القارئ:بسم الله الرحمن الرحيم , الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . قال المؤلف رحمنا لله تعالى وإياه:
التسوية بين الأولاد في الهبة
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: تصدق علي أبي ببعض ماله فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فانطلقا بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقته , فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفعلت هذه بولدك كلهم)) قال: لا , قال: ((اتقوا الله ، واعدلوا في أولادكم)) قال: فرجع أبي فرد تلك الصدقة . وفي لفظ قال: ((فلا تشهدني إذن ؛ فإني لا أشهد على جور)) . وفي لفظ: ((فأشهد على هذا غيري)).
الشيخ:بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على محمد .
يتعلق هذا الحديث بالعطية ، والعطية هي الهبة بلا ثواب , وأكثر ما تكون عطية الرجل لأولادِه أو لأقاربه ؛ يقصد بذلك نفعهم ، أو يقصد بذلك مجازاتهم ، أو نحو ذلك , فالعطيَّة لها أحكام غير أحكام الهبة ، لذلك جاز للأبِ أن يرجع في عطيته .
وأما الواهب فلا يجوز له أن يرجع في هبته كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم لعمرَ: ((لا تعد في هبتك ؛ فإن العائد في هبته كالعائد في قيئه)) عرفنا أن الهبة صدقة وتبرع لمستحقها من مسكين أو فقير أو نحو ذلك ، وأما العطية فهي تبرع لا يبتغي بها الأجر الأخروي غالبا ، وإنما يبتغي بها النفع , نفع المهدى لهم أوالمعطين أو مجازاتهم ، أو نفع الولد أو ما أشبه ذلك . فعلى هذا يجوز أن يعطي الأب أولاده ويجوز أن يعطيإخوته , ويجوز أن يرجع في عطيته إذا لم تستلم ولم يكن هناك لها سبب إلا الإتيان بأسباب المودة وما أشبهها .
نعود إلى القصَّة , هذه القصة فيها أن النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري روى لنا هذا الحديث ، وذكر أن أباه بشير بن سعد أعطاه عطية, في بعض الرويات أنها عبد , أنه نحله عبدا يعني مملوكا ، وفي بعض الروايات أطلق وقال: نحلني نحلة ، أو أعطاني عطية , ولم يسمها . ولما خصه بهذه العطية كانت أمه عمرة بنت رواحة ، وهي أخت عبد الله بن رواحة, كانت تحب ولدها النعمان , فأحبت أن يثبت هذا العطاء ، وألا يكون فيه إنكار , أحبت تثبيته فقالت: لا أرضى حتى تُشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ حتى يثبت إذا شهد به ويقر ولا يمكن أن ينكر بعد ذلك .
فعل ذلك بشير , فذهب بولده , ولما جاء إلى النبيصلى الله عليه وسلم أخبره بأنه نحل ابنه عطية , وأن أم الابن أرادت أن تشهد على هذه العطية , فلسان حاله يقول: أتيتك لأشهدك على نحلة ابني وعلى عطيتي له , فاشهد أني قد نحلته ، ولما كان في هذا شيء من الجور وعدم التسوية استفصل النبي صلى الله عليه وسلم وسأله ..سأل بشيرا هل لك أولاد غير النعمان ؟ أخبره بأن له أولاد ذكور وإناث , سأله هل نحلتهم مثلما نحلت هذا ؟ هل أعطيتهم كلهم أو خصصت هذا بالعطية وحده ؟ فأخبر بأنه لم ينحلهم وإنما نحل هذا , أن هذه العطية خاصة بالنعمان .
عند ذلك أنكر عليه النبيصلى الله عليه وسلم وقال: ((اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)) أي:يحملكم خوف الله , تحملكم التقوى على أن تعدلوا وتسووا بين أولادكم ولا تجوروا فتميلوا مع واحد ميلا يفهم منه تفضيلكم له على غيره , بل عليكم أن تسووا بينهم ولا تفضلوا واحدا على واحد .
كذلك في بعض الروايات أنه قال:((أشهد على هذا غيري)) أي أن هذا جور وظلم ، فلا أشهد على الظلم ، ولا أشهد على الجور , اذهب إلى غيري ، وأشهد عليه غيري؛ فإني لا أشهد عليه . وليس معناه إقرار الشهادة من الغير بل معناه التحذير منه , فلأجل ذلك التزم بشير ورد تلك العطية , لما نهاه النبيصلى الله عليه وسلم .
في بعض الروايات أنه علل فقال:((أتحب أن يكونوا لك في البر سواء))؟ قال: نعم , فقال: فلا إذن مادمت تحب أن يكونوا كلهم يبروك ويطيعوك , فلماذا لا تجعلهم كلهم سواء في برك وفي طاعتك , فسوِّ بينهم في عطيتك حتى يستووا كلهم في طواعيتك وفي برك ,هكذا علل صلى الله عليه وسلم .
فمن هذا الحديث أخذ العلماء استحباب الإشهاد على العطايا والهدايا ونحوها ؛ وذلك لتثبت ما دام أنه ذهب ليشهد النبيصلى الله عليه وسلم ، وأخذوا منه إشهاد ذوي الفضل وذوي العلم وذوي المنزلة الرفيعة , حيث لم ترض عمرة بنت رواحة إلا بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخذوا منه أن العطية تثبت بالإقرار وبالإشهاد , وأخذوا منه أن عطية الوالد لولده تمُلكبالقبض إذا تمت شروطها , أو تملك بمجرد الهبة إذا تمكن من قبضها واستلامها, وأخذوا منه وجوب التسوية بين الأولاد لقوله صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)) .
ولقد كان السلف والعلماء رحمهم الله يعملون بهذا بقدر ما يستطيعون , يعني في العدل بين أولادهم , حتى كانوا يسوون بينهم حتى في القبل , إذا قبل هذا رحمة به قبّل البقية ذكورا وإناثا من باب العدل وباب التسوية ، وفضلا عن التسوية في الأمور الظاهرة , إذا اشترى لهذا ثوبا اشترى للثاني وللثالث مثله ، وكذلك إذا اشترى لهذا طعاما أو فاكهة أو أطعمه سوى به الآخرين ، وأعطاهم مثلما أعطاه .
كل ذلك حرص على العدل الذي أمر به النبيصلى الله عليه وسلم ، كذلك حرص أيضا على البر ؛ وذلك لأنه علله, علل بقوله: ((أتحب أن يكونوا لك في البر سواء)) قال: نعم . فإذن لا شك أن الوالد يحب أن يبره هذا ويبره الثاني ويبره الثالث ، ويكونوا كلهم بارين بأبيهم , ولايرضى أن يكون هذا بارٌّ وهذا عاق ، أو هذا مطيع وهذا عاص ، بل يحب أن يكونوا كلهم بررة له , هذا هو الذي يرضى به , فهذا معنى قوله: ((أتحب أن يكونو لك في البر سواء)) نكمل بعد سماع الأذان .
ذكر العلماء أنه لا يجوز لأحد الرجوع في عطيته إلا الأب ، وقالوافي بعض الآثار: لا يحل لأحد أن يرجع في هبته إلا الأب فيما وهب لأولاده أو لولده ؛ أخذا من هذا الحديث .
ثم هذا الحديث محمول على ما إذا لم يكن هناك أسباب, أسباب لعطيَّة بعض الأولاد وقت حاجتهم ، فأمَّا إذا كان هناك أسباب فإنها جائزة , معلوم مثلا أن الوالد ينفق على أولاده بقدر حاجتهم ، ويشتري لهم بقدْر حاجتهم ، ولو تفاوتت الحاجات ، ومعلوم وجود التفاوت بين الحاجات تفاوتا مشهورا ظاهرا , فمثلا إذا كان له عدد من الأولاد ذكورا وإناثا, حاجات الذكور غير حاجات الإناث , فحاجة الذكر مثلا أنه يمكنه للدراسة ويعطيه ما يحتاج إليه في الدراسة , إذا إحتاج مثلا إلى سيارة يتنقل عليها ويذهب عليها إلى مدرسته أو جامعته أعطاه سيارة ، وكذلك إذا احتاج إلى زواج زوَّجه ، ولو كان إخوته أطفالا ؛ لأن هذا من الحاجات الضرورية ، فإذا احتاج مثلا إلى سكن سكنه إذا كان قادرا , أسكنه في مكان أو في بيت يناسبه ؛ لأن هذا من حقه عليه , الوالد عادة إنما يجمع أمواله لأولاده لقوله عليه السلام: ((إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)) . فالولد مثلا إذا احتاج إلى النفقة وكان فقيرا فإن الوالد ينفق عليه ، ولو كان الولد قادرا على الاكتساب , إذا عجز عن الاكتساب إما لم يجد عملا ، أو مثلا كان منشغلا بدراسة ونحوها وكان الأب واجدا وذا مال ألزم بأن ينفق عليه , فإذا كان أحد أولاده مستغنيا في وظيفة وعمل والآخرون غير مستغنين أنفق على المحتاجين دون غيرهم ، ولا يكون هذا جورا , وإذا كان هذا مضطرا إلى سيارة يتنقل عليها أعطاه , وإن لم يعط الآخرين لصغرهم مثلا أو لوجود حاجتهم , وإذا كان هذا مضطرا إلى الزواج زوجه ولو لم يزوج الآخرين , إما لعدم طلبهم أو لصغرهم ؛ وذلك لأن هذا من تمام حق الولد على أبيه , وله في مال أبيه حق .
كذلك معلوم أن الذكر والأنثى يتفاوتان في الحاجة , فمثلا هو ملزم بكسوة الذكور والإناث , ومعلوم مثلا أنهم يتفاوتون , فقد تكون كسوة الأنثى مثلا بمائتين وكسوة الذكر مثلا بخمسين ، أو نحوها ، فهذا وجه التفاوت , الأنثى مثلا بحاجة إلى الحلي وإلى الجمال فله أن يعطيها كغيرها ما تتجمل به من الحلي ولو كان رفيع الثمن , وليس الذكر بحاجة إلى ذلك ، وهكذا مثلا إذا مرض أحد أولاده فإنه يعالجه ولو صرف عليه أموالا طائلة ولا يقال: أعط أولادك الآخرين مثلما أنفقت عليه ؛ لأنه ما أنفق عليه إلا لحاجته أو لضرورته , فهذا من الأسباب التي تستثنى من ذلك .
كذلك أيضا معلوم أنه قد يحتاج إلى تشجيع بعض أولاده , إلى تشجيعه على أمر يستحق عليه التشجيع , فإذا كان أحد أولاده عاكفا على العلم وعلى الفهم والفقه وعلى التفقه في الدين , والآخرون قد صدوا عن ذلك وعكفوا على اللهو واللعب ، وعكفوا على الباطل ، وأضاعوا حياتهم وأعمالهم , فلا شك أن هذا الذي عكف على العلم الصحيح يستحق أن يشجع ، وأن يرفع من معنويته، وأن يعطى ما يشجعه وما يسبب التفات الآخرين إلى مثله , فإذا قالوا: لماذا لم تعطنا ؟ يقول: لا أعينكم على لهوكم ولعبكم , لا أعينكم على الباطل ، أما هذا فقد قطع حياته في التعلم والتفقه , فهو أهل أن يشجع على ذلك .
وهكذا مثلا إذا كان هؤلاء , إذا كان بعضهم عاصيا , عاصيا لأبويه ، عاصيا لربه, خارجا عن الطاعة متماديا في المعاصي, عاكفا على اللهو واللعب , عاكفا على شرب المسكرات ونحوها , والآخر متطوعا لله بأنواع الطاعات , عاكفا على الطاعة والعبادة , ملازما لعبادة الله , هاديا مهتديا صالحا مصلحا ، لا شك أن هذا الصالح يستحق أن يشجع ، وأن يفضل على ذلك العاصي الذي خرج عن طاعة أبويه ، وخرج عن طاعة الله سبحانه , فكان مستحقا أن يبعد وأن يحرم ؛ لأنه إذا أعطاه والحال هذه فقد أعانه على المعصية , فيعين عاصيا على عصيانه .
ويقال كذلِكَ في ما إذا كان هناك سبب آخر , فإذا قُدِّر مثلا أن أحد الأولاد افتقر لكثرة عياله وركبته الديون ، والآخرون مستغنون , إما لقلة العيال وإما لكثرة الكسب ولكثرة الدخل , وليس عليهم ديون ولا غيرها , لا شك أن الأب له أن يخفف هذا الولد الذي تحمل هذا الدين ، فله أن يساعده ولا يقال: أعط البقية كما أعطيت هذا ؛ لأنه ما أعطاه إلا لسبب , أعطاه لكثرة عياله ، أعطاه لكثرة فقره وفاقته , فهوكحاجة النفقة , يسوي بينهم في النفقة يعني أنه يعطي هذا قدر ما يكفيه وعياله , وهذا قدر ما يكفيه وزوجته ، وهذا قد ما يكفيه وحده إذا كان أعزب وهكذا .
وكذلك أيضا هناك سبب آخر وهو إذا أعطاه مجازاة له أو استحقاقا له ؛ وذلك أنه في هذه الأزمنة بعض من الأولاد يجلس عند أبيه في خدمته وفي العمل بما يأمره به أبوه , فيكون قد قصر نفسه على حاجة أبيه ، تارة يشتغل مع أبيه إذا كان أبوه تاجرا ، فيشتغل معه في تجارته في دكانه أو في متجره أو في معمله ، والبقية الآخرون يكتسبون لأنفسهم , قد انفردوا لأنفسهم وقد استقلوا وصاروا يكتسبون لوحدهم ، أو هذا مثلا قد اشتغل بحرفة أبيه إذا كان أبوه ذا حرفة , إذا كان أبوه مثلا يعمل خياطا أو خرازا أو غسالا مثلا أو بناء ، أو كذلك في بستان , عنده له بستان في زراعة ، أو غراس أو نحو ذلك ، فهو يعمل في تنمية مال أبيه ينمي هذا المال , أو في ماشيته يرعى ماشيته إذا كان له مواشي من إبل أو بقر أو غنم أو نحوها , قد قصر نفسه على تجارة أبيه , ينقل له مثلا إذا كان له ناقلات ، كسيارات ونحوها , أو يبيع له الناتج من ثمره.
الحاصل أنه قد قضى مع أبيه عشر سنين أو عشرين سنة ، وهو لم يتفرغ لشغل نفسه ، ولم يعد لنفسه مالا , بينما إخوته الآخرون كل مستقل بماله وبعياله وبوظيفته وبحرفته منفرد عنه , ألا يكون هذا شريكا ؟ لا شك أنه يستحق أن يشركه أبوه فيجعل له نصيبا من هذا المال الذي يكون هو السبب فيه , ولو كان له أخوات مثلا لا يعملن مثل عمله ، وقد يكون له مرتب فيدخله مع مال أبيه .
فنقول: لابد أنه يجعل له شركة , فلا يقول: إن له أخوات وأخواته لم يعملن مثل عمله ، أو له إخوة أطفال الأطفال هؤلاء لم يعملوا مثل عمله ، وله إخوة مستقلون الإخوة الآخرون المستقلون لم يعملوا مثل عمله , فعلى هذا يجوز أن يفضله , أن يعطيه ما يكون سببا مقابلا لتعبه , فيجعله كشريك أو كأجير أو كعامل عمل عنده فيعطيهقدر ما يستحقه ولا يكون ذلك من الظلم إن شاء الله .