فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا الَّذي يُسَمِّيهِ المُشْرِكُونَ في زَمَنِنا (الاعْتِقَادَ) هُوَ الشِّركُ الَّذي أُنْزِلَ فِيْهِ القُرْآنُ، وَقَاتَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ عَلَيْهِ، فَاعْلَمْ أَنَّ شِرْكَ الأَوَّلِينَ أَخَفُّ مِنْ شِرْكِ أَهْلِ وقتنا بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الأَوَّلِينَ لا يُشْرِكونَ وَلا يَدْعُونَ المَلاَئِكَةَ أو الأَوْلِياءَ أو الأَوْثَانَ مَعَ اللهِ إِلاَّ في الرَّخَاءِ، وَأَمَّا في الشِّدَّةِ فَيُخْلِصُونَ الدِّينَ للهِ، كَمَا قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلَِى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}[العنكبوت: 65].
-وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ}[الإسراء: 67].
-وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُون} إلى قوله {مَا تُشْرِكُونَ}[الأنعام: 40-41].
-وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَاكانَ يَدْعُو إِلَيهِ مِن قَبْلُ} الآية [الزُّمر: 8].
-وقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ} الآية [لقمان: 22].
فَمَنْ فَهِمَ هَذِهِ المَسْألةَ الَّتِي وَضَّحَها اللهُ في كِتَابِهِ؛وَهِيَ أَنَّ المُشْرِكِينَ الَّذينَ قَاتَلَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُونَ اللهَ وَيَدْعُونَ غَيْرَهُ في الرَّخَاءِ، وَأَمَّا في الشِّدَّةِ فَلا يَدْعُونَ إِلاَّ اللهَ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَيَنْسَوْنَ سَادَاتِهِمْ.
تَبَيَّنَ لَهُ الفَرْقُ بَيْنَ شِرْكِ أَهْلِ زَمَانِنَا وَشِرْكِ الأَوَّلِينَ، وَلَكِنْ أيْنَ مَنْ يَفْهَمُ قَلْبُهُ هَذِهِ المَسْألةَ فَهْماً رَاسِخاً، وَاللهُ المُسْتَعانُ.
الأَمْرُ الثَّاني: أَنَّ الأَوَّلِينَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ أُنَاساً مُقَرَّبِينَ عِنْدَ اللهِ إِمَّا نبيّاً، وَإِمَّا وليّاً، وَإِمَّا مَلائِكَةً، أَوْ يَدْعُونَ أَحْجَاراً وأَشْجَاراً مُطِيعةً للهِ تعالى ليْسَت بعَاصِيَةٍ، وَأَهْلُ زَمانِنَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ أُنَاساً مِنْ أَفْسَقِ النَّاسِ، وَالَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَحْكُونَ عَنْهُمُ الفُجُورَ مِنَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَتَرْكِ الصَّلاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَالَّذِي يَعْتَقدُ في الصَّالِحِ؛ والَّذي لا يَعْصي - مِثْلِ الخَشَبِ وَالحَجَرِ - أَهْوَنُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ فِيمَنْ يُشاهِدُ فِسْقَهُ وفَسَادَهُ ويَشْهَدُ بِهِ.