دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > الرسالة التدمرية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م, 07:01 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي الأصل الثاني: التوحيد في العبادات، وتضمنه للإيمان بالشرع والقدر جميعاً

فـصـــلٌ
وَأَمَّا الْأَصْلُ الثَّانِي، وَهُوَ التَّوْحِيدُ فِي الْعِبَادَاتِ، وَالْمُتَضَمِّنُ لِلْإِيمَانِ بِالشَّرْعِ وَالْقَدَرِ جَمِيعًا - فَنَقُولُ: إِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ الإِيمَانِ بِخَلْقِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ، فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّه وَمَلِيكُه، وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَِ إلاَّ بِاللَّهِ، وَقَدْ عَلِمَ مَا سَيَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، وَقَدَّرَ الْمَقَادِيرَ وَكَتَبَهَا حَيْثُ شَاءَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)، وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ).
وَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، كَمَا خَلَقَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ لِعِبَادَتِهِ، وَبِذَلِكَ أَرْسَلَ رُسُلَه، وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ.
وَعِبَادَتُهُ تَتَضَمَّنُ كَمَالَ الذُّلِّ لَهُ وَالْحُبِّ لَهُ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ طَاعَتِهِ، وَمَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) وَقَالَ تَعَالَى: ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ).
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبُدُونَ)، وَقَالَ تَعَالَى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ)، وَقَالَ تَعَالَى: ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْك وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ)، وَقَالَ تَعَالَى: ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)، فَأَمَرَ الرُّسُلَ بِإِقَامَةِ الدِّينِ وَأَنْ لاَ يَتَفَرَّقُوا فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ (إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ، وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ.
وَهَذَا الدِّينُ هُوَ دِينُ الْإِسْلاَمِ، الَّذِي لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ دِينًا غَيْرَهُ، لاَ مِنَ الأَوَّلِينَ وَلاَ مِنَ الآخِرِينَ، فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى دِينِ الْإِسْلاَمِ، قَالَ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلَتْكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ)، وَقَالَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: ( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مِنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسَلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )، وَقَالَ عَنْ مُوسَى: ( وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ)، وَقَالَ فِي خَبَرِ الْمَسِيحِ (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ)، وَقَالَ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الأَنْبِيَاءِ ( يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينِ هَادُوا)، وَقَالَ عَنْ بِلْقِيسَ أَنَّهَا قَالَتْ: ( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفَسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
فَالْإِسْلاَمُ يَتَضَمَّنُ الِاسْتِسْلاَمَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَمَنِ اسْتَسْلَمَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ كَانَ مُشْرِكًا، وَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لَهُ كَانَ مُسْتَكْبِرًا عَنْ عِبَادَتِهِ، وَالْمُشْرِكُ بِهِ وَالْمُسْتَكْبِرُ عَنْ عِبَادَتِهِ كَافِرٌ، وَالِاسْتِسْلاَمُ لَهُ وَحْدَهُ يَتَضَمَّنُ عِبَادَتَهُ وَحْدَهُ وَطَاعَتَهُ وَحْدَهُ.

  #2  
قديم 7 ذو الحجة 1429هـ/5-12-2008م, 03:35 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي تقريب التدمرية للشيخ: محمد بن صالح العثيمين

الأَصْلُ الثَّانِي: في القَدَرِ وَالشَّرْعِ([1])
القَدَرُ تقديرُ اللهِ تعالى لما كان ومَا يكونُ أَزَلاً وأَبَداً.
والإِيمانُ بالقدَرِ أحَدُ أركانِ الإِيمانِ السَّتَّةِ الَّتِي بَيَّنَهَا رسولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لجبريلَ حينَ سأَلَهُ عنِ الإِيمانِ فقالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ باللهِ، وَمَلاَئِكِتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَومِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ".
والإِيمانُ بالقدَرِ والشَّرْعِ مِنْ تَمامِ الإِيمانِ برُبوبيَّةِ اللهِ تعالى.
وَللإيمانِ بالقدَرِ مراتبُ أربعٌ:
المرتبةُ الأُولى: الإِيمانُ بأنَّ اللهَ تعالى قدْ عَلِمَ بعلْمِهِ الأزليِّ الأبديِّ ما كانَ وما يكونُ منْ صغيرٍ، وكبيرٍ، وظاهرٍ، وباطنٍ، مما يكونُ منْ أفعالِهِ، أوْ أفعالِ مخلوقاتِهِ.
المرتبةُ الثَّانِيَةُ: الإِيمانُ بأنَّ اللهَ تعالى كتبَ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ مقاديرَ كلِّ شيءٍ حتى تقومَ السَّاعةُ، فَمَا منْ شَيْءٍ كانَ أَوْ يكونُ إلاّ وَهُوَ مكْتوبٌ مُقدَّرٌ قبلَ أنْ يكونَ.
ودليلُ هاتينِ المرتبتَيْنِ في كتابِ اللهِ تعالى، وَفي سُنَّةِ رسولِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أمَّا الكتابُ: فمنْهُ قولُهُ تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)([2]). وقولُهُ: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)([3]).
وأمَّا السُّنَّةُ: فمِنْهَا قولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّموَاتِ والأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قالَ وَعَرْشُهُ على الماءِ".
أَخرَجَهُ مسلِمٌ في صحيحِهِ عنْ عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ رضيَ اللهُ عنهُمَا.
ورَوَى البخاريُّ في صحيحِهِ منْ حديثِ عِمرانَ بنِ حُصَيْنٍ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّ النَّبيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالَ: "كَانَ اللهُ وَلَمْ يكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ على المَاءِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ وَكَتَبَ في الذِّكْرِ كلَّ شَيْءٍ".
ورَوَى الإِمامُ أحمدُ والتِّرمِذيُّ منْ حديثِ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ رضيَ اللهُ عنْهُ قالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقولُ: "إنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمَ فَقَالَ: اكْتُبْ قَالَ رَبِّ وَمَا أَكْتُبُ؟ قالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كلِّ شَيءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ". وهوَ حديثٌ حسَنٌ.

المَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: الإِيمانُ بمشيئةِ اللهِ تعالى، وأَنَّها عامَّةٌ في كلِّ شيْءٍ، فمَا وُجِدَ موجودٌ، ولاَ عُدِمَ معدومٌ منْ صغيرٍ، وكبيرٍ، وظاهرٍ، وباطنٍ في السَّمواتِ والأَرْضِ إلاَّ بمشيئةِ اللهِ عزَّ وجَلَّ سواءٌ كانَ ذلكَ مِنْ فِعْلِهِ تعالى، أَمْ مِنْ فِعْلِ مخلوقاتِهِ.
المَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: الإِيمانُ بخلْقِ اللهِ تعالى، وأنَّهُ خالقُ كلِّ شيْءٍ منْ صغيرٍ، وكبيرٍ، وظاهرٍ، وباطنٍ، وأنَّ خلْقَهُ شاملٌ لأعيانِ هذِهِ المخلوقاتِ وصفاتِهَا ومَا يَصْدُرُ عنْهَا منْ أَقوالٍ، وأَفعالٍ، وآثارٍ.
ودليلُ هاتينِ المرتبتَيْنِ قولُهُ تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ)([4]). وقولُه: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)([5]). وقولُهُ: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)([6]).
ولمْ يَخْلُقْ شَيْئاً إلاَّ بمشيئَتِهِ لأنَّهُ تعالى لاَ مُكْرِهَ لَهُ لِكمالِ مُلْكِهِ وتَمامِ سلطانِهِ. قالَ اللهُ تعالى مبيِّناً أنَّ فعلَهُ بمشيئتِهِ: (وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)([7]).
وقالَ: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ)([8]).
وقالَ مبيِّناً أنَّ فِعْلَ مخلوقاتِهِ بمشيئتِهِ: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)([9]). وقالَ: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)([10]).

([1]) سبق الكلام على الأصل الأول "الصفات".

([2]) سورة الحج، الآية: 70.

([3]) سورة الأنعام، الآية: 59.

([4]) سورة الزمر، الآيتان: 62، 63.

([5]) سورة الفرقان، الآية: 2.

([6]) سورة الصافات، الآية: 96.

([7]) سورة إبراهيم، الآية: 27.

([8]) سورة الرعد، الآية: 26.

([9]) سورة التكوير، الآيتان: 28، 29.

([10]) سورة البقرة، الآية: 253.

  #3  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 05:53 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التحفة المهدية للشيخ: فالح بن مهدي الدوسري


الأصـــلُ الثــانــي

فصـــلٌ

قولُه:
وأما الأصلُ الثاني وهو التوحيدُ في العباداتِ المتضمِّنُ للإيمانِ بالشرْعِ والقدَرِ جميعاً فنقولُ: لا بدَّ من الإيمانِ بخلْقِ اللهِ وأمرِه، فيجبُ الإيمانُ بأن اللهَ خالقُ كلِّ شيءٍ وربُّه ومليكُه، وأنه على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأنه ما شاءَ كان وما لم يشأْ لم يكنْ، ولا حوْلَ ولا قوَّةَ إلا باللهِ، وقد عَلمَ ما يكون قبل أن يكونَ، وقدَّرَ المقاديرَ وكتَبَها حيثُ شاءَ، كما قالَ تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ}. وفي الصحيحِ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قالَ: (إِنَّ اللهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) ويَجبُ الإيمانُ بأن اللهَ أمَرَ بعبادتِه وحدَه لا شريكَ له كما خَلقَ الجنَّ والإنسَ لعبادتِه، وبذلك أَرسلَ رسلَه وأَنزلَ كتُبَه.

الشرْحُ:
هذا شروعٌ في بيانِ الأصلِ الثاني من نَوْعَي التوحيدِ وهو توحيدُ الشرْعِ والقدَرِ: وقد سَبقَ الكلامُ في أنهما متلازمان وأنه لابدَّ من الإيمانِ بالشرْعِ والقدَرِ إيماناً خالياً من الزلَلِ، وكما أنه لابدَّ في الأصْلِ الأوَّلِ من أَمرين: وهما إثباتُ ما أَثبتَه اللهُ ورسولُه من أوصافِ الكمالِ ونفيُ ما يَجبُ نفيُه مما يُضادُّ هذه الحالَ، فلا بدَّ أيضاً في بابِ شرْعِ اللهِ وتقديرِه من أمرين:

أحدُهما: الإيمانُ بربوبيَّةِ اللهِ الشاملةِ وأنه خالِقُ كلِّ شيءٍ ومليكُه، وأن ما شاءَ كان وما لم يَشأْ لم يَكنْ، وأنه لا تَحَوُّلَ للخلْقِ من حالٍ إلى حالٍ ولا قوَّةَ لهم إلا به، وأنه العليمُ بكلِّ شيءٍ فلا تَخْفَى عليه خافِيَةٌ، يَعلمُ ما كان قبلَ كونِه وما لم يكنْ لو كان كيفَ يكونُ. علِمَ ما العبادُ فاعلون وكَتبَ مقاديرَ كلِّ شيءٍ قبل أن يَخلُقَ السمواتِ والأرضَ. فإنه لا يكونُ إلهاً مستحِقًّا للعبادةِ من كان خالقاً رازقاً مالِكاً متَصرِّفاً مدبِّراً لجميعِ الأمورِ حيًّا قيُّوماً سميعاً بصيراً، عليماً حكيماً، موصوفاً بكلِّ كمالٍ، مُنَزَّهاً عن كلِّ نقْصٍ، غنيًّا عمَّا سواه، مفتقِراً إليه كلُّ ما عَدَاه، فاعلاً مختاراً لا معقِّبَ لحكمِه ولا رادَّ لقضائِه، ولا يُعجزُه شيءٌ في السمواتِ ولا في الأرضِ، ولا تَخفى عليه خافيةٌ.

والثاني: أنه لابدَّ من الإيمانِ بأنه سبحانَه شرَّعَ الشرائعَ وأمَرَ العبادَ ونهاهم ليُطيعوا أمرَه، ويَجتنبوا نهيَه. فقد خلقَهم ليَعبدوه ولا يُشركوا به شيئاً، قالَ تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} فحيث كان متَفرِّداً بالخلْقِ والبدءِ والإعادةِ ولا يُشركُه في ذلك أحدٌ فهو الذي يَستحِقُّ أن يُفرَدَ بالعبادةِ دونَ سواه كما قالَ تعالى: {يَا أيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وهذه هي الحكمةُ من خلْقِ الجنِّ والإنسِ كما قالَ: تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} وبذلك أَنزلَ كُتبَه المقدَّسَةَ وأَرسلَ رُسلَه عليهم الصلاةُ والسلامُ كما قالَ جلَّ وعلا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} والشاهدُ من آيةِ الحَجِّ كونُه سبحانَه يَعلمُ كلَّ شيءٍ في السماءِ والأرضِ وأن ذلك مكتوبٌ عندَه في كتابٍ. والشاهدُ من الحديثِ كونُه تعالى قدَّرَ مقاديرَ الخلْقِ قبلَ خلقِه لسمواتِه وأرضِه، بهذه المدَّةِ المذكورةِ؛ وهذا الحديثُ رواه مسلمٌ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قالَ: (قَدَّرَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ). ومثلُه ما رواه البخاريُّ في صحيحِه من حديثِ عِمرانَ بنِ حُصَيْنٍ - رضيَ اللهُ عنه -: (أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قالَ: يَا بَنِي تَمِيمٍ اقْبَلُوا البُشْرَى. قالوا: قد بشَّرْتَنا فأَعْطِنا، فأَقبلَ على أهلِ اليمنِ فقالَ: اقْبَلُوا الْبُشْرَى إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ فقالوا: قد قبِلْنا يا رسولَ اللهِ، قالوا: جئناكَ لنتفقَّهَ في الدِّينِ ولنسألَك عن أوَّلِ هذا الأمرِ فقالَ: كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وفي لفظٍ: مَعَهُ، وفي لفظٍ: غيرَه، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ في الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ وَخَلَق السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ). قالَ: ثم جاءَ بي رجلٌ فقالَ: أدرِك ناقتَك فذهبْتُ فإذا السرابُ يَنقطعُ دونَها فواللهِ لودِدْتُ أني تركتُها ولم أَقُمْ. وقولُه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): كَتبَ في الذِّكْرِ يعني اللوحَ المحفوظَ؛ كما قالَ تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} أي من بعد اللوحِ المحفوظِ، ومعنى الحديثِ إخبارُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) عن خلْقِ هذا العالَمِ المشهودِ، الذي خلقَه اللهُ في ستَّةِ أيَّامٍ ثم استوى على العرْشِ كما أَخبرَ القرآنُ العظيمُ بذلك في غيرِ موضعٍ.

ومثلُه أيضاً الحديثُ الذي رواه أبو داودَ والترمذيُّ وغيرُهما عن عبادةَ بنِ الصامتِ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أنه قالَ: (أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ فَقَالَ: اكْتُبْ. قَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). فهذا القلمُ خلقَه اللهُ لما أَمَرَه بالتقديرِ المكتوبِ قبلَ خلْقِ السمواتِ والأرضِ بخمسين ألفَ سنةٍ وكان مخلوقاً قبلَ السمواتِ والأرضِ وهو أوَّلُ ما خُلقَ من هذا العالَمِ، وخلَقَه بعدَ العرْشِ كما دلَّتْ عليه النصوصُ وهو قولُ جمهورِ السلَفِ.

والأمرُ يُرادُ به المصدرُ ويُرادُ به المفعولُ به وهو المأمورُ الذي كوَّنَه اللهُ بأمرِه، والشرعُ هو ما سَنَّ اللهُ من الدِّينِ وأمَرَ به كالصومِ والصلاةِ والحَجِّ والزكاةِ وسائرِ أعمالِ البرِّ (والقدَرُ) مصدَرُ قَدَّرَ يُقَدِّرُ وقد تُسَكَّنُ دالُه، وهو ما قضاه الله تعالى وحَكمَ به من الأمورِ، كما سيأتي.

قولُه:
وعبادتُه تتضمَّنُ كمالَ الذُّلِّ والحُبِّ له. وذلك يَتضمَّنُ كمالَ طاعتِه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} وقد قالَ تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} وقالَ تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وقالَ تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقالَ تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} وقالَ تعالى: {يَا أيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} فأَمَرَ الرسُلَ بإقامةِ الدِّينِ وأن لا يَتفرَّقوا فيه ولهذا قالَ النبيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في الحديثِ الصحيحِ: (إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِياءِ دِينُنَا وَاحِدٌ، وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ وِإِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ لاَنَا، إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ).

الشرْحُ:
جُمَّاعُ العبادةِ هو كمالُ الحُبِّ مع كمالِ الذلِّ. وهي كما قالَ الشيخُ اسمٌ جامعٌ لما يُحبُّه اللهُ ويرضاه من الأقوالِ والأعمالِ الظاهرةِ، كالصلاةِ والزكاةِ والصيامِ والحَجِّ، وصدْقِ الحديثِ، وأداءِ الأمانةِ، وبِرِّ الوالِدَيْنِ، وصلةِ الأرحامِ، والوفاءِ بالعهودِ، والأمْرِ بالمعروفِ، والنهيِ عن المنكَرِ، وجهادِ الكفَّارِ والمنافقين، والإحسانِ إلى الجارِ واليتيمِ والمسكينِ وابنِ السبيلِ والمملوكِ من الآدميِّين والبهائمِ، والدعاءِ، والذكْرِ، وأمثالِ ذلك. والباطنةِ كالصبرِ، والرضاءِ بقضاءِ اللهِ، والتوكُّلِ عليه، والرجاءِ لرحمتِه، والخوفِ من عذابِه، وأمثالِ ذلك، وذلك كلُّه يتضمَّنُ طاعةَ اللهِ وطاعةَ رسولِه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) وقد جَعلَ اللهُ عزَّ وجلَّ طاعةَ رسولِه طاعةً له، وعلَّقَ محبَّتَه سبحانَه باتِّباعِ رسولِه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كما في آيَتَي النساءِ وآلِ عِمرانَ، والشاهدُ من آيةِ النساءِ والزُّخرُفِ وآيةِ الأنبياءِ والمؤمنون والشورى هو أن الغايةَ من إنزالِ الكُتبِ السماويَّةِ جميعِها وإرسالِ الرسُلِ كلِّهم هي عبادةُ اللهِ وحدَه وترْكُ عبادةِ ما سِواه.

وهذا الحديثُ متَّفقٌ عليه، وهو مرويٌّ عن أبي هريرةَ - رضيَ اللهُ عنه - عن النبيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). والشاهدُ منه أن القدْرَ المشترَكَ بينَ الأنبياءِ هو عبادةُ اللهِ وحدَه لا شريكَ له وإن اختلفَتْ شِرعتُهم ومناهجُهم كما في قولِه جلَّ جلالُه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} وقولِه سبحانَه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} الآيةَ. معناه كما قالَ أهلُ التفسيرِ: شَرعَ لكم ولمن قبلَكم من الأنبياءِ دِيناً واحداً، يعني التوحيدَ، ولم يَبعث اللهُ نبيًّا قطُّ إلا وصَّاه بإقامِ الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، والإقرارِ للهِ بالطاعةِ فذلك دينُه الذي شَرعَ لهم، وخَصَّ نوحاً وإبراهيمَ وموسى وعيسى بالذكْرِ مع نبيِّنا ( صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) لأنهم أربابُ الشرائعِ. ثم أمرَهم سبحانَه بإقامةِ الدِّينِ ونهاهم عن الاختلافِ فيه. أي لا يَختلفوا في التوحيدِ والإيمانِ باللهِ وطاعةِ رسلِه وقَبولِ شرائعِه فإن هذه قد تَطابقت عليها الشرائعُ وتَوافقَتْ فيها الأديانُ فلا يَنبغي الخلافُ في مثلِها. وليس من هذا فروعُ المسائلِ التي تَختلفُ فيها الأدلَّةُ، وتَتعارضُ فيها الأماراتُ، وتتباينُ فيها الأفهامُ فإنها من مطارحِ الاجتهادِ، ومواطنِ الخلافِ.

و(العَلاَّتُ) جمْعٌ بمعنى الضَّرَّاتُ واحدةُ عَلَّةٍ، سُمِّيَتْ بذلك لأن الذي تزوَّجَ أُخرى على أُولى قد كانت قبلها (نَهَلَ) ثم (عَلَّ) من هذه. ومعنى أوْلادِ عَلاَّتٍ أي بني أمَّهاتٍ شتَّى من رجلٍ واحدٍ، والمعنى في الحديثِ أن الأنبياءَ بُعِثوا متَّفقين في أصولِ التوحيدِ متباينين في فروعِ الشرعِ، وقيل: أراد أن الأنبياءَ يَختلفون في أزمانِهم وإن شَمِلَتْهُم النبوَّةُ، فكأنهم أوْلادُ عَلاَّتٍ لم يَجمعْهم زمنٌ واحدٌ، كما لم يَجمعْ أوْلادَ العَلاَّتِ بطنٌ واحدٌ.

  #4  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 05:55 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التوضيحات الأثرية للشيخ: فخر الدين بن الزبير المحسِّي


الخاتِمَةُ
الأصلُ الثاني
قولُه:(وأمَّا الأصْلُ الثاني، وهو التوحيدُ في العِباداتِ الْمُتَضَمِّنُ للإيمانِ بالشرْعِ والقدَرِ جميعًا).

التوضيحُ

سَبَقَ الكلامُ في الْمُقَدِّمَةِ عن هذا الأصلِ وهو الشرْعُ والقدَرُ، وذَكَرْنَا أنهما مُتلازمانِ،فمَن آمَنَ بأحدِهما لَزِمَه الإيمانُ بالآخَرِ، ويُبَيِّنُ شيخُ الإسلامِ هنا ما يَجِبُ تُجاهَ الشرْعِ والقدَرِ تَفْصِيلاً، وما يَتَعَلَّقُ بهما من مَسائلَ، وما وَقَعَ فيهما من اختلافٍ، واللهُ الْمُوَفِّقُ.
ما يَجِبُ في هذا الأصْلِ
قولُه: ( فنقولُ: لا بُدَّ من الإيمانِ بِخَلْقِ اللهِ وأَمْرِه ).

التوضيحُ

هنا أصلان عَظيمان يَجِبُ الإيمانُ بهما: أَوَّلُهُما: الإيمانُ بربوبيَّةِ اللهِ تعالى الشاملةِ،وأنه خالِقُ كلِّ شيءٍ، وأنَّ ما شاءَ اللهُ كان، وما لم يَشَأْ لم يَكُنْ، وهذا هو القَدَرُ.
ثانيهما: الإيمانُ بشَرْعِه وأنه تعالى شَرَعَ الشرائعَ،وأَرْسَلَ الرُّسُلَ،وخَلَقَ الْخَلْقَ لعِبادتِه،وهذا هو الشرْعُ، فالقدَرُ هو الْخَلْقُ، والشرْعُ هو الآمِرُ،كما قالَ تعالى: { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ } ومِن هذا التقسيمِ وغيرِه نَعْلَمُ أن تأصيلاتِ شيخِ الإسلامِ رَحِمَه اللهُ نقْلِيَّةٌ عقليَّةٌ.
أوَّلاً: ما يَجِبُ في الإيمانِ بالقَدَرِ
قولُه: (فيَجِبُ الإيمانُ بأنَّ اللهَ خالِقُ كلِّ شيءٍ ورَبُّهُ ومَليكُه، وأنه على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأنه ما شاءَ كان،وما لم يَشَأْ فلا حَوْلَ ولا قوَّةَ إلا باللهِ، وقد عَلِمَ ما سيكونُ قَبْلَ أن يكونَ، وقَدَّرَ الْمَقاديرَ وكَتَبَها حيث شاءَ، كما قالَ تعالى: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ } وفي الصحيحِ عن النبيِّ صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قالَ: " إِنَّ اللهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ " ).

التوضيحُ

هنا الكلامُ عمَّا يَجِبُ تفصيلاً تُجاهَ هذا الأصْلِ فبَدَأَ بما يَجِبُ في الإيمانِ بالقَدَرِ،وهو الإيمانُ بِمَراتِبِه،وهي أربعُ مرَاتِبَ كما يَلِي على ترتيبِ الرسالةِ:

الْمَرتبةُ الأُولى: الْإِيمَانُ بِأنَّ اللهَ خالِقُ كلِّ شيءٍ ورَبُّه ومليكُه وأنه على كلِّ شيءٍ قديرٌ. كما قالَ تعالى: { ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ}.

المَرْتَبَةُ الثانيةُ: الإيمانُ بأنَّ للهِ المشيئةَ العامَّةَ،فما شاءَ كان،وما لم يَشَأْ لم يَكُنْ كما قالَ تعالى: { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }.

المَرْتَبَة الثالثةُ: الإيمانُ بعِلْمِه الأزلِيِّ الأبَدِيِّ بما سيكونُ قَبلَ أن يكونَ.

المَرْتَبَةُ الرابعةُ: الإيمانُ بأنَّ اللهَ تعالى كَتَبَ مَقاديرَ كلِّ شيءٍ.
ودَليلُ هاتين الْمَرْتَبَتَيْنِ ما يَلِي:
من القرآنِ قولُه تعالى: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ}.
من السُّنَّةِ قولُه صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّ اللهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ " فكتابتُه تَستلزِمُ العلْمَ.
وقد جَمَعَ بعضُهم هذه الْمَراتِبَ بقولِه:

"عِلْمٌ كِتابةُ مولانا مَشِيئَتُه = وخَلْقُه وهو إيجادٌ وتكوينُ

ثانيًا: ما يَجِبُ في الإيمانِ بالشرْعِ

قولُه: ( ويَجِبُ الإيمانُ بأنَّ اللهَ أَمَرَ بعبادَتِه وحدَه لا شريكَ له، كما خَلَقَ الْجِنَّ والإنسَ لعِبادتِه، وبذلك أَرْسَلَ رُسُلَه وأَنْزَلَ كُتُبَه، وعِبادتُه تَتَضَمَّنُ كَمالَ الذلِّ والحُبِّ له، وذلك يَتَضَمَّنُ كَمالَ طاعتِه: { وَمَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ } وقد قالَ تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ }.

وقالَ تعالى: { قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وقالَ تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وقالَ تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقالَ تعالى: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}.
وقالَ تعالى: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا *إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ* وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ }.فأَمَرَ الرسُلَ بإقامةِ الدِّينِ وأن لا يَتَفَرَّقُوا فيه،ولهذا قالَ النبيُّ صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديثِ الصحيحِ: (( إِنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ، وَالأَنْبِياَءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ؛لأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنِي نَبِيٌّ").
التوضيحُ

وأمَّا ما يَجِبُ في الإيمانِ بالشرْعِ فيَتَضَمَّنُ ما يَلِي:
الإيمانُ بأنَّ اللهَ أَمَرَ بعبادتِه وَحْدَه لا شريكَ له: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}.
وأنه خَلَقَ الْجِنَّ والْإِنْسَ ليَعْبُدُوهُ:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}.
وأنه أَرْسَلَ رُسُلَهُ وأَنْزَلَ كُتُبَهُ لتحقيقِ عُبوديَّتِه،وأَدِلَّةُ ذلك ما يَلِي:
قولُه تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}.
وقولُه: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ }.
وقولُه: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا* إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ* وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}.

وأنَّ مَن يُطِعِ الرسولَ فقد أَطاعَ اللهَ:
1) { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ }.
2) { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْلَكُمْ ذُنُوبَكُمْ }.

التعَبُّدُ: وهو فِعْلُ العابِدِ،وتكونُ بمعنى التذلُّلِ والتعظيمِ مع كَمالِ الحبِّ،للهِ معنى العِبادةِ: مأخوذةٌ من قولِهم" عبَّدَ " إذا ذَلَّلَ، وهي تُطْلَقُ على مَعْنَيَيْنِ.

المتَعَبَّدُ به: فتكونُ اسمًا جامعًا لكلِّ ما يُحِبُّه اللهُ ويَرضاه من الأقوالِ والأفعالِ الظاهرةِ والباطنةِ.
هل دِينُ الأنبياءِ واحدٌ؟

الجوابُ: إنَّ دينَ الأنبياءِ واحدٌ وإن اخْتَلَفَت بعضُ الشرائعِ،والدليلُ:
من القرآنِ قولُه تعالى: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَىأَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} فأَمَرَ بإقامةِ الدِّينِ وألاَّ يَتَفَرَّقُوا فيه.
من السُّنَّةِ: قولُه صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ، وَالأَنْبِياَءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ، لأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنِي نَبِيٌّ"
والعَلاَّتُ: جَمْعُ عَلَّةٍ بمعنى: ضَرَّاتٍ.
والمرادُ:أنَّ أُمَّهاتِهم شَتَّى،وأباهم واحدٌ، أي:شرائعَهم شَتَّى،ودينَهم واحدٌ كما في روايةِ البخاريِّ:" أمَّهاتُهم شَتَّى ودينُهم واحدٌ " وقيلَ: المرادُ أَزْمِنَتُهُم مختلِفَةٌ ودينُهم واحدٌ.
والمقصودُ أنَّ دينَهم واحدٌ، وسيأتي زيادةُ إيضاحِه.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الأصل, الثاني

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:04 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir