دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم الحديث الشريف > متون علوم الحديث الشريف > الأربعون النووية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 22 شوال 1429هـ/22-10-2008م, 05:19 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي ح3: حديث ابن عمر مرفوعاً: (بني الإسلام على خمسٍ:...)

3- عنْ أبي عبدِ الرَّحمنِ عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ بنِ الخطَّابِ -رَضِي اللهُ عَنْهُما- قالَ: سَمِعْتُ رسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:((بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقامِ الصَّلاَةِ، وإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ البَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ))رَوَاهُ البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ.


  #2  
قديم 22 شوال 1429هـ/22-10-2008م, 05:19 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي شرح الأربعين النووية لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين

الحديث الثالث
عَنْ أَبِيْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْن الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ النبي صلى الله عليه وسلم يَقُوْلُ: (بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُوْلُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيْتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ البِيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ) (1)

الشرح
عَنْ أَبِيْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هذه كنية، عبد الله بن عمر هذا اسم علم.
والكنية: كل ما صدر بأبٍ، أو أم، أو أخ، أو خالٍ، أو ما أشبه ذلك. والعلم: اسم يعين المسمى مطلقاً.
رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال العلماء: إذا كان الصحابي وأبوه مسلمين فقل: رضي الله عنهما، وإذا كان الصحابي مسلماً وأبوه كافراً فقل: رضي الله عنه .
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ يَقُوْلُ: بُنِيَ الإِسْلامُ الذي بناه هو الله عزّ وجل، وأبهم الفاعل للعلم به، كما أُبهم الفاعل في قوله تعالى: ( وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً) [النساء:الآية28] فلم يبين من الخالق، لكنه معلوم، فما عُلم شرعاً أو قدراً جاز أن يبنى فعله لما لم يسم فاعله.
عَلَى خَمْسٍ أي على خمسِ دعائم.
شَهَادَة أنْ لا إِلَهَ إِلاَّ الله وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُوْلُ اللهِ (شهادة) يجوز فيها وجهان في الإعراب:
الأول: الضم (شهادةُ) بناء على أنها خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هي شهادة.
والثاني: الكسر (شهادةِ) على أنها بدل من قوله: خمس، وهذا البدل بدل بعض من كل.
وقد سبق الكلام على الشهادتين في شرح حديث جبريل عليه السلام (2)
وَإِقَامِ الصّلاةِ، وَإِيْتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ البّيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَان وهذا سبق الكلام عليه في شرح حديث جبريل عليه السلام (3).
لكن في هذا الحديث إشكال وهو:تقديم الحج على الصوم.
والجواب عليه أن يقال: هذا ترتيب ذكري، والترتيب الذكري يجوز فيه أن يقدم المؤخر كقول الشاعر:
إن من ساد ثم ساد أبوه ثم ساد من بعد ذلك جده
فالترتيب هنا ترتيب ذكري.
وقد سبق في حديث جبريل تقديم الصيام على الحج،
ونقول في شرح الحديث:
إن الله عزّ وجل حكيم، حيث بنى الإسلام العظيم علىهذه الدعائم الخمس من أجل امتحان العباد.
- الشهادتان: نطق باللسان، واعتقاد بالجنان.
- إقام الصلاة: عمل بدني يشتمل على قول وفعل، وما قد يجب من المال لإكمال الصلاة فإنه لا يعد منها، وإلا فمن المعلوم أنه يجب الوضوء للصلاة، وإذا لم تجد ماءً فاشتر ماءً بثمن ، ومن المعلوم أيضاً أنك ستستر العورة في الصلاة وتشتري السترة بمال لكن هذا خارج عن العبادة، ولذلك نقول:إن الصلاة عبادة بدنية محضة.
- إيتاء الزكاة: عبادة مالية لا بدنية، وكون الغني يجب أن يوصلها للفقير، وربما يمشي وربما يستأجر سيارة، هذا أمر خارج عن العبادة، ولهذا لو كان الفقير عند الغني أعطاه الدراهم مباشرة بدون أي عمل، ولا نقول: اذهب أيها التاجر إلى أقصى البلد ثم ارجع.
- صوم رمضان: عبادة بدنية لكن من نوع آخر، الصلاة بدنية لكنها فعل، والصيام بدني لكنه كف وترك، لأنه قد يسهل على الإنسان أن يفعل،ويصعب عليه أن يكف، وقد يسهل عليه الكف ويصعب عليه الفعل، فنوعت العبادات ليكمل بذلك الامتحان، فسبحان الله العظيم.
- حج البيت: هل يتوقف الحج على بذل المال؟
فيه تفصيل: إذا كان الإنسان يحتاج إلى شد رحل احتاج إلى المال، لكن هذا خارج العبادة، هذا من جنس الوضوء للصلاة.
وإذا قدرنا أن الرجل في مكة فهل يحتاج إلى بذل المال؟
الجواب: إذا كان يستطيع أن يمشي على رجليه فلا يحتاج إلى بذل المال، والنفقة من الأكل والشرب لابد منها حتى وإن لم يحج.
لذلك الحج - عندي- متردد بين أن يكون عبادة مالية، أوعبادة بدنية مالية، وعلى كل حال إن كان عبادة مالية بدنية فهو امتحان.
فصارت هذه الحكمة العظيمة في أركان الإسلام أنها:
بذل المحبوب، والكف عن المحبوب، وإجهاد البدن، كل هذا امتحان.
بذل المحبوب: في الزكاة ،لأن المال محبوب إلى الإنسان،كما قال الله عزّ وجل: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات:8] وقال:( وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً) [الفجر:20]
والكف عن المحبوب: في الصيام كما جاء في الحديث القدسي: ((يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِيْ)) (4).
فتنوعت هذه الدعائم الخمس على هذه الوجوه تكميلاً للامتحان، لأن بعض الناس يسهل عليه أن يصوم، ولكن لا يسهل عليه أن يبذل قرشاً واحداً، وبعض الناس يسهل عليه أن يصلي،ولكن يصعب عليه أن يصوم.
ويذكر أن بعض الملوك وجبت عليه كفارة فيها تحرير رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فاجتهد بعض العلماء وقال لهذا الملك: يجب عليك أن تصوم شهرين متتابعين ولا تعتق، فقيل للمفتي في ذلك فقال: لأن الشهرين أشق على هذا الملك من إعتاق رقبة، والمقصود بالكفارة محو ما حصل من إثم الذنب، وأن لا يعود.
فنقول: هذا استحسان لكنه ليس بحسن وفي غير محله لأنه مخالف للشرع، فألزمه بما أوجب الله عليه وحسابه على الله عزّ وجل، وليس إليك.

_____________________________________________________________________________

(1) سبق تخريجه صفحة (57)
(2) صفحة (21)
(3) صفحة (22)
(4) - أخرجه البخاري – كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: (يريدون أن يبدلوا كلام الله) ، (7492)، ومسلم – كتاب الصيام، باب: فضل الصيام، (1151)،(164).


  #3  
قديم 25 شوال 1429هـ/25-10-2008م, 12:28 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي شرح فضيلة الشيخ : محمد حياة السندي

الشَّرحُ:
قالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:((بُنِيَ الإِسْلاَمُ))أَيْ: الدِّينُ.
((على خَمْسٍ)) مِنَ الدَّعَائِمِ:
(( شَهادَةِ أَنْ لا إِلهَ إلاَّ اللهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللهِ))
مَعَ التَّصْديقِ بالقلبِ، ودَخَلَ فِيهَا بالإقرارِ برِسَالتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتصديقِ بهِ، والتصديقِ بحقيقةِ الحقِّ، وبُطْلانِيَّةِ البَاطِلِ.
((وَإِقَامِ الصَّلاةِ)) كَمَا يَنْبَغِي إِقَامَتُهَا.
((وَإيتاءِ الزَّكاةِ)) ابْتِغَاءً لِمَرْضَاةِ اللهِ.
((وَحَجِّ البَيْتِ)) لِمَنِ استطاعَ إليْهِ سَبيلاً.
((وَصوْمِ رَمَضَانَ)) كلَّ عامٍ.
وهَذَا مِنْ بِنَاءِ الشَّيءِ عَلى أَعْظَمِ أَرْكَانِهِ، فالشَّهادةُ أَسَاسُ الكُلِّ، عَلَيْهَا بُنِيَ الدينُ كُلُّهُ، وبِذَهَابِهَا يَذْهَبُ الدينُ كُلُّهُ، وما سِوَاهَا مِنَ الأربَعةِ المَذْكُورَةِ بِنَاءٌ بالنسبَةِ لها، وأساسٌ من وجهٍ بالنسبةِ إلى غَيْرِهَا، والصورةُ هكذَا، وبسقوطِ إِحْدَى هذهِ الأربعةِ يَسْقُطُ جانبٌ عظيمٌ مِنَ الإسلامِ، ولاَ يَسْقُطُ الإسلامُ كُلُّهُ عِنْدَ الجمهورِ.
والمقصودُ مِنَ الحديثِ:
الحَثُّ على تحصيلِ هذهِ وَتَتْمِيمِهَا وتَحْسينِها؛ إذْ هيَ الأساسُ الذي عليهِ مدارُ البِنَاءِ، مَنْ لَم يُحْكِمِ الأُصولَ لم يَفُزْ بالوصولِ.


  #4  
قديم 25 شوال 1429هـ/25-10-2008م, 12:30 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي المنن الربانية لفضيلة الشيخ : سعد بن سعيد الحجري

الرَّاوِي:

هوَ عبدُ اللَّهِ بنُ عمرَ بنِ الخَطَّابِ، وُلِدَ في السنةِ الثانيَةِ بعدَ البعثةِ النبوِيَّةِ، وأسلمَ صَغِيراً، وهاجرَ وعُمُرُهُ إِحْدَى عَشْرَةَ سنةً، وَرَدَّهُ الرسولُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يومَ بدرٍ وأُحُدٍ لِصِغَرِهِ، وشاركَ في بَقِيَّةِ الغَزَواتِ.
مِنْ أكثرِ الصحابةِ اقتداءً بالسُّنَّةِ، وهوَ صاحبُ قيامٍ وعِبَادةٍ، ومِن المُكْثِرِينَ روايَةَ الحديثِ، رَوَى أَلْفَيْنِ وسِتَّمِائَةٍ وثلاثينَ حديثاً، تُوُفِّيَ في العامِ الثالثِ والسبعينَ مِن الهجرةِ النبوِيَّةِ.
مَوْضوعُ الحديثِ :
بيانُ أركانِ الإسلامِ.
المُفْرداتُ:
(بُنِيَ الإسلامُ) أيْ: قامَ الإسلامُ وتَأَسَّسَ على الأركانِ الخمسةِ، فهيَ دَعَائِمُهُ العظامُ ومَبَانِيهِ الجِسَامُ.
وهذا يَدُلُّ على أنَّ مَنْ أَرَادَ الدخولَ في الإسلامِ فلا بُدَّ مِنْ هذهِ الخمسِ، ولا يُسَمَّى مُسْلِماً إلاَّ بها جميعاً.
وأركانُ الإسلامِ أربعةُ أقسامٍ:
أَوَّلاً: اعْتِقَادِيَّةٌ بالقلبِ، وهُما الشهادتانِ؛ لتَطْهِيرِ القلبِ وإصلاحِهِ وتَنْوِيرِهِ وتَقْوِيَتِهِ والعملِ على سَلامَتِهِ، وهيَ الأساسُ الذي تَنْبَنِي عليهِ بَقِيَّةُ الأَرْكَانِ. وهذهِ لا تَدْخُلُهَا الإنابةُ.
ثانياً: أَعْمَالٌ بَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ:
- منها: ما يكونُ في الليلِ والنهارِ كالصَّلَوَاتِ.
- ومنها: لا يَكُونُ إلاَّ في النهارِ كَالصِّيَامِ.
والرَّاجِحُ في هذهِ أنَّهُ لا تَدْخُلُها الإنابةُ.
ثالثاً: أعمالٌ مَالِيَّةٌ مَحْضَةٌ، كالزكاةِ والصدقةِ.
وهذهِ تَدْخُلُهَا النيابةُ بالاتِّفَاقِ.
رَابِعاً: أعمالٌ بَدَنِيَّةٌ مَالِيَّةٌ؛ كَالْحَجِّ والعُمْرَةِ.
وهذهِ تدْخُلُها النيابةُ، فَتَجِبُ إذا تَعَيَّنَتْ وتُسْتَحَبُّ إذا لمْ تَتَعَيَّنْ.
والأفضلُ الدعاءُ.
وقدْ سَبَقَ استيفاءُ شرحِ مفرداتِ هذا الحديثِ في الذي قَبْلَهُ.

وسببُ تقديمِ الحجِّ على الصومِ:
فَهْمُ الرَّاوِي عن ابنِ عُمَرَ ذلكَ في المَعْنَى، أَمَّا في اللفظِ فقدْ وَرَدَت الروايَةُ الصحيحةُ أنَّ ابنَ عُمَرَ سُئِلَ فَقِيلَ لهُ: الحجُّ والصَّوْمُ، قالَ: (بل الصومُ والحَجُّ).

وهذهِ التي تَتَنَاسَبُ معَ فَرْضِ الأركانِ ؛ إذ التوحيدُ ثمَّ الصلاةُ ثمَّ الزكاةُ ثمَّ الصومُ ثمَّ الحَجُّ.
الفوائدُ:
1- أنَّ الإسلامَ بناءٌ مُحْكَمٌ بأرْكَانِهِ.
2- حفظُ الإسلامِ لأهْلِهِ.
3- الاهتمامُ بالقلوبِ أكثرُ من الأبدانِ.
4- تكريمُ اللَّهِ لرَسُولِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ.
5- أَهَمِّيَّةُ الصلاةِ في الإسلامِ.
6- تأثيرُ الصلاةِ في إِقَامَتِهَا.
7- وجوبُ إقامةِ الصلاةِ.
8- إعطاءُ الزكاةِ لأهْلِهَا.
9- تطهيرُ القلوبِ والأبدانِ والأموالِ.
10-أداءُ رُكْنِ الحجِّ للمستطيعِ.
11-وجوبُ صومِ رمضانَ.
12-أنَّ الإنسانَ لا يُسَمَّى مسلماً إلاَّ بهذهِ الأركانِ.ِ
13-مَنْ تَرَكَ رُكْناً واحداً فقدْ كَفَرَ.


  #5  
قديم 25 شوال 1429هـ/25-10-2008م, 12:32 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي شرح فضيلة الشيخ : ناظم سلطان المسباح

(1) مَنْزِلَةُ الْحَدِيثِ:

هذا الْحَدِيثُ لَه أهميَّةٌ عَظِيمَةٌ؛ لأنَّهُ تعرَّضَ لِبَيَانِ أُسسِ وقواعدِ الإِسْلامِ الَّتي عَلَيْهَا بُنِيَ، الَّتِي بِهَا يَكُونُ الْعَبْدُ مسلمًا، وبغيرِهَا يَمْرُقُ مِن الدِّينِ.
قالَ النَّوويُّ: (إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَصْلٌ عظيمٌ فِي معرفةِ الدِّينِ، وَعَلَيِْهِ اعتمادُهُ وَقَد جَمَعَ أركانَهُ) أ. هـ.

فيجبُ الاعتناءُ بِهِ وحِفْظُهُ ونَشْرُهُ بَيْنَ المسلمينَ.
متَى يَكُونُ الْعَبْدُ مسلِمًا ؟:
لا يَكُونُ الْعَبْدُ مسلمًا إِلا بالقيامِ بأُسُسِ ودعائمِ وأركانِ الإِسْلامِ الَّتي بيَّنَها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، ومثَّلَ صلواتُ اللَّهِ وسلامُهُ عَلَيْهِ لِهَذِه الأُسُسِ والدَّعائمِ بالبناءِ العَتيدِ المُحْكَمِ الثَّابتِ، الَّذي لا يقومُ إِلا عَلَى قواعدَ وإلا انهارَ عَلَى أهلِهِ، وبقيَّةُ خِصالِ الإِسْلامِ الواجبةِ مُتَمِّمَةٌ لَه، كَمَا أنَّ البناءَ لَه تَتِمَّاتٌ ضَروريَّةٌ لا يَسْتَغْنِي الْعَبْدُ عَنْهَا.
والدَّعائمُ الأربعةُ المذكورةُ مَبْنيَّةٌ عَلَى الشَّهادةِ ؛ لأنَّ اللَّهَ لا يَقْبَلُ مِنْهَا شيئًا دُونَ الشَّهادةِ ولم يَذْكُرْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَقِيَّةَ أركانِ الإيمانِ والواجباتِ؛ لأنَّ الإيمانَ بأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ مُستلزِمٌ لِجَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِن مُعتقداتٍ وعباداتٍ، كَمَا لَم يَذْكُرِ الجهادَ وَهُو الفريضةُ العظيمةُ الَّتي فِيهَا عِزُّ أمَّةِ الإِسْلامِ، ورَفْعُ رايتِهَا، وقمعُ الكفَّارِ والمنافقينَ؛ وَذَلِك لأنَّها فرضُ كِفايَةٍ، وَلا تَتَعَيَّنُ عَلَى الجميعِ إِلا فِي بَعْضِ الحالاتِ.

أوَّلاً: الشَّهادةُ:

قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بـُنـِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ)) هَذِه مِن أَعْظَمِ دَعائمِ الإِسْلامِ؛ لأنَّ بِهَا يُعْصَمُ الدَّمُ والمالُ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَيُؤْمِنُوا بِي، وَبِمَا جِئْتُ بِهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ)).


وبها يَتقبَّلُ اللَّهُ مَا شَرَعَ لَنَا مِن أعمالٍ، وبها دُخولُ الجنَّةِ والنَّجاةُ مِن النَّارِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} وبها تُغْفَرُ الذُّنوبُ مَهْمَا عَظُمَتْ.
ومعناها: الإقبالُ عَلَى اللَّهِ بالعِبادةِ الصَّادقةِ، والْبَرَاءةُ مِن عِبادةِ كلِّ مَا سِوَى اللَّهِ، فَهُو الإلهُ الحقُّ فِي الوُجودِ، وكلُّ مَا سِوَاهُ مِن آلهةٍ باطلةٌ.
ومعنَى: مُحمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ: الشَّهادةُ لَهُ بأنَّهُ مُرسَلٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ، تَجِبُ مَحَبَّتُهُ وطاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وتَصديقُهُ فِيمَا أَخبَرَ، وأَلا يُقدِّمَ عَلَى قولِهِ قولاً.
ثانيًا: الصَّلاةُ:

الصَّلاةُ هِي الصِّلَةُ بَيْنَ الْعَبْدِ وربِّهِ تباركَ وَتَعَالَى، يَجِبُ أداؤُهَا عَلَى هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((صَلـُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)).
أَفْلَحَ مَن أَدَّاها بِخُشوعٍ وإخباتٍ وخُضوعٍ، قَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} مَنْ حافظَ عَلَى أدائِهَا كَانَتْ لَهُ يومَ الْقِيَامَةِ نورًا وبرهانًا ونجاةً، وَكَانَ لَهُ عِنْدَ ربِّهِ عهدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الجنَّةَ.
الصَّلاةُ تربِّي فِي المسلمِ الوازعَ الَّذي بِه يَبتعدُ عمَّا لا يُرضِي اللَّهَ تَبارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}.
الصَّلاةُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلاةُ، فَإِنْ صَلَحَتْ صَلَحَ سَائِرُ عَمَلِهِ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سَائِرُ عَمَلِهِ)).
الصـَّلاةُ المفروضةُ تَمْحَقُ الذُّنوبَ والْخَطايَا.
حُكْمُ تَارِكِ الصَّلاةِ:
أَجْمَعَ عُلماءُ المسلمينَ عَلَى أنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ جُحودًا وإنكارًا لَهَا كَفَرَ
وخَرَجَ مِن مِلَّةِ الإِسْلامِ.
واخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ مَن تَرَكَهَا تَكاسُلاً وتَشاغُلاً عَنْهَا دُونَ عُذْرٍ يُعْتَدُّ بِهِ، مَع اعتقادِهِ بفَرْضِيَّتِها.
1- فمنهم مَنْ ذهبَ إِلَى الْقَوْلِ بتكفيرِهِ.
مِن الصَّحابةِ: عمرُ بْنُ الخطَّابِ، وعبدُ الرَّحمنِ بْنُ عوفٍ، ومعاذُ بْنُ جبلٍ، وأبو هُريرةَ، وعبدُ اللَّهِ بْنُ مَسعودٍ، وعبدُ اللَّهِ بْنُ عباسٍ، وجابرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وأبو الدَّرْدَاءِ، رَضِي اللَّهُ عَنْهُم.
ومِن غَيْرِ الصَّحابةِ:
أَحْمَدُ بْنُ حنبلٍ، وإسحاقُ بْنُ راهويْهِ، وعبدُ اللَّهِ بْنُ المبارَكِ، والنَّخَعِيُّ.
واستدلُّوا بالآتي:
- عنْ جابرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بـَيـْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ تَرْكُ الصَّلاةِ)).
- وعنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شقيقٍ العُقَيْلِيِّ قَالَ: (كَانَ أصحابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنَ الأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلاةِ).
2- ومنهُمْ مَن ذَهَبَ إِلَى الْقَوْلِ بفُسوقِهِ، وعَدَمِ تَكفيرِهِ،
وَهَذَا قَوْلُ جُمهورِ العُلماءِ مِن السَّلفِ والْخَلَفِ مِنْهُم: مالكٌ، والشَّافعيُّ، وأبو حَنيفةَ.
واستدلُّوا بالآتي:
-قالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ، فَمَنْ جَاءِ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ)).
والشَّاهدُ فِي الْحَدِيثِ:
أنَّ تاركَ الصَّلاةِ قَدْ يُغفرُ لَهُ ، وَهَذَا يَعْنِي أنَّ تَرْكَهَا لَيْسَ كُفْرًا حَقيقيًّا؛ إذْ لَو كَانَ كُفْرًا لَمُنِعَتْ عنْهُ المغفرةُ.
وَكَذَلِك عَدمُ خلودِهِ فِي النَّارِ دَلِيلٌ عَلَى أنَّ تَرْكَ الصَّلاةِ لَيْسَ كُفرًا حقيقيًّا؛ لأنَّ المعروفَ أنَّ الكافرَ مُخلَّدٌ فِي النَّارِ.
وكذلك مِمَّا احْتَجُّوا بِهِ قولُهُ جلَّ وَعَلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
عنْ حُذيفةَ بْنِ اليَمَانِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( يَدْرُسُ الإِسْلامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوبِ، حَتَّى لا يُدْرَى مَا صَيِامٌ، وَلا صَلاةٌ، وَلا نُسُكٌ، وَلا صَدَقَةٌ، وَلَيـُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ فِي لَيْلَةٍ فَلا يَبْقَى فِي الأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ، وَتَبْقَى طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ: الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ يَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَنَحْنُ نَقُولُهَا)).
قَالَ صِلَةُ بْنُ زُفَرَلِحُذَيْفَةَ: (مَا تـُغني عَنْهُم: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَهُم لا يَدْرُونَ مَا صَلاةٌ، وَلا صيامٌ، وَلا نُسُكٌ، وَلا صَدَقةٌ ؟) فأَعْرَضَ عَنْه حُذيفةُ، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ ثلاثًا كلَّ ذَلِكَ يُعرِضُ عَنْه حُذيفةُ، ثمَّ أَقبلَ عَلَيْهِ فِي الثَّالثةِ فقالَ: (يَا صِلَةُ، تُنْجِيهِمْ مِن النَّارِ، ثَلاثًا).
قالَ الألبانِيُّ مُعَقِّبًا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: (هَذَا، وَفِي الْحَدِيثِ فائدةٌ فقهيَّةٌ هامَّةٌ، وَهِي: أنَّ شهادةَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ تُنْجِي قائِلَهَا مِن الخلودِ فِي النَّارِ يومَ القِيامةِ، وَلَو كَانَ لا يقومُ بِشَيْءٍ مِن أركانِ الإِسْلامِ الأُخرَى كالصَّلاةِ وغيرِهَا، ثمَّ قَالَ: وَأَنَا أرَى أنَّ الصَّوابَ رأيُ الجمهورِ، وأنَّ مَا وَرَدَ عَنِ الصَّحابةِ لَيْس نَصًّا عَلَى أنَّهم كَانُوا يُريدونَ بالكفرِ هُنَا الْكُفْرَ الَّذي يُخَلَّدُ صاحبُهُ فِي النَّارِ، وَلا يَحْتَمِلُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ، فَكَيْفَ ذَلِك وَهَذَا حُذيفةُ بْنُ الْيَمَانِ -وهو مِن كِبارِ أُولَئِكَ الصَّحابةِ- يَرُدُّ عَلَى صِلَةَ بْنِ زُفَرَ، وَهُو يَكادُ يَفهمُ الأَمْرَ عَلَى نحوِ فَهْمِ أَحمدَ لَهُ، فيقولُ: (مَا تُغْنِي: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَهُم لا يَدرونَ مَا صلاةٌ....؟) فيُجيبـُهُ حُذيفةُ بَعْدَ إعراضِهِ عَنْهُ: (يَا صِلةُ تُنجيهِمْ مِن النَّارِ، ثلاثًا).

فهذا نصٌّ مِن حُذيفةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أنَّ تارِكَ الصَّلاةِ -ومثلُها بقيَّةُ الأركانِ- لَيْسَ بكافرٍ، بَل هُو مُسلمٌ ناجٍ مِن الخلودِ فِي النَّارِ يومَ القِيامةِ) ا هـ.
كما يُعَضِّدُ مَن ذَهَبَ إِلَى هَذَا الرأيِ عُموميَّاتٌ مِنْهَا:
- عن عُبادةَ بْنِ الصَّامتِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مـَنْ شَهِدَ: أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ)).

وحملَ الجمهورُ الأَحَادِيثَ الواردةَ بتكفيرِ تاركِ الصَّلاةِ عَلَى الجاحدِ، أَو الْمُستَحِلِّ للتَّركِ.
كما حَمَلَ بعضُهُم الْكُفْرَ فِي الأَحَادِيثِ الواردةِ عَلَى كُفْرِ المعصيَةِ أَو الْعَمَلِ؛ لا الْكُفْرِ المُخْرِجِ مِن الملَّةِ؛ وَذَلِك أنَّ الْكُفْرَ والظُّلمَ والفسوقَ مَراتبُ.
وَلِهَذَا وَرَدَ عَن ابنِ عبَّاسٍ قولُهُ: (كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ) كَمَا جَعَلَ البخاريُّ رحمَهُ اللَّهُكِتَابَ الإيمانِ عِدَّةَ أبوابٍ مِنْهَا: بابُ كُفْرِ العشيرِ، وكُفْرٍ دُونَ كُفرٍ، وَلِهَذَا قَدْ يُوصَفُ المؤمنُ -كما وَرَدَ فِي نصوصٍ كَثِيرَةٍ- بالفِسقِ والظُّلمِ، أَو الشِّركِ، أَو عدَمِ الإيمانِ، أَو الْكُفْرِ، وَلا يُعَدُّ مُرْتَدًّا عَن الْمِلَّةِ، كَمَا روَى ابنُ مسعودٍ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ: ((سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ)).

ولم يَقُلْ أَحَدٌ ممَّنْ يُعْتَدُّ بقولِهِ: إنَّ الكُفرَ هُنَا هُو المُخْرِجُ مِن الْمِلَّةِ، وممَّا يُخْرِجُ الكُفرَ هُنَا عَن معناهُ الحقيقيِّ كَذَلِك قولُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا...}.
فهذا النَّصُّ يَشْهَدُ لِمَا قُلْنَا: إنَّ الْكُفْرَ والظُّلمَ والفسوقَ والشِّركَ مَراتبُ، لِذَلِك حَمَلَ الجمهورُ نصوصَ تكفيرِ تاركِ الصَّلاةِ عَلَى كُفرِ النِّعمةِ، أَو عَلَى معنًى قَد قارَبَ الكُفرَ، أَو كُفرِ المعصيَةِ أَو الْعَمَلِ، كَمَا قَدَّمْتُ، والرَّاجحُ عندِي فِي هَذَا -وَاللَّهُ أعلمُ- قَوْلُ الجمهورِ.
ثالثًا: الزَّكاةُ:
الزَّكاةُ أوجبَهَا ربُّنَا تباركَ وَتَعَالَى عَلَى كلِّ مسلمٍ مَلَكَ نِصابًا مِن مالٍ بشروطِهِ.

وَهِي مأخوذةٌ مِن الزَّكاةِ، وَهُو النَّماءُ والطَّهارةُ والبركةُ.
وسُمِّيَتْ بِذَلِك: لِمَا يَكُونُ فِيهَا مِن البركةِ فِي المالِ، وطهارةِ النَّفسِ لمؤدِّيها مِن أَدْرَانِ الشُّحِّ والبخلِ.
كما ثَبَتَ وُجوبُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي مَواضِعَ عِدَّةٍ، قَالَ تَبارَكَ وَتَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وَالْمَقْصُودُ بِالصَّدقةِ الَّتي أُمِرَ حَبِيبُ ربِّ الْعَالِمِينَ صلواتُ اللَّهِ وسلامُهُ عَلَيْهِ بأَخْذِهَا هِي: الزَّكاةُ المفروضةُ، الَّتي بيَّنَ الفُقهاءُ أحكامَهَا فِي مُصنَّفاتِهِم.

وكلامي حولَ الزَّكاةِ مقصورٌ حولَ النِّقَاطِ الآتيَةِ:
1- التَّرغيبُ فِي أدائِها: رَغَّبَ اللَّهُ جلَّ جلالُهُ عبادَهُ الأغنياءَ فِي أَدَاءِ زكاةِ أموالِهِم فِي مَواضعَ كَثِيرَةٍ مِن كتابِهِ الكريمِ، فبيَّنَ سبحانَهُ أنَّ:

- أَدَاءَ الزَّكاةِ مِن أسبابِ نزولِ رَحَماتِهِ عَلَى العبادِ، قَالَ عزَّوجلَّ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ}.

- أَدَاءَ الزَّكاةِ يُطَهِّرُ النَّفسَ ويُزَكِّيها مِن دَنَسِ البُخلِ والطَّمعِ والقَسْوَةِ عَلَى الضُّعفاءِ والبائسينَ، قَالَ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}.
- أَدَاءَ الزَّكاةِ مِن أسبابِ التَّمكينِ فِي الأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}.

كَمَا رَغَّبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَدَاءِ هَذَا الرُّكنِ العظيمِ ، بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّأَدَاءَ الزَّكاةِ مِن أسبابِ دُخولِ الجنَّةِ فِي أحاديثَ كَثِيرَةٍ:
- مِنْهَا: عَن أَبِي أَيُّوبَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ، أنَّ رجلاً قَالَ للنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخْبِرْنِي بعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجنَّةَ قَالَ: ((تَعْبُدُ اللَّهَ وَلا تُشْرِكُ بِهِ، وَتُقيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ)).
- أَدَاءَ الزَّكاةِ سَبَبٌ فِي ذَهابِ شرِّ المالِ: عَن جابرٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أرأيْتَ إِنْ أدَّى الرَّجلُ زكاةَ مالِهِ ؟
فقالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ فَقَدْ ذَهَبَ عَنْهُ شَرُّهُ)).
2- التَّرْهيبُ مِن مَنْعِ الزَّكاةِ:

أ- بَيَّنَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مآلَ مانِعِ زكاةِ الذَّهبِ والفضَّةِ يومَ الْخِزْيِ والنَّدامةِ، بأنَّ هَذِه الأموالَ الَّتي يَبْخَلُ بِهَا عَلَى عِبادِ اللَّهِ، سوفَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي سَقَرَ، ثمَّ يُكْوَى بِهَا جَبِينُهُ وباقي جَسَدِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَِنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}.
ب- كَمَا بَيَّنَ سبحانَهُ بأنَّ مانِعَ الزَّكاةِ سوف يُطَوَّقُ يومَ الْمَعادِ؛بِسَبَبِ امتناعِهِ عَن أَدَاءِ حقِّ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِ، قَالَ عزَّ وجلَّ: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
أَوْرَدَ ابنُ كثيرٍ فِي شرحِ هَذِه الآيَةِ الْحَدِيثَ: عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مـَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ، يُطَوِّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَأْخُذُ بِلَهْزَمَتَيْهِ -يَعْنِي شِدْقَيْهِ- ثمَّ يَقُولُ: أَنَا مَالـُكَ، أَنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلا هَذِه الآيَةَ: {لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} إِلَى آخِرِ الآيَةِ)).

ج- عَن الأَحْنَفِ بْنِ قيسٍ قَالَ: ((جَلَسْتُ إِلَى مَلأٍ مِن قريشٍ، فجاءَ رجلٌ خَشِنُ الشَّعرِ والثِّيابِ والهيئةِ، حتَّى قامَ عَلَيْهِم فَسَلَّمَ ثمَّ قَالَ: بَشِّرِ الكانِزينَ برَضْفٍ يُحمَى عَلَيْهِ فِي نارِ جهنَّمَ، ثمَّ يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أحدِهِم حتَّى يَخْرُجَ مِن نُغْضِ كَتِفِهِ، ويُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كتفِهِ حتَّى يَخْرُجَ مِن حَلَمَةِ ثَدْيِهِ فَيَتَزَلْزَلُ)).
د- منعُ الزَّكاةِ سَبَبٌ فِي مَنعِ نزولِ الأمطارِ:


عَن ابنِ عمرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُما، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا)).
رابعًا: الْحَجُّ:
فالحديثُ يدلُّ عَلَى أنَّ حَجَّ بَيْتِ اللَّهِ الحرامِ مِن قواعدِ الإِسْلامِ.

ومِنَ الأدلَّةِ الَّتي تؤكِّدُ فرضيَّتَهُ عَلَى المستطيعِ: قولُهُ جلَّ وَعَلا: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} ذَكَرَ اللَّهُ سبحانَهُ وَتَعَالَى الحجَّ بأَبْلَغِ الألفاظِ الَّتي تَدُلُّ عَلَى وُجوبِهِ تأكيدًا لِحَقِّهِ، وتَعظيمًا لِحُرمتِهِ، وتقويَةً لفَرْضِهِ.
قالَ الشَّوكانيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: (اللامُ فِي قولِهِ {لِلَّهِ} هِي الَّتي يُقالُ لَهَا: لامُ الإيجابِ والإلزامِ، ثمَّ زادَ هَذَا الْمَعْنَى تأكيدًا حَرْفُ {عَلَى}؛ فإنَّهُ مِن أَوْضَحِ الدَّلالاتِ عَلَى الوُجوبِ عِنْدَ العربِ).
والْحَجُّ واجبٌ فِي العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، عَن أَبِي هُريرةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَطـَبـَنا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا))فقالَ رجلٌ: أَفِي كلِّ عامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فسَكَتَ حتَّى قالَها ثلاثًا، فقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ وَمَا اسْتَطَعْتُمْ)).
وُجوبُ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ:
لا يَحِلُّ للمسلمِ المستطيعِ، الصَّحيحِ البدنِ، الَّذي يَمْلِكُ مِن المالِ مَا يَكفيهِ للحَجِّ ذَهابًا وإِيَابًا ويَكْفِي مَن يعولُهُم حتَّى يَرْجِعَ مِن الْحَجِّ، أَنْ يُؤخِّرَ فَريضةَ الحجِّ، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبادِرَ بأدائِهَا،


وَذَلِك للأدلَّةِ الآتيَةِ:
1- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ كـُسـِرَ، أَوْ مَرِضَ، أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ)).
قالَ الشَّوكانيُّ: (لَو كَانَ عَلَى التَّراخِي، لَم يُعيِّنْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العامَ القابلَ))
اهـ.

2- عَن ابنِ عبَّاسٍ، عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((تَعَجـَّلـُوا إِلَى الْحَجِّ -يَعْنِي: الفَريضةَ- فإنَّ أحدَكُم لا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ)).
وَوَجْهُ الدَّلالةِ مِن هَذَا الْحَدِيثِ وَاضِحٌ؛
لأنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بالتَّعجيلِ، وَلا تُوجدُ قرينةٌ قَوِيَّةٌ تَحْمِلُ هَذَا الأَمْرَ (تَعَجَّلُـوا) إِلَى غَيْرِ ذَلِك، وَاللَّهُ أعلمُ.
3- وعن الْحُسْنِ قَالَ: قَالَ عمرُ بْنُ الخطَّابِ: (لَقَدْ همَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ رجالاً إِلَى هَذِه الأَمْصَارِ، فيَنظرُوا كلَّ مَنْ كَانَ لَهُ جِدَّةٌ وَلَم يَحُجَّ، فيَضربُوا عَلَيْهِم الْجِزْيَةَ، مَا هُمْ بمسلمينَ، مَا هُمْ بمسلمينَ).
ذهبَ إِلَى الْقَوْلِ بوجوبِ الحجِّ عَلَى الفورِ:
مالكٌ ، وأبو حَنيفةَ، وَأَحْمَدُ، وَبَعْضُ أصحابِ الشَّافعيِّ، وزيدُ بْنُ عليٍّ، والمؤيَّدُ بِاللَّهِ، والنَّاصرُ، وأبو يُوسُفَ، وَمَا ذهبَ إِلَيْهِ هَؤُلاءِ، يُوافِقُ كثيرًا مِن الأدلَّةِ العامَّةِ، الَّتِي تَحُثُّ عَلَى الْمُبادَرةِ فِي أعمالِ الْبِرِّ والطَّاعاتِ.
واحتجَّ مَنْ خَالَفَ هَذَا الْمَذْهبَ:
بأنَّ الْحَجَّ فُرِضَ سَنَةَ ستٍّ، ورسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَم يَحُجَّ إِلا سَنةَ عشرٍ، فَلَو كَانَ الْحَجُّ عَلَى الفورِ، لَم يُؤَخِّرْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّنةِ العاشرةِ.
وهنا أَكْتَفِي بِرَدِّ العلامةِ الشَّوكانيِّ عَلَى مَا استدلَّ بِه هَؤُلاءِ الْعُلَمَاءُ الأَعْلامُ، عَلَيْهِم سَحائبُ الرَّحمةِ.
قالَ الشَّوكانيُّ رحمهُ اللَّهُ: (واحْتَّجُّوا بأنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ سَنَةَ عشرٍ، وفَرْضُ الحجِّ كَان سَنَةَ ستٍّ أَو خمسٍ، وأُجِيبُ: بأنَّهُ قَد اخْتُلِفَ فِي الْوَقْتِ الَّذي فُرِضَ فِيهِ الحجُّ، وَمِن جملةِ الأقوالِ أنَّهُ فُرِضَ فِي سَنَةِ عشرٍ، فَلا تأخيرَ، وَلَو سُلِّمَ أنَّهُ فُرِضَ قَبْلَ العاشرِ، فتراخِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانَ لكراهةِ الاخْتِلاطِ فِي الحجِّ بأهلِ الشِّركِ؛ لأنَّهُم كَانُوا يَحُجُّونَ ويطوفونَ بالبيتِ عُراةً، فلَمَّا طهَّرَ اللَّهُ البيتَ الحرامَ مِنْهُم حجَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَرَاخِيهِ لعُذرٍ، ومَحَلُّ النِّزاعِ التَّراخِي مَعَ عدَمِهِ).

وممَّا يَرِدُ عَلَيْهِم كَذَلِك:
أنَّ قولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَعَجـَّلـُوا إِلَى الْحَجِّ...)) يُقَدَّمُ عَلَى فِعْلِهِ، وَهَذِه قاعدةٌ أُصوليَّةٌ يُعملُ بِهَا عِنْدَ تَعارُضِ النُّصوصِ، وَاللَّهُ أعلمُ.
2- التَّرغيبُ فِي الْحَجِّ:
رغَّبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمَّتَهُ فِي أَدَاءِ فَريضةِ الحجِّ، وبَيَّنَ الأَجْرَ والثَّوابَ الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لِمَنْ حَجَّ بيتَهُ الحرامَ، وإليكَ بَعْضَ مَا وَرَدَ مِن الأَحَادِيثِ:

1-الحجُّ مِن أَفْضَلِ الأعمالِ الَّتي يَتَقَرَّبُ بِهَا الْعَبْدُ إِلَى ربِّهِ جلَّ وَعَلا، كَمَا هُو مِنَ العِباداتِ الَّتي أَثَرُهَا وَاضِحٌ عَلَى النُّفوسِ، كَمَا هُو مِنْ أَكْثَرِ العِباداتِ ثوابًا.
عَنْ أَبِي هُريرةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سـُئـِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟
قَالَ: ((إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)).

قِيلَ: ثمَّ مَاذَا ؟
قَالَ: ((الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)).
قِيلَ: ثمَّ مَاذَا ؟
قَالَ: ((حَجٌّ مَبْرُورٌ)).
والحجُّ المبرورُ:


هُو أَنْ يؤدِّيَ الحجَّ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ)) وَأَنْ يَجتهدَ عَلَى نفسِهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ للحجِّ أَثَرٌ عَلَى طَهارةِ نفسِهِ، وَأَنْ يَكُونَ زاهدًا فِي الدُّنيا، راغبًا فِي الآخِرَةِ.
2- إِذَا حجَّ المسلمُ كَمَا أمرَهُ ربُّهُ تَبارَكَ وَتَعَالَى، مُراعيًا مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مُراعاتُهُ مِن آدابٍ لِهَذِهِ العِبادةِ، فالْحَجُّ يُنَقِّيهِ مِن الذُّنوبِ والخطايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوبُ الأبيضُ مِن الدَّنَسِ.
عنْ أَبِي هُريرةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سمعـْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)).
قالَ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ: (الرَّفَثُ: يُطلَقُ ويُرادُ بِه الجِمَاعُ، ويُطْلَقُ ويُرادُ بِه الفُحْشُ، ويُطْلَقُ ويُرادُ بِه خِطابُ الرَّجلِ المرأةَ فِيمَا يَتعلَّقُ بالجِماعِ، وَقَد نُقِلَ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ كلُّ وَاحِدٍ مِن هَذِه الثَّلاثةِ عَن جماعةٍ مِن الْعُلَمَاءِ، وَاللَّهُ أعلمُ).

