فـصـــلٌ
وَأَمَّا الْأَصْلُ الثَّانِي، وَهُوَ التَّوْحِيدُ فِي الْعِبَادَاتِ، وَالْمُتَضَمِّنُ لِلْإِيمَانِ بِالشَّرْعِ وَالْقَدَرِ جَمِيعًا - فَنَقُولُ: إِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ الإِيمَانِ بِخَلْقِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ، فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّه وَمَلِيكُه، وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَِ إلاَّ بِاللَّهِ، وَقَدْ عَلِمَ مَا سَيَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، وَقَدَّرَ الْمَقَادِيرَ وَكَتَبَهَا حَيْثُ شَاءَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)، وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ).
وَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، كَمَا خَلَقَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ لِعِبَادَتِهِ، وَبِذَلِكَ أَرْسَلَ رُسُلَه، وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ.
وَعِبَادَتُهُ تَتَضَمَّنُ كَمَالَ الذُّلِّ لَهُ وَالْحُبِّ لَهُ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ طَاعَتِهِ، وَمَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) وَقَالَ تَعَالَى: ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ).
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبُدُونَ)، وَقَالَ تَعَالَى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ)، وَقَالَ تَعَالَى: ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْك وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ)، وَقَالَ تَعَالَى: ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)، فَأَمَرَ الرُّسُلَ بِإِقَامَةِ الدِّينِ وَأَنْ لاَ يَتَفَرَّقُوا فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ (إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ، وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ.
وَهَذَا الدِّينُ هُوَ دِينُ الْإِسْلاَمِ، الَّذِي لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ دِينًا غَيْرَهُ، لاَ مِنَ الأَوَّلِينَ وَلاَ مِنَ الآخِرِينَ، فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى دِينِ الْإِسْلاَمِ، قَالَ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلَتْكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ)، وَقَالَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: ( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مِنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسَلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )، وَقَالَ عَنْ مُوسَى: ( وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ)، وَقَالَ فِي خَبَرِ الْمَسِيحِ (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ)، وَقَالَ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الأَنْبِيَاءِ ( يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينِ هَادُوا)، وَقَالَ عَنْ بِلْقِيسَ أَنَّهَا قَالَتْ: ( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفَسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
فَالْإِسْلاَمُ يَتَضَمَّنُ الِاسْتِسْلاَمَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَمَنِ اسْتَسْلَمَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ كَانَ مُشْرِكًا، وَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لَهُ كَانَ مُسْتَكْبِرًا عَنْ عِبَادَتِهِ، وَالْمُشْرِكُ بِهِ وَالْمُسْتَكْبِرُ عَنْ عِبَادَتِهِ كَافِرٌ، وَالِاسْتِسْلاَمُ لَهُ وَحْدَهُ يَتَضَمَّنُ عِبَادَتَهُ وَحْدَهُ وَطَاعَتَهُ وَحْدَهُ.