قال:
الباب الثالث: المسند
أقول: أخره عن المسند إليه لأنه فرع عنه ومسوق لأجله، لأن المسند إليه محكوم عليه، والمسند حكم، والثاني مؤخر عن الأول.
والمقصود من هذا الباب بيان الأحوال العارضة للمسند من حيث كونه مسندا، كالحذف والذكر وغير ذلك.
قال:
يحذف مسندٌ لما تقدما = والتزموا قرينةً لِيُعْلَما
أقول: يتعلق (بالمسند) أبحاث، البحث الأول في (حذفه)، ويكون للنكت الماضية في حذف المسند إليه، فمنها الاحتراز عن العبث أي الإتيان بما لا فائدة فيه للعلم به نحو: زيد في جواب من قام، وقوله:
ومن يك أمسى بالمدينة رحله = فإني وقيار بها لغريب
(الرحل): هو المنزل والمأوى و(قيار) اسم فرس للشاعر، وهو ضابئ بن الحرث (فالمسند) إلى قيار محذوف لدلالة خبر ما قبله عليه، ولضيق المقام بسبب التوجع والاختصار، ولحفظ الوزن أيضاً، ومن ذلك ﴿قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي﴾ والأصل لو تملكون تملكون فحذف الفعل احترازاً عن العبث لوجود المفسر فانفصل الضمير، وليس أنتم مبتدأ وما بعده خبر بل فاعل لفعل محذوف كما رأيت، لأن لو لا تدخل على الاسم، ويشترط (للحذف قرينة) تدل على المحذوف كوقوع الكلام جواباً لسؤال محقق أو مقدر فالأول نحو ﴿ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله﴾ أي خلقهن الله، (فحذف المسند) بدليل التصريح به في الآية الأخرى في قوله ﴿ليقولن خلقهن العزيز العليم﴾ فهو فاعل لا مبتدأ، والثاني نحو
ليبك يزيد ضارع لخصومة = ومختبط مما تطيح الطوائح
و(المختبط) الذي يأتي إليك للمعروف من غير وسيلة، و(تطيح) من الإطاحة وهي الإذهاب والإهلاك، (فالطوائح) جمع مطيحة على غير قياس (فمختبط) معطوف على ضارع، ومقصود الشاعر أنه ينبغي أن يبكي على (يزيد) رجلان ذليل لكونه الناصر له، وفقير أصابته حوادث الزمان فأهلكت ماله وأذهبته، لأنه كان ناصر كل ذليل وجابر فقر كل فقير، وهذا على قراءة ليبك بصيغة المبني للمجهول، ولو قرئ بصيغة المبني للفاعل، ويزيد مفعول مقدم، و(ضارع) فاعل مؤخر لم يكن مما نحن بصدده.
قال:
وذِكْرُه لِمَا مَضى أَوْ لِيُرى = فِعْلاً أَوِ اسْماً فَيُفيدُ المُخْبَرا
أقول: البحث الثاني في (ذكره)، وذلك للنكت الماضية في ذكر المسند إليه من كون (الذكر) الأصل مع عدم المقتضي للعدول عنه.
ومن الاحتياط لضعف التعويل على القرينة.
ومن التعريض بغباوة السامع وغير ذلك نحو: جاء زيد في جواب من جاء؟
ويراد هنا أنه (يذكر) ليرى أي يعلم أنه فعل، (فيفيد) التجدد والحدوث، أو (اسم) فيفيد الثبوت، (فيفيد المخبَر) بفتح الباء أي السامع فائدة زائدة على ما تقدم، لأنه إذا حذف لا يدري هل هو اسم أو فعل، مثال الأول زيد قائم، فهذه الجملة تدل على ثبوت القيام لزيد لأن أصل الاسم مشتقاً كان أو لا الدلالة على الثبوت لعدم دلالته على الاقتران بالزمان، ومثال الثاني: زيد قام، فإنها تدل على تجدد القيام وحدوثه لزيد لدلالة الفعل على الاقتران بالزمان، فلو كان المسند ظرفاً نحو: الفوز لمن رضي عنه مولاه احتمل الثبوت والتجدد بحسب المتعلق، أي حاصل أو حصل، فإن قلت: المشهور أن الجملة الاسمية تدل على الثبوت، فكيف جعلتها في نحو: زيد قام دالة على الحدوث؟ قلت: دلالتها على الحدوث باعتبار أحد جزءيها وهو الفعل : أي الدال على الحدوث الفعل وأما الجملة فهي دالة على ثبوت نسبة المسند المتجدد معناه، فالقيام متجدد وحصوله لزيد ووصفه به ثابت مستقر.
قال:
وأفردوهُ لانعدامِ التقوِيَةْ = وَسَبَبٍ كَـ"الزهدُ رأسُ التزكيةْ"
أقول: البحث الثالث في (إفراده): أي كونه اسما مفردا، (والمفرد) عند النحاة يطلق على معانٍ ففي باب الإعراب ما ليس مثنى ولا مجموعاً وفي باب العلم ما ليس مركباً، وفي باب لا والمنادى ما ليس مضافا ولا شبيها به، وفي باب الخبر ما ليس جملة ولا شبيها وهو المراد هنا، فيؤتى به اسماً مفرداً لعدم إفادة تقوية الحكم، وكونه غير سببي نحو زيد قائم، ومنه مثال المصنف وإنما كان (الزهد رأس التزكية): أي الخلوص من الكدرات لاستعداد صاحبه للحضرة الإلهية فإن أريد (التقوية) أو كان سببا أتى به جملة كما سيأتي، والسببي جملة علقت على مبتدأ بعائد غير مسند إليه فيها، فخرج المسند في نحو زيد منطلق أبوه لأنه مفرد، وفي نحو ﴿قل هل الله أحد﴾ لعدم العائد، وفي نحو زيد قام لأن العائد مسند إليه.
قال:
وَكَونُهُ فِعْلاً فَلِلتقييدِ = بِالوَقْتِ مَعْ إِفادَةِ التَّجْديدِ
وَكَوْنُهُ اسْماً لِلثّبوتِ والدَّوامْ = ................
أقول: المسند المفرد يكون فعلاً ويكون اسماً، أما الأول (فللتقييد) بأحد الأزمنة الثلاثة الماضي والحال والاستقبال على أخصر وجه لدلالة الفعل على الزمان بصيغته ولا يتأتى ذلك في (الاسم إلا بقيد أمس) أو الآن أو غدا مع (إفادة التجدد) والحدوث أي التكرار والوقوع مرة بعد أخرى للزوم ذلك للزمان الذي هو جزء مفهوم للفعل، ولازم الجزء لازم الكل، إذ الزمان عرض غير قار الذات: أي لا تجتمع أجزاؤه في الوجود كقوله:
أوكلما وردت عكاظ قبيلة = بعثوا إلى عريفهم يتوسم
أي يصدر عنه تفرس الوجوه وتأملها شيئاً فشيئاً ولحظة فلحظةً، وأما الثاني فلعدم ما ذكر من (التقييد والتجدد وإرادة الثبوت والدوام) لأغراض تتعلق بذلك كقوله:
لا يألف الدرهم المضروب صرتنا = لكن يمر عليها وهو منطلق
يعني الانطلاق من الصرة ثابت (للدرهم) من غير اعتبار تجدد.
قال:
وَقَيَّدوا كَالفِعْلِ رَعْياً لِلتَّمامْ
وَتَركوا تَقييدَهُ لِنُكْتَةِ = كَسُتْرَةٍ أَوِ انْتهازِ فُرْصَةِ
أقول: (البحث الرابع في تقييده) سواء كان اسماً أو فعلاً يعمل عمله بواحد من المفاعيل الخمسة، أو شبهها كالحال والتمييز والاستثناء، وذلك لتتميم الفائدة وتقويتها، لأنه كلما ازداد خصوصاً زاد بعدا عن الاحتمال، وكلما بعد عن الاحتمال قويت الفائدة، فإن قولك: ضربت زيداً أخص من ضربت وأقوى فائدة وكذا ضربته ضراً شديداً أخص من الفعل وحده لإفادة نوع من الضرب، وقس بقية (المقيدات) فقوله كالفعل: أي شبه الفعل: أي الفعل وشبهه من اسم فاعل أو مفعول أو غير ذلك من كل ما يعمل عمله، ولم يبين المقيد به للعلم به من علم النحو ويستثنى من شبه المفعول به خبر كان في نحو كان زيد قائماً فإن (التقييد) به ليس لتمام الفائدة لعدمها بدونه لأنه هو المسند فهو ليس (قيداً) للفعل بل مقيد به فالمعنى (تقييد) نسبة القيام لزيد بالزمان الماضي المدلول لكان فقط، وإن دلت وضعا على الحدث ففي كل من الفعل وخبره فائدة مفقودة في الآخر، فإن الأول يدل وضعا على حدث مطلق يعينه خبره، والثاني يدل عقلا على زمن مطلق يعينه الفعل.
وأما (ترك تقييده) فلأمور:
منها (ستر القيد) من زمان الفعل أو مكانه أو سببه أو نحو ذلك عن المخاطب أو غيره من الحاضرين.
ومنها (انتهاز الفرصة) أي المبادرة أي انقضاؤها.
ومنها الجهل بالقيود.
ومنها عدم الحاجة إليها.
قال:
وَخَصّصوا بالوَصْفِ وَالإِضافَةْ = وَتَركوا لِمُقْتَضٍ خِلافَهْ
أقول: قد يكون (تقييد) المسند بالوصف كقولك أخوك رجل صالح أو (لإضافة) نحو: أخوك غلام زيد لقصد التخصيص، وقد (ترك تقييده) لغرض اقتضى خلاف التخصيص (كستر أو انتهاز فرصة )ونحو ذلك مما تقدم من مقتضى (ترك تقييد) الفعل بمفعول ونحو ذلك.
قال:
وَكَوْنَهُ مُعَلَّقاً بِالشَّرْطِ = فَلِمعاني أَدَواتِ الشَّرْطِ
أقول: قد (يقيد) المسند بالشرك لتحصيل معنى أداته نحو: إن تكرمني أكرمك ففيه (تقييد) إكرام المتكلم بإكرام المخاطب المفاد بإن، لأن (الشرط قيد) في الجزاء مع الإشعار بأنه سبب فيه، ولما دعت الحاجة إلى معاني أدوات (الشرط) تكلم عليها أهل (المعاني) وإن كانت من مباحث علم النحو، وأكثر ما وقع بحثهم على (معاني) إذا وإن ولو وبيان ذلك في الأصل وشرحه.
قال:
وَنَكَّروا اتّباعاً اوْ تفخيما = حَطّـاً وَفَقْدَ عَهْدٍ اوْ تعميما
أقول: البحث الخامس في (تنكير المسند)، وأسباب (تنكيره) كثيرة منها إتباع المسند إليه في (التنكير) نحو رجل من الكرام حاضر، إذ لا يكون المسند معرفة مع (تنكير) المسند إليه إلا في نحو كم مالك؟ ومنها (التفخيم) نحو ﴿هدى للمتقين﴾ ومنها (الحط) أي التحقير نحو ما زيد شيئاً ومنها أن لا يكون (معهودا) نحو زيد شاعر ومنها إرادة (التعميم) بأن لا يكون خاصاً بالمسند إليه كهذا المثال.
قال:
وَعَرَّفوا إِفادَةً لِلْعِلْمِ = بِنِسْبَةٍ أَوْ لازمٍ لِلْحُكْمِ
أقول: البحث السادس في (تعريفه) فيؤتى به معرفة ليستفيد السامع العلم بأن ذلك المسند المعلوم حاصل لذلك المسند إليه المعلوم له، إذ لا يلزم من (العلم) بالطرفين العلم بنسبة أحدهما للآخر، فإذا كان السامع يعلم زيداً ويعلم أن له أخاً ولا يعرف اسمه، فقيل له زيد أخوك حصل له (العلم) بالنسبة التي كان يجهلها ولا يشترط اتحاد طريق تعريفهما بل تغاير المفهومين ولذلك أول نحو: شعري شعري بشعري الآن مثل شعري الماضي المشهور بالحسن، ويؤتى به معرفة أيضاً لإفادة السامع العلم بأن المتكلم عالم بلازم الحكم كقولك زيد أخوك لمن يعلم أنه أخوه (لتفيده) أنك عالم بذلك (فلازم) معطوف على (نسبة).
قال:
وَقَصَروا تحقيقاً اوْ مُبالَغَةْ = بِعَرْفِ جِنْسِهِ كَـ"هِنْدٌ البالغةْ"
أقول: المسند قد يعرف لقصد (قصره) على المسند إليه تحقيقاً كقولك زيد الأمير إذا لم يكن أمير غيره، أو (مبالغة) كقولك زيد الفقه أي الكامل في الفقه كأنك لم تعتد بفقه غيره، ومنه مثال المصنف.
قال:
وجملة لِسَبَبٍ أَوْ تَقْوِيَةْ = كـ"الذكرُ يهدي لطريقِ التصفيةْ"
أقول: البحث السابع في كون المسند جملة، وذلك إما لكونه (سببا) أو مشتملا على (السبب) وهو ضمير المسند إليه، لأنه (سبب) لربط الجملة به نحو زيد قام أبوه، وإما (لتقوية )الحكم بنفس التركيب أي لا بالتكرير والأداة نحو أنا قمت، ومنه مثال المصنف، ولا يشترط في الجملة أن تكون خبرية، وجملة معطوف على معلقا.
قال:
واسمية الجملة والفعلية = وشرطها لنكتة جلية
أقول: (اسمية الجملة وفعليتها وشرطيتها) لما مضى من أن (الاسمية) للدوام والثبوت، و(الفعلية) للتجدد والحدوث، و(الشرطية) للاعتبارات المختلفة الحاصلة من أدوات الشرط إلى آخر ما تقدم.
قال:
وأخروا أصالة وقدموا = لقصْر ما به عليه يُحْكَمُ
تنبيهٍ اوْ تفاؤلٍ تشوُّفِ = كَـ"فازَ بالحضرةِ ذو تصوُّفِ"
أقول: البحث الثامن في (تقديمه وتأخيره)، (فتأخيره) للأصل، وينبغي إذا كان ذكر المسند إليه أهم، و(تقديمه) إما (لقصره) على المسند إليه نحو ﴿لا فيها غول﴾ بخلاف خمر الدنيا ولذا لم يقدم في قوله ﴿لا ريب فيه﴾ بان يقال لا فيه ريب لئلا يفيد ثبوت الريب في سائر كتب الله تعالى أو للتنبيه على أنه خبر من أول وهلة لا نعت نحو:
إذ لو قيل (همم) له توهم أنه نعت لشدة طلب النكرة للنعت.
أو( للتفاؤل) نحو: سعدت بغرة وجهك الأيام
أو لتشوق النفس إلى ذكر المسند إليه بأن يكون في المسند طول يقتضي ذلك نحو:
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها = شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر
ومنه مثال المتن، وتقدم الكلام عليه.