(1)
قَالَ
المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بابُ قولِ اللهِ تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ}[البقرة:165]).
لَمَّا كانتْ مَحَبَّتُه سُبحانَه هي أَصْلَ دِينِ الإسلامِ الذي يَدُورُ عليه قُطْبُ رَحاهُ، فبِكَمَالِها يَكْمُلُ، وبِنَقْصِها يَنْقُصُ تَوحيدُ الإنسانِ، نَبَّهَ الْمُصَنِّفُ على ذلك بهذه التَّرْجَمَةِ.
قولُه: (بابُ قولِ اللهِ تعالَى: {ومِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً}) الآيةَ.
قالَ في (شَرْحِ الْمَنازِلِ): (أَخْبَرَ تعالى أنَّ مَن أَحَبَّ مِن دُونِ اللهِ شَيْئًا كما يُحِبُّ اللهَ تعالى فهو مِمَّن اتَّخَذَ من دُونِ اللهِ أَندادًا، فهذا نِدٌّ في الْمَحَبَّةِ لا في الْخَلْقِ والربوبِيَّةِ، فإنَّ أَحدًا من أهلِ الأرضِ لا يُثبِتُ هذا النِّدَّ، بخِلافِ نِدِّ الْمَحَبَّةِ. فإنَّ أَكْثَرَ أهلِ الأرضِ قد اتَّخَذُوا من دُونِ اللهِ أَندادًا في الْحُبِّ والتعظيمِ).
ثم قالَ تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا للهِ} وفي تقديرِ الآيةِ قَولان:
أحدُهما:
والذين آمَنُوا أشدُّ حُبًّا للهِ من أصحابِ الأندادِ لأَندادِهم وآلِهَتِهم التي يُحِبُّونَها ويُعَظِّمونَها من دُونِ اللهِ.
وروى ابنُ جَريرٍ عن مُجاهِدٍ في قولِه تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} مُباهاةً ومُضاهاةً للحَقِّ بالأندادِ {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا للهِ} من الكُفَّارِ لأَوْثَانِهم.
ثم رَوَى عن ابنِ زَيدٍ قالَ: (هؤلاءِ الْمُشرِكونَ أَندادُهم آلِهَتُهم التي عَبَدُوا مع اللهِ يُحِبُّونَهم كما يُحِبُّ الذين آمَنُوا اللهَ، والذين آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ من حُبِّهم آلِهَتَهُمْ) انتهى.
والثاني:
والذين آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ من الْمُشرِكينَ بالأندادِ للهِ؛ فإنَّ مَحَبَّةَ المؤمنينَ خالِصةٌ ومَحَبَّةَ أصحابِ الأندادِ قد ذَهَبَتْ أَندادُهم بقِسْطٍ منها، والْمَحَبَّةُ الخالِصَةُ أَشَدُّ مِن الْمُشْتَرَكَةِ.
والقولانِ مُرَتَّبَانِ على القولينِ
في قولِه تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ}فإنَّ فيها قولينِ أيضًا:
أَحَدُهما:
يُحِبُّونَهم كما يُحِبُّون اللهَ.
فيَكونُ قد أَثْبَتَ لهم مَحَبَّةَ اللهِ، ولكنَّها مَحَبَّةٌ شَرَّكُوا فيها مع اللهِ تعالى أَندادَهم.
والثاني:
أنَّ المعنى: يُحِبُّون أَندادَهم كما يُحِبُّ المؤمنونَ اللهَ، ثم بَيَّنَ تعالى أنَّ مَحَبَّةَ المؤمنينَ للهِ أَشَدُّ مِن مَحَبَّةِ أَصحابِ الأندادِ لأَنْدَادِهم.
وكان شَيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميةَ رَحِمَه اللهُ تعالَى يُرَجِّحُ القَوْلَ الأَوَّلَ ويَقولُ: (إنما ذُمُّوا بأن شَرَّكُوا بينَ اللهِ وبينَ أَندادِهم في الْمَحَبَّةِ ولم يُخْلِصُوها للهِ كمَحَبَّةِ المؤمنينَ له، وهذه التَّسويةُ المذكورةُ في قولِه تعالى حِكايةً عنهم وهم في النارِ، أنهم يَقولونَ لآلِهَتِهم وأَندادِهم وهي مُحْضَرَةٌ معهم في العذابِ: {تَاللهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:97،98] ومعلومٌ أنهم لم يُسَوُّوهُم برَبِّ العالمينَ في الْخَلْقِ والربوبيَّةِ وإنما سَوَّوْهُمْ به في الْمَحَبَّةِ والتعظيمِ، وهذا أيضًا هو العَدْلُ المذكورُ في قولِه تعالى: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}[الأنعام:1] أي: يَعْدِلُون بِهِ غيرَه في العِبادةِ التي هي الْمَحَبَّةُ والتعظيمُ.
وقالَ تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}[آل عمران:31]، وهذه تُسَمَّى آيةَ المحنةِ).
قالَ بعضُ السلَفِ: (ادَّعَى قومٌ مَحَبَّةَ اللهِ، فأَنْزَلَ اللهُ تعالى آيةَ المحنةِ:{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}إشارةً إلى دَليلِ الْمَحَبَّةِ وثَمَرَتِها وفائدتِها، فدَليلُها وعَلامتُها: اتِّبَاعُ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفائدتُها وثَمَرَتُها: مَحَبَّةُ الْمُرْسِلِ لكم، فما لم تَحْصُلِ الْمُتَابَعَةُ، فلا مَحَبَّةَ له حاصِلَةٌ، ومَحَبَّتُه لكم مُنْتَفِيَةٌ).
-
وقالَ تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ}[المائدة:54]ذَكَرَ لهم أَرْبَعَ عَلاماتٍ:
إحداها:
أنهم أَذِلَّةٌ على المؤمنينَ.
قيلَ معناه:
أَرِقَّاءَ رُحَمَاءَ مُشْفِقِينَ عاطِفينَ عليهم، فلَمَّا ضَمَّنَ {أَذِلَّةٍ} هذا المعنى عَدَّاه بأداةِ {على} قالَ عَطاءٌ رَحِمَه اللهُ: (للمؤمنينَ كالوَلَدِ لوالدِه والعبْدِ لسَيِّدِه، وعلى الكافرينَ كالأسَدِ على فَريستِه {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}[الفتح: 29]).
العَلامةُ الثالثةُ:
الْجِهادُ في سَبيلِ اللهِ بالنَّفْسِ واليدِ والمالِ واللسانِ، وذلك يُحَقِّقُ دَعْوَى الْمَحَبَّةِ.
الْعَلامةُ الرابعةُ:
أنهم لا تَأْخُذُهم في اللهِ لَوْمَةُ لائِمٍ،
وهذا عَلامةُ صِحَّةِ الْمَحَبَّةِ، فكلُّ مُحِبٍّ أَخَذَه اللَّوْمُ على مَحبوبِه فليس بِمُحِبٍّ على الحقيقةِ، وقالَ تعالى: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}[الإسراء:57]
فذَكَرَ الْمَقاماتِ الثلاثةَ:
الْحُبُّ:
وهو ابتغاءُ القُرْبِ إليه،والتوَسُّلُ إليه بالأعمالِ الصالحةِ.
والرجاءُ والخوفُ
يَدُلُّ على أنَّ ابْتغاءَ الوَسيلةِ أَمْرٌ زائدٌ على رَجاءِ الرحمةِ وخَوْف العَذابِ، ومِن الْمَعلومِ قَطْعًا أنه لا يُتَنَافَسُ إلا في قُرْبِ مَن يُحَبُّ قُرْبُه، وحُبُّ قُرْبِه تَبَعٌ لِمَحَبَّةِ ذَاتِه، بل مَحَبَّةُ ذاتِه أَوْجَبَتْ مَحَبَّةَ الْقُرْبِ منه.
وعندَ الْجَهْمِيَّةِ والْمُعَطِّلَةِ: ما من ذلك كلِّه شيءٌ؛
فإنه عندَهم لا تَقْرُبُ ذاتُه من شيءٍ، ولا يَقْرُبُ من ذاتِه شيءٌ، ولا يُحَبُّ لذاتِه ولا يُحِبُّ، فأَنْكَرُوا حياةَ القلوبِ، ونَعيمَ الأرواحِ وبَهجةَ النُّفوسِ، وقُرَّةَ العُيونِ، وأَعْلَى نَعيمِ الدُّنيا والآخِرَةِ.
ولذلك ضُرِبَتْ قُلوبُهم بالقَسْوَةِ وضُرِبَ دونَهم ودُونَ اللهِ حِجابٌ على مَعرِفَتِه ومَحَبَّتِه، فلا يَعرِفونَه ولا يُحِبُّونَهُ ولا يَذْكُرُونَه إلا عندَ تعطيلِ أسمائِه وصِفاتِه، فذِكْرُهُم أَعْظَمُ آثامِهم وأَوْزَارِهم، بل يُعاقِبون مَن يَذْكُرُه بأسمائِه وصِفاتِه ونُعوتِ جَلاَلِه، ويَرْمُونَهم بالأدواءِ التي هم أَحَقُّ بها وأَهْلُها.
وحَسْبُ ذي البصيرةِ وحياةِ القلبِ ما يَرَى على كلامِهم من القَسوةِ والْمَقْتِ والتنفيرِ عن مَحَبَّةِ اللهِ تعالى ومَعرِفَتِه وتَوحيدِه، واللهُ الْمُستعانُ.
وقالَ رَحِمَه اللهُ أيضًا: (لا تُحَدُّ الْمَحَبَّةُ بِحَدٍّ أَوْضَحَ منها، فالحدودُ لا تَزيدُها إلا خَفَاءً. فَحَدُّها وُجُودُها ولا تُوصَفُ المحبَّةُ بوَصْفٍ أَظْهَرَ من الْمَحَبَّةِ، وإنما يَتَكَلَّمُ الناسُ بأسبابِها ومُوجِبَاتِها وعَلاَمَاتِها وشَواهدِها وثَمَرَاتِها وأَحكامِها).
وأَجْمَعُ ما قِيلَ في ذلك: ما ذَكَرَه أبو بكرٍ الكَتَّانِيُّ رَحِمَه اللهُ عن الْجُنَيْدِ، قالَ أبو بكرٍ: (جَرَتْ مَسألةٌ في الْمَحَبَّةِ بِمَكَّةَ -أَعَزَّها اللهُ- في أَيَّامِ الْمَوْسِمِ، فتَكَلَّمَ الشيوخُ فيها، وكان الْجُنَيْدُ أَصْغَرَهم سِنًّا، فقَالُوا: (هاتِ ما عِنْدَك يا عِرَاقِيُّ؟)
فأَطْرَقَ رَأْسَه، ودَمَعَتْ عَيناهُ، ثم قالَ: (عبدٌ ذاهِبٌ عن نَفْسِه، مُتَّصِلٌ بذِكْرِ رَبِّه، قائمٌ بأداءِ حُقوقِه، ناظرٌ إليه بقَلْبِه، أَحْرَقَ قلبَهُ نُورُ هَيْبَتِه، وصَفَا شِربُه من كأسِ مَوَدَّتِه، وانْكَشَفَ له الْجبارُ مِن أَستارِ غَيْبِه، فإنْ تَكَلَّمَ فباللهِ، وإن نَطَقَ فعَن اللهِ، وإن تَحَرَّكَ فبِأَمْرِ اللهِ، وإن سَكَنَ فمَعَ اللهِ، فهو باللهِ وللَّه، ومع اللهِ) فبَكَى الشيوخُ، وقَالُوا:( ما على هذا مَزيدٌ، جَبَرَك اللهُ يا تاجَ العَارِفينَ).
وذَكَرَ رَحِمَه اللهُ:
أنَّ الأسبابَ الجالِبَةَ للمَحَبَّةِ عَشرةٌ:
أحدُها:
قِراءةُ القُرآنِ بالتَّدَبُّرِ والتَّفَهُّمِ لِمَعانِيهِ وما أُريدَ به
.
الثاني:
التَّقَرُّبُ إلى اللهِ تعالى بالنوافِلِ بعدَ الفرائضِ.
الثالثُ:
دَوامُ ذِكْرِه على كلِّ حالٍ باللسانِ والقلْبِ والعَمَلِ والحالِ، فنَصيبُه من الْمَحَبَّةِ على قَدْرِ هذا.
الرابعُ:
إيثارُ مَحَابِّه على مَحَابِّكَ عندَ غَلَبَاتِ الْهَوَى.
الخامسُ:
مُطالَعَةُ القلْبِ لأسمائِه وصِفاتِه ومُشاهدَتُها وتَقَلُّبُه في رِياضِ هذه الْمَعرِفَةِ ومَيَادِينِها.
السادسُ:
مُشاهَدَةُ بِرِّه وإحسانِه ونِعَمِه الظاهرةِ والباطنةِ.
السابعُ
-وهو أَعْجَبُها-: انكسارُ القَلْبِ بينَ يَدَيْهِ.
الثامنُ:
الْخَلوةُ وَقتَ النُّزولِ الإلهيِّ وتِلاوةِ كِتَابِه،
ثم خَتْمُ ذلك بالاستغفارِ والتوبةِ.
التاسعُ:
مُجالسَةُ الْمُحِبِّينَ الصادقينَ،
والْتِقَاطُ أَطايِبِ كَلِمَاتِهِم، ولا تَتَكَلَّمْ إلا إذا تَرَجَّحَتْ مَصلَحَةُ الكلامِ وعَلِمْتَ أنَّ فيه مَزيدًا لِحَالِكَ، ومَنفعةً لغَيْرِكَ.
العاشرُ:
مُباعَدَةُ كلِّ سَببٍ يَحولُ بَيْنَ الْقَلْبِ وبينَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ.
فمِن هذه الأسبابِ العشرةِ وَصَلَ الْمُحِبُّونَ إلى مَنازِلِ الْمَحَبَّةِ، ودَخَلُوا على الْحَبيبِ.
(2) قَالَ
المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقولُ اللهِ تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[التوبة:24]).
أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يَتَوَعَّدَ مَن أَحبَّ أَهْلَه ومالَه وعَشيرتَه وتِجارَتَه ومَسْكَنَه، فآثَرَها أو بَعْضَها على فِعْلِ ما أَوْجَبَه اللهُ عليه من الأعمالِ التي يُحِبُّها اللهُ تعالى ويَرْضَاهَا، كالْهِجْرَةِ والْجِهادِ ونحوِ ذلك.
قالَ العِمادُ ابنُ كثيرٍ:(أي: إن كانت هذه الأشياءُ {أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ} أي: انْتَظِرُوا ماذا يَحِلُّ بكم من عِقابِه).
روى الإمامُ أحمدُ وأبو دَاوُدَ -واللفظُ له- من حديثِ أبي عبدِ الرحمنِ السُّلَمِيِّ عن عَطاءٍ الْخُراسانيِّ عن نَافعٍ عن ابنِ عُمرَ، قالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((إذا تَبايَعْتُم بالعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذنابَ البَقَرِ، وَرَضِيتُم بِالزَّرْعِ، وتَرَكْتُم الجهادَ، سَلَّطَ اللهُ علَيْكُم ذُلاًّ لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تُراجِعوا دِينَكُم)).
فلا بُدَّ من إيثارِ ما أَحَبَّه اللهُ من عَبْدِه وأَرادَه على ما يُحِبُّه الْعَبْدُ ويُريدُه، فيُحِبُّ ما يُحِبُّه اللهُ، ويَبْغَضُ ما يَبْغَضُه اللهُ، ويُوالِي فيه ويُعَادِي فيه، ويُتابِعُ رَسولَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما تَقَدَّمَ في آيةِ المحنةِ ونَظائِرِها.
(3) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: ((عَنْ أَنَسٍ: أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) أَخْرَجَاهُ)). أي: البخاريُّ ومسلِمٌ.
قولُه:
((لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ)) أي: الإيمانَ الواجبَ، والمرادُ كَمالُه، حتى يَكونَ الرسولُ أَحَبَّ إلى العَبْدِ من وَلَدِه ووَالِدِه والناسِ أَجمعينَ، بل ولا يَحْصُلُ هذا الكَمالُ إلا بأنْ يَكونَ الرسولُ أَحَبَّ إليه من نَفْسِه، كما في الحديثِ: أنَّ عُمَرَ قالَ: لأنتَ يَا رَسُولَ اللهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ مِنْ نَفْسي.
فَقالَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيكَ مِنْ نَفْسِكَ)).
فَقالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّكَ الآنَ أحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفسِي، فَقالَ:((الآنَ يا عُمَرُ)) رواه البخاريُّ.
فمَن قالَ: (إنَّ المنفِيَّ هو الكَمالُ، فإنْ أَرادَ الكَمالَ الوَاجِبَ الذي يُذَمُّ تَارِكُه ويُعرَّضُ للعُقوبةِ فقد صَدَقَ، وإن أرادَ أنَّ المنفيَّ الكمالُ الْمُسْتَحَبُّ، فهذا لم يَقَعْ قطُّ في كلامِ اللهِ ورَسولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قالَه شيخُ الإسلامِ.
فمَن ادَّعَى مَحَبَّةَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدونِ مُتابعَةٍ
وتَقديمِ قولِه على قَولِ غَيرِه فقد كَذَبَ، كما قالَ تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذلِكَ وَمَا أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}[النور:47] فنَفَى الإيمانَ عمَّن تَوَلَّى عن طَاعةِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكنَّ كلَّ مسلِمٍ يَكونُ مُحِبًّا بقَدْرِ ما معه من الإسلامِ، وكلَّ مسلِمٍ لا بدَّ أن يكونَ مُؤمنًا، وإن لم يكنْ مؤمنًا الإيمانَ الْمُطْلَقَ؛ لأنَّ ذلك لا يَحْصُلُ إلا لخَواصِّ المؤمنينَ.
قالَ شيخُ الإسلامِ:(وعامَّةُ الناسِ إذا أَسْلَمُوا بعدَ كُفْرٍ، أو وُلِدُوا على الإسلامِ والْتَزَموا شَرائعَه، وكانوا من أهلِ الطاعةِ للهِ ورسولِه، فهم مُسلِمونَ ومعهم إيمانٌ مُجْمَلٌ،
لكنَّ دُخولَ حَقيقةِ الإيمانِ إلى قلوبِهم يَحْصُلُ شيئًا فشيئًا، إن أَعْطَاهم اللهُ ذلك؛ وإلا فَكثيرٌ من الناسِ لا يَصِلُون إلى اليقينِ ولا إلى الْجِهادِ، ولو شُكِّكُوا لشَكُّوا، ولو أُمِروا بالجهادِ لَمَا جَاهَدُوا؛ إذ ليس عندَهم من عِلْمِ اليقينِ ما يَدْرَأُ الرَّيْبَ، ولا عندَهم من قُوَّةِ الْحُبِّ للهِ ورسولِه ما يُقَدِّمُونه على الأهلِ والمالِ، فهؤلاءِ إن عُوفُوا من الْمِحْنَةِ وماتوا دَخَلوا الجنَّةَ؛ وإن ابْتُلوا بِمَن يُدخِلُ عليهم شُبُهاتٍ تُوجِبُ رِيبَتَهُم، فإن لم يُنْعِمِ اللهُ عليهم بما يُزيلُ الرَّيْبَ، وإلا صارُوا مُرْتَابِينَ، وانْتَقَلُوا إلى نوعٍ من النِّفاقِ) انتهى.
وفي هذا الحديثِ:
أنَّ الأعمالَ من الإيمانِ؛
لأنَّ الْمَحَبَّةَ عَمَلُ القلبِ.
وفيه: أنَّ مَحَبَّةَ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واجبةٌ تابعةٌ لِمَحَبَّةِ اللهِ لازِمَةٌ لها؛ فإنها مَحَبَّةٌ للهِ ولأَجْلِه، تَزيدُ بزِيادةِ مَحَبَّةِ اللهِ في قَلْبِ المؤمِنِ وتَنْقُصُ بنَقْصِها، وكلُّ مَن كان مُحبًّا للهِ فإنما يُحِبُّ في اللهِ ولأَجْلِه كما يُحِبُّ الإيمانَ والعملَ الصالحَ، وهذه الْمَحَبَّةُ ليس فيها شيءٌ من شوائبِ الشرْكِ كالاعتمادِ عليه ورَجائِه في حُصولِ مَرغوبٍ منه أو دَفْعِ مَرهوبٍ.
وما كانَ فيها ذلك فمَحَبَّتُه مع اللهِ،
لِمَا فيها من التعلُّقِ على غيرِه والرغبةِ إليه من دُونِ اللهِ، فبهذا يَحْصُلُ التمييزُ بينَ الْمَحَبَّةِ في اللهِ ولأَجْلِه، التي هي من كَمالِ التوحيدِ، وبينَ الْمَحَبَّةِ مع اللهِ التي هي مَحَبَّةُ الأندادِ من دُونِ اللهِ، لِمَا يَتَعَلَّقُ بقُلوبِ المشرِكينَ من الإِلهيَّةِ التي لا تَجوزُ إلا للهِ وَحْدَه لا شريكَ له.
(4)
قَالَ
المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَلَهُما عَنْهُ قالَ: قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوةَ الإيمانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِواهُما، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلاَّ للهِ، وأنْ يَكْرَهَ أنْ يَعودَ فِي الكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ كَما يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ)).
وفي روايةٍ: ((لاَ يَجِدُ أَحَدٌ حَلاوَةَ الإيمانِ حَتَّى)) إلى آخرِهِ.
قولُه: (وَلَهُما عنه) أي: البخاريِّ ومسلمٍ عن أنسٍ.
قولُه: ((ثلاثٌ)) أي: ثلاثُ خِصالٍ.
قولُه: ((مَنْ كُنَّ فيهِ)) أي: وُجِدَتْ فيه تَامَّةً.
قولُه: ((وجَدَ بِهِنَّ حَلاوةَ الإيمانِ)) الْحَلاوةُهنا: هي التي يُعَبَّرُ عنها بالذَّوْقِ؛ لِمَا يَحْصُلُ به من لَذَّةِ القلبِ ونَعيمِه وسُرورِه وغِذائِه، وهي شيءٌ محسوسٌ يَجِدُه أهلُ الإيمانِ في قُلُوبِهِمْ.
قالَ السُّيوطيُّ في (التوشيحِ):( ((وَجَدَ حَلاوةَ الإيمانِ)) فيه: استعارةٌ تَخْيِيلِيَّةٌ، شَبَّه رَغْبَةَ المؤمنِ في الإيمانِ بشيءٍ حُلْوٍ، وأَثْبَتَ له لازِمَ ذلك الشيءِ، وأَضَافَه إليه).
وقالَ النوويُّ: (معنى حَلاوةِ الإيمانِ: استِلْذَاذُ الطَّاعاتِ وتَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ وإيثارُ ذلك على أَغراضِ الدنيا، ومَحَبَّةُ العَبْدِ للهِ بفِعْلِ طاعتِه وتَرْكِ مُخالَفَتِه، وكذلك الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم).
قالَ يَحْيَى بنُ مُعاذٍ:(حَقيقةُ الْحُبِّ في اللهِ: أن لا يَزيدَ بالْبِرِّ، ولا يَنْقُصَ بالْجَفاءِ).
قولُه: ((أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِواهُما)) يعني بالسِّوَى: ما يُحِبُّه الإنسانُ بطَبْعِه، كمَحَبَّةِ الوَلَدِ والمالِ والأزواجِ ونحوِها، فتكونُ ((أحبَّ)) هنا على بابِها.
وقالَ الْخَطَّابِيُّ: (والمرادُ بالْمَحَبَّةِ هنا: حبُّ الاختيارِ لا حبُّ الطبْعِ، كذا قالَ وأمَّا الْمَحَبَّةُ الشِّرْكِيَّةُ التي قد تَقَدَّمَ بيانُها فقَلِيلُها وكَثيرُها يُنافِي مَحَبَّةَ اللهِ ورسولِه).
وفي بعضِ الأحاديثِ: ((أَحِبُّوا اللهَ بِكُلِّ قُلوبِكُم)) فمِن عَلاماتِ مَحَبَّةِ اللهِ ورسولِه: أن يُحِبَّ ما يُحِبُّه اللهُ ويَكْرَهَ ما يَكْرَهُه اللهُ، ويُؤْثِرَ مَرضاتَه على ما سِوَاهُ، ويَسْعَى فيمَا يُرْضِيه ما استطاعَ، ويَبْعُدَ عما حَرَّمَه، ويَكْرَهَه أَشَدَّ الكَراهةِ، ويُتابِعَ رَسولَه ويَمْتَثِلَ أَمْرَه ويَتْرُكَ نَهْيَه كما قالَ تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ}[النساء:80] فمَن آثَرَ أَمْرَ غيرِه على أَمْرِه وخَالَفَ ما نَهَى عنه فذلك عَلَمٌ على عَدَمِ مَحَبَّتِه للهِ ورسولِه؛ فإنَّ مَحَبَّةَ الرسولِ مِن لَوازِمِ مَحَبَّةِ اللهِ، فمَن أَحَبَّ اللهَ وأَطاعَه أَحَبَّ الرسولَ وأَطَاعَه، ومَن لا فلا؛ كما في آيةِ المحنةِ ونظائِرِها ... واللهُ الْمُسْتَعَانُ.
قالَ شيخُ الإسلامِ:(أَخْبَرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ هذه الثلاثَ مَن كُنَّ فيه وَجَدَ حَلاوةَ الإيمانِ؛ لأنَّ وُجودَ الحلاوةِ للشيءِ يَتْبَعُ الْمَحَبَّةَ له.
فمَن أَحَبَّ شيئًا واشْتَهاه إذا حَصَلَ له مُرادُه، فإنه يَجِدُ الحلاوةَ واللَّذَّةَ والسرورَ بذلك، واللَّذَّةُ أَمْرٌ يَحْصُلُ عَقيبَ إدراكِ الْمُلائمِ الذي هو المحبوبُ أو الْمُشْتَهَى).
- قالَ:
(فحَلاوةُ الإيمانِ الْمُتَضَمِّنَةُ للَّذَّةِ والفَرَحِ تَتْبَعُ كَمالَ مَحَبَّةِ العبدِ للهِ، وذلك بثلاثةِ أُمورٍ:
- تَكميلُ هذه الْمَحَبَّةِ
- وتَفريغُها
- ودَفْعُ ضِدِّها
فتَكميلُها: أن يكونَ اللهُ ورسولُه أَحَبَّ إلى العَبْدِ مِمَّا سِواهما، فإنَّ مَحَبَّةَ اللهِ ورسولِه لا يُكْتَفَى فيها بأَصْلِ الْحُبِّ، بل لا بدَّ أن يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مِمَّا سِواهما).
- قُلْتُ:
ومَحَبَّةُ اللهِ تعالى تَستلزِمُ:
-
مَحَبَّةَ طاعتِه، فإنه يُحِبُّ مِن عَبْدِه أن يُطِيعَه والْمُحِبُّ يُحِبُّ ما يُحِبُّه مَحبوبُه ولا بُدَّ.
-
ومِن لَوازِمِ مَحَبَّةِ اللهِ أيضًا:
مَحَبَّةُ أهلِ طَاعَتِه، كمَحَبَّةِ أنبيائِه ورُسُلِه والصالحينَ مِن عِبادِه، فمَحَبَّةُ ما يُحِبُّهُ اللهُ ومَن يُحِبُّه اللهُ من كَمالِ الإيمانِ، كما في حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ الآتي.
قالَ: ( وتَفريغُها: أن يُحِبَّ المرءَ لا يُحِبُّه إلا للهِ).
قالَ: (ودَفْعُ ضِدِّها: أن يَكْرَهَ ضِدَّ الإيمانِ كما يَكْرَهُ أن يُقْذَفَ في النارِ) انتهَى
قولُه: ((أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِواهُما)) فيه جَمْعُ ضميرِ الربِّ سُبْحَانَه وتعالى وضَميرِ رسولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفيه قولان:
أحدُهما: أنه ثَنَّى الضميرَ هنا إيماءً إلى أنَّ الْمُعتبَرَ هو المجموعُ الْمُرَكَّبُ من الْمَحَبَّتَيْن، لا كلُّ واحدةٍ، فإنها وَحْدَها لاغِيَةٌ، وأَمَرَ بالإفرادِ في حديثِ الخطيبِ إشعارًا بأنَّ كلَّ واحدٍ من العِصْيَانَيْنِ مُسْتَقِلٌّ باستلزامِ الغِوايةِ؛ إذ الْعَطْفُ في تَقديرِ التكريرِ، والأصْلُ استقلالُ كلٍّ من الْمَعْطُوفَيْنِ في الْحُكْمِ.
الثاني:حَمْلُ حديثِ الخطيبِ على الأَدَبِ والأَوْلَى، وهذا على الجوازِ.
وجوابٌ ثالثٌ:وهو أنَّ هذا وَرَدَ على الأَصْلِ، وحديثَ الخطيبِ ناقلٌ فيكونُ أَرْجَحَ.
قولُه: ((كَما يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ)) أي: يَسْتَوِي عندَه الأمرانِ.
وفيه:رَدٌّ على الغُلاةِ الذين يَتَوَهَّمون أنَّ صُدورَ الذَّنْبِ من العَبْدِ نَقْصٌ في حقِّه مطْلَقًا، وإن تابَ منه.
والصوابُ أنه:
-
إن لم يَتُبْ كان نَقْصًا
-
وإن تابَ فلا، ولهذا كان المهاجِرونَ والأنصارُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أَفْضَلَ هذه الأُمَّةِ مع كونِهم في الأَصْلِ كُفَّارًا، فهداهُم اللهُ إلى الإسلامِ، والإسلامُ يَمْحُو ما قَبْلَه وكذلك الْهِجرةُ، كما صَحَّ الحديثُ بذلك.
(5) قولُه: (وَفِي روايةٍ: ((لا يَجِدُ أَحَدٌ))) هذه الروايةُ أَخْرَجَها البُخاريُّ في الأدَبِ من (صحيحِه).
ولَفْظُها: ((لا يَجِدُ أَحَدٌ حَلاوَةَ الإيمانِ حَتَّى يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلاّ للهِ، وَحَتَّى أَنْ يُقْذَفَ في النَّارِ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أنْ يَرجِعَ إِلى الكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ، وَحَتىَّ أن يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِواهُما)).
وقد تَقَدَّمَ أنَّ الْمَحَبَّةَ هنا عِبارةٌ عمَّا يَجِدُه المؤمنُ من اللَّذَّةِ والبَهجةِ والسرورِ والإجلالِ والْهَيْبَةِ ولَوازِمِ ذلك، قالَ الشاعرُ:
أَهَابُكَ إجلالاًًً وما بِكَ قُدْرَةٌ عـليَّ، ولكنْ
مِلْءُ عينٍ حَبِيبُها
قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ
ابنِ عَباسٍ قالَ: (مَنْ أَحَبَّ فِي اللهِ، وَأَبْغَضَ فِي اللهِ، ووَالَى فِي اللهِ، وَعَادَى فِي اللهِ فَإِنَّمَا تُنالُ ولايةُ اللهِ بذلِكَ، وَلَنْ يَجِدَ عَبْدٌ طَعْمَ الإيمانِ وإنْ كَثُرَتْ صلاتُهُ وصَوْمُهُ حَتى يَكونَ كذلِك، وَقَدْ صارَتْ عامَّةُ مؤاخاةِ الناسِ علَى أَمْر الدُّنْيا وذَلِكَ لا يُجْدِي عَلَى أَهْلِهِ شَيْئاً) رواهُ ابْنُ جَرِيرٍ).
وأَخْرَجَ ابنُ أبي شَيْبَةَ وابنُ أبي حاتمٍ الجملةَ الأُولَى منه فقط.
قولُه: ((مَنْ أَحَبَّ فِي اللهِ)) أي: أَحبَّ أهلَ الإيمانِ باللهِ وطاعتِه من أَجْلِ ذلك.
قولُه: ((وَأَبْغَضَ فِي اللهِ)) أي: أَبْغَضَ مَن كَفَرَ باللهِ وأَشْرَكَ به وفَسَقَ عن طَاعتِه لأَجْلِ ما فَعَلُوه مِمَّا يُسْخِطُ اللهَ وإن كانوا أَقْرَبَ الناسِ إليه، كما قالَ تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} الآيةَ [المجادلة:22].
قولُه: ((ووَالَى فِي اللهِ)) هذا والذي قبلَه من لَوازِمِ مَحَبَّةِ العَبدِ للهِ تعالى، فمَن أَحَبَّ اللهَ تعالى أَحبَّ فيه، ووَالَى أَولياءَه، وعَادَى أَهْلَ مَعصِيَتِه وأَبْغَضَهم، وجاهَدَ أعداءَه ونَصَرَ أَنصارَه.
وكُلَّمَا قَوِيَتْ مَحَبَّةُ العَبْدِ للهِ في قَلْبِه قَوِيَتْ هذه الأعمالُ الْمُتَرَتِّبَةُ عليها، وبِكمالِها يَكْمُلُ تَوحيدُ العبدِ ويكونُ ضَعْفُها على قَدْرِ ضَعْفِ مَحَبَّةِ العبدِ لرَبِّه؛ فمُقِلٌّ ومُسْتَكْثِرٌ ومَحرومٌ.
قولُه: ((فَإِنَّمَا تُنالُ وَلاَيةُ اللهِ بذلِكَ)) أي: تَوَلِّيهِ لعَبْدِه، و((وَلايةٌ))بفَتْحِ الواوِ لا غيرُ، أي: الأُخُوَّةُ والْمَحَبَّةُ والنُّصْرَةُ، وبالكَسْرِ الإمارةُ، والمرادُ هنا الأَوَّلُ، ولأَحْمَدَ والطبرانيِّ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لا يجِدُ العبدُ صَريحَ الإيمانِ حتّى يُحبَّ للهِ ويُبْغِضَ للهِ، فإِذا أحَبَّ للهِ وأبْغَضَ للهِ، فقَدِ اسْتَحَقَّ الوَلايةَ للهِ)).
- وفي حديثٍ آخَرَ: ((أَوْثَقُ عُرَى الإيمانِ الحبُّ في اللهِ والبُغضُ في اللهِ عزَّ وجلَّ)) رواه الطبرانيُّ.
قولُه: ((وَلَنْ يَجِدَ عَبْدٌ طَعْمَ الإيمانِ)) إلى آخِرِه، أي: لا يَحْصُلُ له ذَوْقُ الإيمانِ ولَذَّتُه وسُرورُه وإن كَثُرَتْ صَلاتُه وصَوْمُه، حتى يكونَ كذلك، أي: حَتَّى يُحِبَّ في اللهِ، ويَبْغَضَ في اللهِ، ويُعادِيَ في اللهِ، ويُوالِيَ فيه.
-
وفي حديثِ أبي أُمامةَ مَرفوعًا: ((مَنْ أحَبَّ للهِ وأَبْغَضَ للهِ وَأَعْطى للهِ وَمَنَعَ للهِ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الإيمانَ)) رواه أبو داوُدَ.
قولُه:
((وَقَدْ صارَتْ عامَّةُ مُؤاخاةِ الناسِ علَى أَمْرِ الدُّنْيا، وذَلِكَ لا يُجْدِي عَلَى أَهْلِهِ شَيْئًا)) أي: لا يَنْفَعُهم بل يَضُرُّهُم، كما قالَ تعالى: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ}[الزخرف:67].
فإذا كانت البَلْوَى قد عَمَّتْ بهذا في زَمَنِ ابنِ عَبَّاسٍ في خَيْرِ القُرونِ فمَا زادَ الأَمْرُ بعدَ ذلك إلا شِدَّةً، حتى وَقَعَت الْمُوالاةُ على الشرْكِ والبِدَعِ والفُسوقِ والعِصيانِ، وقد وَقَعَ ما أَخْبَرَ به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقولِه: ((بَدَأَ الإسلامُ غَرِيباً وَسَيَعودُ غَريباً كَما بَدَأَ)).
وقد كانَ الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم من الْمُهاجرينَ والأنصارِ في عَهْدِ نَبِيِّهِم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعَهْدِ أبي بكرٍ وعُمرَ يُؤْثِرُ بعضُهم بَعْضًا على نفسِه مَحَبَّةً في اللهِ وتَقَرُّبًا إليه، كما قالَ تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[الحشر:9] وعن ابنِ عمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قالَ: ( لَقَدْ رَأَيْتُنا عَلَى عَهْدِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مِنَّا أَحَدٌ يَرى أَنَّه أَحَقُّ بِدينارِهِ وَدِرهَمِهِ مِنْ أَخِيهِ المُسْلِمِ) رواه ابنُ مَاجَه.
(6)
قَالَ
المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: ((وقالَ ابنُ عبَّاسٍ في قولِه تَعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}[البقرة:166] قالَ: الْمَوَدَّةُ)) هذا الأَثَرُ رواه عبدُ بنُ حُمَيْدٍ وابنُ جَريرٍ وابنُ الْمُنْذِرِ وابنُ أبي حاتمٍ والحاكِمُ وصَحَّحَه.
قولُه:((قالَ: الْمَوَدَّةُ)) أي: التي كانَت في الدنْيَا خَانَتْهم أَحْوَجَ ما كانوا إليها، وتَبَرَّأَ بعضُهم من بعضٍ، كما قالَ تعالى: {وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ}[العنكبوت:25].
قالَ العَلاَّمَةُ ابنُ الْقَيِّمِ في قولِه تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ ...}[البقرة:166،167] (فهؤلاءِ الْمَتْبُوعونَ كانوا على الْهُدَى، وأَتباعُهم ادَّعَوْا أنهم على طريقِهم ومِنهاجِهم، وهم مُخالِفُون لهم سالِكِينَ غيرَ طَرِيقِهم، ويَزْعُمُون أنَّ مَحَبَّتَهم لهم تَنْفَعُهم مع مُخالَفَتِهم، فيَتَبَرَّؤُونَ منهم يومَ القِيامةِ، فإنهم اتَّخَذُوهم أَولياءَ من دُونِ اللهِ، وهذا حالُ كلِّ مَن اتَّخَذَ من دُونِ اللهِ وَليجةً وأولياءَ، يُوالِي لهم، ويُعَادِي لهم، ويَرْضَى لهم ويَغْضَبُ لهم، فإنَّ أَعمالَه كلَّها باطلةٌ، يَراها يومَ القِيامةِ حَسَرَاتٍ عليه مع كَثْرَتِها وشِدَّةِ تَعَبِهِ فيها ونَصَبِهِ؛ إذ لم يُجَرِّدْ مُوالاتَه ومُعادَاتَه وحُبَّه وبُغْضَه وانتصارَه وإيثارَه للهِ ورسولِه، فأَبْطَلَ اللهُ عَزَّ وجلّ ذلك العملَ كلَّه.
وقَطَعَ تلك الأسبابَ، فيَنْقَطِعُ يومَ القِيامةِ كلُّ سَببٍ ووَصْلَةٍ ووَسيلةٍ ومَوَدَّةٍ كانت لغيرِ اللهِ، ولا يَبْقَى إلا السببُ الوَاصِلُ بينَ العبدِ ورَبِّه، وهو حَظُّه من الْهِجرةِ إليه وإلى رَسولِه، وتجريدِه عِبادَتَه وَحْدَه،ولَوَازِمِها:
-
من الْحُبِّ والبُغضِ.
-
والعطاءِ والْمَنْعِ.
-
والْمُوالاةِ والْمُعاداةِ.
-
والتقريبِ والإبعادِ.
-
وتَجريدِ مُتابَعَةِ رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَجريدًا مَحْضًا بَريئًا من شوائِبِ الالتفاتِ إلى غيرِه، فَضْلاً عن الشرْكِ بينَه وبينَ غيرِه، فَضْلاً عن تَقديمِ قولِ غَيرِه عليه.
فهذا السببُ هو الذي لا يَنقطِعُ بصاحبِه،
وهذه هي النِّسبةُ بينَ العبدِ وربِّه.
-
وهي نِسبةُ العُبُودِيَّةِ الْمَحْضَةِ.
-
وهي آخِيَّتُه التي يَجولُ وما يَجولُ إليها مَرْجِعُه، ولا تَتَحَقَّقُ إلا بتجريدِ مُتابَعَةِ الرُّسُلِ صَلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليهم؛ إذ هذه العُبودِيَّةُ إنما جاءَتْ على أَلْسِنَتِهم، وما عُرِفَتْ إلا بهم، ولا سبيلَ إليها إلا بِمُتابعَتِهم، وقد قالَ تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلُنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً}[الفرقان:23] فهذه هي الأعمالُ التي كانت في الدنيا على غيرِ سُنَّةِ رُسُلِه وطريقتِهم ولغيرِ وَجْهِه، يَجْعَلُها اللهُ هَباءً مَنثورًا، لا يَنْتَفِعُ منها صاحبُها بشيءٍ أَصْلاً، وهذا من أَعظمِ الحَسَراتِ على العَبْدِ يومَ القِيامةِ، أن يَرَى سَعْيَه ضائعًا، وقد سَعِدَ أهلُ السعيِ النافعِ بسَعيِهم) انتهى مُلَخَّصًا.