3- الحجُّ الْمَبْرُورُ جزاؤُهُ الجنَّةُ، الَّتي فِيهَا مَا لا عَيْنٌ رأَتْ، وَلا أذنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بشرٍ.
عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ)).

4- الحجُّ جهادُ الضَّعيفِ والنِّساءِ:
عنِ الْحسنِ بْنِ عليٍّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: جَاءَ رجلٌ إِلَى النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: إنِّي جَبانٌ، وإنِّي ضعيفٌ، فقالَ: ((هَلُمَّ إِلَى جِهادٍ لا شَوكةَ فِيهِ؛ الْحَجِّ)).
وعن عائشةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى الْجِهادَ أَفضلَ الْعَمَلِ، أَفَلا نُجاهِدُ ؟
قَالَ: ((لا، لَكُنَّ أَفْضَلُ الْجِهادِ حَجٌّ مَبرورٌ)).

خامسًا: صومُ رمضانَ:
1- وُجوبُ صيامِ رَمضانَ:

صومُ رمضانَ فرضٌ ثَبَتَ فِي كِتَابِ اللَّهِ جلَّ وَعَلا:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}ومعنَى كُتِبَ أَيْ: فُرِضَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} كَمَا ثبَتَتْ فرضيَّتُهُ بالسُّنَّةِ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وغيرِهِ مِن الأَحَادِيثِ.
وأَجمَعَتِ الأمَّةُ عَلَى أنَّ الصِّيامَ أَحَدُ أركانِ الإِسْلامِ الَّتي عُلِمَتْ مِن الدِّينَ بالضَّرورةِ، ومَنْ أَنْكَرَ فرضيَّتَهُ بَعْدَ قيامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ لا يَختلِفُ اثنانِ فِي كُفْرِهِ.

2- التَّرغيبُ فِي صَوْمِ رمضانَ:
أ- مَنْ صامَ رمضانَ مُخْلِصًا لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، مُبْتَغِيًا مَا أَعَدَّ اللَّهُ للصَّائمينَ مِن ثَوَابٍ جَزيلٍ، غَفَرَ اللَّهُ تَبارَكَ وَتَعَالَى لَه ذُنوبَهُ.
عن أَبِي هُريرةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مـَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).

قالَ الألبانيُّ: (فَإِنْ لَم يَكُنْ للإنسانِ ذنبٌ، يَكُونُ الصِّيامُ سببًا فِي رَفْعِ دَرجاتِهِ، كَمَا هُو فِي حَقِّ الأنبياءِ الْمَعصومينَ مِنَ الذُّنوبِ).

وعنْ أَبِي هُريرةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( الصـَّلواتُ الْخَمْسُ، والْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ)).


ب- وعنْ أَبِي هُريرةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَتَاكـُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، شَهْرٌ مُبارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ عليكُمْ صِيامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّياطِينِ، فِيهِ لَيْلةٌ هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ)).
ومعنَى قولِهِ: ((تـُغـَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّياطِينِ))قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: (إنَّ الشَّياطينَ لا يَخْلُصونَ فِيهِ إِلَى إفسادِ النَّاسِ إِلَى مَا كَانُوا يَخْلُصُون إِلَيْهِ فِي غيرِهِ؛ لاشتغالِ المسلمينَ بالصِّيامِ الَّذِي فِيهِ قَمْعُ الشَّهَواتِ، وبقِراءةِ الْقُرْآنِ، وَسَائِرِ العِباداتِ).

وهذا مُشَاهَدٌ، فنَجِدُ كثيرًا مِن النَّاسِ الَّذينَ كانُوا قَبْلَ رمضانَ مُقَصِّرينَ فِي أَدَاءِ الصَّلاةِ فِي الْجُمَعِ والجماعاتِ يَقومون بأدائِهَا فِي المساجدِ، كَمَا نرَى الكثيرَ مِن النَّاسِ يَتوبونَ ويُقْلِعُونَ عَن معاصيهِمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ الكريمِ.

ج-وعنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عُتَقَاءَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ -يَعْنِي فِي رَمضانَ- وَإِنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَعْوةً مُسْتَجَابَةً)).


3-التَّرْهِيبُ مِن الإفطارِ فِي رَمضانَ:
الإفطارُ فِي يومِ رمضانَ مِنَ الكبائرِ، فيَجِبُ عَلَى المسلمِ أَنْ يَقِيَ نفسَهُ مِن غَضَبِ اللَّهِ وعِقابِهِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}.

عنْ أَبِي أُمامةَ البَاهليِّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ أَتَانِي رَجُلانِ، فَأَخَذَا بِضَبْعَيَّ فَأَتَيَا بِي جَبَلاً وَعْرًا، فَقَالا: اصْعَدْ.

فقلْتُ: إنِّي لا أُطِيقُهُ.
فَقَالَ: إنَّا سَنُسَهِّلُهُ لَكَ، فَصَعِدْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي سَوَاءِ الْجَبَلِ إِذَا بِأَصْوَاتٍ شَدِيدَةٍ.
قلْتُ: مَا هَذِهِ الأَصْوَاتُ ؟
قالُوا: هَذَا عُوَاءُ أَهْلِ النَّارِ.
ثُمَّ انْطَلَقَا بِي، فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بعَرَاقِيبِهِمْ، مُشَقَّقَةٍ أَشْدَاقُهُمْ، تَسِيلُ أَشْدَاقُهُم دَمًا.
قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ ؟
قَالَ: الَّذينَ يُفْطِرونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ..)) الْحَدِيثَ.
ومعنَى ((يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ))أَيْ: قَبْلَ وَقْتِ الإفطارِ، وَهُو دُخولُ هلالِ شوَّالٍ وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ وَعيدٌ شديدٌ، لِمَن تَعَمَّدَ الإفطارَ فِي رَمضانَ دُونَ عُذْرٍ يُعْتَدُّ بِه شَرْعًا نَسألُ اللَّهَ السَّلامةَ.


  #6  
قديم 25 شوال 1429هـ/25-10-2008م, 12:33 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي جامع العلوم والحكم للحافظ : عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي

(1) هذا الحديثُ خَرَّجَاهُ فِي (الصَّحيحَيْنِ) مِنْ روايَةِ عِكْرِمَةَ بنِ خَالِدٍ عن ابنِ عُمَرَ، وَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طريقَيْنِ آخَرَيْنِ عن ابنِ عُمَرَ، ولَهُ طُرُقٌ أُخْرَى عنهُ.

وقدْ رُوِيَ هذا الحديثُ مِنْ روايَةِ جَرِيرِ بنِ عبدِ اللَّهِ البَجَلِيِّ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَرَّجَ حَدِيثَهُ الإمامُ أحْمَدُ.
وقَد سَبَقَ في الحديثِ الذي قبلَهُ ذِكْرُ الإِسلامِ.
والمُرادُ مِنْ هذا الحديثِ:
أنَّ الإِسلامَ مَبْنِيٌّ على هذهِ الخَمْسِ، فهيَ كَالأَرْكَانِ والدَّعَائِمِ لبُنْيَانِهِ.
وقدْ خَرَّجَهُ مُحَمَّدُ بنُ نَصْرٍ المَرْوَزِيُّ في (كتابِ الصلاةِ)، ولَفْظُهُ: ((بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسِ دَعَائِمَ)) فذَكَرَهُ.
والمَقْصُودُ تَمْثيلُ الإِسلامِ بِبُنْيَانِهِ، ودعائِمُ البُنْيَانِ هذهِ الخَمْسُ،فلا يَثْبُتُ البُنْيَانُ بدُونِهَا، وبَقِيَّةُ خِصَالِ الإِسلامِ كَتَتِمَّةِ البُنْيَانِ، فإذا فُقِدَ مِنها شَيْءٌ نَقَصَ البُنْيَانُ وهوَ قائِمٌ لا يُنْتَقَضُ بنَقْصِ ذلكَ، بخِلافِ نَقْضِ هذهِ الدَّعَائِمِ الخَمْسِ؛ فإنَّ الإِسلامَ يَزُولُ بفَقْدِهَا جَمِيعِها بغيرِ إِشْكَالٍ، وكذلكَ يَزُولُ بِفَقْدِ الشَّهادَتَيْنِ.
والمُرادُ بالشَّهَادَتَيْنِ الإِيمانُ باللَّهِ ورسولِهِ.
وقدْ جاءَ في روايَةٍ ذَكَرَها البُخَارِيُّ تَعْلِيقًا: ((بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: إِيمَانٍ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)) وذَكَرَ بَقِيَّةَ الحديثِ.
وفي روايَةٍ لمُسْلِمٍ: ((عَلَى خَمْسٍ: عَلَى أَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ)).
وفي روايَةٍ لهُ: ((عَلَى أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ ويُكْفَرَ بِمَا دُونَهُ)).
وبهذا يُعْلَمُ أنَّ الإِيمانَ باللَّهِ ورسُولِهِ داخِلٌ في ضِمْنِ الإِسلامِ كما سَبَقَ تَقْرِيرُهُ في الحديثِ الماضِي.
وأمَّا إِقامُ الصَّلاةِ:
فقدْ وَرَدَتْ أحاديثُ مُتَعَدِّدَةٌ تَدُلُّ على أنَّ مَنْ تَرَكَهَا فَقَد خَرَجَ مِن الإِسلامِ؛ فَفِي (صحيحِ مسلمٍ): عنْ جَابِرٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ)).
ورُوِيَ مِثْلُهُ مِنْ حديثِ بُرَيْدَةَ وثَوْبَانَ وأَنَسٍ وغيرِهم.
وخَرَّجَ مُحَمَّدُ بنُ نَصْرٍ المَرْوَزِيُّ مِنْ حديثِ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لا تَتْرُكِ الصَّلاةَ مُتَعَمِّدًا؛ فَمَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الْمِلَّةِ)).
وفي حديثِ مُعَاذٍ، عن النبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ)).

فجَعَلَ الصلاةَ كَعَمُودِ الفُسْطَاطِ الذي لا يَقُومُ الفُسْطَاطُ ولا يَثْبُتُ إلا بِهِ، ولوْ سَقَطَ العَمُودُ لسَقَطَ الفُسْطَاطُ ولمْ يَثْبُتْ بِدُونِهِ.
وقالَ عُمَرُ: (لا حَظَّ في الإِسلامِ لِمَنْ تَرَكَ الصلاةَ).
وقالَ سَعْدٌ وعَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ: (مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ).
وقالَ عبدُ اللَّهِ بنُ شَقِيقٍ: (كانَ أَصْحَابُ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَرَوْنَ مِن الأعمالِ شيئًا تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصلاة).
وقالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: (تَرْكُ الصَّلاةِ كُفْرٌ، لا يُختَلَفُ فيهِ).
وذَهَبَ إلى هذا القولِ جماعَةٌ مِن السَّلَفِ والخَلَفِ ، وهوَ قولُ ابنِ المُبَارَكِ وأَحْمَدَ وإِسْحَاقَ.

وحَكَى إِسْحَاقُ عليهِ إِجْمَاعَ أهلِ العِلْمِ.
وقالَ مُحَمَّدُ بنُ نَصْرٍ المَرْوَزِيُّ: (هوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أهلِ الحديثِ).
وذَهَبَ طائِفَةٌ مِنهم إِلَى أنَّ مَنْ تَرَكَ شيئًا مِنْ أركانِ الإِسلامِ الخَمْسَةِ عَمْدًا أنَّهُ كافِرٌ بِذَلِكَ.
ورُوِيَ ذلكَ عنْ سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ ونَافِعٍ والحَكَمِ، وهوَ رِوَايَةٌ عنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا طائفةٌ مِنْ أصحابِهِ، وهوَ قولُ ابنِ حَبِيبٍ مِن المالِكِيَّةِ.
وخرَّجَ الدَّارَقُطْنِيُّ وغيرُهُ مِنْ حديثِ أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قيلَ: يا رَسولَ اللَّهِ، الحَجُّ في كُلِّ عامٍ؟
قالَ: ((لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْكُمْ مَا أَطَقْتُمُوهُ، وَلَوْ تَرَكْتُمُوهُ لَكَفَرْتُمْ)).

وخرَّجَ اللالَكَائِيُّ مِنْ طريقِ مُؤَمَّلٍ قالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ، عنْ عَمْرِو بنِ مالِكٍ النُّكْرِيِّ، عنْ أبي الجَوْزَاءِ، عن ابنِ عبَّاسٍ، ولا أَحْسَبُهُ إلا رَفَعَهُ قالَ: ((عُرَى الإِسْلامِ وَقَوَاعِدُ الدِّينِ ثَلاثَةٌ، عَلَيْهِنَّ أُسِّسَ الإِسْلامُ: شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَالصَّلاةُ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ.
مَنْ تَرَكَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً فَهُوَ بِهَا كَافِرٌ، حَلالُ الدَّمِ.
وَتَجِدُهُ كَثِيرَ الْمَالِ لَمْ يَحُجَّ، فَلا يَزَالُ بِذَلِكَ كَافِرًا وَلا يَحِلُّ دَمُهُ.
وَتَجِدُهُ كَثِيرَ الْمَالِ فَلا يُزَكِّي، فَلا يَزَالُ بِذَلِكَ كَافِرًا وَلا يَحِلُّ دَمُهُ)).
ورَوَاهُ قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ عنْ حمَّادِ بنِ زَيْدٍ مَوْقُوفًا مُخْتَصَرًا، ورَوَاهُ سَعِيدُ بنُ زَيْدٍ أخو حَمَّادٍ عنْ عَمْرِو بنِ مالِكٍ بهذا الإِسنادِ مَرْفُوعًا، وقالَ: ((مَنْ تَرَكَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً فَهُوَ بِاللَّهِ كَافِرٌ، وَلا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ، وَقَدْ حَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ)) ولمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ.
وقدْ رُوِيَ عنْ عُمَرَ ضَرْبُ الجِزْيَةِ على مَنْ لمْ يَحُجَّ، وقالَ: (لَيْسُوا بمُسلمِينَ).
وعن ابنِ مَسْعُودٍ، (أنَّ تارِكَ الزَّكاةِ ليسَ بمُسْلِمٍ).
وعنْ أحمدَ رِوَايَةُ: أنَّ تَرْكَ الصلاةِ والزَّكاةِ خاصَّةً كُفْرٌ دُونَ الصِّيَامِ والحَجِّ.
وقالَ ابنُ عُيَيْنَةَ: (المُرْجِئَةُ سَمَّوْا تَرْكَ الفَرَائِضَ ذَنْبًا بمَنْزِلَةِ رُكُوبِ المَحَارِمِ، وليسَ سَوَاءً؛ لأنَّ رُكُوبَ المَحَارِمِ مُتَعَمَّدًا مِنْ غيرِ اسْتِحْلالٍ مَعْصِيَةٌ، وتَرْكَ الفَرَائِضِ مِنْ غَيْرِ جَهْلٍ ولا عُذْرٍ هوَ كُفْرٌ).
وبَيَانُ ذلكَ في أَمْرِ إِبْلِيسَ وعُلَمَاءِ اليهودِ الذينَ أقَرُّوا بنَعْتِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلسانِهِم، ولَمْ يَعْمَلُوا بشرائِعِهِ.
وقد اسْتَدَلَّ أحمدُ وإسحاقُ على كُفْرِ تارِكِ الصَّلاةِ بكُفْرِ إِبلِيسَ بترْكِ السُّجُودِ لآدَمَ، وتَرْكُ السُّجُودِ لِلَّهِ أَعْظَمُ.
وفي (صحيحِ مسلمٍ): عنْ أبي هُرَيْرَةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي وَيَقُولُ: يَا وَيْلِي؛ أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ، فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ)).
واعْلَمْ أنَّ هذهِ الدعائِمَ الخَمْسَ بَعْضُها مُرْتَبِطٌ ببَعْضٍ،وقَد رُوِيَ أنَّهُ لا يُقْبَلُ بَعْضُها بدُونِ بَعْضٍ، كما في (مُسْنَدِ الإمامِ أحمدَ): عنْ زِيَادِبنِ نُعَيْمٍ الْحَضْرَمِيِّ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَرْبَعٌ فَرَضَهُنَّ اللَّهُ فِي الإِسْلامِ، فَمَنْ أَتَى بِثَلاثٍ لَمْ يُغْنِينَ عَنْهُ شَيْئًا حَتَّى يَأْتِيَ بِهِنَّ جَمِيعًا: الصَّلاةُ، وَالزَّكَاةُ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَحَجُّ الْبَيْتِ))، وهذا مُرْسَلٌ.

وَقَد رُوِيَ عنْ زِيَادٍ عنْ عُمَارَةَ بنِ حَزْمٍ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ورُوِيَ عنْ عثمانَ بنِ عَطَاءٍ الخُرَاسَانِيِّ، عنْ أبيهِ، عن ابنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الدِّينُ خَمْسٌ لا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُنَّ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ: شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِيمَانٌ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَبِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، هَذِهِ وَاحِدَةٌ.وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ عَمُودُ الدِّينِ، لا يَقْبَلُ اللَّهُ الإِيمَانَ إِلا بِالصَّلاةِ، وَالزَّكَاةُ طَهُورٌ مِنَ الذُّنُوبِ، وَلا يَقْبَلُ اللَّهُ الإِيمَانَ وَلا الصَّلاةَ إِلا بِالزَّكَاةِ.
فَمَنْ فَعَلَ هَؤُلاءِ، ثُمَّ جَاءَ رَمَضَانُ فَتَرَكَ صِيَامَهُ مُتَعَمِّدًا، لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ الإِيمَانَ، وَلا الصَّلاةَ، وَلا الزَّكَاةَ.


فَمَنْ فَعَلَ هَؤُلاءِ الأَرْبَعَ، ثُمَّ تَيَسَّرَ لَهُ الْحَجُّ، فَلَمْ يَحُجَّ، وَلَمْ يُوصِ بِحَجَّةٍ، وَلَمْ يَحُجَّ عَنْهُ بَعْضُ أَهْلِهِ، لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ الأَرْبَعَ الَّتِي قَبْلَهَا))، ذَكَرَهُ ابنُ أبِي حاتِمٍ وقالَ: (سَأَلْتُ أبي عنهُ.فقالَ: هذا حديثٌ مُنْكَرٌ، يُحْتَمَلُ أنَّ هذا مِنْ كلامِ عطاءٍ الخُرَاسَانِيِّ).
قُلْتُ:الظاهِرُ أنَّهُ مِنْ تَفْسِيرِهِ لحديثِ ابنِ عُمَرَ، وعَطَاءٌ مِنْ جِلَّةِ عُلَماءِ الشَّامِ.

وقالَ ابنُ مَسْعُودٍ: (مَنْ لَمْ يُزَكِّ فلا صَلاةَ لَهُ).
ونَفْيُ القَبُولِ هنا لا يُرادُ بِهِ نَفْيُ الصِّحَّةِ، ولا وُجُوبُ الإِعَادَةِ بتَرْكِهِ، وإنَّما يُرادُ بذلكَ انْتِفَاءُ الرِّضَا بِهِ، ومَدْحِ عامِلِهِ، والثناءِ بذلكَ عليهِ في المَلأَِ الأَعْلَى، والمُبَاهَاةِ بِهِ للملائِكَةِ.
فمَنْ قامَ بهذهِ الأركانِ على وَجْهِهَا حَصَلَ لَهُ القَبُولُ بهذا المَعْنَى،ومَنْ قَامَ ببَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ لمْ يَحْصُلْ لهُ ذلكَ، وإنْ كانَ لا يُعَاقَبُ على ما أَتَى بِهِ مِنها عُقُوبَةَ تارِكِهِ، بلْ تَبْرَأُ بهِ ذِمَّتُهُ، وقدْ يُثَابُ عليهِ أيضًا.
ومِنْ هُنا يُعْلَمُ أنَّ ارْتِكَابَ بَعْضِ المُحَرَّمَاتِ التي يَنْقُصُ بِهَا الإيمانُ تكونُ مانِعَةً مِنْ قَبُولِ بعضِ الطَّاعاتِ، ولوْ كانَ مِنْ بعضِ أركانِ الإِسلامِ بهذا المَعْنَى الذي ذَكَرْنَاهُ.
كما قالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ لَهُ صَلاةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا)).
وقالَ: ((مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا)).

وَقالَ: ((أَيُّمَا عَبْدٍ أَبِقَ مِنْ مَوَالِيهِ لَمْ تُقبَلْ لَهُ صَلاةٌ)).
وحديثُ ابنِ عمرَ يُسْتَدَلُّ بِهِ على أنَّ الاسْمَ إذا شَمِلَ أشياءَ مُتَعَدِّدَةً، لمْ يَلْزَمْ زَوَالُ الاسْمِ بزوَالِ بعضِها ، فيَبْطُلُ بذلكَ قولُ مَنْ قالَ: إنَّ الإِيمانَ لوْ دَخَلَتْ فيهِ الأعمالُ لَلَزِمَ أنْ يَزُولَ بزَوَالِ عَمَلٍ مِمَّا دَخَلَ في مُسَمَّاهُ؛ فإنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ هذهِ الخَمْسَ دَعَائِمَ الإِسلامِ مَبَانِيَهُ، وفَسَّرَ بها الإِسلامَ في حديثِ جبريلَ، وفي حديثِ طَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الذي فيهِ أنَّ أعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإِسلامِ، فَفَسَّرَهُ لَهُ بهذِهِ الخَمْسِ.

ومعَ هذا، فالمُخَالِفُون في الإِيمَانِ يقولونَ: لَو زَالَ مِن الإِسلامِ خَصْلَةٌ واحِدَةٌ، أَو أَرْبَعُ خِصَالٍ سِوَى الشَّهَادَتَيْنِ، لمْ يُخْرَجْ بذلكَ مِن الإِسلامِ.
وقدْ رَوَى بَعْضُهم أنَّ جبريلَ عليهِ السلامُ سأَلَ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنْ شرائِعِ الإِسلامِ، لا عن الإِسلامِ.
وهذهِ اللَّفْظَةُ لمْ تَصِحَّ عندَ أَئِمَّةِ الحديثِ ونُقَّادِهِ؛ مِنهم أبو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ، ومسلِمُ بنُ الحَجَّاجِ، وأبو جَعْفَرٍ العُقَيْلِيُّ وغيرُهم.
وقدْ ضَرَبَ العُلَمَاءُ مَثَلَ الإيمانِ بِمَثَلِ شَجَرَةٍ لها أَصْلٌ وفُرُوعٌ وشُعَبٌ، فاسْمُ الشَّجَرَةِ يَشْمَلُ ذلكَ كُلَّهُ، ولوْ زالَ شيءٌ مِنْ شُعَبِهَا وفُرُوعِهَا لمْ يَزُلْ عنها اسمُ الشَّجَرَةِ، وإنَّما يُقالُ: هيَ شَجَرَةٌ نَاقِصَةٌ، أوْ غيرُها أَتَمُّ مِنها.
وقدْ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَ الإِيمانِ بذلكَ في قولِهِ تعالَى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}[إبراهيم: 24].
والمرَادُ بالكَلِمَةِ: كَلِمَةُ التَّوحيدِ، وبأَصْلِهَا التَّوْحِيدُ الثَّابِتُ فِي القُلُوبِ، وأُكُلُهَا هُوَ الأَعْمَالُ الصالِحَةُ الناشِئَةُ مِنهُ.
وضَرَبَ النبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلَ المؤْمِنِ والمُسْلِمِ بالنَّخْلَةِ، ولوْ زَالَ شَيْءٌ مِنْ فُرُوعِ النخْلَةِ، أوْ مِنْ ثَمَرِهَا، لمْ يَزُلْ بذلَكَ عنها اسْمُ النَّخْلَةِ بالكُلِّيَّةِ، وإنْ كانَتْ نَاقِصَةَ الفُرُوعِ أو الثَّمَرِ.
ولمْ يُذْكَر الجِهَادُ فِي حديثِ ابنِ عُمَرَ هذا، مَعَ أنَّ الجِهَادَ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ.
وفي رِوَايَةٍ: أنَّ ابنَ عُمَرَ قِيلَ لَهُ: فَالْجِهَادُ؟
قالَ: الجِهَادُ حَسَنٌ، ولكنْ هكذا حَدَّثَنا رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. خَرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُ.
وفي حديثِ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ: ((أَنَّ رَأْسَ الأَمْرِ الإِسْلامُ، وَعَمُودَهُ الصَّلاةُ، وَذِرْوَةَ سَنَامِهِ الْجِهَادُ)).

وذِرْوَةُ سَنَامِهِ: أعْلَى شَيْءٍ فيهِ، ولكنَّهُ ليسَ مِنْ دَعَائِمِهِ وأرْكَانِهِ التي بُنِيَ عليها؛وذلكَ لوجهيْنِ:
أحدُهُمَا:أنَّ الجهادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ عندَ جُمْهُورِ العُلَمَاءِ، ليسَ بفَرْضِ عَيْنٍ، بخلافِ هذهِ الأرْكَانِ.
والثاني:أنَّ الجِهَادَ لا يَسْتَمِرُّ فِعْلُهُ إلى آخِرِ الدَّهْرِ، بلْ إِذَا نَزَلَ عِيسَى عليهِ السَّلامُ، ولمْ يَبْقَ حينَئِذٍ مِلَّةٌ غَيْرُ مِلَّةِ الإِسلامِ، فحينَئِذٍ تَضَعُ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا، ويُسْتَغْنَى عن الجِهَادِ، بخلافِ هذهِ الأرْكَانِ؛ فإنَّها واجِبَةٌ على المؤمنينَ إلى أنْ يَأْتِيَ أمرُ اللَّهِ وهُم على ذلكَ، واللَّهُ أعْلَمُ.


  #7  
قديم 25 شوال 1429هـ/25-10-2008م, 12:56 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
Post شرح معالي الشيخ : صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ(مفرغ)


القارئ:

وعن أبي عبد الرحمن، عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بني الإسلام على خمسٍ: شهادة ِأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)) رواه البخاري ومسلم
الشيخ:
هذا الحديث فيه ذكر دعائم الإسلام ومبانيه العظام، وهي الخمس المعروفة:
-شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، وهذه واحدة؛ باعتبار أنَّ كلاً من شقيها شهادة.
والثاني: إقام الصلاة.
والثالث: إيتاء الزكاة.
والرابع: الحج.
والخامس: صوم رمضان.

وهذا الحديث من الأحاديث التي استدل بها على أنّ أركان الإسلام خمسة. وهذا الاستدلال صحيح؛ لأنَّ قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((بُني الإسلام على خمسٍ))يدل على أنّ البناء يقوم على هذه الخمس، وغير هذه الخمس مكملات للبناء، ومعلوم أنَّ البناء يحسنُ السكنى فيه ويكون فيه العبد سعيداً؛ إذا كان تاماً، وكلما كان أتم كان العبد فيه أسعد؛ والإسلام إذا أتى العبد بمبانيه الخمس فقد حقق الإسلام، وكان له عهد عند الله -جل وعلا- أنْ يدخله الجنة.
قال: في أوله عليه الصلاة والسلام: ((بُني الإسلام على خمسٍ)) ولفظ (بُني) يقتضي أنَّ هناك من بناه على هذه الخمس، فلم يُذكر الباني على هذه الخمس.
والمقصود بالباني:

الشارع أو المشرِّع، فالذي بنى الإسلام على هذه الخمس هو الله -جل جلاله- وهو الشارع -جل وعلا-، والنبي -صلى الله عليه وسلم- مبلغٌ عن ربه -جلَّ وعلا- ليس هو شارعاً على جهة الاستقلال، وإنما هو -عليه الصلاة والسلام- مبلِّغ أو مشرِّع على جهة التبليغ، على الصحيح من أقوال أهل العلم في هذه المسألة.
فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر لنا هنا: أنَّ الإسلام بُني على هذه الخمس، والمقصود بالإسلام هنا: الدين؛ لأن الدِّين هو الإسلام كما قال -جل وعلا-:{إنّ الدين عند الله الإسلام} .
والإسلام في قوله: ((بُني الإسلام على خمسٍ)) المقصود منه: الإسلام الخاص، الذي هو الإسلام الذي بُعثَ به محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام-.
والإسلام في القرآن وفي السنة له إطلاقان:
- الإطلاق الأول: الإسلام العام الذي لا يَخرج عنه شيء من مخلوقات الله -جل وعلا-.

- إما اختياراً.
- وإما اضطراراً.
-قال -جل وعلا-: {وله أسلم مَن في السموات والأرض طوْعاً وكرْهاً}.
-وقال -جل وعلا-: {أفغير دين الله يبغون وله أسلم …} الآية.
-وقال -جل وعلا-: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}.
-وقال -جل وعلا- عن إبراهيم -عليه السلام-: {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً}.
- وقال -جل وعلا-: {هو سمَّاكم المسلمين من قبل وفي هذا…}.
فالمقصود: أنّ لفظ الإسلام هذا، هو الذي يقبله الله -جلَّ وعلا- من العباد المكلفين ديناً، فآدم -عليه السلام- مسلم، وكل الأنبياء والرسل وأتباع الأنبياء والرسل جميعاً على دين الإسلام الذي هو الإسلام العام.
وهذا الإسلام العام هو الذي يُفَسَّر بأنه: الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله، فهذا هو ملَّة إبراهيم، وهو الذي دانَ به جميع الأنبياء والمرسلين ومَنْ تبعهم.
أمّا الإسلام الخاص فيراد به: الإسلام الذي بُعث به محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام-، وهو الذي إذا أُطلق الإسلام لم يُعنَ به إلا هذا على وجه الخصوص؛ لأن الخاص مقدم على العام في الدلالة، ولأن هذا الاسم خُصَّت به هذه الأمة وخُصَّ به النبي -عليه الصلاة والسلام- فجُعل دين المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الإسلام.

فإذاً: المقصود هنا بقوله: ((بُني الإسلام)) يعني: الإسلام الذي جاء به نبينا محمد بن عبدالله -عليه الصلاة والسلام-.أمّاالإسلام الذي كان عليه الأنبياء والمرسلون فهو من حيث التوحيد والعقيدة كالإسلام الذي بُعث به النبي صلى الله عليه وسلم محمد في أصوله وأكثر فروع الاعتقاد والتوحيد، وأما من حيثُ الشريعة فإنه يختلف، فإنّ شريعة الإسلام غير شريعة عيسى -عليه السلام-، غير شريعة موسى -عليه السلام-، إلى آخر الشرائع.. وقد جاء في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الأنبياء إخوة لعَلات، الدين واحد والشرائع شتى)).
فقوله هنا عليه الصلاة والسلام: ((بُني الإسلام))يعني: الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، فلا يُتصور من هذا أنه يعم ما كان عليه الأنبياء من قبل، فالأنبياء ليس عندهم هذه الشريعة من جهة إقام الصلاة على هذا النحو، أو إيتاء الزكاة على هذا النحو، أو صيام رمضان، إلى آخره.. فهذا بقيوده مما اختصت به هذه الأمة.
قال: ((على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله)) ويجوز في (شهادة) ونظائرها أن تكون مجرورة على أنها بدل بعض من كل، يعني تقول: ((على خمسٍ: شَهَادةِ)) فـ(خمس): شمول، (شهادة): بعض ذلك الشمول، فتكون بَدل بعض من كل، ويجوز أن تستأنفها فتقول: ((على خمسٍ: شهادةُ أن لا إله إلا الله)) على القطع، كما قال الله -جلَّ وعلا-: {ضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبْكمُ …}وهذا شائع كثير.
وإذا ذكرت نظائرها فيجوز فيها الوجهان: الجر على البدلية، والرفع على القطع والاستئناف.
((شهادةِ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله))الشهادة: مأخوذةٌ من: شهد يشهدُ شهوداً وشهادةً، إذا علم ذلك بقلبه فأخبر به بلسانه وأعلم به غيره، ولا تكون شهادة حتى يجتمع فيها هذه الثلاث:

- أن يعتقد ويعلم بقلبه.
- وأن يتلفظ (يقول بلسانه).
-مُعلماً بها الغير. إذا لم يكن ثَمَّ عُذْرٌ شرعي عن إعلام الغير كإكراه أو اختفاءٍ أو ما أشبه ذلك.
فإذاً: قوله: ((شهادة أن لا إله إلا الله)) يعني: العلم بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والنطق بذلك، والإعلام به. وكل شهادة هي بهذا المعنى، والشاهد عند القاضي لا يُسمى شاهداً حتى يكونَ عَلِمَ ثم نطق، تكلم بذلك فأعلمَ به القاضي، سُمي شاهداً لأجل ذلك وقد يتوسع فيُقال في المعاني إنها شواهد؛ لأجل تنزيلها في النهاية منزلة الشهادة الأصلية.
((شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله))
((أن لا إله إلا الله)) (أنْ) هذه هي: التفسيرية.
وضابطها: أنها تأتي بعد كلمة فيها معنى القول دون حروف القول، وقد يجوز أن تكون مخفَّفة من الثقيلة أيضاً، يعني: شهادة أنَّهُ لا إله إلا الله.
((لا إله إلا الله))هي كلمة التوحيد، و(لا إله) نفيٌ، و(إلا الله) إثبات، والمنفي استحقاق أحدٍ العبادة، لأنّ الإله هو المألوه المعبود، و(إلا الله) هذا إثبات، يعني: إثبات استحقاق العبادة لله -جل وعلا- ونفي هذا الاستحقاق عمّا سواه.


فإذا قلنا: كلمة التوحيد نفي وإثبات فهذا معناها: أنها تنفي استحقاق العبادة عما سوى الله، وتثبت استحقاق العبادة لله -جلَّ وعلا- وحده، فمن شهد أن لا إله إلا الله، يكون اعتقد وأخبر بأنه لا أحد يستحق شيئاً من أنواع العبادة إلا الله وحده لا شريك له، وفي ضمن ذلك أنَّ من توجه بالعبادة إلى غيره فهو ظالم متعدٍ باغٍ على حق الله جلَّ جلاله-.
((وأنَّ محمداً رسول الله)) يعني: أنْ يعتقد ويخبر ويُعلم بأنَّ محمداً -وهو محمد بن عبد الله القرشي المكي- أنه رسولٌ من عند الله حق، وأنّه نزل عليه الوحي فأخبره بما تكلم الله -جل وعلا- به، وأنه إنما يُبلِّغُ عن الله -جل وعلا-، وهذا واضح من كلمة (رسول) فإنّ الرسول مبلغ، والرسل البشريون مبلغون من لفظ (الرسالة)، كما أن الملائكة رسل من لفظ (الملائكة).
فالرسول يأخذ من الله -جل وعلا- ويبلغ الناس ما أخذه عن الله -جل وعلا- ومعلوم أنَّ الرسل من البشر لم يجعل الله لهم -عليهم الصلاة والسلام- خاصية أن يأخذوا الوحي منه مباشرة وأن يسمعوا الكلام منه -يعني في عامة الوحي- وقد يسمعون بما أذن الله -جل وعلا- لهم في بعض الرسل، فالمَلَك رسول فيُلقي الخبر على هذا الرسول.
فاعتقاد أن محمداً رسول الله اعتقاد أنه مُبَلَّغٌ ومبلِّغٌ، هو رسول من الله -جلَّ وعلا-، لم يكلمه الله -جل وعلا- بكل الوحي مباشرة، وإنما أوحى إليه عن طريق جبريل عليه السلام، واعتقاد -أيضاً- أنه خاتم المرسلين.
((وأن محمداً رسول الله)) يعني أنه خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام، وهذا معنى الشهادة، من اعتقد أنه موحى إليه من الله وأنه رسولٌ حقاً، وأنه خاتم الرسل؛ تَمَّت له هذه الشهادة.
وهذه الشهادة بأن محمداً رسول الله لها مقتضى، هو: طاعته عليه الصلاة والسلام فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يُعبد الله إلا بما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال: ((وإقام الصلاة))
التعبير عن الصلاة بلفظ (إقام الصلاة)، هذا لأجل مجيئها في القرآن هكذا: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل}، {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}، {الذين يقيمون الصلاة}، ونحو ذلك من الآيات.
ففي القرآن: أنّ الصلاة تقام، ومعنى كونها تقام يعني: أنْ تكونَ على صفةٍ تكونُ قائمةً بإيمان العبد، وهذا هو معنى قول الله -جل وعلا-: {وأقم الصلاة إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} فمن لم يُقم الصلاة لم تنهه الصلاة عن الفحشاء والمنكر.
((وإيتاء الزكاة)) قيل فيه: (إيتاء)؛ لأجل مجيئه في القرآن، ((وحج البيت)) كذلك، و((صوم رمضان)) كذلك، يعني: اختيرت هذه الألفاظ، بلّغها النبي -صلى الله عليه وسلم- هكذا؛ لموافقتها لما جاء في القرآن فيها، فلو قيل في الزكاة: إعطاء الزكاة؛ لجاز، ولو قيل في الصلاة: تأدية الصلاة؛ جاز ذلك، ولكن اتباع ما جاء في القرآن أولى في هذا الأمر.
هذا الحديث دلَّ على أنَّ هذه الخمس أركان، وقد ذَكرت لك أن التعبير عن هذه الخمس بالأركان إنما هو مصطلح حادث عند الفقهاء؛ لأنهم عَرَّفوا الركن بأنه: ما تقوم عليه ماهية الشيء، وأن الشيء لا يُتصور أنْ يقوم بلا ركنه.
فمثلا:يقولون: البيع: أركانه: ما تقوم عليه ماهية البيع، لا يمكن أن تتصور بيعاً موجوداً إلا أنْ يكون هناك بائع ومشتري، سلعة تُباع وتُشترى، وهناك صيغة، واحد يقول: خذ وهات أو بعت، والثاني يقول: اشتريت أو ما أشبه ذلك.
فإذاً: الأركان كيف نستنتجها؟
ما تقوم عليها حقيقة الشيء، تتصور شيء،كيف يوجد؟!
دعائم وجوده هي الأركان.
النكاح مثلاً؛ أركان النكاح ما يقوم عليه النكاح، ما يُتصور أن يوجد نكاح إلا بزوجين، وبصيغة. (رجل وامرأة وصيغة) هذا حقيقته، من حيث هو.
يأتي هناك أشياء شرعية لتصحيح هذه الأركان، فيقال: يشترط في الزوج في المواصفات: كذا وكذا، يشترط المرأة أن يعقد لها وليها، يشترط في الصيغة أن تكون كذا وكذا إلى آخره؛ فغيرها تكون شروطاً.
فإذاً: الركن عندهم:ما تقوم عليه ماهية الشيء أو حقيقة الشيء، فهذه الخمس سُميت أركاناً أو قيل عنها: أركان الإسلام.

هذا الإطلاق على أنها: أركان الإسلام- يُشكل عليه أنَّ أهل السنة قالوا: إنَّ مَنْ شهد أن لا إلا الله وأن محمداً رسول الله وأدّى الصلاة المفروضة وترك بقية الأركان تهاوناً وكسلاً؛ فإنه يُطلق عليه لفظ المسلم ولا يُسلب عنه اسم الإسلام بتركه ثلاثة أركان تهاوناً وكسلاً، وهذا متفق مع قولهم في الإيمان:الإيمان قول وعمل واعتقاد، ويعنون بالعمل: جنس العمل، ويمثلهُ في أركان الإسلام الصلاة.
فإذاً: مرادهم بهذا: ما دلت عليه الأدلة الشرعية، ودلت عليه قواعد أهل السنة، من أنَّ هذه الأركان ليس معنى كونها أركاناً أنه إنْ فُقد منها ركنٌ لم تقم حقيقة الإسلام كما إنه إذا فُقد من البيع ركنٌ لم تقم حقيقة البيع لا يُتصور أنْ يكون هناك بيع بلا بائع ولا نكاح بلا زوج؛ أما الإسلام فيتصور أن يوجد الإسلام شرعاً بلا أداءٍ للحج، لو ترك تهاوناً فإنهُ يقال عنه: مسلم، لو ترك تأدية الزكاة تهاوناً -لا جحداً- فإنه يقال عنه: مسلم وهكذا في صيام رمضان.
الصلاة اختلف فيها أهل السنة، هل ترْك الصلاة تهاوناً وكسلاً يسلب عنه اسم الإسلام أم لا؟
- فقالت طائفة من أهل السنة:إنَّ ترك الصلاة تهاوناً وكسلاً لا يسلب عن المسلم الذي شهد أنْ لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله اسم الإسلام، وإنما يكون على كبيرة وهو في كفر أصغر.
وهذا قول طائفة قليلة من علماء أهل السنة.
- وقال جمهور أهل السنة: إن ترك الصلاة تهاوناً وكسلاً كفرٌ، وأنهُ من ترك الصلاة فليس له إسلام ولو أتى بتأدية الزكاة وصيام رمضان والحج.
وهذا هو الصحيح؛ لدِلالة:
- الكتاب.
- والسنة.
- والإجماع على ذلك.
والصحابة أجمعوا على أن الأعمال جميعاً المأمور بها تركها ليس بكفر إلا الصلاة، كما قال شقيق بن عبد الله فيما رواه الترمذي وغيرهُ: (كانوا -يعني الصحابة- لا يرون من الأعمال شيئاً تركه كفر إلا الصلاة).
فالصلاة مجمعٌ على أنّ تركها كفر، وهو الذي دل عليه قول الله -جل وعلا-: {ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين..} الآيات.
وكذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في (صحيح مسلم): ((بين الرجل وبين الشرك -أو قال: الكفر-ترك الصلاة)).
وفي (السنن الأربعة) وفي (المسند) وفي غيرها بإسناد صحيح من حديث بريدة -رضي الله عنه- مرفوعاً: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)).
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((بين الرجل وبين الشرك -أو قال: الكفر- ترك الصلاة))دلنَّا على أنّ ترك الصلاة كفر أكبر.
وذلك أنَّ القاعدة: أنّ لفظ (الكفر) إذا جاء في النصوص فإنه يأتي على وجهين:
الوجه الأول: يأتي معرَّفاً.
والوجه الثاني: يأتي مُنَكَّراً، بلا تعريف.
- فإذا أتى مُنَكراً فإنه يكون معناه: الكفر الأصغر.
- وإذا أتى معرَّفاً فتكون (أل) فيه:
- إما للعهد -عهد الكفر الأكبر- العهد الشرعي الذي في ذلك.

- وإما أن تكون للاستغراق، يعني: استغراق أنواع الكفر.
مثلاً: في الكفر المنكر قال عليه الصلاة والسلام: ((ثنتان في الناس هما بهم كفْرٌ: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت))، قال أيضاً -عليه الصلاة والسلام-: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضربُ بعضكم أعناق بعض))، وأشباه ذلك من ذكر كلمة الكفر منكرة.

فإذا قيل في الكفر:كفر؛ فهذا الأصل أن فيه الأصغر؛ لأنَّ الشارع جعله منكَّراً في الإثبات، وإذا كان منكراً في الإثبات فإنه لا يعم، كما هو معلوم في قواعد الأصول.
أمّا إذا أتى معرَّفاً فإن المقصود به:الكفر الأكبر.
فإذاً نقول: الصحيح أن ترك الصلاة تهاوناً وكسلاً كفرٌ أكبر، لكن كفره ظاهر وليس بباطن وظاهر جميعاً حتى يثبت عند القاضي؛ لأنه قد يكون له شبهة من خلاف أو فهم أو نحو ذلك.
ولهذا لا يحكم بردّة من يترك الصلاة بمجرد تركه وإنما يطلق على الجنس: أن من ترك الصلاة فهو كافر الكفر الأكبر، وأمَّا المعين فإنَّ الحكم عليه بالكفر وتنزيل أحكام الكفر كلها عليه؛ هذا لا بد فيه من حكم قاضٍ يدرأ عنه الشبهة ويستتيبه حتى يؤدي ذلك. وهذا هو المعتمد عند جمهور أهل السنة -كما ذكرت لك-.
وغير الصلاة: الأمر على عكس ما ذكرت: جمهور أهل السنة على أن من ترك الزكاة أو من ترك الصيام أو من ترك الحج فإنه لا يكفر بتركها تهاوناً وكسلاً؛ لأنه ما دلّ الدليل على ذلك.
وقالت طائفة من أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم: إنّ من ترك بعض هذه فهو كافر، على خلاف بينهم في هذا، فعمر -رضي الله عنه- ظاهر قوله أنَّ ترك الحج مع القدرة عليه ووجود الاستطاعة المالية والبدنية أنه كفر، حيث قال لعمَّاله في الأمصار: أن يكتبوا له من وجد سعةً من المسلمين ثم لم يحجوا أن تُضرْب عليهم الجزية، قال: (ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين).
وكفّرَ -أيضاً- بعضُ الصحابة كـ ابن مسعود مَنْ تَرَك الزكاة تهاوناً وكسلاً، وهذا خلاف ما عليه جمهور الصحابة فمن بعدهم في أنّ من تركها بلا امتناع وإنما ترك الزكاة أو ترك الصيام أوترك الحج تهاوناً منه فإنه لا يكفّرُ، على عكس مسألة الصلاة.
هذه الأركان منقسمة إلى ثلاثة أقسام- وخصَّت بالذكر لعظم مقامها في هذه الشريعة، وعظم أثرها على العبد-:
- فالشهادتان: نصيب القلب والإيمان ففيها يتحقق الإيمان الذي هو أصل الاعتقاد والعمل.

- والصلاة: عبادة بدنية محضة.
- والزكاة: عبادة مالية محضة.
- والحج: مركب من العبادة المالية والعبادة البدنية.
- وصوم رمضان: عبادة بدنية محضة.
لهذا قال طائفة من المحققين من أهل العلم: إنه جاء في هذه الرواية تقديم الحج على الصوم، فقال: ((وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان)) وصوم رمضان في بقية الروايات قُدّم على الحج فقال: ((وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا)).
وسبب تقديم الحج على الصيام: أنّ الأمر على ما ذكرت لك من أنّ الصوم من حيث جنْسُ دلالته ممثَّل في الصلاة، فالصلاة حق البدن المحض، يعني: عبادة وجبت وتعلقت بالبدن محضاً، والزكاة عبادة تعلقت بالمال محضاً، والحج عبادة تركبت من المال والبدن، فصارت قسماً ثالثاً مستقلاً.
وأمّا الصوم: فهو -من حيث هذا الاعتبار- مكرَّر للصلاة.
وعلى هذا الفهم بنى البخاري -رحمه الله تعالى- (صحيحه) فجعل كتاب الحج مقدَّماً على كتاب الصوم؛ لأجل أن الحج عبادة مركبة من المال والبدن فهي جنسٌ من حيث هذا الاعتبار جديد والصيام جنسُ سبق مثله وهو إقام الصلاة.


  #8  
قديم 25 شوال 1429هـ/25-10-2008م, 01:10 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
Post الكشاف التحليلي

حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: (بني الإسلام على خمسٍ:...)
بيان منزلة الحديث
تخريج الحديث
موضوع الحديث
ترجمة راوي الحديث
شرح الحديث مجملاً
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس...)
معنى قوله: (بُني)
من الباني؟
هل النبي صلى الله عليه وسلم مبلغٌ عن ربه جلَّ وعلا أم شارعٌ على جهة الاستقلال؟
المراد من هذا الحديث أن الإسلام مبني على هذه الخمس
بيان معنى الإسلام
بيان ما يطلق عليه لفظ (الإسلام)
الإطلاق الأول: الإسلام العام
الإطلاق الثاني: الإسلام الخاص
أركان الإسلام مرتبط بعضها ببعض
تعريف الركن
متى يكون العبد مسلماً؟
حكم من تعمّد ترك شيءٍ من أركان الإسلام غير الشهادتين والصلاة
مسألة: الاسم إذا شمل أشياء متعددة لم يلزم زوال الاسم بزوال بعضها
تشبيه الإيمان بالشجرة التي لها أصل وفروع وشعب
وجهان في تعليل عدم ذكر الجهاد من أركان الإسلام:
الوجه الأول: أنه فرض كفاية
الوجه الثاني: أن الجهاد لا يستمر فعله إلى آخر الدهر
أولاً: الشهادتان
معنى (الشهادة) لغةً
معنى شهادة (أن لا إله إلا الله)
بيان معنى (أنْ)
كلمة التوحيد تشتمل على نفي وإثبات
أوجه إعراب كلمة (شهادة) في الحديث، ونظائرها
معنى شهادة أن محمد رسول الله
مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله
ثانياً: إقام الصلاة
معنى إقام الصلاة
حكم تارك الصلاة
حكم من ترك الصلاة جحوداً وإنكاراً
الخلاف في حكم من ترك الصلاة تهاوناً وكسلاً مع إقراره بوجوبها
القول الأول: تكفير تاركها تهاوناً وكسلاً
القول الثاني: تفسيقه وعدم تكفيره
القول الراجح في حكم تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً
قاعدة مهمة: لفظ (الكفر) يرد في النصوص على وجهين:
الوجه الأول: معرَّفاً، فيكون المقصود به الكفر الأكبر
الوجه الثاني: مُنَكَّراً، فيكون المقصود به الكفر الأصغر
هل يحكم على المعيَّنِ بالكفر لمجرد تركه الصلاة؟
ثالثاً: إيتاء الزكاة
بيان معنى الزكاة
تعريف (الزكاة) لغة
تعريف (الزكاة) شرعاً
الترغيب في أداء الزكاة
الترهيب من منع الزكاة
حكم تارك الزكاة
رابعاً: الحج
بيان معنى (الحج)
تعريف (الحج) لغة
تعريف (الحج) شرعاً
الترغيب في الحج
الحج من أفضل الأعمال
الحج ينقي العبد من الذنوب والخطايا
الحج المبرور جزاؤه الجنة
الحج جهاد الضعيف والنساء
وجوب الحج على الفور
الرد على من قال بوجوب الحج على التراخي
خامساً: صوم رمضان
بيان معنى (الصوم)
تعريف (الصوم) لغة
تعريف (الصوم) شرعاً
سببُ تقديمِ الحجِّ على الصوم في هذا الحديث
بيان فرضية صوم رمضان
الترغيب في صوم رمضان
الترهيب من الإفطار في رمضان لغير عذر
سبب عدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بقية شرائع الدين في هذا الحديث
ذكر بعض المحرمات التي يمنع ارتكابها من قبول بعض الطاعات
من فوائد حديث ابن عمر رضي الله عنهما
أنَّ الإسلامَ بناءٌ مُحْكَمٌ بأرْكَانِه
وجوب إقام الصلاة
حفظُ الإسلامِ لأهْلِهِ
أنَّ الإنسانَ لا يُسَمَّى مسلماً إلاَّ بهذهِ الأركان
تنوع تعلق هذه الأركان بالقلوب والأبدان والأموال
تكريم لله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم


  #9  
قديم 25 شوال 1429هـ/25-10-2008م, 01:12 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
Post العناصر

العناصر

حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: (بني الإسلام على خمسٍ:...)
بيان منزلة الحديث
تخريج الحديث
موضوع الحديث
ترجمة راوي الحديث
شرح الحديث مجملاً
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس...)
معنى قوله: (بُني)
هل النبي صلى الله عليه وسلم مبلغٌ عن ربه جلَّ وعلا أم شارعٌ على جهة الاستقلال؟
المراد من هذا الحديث أن الإسلام مبني على هذه الخمس
بيان معنى الإسلام
الفرق بين الإسلام العام والإسلام الخاص
أركان الإسلام مرتبط بعضها ببعض
تعريف الركن
متى يكون العبد مسلماً؟
حكم من تعمّد ترك شيءٍ من أركان الإسلام غير الشهادتين والصلاة
مسألة: الاسم إذا شمل أشياء متعددة لم يلزم زوال الاسم بزوال بعضها
تشبيه الإيمان بالشجرة التي لها أصل وفروع وشعب
سبب عدم ذكر الجهاد من أركان الإسلام
أولاً: الشهادتان
معنى (الشهادة) لغةً
معنى شهادة (أن لا إله إلا الله)
بيان معنى (أنْ)
كلمة التوحيد تشتمل على نفي وإثبات
أوجه إعراب كلمة (شهادة) في الحديث، ونظائرها
معنى شهادة أن محمد رسول الله
مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله
ثانياً: إقام الصلاة
معنى إقام الصلاة
حكم تارك الصلاة
أقسام ورود لفظ (الكفر) في النصوص
هل يحكم على المعيَّنِ بالكفر لمجرد تركه الصلاة؟
ثالثاً: إيتاء الزكاة
بيان معنى الزكاة
تعريف (الزكاة) لغة
تعريف (الزكاة) شرعاً
الترغيب في أداء الزكاة
الترهيب من منع الزكاة
حكم تارك الزكاة
رابعاً: الحج
بيان معنى (الحج)
تعريف (الحج) لغة
تعريف (الحج) شرعاً
الترغيب في الحج
وجوب الحج على الفور
خامساً: صوم رمضان
بيان معنى (الصوم)
تعريف (الصوم) لغة
تعريف (الصوم) شرعاً
سببُ تقديمِ الحجِّ على الصوم في هذا الحديث
بيان فرضية صوم رمضان
الترغيب في صوم رمضان
الترهيب من الإفطار في رمضان لغير عذر
سبب عدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بقية شرائع الدين في هذا الحديث
ذكر بعض المحرمات التي يمنع ارتكابها من قبول بعض الطاعات
ذكر بعض فوائد حديث ابن عمر رضي الله عنهما


  #10  
قديم 27 ذو القعدة 1429هـ/25-11-2008م, 10:28 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post الأسئلة

الأسئلة
س1: بين منـزلة هذا الحديث؟
س2: اذكر ترجمة مختصرة لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما؟
س3: هل النبي صلى الله عليه وسلم مبلغ عن ربه جل وعلا أم مشرع على جهة الاستقلال؟
س4: ما هو الركن؟
س5: الجهاد ذروة سنام الإسلام، ما تعليل عدم ذكره من هذه الأركان؟
س6: ما معنى شهادة (أن لا إله إلا الله)؟
س7: ما حكم من ترك الصلاة جاحداً لها؟
س8: ما القول الراجح في حكم تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً؟
س9: يطلق لفظ الكفر في النصوص الشرعية معرفاً ومنكراً فما الفرق بين الاستعمالين؟
س10: هل يحكم على المعين بالكفر لمجرد ترك الصلاة؟
س11: اذكر بعض النصوص الواردة في الترهيب من منع الزكاة؟
س12: عرف الحج لغة وشرعاً:
س13: اذكر بعض الأدلة على فضل الحج وعظم مثوبته؟
س14: هل الحج واجب على الفور أو على التراخي؟
س15: ما سبب تقديم الحج على الصوم في هذا الحديث؟
س16: اذكر بعض فوائد الحديث؟

  #11  
قديم 28 شعبان 1430هـ/19-08-2009م, 03:20 PM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 6,511
افتراضي إجابات على أسئلة طلاب الدورات العلمية بالمعهد

السؤال الأول :
عنْ أَبِي هُريرةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَتَاكـُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، شَهْرٌ مُبارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ عليكُمْ صِيامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّياطِينِ، فِيهِ لَيْلةٌ هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ)).
هل نفهم من هذا الحديث أن أبواب الجنة تكون مغلقة فى غير رمضان ؟
هل هو فتح حقيقى لأبوابها الثمانية أم المقصود كثرة أعمال البر ؟؟
الجواب : في هذه المسألة ثلاثة أقوال لأهل العلم رحمهم الله تعالى :
القول الأول : حمله على ظاهره، إذ هو إخبار عن أمر غيبي يجب علينا الإيمان به وحمله على ظاهر معناه ما لم يرد دليل صحيح بإرادة معنى آخر
ولا يلزم من فتح أبواب الجنة في رمضان غلقها في غيره بل الذي يدل عليه الحديث أنها تفتح أبواب الجنة جميعها في رمضان ، وهذا جاء مصرحاً به في رواية الترمذي وابن ماجه وغيرهما : (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب).
وقد ذكر نحو هذا المعنى الملا علي قاري في مرقاة المفاتيح.

قال عبد الله بن الإمام أحمد: (سألت أبي عن حديث إذا جاء رمضان صفدت الشياطين.
قال: نعم.
قلت: الرجل يوسوس في رمضان ويصرع.
قال: هكذا جاء الحديث)
وهذا يدل على أن مذهبه الإيمان والتسليم بما جاء في الحديث دون الدخول في تفسيره وتأويله.
وهذا القول ذكره الباجي في شرح الموطأ والقاضي عياض والنووي وابن حجر كلاهما نقلاً عنه
وقد رجح هذا القول القرطبي وابن المنير فيما حكاه ابن حجر، وكذلك الزرقاني.
قال ابن المنير: لا ضرورة توجب صرفه عن ظاهره


القول الثاني: أنه إشارة إلى كثرة الثواب والعفو
وهذا القول حكاه القاضي عياض أيضاً وقبله الباجي في المنتقى، واعتمده المناوي في شرحه على الجامع الصغير
وعبارته: ( ( تفتح فيه أبواب الجنة ) أي أبواب أسباب دخولها مجاز عن نزول الرحمة وعموم المغفرة).
وهذا تأويل لا يصح فإن أسباب دخول الجنة ميسرة في رمضان وغيره.

القول الثالث: قول شيخ الإسلام ابن تيمية وفيه تفصيلان:
الأول: أن هذا الفتح والغلق خاص للصائمين
قال في شرح حديث النزول: (وكما أن رمضان إذا دخل فتحت أبواب الجنة لعباده المؤمنين الذين يصومون رمضان وعنهم تغلق أبواب النار وتصفد شياطينهم " وأما الكفار " الذين يستحلون إفطار شهر رمضان ولا يرون له حرمة ومزية فلا تفتح لهم فيه أبواب الجنة ولا تغلق عنهم فيه أبواب النار ولا تصفد شياطينهم).
الثاني: أن فتح أبواب الجنة وغلق أبواب النار نتيجة للأعمال الصالحة والكف عن المحرمات
قال رحمه الله : (وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصُفِّدَت الشياطين ) . وما ذاك إلا لأنه فى شهر رمضان تنبعث القلوب إلى الخير والأعمال الصالحة التى بها وبسببها تفتح أبواب الجنة، ويمتنع من الشرور التى بها تفتح أبواب النار، وتصفد الشياطين فلا يتمكنون أن يعملوا ما يعملونه فى الإفطار؛ فإن المصفد هو المقيد، لأنهم إنما يتمكنون من بنى آدم بسبب الشهوات، فإذا كُفّوا عن الشهوات صفدت الشياطين).
وقال في موضع آخر: (ولهذا قال النبى ( اذا دخل رمضان فتحت ابواب الجنة وغلقت ابواب النار وصفدت الشياطين ( فان مجاري الشياطين الذي هو الدم ضاقت واذا ضاقت انبعثت القلوب إلى فعل الخيرات التى بها تفتح ابواب الجنة والى ترك المنكرات التى بها تفتح ابواب النار وصفدت الشياطين فضعفت قوتهم وعملهم بتصفيدهم فلم يستطيعوا ان يفعلوا فى شهر رمضان ما كانوا يفعلونه فى غيره ولم يقل انهم قتلوا ولا ماتوا بل قال ( صفدت ( والمصفد من الشياطين قد يؤذي لكن هذا اقل وأضعف مما يكون فى غير رمضان فهو بحسب كمال الصوم ونقصه فمن كان صومه كاملا دفع الشيطان دفعا لا يدفعه دفع الصوم الناقص).

لكن يشكل على هذا التوجيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب) وقد علم أن من المسلمين من لا يكف عن المحرمات في رمضان بل ربما ازداد بعضهم فيه فساداً وإفساداً - والعياذ بالله -
ولا يحصل الغلق الكامل على هذا التوجيه إلا بالكف التام عن المحرمات .




السؤال الثاني :
اقتباس:
عَن الأَحْنَفِ بْنِ قيسٍ قَالَ: ((جَلَسْتُ إِلَى مَلأٍ مِن قريشٍ، فجاءَ رجلٌ خَشِنُ الشَّعرِ والثِّيابِ والهيئةِ، حتَّى قامَ عَلَيْهِم فَسَلَّمَ ثمَّ قَالَ: بَشِّرِ الكانِزينَ برَضْفٍ يُحمَى عَلَيْهِ فِي نارِ جهنَّمَ، ثمَّ يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أحدِهِم حتَّى يَخْرُجَ مِن نُغْضِ كَتِفِهِ، ويُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كتفِهِ حتَّى يَخْرُجَ مِن حَلَمَةِ ثَدْيِهِ فَيَتَزَلْزَلُ)). رواه البخاري

السؤال أن هذا رواه صحابي بهذه العبارة والرجل خشن الشعر والثياب غير معلوم هنا فكيف يحتج بهذا الحديث ؟
الجواب : الصحابة كلهم ثقات عدول في الرواية ، ولو وقعت رواية صحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم عُلم يقيناً أنه صحابي فروايته مقبولة وإن لم يعرف اسمه.
وسيأتي لهذه المسألة مزيد بيان بإذن الله تعالى عند دراسة علوم الحديث.

وأما راوي هذا الحديث فهو أبو ذر رضي الله عنه ، وهو من كبار الصحابة وقدمائهم وفي فضائله أحاديث معروفة.

وأما الوعيد المذكور في الحديث فهو فيما لم تؤد زكاته

وقد عقد البخاري في صحيحه باباً: باب ما أُدِّي زكاته فليس بكنز، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمس أواق صدقة.

ووجه الدلالة من هذا الحديث أن ما لم يبلغ النصاب فلا تجب فيه الصدقة، وإذا لم تجب الصدقة فلا يعذب المرء على عدم أدائها.
وما بلغ النصاب فالواجب فيه هو مقدار الزكاة، ولا يجب عليه غيره كما صرح به في أحاديث صحيحة في الصحيحين وغيرهما.

وأورد البخاري في هذا الباب حديث يونس عن ابن شهاب عن خالد بن أسلم قال: خرجنا مع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال أعرابي: أخبرني عن قول الله: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله)
قال ابن عمر: من كنزهما فلم يؤد زكاتها فويل له، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة فلما أنزلت جعلها الله طهراً للأموال.

وروى عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: إذا أديت صدقة مالك فليس بكنز وإن كان مدفونا، فإن لم تؤدها فهو كنز وإن كان ظاهرا

وفي الباب عن أم سلمة وعبيد بن عمير وغيرهما.


  #12  
قديم 21 ربيع الأول 1431هـ/6-03-2010م, 01:25 PM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 6,511
افتراضي إجابات على أسئلة طلاب الدورات العلمية بالمعهد

السؤال الأول : قال الشيخ سعد الحجري :

اقتباس:
(وهذا يَدُلُّ على أنَّ مَنْ أَرَادَ الدخولَ في الإسلامِ فلا بُدَّ مِنْ هذهِ الخمسِ، ولا يُسَمَّى مُسْلِماً إلاَّ بها جميعاً)

هل المكلف الذي تأخر في أداء فرضة الحج لا يعد مسلما حتى يؤديها ويستوفي الأركان الخمسة ؟
الجواب : التأخر عن أداء فريضة الحج مع الإقرار بوجوبها لا يعتبر تركاً لها، بل هو تأجيل لأدائها، وقد اختلف أهل العلم في وجوب الحج هل هو على الفور أو التراخي ، على قولين مشهورين.
لكن من جحد وجوب الحج فهو كافر لجحده معلوماً من الدين بالضرورة ما لم يكن له مانع من جهل يعذر به أو لم تقم عليه الحجة الرسالية في وجوب الحج.
ثم إن دعوة المسلم الجديد للإيمان بهذه الأركان مرتبة على ما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن وقال له: (( إنك تقدم على قومٍ أهل كتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل؛ فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلواتٍ في يومهم وليلتهم؛ فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة ً تؤخذ من أموالهم وترد على فقرائهم؛ فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوقَّ كرائم أموالهم)).
فمن شهد الشهادتين فقد دخل في دين الله ووجب عليه الإيمان بما تقتضيه الشهادتان من تصديق خبر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والانقياد لأوامر الشريعة؛ فإن كذَّب اللهَ ورسولهَ في شيء فقد كفر ومن ذلك أن تقوم عليه الحجة الرسالية بوجوب فريضة من الفرائض فينكر وجوبها عالماً مختاراً ذاكراً بلا شبهة يعذر بها فهذا لا خلاف في كفره بين أئمة أهل السنة.
وإن أقر بوجوبها لكن تركها تهاوناً وكسلاً ففي تكفيره قولان لأهل العلم رحمهم الله تعالى.
وأرجح الأقوال عندي أن تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً كافر إن تركها مطلقاً، وتارك الزكاة والصيام والحج من غير جحد لوجوبها غير كافر لما دلت عليه الأدلة وبسطها يأتي في موضعه إن شاء الله ، لكنه قد أتى كبيرة من كبائر الذنوب يخشى عليه من أليم العذاب في الدنيا والآخرة بسببها، نسأل الله العفو والعافية.





السؤال الثاني : ما المقصود بهذه العبارة؟
اقتباس:
(رَابِعاً: أعمالٌ بَدَنِيَّةٌ مَالِيَّةٌ؛ كَالْحَجِّ والعُمْرَةِ. وهذهِ تدْخُلُها النيابةُ، فَتَجِبُ إذا تَعَيَّنَتْ وتُسْتَحَبُّ إذا لمْ تَتَعَيَّنْ والأفضلُ الدعاءُ.)
الجواب : مقصوده أن العبادات التي يجتمع فيها أداء بدني وأداء مالي كالحج والعمرة لما يلزم الحاج والمعتمر من النفقة إما من كسبه أو بذل غيره له، وما يقوم به من عمل بدني لأداء المناسك من الإحرام والطواف والسعي والحلق والتقصير.
فهذه العبادات يصح فيها أن ينيب من أراد الحج أو العمرة غيره ليحج عنه ويعتمر، ويجوز أن يستنيب شخص نفسه عن غيره فيحج عنه ويعتمر، وهذه الإنابة لها أحوال وأحكام فقد تكون واجبة وقد تكون مستحبة، وقد تجزئ وقد لا تجزئ.
فقوله: (فتجب إذا تعينت) أي أن الإنابة تجب إذا كانت العبادة واجبة إما بالفرض الأصلي أو النذر.
وقوله: (تستحب إذا لم تتعين) أي إذا كانت العبادة نفلاً كانت الإنابة مستحبة كحج التطوع والتنفل بالعمرة، على خلاف فيهما.
وقوله: (والأفضل الدعاء) أي أن الدعاء أفضل من الاستنابة المستحبة.
والأصل في الإنابة في الحج والعمرة ما في الصحيحين والسنن من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره، قال: ((فحجي عنه)).
فأقرها على قولها أن الفريضة أدركته أي لزمته، وأمرها بالحج عنه، فدل هذا على أن من معنى الاستطاعة في الحج أن يستطيع المرء أن ينيب غيره ليحج عنه.
وفي مسند الإمام أحمد وصحيح البخاري عن ابن عباس أيضاً أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟
قال: ((نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله ، فالله أحق بالوفاء)).
وفي الباب أحاديث كثيرة تدل على مشروعية الإنابة في الحج والعمرة.
لكن للحج عن الغير شروط وأحكام يأتي تفصيلها في كتاب الحج إن شاء الله.
منها: أن يكون المحجوج عنه ميتاً أو غير قادر على الحج بنفسه، وهذا عليه جمهور أهل العلم، وخالف في ذلك إبراهيم النخعي والقاسم بن محمد لاعتبار أن الفريضة قد سقطت عنه لعدم استطاعته الحج بنفسه وذهب إليه بعض المالكية.
واستُدِلَّ له بما صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: لا يحج أحد عن أحد ولا يصم أحد عن أحد
وقال مالك بن أنس والليث بن سعد والحسن بن صالح: لا يُحج عن أحد إلا الميت.
وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم حجة يجب المصير إليها.
وفي المقابل ذهب بعض أهل العلم إلى جواز أن يُحج عن الصحيح القادر على الحج بنفسه ويُعتمر عنه ، وهذا روي عن عطاء بن أبي رباح، ومذهبه في هذه المسألة يحتاج إلى تحرير لاختلاف النقل عنه.
روى الفاكهي في أخبار مكة عن يعقوب بن عطاء بن أبي رباح أن أباه اشترى غلاماً يطوف عنه وهو جالس في المسجد الحرام.
لكن يعقوب بن عطاء ضعيف ضعفه يحيى بن سعيد القطان وأحمد والنسائي وابن معين أبو زرعة الرازي
وقال أبو حاتم: (ليس بالمتين، يكتب حديث) أي لا يحتج بروايته، لكن يعتضد بها في المتابعات والشواهد، وهو ما فعله الإمام مسلم في صحيحه.
وجمهور أهل العلم على اعتبار هذا الشرط، وهو أن لا يحج إلا عن من لا يستطيع الحج بنفسه.
قال الشافعي: (وقولنا: لا يعمل أحد عن أحد إلا والمعمول عنه غير مطيق العمل بكبر، أو مرض لا يرجى بحال، أو بعد موته، وهذا أشبه بالسنة والمعقول لما وصفت من أنه لو تطوع عنه رجل والمتطوَّع عنه يقدر على الحج لم يجزِ المحجوج عنه).

وللمسألة بسط وتفصيل لعلنا نأتي عليه في شرح كتاب الحج إن شاء الله تعالى.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
ح3, حديث

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:01 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir