسالة الله ، والنبي من كان يعمل بشريعة من قبله ، ولم يرسل إلى أحد ليبلغه رسالة الله، وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية، نص عليه في رسالة النبوات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : (فالنبي هو الذي ينبئه الله ، وهو ينبئ بما أنبأ الله به ، فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول ، وأما إذا كان إنما يعمل بالشريعة قبله ، ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول).
وكلام شيخ الإسلام يشكل عليه نبوة آدم عليه السلام، وكذلك اشتراط المخالفة في الرسالة إذ لا أعلم عليه دليلاً ، وإن كان دليله استقراء أحوال الرسل والأنبياء على ما ذكر في النصوص، فيقال: قد دل النص على أن لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن، والعداوة تقتضي المخالفة وتدل عليها باللزوم، وكذلك المقاتلة كما في قوله تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير).
لكن قوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواًَ شياطين الإنس والجن...) أصرح في الدلالة لشمولها جميع الأنبياء.

القول الخامس: الرسول من أوحي إليه بشريعة جديدة يدعو الناس إليها، والنبي من بعث لتقرير شرع سابق
وهذا القول ذكره عبد القاهر بن طاهر البغدادي حكاية عن اعتقاد الأشاعرة، واختاره البيضاوي وأبو السعود
وقد حكاه قولاً أبو المظفر السمعاني وأبو حيان.
لكن البغدادي ذكر أن آدم عليه السلام هو أول الرسل.
والبيضاوي أيضاً خالف هذا القول في موضع آخر من تفسيره كما نبَّه إليه العاملي في الكشكول.
قال البيضاوي في تفسير سورة مريم في شأن إسماعيل عليه السلام:( { وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً } يدل على أن الرسول لا يلزم أن يكون صاحب شريعة ، فإن أولاد إبراهيم كانوا على شريعته).


هذه الأقوال الخمسة هي أشهر الأقوال في هذه المسألة، وفيها أقوال أخرى غير مشتهرة.
والقول الصحيح هو القول المأثور عن مجاهد رحمه الله، وهو ما قاله الفراء وابن جرير وعليه جمهور أهل العلم لولا ما أثير من الإشكال حول ذلك التعبير الشائع، وقد علمت جوابه.

وأما التفريق بينهما بكون النبي دعوته سرية والرسول دعوته جهرية فيشكل عليه ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أني لا أعلم قائلاً به من المتقدمين
الأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رسولاً حتى زمن الدعوة السرية كما يدل عليه حديث عمرو بن عبسة.
الأمر الثالث: أن آدم عليه السلام نبي ولم تكن دعوته سرية.


والله تعالى أعلم.


  #10  
قديم 30 ربيع الأول 1432هـ/5-03-2011م, 04:13 PM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 6,511
افتراضي إجابات على أسئلة طلاب العهد / الشيخ عبد العزيز الداخل

السؤال الثالث : هل المقصود أن النبي .. مأمور بتبليغ خاصته أي قومه المحيطين به .. كقريته
والرسول .. مأمور بالتبليغ لمن هم أوسع من ذلك ...

الجواب : المقصود أن رسالة الرسول أعم من رسالة النبي ، وأن جميع الأنبياء مأمورون بقدر من التبليغ
لكنا لا نملك دليلاً على تحديد هذا القدر هل هو أهله وقرابته؟ أم هل هم طائفة ممن بعث فيهم من أهل رسالة سابقة ؟



السؤال الرابع : ما معنى قُطع على أهل المدينة بعث فاكتتبت فيه ..
الجواب : أي جُهِّز جيش لغزو المدينة فسُجِّلَ اسمه في ذلك الجيش، وكان ذلك في عهد يزيد بن معاوية.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الأصل, الثالث

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:16 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir