دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم اللغة > متون علوم اللغة العربية > الأدب > بانت سعاد

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 20 محرم 1430هـ/16-01-2009م, 04:59 PM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي (تابع) شرح جمال الدين محمد بن هشام الأنصاري

وقالَ رَحِمَه اللهُ تعالى ورَضِيَ عنه:
9- ولا تَمَسَّكُ بالعَهْدِ الذي زَعَمَتْ = إلا كما يُمْسِكُ الماءَ الغَرابيلُ
قولُه: " ولا تَمَسَّكُ " عَطْفٌ على " فما تَدومُ " وتَمَسَّكُ: إمَّا بضَمِّ التاءِ وكَسْرِ السينِ الْمُشَدَّدَةِ مُضارِعُ " مَسَّكَ " بالتشديدِ، وإمَّا بفَتْحِها مُضارِعُ " تَمَسَّكَ " والأَصْلُ تَتَمَسَّكُ، فحُذِفَتْ إحدى التاءَيْنِ، يُقالُ: مَسَّكَ بالشيءِ، وتَمَسَّكَ به، وأَمْسَك، واسْتَمْسَكَ، بمعنًى . وقُرِئَ: { وَلَا تُمَسَّكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } بضَمِّ التاءِ وفَتْحِ الميمِ. وتُمْسِكُوا بضَمِّ التاءِ وسكونِ الميمِ، وقُرِئَ في غيرِ السبْعِ بفَتْحِهما، وقالَ تعالى: { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ } قيلَ: وفي التشديدِ معنى التكثيرِ، وهذا وَهْمٌ، وإنما يُفيدُ التشديدُ التكثيرَ إذا لم يكن الفعْلُ مَوضوعًا عليه، كما في " حَدَّثَ " و " خَبَّرَ " ولم يكنْ لإفادةِ تَعْدِيَةِ القاصِرِ إلى المفعولِ، كما في " فَرَّحْتُه " ولا التعَدِّي لواحدٍ إلى التَّعَدِّي لاثنينِ، كعَلَّمْتُه الْحِسابَ، ومِثالُ ذلك: قَتَّلْتُ وكسَّرْتُ وحَوَّلْتُ وطَوَّفْتُ.
وقولُه: " زَعَمَتْ " إمَّا بمعنى: تَكَفَّلَتْ ومَصْدَرُه : الزعْمُ، بالفَتْحِ، والزَّعامةُ، والتقديرُ: الذي زَعَمَتْ به، كما قالَ تعالى: { وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } وقولِه: ( البحر الطويل ).
تَقولُ هَلَكْنَا إن هَلَكْتُ وإنما = على اللهِ أرزاقُ العِبادِ كما زَعَمْ
وإمَّا بمعنى " قالَتْ " ومَصدَرُه: الزَّعْمُ، مُثَلَّثُ الفاءِ، وهو قولٌ يَدَّعِيهِ الْمُدَّعِي، مُحْتَمِلٌ للحَقِّ والباطلِ، وغَلَبَ استعمالُه في الباطلِ، ومنه: { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا }، { فَقَالُوا هَذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ } ومِن استعمالِه في الْحَقِّ قَولُ أبي طالِبٍ يُخاطِبُ سَيِّدَنَا رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ( البحر الكامل ).
ودَعَوْتَنِي وزَعَمْتَ أنَّك ناصِحٌ = ولقد صَدَقْتَ وكنتَ ثَمَّ أَمِينَا
وقولُ كُثَيِّرٍ : ( البحر الطويل )
وقد زَعَمَتْ أني تَغَيَّرْتُ بَعْدَها = ومَن ذا الذي يا عَزُّ لا يَتَغَيَّرُ
تَغَيَّرَ جِسْمِي والْخَليقَةُ كالتي = عَهِدْتُ ولم يُخْبِرْ بسِرِّكِ مُخْبِرُ
وقولُ سِيبويهِ: وزَعَمَ الخليلُ، وإنما يقولُ ذلك إذا كان الخليلُ قد خُولِفَ في ذلك القولِ، وكان الراجِحُ قولَه، والتقديرُ على هذا الوجهِ: الذي زَعَمَتْ أنها تَفِي به، أو الذي زَعَمَت الوفاءَ به واقِعًا، والأَوَّلُ أَوْلَى؛ لأن صاحِبَ " العينِ " ذَكَرَ أنَّ الغالِبَ وُقوعُ " زَعَمَ " على أنَّ وَصِلَتِها، وأنَّ وُقوعَه على الاسمينِ خاصٌّ بالشِّعْرِ كقولِه: ( البحر الخفيف )
زَعَمَتْنِي شيخًا ولستُ بشيخٍ = إنما الشيخُ مَن يَدِبُّ دَبِيبًا
وقالَ تعالى: { أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } أي: أنهم شُركاءُ، وهذا أَوْلَى مِن أن يكونَ التقديرُ: تَزعمونَهم شُرَكَائِي؛ ولأنه قد جاءَ في مَكانٍ آخَرَ: { وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ }.
وقولُه: " كما " الكافُ: جَارَّةٌ، وما: مَصدرِيَّةٌ، وهي وَصِلَتُها في مَوضِعِ جَرٍّ، والجارُّ والمجرورُ: إمَّا حالٌ مِن ضميرِ مَصْدَرِ تَمَسَّكُ، أي: وما تُمْسِكُه إلا مُشَبَّهًا لهذا الإمساكِ، وإما نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ محذوفٍ، أي: إلا تَمَسُّكًا كهذا الإمساكِ، وهذا الاستثناءُ نَظيرُ الغايةِ في قولِه تعالى: { حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } وقولِهم: حتى يَبْيَضَّ القارُّ، وحتى يَؤُوبَ القارظانِ، وهما رجُلانِ مِن عَنْزَةَ خَرَجَا يَجْنِيانِ القُرْظَ، فلم يَرْجِعا.
وقد كَثُرَ وَصْفُهم النساءَ بالإخلافِ، ومنه قولُ ابنِ السَّرَّاجِ النحويِّ: ( البحر الكامل ).

مَيَّزْتُ بينَ جَمَالِها وَفِعَالِها = فإذا الْمَلاحةُ بالْخِيانةِ لا تَفِي
حَلَفَتْ لنا أن لا تَخونَ عُهُودَنا = فكأنها حَلَفَتْ لنا أن لا تَفِي
وقولُ الآخَرِ: ( البحر الطويل )
وإن حَلَفَتْ لا يَنْقُضُ النأيُ عَهْدَها = فليس لِمَخضوبِ البَنانِ يَمِينُ
وقولُ الحارِثِ بنِ عُمرَ الكِنديِّ: ( البحر الخفيف )
كلُّ أُنْثَى وإِنْ بَدَا لَكَ مِنْهَا = آيةُ الحبِّ حُبُّها خَيْتَعُورُ
أي: مُضْمَحِلٌّ، وهو بالخاءِ الْمُعْجَمَةِ، والعينِ المهمَلَةِ، بينَهما مُثَنَّاةٌ مِن تحتُ، ثم مُثَنَّاةٌ مِن فوقُ.
قالَ رَحِمَه اللهُ تعالى ورَضِيَ عنه آمينَ:
10- فلا يَغُرَّنَّكَ ما مَنَّتْ وما وَعَدَتْ = إنَّ الأمانِيَّ والأحلامَ تَضليلُ
الفاءُ: لِمَحْضِ السببيَّةِ، كالواقِعَةِ في جوابِ الشرْطِ؛ لأن ما قَبْلَها خَبَرٌ، وما بعدَها طَلَبٌ، وَعَطْفُ أحدِهما على الآخَرِ مُمْتَنِعٌ على الصحيحِ، ومِثلُه: زَيدٌ كاذبٌ فلا يُغْتَرُّ بقولِه، ولا ناهيةٌ فالفِعْلُ بعدَها في مَوضِعِ جَزْمٍ، ولكنه مَبْنِيٌّ لنُونِ التوكيدِ الْمُبَاشِرَةِ، وقيلَ: لا تُشْتَرَطُ الْمُباشَرَةُ، فنحوَ: لتُبْلَوُنَّ مَبْنِيٌّ أيضًا، وقيلَ: الجميعُ مُعْرَبٌ تَقديرًا، والمختارُ الأَوَّلُ، ونونُ التوكيدِ الخفيفةُ بِمَنْزِلَةِ إعادةِ الفِعلِ ثانيًا، والشديدةُ بِمَنْزِلَةِ إعادتِه ثانيًا وثالثًا، قالَه الخليلُ، وليست الخفيفةُ مُخَفَّفًةً مِن الشديدةِ، خِلافًا للكُوفِيِّينَ، وتوكيدُ الفِعلِ بعدَ " لا " جائزٌ في النَّثْرِ باتِّفاقٍ، إن كانتْ ناهيةً نحوَ: { وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا } وقولِ كعبٍ: فَلَا يَغُرَّنَّكَ، وخاصٌّ بالشعْرِ عندَ الْجُمهورِ إن كانت نافيةً كقولِه: ( البحر البسيط ).
تاللهِ لا يُحْمَدَنَّ المرءُ مُجْتَنِبًا = فِعلَ الكِرامِ وإن فاقَ الوَرَى حَسَبَا
وأَجازَه ابنُ جِنِّي وابنُ مالِكٍ وغيرُهما في النَّثْرِ تَمَسُّكًا بظَاهِرِ قولِ اللهِ تعالى: { ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ } { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً }.
والكافُ مفعولٌ قُدِّمَ وُجوبًا؛ لأنه ضَميرٌ لو تَأَخَّرَ لَزِمَ انفصالُه، ومِثالُه: أَكْرَمَنِي زَيدٌ، والْخِطابُ إمَّا لغيرِ مُعَيَّنٍ مِثلُ: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُوسِهِمْ } على أَحَدِ الوَجهينِ، وإمَّا لنفسِه على طريقةِ التجريدِ، ومِثلُه: قولُك: يا نَفْسُ، وقولُ امرئِ القيسِ بنِ حَجَرٍ خِلافًا لِمَنْ غَلِطَ : ( البحر المتقارِب ).
تَطاوَلَ لَيْلُك بالأَثْمُدِ = ونَامَ الْخَلِيُّ ولم تَرْقُدِ
والأَثْمُدُ: بفَتْحِ الهمزةِ وضَمِّ الميمِ: اسمُ مَوْضِعٍ.
وقولُه: " ما مَنَّتْ " تَحْتَمِلُ " ما " أَوْجُهًا:
أحدُها: أن يكونَ موصولًا اسْمِيًّا بمعنى الذي، فمَوضِعُها رَفْعٌ على الفاعليَّةِ، وقولُ بعضِ الْمُعْرِبِينَ في مثلِ ذلك: إنها وَصِلَتَها في مَوْضِعِ رَفْعٍ. مردودٌ بظُهورِ الإعرابِ في نفسِ الموصولِ، في نحوِ: جاءَ اللذانِ قامَا، ولْيَقُمْ أيُّهُم هو أَفْضَلُ ، وقولُ بَنِي عُقَيْلٍ أو هُذَيْلٍ: جاءَ اللذونَ قاموا، وقولُ بني هُذَيْلٍ: جاءَ اللاؤون فَعَلُوا، قالَ: ( البحر الوافِر )

هم اللاؤونَ فَكُّوا الغُلَّ عَنِّي = ِمَرْوِ الشاهِجَانِ وَهُمْ جَنَاحِي
الثاني: أن يكونَ نَكِرَةً مَوصوفةً بمعنى " شيءٍ " فيكونَ أيضًا في مَوْضِعِ رَفْعٍ على الفاعليَّةِ.
والثالثُ: أن تكونَ مَصدرِيَّةً بِمَنْزِلَةِ أنَّ وأنْ، فتكونُ وَصِلَتُها في مَوْضِعِ رَفْعٍ، ولا يكونُ الْمَوْضِعُ لها وَحْدَها؛ لأنها حَرْفٌ على الصحيحِ.
ووَزْنُ مَنَّتَ " فَعَّتْ " وأَصْلُه: مَنَّيَتْ على وزنِ " فَعَّلَتْ " فتَحَرَّكَت الياءُ، وانْفَتَحَ ما قبلَها، فقُلِبَتْ ألِفًا، فالْتَقَى ساكنانِ، فحُذِفَتْ، وهو مُتَعَدٍّ لاثنينِ، قالَ الفَرزْدَقُ : ( البحر الكامل ).
فانْعِقْ بِضَأْنِكَ يَا جَرِيرُ فَإِنَّمَا = مَنَّتْكَ نَفْسُكَ في الخلاءِ ضَلالَا
وهما محذوفان في البيتِ، التقديرُ: إذا جَعَلْتَ " ما " اسمًا: مَنَّتْكَهُ، أو مَنَّتْكَ إِيَّاهُ، وإذا جَعَلْتَ حرفًا " ما " : مَنَّتْكَ الوَصْلَ أي : فلا يَغُرَّنَّكَ تَمْنِيَتُها إيَّاكَ الوَصْلَ، ولم تُقَدِّرِ الثانيَ حينئذٍ ضميرًا؛ لأن الضميرَ لا يَعودُ إلا على الأسماءِ، ولهذا اسْتُدِلَّ على اسْمِيَّةِ " مهما" و " ما التَّعَجُّبِيَّةِ " و " أل " الموصولةِ بعَودِ الضميرِ عليهنَّ في قولِه تعالى : { مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ } وقولِك: ما أَحسنَ زيدًا، وجاءني الضارِبُ ومَن زَعَمَ حَرفيَّةَ " أل " قَدَّرَ مَرْجِعَ الضميرِ مَوصوفًا مَحذوفًا.
فإن قلتَ: كيف جَوَّزْتَ تقديرَ المفعولِ الثاني على الوجهينِ الأَوَّلَيْنِ ضَميرًا منفصلًا مع أنهم نَصُّوا على امتناعِ العائدِ الْمُنْفَصِلِ، نحوَ: جاءَ الذي إيَّاهُ أَكْرَمْتُ، أو ما أَكْرَمْتُ إلا إيَّاهُ؟ قلتُ: إنما امْتَنَعَ في نحوِ: ما أَوْرَدْتُه؛ لأن حَذْفَه في الْمِثالِ الثاني مُستلزِمٌ لِحَذْفِ إلا، فيُوهِمُ نفيَ الفعلِ عن المذكورِ، وإنما المرادُ به نفيُه عمَّا عَدَّه، وأمَّا الْمِثالُ الأوَّلُ؛ فإنَّ فَصْلَ الضميرِ فيه يُفيدُ الاختصاصَ عندَ البَيانيِّ، والاهتمامَ عندَ النَّحْويِّ، فإذا حُذِفَ فإنما يَتبادَرُ الذهْنُ إلى تقديرِه مُؤَخَّرًا على الأصلِ، فيَفوتُ الغَرَضُ الذي فُصِلَ لأجْلِه، وأمَّا الضميرُ في البيتِ؛ فإنه يَسْتَوِي معناه مُتَّصِلًا ومُنْفَصِلًا، فلا يَفوتُ بتقديرِه مُتَّصِلًا غَرَضٌ، وبهذا يُجابُ عن سؤالٍ يُورَدُ في نحوِ قولِه تعالى: { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } وتقديرُه: أنه إن قُدِّرَ: ومِمَّا رَزقناهمُوهُ لزِمَ اتِّصالُ الضميرينِ الْمُتَّحِدَي الرُّتْبَةِ، وذلك قليلٌ في ضَميرِ الغَيْبَةِ، مُمْتَنِعٌ في غيرِهما، ولا يَحْسُنُ حَمْلُ التنزيلِ على القليلِ، وإن قُدِّرَ: رَزقناهمْ إيَّاهُ لَزِمَ حَذْفُ العائدِ الْمُنْفَصِلِ، والجوابُ بالثاني، وأنَّ العائدَ الْمُنْفَصِلَ لا يَمْتَنِعُ حَذْفُه على الإطلاقِ.
وقولُه: " وما وَعَدَتْ ": لك في " ما " هذه الأَوْجُهُ الثلاثةُ، ووَعَدَ أيضًا يَتَعَدَّى لاثنينِ نحوَ: { وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ } { أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا } التقديرُ أيضًا: ما وَعَدَتْكَهُ أو ما وَعَدَتْكَ إيَّاه، أو ما وَعَدَتْكَ الوَصْلَ. والوَعْدُ هنا للخَيْرِ؛ لأن الْمَوْضِعَ لا يَحتمِلُ غيرَه، وعَكْسُه: { وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ } وإذا لم قَرينةٌ، فالوَعْدُ للخيرِ، والإيعادُ للشرِّ، قالَ: ( البحر الطويل ).
وإني وإن أَوْعَدْتُه أو وَعَدْتُهُ = لَمُخْلِفُ إِيعادِي ومُنْجِزُ مَوْعِدِي
وقولُه: " إنَّ الأمانِيَّ " الروايةُ بكَسْرِ همزةِ " إنَّ " علَى أنه تعليلٌ مُستأنَفٌ، ومِثلُه في تعليلِ النهيِ: { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا } وفي تعليلِ الأمرِ: { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } { اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }. { اخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ } ، { اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } وفي تعليلِ الخبَرِ { إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } وفَتْحُ أنَّ فيهنَّ على إضمارِ لامِ العِلَّةِ جائزٌ لغةً، وقد جَاءَت الروايةُ بالوَجهينِ في آيةِ الطُّورِ، وجَوَّزَهما في قولِ الْمُلَبِّي: لَبَّيْكَ إنَّ الحمْدَ والنِّعْمَةَ لك، والكسْرُ أَرْجَحُ؛ لأن الكلامَ حِينئذٍ جُملتانِ لا جُملةٌ واحدةٌ، وتَكثيرُ الْجُمَلِ في مَقامِ الثناءِ والتعظيمِ مَطلوبٌ، ولأنَّ إطلاقَ الثناءِ أَوْلَى مِن تَقييدِه، وإنما يَلْزَمُ التقييدُ على الكَسْرِ إذا قُدِّرَ استئنافًا بَيَانِيًّا، أعني: أن يُقَدَّرَ جوابًا لسؤالٍ مُقَدَّرٍ، أمَّا إذا قُدِّرَ استئنافًا نَحْوَيًّا فلا.
والأمانِيَّ: جَمْعُ أُمْنِيَةٍ، كالأَثافِيِّ جَمْعُ أَثْفِيَةٍ، ومِثلُه الأضاحِيُّ، والأواقِيُّ وتخفيفُ يَاءَاتِهن جائزٌ، وأصلُ أُمْنِيَةٍ: أُمْنُويَةٌ " أُفْعُولَةٌ " كأُكذوبةٍ وأُعجوبةٍ، ثم قَلَبُوا وأَدْغَمُوا، ثم أَبْدَلُوا الضمَّةَ كَسرةً.
قولُه: والأحلامَ: هو جَمْعُ حُلُمٌ بضَمَّتَيْنِ، وهو ما يراه النائمُ، وفِعْلُه: حَلَمَ، بالفتحِ، بوَزْنِ رَأَى، وأمَّا الْحِلْمُ بالكسْرِ، فهو الصَّفْحُ وكَرَمُ الْخُلُقِ، وفِعْلُه: حَلُمَ بالضمِّ، مثلَ كَرُمَ؛ لأنه سَجِيَّةٌ، وأمَّا الْحَلَمُ بالفَتْحِ فهو فَسادُ الْجِلْدِ وتَفَتُّتُه، وفِعْلُه: حَلِمَ بالكسْرِ؛ لأنه وَزْنٌ يَغْلِبُ في العَاهاتِ الظاهِرَةِ كمَرِضَ وسَقِمَ، والباطنةِ كحَمِقَ ورَعِنَ، قالَ عمرُو بنُ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنه يُخاطِبُ مُعاويةَ رَضِيَ اللهُ عنه: ( البحر الوافر ).
فإنك والكتابَ إلى عَلِيٍّ = كدابِغَةٍ وقد حَلِمَ الأديمُ
قولُه: والأحلامَ عَطْفٌ على اسمِ إنَّ ، ويَجوزُ رَفْعُه، فإن قُلْتَ: إنما يُجيزُ ذلك الكِسائيُّ، وقد خالَفَه تِلميذُه الْفَرَّاءُ، فاشْتَرَطَ خَفاءَ إعرابِ الاسمِ، نحوَ: إنك وزَيدٌ ذَاهبانِ، وخَالَفَهما جميعُ البَصرِيِّينَ، فمَنَعُوا ذلك مُطْلَقًا، قلتُ: هذا مَوْضِعٌ يَكْثُرُ فيه الوَهْمُ، وإنما الْخِلافُ حيث يَتَعَيَّنُ كونُ الْخَبَرِ لاسمينِ جَميعًا، نحوَ إنك وزيدٌ ذَاهبانِ، وأمَّا نحوَ: إنَّ زَيْدًا وعمرٌو في الدارِ، فجائزٌ باتِّفاقٍ، ومنه قولُه تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ } وبيتُ كَعْبٍ إذا رَفَعَ الأحلامَ إذ التضليلُ مَصدَرٌ، فيَصِحُّ الإخبارُ به عن الواحدِ وما فَوْقَه، وإنما الْخِلافُ في تَخريجِ ذلك، فقالَ الكُوفِيُّونَ: مَعطوفٌ على مَحَلِّ الاسمِ، وقالَ البَصرِيُّونَ: هو إمَّا مُبتدأٌ حُذِفَ خَبَرُه، والجملةُ مُعترِضَةٌ بينَ اسمِ إنَّ وخَبَرِها، وإمَّا مُبتدأٌ خَبَرُه ما بعدَه، وحُذِفَ خَبَرُ " إنَّ لدَلالةِ خَبَرِ الْمُبتدأِ عليه، ويَشهَدُ للأَوَّلِ قولُه: ( البحر الطويل ) :
فمَن يَكُ أَمْسَى بالمدينةِ رَحْلُه = فإني وقَيَّارٌ بها لغَريبُ
وقَيَّارٌ: اسمٌ لفَرَسِه، بدليلِ أنَّ اللامَ لا تَدْخُلُ في خَبَرِ المبتدأِ، ويَشْهَدُ للثاني قولُه: ( البحر الطويل ):
خَلِيلَيَّ هل طِبٌّ فإني وأنتما = وإن لم تَبُوحَا بالْهَوى دَنِفَانِ
بدليلِ أنه لا يُخْبَرُ عن الواحدِ بالْمُثَنَّى، ومنه قِراءةُ بعضِهم: { إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتُهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } برَفْعِ مَلائكتِه، أي: إنَّ اللهَ يُصَلِّي، وملائكتُه يُصَلُّونَ، إذ لا يُخْبَرُ عن الواحدِ بالْجَمْعِ، وقد يُخَرَّجُ على الوجهِ الأَوَّلِ على أن يُقَدَّرَ الجمْعُ للتعظيمِ مِثلُه في :{ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ }.
وقولُه: " تَضليلُ " تَفعيلٌ مِن الضلالِ، أي: تَضييعٌ وإِبطالٌ. ومنه: { أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ } ولهذا قيلَ لامرئِ القَيْسِ بنِ حَجَرٍ: " الْمَلِكُ الضليلُ "؛ لأنه ضَلَّلَ مُلْكَ أبيه، أي: ضَيَّعَه، والأصْلُ: ذواتُ تَضليلٍ، ومِثلُه: { هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ } أي: هم ذَوُو دَرجاتٍ، أو جُعِلَتْ نفسُ التضليلِ مُبالَغَةً، كقولِ الآخَرِ يَذْكُرُ ظَبيةً فَقَدَتْ وَلَدَها: ( البحر البسيط )
تَرْتَعُ ما رَتَعَتْ حتى إذا ادَّكَرَتْ = فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ
فجَعَلَها نفسَ الإقبالِ والإدبارِ، لكَثْرَةِ وُقوعِهما منها، قالَ:
11- كانت مَواعِيدُ عُرقُوبٍ لها مَثَلًا = وما مَواعِيدُها إلا الأباطيلُ
لـ " كان " الناقِصَةِ مَعنيانِ:
أحدُهما: الدَّلالةُ على ثُبوتِ خَبَرِها لاسْمِها في الزَّمَنِ الماضي، نحوَ: كان زيدٌ فَقِيرًا.
والثاني: الدَّلالةُ على تَحَوُّلِ اسْمِها مِن وَصْفٍ إلى آخَرَ، نحوَ: { وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً } أي: فصارَتْ وصِرْتُمْ، ومنه كان في البيتِ، أي: صارَتْ مَواعيدُ عُرقوبٍ مَثَلًا لها بينَ الناسِ، لشُهرةِ اتِّصافِها بالإخلافِ.
ومَواعيدُ: جَمْعُ مِيعادٍ، كمَوازينَ جَمْعِ مِيزانٍ، لا جَمْعُ " مَوعودٍ "؛ لأن المعْنَى ليس عليه، ولأنَّ مَفعولًا صِفَةٌ، كمَضروبٍ ومَقتولٍ لا يُكَسَّرُ، وأمَّا نحوَ مَشَائِيمَ ومَلاعينَ فَشَاذٌّ. فإن قُلتَ: إنما يَجوزُ أن يكونَ جَمْعًا لِمَوعودٍ بمعنى الوَعْدِ؟ قلتُ: مَجيءُ الْمَصْدَرِ على " مَفعولٍ " إمَّا معدومٌ، وإمَّا نادرٌ وجَمْعُ الْمَصْدَرِ غيرُ قِياسٍ.
وعُرقُوبٍ: بضَمِّ أوَّلِه كعُصفورٍ، وليس في العربيَّةِ فَعلولٍ بالفتْحِ إلا صَعْفُوقٍ وخَرنوبٍ في لُغَيَّةٍ، وهو عَلَمٌ مَنقولٌ مِن عُرقوبِ الرجُلِ، وهو ما انْحَنَى فوقَ عَقِبِها، وعُرقوبُ الوَادِي، وهو مُنْعَطَفُه، وهو رَجُلٌ مِن العَمالِقَةِ، وهو عُرقوبُ بنُ مَعْبَدِ بنِ زُهَيْرٍ، أَحَدُ بني عبدِ شَمْسِ بنِ ثَعلبةَ، أو عُرقوبُ بنُ صَخْرٍ، على خِلافٍ في ذلك، وكان مِن خَبَرِه أنه وَعَدَ أَخًا له ثَمَرَةَ نَخْلِه، وقالَ: ائْتِنِي إذا طَلَعَ النخْلُ، فلَمَّا أَطْلَعَ قال: إذا أَبْلَحَ فلَمَّا أَبْلَحَ قالَ: إذا أَزْهَى، فلَمَّا أَزْهَى قالَ: إذا أَرْطَبَ، فلَمَّا أَرْطَبَ قالَ: إذا صارَ تَمْرًا، فلَمَّا صارَ تَمْرًا جَذَّه مِن الليلِ، ولم يُعْطِه شيئًا فضَرَبُوا به الْمَثَلَ مِن الإخلافِ، فقالوا: أَخْلَفُ مِن عُرقوبٍ، وقالَ عَلْقَمَةُ الأَشْجَعِيُّ: ( البحر الطويل ).
وَعَدْتَ وكان الْخُلْفُ منك سَجِيَّةً = مواعيدُ عُرقوبٍ أَخاهُ بيَثْرِبِ
قالَ التِّبريزيُّ: والناسُ يَرْوُونَ يَثْرِبَ في هذا البيتِ بالثاءِ الْمُثَلَّثَةِ والراءِ المكسورةِ، وإنما هو بالْمُثَنَّاةِ، وبالراءِ المهمَلَةِ المفتوحةِ، مَوْضِعٌ بقُرْبِ مَدينةِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالَه ابنُ الكلبيِّ، قُلْتُ، وقالَه أيضًا أبو عُبيدةَ، وقد خُولِفَا في ذلك. قالَ ابنُ دُرَيْدٍ: اخْتَلَفُوا في عُرقوبٍ، فقيلَ: هو مِن الأَوْسِ، فيُصْبِحُ على هذا أن يكونَ بالْمُثَلَّثَةِ وبالمكسورةِ، وقيلَ: مِن العماليقِ، فيكونُ بالْمُثَنَّاةِ، وبالمفتوحةِ؛ لأنَّ العماليقَ كانت مَنازِلُهم مِن اليَمامةِ إلى وَبَارٍ ويَثربُ هناك، قالَ: وكانت العَماليقُ أيضًا في المدينةِ . انتهى.
وقالَ الحافظُ أبو الْخَطَّابِ بنُ دِحْيَةَ: سُمِّيَت المدينةُ يَثْرِبَ باسمِ الذي نَزَلَها مِن العَماليقِ، وهو يَثْرِبُ بنُ عُبيدٍ وبنو عُبيدٍ هم الذين سَكَنُوا الْجُحْفَةَ، فأَجْحَفَت بهم السُّيولُ، فسُمِّيَتْ الْجُحْفَةَ، ولا يَجوزُ الآنَ أنْ تُسَمَّى المدينةُ يَثْرِبَ لقولِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَقُولُونَ يَثْرِبَ وَهِي الْمَدِينَةُ" وكأنه كَرِهَ هذا الاسمَ؛ لأنه مِن مَادَّةِ التثريبِ، وأمَّا قولُه تعالى: { يَا أَهْلَ يَثْرِبَ } فحكايةٌ عمَّنْ قالَه مِن المنافقينَ. ومِن الغريبِ قولُ بعضِهم: إنَّ " عُرقوبًا " جَبَلٌ مُظَلَّلٌ بالسَّحابِ، وإنه لا يُمْطَرُ أبدًا، فالإضافةُ في " مَواعيدُ عُرقوبٍ " إلى المفعولِ، كأنه وَعَدَ بالْمَطَرِ ولم يُمْطِرْ، أو إلى الفاعلِ على الْمَجازِ، كأنه وَعَدَ الناظرَ إليه أن يُمْطِرَ ولم يُوفِ بذلك، وعلى ما سَبَقَ فهو فاعلٌ لا غيرُ.
قولُه : " لَهَا " تَحْتَمِلُ اللامُ ثلاثةَ أَوْجُهٍ: أحدُها: أن تَتَعَلَّقَ بكان على القولِ بأنَّ لها دَلالةً على الحدَثِ، وهو الصحيحُ، وقد اسْتُدِلَّ على صِحَّةِ التَّعَلُّقِ بها بقولِه تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا } إذ لا يَتَعَلَّقُ اللامُ بعَجَبًا، ولا بِأَوْحَيْنا، لامتناعِ تَقَدُّمِ مَعمولِ الْمَصْدَرِ عليه، وتَقَدُّمِ معمولِ الصِّلَةِ على الموصولِ؛ ولأنَّ المعنى ليس على الثاني، وإذا بَطَلَ تَعَلُّقُها بهما، تَعَيَّنَ تَعَلُّقُها بكان، وفيه نَظَرٌ؛ لأن الْمَصْدَرَ هنا ليس في تقديرِ فِعْلٍ، أو حرفٍ مَصْدَرِيٍّ، إذ ليس فيه معنى الحدوثِ، بل هو مِثلُه في قولِك: لزيدٍ مَعرِفَةٌ بالنَّحْوِ، وذَكاءٌ في الطِّبِّ، ولا يَقْدَحُ ذلك في عَمَلِه في الظرْفِ وإن قَدَحَ في عَملِه في الفاعلِ والمفعولِ الصريحِ؛ لأن الظرْفَ يَعملُ فيه رائحةُ الفعلِ، وهذا الْمَوْضِعُ قد وَهِمَ فيه كثيرٌ، حتى إِنَّهم احتاجُوا إلى تقديرِ عاملٍ للظَّرْفِ في قولِه تعالى: { لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا } وقولِ الحماسيِّ:
وبعضُ الْحِلْمِ عندَ الْجَهْـ = ـلِ للذِّلَّةِ إِذعانُ
والثاني: أن يكونَ حالًا مِن " مَثَلًا " على أنه كان صِفةً له ثم قُدِّمَ عليه على حَدِّ قولِه:
لِمَيَّةَ مُوحِشًا طَلَلُ
الثالثُ: أن يكونَ خَبَرًا لكان. و" مَثَلًا " حالٌ تَوَقَّفَتْ عليها فائدةُ الْخَبَرِ، كما في قولِه تعالى: { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } وعليهما فتَعَلُّقُها بِمَحذوفٍ.
قولُه: " مَثلًا " الْمَثَلُ: كلُّ شيءٍ حاكَيْتَ به شيئًا، ومِن ثَمَّ قالوا للصُّوَرِ الْمَنقوشةِ: تَماثيلُ، وهي جَمْعُ تِمثالٍ، ويُطْلَقُ على ثلاثةِ أُمورٍ:
أحدُها: الْمِثْلُ بكَسْرِ الميمِ وسكونِ الثاءِ، وهو النظيرُ، يُقالُ: مِثْلٌ ومَثَلٌ ومَثيلٌ، كما يُقالُ: شِبْهٌ وشَبَهٌ وشَبيهٌ.
الثاني: القولُ السائرُ الْمُمَثَّلُ مَضْرِبُه بِمَوْرِدِه، وقد صَنَّفَ العُلماءُ في هذا كُتُبًا.
الثالثُ: النعتُ، نحوَ: { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى }، { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } الآيةَ { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ }، { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا }.
وقولُه: " وما مَواعيدُها " : الضميرُ للمرأةِ، ويُرْوَى: " مَواعيدُه، أي: عُرقوبٍ.
وقولُه: " أباطيلُ " جَمْعُ باطلٍ: ضِدُّ الْحَقِّ، وهو جَمْعٌ على غيرِ قِياسِ واحدِه، ونظيرُه: حديثٌ وأحاديثُ، وعَروضٌ وأَعاريضُ.
قالَ :
12- أَرْجُو وآمُلُ أن تَدْنُو مَوَدَّتُها = وما إخالُ لَدَيْنَا منك تَنويلُ

للرجاءِ معنيان:
أحدُهما: التأميلُ، وهو المرادُ هنا، ويُستعمَلُ في الإيجابِ والنفيِ، وقد اجْتَمَعَا في قولِه تعالى: { وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ }.
والثاني: الخوفُ، وذَكَرَ الفَرَّاءُ أنه مُخْتَصٌّ بالنفيِ نحوَ: { مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا } أي: ما لَكُمْ لا تَخافُونَ للهِ عَظمةً، وقولِ الْهُذَلِيِّ يَصِفُ شَخْصًا يَشْتَارُ عَسَلًا وهو لا يُبَالِي بِلَسْعِ النحلِ: ( البحر الطويل )
إذا لسَعَتْهُ لم يَرْجُ لَسْعَهَا = وحالَفها في بيتِ نُوبٍ عواسلُ
وحالَفها بالحاءِ الْمُهْمَلَةِ: أي: خالَطَها. والنُّوبُ: النحلُ، وهي جَمْعُ نايِبٍ، كَفَارَةٍ وفُرْةٍ، سُمِّيَتْ نُوبًا لسُودِها، ويُرْوَى: وخالَفَها بالْمُعْجَمَةِ.
وقيلَ: لا تَخْتَصُّ بالنفيِ بدليلِ { وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ } وجَوَّزَ ابنُ الْخَبَّازِ في قولِ ابنِ مُعْطِي: يقولُ راجي رَبِّه الغفورِ : كونُه بمعنى الآمُلِ، أو الخائفِ، والظاهِرُ الأوَّلُ لقَرينةِ ذِكْرِ الغَفورِ، وأمَّا الآيةُ فتَحتَمِلُ ثلاثةَ أَوْجُهٍ:
أحدُها: أن يُرادَ: افْعَلُوا ما تَرْجُونَ به حُسْنَ العَاقِبَةِ، فأُقِيمَ الْمُسَبَّبُ مَقامَ السَّبَبِ.
الثاني: أو يكونوا أُمِرُوا بالرجاءِ والْمُرادُ اشْتراطُ ما يُسَوِّغُه مِن الإيمانِ كما يُؤْمَرُ الكافرُ بالشرْعِيَّاتِ على إرادةِ هذا الشرْطِ .
الثالثُ: أن يكونَ الرجاءُ بمعنى الْخَوْفِ.
وقولُه: " وَآمُلُ ": الأَمَلُ هو الرَّجَاءُ. قيلَ: وإنما عُطِفَ عليه؛ لأنه يكونُ في الْمُمْكِنِ، والمستحيلِ، والرجاءُ يَخُصُّ الْمُمْكِنَ قلتُ: وإنما هذا الفَرْقُ بينَ التَّمَنِّي والرجاءِ، وإنما الْمُصَحِّحُ للعَطْفِ اختلافُ اللفظِ نحوَ: { فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا } وقولِه:
أَقْوَى وأَقْفَرَ بعدَ أمِّ الْهَيْثَمِ
ومِثلُه في الأسماءِ: { إِنَّما أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ } { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } { لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا } وقولُه:
وأَلْفَى قولَهَا كَذِبًا ومَيْنًا
ولا يُعْطَفُ هذا النوعُ إلا بالواوِ قالَ ابنُ مالِكٍ: وقد أُنِيبَتْ أو عنها في اللفظِ في قولِه تعالى: { وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا } وفيه نَظَرٌ، لإمكانِ أن يُرادَ بالْخَطيئةِ: ما وَقَعَ وبالإثْمِ: ما وَقَعَ عَمْدًا.
فإن قُلْتَ: هَلَّا قَدَّرْتَ الجملةَ حالًا مِن فاعلِ " أَرْجُو " لتَسْلَمَ مِن مُخالَفَةِ الأصْلِ في العَطْفِ؟
قلتُ: إن سَلِمْتَ مِن ذلك، وَقَعْتَ في مُخالَفَةِ أَصلينِ، إذ الأَصْلُ في الحالِ أن تكونَ مَبْنِيَّةً لا مُؤَكِّدَةً، والأصلُ في المضارِعِ الْمُثْبَتِ الخالي مِن قد إذا وَقَعَ حالًا أن لا يَقْتَرِنَ بالواوِ نحوَ: { وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ } ونحوَ: { وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }.
وفي قولِه هنا: " وآمُلُ "، وقولِه فيما سَيأتِي: وقالَ كلُّ خليلٍ كُنْتُ آمُلُه، وقولِه: والعفوُ عندَ رسولِ اللهِ مأمولُ، دليلٌ على أنه كما يُقالُ أَمَّلْتُه بالتشديدِ فهو مُؤَمَّلٌ، كذلك يُقالُ: أَمَلْتُه بالتخفيفِ، فهو مَأْمُولٌ، وقد سُئِلَ في مدينةِ السلامِ عن مَسائلَ ومِن جُملتِها هذه، فكَتَبَ أبو نِزارٍ الْمُتَلَقَّبُ بِمَلِكِ النُّحاةِ أنه لا يُجيزُ أن يُقالَ: مَأمولُ، إِلَّا أن يَسْمَعَه الثِّقَةُ: أَمَلَ بالتخفيفِ. وكَتَبَ الإمامُ أبو مَنصورٍ الْجَواليقِيُّ أنه لا رَيبَ في جَوازِ ذلك، وأنَّ الأَئِمَّةَ رَوَوْهُ كالخليلِ وغيرِه، ثم أَنْشَدَ قولَ كَعْبٍ :
والعفوُ عندَ رسولِ اللهِ مأمولُ
وقولَ بعضِ الْمُعَمِّرِينَ ( مجزوء ـ الكامل المرفل ):
المرءُ يَأْمُلُ أن يَعيشَ = وطُولُ عَيْشٍ قد يَضُرُّهْ
وكتَبَ الإمامُ أبو السَّعاداتِ ابنُ الشَّجَرِيِّ بالجوازِ أيضًا، وتَعَرَّضَ لأبي نِزارٍ، ونَسَبَه إلى الْجَهْلِ، ثم قالَ: وقولُه: إنه لا يُجيزُ " مأمولًا " إلا أن يَسْمَعَه الثقةُ " أَمَلَ " مَن لم يَعْلَمْ أنهم قالوا: فقيرٌ، مع أنهم لم يَقولوا " فَقُرَ " وإنما يقولون: افْتَقَرَ، افَتَرَاهُ يَمْنَعُ " فَقيرًا " لكونِ الثِّقَةِ لم يَسْمَعْه فَقُرَ، مع أنَّ القرآنَ قد وَرَدَ به في قولِه تعالى: { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } ولَيْتَ شِعْرِي ما الذي سَمِعَ هذا الرجُلُ مِن اللغةِ حتى أَنْكَرَ أن يَفوتَه هذا الْحَرْفُ، بل يَنبغِي له إذا أَمْعَنَ النَّظَرَ في كُتُبِ اللغةِ، فلم يَجِدْهُ، ثم سَمِعَ: والعفوُ عندَ رسولِ اللهِ مأمولُ أن يُسَلِّمَ لكَعبٍ، ويُذْعِنَ صاغرًا . انتهى مُلَخَّصًا.
ومِن الغريبِ أنَّ هذين الإمامينِ لم يَسْتَدِلَّا على مَجيءِ " أَمَلَ " بالبيتينِ المذكورينِ في هذه القَصيدةِ، بل تَكَلَّفَ ابنُ الجَواليقيِّ، وأَنْشَدَ قولَ شاعرٍ آخَرَ، وقولُ ابنِ الشَجَرِيِّ: إنه لم يَسْمَعْ فيه " فَقُرَ " اعْتَمَدَ فيه على كلامِ سِيبويهِ والأكثرينَ، وذكَرَ ابنُ مَالِكٍ أنَّ جَماعةً مِن أَئِمَّةِ اللغةِ نَقَلُوا مَجيءَ " فَقُرَ " بالضَّمِّ والكَسْرِ، وأنَّ قولَهم في التَّعَجُّبِ: ما أَفْقَرَه مَبْنِيٌّ على ذلك، وليس بشَاذٍّ، كما زَعَمُوا.
وفي قولِه: أَرْجُو وآمُلُ الْتِفَاتٌ عن الْخِطابِ في قولِه: " فلا يَغُرَّنَّكَ " إلى التَّكَلُّمِ الذي بَدَأَ به في قولِه: فقَلْبِي اليومَ مَتبولُ، وإن كان الْخِطابُ في قولِه: " فلا يَغُرَّنَّكَ " لغيرِه فلا الْتِفَاتَ في واحدٍ فيهما.
وقولُه: " أَنْ تَدْنُو " تَنَازَعَه الفِعلانِ، فأُعْمِلَ الثاني، وحُذِفَ مفعولُ الأَوَّلِ، ولا يَحْسُنُ أن يُقالَ: أُعْمِلَ الأوَّلُ، وحُذِفَ مفعولُ الثاني على حَدِّ قولِه: ( البحر الكامل ـ مجزوء ) :

بعُكَاظَ يُعْشِي الناظرينَ = إذا هُمُ لَمَحُوا شُعاعَهْ
الأصلُ: لَمَحُوهُ؛ لأن ذلك ضَرورةٌ، فلا يُخْرَجُ عليه ما وُجِدَتْ عنه مَندوحةٌ.
وقولُه: " أن تَدْنُو " بالإسكانِ مُحْتَمِلٌ لوجهينِ :
أحدُهما: أن يكونَ أَهْمَلَ " أن " الْمَصْدَرِيَّةَ حَمْلًا على " ما " الْمَصدرِيَّةِ كما قالَ: ( البحر الطويل ).
إذا كان أَمْرُ الناسِ عندَ عَجُوزِهِمْ = فلا بُدَّ يَلْقَوْنَ كلَّ ثُبُورِ
وكَقراءَةِ مُجاهِدٍ: { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمُّ الرَّضَاعَةَ } كذا قالوا ويُمْكِنُ يُخَرَّجُ على أنها عامِلَةٌ، وذلك بأن يكونَ الأَصْلُ: يُتِمُّونَ بواوِ الجماعةِ حَمْلًا على مَعْنَى " مَن " مِثلُ: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ } ثم حُذِفَت النونُ للناصِبِ، والواوُ للساكنينِ.
والوجهُ الثاني: أنه أَجْرَى الفتحةَ على الواوِ مُجْرَى الضمَّةِ للضرورةِ. قالَ الْمُبَرَّدُ: وهو مِن أَحْسَنِ الضَّروراتِ، وقد جاءَ ذلك في أَخَفَّ مِن الواوِ، وهي الياءُ كقولِ الأَعْشَى: ( البحر الطويل ).
فآلَيْتُ لا أَرْثِي لها مِن كَلالةٍ = ولا مِن جَفًا حتى تُلاقِي مُحَمَّدَا
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويَجوزُ أن يَكونَ أَصْلُه " تُلاقينَ " على أنه الْتَفَتَ مِن الغَيْبَةِ إلى الْخِطابِ، ويَشْهَدُ له أنه خاطَبَها في البيتِ بعدَه بقولِه:
متى ما تُنَاخِي عندَ بابِ ابنِ هاشِمٍ = تُرَاحِي وتَلْقَى مِن فَوَاضِلِه نَدَى
ولكن يُبْعِدُه أنَّ الالتفاتَ لا يُوجَدُ في جُملةٍ واحدةٍ إلا نادِرًا، كقِراءةِ الْحَسَنِ " إيَّاكَ يُعْبَدُ " بل قد جاءَ إسكانُ الواوِ في النَّثْرِ، كقراءةِ بعضِ السلَفِ { أَوْ يَعْفُو الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } بل جاءَ إسكانُ الياءِ في النَّثْرِ في الاسمِ مع أنَّ الياءَ أَخَفُّ مِن الواوِ، والاسمَ أَخَفُّ مِن الفِعْلِ، كقراءةِ جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ، ( مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهَالِيكُمْ ) وقُرِئَ أيضًا ( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيْ مِنْ وَرَائِي ) ( فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافِيْ ) بياءٍ ساكنةٍ جَمعُ صافٍ، أي: خَوالِصَ للهِ.
قولُه: " إِخَالُ " بمعنى أَظُنُّ، وهما سِيَّانِ في نَصْبِ المفعولينِ، وجَوازُ سَدِّ أنَّ أو أنْ وصِلَتِهما مَسَدَّهُما، وجوازُ الإلغاءِ للتَوَسُّطِ والتأَخُّرِ، واتِّحادُ الفاعلِ والمفعولِ ضَميرينِ مُتَّصِلَيْنِ لِمُسَمًّى واحدٍ، والاعتراضُ بهما بينَ حَرْفٍ ومَطلوبِه، ووُجوبُ التعليقِ لاعتراضِ ما له صَدْرُ الكلامِ، وحَذْفُ المفعولينِ اختصارًا لدَليلٍ واقتصارًا لإفادةِ تَجَدُّدِ الفِعْلِ وحُدوثِه.
مِثالُ نَصْبِهما المفعولين قولُه: ( البحر الطويل )

وخِلْتُ بُيُوتِي في يَفاعِ مُمَنَّعِ = تَخالُ به راعي الْحَمولةِ طائرًا

اليَفاعُ: ما ارْتَفَعَ مِن الأرضِ، والْحَمولةُ بالفتحِ: الإِبِلُ وغيرُها مِمَّا يُحْمَلُ عليه.
ومِثالُ سَدِّ ما ذُكِرَ مَسَدَّهما قَولُ الْهُذَلِيِّ: ( البحر الكامل )
فغُيِّرْتُ بعدَهم بعَيشِ ناصِبِ = وإخالُ أني لاحِقٌ مُسْتَتْبِعُ
وقولُ ابنِ دُرَيْدٍ ( البحر الرجَز ):
ما خِلْتُ أنَّ الدَّهْرَ يَثْنِينِي على = صَرَّاءَ لا يَرْضَى بها صُبُّ الكُدَى
الصَّرَّاءُ بالصادِ الْمُهْمَلَةِ: الصخرةُ الصَّمَّاءُ الْمَلْسَاءُ، والكُدَى جَمْعُ كُدْيَةٍ، وهي الأرضُ الصَّلْبَةُ، والضَّبَابُ مُولَعَةٌ بها.
ومثالُ الإلغاءِ قولُه: ( البحر البسيط )
أبا الأَراجيزِ يا ابنَ اللؤمِ تُوعِدُنِي = وفي الأراجيزِ خِلْتُ اللؤمُ والْخَوَرُ
كذا رواه النَّحْوِيُّونَ، وزَعَمَ الجاحِظُ أنَّ الصوابَ " والْفَشَلُ " وأنَّ القَصيدةَ لامِيَّةٌ، والصوابُ أنهما قَصيدتانِ.
ومِثلُ الاتِّحادِ والاعتراضِ الْمَذكورينِ قولُه: ( البحر الْمُنْسَرِح )
ما خِلْتُنِي زَلْتُ بَعْدَكم ضَمِنًا = أَشْكُو إليكم حُمَوَّةَ الْأَلَمِ
الضَّمِنُ كالزَّمِنِ وَزنًا ومَعْنًى، والْحُمَوَّةُ بضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وتَشديدِ الواوِ: السَّوْرَةُ.
ومِن الاعتراضِ قولُه:
وما أَدْرِي وسَوفَ إِخالُ أَدْرِي ... البيتَ.
ومِثالُ التعليقِ قولُه: وإخالُ إني لاحِقٌ مُسْتَتْبِعُ فيمَنْ رَواهُ بكَسْرِ الهمزةِ مِن إني، ووَجْهُهُ أنَّ الأصلَ: إني لَلَاحِقٌ، فعُلِّقَ باللامِ، ثم حُذِفَ لفْظُها، وبَقِيَ حُكْمُها.
ومِثالُ حَذْفِ المفعولينِ أن يُقالَ: أَزَيْدٌ قائمٌ؟ فتَقولُ: خِلْتُ. وفي الْمَثَلِ: مَنْ يَسْمَعْ يَخَلْ، أي: مَن يَسْمَعْ خبرًا يَحْدُثْ له ظَنٌّ.
وكَسْرُ همزةِ إخالُ فَصِيحٌ استمعالًا، شَاذٌّ قِياسًا، وفَتْحُها لغةُ أَسَدٍ، وهو بالعَكْسِ، وحُكْمُ حَرْفِ الْمُضارَعَةِ في غيرِ هذا الْحَرْفِ أن يُضَمَّ بإجماعٍ إن كان الماضي رُبَاعِيًّا، نحوَ: أُدَحْرِجُ وأُكْرِمُ، وتُفْتَحُ في لُغةِ الْحِجازِيِّينَ، فيما نَقَصَ أو زَادَ، كيَضْرِبُ، ويَنْطَلِقُ، ويَسْتَخْرِجُ وأمَّا غيرُهم فيَكْسِرُ غيرَ الياءِ في ثلاثِ مَسائلَ:
إحداها: في تَفْعَلُ بالفَتْحِ مُضارِعُ فَعِلَ بالكَسْرِ، كعَلِمْتَ تَعْلَمُ، بخِلافِ تَذْهَبُ؛ فإنَّ مَاضِيَهُ مَفتوحٌ، وتَثِقُ ؛ فإنَّ الْمُضارِعَ مَكسورٌ، ومَن قالَ: تَحْسَبُ بالفَتْحِ، كَسَرَ، ومَن كَسَرَ فَتَحَ، وقُرِئَ { وَلَا تَرْكَنُوا } وقالَ الشاعِرُ: ( بحر الرَّجَزِ ).
قلتُ لبَوَّابٍ لَدَيْهِ دَارُهَا = تِيذَنْ فإني حَمُوُها وجَارُهَا
أي: لِتَأْذَنْ، أَمَرَ الفاعلُ الْمُخاطَبَ باللامِ، وحَذَفَها، وبَقِيَ عَمَلُها، وكَسَرَ أَوَّلَ الْمُضارِعِ، وسَمِعْتُ بَدَوِيًّا يَقولُ في الْمَسْعَى، إنك تِعْلَمُ ما لا نِعْلَمُ بكَسْرِ التاءِ والنونِ.
الثانيةُ: أن يكونَ الماضي مَبدوءًا بِهَمْزَةِ الوَصْلِ نحوَ: ينطلِقُ ويستخرِجُ. وقُرِئَ: { يَوْمَ تِبْيَضُّ وُجُوهٌ } { وَإِيَّاكَ نِسْتَعِينُ } وأَمَّا مَن كَسَرَ في " نِعْبُدُ " فكأنه نَاسَبَ بينَ كَسْرِ النونينِ.
والثالثةُ: أن يكونَ مَبدوءًا بتاءِ الْمُطاوَعَةِ أو شِبْهِها، نحوَ: تِتَذَكَّرُ وتِتَكَلَّمُ، وكأنهم جَعَلُوا هذا الكَسْرَ عِوَضًا عن كَسْرِ أَوَّلِ الماضي في نحوِ: نِستعينُ، وثانيه في نحوِ: تِعْلَمُ، وأمَّا نحوَ: تِتَكَلَّمُ فكأنهم حَمَلُوا تَفَعَّلَ على انْفَعَلَ؛ لأنهما للمُطاوَعَةِ. تقولُ: كَسَّرْتُه ـ بالتشديدِ فتَكَسَّرَ، وكَسَرْتُه ـ بالتخفيفِ ـ فانْكَسَرَ، وإنما لم يُجِيزُوا كَسْرَ الياءِ لثِقَلِ الكَسْرِ عليها، ولكنهم جَوَّزُوهُ إذا تَلَاهَا واوٌ ليَتَوَصَّلُوا به إلى قَلْبِها ياءً، نحوَ: وَجِلَ يَيْجَلُ.
قولُه: " لَدَيْنَا " قيلَ: لَدَى لغةٌ في لَدُن، والصحيحُ أنها مُرادِفَةٌ لعِنْدَ، وهو قولُ سِيبويهِ، فتكونُ للقُرْبِ الْحِسِّيِّ، نحوَ: { إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ } { وَأَلْفَيَا سَيِّدَها لَدَى الْبَابِ } والمعنويِّ، نحوَ قولِك: لَدَيْهِ فِقهٌ وأَدَبٌ، وتُقْلَبُ ألِفُها ياءً معَ الضميرِ في لُغةِ الْجُمهورِ.

وما أَدْرِي وسَوْفَ إِخالُ أَدْرِي = أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِساءُ
فإنْ تكنِ النِّساءَ مُخَبَّآتٍ = فحُقَّ لكلِّ مُحْصَنَةٍ هِداءُ
وفي البيتِ الأوَّلِ دليلٌ على أنَّ القوْمَ مُخْتَصٌّ بالرجالِ، ونَظيرُه قولُه تعالى: { لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ } ثم قالَ تعالى: { وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ } وكثيرٌ مِن الناسِ يَرْفَعُ النساءَ في البيتِ تَوَهُّمًا منهم أنه الاسمُ، ومُخَبَّآتٌ الخبَرُ، وإنما الاسمُ ضميرُ آلِ حِصْنٍ، والنساءُ خبَرٌ، ومُخَبَّآتٌ حالٌ، أي: فإن كُنَّ آلُ حِصْنٍ النساءَ مُخَبَّآتٍ فحُقَّ لهن أن يُهْدَيْنَ إلى أزواجِهِنَّ كسائِرِ الْمُتَزَوِّجاتِ.
والوجهُ الثاني: أن يكونَ مُبتدأً مُخْبَرًا عنه بالظرْفِ الأَوَّلِ، أو الثاني، أو كِلَيْهِما، وساغَ الابتداءُ به لتَقَدُّمِ النفيِ ولِتَقَدُّمِ خَبَرِه ظَرْفًا، وإذا قُدِّرَ الظَّرفانِ خَبَرَيْنِ، قُدِّرَ لكلٍّ منهما مُتَعَلِّقٌ يَخُصُّه.
وإذا قُدِّرَ الْخَبَرُ الأَوَّلُ، فالظرْفُ الثاني إمَّا مُتَعَلِّقٌ به، أو بِمُتَعَلِّقِه المحذوفِ، على الخِلافِ المشهورِ في أنَّ العمَلَ للظرْفِ، أو للاستقرارِ وإمَّا حالٌ: فيَتَعَلَّقُ بمحذوفٍ، وفي صاحِبِ الحالِ وَجهانِ:
أحدُهما: أنه الضميرُ الْمُسْتَتِرُ في الظرْفِ الأَوَّلِ؛ لأن الصحيحَ أنَّ الظرْفَ يَتَحَمَّلُ ضَميرًا مُنْتَقِلًا إليه مِن الاستقرارِ المحذوفِ، ولهذا أُكِّدَ في قولِ كُثَيِّرٍ ( البحر الطويل ).
قولُه: " مِنْكِ " بعدَ قولِه: " مَوَدَّتُها " فيه الْتِفَاتٌ مِن الغَيْبَةِ إلى الْخِطَابِ، كقولِه تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فإنْ كان قولُه: " أَرْجُو آمُلُ " الْتِفَاتًا عن الْخِطابِ في قولِه: " فلا يَغُرَّنَّكَ " ففي البيتِ الْتِفَاتَانِ.
قولُه: " تنويلُ " لك في ارتفاعِه وجهان:
أحدُهما: أن يكونَ فاعلًا إمَّا بالظرْفِ الأَوَّلِ أو الثاني، أمَّا على قولِ الأَخْفَشِ والكُوفِيِّينَ: إنه لا يُشْتَرَطُ في إعمالِ الظرْفِ الاعتمادُ فلا إشكالَ، وأمَّا على قولِ الْجُمهورِ: إنَّ ذلك شَرْطٌ فَعَلَى أن يكونَ إخالُ مُعتَرِضَةً بينَ النافِي والظَّرْفَيْنِ، فإن قلتَ: هل يَجوزُ أن يكونَ الظَّرفانِ قد تَنازعاهُ؟ فإن أَعْمَلْتَ الأَوَّلَ أَضْمَرْتَ في الثاني اتِّفاقًا، وإن أَعْمَلْتَ الثانيَ أَضْمَرْتَ في الأَوَّلِ عندَ البَصرِيِّينَ، وحَذَفْتَ مَعمولَه عندَ الكِسائيِّ، وأَعْمَلْتَ فيه الاثنينِ عندَ الْفَرَّاءِ، كما تَقولُ في: قامَ وقَعَدَ زَيدٌ؟ .
قلتُ: شَرْطُ صِحَّةِ التَّنَازُعِ أن يكونَ بينَ العامِلَيْنِ ارتباطٌ، فلا يَجوزُ نحوَ: قامَ قَعَدَ زَيدٌ بغيرِ عَطْفٍ، وهذا بِمَنْزِلَتِهِ.
فإن قلتَ: فما الدليلُ على جَوازِ ما زَعَمْتَه مِن صِحَّةِ الاعتراضِ بينَ النافِي والْمَنْفِيِّ؟ قلتُ: قولُ الشاعرِ ( البحر الْمُنْسَرِح ):
ولا أَراهَا تَزالُ ظالِمَةً = تَحْدِثُ لي قَرحةٌ وتَنْكَؤُهَا
وقد ثَبَتَ الاعتراضُ بينَ الْحَرْفِ ومَصحوبِه في كَلِمَتَيْ: خِلْتُ وإخالُ أَنْفُسِهما، فالأَوَّلُ: كما تَقَدَّمَ مِن قولِ الشاعرِ: " ما خِلْتُنِي زَلْتُ بعدَكم ضَمِنًا " والثاني: كقولِ زُهيرٍ ( بحر الوافِر ) :

فإن يك جُثمانِي بأَرْضٍ سِواكُمُ = فإنَّ فُؤادِي عندَكِ الدَّهْرَ أَجْمَعُ

وزَعَمَ ابنُ خَروفٍ أنه لا يَتَحَمَّلُه إلا بشَرْطِ التأَخُّرِ عن الْمُبتدأِ، وزَعَمَ آخَرونَ أنه لا يَتَحَمَّلُه مُطْلَقًا أو تَأَخَّرَ، والصحيحُ الأوَّلُ، ثم قالَ ابنُ جِنِّي في قولِ الشاعرِ: ( البحر الوافِر )
ألا يا نَخْلَةً مِن ذاتِ عِرْقٍ = عليكِ ورحمةُ اللهِ السلامُ
الناسُ يَتَلَقَّونَ هذا البيتَ على أنه مِن تقديمِ المعطوفِ على المعطوفِ عليه، وليس بلَازِمٍ لِجَوازِ أن يكونَ العَطْفُ على ضَميرِ الرحمةِ الْمُسْتَتِرِ في " عليكِ " على حَدِّ قولِ بعضِهم: مَرَرْتُ برَجُلٍ سواءٌ والعَدَمُ، ولا يَرِدُ عليه أن يُقالَ: تَخَلَّصَ مِن وَجهٍ ضَعيفٍ إلى آخَرَ ضَعيفٍ؛ لأن غَرَضَه أنَّ البيتَ مُحْتَمِلٌ، فلا دَليلَ فيه، ولأنَّ العَطْفَ على الضميرِ المرفوعِ أَسْهَلُ مِن تقديمِ المعطوفِ؛ فإنه لا يَقَعُ إلا في الشِّعْرِ، نعمْ مَن زَعَمَ أنَّ الظرْفَ لا يَتَحَمَّلُ ضَميرًا مُطْلَقًا، أو لا يَتَحَمَّلُه مع التَّقَدُّمِ، لَزِمَ عندَه أن يكونَ البيتُ مِن تقديمِ المعطوفِ.
والوجهُ الثاني مِن وَجْهَي صاحبِ الحالِ: أنه نَفسُ التنويلِ، على أنَّ الظرْفَ كان في الأَصْلِ صِفَةً له، فلَمَّا تَقَدَّمَه صارَ حالًا منه، وعامِلُه على هذا الوَجْهِ أيضًا الاستقرارُ الْمُقَدَّمُ لا الابتداءُ العامِلُ في " تنويلُ "؛ لأنَّ الحالَ إنما يَعْمَلُ فيها الفِعْلُ، أو شِبْهُهُ، أو معناه، وإنما جَوَّزْنا هذا الوجهَ بِناءً على صِحَّةِ اختلافِ عامِلَي الحالِ وصاحبِها، وهو قولُ سِيبويهِ، ولهذا قالَ في قولِه تعالى: { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً }: إنَّ " أُمَّةً " حالٌ مِن " أُمَّتِكُمْ "، مع أنَّ أُمَّتَكُم مَعمولٌ لإنَّ، والحالَ مَعمولٌ للتنبيهِ أو للإشارةِ. وقالَ في قولِ الشاعِرِ: " لِمَيَّةَ مُوحِشًا طَلَلُ" : إنَّ " مُوحِشًا " حالٌ مِن الطَّلَلِ، مع أنه لا يُجيزُ ارتفاعَ " طَلَل " على الفاعلِيَّةِ لعَدَمِ اعتمادِ الظرْفِ.
وإذا قُدِّرَ الخبَرُ الظرْفُ الثاني الأوَّلَ مُتَعَلِّقًا به، وجازَ تَقديمُه عليه للاتِّساعِ في الظَّرْفِ، ونظيرُه قولُهم: " أَكُلَّ يومٍ لكَ ثَوْبٌ " بتقديمِ الظَّرْفِ على الْجُملةِ بأَسْرِها، ولا يَجوزُ ذلك في الحالِ، لا تقولُ: جالسًا زيدٌ في الدارِ، ونَقَلَ جَماعةٌ الإجماعَ على ذلك، وأنَّ الخِلافَ إنما هو في التَّوَسُّطِ بينَ الظَّرْفِ الْمُؤَخَّرِ وبينَ الْمُخْبَرِ عنه، فمَنَعَه الجمهورُ لضَعْفِ العامِلِ، وأَجازَهُ الأَخْفَشُ ومُتابِعوهُ؛ تَمَسُّكًا بقِراءةِ الْحَسَنِ: { وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٍ بِيَمِينِهِ }وقراءةِ آخَرَ { مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةً} بنَصْبِ مَطْوِيَّاتٍ بالكسرةِ، وخالصةً بالفتْحِ. وقيلَ: لا إجماعَ في المسألةِ لقولِ الأَخْفَشِ في "فِداءً لك أبي": إنَّ " فِداءً " حالٌ. ولقولِ ابنِ بُرهانَ في { هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقُّ }: إنَّ " هنالك " حالٌ.
فإن قلتَ: أَخْبِرْني عن " إِخالُ " في البيتِ، أَمُعْمَلَةٌ، أمْ مُلغاةٌ أمْ مُعَلَّقَةٌ؟
قلتُ: كلُّ ذلك جائِزٌ.
أمَّا الإلغاءُ: فعلى أنَّ النافِيَ لَمَّا تَقَدَّمَها أَزالَ عنها الصدْرَ الْمَحْضَ، فَسَهُلَ إلغاؤُها كما سَهَّلََ إلغاءَ " ظَنَنْتُ " تَقَدُّمُ " متى " و "إنِّى " في: متى ظَنَنْتَ زَيدًا مُنْطَلِقًا، وقولِ الحماسيِّ: ( البحر البسيط ).

كذاك أُدِّبْتُ حتى صارَ مِن خُلُقِي = إني رأيتُ مِلاكُ الشِّيمةِ الأَدَبُ
أو على تقديرِ النافِي داخلًا على الْجُملةِ الاسمِيَّةِ، وتقديرُ " إخالُ " مُعْتَرِضَةً بينَهما كما قَدَّمْنَا.
وأمَّا التعليقُ: فعلى أنَّ الأَصْلَ لـ: " لَدَيْنَا " فعَلَّقَ الفعلَ باللامِ، ثم حُذِفَتْ، وبَقِيَ التعليقُ كما تَقَدَّمَ في قولِ الْهُذَلِيِّ: " وإخالُ إنِّي لاحِقٌ " فيمَن كَسَرَ الهمزةَ.
وأمَّا الإعمالُ: فجَزَمَ به ابنُ مالِكٍ بَدْرُ الدينِ، وليس كذلك لِمَا بَيَّنَّا، ولَمَّا نُبَيِّنْ، ووَجْهُهُ أنْ يكونَ مفعولُها الأَوَّلُ ضميرَ الشأنِ للحديثِ: " إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ " وحِكايةُ الخليلِ: إنَّ بك زَيدٌ مأخوذٌ أي: إنه, كذا قالوا، وليس بِمُتَعَيِّنٍ في حِكايةِ الخليلِ، بل يَجوزُ أن يكونَ التقديرُ: إنك، وهو أَوْلَى؛ لأنَّ ضميرَ الشأنِ خارِجٌ عن القِياسِ لعَوْدِه على المتأَخِّرِ، ولتفسيرِه بالْجُمْلَةِ، فلا يَنبغِي الْحَمْلُ عليه مع إمكانِ غيرِه، ولهذا كان الأَوْلَى في الضميرِ المنصوبِ " بأنَّ " من قولِه تعالى: { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ } أن يُقَدَّرَ عائدًا علَى " الشيطانِ " لا ضميرَ الشأنِ، خِلافًا للزَّمَخشريِّ، ومِمَّا يُؤَيِّدُ ذلك قراءةُ بَعْضِهم " وقَبيلَهُ " بالنَّصْبِ وضميرُ الشأنِ لا يُتْبَعُ بتابِعٍ، والأصلُ تَوَافُقُ الْقِرَاءَتينِ.
واعلَمْ أنَّ البيتَ مُشْتَمِلٌ على أربعِ جُمَلٍ: الأُولَى: " أَرْجُو " وفاعِلُه ولا مَحَلَّ لها؛ لأنها مُستأنَفَةٌ.
والثانيةُ: " آمُلُ " وفاعِلُه، ولا مَحَلَّ لها؛ لأنها مَعطوفةٌ على ما لا مَحَلَّ له، وقد مَضَى أنه لا يَحْسُنُ تَقديرُها حالِيَّةً.
والثالثةُ: " إخالُ " وفاعلُه، وهي مُستأنَفَةٌ أيضًا لا حالِيَّةٌ؛ لأنَّ المضارِعَ الْمَنْفِيَّ بما كالمضارِعِ الْمُثْبَتِ في وُجوبِ تَجَرُّدِه مِن واوِ الحالِ، كقولِه: ( البحر الطويل ):
عَهِدْتُكَ ما تَصْبُو وفيك شَبيبةٌ = فما لك بعدَ الشِّيبِ صَبًّا مُتَيَّمًا
الرابعةُ: لدَيْنَا مِنك تَنويلُ، ولا مَحَلَّ لها إن قُدِّرَتْ " إخالُ " مُلغاةً؛ لأنَّها حِينئذٍ مُسْتَأْنَفَةٌ، ومَحَلُّها النَّصْبُ إن قُدِّرَتْ مُعْمَلَةً أو مُعَلَّقَةً؛ لأنَّها مَفعولٌ ثانٍ على الأَوَّلِ، وفي مِوْضِعِ الْمَفْعُولَينِ على الثاني، قالَ ابنُ النَّحَّاسِ: الْمُتَأَخِّرُ أَقَمْتُ زَمَنًا. أقولُ: القِياسُ يَقتضِي جَوازَ العَطْفِ على مَحَلِّ الْجُملةِ الْمُعَلَّقِ عنها العامِلُ بالنَّصْبِ، ثم رَأيتُ ذلك مَنصوصًا عليه . انتهى بمعناه .
وهذه مسألةٌ ظاهِرَةٌ مِن قولِ النَّحوِيِّينَ: إنَّ الْمُعَلَّقَ غيرُ عاملٍ في اللفظِ، وهو عاملٌ في الْمَحَلِّ، كلُّهم يَقولُ ذلك، وصَرَّحُوا أيضًا بجَوازِ العَطْفِ بالنصْبِ، وجاءَ السَّماعُ به كقولِ كُثَيِّرٍ: ( البحر الطويل ) :
وما كنتُ أَدْرِي قبلَ عَزَّةَ ما الْبُكَا = ولا مُوجِعَاتِ القلْبِ حَتَّى تَوَلَّتِ
فعَطَفَ مُوجِعاتِ بالنصْبِ على مَحَلِّ " ما الْبُكَا " .
فإن قلتَ: كيف جازَ أن يَنْفِيَ ظَنَّ حُصولِ التنويلِ بعدَ ما أَثْبَتَ رَجاءَ دُنُوِّ الْمَوَدَّةِ.
قلتُ: الْمَوَدَّةُ والتنويلُ شَيئانِ لا شيءٌ واحدٌ فلا يَمْتَنِعُ أنْ تَوَدَّه بقَلْبِها، وَتَمْنَعَه مِن نَوَالِها، على أنهما لو كانا شيئًا واحدًا، لم يَضُرَّ ذلك؛ فإنَّ للشعراءِ طَريقةً مألوفةً يَعودُ أحدُهم على ما قَرَّرَه بالنَّقْضِ إِيذَانًا بالدَّهْشِ والْحَيْرَةِ، ويُسَمَّى ذلك في عِلْمِ البَديعِ: رُجوعًا ، ومنه قولُه: ( البحر البسيط ).
قِفْ بالديارِ التي لم يَعْفِهَا القِدَمُ = بَلَى وغَيَّرَها الأرواحُ والدِّيَمُ
وقولُه : ( البحر الطويل )
فإنك لم تُبْعِدْ على مُتَعَهَّدٍ = بَلَى كلُّ مَن تَحْتَ التُّرابِ بَعيدُ
وأمَّا قولُه: ( البحر الطويل )
وقد زَعَمُوا أنَّ الْمُحِبَّ إذا دَنَا = يَمَلُّ وأنَّ النأْيَ يَشْفِي مِن البُعْدِ
بكلٍّ تَدَاوَيْنَا فلم يُشْفَ ما بِنَا = على أنَّ قُربَ الدارِ خيرٌ مِن الْبُعْدِ
على أنَّ قُرْبَ الدارِ ليس بنَافِعٍ = إذا كان مَن تَهْوَاهُ ليس بِذِي وُدِّ
فليس مِن ذلك خِلافًا لِمَنْ وَهِمَ، وإنما هو مِن بابِ التخصيصِ والتقييدِ، وذلك أنَّ صَدْرَ البيتِ الثاني لَمَّا اقْتَضَى أنه لا خَيرَ لِلْمُحِبِّ في قُرْبِ الدارِ، اسْتَدْرَكَهُ بما ذَكَرَ في عَجُزِهِ ولَمَّا اقْتَضَى هذا العَجُزُ أنَّ قُرْبَ الدارِ نافعٌ بكُلِّ حالٍ اسْتَدْرَكَهُ بما ذَكَرَ في البيتِ الثالثِ.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
البردة, شرح

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:09 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir