(وبعدَ تَجويدِكَ للحروفِ) بالإشباعِ أي: وبعدَ مَعْرفةِ تحسينِكَ للحروفِ مفردةً ومركبةً، موصولةً وموقوفةً.
بـــابُ الوقــوفِ:
وتعميمُنا أَوْلَى مِن تخصيصِ المصريِّ لها بحروفِ الهجاءِ, واعْتِرَاضُه على ابنِ المصنِّفِ في تفسيرِه إياها بالكلماتِ، فإنَّه عُدُولٌ عن الظاهرِ (لابدَّ مِن مَعْرفةِ الوقوفِ) أي: لابدَّ لكَ مِن مَعْرفةِ أماكنِ الوقوفِ ( والِابْتِدَاءِ وهي تُقْسَمُ إلى ) بحذفِ همزةِ ألِ وكسرِ لامِهِ للالتقاءِ وبسكونِ هاءٍ (وهي) الراجعةُ إلى الوقوفِ و (تُقْسَمُ) بصيغةِ المجهولِ مُخَفَّفًا، وفي نسخةٍ: ضُبِطَ بكسرِ هاءٍ و (هي) وسكونُ يائِها و (تُقَسَّمُ) بتشديدِ سينِها والظاهرُ أنَّهُ غيرُ موزونٍ إلا بقصرِ الابتداءِ (تامٌّ وكافٍ حسنٌ تَفَضُّلًا) بضمِّ الضادِ، تمييزٌ كما اختارَه الروميُّ، وبفتحِها جملةٌ مستأنفةٌ، كما أشارَ إليه ابنُ المصنِّفِ بقولِه: أي: تبيَّنَ تقسيمُ الوقوفِ، فَأَلِفُه للإطلاقِ وخُفِّفَتْ ميمُ تامٍّ ضرورةً، وفي نسخةٍ: (وهي تُقَسَّمُ إذنْ ثلاثةً؛ تامٌ وكافٍ وحسنْ) فمعنى إذنْ أي: حينئذٍ فهو ظرفٌ (لتُقْسَمُ) كما صرَّحَ به الروميُّ، وقالَ الشيخُ زكريَّا وتبِعَه المصريُّ: زائدةٌ، وفيه أنَّ إذا الزائدةَ لا تكونُ مُنَوَّنَةً، ونَصَبَ ثلاثةً على المفعوليَّةِ من (تُقْسَمُ) وحذفُ (إلى ) لدلالةِ الحالِ عليها، وقولُه (تامٌ) مُخَفَّفٌ، خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ هو (هي) و (كافٍ) بكسرِ الفاءِ مُنَوَّنٌ وهو مرفوعٌ لكن علامةُ رفعِه مُقَدَّرَةٌ كإعرابِ قاضٍ مرفوعًا، و (حسنْ) بالسكونِ وقفًا، وهذه النسخةُ هي أصلُ الشيخِ زكريَّا وخالدٍ الأزهريِّ قالَ ابنُ المصنِّفِ: الوقوفُ جمعُ وقفٍ وجمعُها باعتبارِ تَنَوُّعِها، يعني في مَحِلٍّ واحدٍ من الإسكانِ والرَّوْمِ والإشمامِ، ووحدَ الابتداءَ؛لأنَّه غيرُ مُتَنَوِّعٍ، أي: كذلك، والأظهرُ أنَّ الوقوفَ مَصْدَرٌ، كالابتداءِ، ففي القاموسِ: وَقَفَ يَقِفُ وُقُوفًا دامَ قائمًا، والمَوْقِفُ مَحلُّ الوقوفِ، ولا يَبْعُدُ أنْ يُقَدَّرَ مضافًا فيقالُ: مَعْرفةُ مواضعِ الوقوفِ ومَحَالِّ الابتداءِ، فالمعنى مَعْرفةُ المواقفِ والمبادي، أو يرادُ بهما المعنى المصدريُّ أي: مَعْرفةُ كيفيَّةِ الوقوفِ والابتداءِ، ثمَّ قالَ ابنُ المصنِّفِ: والوقفُ عن الشيءِ تركُ الإتيانِ به، ولهذا سُمِّيَ في الاصطلاحِ وقفًا؛ لأنَّه وقفٌ عن الحركةِ أي: تَرْكُها، وفيه: أنَّ هذا الحدَّ غيرُ جامعٍ؛ لأنَّه لم يَشْمَل الكلمةَ التي يكونُ آخرُها ساكنًا مِن أصلِها كـ (لم يلدْ) وإنْ في ونحوِها، فالأَوْلَى أنْ يقالَ: لأنَّه وقَفَ على الكلمةِ ولم يَتَعَدَّهَا (وهي لما تمَّ فإنْ لم يوجدْ) بالإشباعِ (تَعَلَّقَ أو كانَ معنى فابتدَى) أي: وهذه المواقفُ المذكورةُ إنَّما تكونُ لمِا تمَّ مَعْناه لا لما كَمُلَ مبناهُ.
والحاصلُ: أنَّ هذه الوقوفَ للفظٍ تمَّ الكَلاَمُ عليه من حصولِ رُكْني الجملةِ من المسندِ والمسندِ إليه، ثمَّ يُقَسِّمُ ذلكَ التمامَ إلى ما فصَّلَه في مقامِ المرامِ بقولِه: (فإنْ لم يوجدْ) لما تمَّ مِن الكَلاَمِ تَعَلُّقٌ بما بعدَه لامبنىً ولا معنىً، أو يوجدُ له تَعَلُّقٌ به معنىً لا مبنىً، فابْتَدِىءْ أنتَ بما بعدَه في القسمينِ المذكورينِ، إذا وقَفْتَ على ما قبلَه في الصنفينِ المسطورينِ، فقولُه: (ابْتَدِىءْ) عطْفٌ على مقدَّرٍ، أي: قفْ حينئذٍ على ما تمَّ فابْتَدِئْ بما بعدَه، قالَ الروميُّ:هو أَمْرٌ حَذَفَ الهمزةَ مِن آخرِه (أشبعَ الدالَ للوزنِ، وفيه أنَّهُ لا وجهَ لحذفِها مجانًا، فالصوابُ أنَّهُ إبدالُ الهمزةِ الساكنةِ ياءً على قاعدةِ حمزةَ وهشامٍ وقفًا فينبغي أنْ يكتبَ بالياءِ بعدَ الدالِ ليكونَ دالاّ على الإعلالِ.
(فالتامُّ فالكافي ولفظًا فامْنَعَنْ = إلا رؤوسَ الآيِ جُوِّزَ فالحَسَنُ)
الفاءُ الأُولَى للتفصيلِ أو للتفريعِ، وما بعدَها للترتيبِ في التنويعِ، وفيه لَفٌّ ونشرٌ مُرَتَّبٌ في الصنيعِ، وتقديرُ الكَلاَمِ: وقلَّ أمَّا الوقفُ على الأَوَّلِ منهما فالتامُّ، سُمِّيَ به لتمامِ المبنى، وانقطاعِ ما بعدَه عنه في المعنى، وأمَّا الوقفُ على الثاني فالكافيِ، وسُمِّي به للاكتفاءِ في الوقفِ عليه والابتداءِ بما بعدَه كالتَّامِّ، و (لفظًا) عطفٌ على معنى في البيتِ السابقِ أي: وإن كانَ فيه تَعَلُّقٌ بما بعدَه لفظًا ومعنى؛ لأنَّه يلزمُ مِن اللفظِ تَعَلُّقُ المعنى بخلافِ عكسِ المبنى كما سيأتي في تحقيقِ التَّعَلُّقِ وقولُه: (فَامْنَعَنْ) بالنونِ الساكنةِ المُخَفَّفَةِ، دخَلَتْ على الأمرِ للتأكيدِ، والفاءِ لأنَّه جوابٌ للشرطِ المُقَدَّرِ، والمعنى فامْنَعِ الابتداءَ حينئذٍ بما بعدَه، بل ابْتَدِئْ بما قبلَه، إلا رؤوسَ الآيِ التي فيها التَّعَلُّقُ اللفظيُّ يجوزُ الابتداءُ بما بعدَها؛ لورودِ الحديثِ بالوقوفِ على {العالمينَ}والابتداءُ {بالرحمنِ}؛ ولأنَّ رؤوسَ الآيِ بمنزلةِ فواصلِ السجعِ في النثرِ، وفي مرتبةِ القوافي في الشعرِ، من حيثُ إنَّها محَالُّ التوقفِ، وقولُه (فالحسنُ) بالفاءِ، بِناءً على أنَّهُ جوابُ إنْ الُمَقَدَّرَةِ، أي: إنْ كانَ التَّعَلُّقُ لفظًا فوقفُه الحسنُ، أو فاسمُ وقفِه الحسنُ، فإذا عرَفْتَ ذلكَ فاعلمْ أنَّ الوقفَ على ما فيه التَّعَلُّقُ اللفظيُّ مطلقًا سُمِّيَ بالحسنِ لحُسْنِ الوقفِ عليه، وإن كانَ تفصيلٌ في الابتداءِ بما بعدَه، فقولُه {الحمدُ} مثلًا لفظٌ غيرُ تامٍّ، فلا يدخلُ تحتَ أنواعِ الوقوفِ المُسْتَحْسَنَةِ، وأمَّا {الحمدُ للهِ} فوقفُه الحَسَنُ، لكن لا يَحْسُنُ الابتداءُ بما بعدَه، فلابدَّ مِن أنْ يعيدَ ما قبلَه كُلَّه أو بعضَه، وأمَّا { ربِّ العالمينَ } فوقفُه حسنٌ أيضًا لكن يَحْسُنُ الابتداءُ بما بعدَه لكونِه من رؤوسِ الآيِ، على خلافٍ في أنَّ الوقفَ على مثلِه أَوْلَى، أو وصلَه بما بعدَه مِن أصلِه أعلى، وسيجىءُ تحقيقُه، وكذا الكَلاَمُ على { الرحيمِ } ، وأمَّا الوقفُ على { مالكِ يومِ الدينِ } فكافٍ، وكذا على { نستعينُ } فلا خلافَ في أنَّ الوقفَ عليهما هو الأَوْلَى، قالَ ابنُ المصنِّفِ: والوقفُ التامُّ عندَ تمامِ القصصِ، وأكثرُ ما يكونُ موجودًا في الفواصلِ ورؤوسِ الآيِ، كقولِه تعالى: { وأولئكَ هم المُفْلِحُونَ} ، زادَ الشيخُ زكريَّا {وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وفيه بحثٌ، واللهُ هو المُعِينُ، وقد يوجدُ قبلَ انقضاءِ الفاصلةِ، كقولِه تعالى: { وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً } قالَ ابنُ المصنِّفِ: وهذا التامُّ؛ لأنَّه انقضاءُ كَلاَمِ بِلْقِيسَ، وهو ليسَ رأسَ آيةٍ ا.هـ يعني قولَه تعالى: { وَكَذَلكَ يَفْعَلُونَ } ابتداءُ كَلاَمٍ مِن اللهِ شهادةٌ على ماذَكَرْتُه، وفيه أنَّ له تَعَلُّقًا مَعْنويًّا فلا يكونُ وقفُه تامًّا، بلْ وَقْفُه كافيًا، وقالَ بعضُ المُفَسِّرِينَ: إنَّ قولَه: { وكذلكَ يَفْعَلُونَ } أيضًا مِن كَلاَمِها تأكيدًا لما قبلَها، فالوقفُ على (أَذِلَّةٍ) كافٍ وعلى (يفعلونَ) تامٌّ، وقد يقالُ: إنَّه كافٍ أيضًا؛ لأنَّ ما بعدَه من جملةِ مقولِها فله تَعَلُّقٌ مَعْنويٌّ بما قبلَه، ثمَّ قالَ: وقد يوجدُ بعدَ انقضاءِ الفاصلةِ بكلمةٍ، كقولِه تعالى: { وإنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عليهم مُصْبِحِينَ وبالليلِ } لأنَّه مَعْطُوفٌ على المعنى، أي: بالصبحِ وبالليلِ، يعني فيهما، وفيه البحثُ السابقُ؛ إذ من جملةِ التعليقِ المَعْنويِّ قولُه: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } فهو وقفٌ تامٌّ وما قبلَه كافٍ، ثمَّ قالَ: وأمَّا التعليقُ من جهةِ المعنى دونَ اللفظِ فنحوُ قولِه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} والابتداءُ بما بعدَ ذلكَ في الآيةِ كُلِّها، وفيه أنَّ الظاهرَ أنَّ ما بينَ المَعْطوفِ والمَعْطوفِ عليه تَعَلُّقٌ لفظيٌّ، فهو مِن قبيلِ الوقفِ الحسنِ، ثمَّ قالَ: وكذلكَ القطعُ على الفواصلِ في سورةِ الجنِّ، والمُدَّثِّرِ، والتكويرِ، والانفطارِ، والانشقاقِ، وما أَشْبَهَهُنَّ، وفيه أنَّ رؤوسَ آيِ هذه السورِ المُخْتَلِفَةِ الصورِ، فبعضُها تامٌّ، وبعضُها كافٍ، وبعضُها حسنٌ، عندَ مَن له إلمامٌ بالمباني العربيَّةِ، والمَعْاني التفسيريَّةِ، خصوصًا في فواصلِ سورةِ الجنِّ، فإنَّ أربابَ الوقوفِ جعَلُوا الخلافَ في جوازِ وقفِها بِناءً على كسرِ الهمزةِ بعدَ الواوِ فيها، وتعيينِ الوصلِ على فتحِها، ثمَّ قالَ: وكذلكَ مثلَ الوقفِ على {لاريبَ فيه}، وفيه أنَّ وقوعَ اختلافِ أربابِ الوقوفِ يُنافِيه، فبعضُهُم وقَفَ على (لاريبَ بِناءً على أنَّ خبرَ (لا) محذوفٌ، لحذفِه كثيرًا بلا شَكٍّ، وأنَّ قولَه (فيه) خبرٌ مُقَدَّمٌ لقولِه { هدًى للمُتَّقِينَ } ، أي: هدايةً وباعثهُ عنايةً للمؤمنينَ، وبعضُهم وقفَ على (فيه) بِناءً على أنَّهُ خبرُ (لا) وأنَّ (هدى) خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، تقديرُه: هو هدًى، بمعنى هادٍ أو ذو هدايةٍ، وسُمِّيَ بالمصدرِ للمبالغةِ ومثلَ هذا التركيبِ يُسَمَّى عندَ أربابِ الوقوفِ مُعَانَقَةً أو مُراقبةً، بمعنى: أنَّهُ إذا وقفَ على الأَوَّلِ يصلُ في الثاني، وبالعكسِ، فلا يجوزُ وقفُهُما ولا وصلُهما، وأمثالُ ذلكَ في القرآنِ مواضعُ جمعَها بعضُهم.
ثمَّ اعلمْ أنَّ الوقفَ على رؤوسِ الآيِ سُنَّةٌ؛ لمِا ذكرَه ابنُ المصنِّفِ بروايتِه على أبيه بسندِه المُتَّصِلِ إلى أمِّ سلمةَ رضي اللهُ تعالى عنها: (كانَ إذا قرأَ قطَّعَ آيةً آيةً يقولُ بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ ثمَّ يقفُ ثمَّ يقولُ الحمدُ للَّهِ ربِّ العالمينَ ثمَّ يقفُ ثمَّ يقولُ: الرحمنِ الرحيمِ ثمَّ يقفُ) قالَ: ولهذا الحديثِ طرقٌ كثيرةٌ وهو أصلٌ في هذا البابِ.
أقول: فظاهرُ هذا الحديثِ أنَّ رؤوسَ الآيِ يُسْتَحَبُّ الوقوفُ عليها سواءٌ وُجِدَ تَعَلُّقٌ لفظيٌّ أمْ لا، وهو الذي اختارَه البيهقيُّ، وقالَ أبو عمرٍو: وهو أحبُّ إليََّ، لكنَّهُ خلافُ ماذهبَ إليه أربابُ الوقوفِ كالسجاوندي وصاحبِ الخلاصةِ وغيرِهما مِن أنَّ رؤوسَ الآيِ وغيرَها في حكمٍ واحدٍ، من جهةِ تَعَلُّقِ ما بعدَه بما قبلَه وعدمِ تَعَلُّقِهِ؛ولذا جعلُوا رمزَ (لا) ونحوَه فوقَ الفواصلِ، كما كتبُوها فوقَ غيرِها، معَ اتِّفَاقِهِم على جوازِ الابتداءِ بعدَ روؤسِ الآيِ، بخلافِ ما سِوَاها ممَّا لا يكونُ علامةَ الوقوفِ فوقَها، وحمَلُوا الحديثَ الواردَ على بيانِ الجوازِ، وعلى تعليمِ الفواصلِ، فإنَّه مِن بابِ التوقيفِ لعدمِ اطِّلاعِ غيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليها، بلْ فَرَّقُوا في رؤوسِ الآيِ بحسبِ اختلافِ القُرَّاءِ المُقْتَضِي لاختلافِ الإعرابِ المُوجِبِ للتَّعَلُّقِ وعدمِهَ، فَوَقَفُوا في سورةِ إبراهيمَ على قولِه تعالى: { العزيزُ الحميدُ } إذ قرَأُوا لنافعٍ والشاميِّ برفعِ ما بعدَه، ووصلُوا على قراءةِ غيرِهما بجرِّه، وأمثالُ ذلكَ كثيرٌ في القرآنِ يَعْرِفُها أربابُ الوقوفِ من الأعيانِ، وقد اعتنى قرَّاءُ العجمِ بهذا الشأنِ، وأَهْمَلَ أمرَه قرَّاءُ العربِ في هذا الزمانِ، حتَّى ذكرَ مولانا نورُ الدينِ عبدُ الرحمنِ الجاميُّ قُدِّسَ سِرُّهُ الساميُّ بطريقِ اللطافةِ أنَّ قُرَّاءَ مصرَ والشامِ ترَكُوا مراعاةَ وقوفِ الكَلاَمِ، فكأنَّ قضاتَهم لمَّا ضَيَّقُوا أوقافَ كُلِّ مكانٍ رفعُوا أيضًا وقوفَ القرآنِ.
هذا والتَّعَلُّقُ اللفظيُّ هو أنْ يكونَ ما بعدَه مُتَعَلِّقًا بما قَبلَه من جهةِ الإعرابِ، كأنْ يكونَ صفةً أو مَعْطُوفًا لكن بشرطِ أنْ يكونَ ما قبلَه كَلاَمًّا تامًّا، وأمَّا التَّعَلُّقُ المَعْنويُّ فهو أنْ يكونَ تَعَلُّقُهُ، من جهةِ المعنى فقطْ دونَ شيءٍ من تَعَلُّقَاتِ الإعرابِ، كالإخبارِ عن حالِ المؤمنينَ في أَوَّلِ سورةِ البقرةِ مثلًا فإنَّه لا يتمُّ إلاَّ إلى قولِه: { الْمُفْلِحُونَ } ثمَّ أحوالُ الكافرينَ يتمُّ عندَ قولِه تعالى: { وَلَهُم عذابٌ عظيمٌ } ثمَّ تمامُ أحوالِ المنافقينَ عندَ قولِه: { إنَّ اللهَ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ } حيثُ لم يَبْقَ لما بعدَه تَعَلُّقٌ بما قبلَه لا لفظًا ولا معنىً، وقد اعْتَنَى أبو عمرٍو الدانيُّ برسالةٍ مَسْتَقِلَّةٍ مُسْتَوْعِبَةٍ لأَنْواعِ الوقفِ من التامِّ والكافي والحسنِ في جميعِ السورِ.
وأمَّا قولُ الأزهريِّ: والمختارُ أنَّ التامَّ والكافيَ حسنٌ، والحسنَ جائزٌ، وكذا حكمُ الابتداءِ. فَخُروجٌ عن اصطلاحِ القُرَّاءِ وتحقيقِ العلماءِ، ومبنيٌّ على عدمِ التمييزِ بينَ مراتبِ الوقوفِ والابتداءِ.
(وغيرُ ماتمَّ قبيحٌ وله = يُوقَفُ مُضطرًّا ويُبْدَا قبلَهُ)
يُبْدَأُ بصيغةِ المجهولِ، وسُكِّنَ همزتُه ضرورةً، ثمَّ أُبْدِلَ ألفًا، وقالَ اليمنيُّ: الهمزةُ في يبدأُ ساكنةٌ على نيَّةِ الوقفِ، كما في روايةِ قُنْبلٍ * (بسبأٍ) وضَبَطَ الروميُّ: بصيغةِ الفاعلِ، حيثُ قالَ: ويَبْدَأُ القارئُ، لكنَّهُ خلافُ الظاهرِ، للاحتياجِ إلى القولِ بحذفِ الفاعلِ ولو بقرينةِ المقامِ، معَ ما يَفُوتُه مِن المناسبةِ بينَ (يبدأُ) و (يوقفُ) على ما فيه من نظامِ المرامِ، وفي أصلِ زكريَّا (الوقفُ مضطرًّا) بفتحِ همزة أل للابتداءِ، وقالَ التقديرُ: للقارئِ الوقفُ على ذلكَ، وفي نسخةٍ (يُوقَفُ) أي ولأجلِ قَبُحِ الوقفِ على ذلكَ يُوقَفُ عليه مُضْطرًّا إلخ، وأنتَ تعلمُ أنَّ نسخةَ المضارعِ أحسنُ مِن المصدرِ، وهو كذلكَ في النسخِ باعتبارِ الأكثرِ، ومعنى البيتِ مُجْمَلًا أنَّ غيرَ ما تمَّ مِن الكَلاَمِ قبيحُ الوقفِ عليه عندَ القُرَّاءِ الفِخَامِ، حالَ الاختيارِ، دونَ وقفِ الاختيارِ، أو الانتظارِ، أو الاضطرارِ، فالمرادُ بالاضطرارِ أعمُّ مِن الحقيقيِّ والحكميِّ في الاعتبارِ، وقولُه (مضطرًّا) حالٌ مِن الواقفِ بِناءً على نسخةِ (الوقفِ) ومِن الوقفِ على نسخةِ (يُوقَفُ) ولا يبعُدُ أنْ يُجْعَلَ المضطرُّ مصدرًا للعِلَّةِ، والأظهرُ أنَّهُ صفةُ مصدرٍ محذوفٍ، أي: يُوقَفُ وقفًا مضطرًّا لِعيٍّ وحصرٍ وغيرِهما، لكنْ حينئذٍ يُبْدَأ بما قبلَ موضعِ الوقفِ، من الكلمةِ التي وقفَ عليها، وبيانُ تفصيلِه بحسبِ تمثيلِه: أنَّ الوقفَ على {الحمدِ} قبيحٌ وكذا على (بسمِ) كما صرَّحَ به ابنُ المصنِّفِ، وأمَّا ما سبقَ مِن المصريِّ أنَّ الوقفَ على (بسمِ الله ِ) قبيحٌ وعلى {الرحمنِ} كذلكَ وعلى {الرحيمِ} تامٌّ، فخطأٌ قبيحٌ منه، فإنَّ الوقفَ على كُلٍّ مِن الجلالةِ والرحمنِ حسنٌ؛ لأنَّه معَ مُتَعَلِّقِه مِن الفعلِ أو الاسمِ المُقَدَّرِ كَلاَمٌ تامٌّ، كما وردَ في أحاديثِه عليه السلامُ مِن الاكتفاءِ على بسمِ اللهِ في ابتداءِ الطعامِ ونحوِه من المواضعِ الكرامِ، وإنَّما يَقْبُحُ الوقفُ على (بسمِ)؛ لأنَّه لا يُعْلَمُ لأيِّ شيءٍ أَضَفْتَهُ، وكذا الوقفُ على المضافِ دونَ المضافِ إليه، والصفةِ دونَ الموصوفِ، والرافعِ دونَ المرفوعِ، والناصبِ دونَ المنصوبِ والمنصوبِ دونَ الناصبِ، ولا على المَعْطوفِ دونَ ما عَطفْتَه عليه ولا على إنَّ وأخواتِها دونَ اسمِها، ولا على اسمِها دونَ خبرِها، وعلى كانَ وأخواتِها دونَ اسمِها، ولا على اسمِها دونَ خبرِها، وعلى ظننتُ وأخواتِها دونَ منصوباتِها، ولا على صاحبِ الحالِ دونَها، ولا على المُسْتَثْنَى منه دونَ الاستثناءِ، ولا على المُفَسِّرِ دونَ المُفَسَّرِ، ولا على الذي، وما، وَمن، دونَ صلاتِهِنَّ، ولا على صلاتِهِنَّ دونَ مَعْمُولاتِهِنَّ، ولا على الفعلِ دونَ مصدرٍ، ولا على مصدرٍ دونَ آلتِه، ولا على حروفِ الاستفهامِ دونَ ما اسْتُفْهِمَ بها عنه، ولا على حروفِ الشرطِ دونَ المشروطِ، ولا على المشروطِ دونَ الجزاءِ، ولا على الأمرِ دونَ جوابِه، إلا أنْ يكونَ القارئُ مضطرًّا فإنَّهُ يجوزُ له الوقفُ حالَ اضطرارِه، كانقطاعِ نَفَسٍ ونحوِه، لكن إذا وقفَ يبتدىءُ من الكلمةِ التي وقفَ عليها، يعني: إذا حسُن الابتداءُ بها، كذا ذكرَه المصنِّفُ، ولعلَّه مبنيٌّ على أنَّ التمامَ عندَه ما يَحْسُنُ السكوتُ عليه من الكَلاَمِ، وأمَّا على الظاهرِ المُتَبَادِرِ من كَلاَمِ الناظمِ وتقسيمِه إلى أنواعِ التَّعَلُّقِ فمعنى التمامِ استيفاءُ الكَلاَمِ للمُسْنَدِ والمُسْنَدِ إليه، ثمَّ يُرَدُّ على ابنِ المصنِّفِ في إطلاقِ أمثلتِه إذا وقعَ شيءٌ منها في رؤوسِ الآيِ؛ فإنَّه ليسَ الوقفُ عليها بقبيحٍ إجماعًا، وإنَّما اختلفُوا في الوجهِ الأَوَّلِ، وكذا يُرَدُّ على قولِه: ولا على المَعْطوفِ دونَ ما عطَفْتَه عليه، ما سبقَ منه أنَّ الوقفَ على قولِه: {حُرِّمَتْ عليكُم أُمَّهَاتُكُم} هو الكافي، ويمكنُ دفعُه بأنَّهُ أرادَ عطفَ المفردِ، كقولِه: {واللهُ ورسولُه} وكذا يُرَدُّ على قولِه: وعلى الموصوفِ دونَ الصفةِ، ما تقدَّمَ من حُسْنِ الوقفِ على (بسمِ اللهِ) وكذا في (الحمدِ للهِ).
ثمَّ قالَ: واعلمْ أنَّ مِن الوقفِ القبيحِ الوقفَ على (غيرِ) مِن {غيرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِم} وعلى (إلهٍ) من {إلهِ الناسِ} كما يفعلُه جهلةُ القُرَّاءِ، ويَسْتَدِلُّونَ برقمِ السجاوندي على ما قبلَ هذه الكلماتِ: لا، أي لا وقفَ، فليتَ شعري هل نهاكَ عن الوقفِ على رأسِ الآيةِ الذي هو سُنَّةٌ وأمَرَكَ بالوقفِ على المضافِ دونَ ما أُضِيفَ له مِن (غيرِ) و (إلهٍ) يعني: وتُخَالِفُ السُّنَّةَ وأئمةَ الوقوفِ في القِراءةِ فَتَقِفُ تارةً بعدَ تمامِ الآيِ وتارةً قبلَها لكونِ كتابةِ (لا) على رؤوسِ الآيِ، وأمَّا ما نَقَلَ بعضُهم مِن الروايةِ عن بعضِ مَن ليسَ له الدِّرايةُ أنَّ الوقفَ على (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم) غيرُ جائزٍ بل حرامٌ وَكُفْرٌ وَأَمْثَالُ ذلكَ فهذا نقلٌ باطلٌ ليسَ فيه وجهٌ طائلٌ، وكذا ما ذَكَرَه بعضُهم مِن أنَّ الوقفَ على: { والسَّمَاءِ ذاتِ الرجعِ } مُبْطِلٌ للصلاةِ وَكُفْرٌ في خارجِها تَعَمُّدًا فَمِن أقبحِ الرواياتِ؛ لأنَّه مُخَالِفٌ لإجماعِ أربابِ القِرَاءاتِ وقواعدِهم المَأْخُوذَةِ مِن الأصولِ العربيَّةِ، لا سيَّما وقد وَرَدَتْ الأحاديثُ النبويَّةُ بخصوصِ رؤوسِ الآيِ القرآنيَّةِ، ثمَّ قالَ: وأقبحُ مِن هذا الوقفُ على قولِه: {لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذينَ قالُوا} {لَقَدْ كَفَرَ الَّذينَ قالُوا} {وَقَالَتِ الْيَهُودُ} {وَقَالَتِ النَّصَارَى} {فَاعْبُدُونِ} و {قالُوا} و{مِن إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ} {وهم مُهْتَدُونَ} {ومالي} {ومَن يَقُلْ مَنْهُمْ} {مِن الخاسرينَ} {فَبَعَثَ} {إلا أنْ قالُوا أَبَعَثَ} والابتداءُ بقولِه تعالى: {إنَّ اللهَ فقْيرٌ} و {إنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابنُ مَرْيَمَ} و {يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ} و {المَسِيحُ ابنُ اللهِ } و {وَلَدَ اللهُ} و {لا أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي} و {إني إلهٌ مِن دونِه} و {اللهُ غُرَابًا} و {اللهُ بَشَرًا} لأنَّ المعنى يَخْتَلُّ بلْ يَسْتَحِيلُ بفصلِ ذلكَ عمَّا قَبْلَهُ.
قُلْتُ أمَّا الابتداءُ في المثالينِ الآخرينِ فإنَّه يَشْتَبِهُ على العوامِّ حيثُ لا يُمَيِّزُونَ بينَ المنصوبِ والمرفوعِ في حكمِ الكَلاَمِ ونظامِ المرامِ، وأمَّا في سائرِ الأمثلةِ فالوقفُ ليسَ بقبيحٍ فضلًا عن أنْ يكونَ أقبحَ، وإنَّما القبيحُ في غايةِ القبحِ هو الابتداءُ بما بعدُ، لما يتفرَّعُ على الابتداءِ مِن توهُّمِ الإنشاءِ، وسيأتي تحقيقُ أساسِ ذلكَ البناءِ، ومِن هذا القبيلِ الوقفُ على نحوِ: { قلْ يا أيُّهَا الكافرونَ لا } والابتداءُ بقولِه { أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ } ثمَّ قالَ: ومِثْلُه في القبحِ الوقفُ على قولِه: {فَبُهِتَ الذي كَفَرَ واللهُ} و {الذينَ لا يؤمنونُ بالآخرةِ مَثَلُ السَّوْءِ وللهِ} {إنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِ} {إنَّ اللهَ لا يَهْدِي} و {لا يَبْعَثُ اللهُ}، وَشِبْهِهِ؛ لأنَّ المعنى يفسُدُ بفصلِ ذلكَ عمَّا بَعْدَه.
أقولُ: وإنَّما قالَ: ومثلَه، وفُصِلَ عمَّا قَبْلَه؛ لأنَّ الوقفَ على هذه المواضعِ قبيحٌ جدًّا لمَا يَتَرَتَّبُ عليه مِن قُبْحِ العطفِ، أو تركِ المفعولِ، وأمَّا الابتداءُ بِما بعدَه فليسَ بقبيحٍ، بخلافِ الأمثلَةِ التي قبلَه، فقولُه: ومن انقطعَ نَفَسُه على ذلكَ وجبَ عليه أنْ يرجعَ إلى ما قبلَه ويصلَ الكَلاَمَ بعضَه ببعضٍ فإن لم يَفْعَلْ أَثِمَ، إنَّما يستقيمُ في الأمثلةِ الأُولَى، وأمَّا في الأمثلةِ الثانيَةِ فينبغي أنْ يعودَ فالعودُ أحمدُ، ثمَّ قالَ: وكانَ ذلكَ أي الابتداءُ في القسمِ الأَوَّلِ والوقفُ في الثاني من الخطأِ العظيمِ الذي لو تَعَمَّدَهُ مُتَعَمِّدٌ لَخَرَجَ بذلكَ عن دينِ الاسلامِ؛ لكونِ اعتقادِ ذلك افتراءً على اللهِ عزَّ وجلَّ وجهلًا به سبحانَه. وأقولُ: وأمَّا قولُ (قاضيخانَ) مِن علمائِنا الحنفيَّةِ في فتاواه: وإنْ غَيَّرَ المعنى تغيُّرًا فاحشًا بأنْ قرأَ: { إنَّما يَخْشَى اللهَ مِن عِبَادِه العلماءُ } برفعِ الهاءِ ونصبِ العلماءِ، وقرأَ: { إنَّ اللهَ برىءٌ مِن المشركينَ ورسولُه } بكسرِ لامِ الرسولِ، وما أَشْبَهَ ذلكَ ممَّا لو تَعَمَّدَهُ به يُكَفَّرُ، وإذا قرأَ خطأً فَسَدَتْ صلاتُه في قولِ المُتَقَدِّمِينَ فَسَهْوٌ فهو صَدَرَ عنه مِن الغفلةِ عن مَعْرفةِ القِراءةِ الشاذَّةِ ووجوِه القواعدِ العربيَّةِ، إذ نَصَبَ (العلماءَ) رُوِيَ عن أبي حنيفةَ رحمَهُ اللهُ تعالى إمامِ الفقهاءِ، وَوُجِّهَ بأنَّ (يخشى) بمعنى يُعَظِّمُ، على قاعدةِ التجريدِ، فإنَّ الخشيةَ خوفٌ مَقْرُونٌ بالتعظيمِ ووجهُ كسرِ (رسولِه) المقروءِ في الشواذِّ أيضًا بأنَّ واوَه للقسمِ أو جَرِّه للجِوارِ، كما ذكرَه صاحبُ الكَشَّافِ، ثمَّ قالَ: وإنْ وصَلَ في غيرِ موضعِه، وفَصَلَ في غيرِ موضعِه، فإن لم يتغيَّر المعنَى تَغَيُّرًا فاحشًا، بأنْ وقَف على الشرطِ وابتدأَ بالجزاءِ فقرأَ: {إنَّ الذينَ آمنُوا وَعَمِلُوا الصالحَاتِ} وَوَقَفَ ثمَّ ابتدأَ بـ {أُولَئِكَ هم خيرُ البريَّةِ} أو فَصَلَ بينَ الصفةِ والموصوفِ، نحوَ إنْ قرأَ { إنَّهُ كانَ عبدًا } ووقفَ ثمَّ ابتدأَ بقولِه: {شَكُورًا} فَمِثلُ هذا لا يَحْسُنُ، ولا يُفْسِدُ صلاتَه؛ لأنَّ مَوْضِعَ الفصلِ والوصلِ لا يعرفُها إلا العلماءُ، وإن تغيَّرَ المعنى تَغَيُّرًا فاحشًا نحوُ أنْ يقرأَ {اللهُ لا إلهَ} وَيَقِفُ ثمَّ يبتدىءُ بقولِه: {إِلاَّ هُوَ} أو قرأَ {قالَت اليَهودُ} وَيَقِفُ، ثمَّ يَبْتَدِيءُ بقولِ {عُزَيْرٌ ابنُ اللهِ} ونحوُ ذلكَ، قالَ عامَّةُ العلماءِ: لا تَفْسُدُ صلاتُهَ، وقالَ بعضُهم: تَفْسُدُ. ا هـ. وفي الخلاصةِ لو وقفَ على قولِه: {وَقَالَتِ اليَهودُ} ثمَّ ابتدأَ بقولِه: {عُزَيْرٌ ابنُ اللهِ} لاتَفْسُدُ صلاتُه بالإجماعِ. أقولُ: ولعلَّ وَجْهَهُ ما رُوِيَ عن عبدِ اللهِ بنِ المباركِ، وأبي حفصٍ الكبيرِ البخاريِّ ومُحَمَّدٍ بنِ مُقَاتِلٍ، وغيرِهم مِن أنَّ عدمَ فسادِه لِمَا فيه من ضرورةِ سَبْقِ اللِّسانِ، ثمَّ قالَ في الخلاصةِ: ولو لم يقفْ عندَ قولِه: {أنَّهُم أصحابُ النارِ} بلْ وصلَ بقولِه: {الذينَ يَحْمِلُونَ العرشَ} لا تَفْسُدُ لكنَّه قبيحٌ ا.هـ.َ
ولا يخفى أنَّ أربابَ الوقوفِ جعلُوا الميمَ الذي هو علامةُ الوقفِ اللازمِ على قولِه (أصحابُ النارِ) لأنَّ في وصلِه إبهامَ أنْ يكونَ ما بعدَه صفةً لما قبلَه، وهو يُغَيِّرُ المعنى تغيرًا فاحشًا؛ لأنَّ قصدَ ذلك المعنى يكونُ كُفْرًا، وبِهَذَا التقريرِ وما سبقَ به من التحريرِ تبيَّنَ معنى قولِ الناظمِ التحريرِ (وليسَ في القرآنِ مِن وقفٍ وَجَبَ) وفي نسخةٍ (يَجِبُ) و (مِن) زائدةٌ مُؤَكِّدَةٌ، للمبالغةِ في النفيِ، فيجوزُ وصلُ الكلماتِ مِن أَوَّلِها إلى آخرِها في القرآنِ العظيمِ، ولا يكونُ فاعلُه تاركًا لواجبٍ عليه، بمعنى أنَّهُ يَأْثَمُ بتركِ الوقفِ لديه وإنَّما ينبغي له بالوجوبِ الاصطلاحيِّ ويُسْتَحَبُّ له باللزومِ العرفيِّ مراعاةُ الوقوفِ القرآنيَّةِ، لما وردَ أنَّ عليًّا كرَّمَ اللهُ وجهَهُ سُئِلَ عن قولِه تعالى: {وَرَتِّل القرآنَ تَرْتِيلًا} فقالَ الترتيلُ: تجويدُ الحروفِ ومَعْرفةُ الوقوفِ.
ولِمَا وردَ عن ابنِ عمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّهُ قالَ: " لقد عِشْنا بُرْهَةً مِن دَهْرِنَا وإنَّ أحدَنا لَيُؤْتَى الإيمانَ قبلَ القرآنِ، وتَنْزِلُ السورةُ على النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَتَعَلَّمُ حلالَها وحرامَها وأمرَها وزَجْرَها وما ينبغي أنْ يُوقَفَ عندَه منَها.
قالَ الناظمُ ففي كَلاَمِ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه دليلٌ على وجوبِ تَعَلُّمِهِ ومَعْرفتِه وفي كَلاَمِ ابنِ عمرَ رضي اللهُ تعالى عنهما برهانٌ على أنَّ تَعَلُّمَهُ إجماعٌ مِن الصحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، وصحَّ بلْ تواترَ عندَنا تَعَلُّمُهُ والاعتناءُ به من السلفِ الصالحِ، قالَ: ومِن ثَمَّ اشترطَ كثيرٌ مِن أئمَّةِ الخلفِ على المجيزِ أنْ لا يُجِيزَ أحدًا إلا بعدَ مَعْرفةِ الوقفِ والابتداءِ، وقالَ الإمامُ أبو زكريَّا: الوقفُ في الصدرِ الأَوَّلِ مِن الصحابةِ والتابعينَ وسائرِ العلماءِ مرغوبٌ فيه من مشايخِ القُرَّاءِ والأئمَّةِ الفُضَلاءِ، مطلوبٌ فيما سلفَ من الأعصارِ، واردةٌ به الأخبارُ الثابتةُ، والآثارُ الصحيحةُ، ففي الصحيحينِ أنَّ أمَّ سلمةَ قالَتْ: كانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَطِّعُ قراءتَه يقولُ: " (الْحَمْدُ للهِ ربِّ العالمينَ) ثمَّ يقفُ " الحديثَ. ورُوِيَ أنَّ رَجُلَيْنِ أَتَيا النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَشَهَّدَ أحدُهُما وقالَ: مَن يُطِع اللهَ ورسولَه فقدْ رَشَدَ ومَن يَعْصِهِمَا ووقفَ، فقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( قُمْ بِئْسَ الخطيبُ أنتَ ). قالَ بعضُهم: إنَّما قالَ ذلكَ لِقُبْحِ لفظِه، وكانَ حقُّه أنْ يقفَ على (رَشَدَ) أو على (غَوَى) أو يصلَ الجميعَ، فانظرْ كيفَ كَرِهَ قُبْحَ لَفْظِه إنْ كانَ مرادُه الخيرَ لا الشرَّ ا.هـ.
ولا يخفى أنَّ قولَه: وما ينبغي أنْ يُوقَفَ عندَه منها لا يبعُدُ أن يُرَادَ بها الآياتُ المتشابهةُ في مَعْناها، فليسَ في الحديثِ الثاني نصٌّ على الوقفِ المصطلحِ عليه.
(ولا حرامٌ غيرُ ما لَه سببٌ) يجوزُ رفعُ حرامٍ على أنَّهُ مَعْطُوفٌ على مَحَلِّ (َمَن وَقَفَ)؛ لأنَّه اسمُ ليسَ، وَجَرُّه للعطفِ على لفظِه، كما قُرِيءَ بالوجهينِ في قولِه تعالى: {هلْ مِن خالقٍ غيرُ اللهِ} وقولِه سبحانَه { مَالَكُمْ مِن إِلَهٍ غَيْرُه} لكن الجمهورُ بالرفعِ وأمَّا (غيرُ في البيتِ فَتَابِعٌ لحرامٍ في إعرابِه، وَجُوِّزَ نَصْبُه حالًا، ويمكنُ نصبُه على الاستثناءِ أيضًا.
وحاصلُ معنى البيتِ بكمالِه أنَّهُ ليسَ في القرآنِ وقفٌ واجبٌ يَأْثَمُ القارئُ بتركِه، ولا وَقْفٌ حرامٌ يَأْثَمُ بِوَقْفِه؛ لأنَّهما لا يدلاَّنِ على معنًى فَيَخْتَلُّ بِذَهَابِهِمَا، إلا أنْ يكونَ لذلكَ سببٌ يَسْتَدْعِي تحريمَه ومُوجِبٌ يقتضي تَأْثِيمَه، كأنْ يَقْصِدَ الوقفَ على {ما مِن إلهٍ} و {إنِّي كَفَرْتُ} ونحوِهما كما سبقَ مِن غيرِ ضرورةٍ، إذ لايَقْصِدُ ذلكَ مُسْلِمٌ واقفٌ على مَعْناهُ، وإذا لم يَقْصِدْ فلا يَحْرُمُ عليه لا الوصلُ ولا الوقفُ في مبناهِ، وأمَّا غيرُ الواقِفينَ على مَعْناهُ ففي الأمرِ سَعَةٌ عليهم؛ إذ لا يُتَصَوَّرُ القصدُ لديهم، لكن الأحسنُ معَ عدمِ القصدِ أنْ يُتَجَنَّبَ الوقفُ على مثلِ ذلكَ مطلقًا، للإبهامِ على خلافِ المَرامِ، لاسيَّما إذا كانَ مُسْتَمِعًا في ذلكَ المقامِ.
ثمَّ اعلمْ أنَّ المُتَأَخِّرينَ مِن عُلَمَائِنا اتَّفَقُوا على أنَّ الخطأَ إنْ كانَ في الإعرابِ لا يُفْسِدُ الصلاةَ مُطْلَقًا، وإنْ كانَ ممَّا اعتقدَه كُفِّرَ؛ لأنَّ أكثرَ الناسِ لا يُمَيِّزُونَ بينَ وجوهِ الإعرابِ، قالَ قاضيخانَ: وما قالَه المتأخِّرُونَ أوسعُ، وما قالَه المُتَقَدِّمُونَ أحوطُ؛ لأنَّه لو تَعَمَّدَهُ يكونُ كُفْرًا وما يكونُ كُفْرًا لا يكونُ مِن القرآنِ. قالَ ابنُ الهُمَامِ: فيكونُ مُتَكَلِّمًا بكَلاَمِ الناسِ الكفارِ وهو مُفْسِدٌ كما لو تَكَلَّمَ بكَلاَمِ الناسِ ساهيًا ممَّا ليسَ بكفرٍ فكيفَ وهو كُفْرٌ.
قالَ شارحُ المنيَّةِ: ولا يُقَاسُ مسألةُ زَلَّةِ القارئِ بعضِها ممَّا ليسَ مذكورًا عن الأئمَّةِ المتقدِّمِينَ والمُتَأَخِّرينَ على بعضٍ ممَّا هو مذكورٌ إلا بعلمٍ كاملٍ في اللغةِ و العربيَّةِ والمَعْاني ونحوِ ذلكَ ممَّا يحتاجُ إليه تفسيرٌ لِيُعْلَمَ ما اعتقادُه كُفِّرَ وما هو بعيدٌ فاحشًا أو غيرَ فاحشٍ. ثمَّ قالَ: وأمَّا الحُكْمُ في قطعِ بعضِ الكلمةِ عن بعضٍ، بأنْ أرادَ أنْ يقولَ (الَحَمْدُ للهِ) فقالَ (أل) فانقطعَ نَفَسُه أو نَسِيَ الباقيَ ثمَّ تَذَكَّرَ فقالَ (الْحَمْدُ للهِ) أو لم يَتَذَكَّرْ فَتَرَكَ الباقيَ وانتقلَ إلى كلمةٍ أُخْرَى فقدْ كانَ الشيخُ الإمامُ شمسُ الأئمَّةِ الحُلْوَانِيُّ يُفْتِي بالفسادِ في مثلِ ذلكَ، وعامَّةُ المشايخِ قالُوا: لا تَفْسُدُ لعمومِ البَلْوَى في انقطاعِ النفَسِ والنسيانِ.
أقولُ: وفيه بحثٌ؛ لأنَّ المثالَ المذكورَ لا يصلُحُ أنْ يكونَ لقطعِ بعضِ الكلمةِ عن بعضٍ على وجهِ الحقيقةِ؛ فإنَّ لامَ التعريفِ كلمةٌ مستقلةٌ، لكن لكمالِ امتزاجِها بمدخولِها تُعَدُّ كلمةً واحدةً ولا يُسْتَحْسَنُ قطعُها عمَّا بعدَها وكذا فُصِلَ ما بعدَها عنها لاتِّصَالِها رسمًا فالمثالُ اللائقُ فيما نحنُ فيه أنْ يقولَ: (الْحَمْدُ للهِ) بأنْ يَقِفَ على الميمِ وابْتَدَأَ بالدالِ، فَتَأَمَّلْ في تحقيقِ تَصَوُّرِ المثالِ، قالَ: وأمَّا الوقفُ في غيرِ موضعِه والابتداءُ في غيرِ موضعِه فلا يُوجِبُ ذلكَ فسادَ الصلاةِ أيضًا لعمومِ البلوى بانقطاعِ النَّفَسِ وحصولِ النسيانِ، وعدمِ مَعْرفةِ المعنى في حقِّ العوامِّ، وانتفاءِ القصدِ المذمومِ بالنسبةِ إلى الخواصِّ، عندَ عامَّةِ علمائِنا، وعندَ بعضِ العلماءِ تَفْسُدُ إن تغيَّرَ المعنى تَغَيُّرًا فاحشًا نحوُ أنْ يقرأَ { لا إلهَ } ووقفَ وابتدأَ بقولِه: { إلا اللهُ } وهذا مثالُ الوقفِ، أو قرأَ: { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذينَ أُوتُوا الكتابَ مِن قبلِكم } ووقفَ وابتدأَ بقولِه: {وإيَّاكُمْ أنِ اتَّقُوا اللهَ} أو قرأَ: { يُخْرِجُونَ الرَسُولَ } وابْتَدَأَ بقولِه: {وإيَّاكُمْ أنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ ربِّكُمْ} وأمثالُ ذلكَ ممَّا تقدَّمَ، فالصحيحُ عدمُ الفسادِ في ذلكَ واللهُ أعلمُ.
ثمَّ قالَ ولو وَصَلَ حرفًا مِن آخرِ كلمةٍ بكلمةٍ أُخْرَى بأنْ قرأَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نستعينُ} بوصلِ كافِ إيَّاكَ بالنونِ، أو قرأَ {إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكوثرَ} وما أَشْبَهَ ذلكَ فإنَّ صلاتَه لا تَفْسُدُ على قولِ العامَّةِ مِن العلماءِ، قالَ قاضيخانِ: وإنْ تَعَمَّدَ ذلكَ، وفي شرحِ التَّهْذِيبِ: هو الصحيحُ؛ لأنَّ مِن ضرورةِ وصْلِ الكلمةِ بالكلمةِ اتصالَ آخرِ الأُولَى بأَوَّلِ الثانيَةِ. قالَ في فتاوَى الحُجَّةِ: المُصَلِّي إذا وصلَ في الفاتحةِ {إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لا ينبغي أنْ يَقِفَ على (إيَّاكَ) ثمَّ يقولُ (نَعْبُدُ) بل الأَوْلَى والأصحُّ أنْ يصلَ {إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نستعينَ} قالَ صاحبُ المنيَّةِ: وعلى قولِ بعضِ المشايخِ تَفْسُدُ صلاتُه، والظاهرُ أنَّ مُرَادَ هذا القائلِ إنَّما هو عندَ السكتِ على (إيا) ونحوِها، وإلا فلا ينبغي لعاقلٍ أنْ يَتَوَهَّمَ فيه الفسادَ فضلًا عن العالمِ، هذا وبعضُ المشايخِ فصَّلُوا وقالُوا: إنْ عَلِمَ القارىءُ أنَّ القرآنَ كيفَ هو، أي عَلِمَ أنَّ الكافَ مِن الكلمةِ الأُولَى لامِن الثانيَةِ إلا أنَّهُ جرَى على لسانِه هذا الوصلُ لاتَفْسُدُ صلاتُه، وإن كانَ في اعتقادِه أنَّ القرآنَ كذلكَ أي: إنَّ الكافَ مثلًا مِن الكلمةِ الثانيَةِ تَفْسُدُ صلاتُه، لأنَّ ما قرأَ ليسَ بقرآنٍ، نظرًا إلى ما أرادَه، والصحيحُ قولُ العامَّةِ؛ لأنَّ هذه كُلَّها تكَلُّفَاتٌ باردةٌ، وإذا إتَّسَقَ اللفظُ فلا عبرةَ بإرادةٍ.
أقولُ وما اشْتَهَرَ على لسانِ بعضِ الجهلةِ من القُرَّاءِ أنَّ في سورةِ الفاتحةِ للشيطانِ كذا من الأسماءِ في مثلِ هذه التراكيبِ من البناءِ فخطأٌ فاحشٌ وإطلاقٌ قبيحٌ، ثمَّ سَكْتُهُمْ عن نحوِ دالِ الحمدِ وكافِ إيَّاكَ وأمثالِها غلطٌ صريحٌ.
تعريـفُ الوقـفِ والسَّكْـتِ:
ثمَّ اعلمْ أنَّ الوقفَ: هو قطعُ الصوتِ عندَ آخرِ الكلمةِ مِقْدَارَ زمنِ التنفُّسِ، والسكتَ: قطعُ الصوتِ زمانًا أقصرَ مِن زمنِ التنفُّسِ، ثمَّ الوقفُ اختياريٌّ: وهوَ أنْ يُقْصَدَ لذاتِه مِن غيرِ عُرُوضِ سببٍ في جهاتِه، واضطراريٌّ وهو ما يَعْرِضُ بسببِ حصرٍ وعجزٍ ونسيانٍ لما بعدَه من كلماتِه، واختياريٌّ: وهو ما يَمْتَحِنُه الأستاذُ بقولِه كيفَ تقفُ على هذا اللفظِ بعينِه؟ لِيَعْلَمَ مهارتَه في وجوهِ قراءتِه، وانتظاريٌّ: وهو أنْ يقفَ على كلمةٍ ليَعْطِفَ عليها غيرَها حينَ جمعِه لاختلافِ رواياتِه. (في الوقفِ على { وَمَا يَعْلَمَ تَأْوِيلَهُ إلا اللهُ}.
ثمَّ اعلمْ أنَّ الوقفَ قد يكونُ كافيًا على إعرابٍ وتفسيرٍ، وغيرَ كافٍ على آخرَ، نحوُ قولِه تعالى {وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَه إلا اللهُ} فإنه كافٍ على أنَّ ما بعدَه مُسْتَأْنَفٌ، وهو قولُ ابنِ عبَّاسٍ، وعائشةَ، وابنِ مسعودٍ، وغيرِهم رَضِيَ اللهُ عنهم، ومذهبُ أبي حنيفةَ، وأكثرِ أهلِ العلمِ، وذهبَ إليه الفَرَّاءُ، والأخفشُ، وأبو حاتمٍ، وغيرُهم، قالَ عُرْوَةُ: والراسخونُ في العلمِ لا يعلمونَ التأويلَ ولكن يقولونُ آمنَّا بِه. وعندَ غيرِهم الوقفُ كافٍ على { والرَّاسِخُونَ في العِلْمِ} فإنَّه عندَهم مَعْطُوفٌ عليه، وهو روايةٌ عن ابنِ عبَّاسٍ، واختارَه ابنُ الحاجبِ ومن تَبِعَه، والمَعْتمَدُ هو الأَوَّلُ، وعندَ أربابِ الوقوفِ هو المُعَوَّلُ؛ ولذا رَمَزُوا فوقَ لفظِ الجلالةِ حرفَ الميمِ بالْحُمْرَةِ، للإيماءِ إلى أنَّ الوصلَ مُوهِمٌ لمعنًى فيه خَلَلٌ مِن حيثُ الاعتقادُ، وأمَّا جَعْلُ المصريِّ الوقفَ على الجلالةِ تامًّا فغيرُ تامٍّ؛ لأنَّ ما بعدَه له تَعَلُّقٌ مَعْنويٌّ بما قبلَه، بلْ عندَ المحقِّقِينَ مِن أربابِ التفسيرِ إثباتُ تَعَلُّقِ المعنى في جميعِ الآياتِ ولو ما بينَ القصصِ وبينَ السورِ من سائرِ الكلماتِ.
والحاصلُ أنَّ الناظمَ جعلَ الوقوفَ على ثلاثِ مراتبَ تبعًا لأبي عمرٍو الدانيِّ، وأمَّا السجاونديُّ وكذا مَن تَبِعَه لم يُفَرِّقْ بينَ التامِّ والكافي، لكنَّه جعلَهما على مراتبَ مِن وقفٍ مُطْلَقٍ ورمزُه الطاءُ، حيثُ لم يُجَوِّزْ فيه الوصلَ، ومِن وقفٍ جائزٍ وصلُه والأَوْلَى وقفُه وَرَمْزُه الجيمُ، ومِن وقفٍ مُجَوَّزٍ وصلُه أَوْلَى ورمزُه الزايُ، وجعَل لطولِ الكَلاَمِ وقفًا سَمَّاهُ مُرَخِّصًا ورمزُه الصادُ، وجعلَ بعضَ أنواعِ المطلقِ وقفًا لازمًا ورمزُه الميمُ، وذلكَ لَمَّا كانَ في وصلِه حصولُ خللٍ في المَعْني نحوُ قولِه تعالى {وَمَاهُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ} فإنَّ حالَ الوصلِ قد يُتَوَهَّمُ أنَّ قولَه: (يُخَادِعُونَ) قيدٌ للنفيِ بكونِه وصفًا أو حالًا، والصوابُ أنَّهُ استئنافٌ، ونحوُ قولِه تعالى: {وَلاَ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إنَّ الْعِزَّةَ للهِ} و {إنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ} فإنَّ وَصْلَهُ مُوهِمٌ أنَّ القولَ هو مابعدَه وليسَ كذلكَ بلْ القولُ مُقَدَّرٌ، أي: فينا أو فيكَ أو في كتابِنا، ثمَّ الجملةُ استئنافيَّةٌ مُعَلِّلَةٌ لنفيِ الحزنِ، وتسليةٌ له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وتهديدٌ لهمْ.
وقد يكونُ الاختلافُ باختلافِ القِراءةِ فنحوُ قولِه تعالى: { يُحَاسِبْكُمْ بِه اللهِ } وقفٌ كافٍ على قراءةِ مَن رفعَ: فَيَغْفِرُ ويُعَذِّبُ ووقفٌ حَسَنٌ لِمَنْ يَجْزِمُهُمَا، لكن لا يُسْتَحْسَنُ الوقفُ عليه لعدمِ حُسْنِ الابتداءِ بما بعدَه، وقِسْ على هذا ما وقعَ في القرآنِ مثلَه، وقد جاءني في سؤالٍ عن بعضِ فضلاءِ اليمينِ في الفَرْقِ بينَ قولِه تعالى: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} وبينَ قولِه سبحانَه: { وإلى ثَمُودَ أَخَاهُم صالحًا} حيثُ جعلَ رمزَ الوقفِ على الأَوَّلِ مطلقًا وعلى الثاني لازمًا، معَ أنَّ ما بعدَهُمَا { قالَ يا قومِ اعْبُدُوا اللهَ مَالَكُمْ مِن إلهٍ غَيْرُهُ} بلا تفاوتٍ في الموضعينِ. فقلتُ:لأنَّ الأَوَّلِ عَلَمٌ جامدٌ لا يصلُحُ أنَّ ما بعدَه وهوَ قولُه: {قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَالَكُمْ مِن إلهٍ غَيْرُه} وصفٌ له بخلافِ الثاني فإنَّهُ عَلَمٌ مُشْتَقٌّ وقعَ في صورةِ النكرةِ فقدْ يُتَوَهَّمُ أنَّ مَابَعْدَهُ نعتٌ له، ومِن تحقيقِ أربابِ هذا الفنِّ وتدقيقِ نظرِهم في التعبيرِ وكمالِ حَذَاقَتِهِمْ في علمِ التفسيرِ أنَّ السجاونديَّ جعلَ رمزَ الوقفِ على قولِه تعالى حكايةً عن موسى عليه السلامُ: {قالَ ربُّ السمواتِ والأرضِ وما بَيْنَهُما} و {ربُّ المشرقِ والمغربِ وما بينَهُما} مطلقًا، وعلى قولِه سبحانَه وتعالى في الدُّخَانِ: {ربُّ السمواتِ والأرضِ وما بينَهُمَا} لازمًا، معَ اتِّحَادِ ما بَعْدَهُمَا بقولِه تعالى: {إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} وقد جاءَ صاحبُ الخلاصةِ وجعلَ رمزَهما مطلقًا من غيرِ فرقٍ بينهما، بل اعْتُرِضَ علي مَن ميَّزَ باختلافِ رمزِهما، وأقولُ: الصوابُ هو الأَوَّلُ؛ لأنَّ الوصلَ في الآيةِ الأُولَى ليسَ بِمُوهِمٍ لخللٍ في المعنى، بخلافِ الآيةِ الثانيَةِ؛ لأنَّ ما قبلَها فيه خطابٌ للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيثُ قالَ تعالى: {إنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} فلو وصلَ لربَّمَا يُتَوَهَّمُ أنَّ الخطابَ في كُنْتُمْ له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على طريقِ التعظيمِ، أو له ولأمَّتِه على جهةِ التغليبِ، وقد عرَضْتُ هذه الدقيقةَ على مشايخِي في الحرمينِ الشريفينِ، أعني: شيخَ القُرَّاءِ بالمدينةِ السَّكِينَةِ مولانا المَغْفُورِ له أبو الحَرَمِ المدنيِّ، وشيخَ القُرَّاءِ بمكةَ الأمينةِ أستاذِنا المَبْرُوَِر سِرَاجِ الدينِ عُمَرَ الشوافيِّ اليمنيِّ فاسْتَحْسَنَا ما ذكَرْتُه غايةَ التحسينِ، لمَّا تَبَيَّنَ الفرقُ لهما على وجهِ التبيينِ، وقد اعْتَنَى بعضُهم برسالةٍ مُخْتَصَّةٍ في وقفِ اللازمِ، والعوامُّ يَحْسَبونَ أنَّهُ واجبٌ، ووصلُه حرامٌ، ويَغْفُلُونَ أنَّهُ مُقَيَّدٌ بما ذَكَرَه الناظمُ مِن سببِ قصدِ المُخَالفِ المرامَ، وقد صُنِّفَتْ كتبٌ في الوقوفِ القرآنيَّةِ بعضُها مُدَلِّلٌ ببيانِ إعرابِ المباني، وإعرابِ المَعْاني، والمصاحفُ المصحَّحَةُ الْمَقْرُؤةُ على قُرَّاءِ العجمِِ مَرْمُوزَةٌ في مُشْتَبِهَاتِ المثاني. فإنْ قلتَ: ما وجهُ أربابِ الوقوفِ أنَّهُم كَتَبُوا (لا) في بعضِ المواضعِ ولم يَسْتَغْنُوا بعدمِ كتابةِ رمزِ الدالِّ على نفيِ الوقفِ في أكثرِها؟ قلتُ: لأنَّ تلكَ المواضعَ كانتْ مَظِنَّةَ أنَّهَا مَحَلُّ وقفٍ وانقطاعٍ لها عمَّا بعدَها فَنَبَّهُوا على خلافِ ما يُتَوَهَّمُ مِن ظواهرِها، هذا وقدْ وقعَ اختلافٌ بينَ الكوفيِّ والبصريِّ في بعضِ رؤوسِ الآىِ فجعلَ رمزَ آيةِ الكوفيِّ (لب) وعلامةَ خُمْسِهِمْ (الهاء) وَعُشْرِهِمْ رأسَ العينِ أو حرفَ الياءِ، ورمزَ آيةِ البصريِّ (تب) وَخُمْسِهِمْ (خب) وعُشْرِهِمْ (عب)
فقولُه (بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ ) في الفاتحةِ آيةٌ للكوفيِّ و { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } آيةٌ للبصريِّ معَ الإجماعِ على أنَّ سورةَ الفاتحةِ سبعُ آياتٍ، وأمَّا البسملةُ في سائرِ السورِ فليستْ بآيةٍ اتفاقًا، وكذا (آلم) البقرةُ آيةٌ عندَ الكوفيِّ خلافًا للبصريِّ، وتفصيلُ ذلكَ يطولُ ويَضُرُّ للمَلُولِ، والعاقلُ يكفيه الإشارةُ، ثمَّ اعْلَمْ أنَّهُ قدْ يقعُ الوقفُ كافيًا على إعرابٍ، وحسنًا على آخرَ، نحوُ قولِه تعالى: { هُدًى للْمُتَّقِينَ } فإنَّه إنْ جَعَلْتَ الموصولَ بعدَه نعتًا له فَالْوَقْفُ حسنٌ، وإنْ جَعَلْتَهُ مرفوعًا أو منصوبًا على القطعِ أو مُبْتَدَأً فوقفُه كافٍ، وَبِمُرَاعَاةِ هذِه الملاحظاتِ في إعرابِ الآياتِ وسائرِ الكلماتِ يحصلُ الفهمُ والدرايةُ، ويتَّضِحُ مِنْهاجُ الهدايةِ ومِعْراجُ الروايةِ، فَتَلْتَذُّ به التلاوةُ على وجهِ الغايةِ والنهايةِ، وأمَّا إذا لم يُلاَحَظ الإعرابُ والمعنى فقد يَقَعُ الواقفُ في خطأ المبنى كما إذا وقفَ على نحوِ قولِه تعالى: { وإنْ كَانَتْ واحدةٌ فَلَها النَّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ}وكذا الوقفُ على { لاتَقْرَبُوا الصَّلاَة } وكذا على { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } وإنْ كانَ رأسَ آيةٍ، ولايُقَاسُ هذا على نحوِ { ربِّ الْعَالَمِِينَ } لِمَا بَيْنَهُمَا مِن الفرقِ الجليِّ المَعْنويِّ، وأمَّا قولُ المصريِّ: الوقفُ على خَتْمِ اللهِ قبيحٌ، والابتداءُ باللهِ أقبحُ، فليسَ بصحيحٍ؛ لأنَّ الوقفَ على ختمِ اللهِ حَسَنٌ، إلا أنَّهُ يَبْدَأُ بما قبلَه، والابتداءُ بختمٍ أحسنُ مِن الابتداءِ بالجلالةِ، ثمَّ قولُه: وقد يكونُ الوقفُ قبيحًا والابتداءُ به جيِّدًا نحوُ قولِه تعالى: { مَن بَعَثَنَا مِن مَرْقَدِنَا هذا } فإنَّ الوقفَ على (هذا) قبيحٌ؛ لفصلِه بينَ المبتدأِ والخبرِ؛ ولأنَّهُ يُوهِمُ أنَّ الإشارةَ إلى (مَرْقَدِنَا) وليسَ كَذَلِكَ عندَ أَئِمَّةِ التفسيرِ، ففيه تنبيهٌ حَسَنٌ، إلا أنَّ الأقبحَ منه وصلُ (مَرْقَدِنَا) فإنَّ وَقْفَه عندَ أربابِ الوقوفِ لازمٌ، لما سَبَقَ، وإنْ وُصِلَ هذا بما بعدَه لحصولِ تَوَهُّمِ ما تقدَّمَ، واختارَ حفصٌ عَن عَاصِمٍ السكتَ على (مَرْقَدِنَا) وهو وقفَةٌ لطيفةٌ مِن غيرِ تنَفُّسٍ لحصولِ هذا المعنى، ولدفعِ تَوَهُّمِ ذلكَ المبنى؛ ولأنَّ هذا وما بعدَه معَ ما قبلَه داخلانِ في أجزَاءِ مقولِهم،فلا يَحْسُنُ القطعُ بالكُلِّيَّةِ بينَ مقولِهم، فَتَأَمَّلْ؛ فإنَّه موضعُ تحقيقٍ ومَحَلُّ تدقيقٍ، كما اختارَ السكتَ أيضًا على قوله في سورةِ الكهفِ { وَلَمْ يَجْعَلْ له عِوَجًا } وغيرُه جعلَ وَقْفَه مُطْلَقًا، معَ أنَّهُ مِن رؤوسِ الآىِ، ويتبيَّنُ لكَ وجهُ سكتِه وسببُ العُدُولِ عن وقفِه ممَّا حكاهُ بعضُهم مِن أنَّهُ سمِعَ شيخًا يُعْرِبُ لِتِلْمِيذِهِ (قَيِّمًا) مِن قولِه تعالى: { ولم يَجْعَلْ له عِوَجًا قَيِّمًا } صفةً لِعِوَجًا قالَ فَقُلْتُ له: يا هذا كيفَ يكونُ الْعِوَجُ قَيِّمًا وَتَرَحَّمْتُ على مَن وقفَ من القُرَّاءِ على ألفِ التنوينِ في (عِوَجًا) وَقَفَةً لطيفةً دفعًا لهذا الوهمِ وإنَّما (قَيِّمًا) حالٌ إمَّا مِن اسمٍ محذوفٍ هو وعاملُه، أي أَنْزَلَه قَيِّمًا، وإمَّا مِن (الكتابِ) وجملةُ النفيِ مَعْطُوفةٌ على الأَوَّلِ ومُعْتَرِضَةٌ على الثاني على ماذكرَه المُفْتِي.