دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > العقيدة الواسطية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 25 ذو الحجة 1429هـ/23-12-2008م, 10:51 PM
فاطمة فاطمة غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 758
افتراضي التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد

(فَصْلٌ: ومِنْ أُصُولِ [ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ ] أَنَّ الدِّينَ والإِيْمانَ قَوْلٌ وعَمَلٌ، قَوْلُ القَلْبِ واللِّسانِ، وعَمَلُ القَلْبِ واللِّسانِ والجَوَارِحِ. (186)
وأَنَّ الإِيْمانَ يَزيدُ بالطَّاعَةِ، ويَنْقُصُ بالمَعْصِيَةِ ). (187)
( وهُمْ مَعَ ذلكَ لا يُكَفِّرونَ أَهْلَ القِبْلَةِ بمُطْلَقِ المَعَاصِي والكَبائِرِ؛ كَمَا يَفْعَلُهُ الخَوَارِجُ. (188)
بلِ الأخُوَّةُ الإِيْمَانِيَّةُ ثابِتَةٌ مَعَ المَعَاصي؛ كَمَا قَالَ سُبْحانَهُ [ في آيةِ القِصاصِ ]: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيْهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالمَعْرُوفِ}. (189)
وقالَ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنينَ اقْتَتَلُوا فأَصِلْحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطينَ. إِنَّمَا المُؤمِنُونَ إِخْوَةٌ فأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}. (190)



(186) فَصْلٌ

قولُه: (أنَّ الدِّينَ) معناه لغةً: الذُّلُّ، يُقالُ دِنْتُه فَدانَ، أي أَذْلَلْتُه فَذَلَّ، وشَرْعا: هُوَ ما أمَرَ اللَّهُ بهِ على أَلْسِنةِ رُسلِه، والإيمانُ لغةً: التَّصدِيقُ كما قال تعالى: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} أي بمُصدِّقٍ، وشَرْعا: الإيمانُ هُوَ ما ذكَرَه المصنِّفُ.
قال الشَّيخ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: لفظُ الإيمانِ إذا أُطلِقَ يُرادُ بِهِ ما يُرادُ بلفظِ البِرِّ وبِلَفْظِ التَّقوى وبلفظِ الدِّينِ، فكُلُّ ما يُحِبُّه اللَّهُ ورسولُه يَدْخُلُ في اسمِ الإيمانِ. انتهى.

وفي حديثِ جبريلَ: سَمَّى النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- الإسلامَ والإيمانَ والإحسانَ دِينًا.
قولُه: (قولُ القلبِ) وهُوَ الاعتقادُ، كاعتقادِ ما أخبَرَ اللَّهُ بِهِ عَن نَفْسِه وأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه وملائكتِه وكتُبِه ورُسلِه.
قولُه: (قولُ اللِّسانِ) وهُوَ التَّكلُّمُ بالشَّهادَتَيْنِ، والقيامُ بذِكْرِه -سُبْحَانَهُ- وتبليغِ أوامرِه والدَّعوةِ إليهِ والذَّبِّ عن دِينِه ونحوِ ذَلِكَ.
قولُه: (وعملُ القلبِ) وهُوَ نِيَّتُه وإخلاصُه والتَّوكُّلُ والإنابَةُ والمحبَّةُ والانقيادُ والخوفُ منه -سُبْحَانَهُ- والرَّجاءُ وإخلاصُ الدِّينِ له والصَّبْرُ ونحوُ ذَلِكَ مِن أعمالِ القلوبِ.
قولُه: (وعَملُ اللِّسانِ والجوارحِ) كالصَّلاةِ والحجِّ والجهادِ ونحوِ ذَلِكَ، فالإيمانُ عندَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ هُوَ ما تَقدَّمَ أنَّه قولٌ واعتقادٌ، وحكى الشَّافِعيُّ على ذَلِكَ إجماعَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ ومَن بَعْدَهم ممَّن أدْرَكَهم، وأنْكَرَ السَّلَفُ على مَن أخرجَ الأعمالَ مِن الإيمانِ إنكاراً شديداً.
روى اللاَّلَكائِيُّ بإسنادٍ صحيحٍ عن البخاريِّ قال: لقيتُ أكثرَ مِن ألْفِ رجُلٍ مِن العلماءِ بالأمصارِ، فما رأيتُ أحدًا منهم يختلِفُ في أَنَّ الإيمانَ قولٌ وعملٌ ويَزيدُ ويَنْقُصُ،

وقال الأوْزاعِيُّ: كان مَن مَضَى مِن السَّلَفِ لا يُفَرِّقُون بين العَملِ والإيمانِ،
وفي صحيحِ البخاريِّ أنَّ عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ كتَبَ إلى عَدِيِّ بنِ عَدِيٍّ أنَّ للإيمانِ فرائضَ وشرائعَ وحُدودًا وسُنناً، فمَن استكمَلَها فقد استكْمَلَ الإيمانَ، ومَن لم يستكمِلْها لم يستكْمِل الإيمانَ، فإنْ أَعِشْ فسأُبَيِّنُه لكم، وإنْ أَمُتْ فما أنا على صُحبتِكُم بحريصٍ،
وفي "الصَّحيحَيْنِ" عن ابن عبَّاسٍ -رضي اللَّهُ عنه- عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه قال لوفْدِ عبدِ القَيْسِ: ((آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ: الإِيمَانُ باللَّهِ وَحْدَهُ، وَهَلْ تَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ باللَّهِ؟ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُؤَدُّوا الْخُمُسَ مِنَ الْمَغْنَمِ)). قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: فيه أَنَّ الإيمانَ باللَّهِ هُوَ مجموعُ هَذِهِ الخِصالِ مِن القولِ والعملِ، كما عَلِمَ ذَلِكَ أصحابُ رسولِ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- والتَّابِعون وتابِعُوهم، وعلى ذَلِكَ ما يُقارِبُ مِن مائةِ دليلٍ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ. اهـ.

(187) قولُه: (وأنَّ الإيمانَ يَزيدُ بالطَّاعةِ ويَنقُصُ بالمعصيةِ) كما قال –سُبْحَانَهُ-: {لِيَزْدَادُواْ إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ}، وقال تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وتسليمًا} وقولُه –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَاناً أَحْسَنُهُمْ أَخْلاقًا))، وفي "الصَّحيحَيْنِ" مِن حديثِ أبي هريرةَ –رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عن الطَّرِيقِ، وَالحَيَاءُ مِنَ الإيمانِ)) وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ إلى غيرِ ذَلِكَ من الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على أَنَّ الإيمانَ يَزيدُ ويَنْقُصُ، وعلى أَنَّ المؤمنينَ يَتفاضَلون في الإيمانِ، فبعضُهم أكْملُ إيمانًا مِن بعضٍ، كما قال -سُبْحَانَهُ وتعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذنِ اللَّهِ} فدَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ أَنَّ المؤمنينَ يَنْقسمون إلى ثلاثةِ أقسامٍ: سابِقون، ومُقتَصِدُونَ، وظالِمون لأنْفُسِهم،

فالسَّابِقُ إلى الخيراتِ: هُوَ الذي عَمِلَ الواجباتِ والمُسْتَحبَّاتِ، واجْتَنَبَ المحرَّماتِ والمكروهاتِ،
والمقتَصِدُ: هُوَ مَن اقتصَرَ على فِعلِ الواجباتِ واجتنابِ المحرَّماتِ،
والظَّالِمُ لنَفْسِه: هُوَ مَن أخلَّ ببعضِ الواجباتِ وانْتَهكَ بعضَ المحرَّماتِ، فكُلُّ واحدٍ مِن هَذِهِ الأقسامِ يُطلَقُ عليه أنَّه مؤمِنٌ.
أمَّا أصولُ الإيمانِ فسِتَّةٌ كما في حديثِ جبريلَ وهي: ((أَنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ، وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ))، وفي الحديثِ المذكورِ جعلَ مراتِبَ الدِّينِ ثلاثةً:

الإيمانُ، والإسلامُ، والإحسانُ، فأَعْلاها الإحسانُ، ثم الإيمانُ، ثم الإسلامُ، فكُلُّ مُحْسنٍ مؤمِنٍ مُسلِمٌ ولا ينعَكِسُ، وكُلُّ مؤمنٍ مُسلِمٌ لا العكس،
فالمرتبةُ الأولى: الإسلامُ، وَهِيَ التي يَدخُلُ فيها الكافِرُ أوَّلَ ما يَتكلَّمُ بإسلامٍ،
وأعلى منها مرتبةً: الإيمانُ، لأَنَّ اللَّهَ نفى عمَّن ادَّعى الإيمانَ مِن أوَّلِ وهْلةٍ الإيمانَ، وأثْبَتَ لهم الإسلامَ، كما قال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـكِن قُوُلُوا أَسْلَمْنَا}.
المرتبةُ الثَّالثةُ: الإحسانُ، وَهِيَ أعْلَى مِن المرتبتَيْنِ الأُولَيَيْنِ، فقد يُنفى عن الرَّجُلِ الإحسانُ ويُثبَتُ له الإيمانُ، ويُنفى عنه الإيمانُ ويُثبَتُ له الإسلامُ، كما في حديثِ: ((لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وهُوَ مُؤْمِنٌ)) ولا يُخرِجُه عن مرتبةِ الإسلامِ إلاَّ الكفرُ باللَّهِ والشِّركُ المخُرِجُ عن المِلَّةِ.
وأمَّا المعاصي والكبائرِ كالزِّنا وشُربِ الخمرِ ونحوِ ذَلِكَ فلا يُخرِجُه عن دائرةِ الإسلامِ،

والإسلام والإيمانِ إِذَا ذُكِرَا جميعًا، فإنَّ الإسلامَ يُفَسَّرُ بالانقيادِ للأعمالِ الظَّاهرةِ، والإيمانُ يُفَسَّرُ بالأعمالِ الباطنةِ، كما فُرِّقَ بينهما في حديثِ جبريلَ فقال: ((الإِسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وتُؤتِي الزَّكاةَ، وتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً، وَالإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ، وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)).
وروى الإمامُ أحمدُ مِن حديثِ أنسٍ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((الإِسْلامُ عَلانِيَةً، وَالإِيمَانُ بِالْقَلْبِ)) وهَذَا إِذَا ذُكِرَا معًا، أمَّا إِذَا أُفْرِدَ أحدُهما عن الآخَرِ كقولِه تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} فإنَّه يَدْخُلُ فيه الآخَرُ، فإِذَا أُفْرِدَ الإيمَانُ دَخَلَ فيه الإسلامُ وبالعكس، ففيهما دلالةُ الاقترانِ والانفرادِ، كالفقيرِ والمسكينِ ونحوِ ذَلِكَ.

(188) قولُه: (وهم مع ذَلِكَ لا يُكفِّرون) أي: لا يَنسِبونَهم للكفرِ ويَحْكمون عليهم به.
قولُه: (أهلَ القِبلةِ) أي: مَن يدَّعِي الإسلامَ ويستقبِلُ الكعبةَ، وإنْ كان عليه ذُنوبٌ ومعاصٍ عَدَا الشِّرْكَ باللَّهِ، والكفرَ المُخرِجَ عن المِلَّةِ الإسلاميَّةِ، كما قال -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَهُوَ الْمُسْلِمُ، لَهُ مَا لَنَا وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا)) فَأَهْلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ لا يكفِّرون أهلَ القبلةِ بمطلَقِ المعاصي والكبائرِ، كما يَفعَلُه الخوارجُ والمعتزِلةُ،

فإنَّ الخوارِجَ يقولون: مَن فَعلَ كبيرةً فَهُوَ في الدُّنْيَا كافرٌ وفي الآخرةِ مُخَلَّدٌ في النَّارِ لا يَخرُجُ منها لا بشفاعةٍ ولا بغيرِ شفاعةٍ،
والمعتزِلةُ يقولون: مَن فَعلَ كبيرةً فهُوَ في الدُّنْيَا لا مُؤمِنٌ ولا كافرٌ، بل في منـزلةٍ بين المنزِلَتَيْنِ، وفي الآخرةِ خالِدٌ مخلَّدٌ في النَّارِ، كقول الخوارجِ،
وقابَلَتْهم المُرْجِئةُ فقالوا: إنَّه لا يَضُرُّ مع الإيمانِ ذَنْبٌ كما لا يَنْفَعُ مع الكفرِ طاعةٌ، وقالوا إِيمانُ أَفْسَقِ النَّاسِ كإيمانِ أبىِ بكرٍ وعمرَ،
فالخوارِجُ والمعتزِلةُ غَلَوْا، والمُرْجِئةُ جَفَوْا، أولئكَ تعلَّقُوا بأحاديثِ الوعيدِ، وهؤلاء تعلَّقوا بأحاديثِ الوعدِ فقط،
وهَدَى اللَّهُ أهلَ السُّنَّةِ والجَماعَةِ للقولِ الوسَطِ الذي تَدُلُّ عليه أدِلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ، فقالوا: إنَّ الفاسِقَ لا يَخْرُجُ مِن الإيمانِ بمجرَّدِ فِسقِه، ولا يخلَّدُ في النَّارِ في الآخرةِ، بل هُوَ تحت مشيئةِ اللَّهِ إنْ عَفى عنه دخَلَ الجَنَّةَ مِن أوَّلِ وهْلةٍ، وإنْ لم يَعْفُ عنه عُذِّبِ بقدْرِ ذُنوبِه، ثم دخَلَ الجَنَّةَ، فلا بدَّ له مِن دخولِ الجَنَّةِ، فالعاصي مُعرَّضٌ لعقوبةِ اللَّهِ وعذابِه، قال اللَّهُ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} فَهِذِهِ الآيةُ صريحةٌ في أنَّ مَن مَاتَ غيَر مُشرِكٍ فهُوَ تحت مشيئةِ اللَّهِ، ففيها الرَّدُّ على الخوارجِ المكفِّرينَ بالذُّنوبِ، وعلى المُرْجِئةِ القائِلِينَ بأَنَّ الذُّنوبَ لا تَضُرُّ، وأَنَّ النَّاسَ في الإيمانِ سواءٌ لا تفاضُلَ بينهم، وعن أنسٍ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رَسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((ثَلاثٌ مِنْ أَصْلِ الإِيمَانِ: الْكَفُّ عَمَّنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، لاَ نُكَفِّرُهُ بِذَنْبٍ، وَلاَ نُخْرِجُهُ مِن الإِسْلامِ بِعَمَلٍ، وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُ أُمَّتِي الدَّجَّالَ، لاَ يُبْطِلُهُ جَوْرُ جَائِرٍ وَلاَ عَدْلُ عَادِلٍ، وَالإِيمَانُ بِالأَقْدَارِ))، رَواهُ أَبُو دُاوُدَ، وفي الصَّحيحِ: ((يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ))، فَفِيهِ دَلِيلٌ على زيادةِ الإيمانِ ونُقْصانِهِ، وعَلَى دُخولِ طائِفةٍ مِن المُوحِّدينَ النَّارَ، وأنَّ الكبائرَ لا يُكفَّرُ فاعِلُها، ولا يخلَّدُ في النَّارِ،
وقال البخاريُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: بابُ خوفِ المؤمنِ أنْ يَحبَطَ عَملُه وهُوَ لا يَشعُرُ،
قال إبراهيمُ التَّيميُّ: ما عَرَضْتُ قَوْلي على عَملِي إلاَّ خَشِيتُ أنْ أكونَ مُكذِّبا،
وقال ابنُ أبي مُلَيْكةَ: أَدْركْتُ ثلاثين مِن أصحابِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفاقَ على نَفْسِه، ما منهم أَحدٌ يقول: إنَّه على إيمانِ جبريلَ وميكائيلَ،
ويُذكَرُ عن الحسَنِ: ما خَافَه إلاَّ مؤمِنٌ ولا أَمِنَه إلاَّ منافِقٌ.

(189) قولُه: (بل الأُخوَّةُ الإيمانيَّةُ ثابتةٌ مع المعاصي)، كما قال تعالى في آيةِ القِصاصِ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيْهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} فسمَّاه أخاً مع وُجودِ القَتْلِ منه، ففيهِ دليلٌ على أَنَّ العاصِيَ لا يَخرُجُ مِن الإيمانِ بمجرَّدِ الذُّنوبِ والمعاصي.

(190) قولُه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنينَ اقْتَتَلُوا} الآيةَ. الطَّائفةُ: القِطعةُ مِن الشَّيءِ، ويُطلَقُ على الواحدِ فما فَوْقَه عندَ الجمهورِ.

وقولُه: {مِنَ المُؤْمِنينَ اقْتَتَلُوا} فسمَّاهُمْ مُؤمِنينَ مع الاقتتالِ، وبهَذَا استدلَّ البخاريُّ وغيرُه على أنَّه لا يَخرُجُ مِن الإيمانِ بالمعصيةِ، لا كما يقولُ الخوارِجُ والمعتزِلةُ ومَن تابَعَهُم.
وفي صحيحِ البخاريِّ مِن حديثِ الحسَنِ عن أبي بكرةَ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فَئِتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) فكان كما قال -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أصْلحَ اللَّهُ بين أهلِ الشَّامِ والعراقِ بعد الحروبِ الطَّويلةِ.
قولُه: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُمَا عَلَى الأُخْرَى} أي: تَعدَّتْ إحداهُما على الأخرى وَأَبَت الإجابةَ إلى حُكمِ كتابِ اللَّهِ، قولُه: {حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ} أي: ترجِعَ إلى أمرِ اللَّهِ ورسولِه، وتَسمَعَ للحِقِّ وتُطيعَهُ، كما في الصَّحيحِ عن أنسٍ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِماً أَوْ مَظْلُوماً))، قلت:ُ يا رسولَ اللَّهِ، هَذَا نَصَرْتُه مظلومًا كَيْفَ أنْصُرُه ظالِما؟ قال: ((تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ، فذَلِكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ)).
قولُه: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطينَ} فيه إثباتُ المحبَّةِ لِلَّهِ كما يَليقُ بجَلالِه وعظَمَتِه، وفيه فضلُ الإصلاحِ بين النَّاسِ، وفيه مَدْحُ العَدْلِ والإنصافِ، وروى ابنُ أبي حاتمٍ عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو -رضي اللَّهُ عنهما- عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه قال: ((الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا)) رواه مسلمٌ والنَّسائيُّ، وفيه أنَّه لم يَخرُجوا بالبَغي مِن الإيمانِ، وفيه أنَّه أوجَبَ قتالَهم وأنَّه أَسْقطَ عنهم التَّبِعةَ فيما أَتْلَفوه في قِتالِهم، وفيه إجازةُ قِتالِ كُلِّ مَن مَنَع حقاًّ عليه، والأحاديثُ بِذَلِكَ مشهورةٌ.
قولُه: {إِنَّمَا المُؤمِنُونَ إِخْوَةٌ} أي: إخوةٌ في الدِّينِ، سمَّاهُم مؤمنين مع وجودِ الاقتتالِ بينهم، وجَعلَهم إخوةً في الدِّينِ مع وجودِ الاقتتالِ بينهم، فدَلَّ على أنَّهم لا يَخرُجونَ من الإيمانِ بالمعصيةِ.
قولُه: (والكبائرُ) هي جمعُ كبيرةٍ، وَهِيَ الفِعلةُ القبيحةُ مِن الذُّنوبِ العظيمِ أَمْرُها، والكبيرةُ كُلُّ معصيةٍ فيها حَدٌّ في الدُّنْيَا أو وعيدٌ في الآخرةِ، وزاد شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَةَ: أو وَرَدَ فيها وعيدٌ يَنْفِي إيمانا، أو لَعْنٌ أو غَضَبٌ ونحوُهما، في قولِه: والكبائرُ أشارةٌ إلى أَنَّ الذُّنوبَ تَنقسِمُ إلى كبائرَ وصغائرَ، وهُوَ الصَّوابُ الذي تَدُلُّ عليه الأدِلَّةُ.
وأمَّا عددُ الكبائرِ فعندَ سعيدِ بنِ جبيرٍ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رجُلٌ لابنِ عبَّاسٍ: الكبائرُ سبعٌ، فقال ابنُ عبَّاسٍ: هي إلى السَّبْعِمِائةِ أَقربُ منها إلى السَّبْعِ، غير أنَّه لا كبيرةَ مع استغفارٍ ولا صغيرةَ مع إصرارٍ، وقد أَوْصلَها عُلماؤنا إلى أكثرَ مِن السَّبعِين؛ كما في الإقناعِ، قال في شَرحِ الطَّحاويَّةِ: وقد يَقْتَرِنُ بالصَّغِيرةِ مِن قلَّةِ الحياءِ وعَدمِ المبالاةِ وتَركِ الخوفِ ما يُلحِقُها بالكبائرِ، وقد يَقترِنُ بالكبيرةِ مِن الحياءِ والخوفِ والوَجَلِ ما يُلحِقُها بالصَّغائرِ، وهَذَا أمْرٌ مَرْجِعُه إلى ما يقومُ بالقَلْبِ، وقد يُعْفَى لصاحِبِ الإحسانِ العظيمِ ما لا يُعْفَى لغيرِه، فإنَّ فاعِلَ السَّيِّئاتِ تَسْقطُ عنه عُقوبةُ جَهنَّمَ بنحوِ عشَرةِ أسبابٍ، عُرِفَتْ بالاستقراءِ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ:

الأوَّل: التَّوبةُ،
الثَّاني: الاستغفارُ،
الثَّالِثُ: الحسناتُ الماحيةُ،
الرَّابعُ: المصائِبُ الدُّنْيَويَّةُ،
الخامِسُ: عذابُ القبرِ،
السَّادِسُ: دُعاءُ المؤمنينَ واستغفارُهم،
السَّابِعُ: ما يُهْدَى إليه بعد الموتِ مِن ثوابِ صدقَةٍ أو قراءةٍ أوحَجٍّ ونحوِ ذَلِكَ،
الثَّامنُ: أهوالُ يومِ القِيامَةِ وشدائِدُه،
التَّاسِعُ: ما ثَبَتَ أَنَّ المؤمنين إذا عَبَروا الصِّراطَ وُقِفوا على قَنطَرةٍ بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ ليُقْتَصَّ لبعضِهم مِن بعضٍ،
العاشِرُ: شفاعةُ الشَّافِعِينَ،
الحادي عَشَرَ: عَفْو أرحمِ الراحمينَ مِن غيرِ شفاعةٍ كما تَقَدَّمَ. انتهى. باختصارٍ.
إذا عُرِفَ ما تقدَّمَ فينبغي أنْ يكونَ المؤمنُ خائفًا راجياً، ويكونُ خَوفُه ورجاؤه سَواءً، فإنَّه إذا رَجَحَ الخوفُ حَمَلَهُ على القُنوطِ مِن رحمةِ اللَّهِ، وإذا رَجَحَ الرَّجاءُ حَمَلَه على الأمْنِ مِن مَكْرِ اللَّهِ، وكِلاهما مِن كبائرِ الذُّنوبِ.


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الإيمان, قول

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:51 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir