دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > الفتوى الحموية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30 ذو القعدة 1429هـ/28-11-2008م, 07:53 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي لا يجوز أن يكون الخالفون أعلم من السالفين في هذا الباب وغيره من أبواب الدين

وَلا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الخَالِفُونَ أَعْلَمَ مِنَ السَّالِفِينَ، كَمَا قد يَقُولُهُ بَعْضُ الأَغْبِياءِ مِمَّنْ لا يعرف قَدْرَ السَّلَفِ، بَلْ وَلا عَرَفَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ حَقِيقَةَ المَعْرِفَةِ المَأْمُورِ بِهَا مِنْ أَنَّ (طَرِيقَةَ السَّلَفِ أَسْلَمُ، وَطَرِيقَةَ الخَلَفِ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ). وإن كَانَت هذه العِبَارة إذا صَدَرت مِن بَعْض العُلَمَاء قد يُعْنَى بها معناً صحيحاً فَإِنَّ هَؤُلاءِ المُبْتَدِعين الَّذِينَ يُفَضِّلُونَ طَرِيقَةَ الخَلَفِ مِنَ المُتَفَلْسِفَةِ، وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ إِنَّمَا أُتُوا مِنْ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ طَرِيقَةَ السَّلَفِ هِيَ مُجَرَّدُ الإِيمَانِ بِأَلْفَاظِ القُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، مِنْ غَيْرِ فِقْهٍٍ لِذَلِكَ، بِمَنْزِلَةِ الأُمِّيِّينَ الَّذِينَ قَالَ الله فِيهِمْ: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ) وأَنَّ طَرِيقَةَ الخَلَفِ هِيَ اسْتِخْرَاجُ مَعَانِي النُّصُوصِ المَصْرُوفَةِ عَنْ حَقَائِقِهَا بِأَنْوَاعِ المَجَازَاتِ وَغَرَائِبِ اللُّغاتِ.
فَهَذَا الظَّنُّ الفَاسِدُ أَوْجَبَ تِلْكَ المَقَالاَت الَّتِي مَضْمُونُهَا نَبْذُ الإِسْلامِ وَرَاءَ الظَّهْرِ، وَقَدْ كَذَبُوا عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ، وَضَلُّوا فِي تَصْوِيبِ طَرِيقَةِ الخَلَفِ; فَجَمَعُوا بَيْنَ الجَهْلِ بِطَرِيقَةِ السَّلَفِ فِي الكَذِبِ عَلَيْهِمْ، وبيَنَ الجَهْلِ وَالضَّلالِ بِتَصْوِيبِ طَرِيقَةِ الخَلَفِ


  #2  
قديم 30 ذو القعدة 1429هـ/28-11-2008م, 07:54 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي شرح سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله ابن باز

المعنى في هذا أنَّ السلَفَ هم أعلمُ الناسِ بكتابِ اللَّهِ، وسنَّةِ رسولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأعلمُ الناسِ باللغةِ العربيَّةِ، فطريقَتُهم هي الأعلمُ وهي الأحكمُ وهي الأسلمُ؛ لأنَّ التأويلاتِ فيها الخَطَرُ العظيمُ الذي سَلَكَه المُتَأَخِّرُونَ، وأمَّا السلَفُ فقَبِلُوا النصوصَ وسَلَّمُوا لها، وآمَنُوا بما دَلَّتْ عليه ولم يَتَأَوَّلُوها؛ لعِلْمِهم وفَضْلِهم وبَصِيرَتِهم، ولبُعْدِهم عن الخَطَرِ واحْتِيَاطِهم لدِينِهم، فكانوا أسْلَمَ وأعلمَ وأحْكَمَ وأقرَبَ إلى الصوابِ، بخلافِ طريقةِ الخَلَفِ، فهي مَمْلُوءَةٌ بالأشواكِ والأخطارِ، معَ قِلَّةِ العلمِ وقِلَّةِ البَصيرةِ، والجُرْأَةِ على اللَّهِ وعلى دِينِه.


  #3  
قديم 3 رجب 1433هـ/23-05-2012م, 08:36 PM
سليم سيدهوم سليم سيدهوم غير متواجد حالياً
برنامج الإعداد العلمي - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2011
الدولة: ليون، فرنسا
المشاركات: 1,087
افتراضي شرح الفتوى الحموية الكبرى للشيخ يوسف الغفيص

[ولا يجوز أيضاً أن يكون الخالفون أعلم من السالفين].
لا يجوز أن يكون الخالفون -أياً كان هذا الخالف، سواء كان من الجهمية أو المعتزلة أو غيرهم- أعلم من السالفين؛ فإن هذا ممتنع بالعقل والشرع؛ لأن هذا الخالف -أو الخلفي- إن كان أخذ الحق من القرآن والحديث لزم أن يكون الصحابة قد أطبقوا على عدم فهم القرآن والحديث في مسائل أصول الدين، وهذا ممتنع؛ لأن الله وصفهم بالعلم ووصفهم بالإيمان، ورضي عنهم ورضوا عنه، فهذا يدل على أنهم محققون لدينهم. أو أن هذا الخلفي حقق هذا العلم بدلائل عقلية أو دلائل فلسفية أو كلامية أو أياً كانت صبغتها فهذا يعلم أنه افتيات على كتاب الله وسنة نبيه، وأنه يعلم بالضرورة هنا أنه يمتنع أن يكون الحق في غير ما قاله الله ورسوله.
الناظر في التاريخ العلمي عند المسلمين في المعرفة الإلهية، وبخاصة في مسألة الأسماء والصفات يجد أن فيها إشكالاً عريضاً، مع أن الحق فيها من جهة القرآن والحديث ومذهب السلف واضح تماماً؛ لكن لأنه دخل على المسلمين أسباب، فقد كانت أسباب البدعة التي نشأ عنها مذهب الخوارج في الغالب فتناً طرأت وتكاد تنتهي، بخلاف الفتنة التي ركِّبت عليها هذه المسائل عند المخالفين للسلف؛ فإنها أسباب علمية. فقد ظهر عند المسلمين علم الكلام والعلوم الفلسفية، أما الفلسفة فكانت قبل الإسلام، ونقلت نقلاً إلى المسلمين، وأما العلم الكلامي فليس هناك علم اسمه علم الكلام قبل الإسلام، فهو علم وُلِّد عند طائفة من المسلمين وهو المشكِل، ولهذا تجدهم يحدون هذا العلم ويضبطونه بأنه الاستدلال على العقائد الإيمانية بالدلائل العقلية.. وهذا حد باطل؛ لأن العقائد التي قررها المتكلمون مخالفة للعقائد المنصوص عليها في القرآن والحديث، وإن كانوا أحياناً -كما تقدم- قد يصيبون شيئاً من الحق، لكن لا يختصون بإصابته. ولهذا كان هذا العلم من أسوأ العلوم التي انتشرت عند المسلمين بسبب الاشتغال بالفلسفة، وقد أدى هذا إلى ظهور المتكلمين المتفلسفة الذين وصلوا إلى منحى خطير في تقريرهم لمسائل الإسلام، وظهور التصور الفلسفي على يد ابن عربي و ابن سبعين و العفيف التلمساني و الصدر القونوي وأمثال هؤلاء من غلاة المتصوفة الذين قرروا التصوف الفلسفي، والذي قابله التصوف النظري العقلي الذي ذكره ابن رشد وأمثاله.
[كما قد يقوله بعض الأغبياء].
هذا الوصف من المصنف لقائل هذه المقالة ليس من باب التهكم؛ بل لأن المقالة التي نقلها عنه مقالة متناقضة في العقل، أي: فيها تأخر عقلي، وإذا كان في المقالة تأخر عقلي فإن المعنى يناسب هذا الوصف.
[ممن لم يقدر قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها من أن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم]. هذه مقالة متناقضة؛ لأن السلامة نتيجة والعلم مقدمة، بمعنى أن العلم يورث السلامة، فإذا قيل: إن مذهب السلف أسلم -أسلم عند الله وأسلم اعتقاداً- لزم أن يكون مبنياً على علم صحيح، وإذا قيل: إن مذهب الخلف أعلم. لزم أن يكون أسلم؛ لأن من حقق العلم فقد أصاب السلامة في دينه وأصاب مقصود الله ومراده سبحانه وتعالى ، أما القول بأن مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم فإن هذا تناقض. وبهذا يتبين أن هذه المقالة متناقضة تماماً، فهو أعطى النتيجة للسلف وأعطى المقدمة للخلف، وإلا فإن مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم، وما خالفه يمتنع أن يكون أسلم ويمتنع أن يكون أعلم وأحكم؛ فمن هنا وصف المصنف هذه المقالة بأنها مقالة بعض الأغبياء. وقد شاع ذكر هذه الجملة في كلام كثير من متأخري المتكلمين ومن وافقهم من أصحاب الأئمة. وسبب قولنا: ومن وافقهم من أصحاب الأئمة؛ هو أن المتأخرين من المتكلمين كالأشعرية -مثلاً- هم باعتبار إمامهم -أعني: أبا الحسن الأشعري - أو حتى أتباعه ينتسبون لأحد المذاهب الأربعة، فجمهور الأشعرية إما شافعية من جهة النسبة الفقهية أو مالكية، وفيهم طائفة من الحنفية، فهؤلاء صاروا يطلقون هذه العبارة أو ما هو بمعناها من أن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم. ......
وبهذا يتحصل أن طوائف المخالفين على صنفين في موقفهم من مذهب السلف: الأول: وهو صنف الغلاة منهم، وهؤلاء لا ينتحلون مذهب السلف ولا يصوبونه ولا يجوزونه، وهذا هو شأن غلاة أهل البدع كالجهمية وأئمة المعتزلة، ومن تكلم في هذا الباب على طريق التبع من الشيعة وغيرهم، وإنما يخص ذكر الجهمية والمعتزلة لأنهم أخص من تكلم في هذا الباب.. فهذا الصنف: ليس من شعارهم انتحال مذهب السلف، ولا تصويبه ولا تجويزه. الثاني: وهم جمهور المتأخرين من المتكلمين الذين انتسبوا للأئمة في الفقه، وهؤلاء يعلمون أن مذهبهم مخالف لمذهب السلف، ولكنهم يجوزون في هذا الباب -أعني: في باب الأسماء والصفات- طريقتهم التي اتخذها أصحابهم المتكلمون، واتخذها من وافقهم من الفقهاء، ويجوزون في نفس الأمر الطريقة التي ظنوا أنها هي طريقة السلف، فترى أن الأشعري يثبت جملةً من الصفات ويتأول جملةً منها، وأصحابه في الجملة على هذا المنهج، وإن كانوا يختلفون معه في قدر ما يثبت وقدر ما يتأول، ولكنهم يرون أن السلف كانوا مفوضين في هذا الباب، وبخاصة ما يتعلق بمحل التأويل عندهم، أي: أن الصفات التي يصحح الأشعرية أنها ثابتة لله حقيقة يرون أن السلف كذلك كانوا يثبتونها حقيقة كالعلم والسمع والبصر. وإذا جاء القول فيما تتأوله الأشعرية كالصفات الفعلية عند جميع الأشعرية، أو كالصفات الخبرية عند متأخريهم قالوا: إن السلف في هذا الباب كانوا يفوضون ويرون أنه يصح في هذا النوع إما التفويض -ويقولون: إنه مذهب للسلف- وإما التأويل. وموجب هذا التجويز عند الأشاعرة أنهم اعتقدوا عدم ثبوت الصفات الفعلية في نفس الأمر، أو الصفات الخبرية عند متأخريهم بعد طبقة أبي المعالي الجويني ، فلما اعتقدوا انتفاء الصفة في نفس الأمر أصبحوا بين حالين: إما أن السياق القرآني فيها يثبت على ظاهره أي: بلا إثبات معنى؛ ولهذا يقولون: وقد كان السلف يجرونها على ظاهرها. ولكن لفظ الظاهر -كما يقرر شيخ الإسلام رحمه الله في كتبه- صار لفظاً فيه إجمال. فالقصد: أنهم يصفون مذهب السلف فيما يدخلون فيه التأويل بأنه مذهب تفويض في هذا النوع. ثم هم يرون أن هذا التفويض ليس واجباً وإنما هو جائز، وإذا كان جائزاً فمعناه أنه يجوز في هذا النوع من الصفات التأويل والتفويض؛ ولهذا انتهى المذهب الأشعري إلى صيغة فيها توفيق -باعتبار رأيهم- بين مذهبهم ومذهب السلف؛ لأنه لم يكن من شعارهم في الأصل عدم تجويز مذهب السلف كما كان شأن الجهمية والمعتزلة؛ لأن إمامهم كان ينتسب لأهل السنة. وهذا من باب التناقض الذي وقع فيه الأشاعرة، حيث إنهم جوزوا طريقتهم، وجوزوا التفويض الذي نسبوه للسلف، وقد كان مبنى الطريقة التي انتحلوها في الصفات الفعلية التي أطبق عليها جميع الأشعرية مبني على مسألة تعارض العقل والنقل. وغلطهم من جهة أخرى: أن علماء الأشاعرة إذا تكلموا في مذهب السلف قرروا أن مذهب السلف كان هو التفويض، وعن هذا التقرير الذي ذكره متكلمة الأشعرية ذهبت طائفة من فقهاء المذاهب الأربعة إلى أن مذهب السلف في الصفات الفعلية على وجه الخصوص -وربما وقع في غيرها- هو التفويض. وهذه النسبة -أي: نسبة التفويض إلى السلف- نسبة حادثة، وقد كان المعتزلة الأوائل يعلمون أن مذهب الأئمة الذي عارضهم، وحصلت بسببه المناظرة بينهم وبين السلف كما في زمن الإمام أحمد وغيره أنه لم يكن تفويضاً، وإنما كان النزاع في ثبوت صفات الله أو عدم ثبوتها، أي: هل أن الرب متصف بالصفات أو ليس متصفاً بالصفات. فهذا الوهم الأشعري الذي فيه نوع تلطف مع مذهب السلف هو الذي أوجب -كما يقرر شيخ الإسلام رحمه الله - خطأ كثير من فضلاء الفقهاء؛ لأنهم رأوا أن كثيراً من الأشعرية في كتبهم لا يطعنون على السلف، وإن كانوا يقررون مخالفتهم، ولكنهم يفرضون في هذا الباب صحة هذا القول أو هذا القول، وهذا نقيده في مسألة الصفات. وإذا قيل هذا فهذا ليس حكماً على جميع أعيان الأشعرية، بل هو حكم مجمل، أي: هذا هو محصل المذهب في الجملة، وإلا فإن بعض علماء الأشاعرة كـأبي الفتح الشهرستاني في بعض كتبه، ومحمد بن عمر الرازي في بعض كتبه، وأبي المعالي الجويني في بعض كتبه يبينون أن طريقتهم تختلف مع طريقة السلف في نفس الأمر، وأنه يتعذر الجمع بين الطريقتين، ولكن هؤلاء لا يلتزمون هذا القول، بمعنى أنهم يقررونه تارة ويقررون نقيضه تارة أخرى. إذاً: المخالفون للسلف في باب الصفات في موقفهم من مذهب السلف على صنفين: الأول: لا ينتحلون مذهب السلف ولا يصوبونه ولا يجوزونه، بل يرونه باطلاً وتشبيهاً وضلالاً، وهذا هو شأن الجهمية والمعتزلة. الثاني: وهو الغالب على الأشعرية، وإن كان بعض أعيان الأشعرية -كما سلف- تارةً ينزعون إلى طريقة الجهمية والمعتزلة، وكذلك الماتريدية؛ فإن طريقتهم مركبة من الصنف الأول والصنف الثاني، فبعض علماء الماتريدية ينزع إلى الصنف الأول فيحاكي طريقة الجهمية والمعتزلة في ذم مذهب السلف، وبعض فضلاء -وإذا قلنا فضلاء فباعتبار الغلاة في المذهب - ومقتصدة هؤلاء الماتريدية ينزعون إلى الصنف الثاني. إذاً الصنف الثاني -وهم الذين يجوزون مذهب السلف- هم أئمة الأشعرية كـأبي الحسن و القاضي أبي بكر بن الطيب ، وأئمة الكلابية وأمثال هؤلاء. أما متأخرة الأشعرية والماتريدية فإن طريقتهم تنزع إلى الصنف الأول تارة والصنف الآخر تارة. فهذا موجب هذه المقالة، وهي محصلة على الصنف الثاني، فهم يقولون: أسلم؛ لأنهم ظنوا أن مذهب السلف التفويض، وطريقة الخلف أعلم وأحكم؛ لأن هذه الآيات التي اعتقدوا عدم دلالتها على الصفات اشتغلوا هم -يعنون الخلف من أصحابهم- بتأويلها إلى معان يرونها ويظنونها مناسبةً لله سبحانه وتعالى ، أي: مناسبة في التأويل لكلام الله سبحانه وتعالى ، كقولهم في الاستواء مثلاً: الاستواء فعل فعله بالعرش صار به مستوياً. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا)) قالوا: ينزل أمره أو تنزل رحمته أو ينزل ملك من ملائكته. فمثل هذا التأويل هو الذي قصدوا فيه أن الخلف الذين تكلموا به أعلم وأحكم؛ من جهة أنهم صرفوا اللفظ إلى معنىً مناسب، في حين أن السلف سكتوا عن تعيين هذا المعنى المناسب، ويرون أن السلف والخلف من أصحابهم يتفقون على عدم ثبوت الصفات في نفس الأمر. وهذا غلط شديد من علماء الأشاعرة على السلف، فإن السلف رحمهم الله لم يكونوا من أهل التفويض، بل طريقة التفويض طريقة حادثة بعد انقراض عصر القرون الثلاثة الفاضلة، وهي طريقة متناقضة في العقل كما سيأتي التنبيه إليه، ولكونها متناقضة -أعني: طريقة التفويض- في العقل فضلاً عن بطلانها في الشرع لم يستعملها أئمة المعتزلة فضلاً عن أئمة السلف.
[وإن كانت هذه العبارة إذا صدرت من بعض العلماء قد يعني بها معنىً صحيحاً]
هذه الجملة الصواب فيها أنها زيادة من أحد النساخ في كلام شيخ الإسلام ، وموجب هذه الإضافة أن المصنف قال: كما يقوله بعض الأغبياء . وقد تقدم سبب هذا الوصف، لكن لكون هذه العبارة أو ما هو في معناها يطلقها كثير من فضلاء الفقهاء، وفضلاء أصحاب الحديث المتأخرين، وطائفة من المتكلمة الذين يعنون بامتداح مذهب السلف أحياناً كـأبي حامد الغزالي ؛ فإنه كثيراً ما يمتدح مذهب السلف في كتبه، وإن كان يخرج عنه كثيراً، سواء في مسائل الصفات أو في مسائل الأحوال والإرادات والتصوف. فلما كان لهؤلاء مقام في العلم وفي الفقه معروف، أضاف بعض النساخ هذا الحرف فقال: وإن كانت هذه العبارة إذا صدرت من بعض العلماء قد يعني بها معنىً صحيحاً . فهم كتبوها كاعتذار، والحق أنها ليست لـشيخ الإسلام ، وهي ليست في محلها، فإن معنى هذا الاعتذار أن شيخ الإسلام إنما ذم قائل هذه المقالة إذا لم يكن من العلماء، وهذا لا يلتزمه المصنف، فهو يقول: وقد صارت مقالة أبي الحسن الأشعري وأمثاله مزلة أقدام لكثير من فضلاء أهل العلم . وثناؤه رحمه الله على كثير ممن وقعوا في هذه الأغلاط معروف، حتى إنه أثنى على أبي محمد بن حزم ثناءً شديداً في كثير من كتبه مع أنه في شرح الأصبهانية قال: وأبو محمد بن حزم وأمثاله قد قالوا مقالات في مسائل الصفات مقالاتُ كثير من المعتزلة خير منها، ومقالته في كثير من الموارد تقارب مقالة المتفلسفة . إذاً: كون هذا القائل من العلماء هذا لا يعني شيئاً كثيراً؛ لأن المصنف -أعني: شيخ الإسلام - لا يصف من قال هذه المقالة بأنه خارج عن صفة العلماء، فقد يكون عالماً فقيهاً أصولياً له اشتغال بعلم الحديث.. إلخ، لكن يبقى أن قوله غلط. ومن المعلوم أن كثيراً من فقهاء الشافعية، وفقهاء المالكية، وفقهاء الحنفية، بل وطائفة من الحنابلة وقعوا في مثل هذه الأغلاط والمقالات مع أن مقامهم في العلم مجمع عليه، ولا أحد من أهل العلم والمحققين ينازع في أن لهم مقاماً معروفاً في العلم، لكن يبقى أن قولهم غلط وافتيات على مذهب السلف. فلهذا هذه العبارة ليست بشيء، وواضح من نظمها وتركيبها أنه ليس عليها طابع شيخ الإسلام رحمه الله ، خاصةً أن شيخ الإسلام ذكر هذا المعنى في كتبه كثيراً ولم يعتذر هذا الاعتذار.
[فإن هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم على طريقة السلف].
تقدم أن شيخ الإسلام ابن تيمية ضمن هذا الكتاب إشارات دقيقة جداً، فهو يقول: الخلف من المتفلسفة . مع أن المتفلسفة أظهر في الضلال من المعتزلة، والذين قالوا هذه المقالة لا يقصدون بالخلف المعتزلة، إذاً هم من باب أولى لا يقصدون المتفلسفة، وإنما يقصدون أصحابهم من متكلمة الأشعرية وأمثالهم الذين انتسبوا للسنة والأئمة، وعظموا مذهب السلف في الجملة. فكيف يقول شيخ الإسلام هنا: فإن هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ؟ نقول: لم يفضل طريقة المتفلسفة في مسألة الإلهيات بالتمام أحد من علماء الأشاعرة حتى الغلاة منهم، بل طعنهم وتصنيفهم في الرد على طوائف المتفلسفة مشهور، من ذلك ما صنفه وكتبه القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني ، وكذلك الشهرستاني في مصارعة الفلاسفة، وأبو حامد الغزالي في تهافت الفلاسفة، ومحمد بن عمر الرازي له تصنيف، وإن كان الرازي هو أخص الأشعرية تعلقاً ببعض مقالات المتفلسفة، ولا سيما مقالات الحسين بن عبد الله بن سينا ، فإنه ينقل عنه كثيراً، وإن كان يعترض عليه، لكنه تارةً يصوب بعض مقالاته؛ وهو مشغوف به. لكن لأن الغلط في باب الإلهيات، وبخاصة في باب الأسماء والصفات الذي محصله نفي صفات الله بالجملة عموماً كما هو مذهب الجهمية والمعتزلة، أو نفي ما هو من الصفات ولو الصفات الفعلية وحدها -مركب على الدلائل الفلسفية؛ فباعتبار أن هذه المذاهب نتيجة من نتائج الفلسفة وصف المصنف مذهب الخلف بأنه مذهب المتفلسفة، ولهذا قال: من المتفلسفة ومن حذا حذوهم . لأن الجهمية أخذوا دليلهم من المتفلسفة، وكذلك المعتزلة، بل حتى الأشعرية؛ فإنهم أطبقوا على نفي ما يسمونه حلول الحوادث وهي الصفات الفعلية، وهذا الدليل نفسه دليل فلسفي، بل هو عند التحقيق نفس المذهب، ولكنه مقرب للشريعة كثيراً، وفيه أحرف من الإسلام كثيرة، لكن أصل المادة فيه مادة أرسطية، وقد كان لـأرسطو طاليس كلام في مسألة الوجود الإلهي، فقد كان يثبت العلة والمعلول، والمحرك الذي لا يتحرك، وإنما تتحرك المعلولات على طريقة الترقي والصدور حركة شوقية.. وهذا المذهب هو الذي استعمله ابن سينا وأمثاله. فمذهب الأشاعرة الذي انتهى إلى امتناع اتصاف الله سبحانه وتعالى بصفة فعلية -أي: صفة تتعلق بالقدرة والمشيئة- هو نفس مفهوم نفي الحركة الذي كانوا أرسطو ينفيه ويقول: المحرك الذي لا يتحرك؛ فإن مقصود أرسطو بقوله: لا يتحرك ليس نفي الحركة الجسمانية بالضبط، فإن الحركة بالمفهوم الفلسفي العام هي: كل ما يتعلق بالقدرة والمشيئة. فقول أرسطو : لا يتحرك . هو نفس المحصل الذي دخل على الأشعرية في نفيهم لكل الصفات الموجبة لتعلق الشيء بفعل الرب ومشيئته وقيام الأفعال به؛ ولهذا لم يثبتوا إلا الصفات اللازمة، أما الصفات الفعلية فقد اتفقوا على نفيها سواءً فوضوها أو تأولوها. فحتى المذهب الأشعري عند التحقيق مولد -لا نقول: منقول؛ حتى يكون العرض دقيقاً- من أحد المذاهب الفلسفية.
والمذاهب التي دخلت على المسلمين في مسائل الإلهيات صنفان: الأول: صنف مولد، أي: أنه مركب من دلائل فلسلفية ومقدمات عقلية ومقاصد شرعية، بمعنى: أنه ليس منقولاً نقلاً محضاً صريحاً، لكنه مركب في تكوينه وترتيبه من مقدمات فلسفية هي أساس فيه، ومقاصد شرعية عامة، ومقدمات عقلية؛ من المقاصد الشرعية العامة، مثلاً: أن الله منزه عن التشبيه والتمثيل. وهذه هي مقالات المعتزلة، ويشاركهم فيها الأشاعرة والماتريدية، وإن كان قرب المعتزلة إلى الفلسفة أكثر بكثير من قرب الأشاعرة. الثاني: وهي المقالات المنقولة من الفلسفة نقلاً صريحاً، فهي ليست مولدة إنما منقولة بالتمام، وهي المقالات التي تبناها من يسمون بالفلاسفة الإسلاميين أو فلاسفة الإسلام كـابن سينا ، وأبي نصر الفارابي ، وأبي الوليد بن رشد ، وباطنيتهم الغلاة كـالمبشر بن فاتك ، وأبي يعقوب السجستاني صاحب الأقاليد الملكوتية وأمثال هؤلاء، فإن مقالات هؤلاء مقالات منقولة، بمعنى: أنها أحرف فلسفية منقولة على التمام، وفي الغالب أنها تنقل عن أرسطو . إذاً: قال شيخ الإسلام : من المتفلسفة ومن حذا حذوهم لأنه يعتبر أن كل المذاهب الكلامية -معتزلة أو أشعرية أو ماتريدية- مركبة في نتائجها على مقدمات متلقاة من الفلسفة، وأنه لولا هذه المقدمات الفلسفية لما انتهوا إلى هذه المذاهب، وهذه الشهادة التي قالها شيخ الإسلام في هؤلاء لا تختص به رحمه الله ، فإن أبا الحسن الأشعري لما رجع عن الاعتزال صرح في بعض كتبه أن دليل المعتزلة في الصفات منقول عن الفلاسفة. وإذا كان الأشعري صرح في كتبه أن دليل المعتزلة -وهو دليل الأعراض- دليل فلسفي، وصرح الشهرستاني وغيره أن مذهب المعتزلة في الصفات مذهب فلسفي؛ وإذا كانت حقيقة مذهب الأشاعرة أنه جزء من مذهب المعتزلة؛ لأنهم نفوا طائفة من الصفات وأثبتوا طائفة، إذاً: يصح أن نقول: إن المذهب الأشعري أيضاً جزء من المذهب الفلسفي. ومن العجب أن أبا الحسن الأشعري وصف دليل الأعراض بأنه دليل فلسفي، حتى إنه منعه في بعض كتبه، ثم هو نفسه يستعمله في بعض كتبه التي بنى عليها المذهب! حيث إن كتب الأشعري على صنفين: الأول: كتب انتمائية يقصد بها بيان انتمائه واتجاهه، كالرسالة إلى أهل الثغر، والإبانة. الثاني: كتب قصد بها تقرير المذهب على التفصيل كاللمع والموجز.. وهذه الكتب استعمل فيها دليل الأعراض. فهو يمنع هذا الدليل في بعض كتبه، لكي لا يلتزمه العامة، لكنه يعتقد أنه في نفس الأمر دليل صحيح، ومثله كذلك أبو حامد الغزالي ، حيث منعه في بعض كتبه، واستعمله عند الترتيب العقدي للمذهب. وجمهور الأشاعرة يصرحون بصحة الدليل، مع قولهم أنه دليل فلسفي عند المعتزلة، وهذا بسبب إدخالهم بعض التغييرات في مقدماته. ......
[إنما أُتُوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف: هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ }[البقرة:78] وأن طريقة الخلف: هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات].
موجب هذه المقالة التي تقول: طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم أن أصحابها كانوا يعتقدون انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكانوا يعظمون السلف في الجملة، ويرون ظاهر القرآن على إثباتها، فقالوا: إن السلف كانوا ينفونها في نفس الأمر -أي: يعتقدون عدم ثبوت الصفات الفعلية- لكن موقفهم من آيات القرآن التفويض -أي: لا يتكلمون في معانيها لا إثباتاً ولا نفياً، ويعتقدون انتفاء المعنى الظاهر- والخلف تأولوها كما سلف، فهذا الظن الفاسد -الذي هو جهل وغلط على السلف- هو الذي أوجب هذه المقالة. وبهذه الطريقة -طريقة الأشعرية- يكون الفرق بين السلف وعلماء الأشاعرة هو أن علماء الأشاعرة ذكروا التأويل والسلف لم يذكروا التأويل، ويبقى أن الطائفتين في فهم الأشعرية اتفقوا على نفي الصفات الفعلية، وهذا غلط شديد على السلف، فإن السلف كانوا يثبتون الصفات الواردة في كتاب الله سواء كانت صفات لازمة أو صفات فعلية. ......
أما مسألة المجاز فقد تكلم فيها أصناف: الأصوليون، وأهل اللغة العربية -وهم الأصل في هذا- والمتكلمون في كتبهم، أما جمهور الأصوليين فإنهم يحكون أن الجمهور على إثبات المجاز في القرآن، وكذلك بعض المفسرين الذين يميلون إلى هذه الطرق يقولون كذلك، وبعض المتكلمين في كتبهم أيضاً يحكون هذا، وإن كانوا يحكون عن طائفة من المتكلمين عدم ثبوت المجاز. ......
من المعلوم أن شيخ الإسلام رحمه الله من أشد من تكلم وطعن في مسألة المجاز، وقال: إن القرآن ليس فيه مجاز. وقد تكلم بعض المعاصرين في هذه المسألة، وقال: إن شيخ الإسلام يتناقض؛ فإنه تارةً يطلق في كتبه عبارة المجاز فيقول: وهذا من المجاز اللغوي، وهذا من مجاز اللغة. مع أن له رسائل ومواضع من كلامه يصرح فيها بإبطال المجاز؛ وبعضهم فرض هذا حتى في ابن القيم ، مع أن ابن القيم رحمه الله -في الجملة- تبعٌ لـشيخ الإسلام . والصحيح أن القول في المجاز يقع على جهتين: الأولى: المجاز باعتباره من عوارض الألفاظ. الثانية: المجاز باعتباره من عوارض المعاني. والذي أنكره شيخ الإسلام ، واشتد في دفعه وإبطاله هو المجاز باعتباره من عوارض المعاني، أما إذا كان من عوارض الألفاظ فهذا يقال: إنه مجرد اصطلاح، وهذا هو الذي جعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أحياناً يستعمل هذا الحرف، فيقول: وهذا من مجاز اللغة، وفُسر هذا بالمجاز. وجعل ابن القيم يقول هذا كثيراً أحياناً. مثلاً: القول بأن عبارة: رأيت أسداً يخطب . من باب مجاز اللغة.. هذا كاصطلاح لا بأس به، كما أنك تقول: جاء زيد. جاء: فعل ماض، وزيد: فاعل. فإنه لا أحد يستطيع أن يقول لك: هات دليلاً على أن امرؤ القيس سمى زيداً فاعلاً، وأن هذا حال، أو تمييز، أو مفعول به؛ فإن هذه اصطلاحات، وقطعاً أنه لا مشاحة في الاصطلاح، ولا يمكن أن شيخ الإسلام يعارض في اصطلاح لغوي؛ لأن عندنا اصطلاحات شرعية ما عارض فيها لا شيخ الإسلام ولا غيره. كذلك الصيغ المستعملة في علم الحديث، مثلاً: هذا مقطوع، وهذا منقطع، وهذا مرسل، وهذا موقوف، وهذا إسناد صحيح، وهذا إسناد حسن.. هذه اصطلاحات ما تكلم بها الصحابة، لكن لا يمكن لأحد أن يقول: أين تصريح الصحابة بها؟ إذاً: لم يكن شيخ الإسلام رحمه الله ينكر المجاز كاصطلاح من عوارض الألفاظ، وإنما وقع نقده واعتراضه عليه باعتباره من عوارض المعاني. وقد يقول قائل: إننا نرى شيخ الإسلام رحمه الله في رده لنظرية المجاز ينكرها أحياناً حتى من جهة اللغة الاصطلاحية اللفظية المحضة، فهو يقول مثلاً: ولم يذكر هذا التقسيم أئمة اللغة الكبار كـالخليل بن أحمد والأصمعي وأمثالهم ويقول: وهذا التقسيم لألفاظ العربية إلى حقيقة ومجاز لم يتكلم به أحد من السلف، ولا أحد من أئمة العربية المتقدمين ويقول: وأصحاب هذا التقسيم لم يذكروا له حداً صحيحاً، فإن المشهور عندهم أن الحقيقة: هو اللفظ الذي وضع في معنىً واستعمل له، والمجاز: هو اللفظ الذي استعمل في غير ما وضع له، وهذا يستلزم العلم بالوضع والاستعمال، قال: أما الاستعمال فهو استعمال أهل اللسان، وهم العرب، قال: فهذا يحفظ، ولكن أين العلم بالوضع؟ وهذا نقد قوي في كلام شيخ الإسلام للمجاز، حيث إنهم يقولون: إن الحقيقة هو اللفظ المستعمل فيما وضع له، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له. فلابد إذاً أن نعرف الوضع ونعرف الاستعمال. ومن المعلوم أن الاستعمال هو استعمال العرب، لكن الوضع وضع من؟ ولهذا اعتنى علماء المعتزلة الذين دافعوا عن مسألة المجاز ببيان أصل اللغة.. هل هي قياسية، أو سماعية، أو أنها علِّمت لآدم، وكيف اختلف لسان البشر.. إلخ. فـشيخ الإسلام رحمه الله -أحياناً- يعترض على مسألة المجاز حتى من الوجه الاصطلاحي اللفظي، وهذا من باب النقد الاستتباعي؛ بمعنى أنه إذا أراد أن يبطل المجاز باعتباره من عوارض المعاني فإنه يقول: لو أن شخصاً قصد إلى إبطال المجاز جملة وتفصيلاً حتى كاصطلاح، فإن هذا ممكن، فهو يريد أن يصل إلى أن المجاز كما أنه غلط من جهة كونه من عوارض المعاني كذلك يمكن إبطاله من جهة كونه من عوارض الألفاظ والاصطلاح، ومن المعلوم أنه إذا استطيع دفع المجاز باعتباره اصطلاحاً لفظياً فمن باب أولى أنه يمكن دفعه باعتباره من عوارض المعاني. فهو أراد أن يجوز إبطال المجاز حتى كاصطلاح لفظي ليتحقق بطريقة الأولى إبطاله باعتباره من عوارض المعاني. والنتيجة أن شيخ الإسلام ليس لديه موقف حاسم من المجاز كاصطلاح لفظي، وإن كان أحياناً ينقده استتباعاً، إنما موقفه الخاص من المجاز باعتباره من عوارض المعاني.
فإن المعتزلة -وهم أخص من نظم نظرية المجاز في اللغة، وكثير منهم أساطين في العربية- نفوا الصفات بدلائل كلامية مولدة من الفلسفة، فلما انتهوا من النفي وانتهى مذهب المعتزلة إلى أن الرب سبحانه يمتنع قيام الصفات به، رأوا أن نصوص القرآن تعارض النتيجة التي قرروها، فلما وصلوا إلى هذا وهم قوم يسلمون بالقرآن وأنه حق؛ تأولوه حتى لا يعارض النتيجة التي انتهوا إليها.
....
ولهذا نستطيع أن نقول: إن المعتزلة لم يستدلوا على نفي صفة واحدة -وهم ينفون سائر الصفات- بدليل مفصل من الكتاب أو السنة، بل دلائلهم المفصلة دلائل كلامية متلقاة عن الفلاسفة، وغاية ما يستدلون به من القرآن على مذهبهم آيات مجملة كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11] ففي الآية نفي التشبيه، وهذا صحيح، أن الله منزه عن الشبيه والمثيل. لكن يبقى ما هو حد التشبيه..؟ هذا هو محل النزاع.
قد يقول قائل: إننا نرى أن المعتزلة نفوا الرؤية، واستدلوا لنفيها بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } [الأنعام:103] واستدلوا بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي } [الأعراف:143] وهذان الدليلان دليلان تفصيليان فكيف نقول: إن المعتزلة لم يستدلوا بدليل تفصيلي في أي صفة مع أن هذين الدليلين مبسوطان في كتبهم؟ نقول: بغض النظر عن كون الاستدلال بهذين الدليلين من القرآن غلطاً، ولكن هب جدلاً أن الآيتين تدلان على نفي الرؤية؛ فإن غاية ما يمكن أن يقال: إن في الآيتين نفياً للرؤية؛ لا تدركه هذا نفي، لن تراني هذا نفي. فلو فرضنا جدلاً أن في الآيتين نفياً للرؤية فهل المعتزلة تنفي الرؤية؟ الجواب: المعتزلة تنفي الرؤية نفي امتناع، بمعنى أنها تقول: إن الرؤية ممتنعة على الله. والذي في القرآن أقصى ما يمكن أن يدل عليه هو النفي فقط، ومن المعلوم أن المنفي لا يلزم أن يكون ممتنعاً؛ فإن الشيء قد ينفى وهو ليس ممتنعاً، لكن لعدم ثبوت سنده، وإذا كان يتعلق بالله سبحانه لعدم مشيئته. إذاً: الشيء ينفى إما لكونه ممتنعاً في ذاته أو لكونه لم يشأه الله، والقرآن إنما نفى فقط، فلو كان المعتزلة يقفون عند القرآن المفصل لقالوا: الرؤيا منفية، والله أعلم هل تصح أو لا تصح؟ لكنهم لم يقفوا عند هذا، بل قالوا: الرؤية ممتنعة؛ مع أن الامتناع درجة أقوى من النفي المطلق، فهم قالوا قولاً أخص مما دل عليه ظاهر القرآن الذي لو فرض جدلاً أنه يدل على قولهم؛ وهذا يدل على أن المذهب زاد على الدلالة القرآنية. ومن هنا نقول: إن المعتزلة لا دليل لهم تفصيلي من القرآن في كل مسائل الصفات. إذاً: لما رأى القوم معارضة القرآن لنتيجتهم -التي هي نفي الصفات- أرادوا تأويل القرآن إلى قولهم، فجاءوا بنظرية المجاز هذه، وهذا هو الذي جعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يهاجم مسألة المجاز بقوة، فهم قالوا: إن جميع ما ورد في صفات الباري هو من باب المجاز، ومن قواعدهم التي قرروها في المجاز: إن المجاز يصح نفيه. وبهذا قرروا أنه ليس في القرآن دليل واحد على إثبات صفة واحدة؛ لأن كل الآيات من باب المجاز، والمجاز يصح نفيه.. ولا شك أن هذا من الطعن في القرآن. ولو فرض جدلاً صحة نظرية المجاز كنظرية لغوية فإن تطبيقها في مسائل الصفات ممتنع، وهذا له تفصيل آخر ليس هذا مقامه. لكن المهم فهمه هو سبب قصد شيخ الإسلام رحمه الله قصداً شديداً إلى رد مسألة المجاز.
المحصل من هذا: هو أن المعتزلة ركبوا مذهبهم من أصلين: الأصل الأول: وهو الذي حصلوا به المذهب، وهو الدلائل الكلامية. الأصل الثاني: وهو الذي تأولوا به القرآن، وهو النظرية المجازية. ولهذا لو قال قائل: إن مذهب المعتزلة وكذا الأشاعرة -فيما يوافقون فيه المعتزلة كباب الصفات الفعلية- محصل بفهم لغوي، وقد عرف كثير من المعتزلة بالحذق في اللسان العربي، فهم فهموا القرآن بحسب كلام العرب؛ ولهذا لا يؤاخذون في قولهم؛ فإننا نقول: هذا الترتيب من جهة النظام العلمي غير صحيح؛ لأن المعتزلة أولاً رتبوا المذهب وحصلوه وانتهت نتيجته عندهم قبل النظر في المسألة اللغوية، فهم رتبوه ترتيباً عقلياً، حيث بنوه على دليل الأعراض، أما القضية اللغوية فقد استدعوها بعد انتهاء المذهب إلى نفي الصفات، لدرء التناقض بين المذهب والقرآن، فتأولوا القرآن بالمجاز. إذاً: لم يتكون مذهب المعتزلة بدلالة اللغة، إنما بدليل عقلي، وأخص الدلائل التي اعتبرتها المعتزلة دليل الأعراض وهو دليل عقلي فلسفي يقوم على مقدمات فلسفية، بل ألفاظه -أصلاً- لم تعرف عند العرب بنفس المقاصد التي قصدها المعتزلة، وسيأتي إن شاء الله ذكره. المهم: أن ما يشيعه الكثير من أن مذهب المعتزلة مذهب بني على فهم لغوي في القرآن لمسألة الصفات.. هذا غلط محض، فإن المعتزلة إذا أرادوا تقرير المذهب في كتبهم فإنهم يدخلون من جهة الدلائل الكلامية، وإذا انتهى تقرير المذهب يبقى المعارضة القرآنية للنتيجة، فيستدعون هنا مسألة اللغة عبر نظرية المجاز. وهذا حتى لا يقول قائل -كما يقول البعض ممن يتكلم في هذا أو يصنف في هذا، ولا سيما بعض الباحثين من المعاصرين-: أن السلف فهموا آيات الصفات من خلال لسان العرب، والمعتزلة فهموا آيات الصفات من خلال لسان العرب؛ فإن هذا غلط محض، فإن المعتزلة لم تستخدم اللسان العربي إلا كجواب عن معارضة القرآن لنتيجتهم التي حصلوها تحصيلاً كلامياً فلسفياً.
[فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها: نبذ الإسلام وراء الظهر. وقد كذبوا على طريقة السلف].
قد كذبوا على طريقة السلف لما قالوا: إن طريقة السلف هي التفويض، هكذا قال الأشاعرة، وقد كان المعتزلة يقولون: السلف مجسمة. وكلمة مجسمة تدل على أن السلف في فهم المعتزلة كانوا يثبتون إثباتاً حقيقياً، ولو كان السلف في فهم المعتزلة مفوضة لما قالوا عنهم مجسمة. ......


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
ما, يجوز

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:12 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir