دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم الحديث الشريف > مكتبة علوم الحديث الشريف > علوم الحديث الشريف > مقدمة ابن الصلاح

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 21 جمادى الأولى 1431هـ/4-05-2010م, 05:39 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي النوع الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر: المقطوع والمرسل والمنقطع والمعضل

النّوع الثّامن: معرفة المقطوع
وهو غير المنقطع الّذي يأتي ذكره إن شاء اللّه تعالى. ويقال في جمعه: المقاطع والمقاطيع.
وهو ما جاء عن التّابعين موقوفًا عليهم من أقوالهم أو أفعالهم.
قال الخطيب أبو بكرٍ الحافظ في جامعه: " من الحديث: المقطوع". وقال: " المقاطع هي الموقوفات على التّابعين".
[واللّه أعلم].
قلت: وقد وجدت التّعبير بالمقطوع عن المنقطع غير الموصول في كلام الإمام الشّافعيّ، وأبي القاسم الطّبرانيّ، وغيرهما، واللّه أعلم.
تفريعاتٌ:
أحدها: قول الصّحابيّ: " كنّا نفعل كذا، أو كنّا نقول كذا " إن لم يضفه إلى زمان رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم - فهو من قبيل الموقوف، وإن أضافه إلى زمان رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم - فالّذي قطع به أبو عبد اللّه بن البيّع الحافظ وغيره من أهل الحديث وغيرهم أنّ ذلك من قبيل المرفوع.
وبلغني عن أبي بكرٍ البرقانيّ: أنّه سأل أبا بكرٍ الإسماعيليّ الإمام عن ذلك، فأنكر كونه من المرفوع.
والأوّل هو الّذي عليه الاعتماد، لأنّ ظاهر ذلك مشعرٌ بأنّ رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم - اطّلع على ذلك وقرّرهم عليه، وتقريره أحد وجوه السّنن المرفوعة، فإنّها أنواعٌ: منها أقواله صلّى اللّه عليه وسلّم، ومنها أفعاله، ومنها تقريره وسكوته عن الإنكار بعد اطّلاعه.
ومن هذا القبيل قول الصّحابيّ: " كنّا لا نرى بأسًا بكذا ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فينا، أو كان يقال كذا وكذا على عهده، أو كانوا يفعلون كذا وكذا في حياته صلّى اللّه عليه وسلّم".
فكلّ ذلك وشبهه مرفوعٌ مسندٌ، مخرّجٌ في كتب المسانيد.
وذكر الحاكم أبو عبد اللّه - فيما روّيناه عن المغيرة بن شعبة قال:
" كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقرعون بابه بالأظافير " أنّ هذا يتوهّمه من ليس من أهل الصّنعة مسندًا - يعني مرفوعًا - لذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيه، وليس بمسندٍ، بل هو موقوفٌ.
وذكر الخطيب أيضًا نحو ذلك في جامعه.
قلت: بل هو مرفوعٌ كما سبق ذكره. وهو بأن يكون مرفوعًا أحرى، لكونه أحرى باطّلاعه صلّى اللّه عليه وسلّم عليه. والحاكم معترفٌ بكون ذلك من قبيل المرفوع، وقد كنّا عددنا هذا فيما أخذناه عليه. ثمّ تأوّلناه له على أنّه أراد أنّه ليس بمسندٍ لفظًا، بل هو موقوفٌ لفظًا، وكذلك سائر ما سبق موقوفٌ لفظًا، وإنّما جعلناه مرفوعًا من حيث المعنى، واللّه أعلم.
الثّاني: قول الصّحابيّ " أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا " من نوع المرفوع والمسند عند أصحاب الحديث، وهو قول أكثر أهل العلم، وخالف في ذلك فريقٌ منهم أبو بكرٍ الإسماعيليّ، والأوّل هو الصّحيح ؛ لأنّ مطلق ذلك ينصرف بظاهره إلى من إليه الأمر والنّهي، وهو رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
وهكذا قول الصّحابيّ: " من السّنّة كذا " فالأصحّ أنّه مسندٌ مرفوعٌ ؛ لأنّ الظّاهر أنّه لا يريد به إلّا سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وما يجب اتّباعه.
وكذلك قول أنسٍ رضي اللّه عنه: " أمر بلالٌ أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة". وسائر ما جانس ذلك، فلا فرق بين أن يقول ذلك في زمان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وبعده صلّى اللّه عليه وسلّم. واللّه أعلم.
الثّالث: ما قيل من أنّ تفسير الصّحابيّ حديثٌ مسندٌ، فإنّما ذلك في تفسيرٍ يتعلّق بسبب نزول آيةٍ يخبر به الصّحابيّ أو نحو ذلك، كقول جابرٍ رضي اللّه عنه: " كانت اليهود تقول: من أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: (نساؤكم حرثٌ لكم) الآية.
فأمّا سائر تفاسير الصّحابة الّتي لا تشتمل على إضافة شيءٍ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فمعدودةٌ في الموقوفات. واللّه أعلم.
الرّابع: من قبيل المرفوع الأحاديث الّتي قيل في أسانيدها عند ذكر الصّحابيّ: " يرفع الحديث، أو يبلغ به، أو ينميه، أو روايةً".
مثال ذلك: " سفيان بن عيينة، عن أبي الزّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، روايةً: " تقاتلون قومًا صغار الأعين.. " الحديث.
وبه " عن أبي هريرة، يبلغ به، قال: النّاس تبعٌ لقريشٍ.. " الحديث.
فكلّ ذلك وأمثاله كنايةٌ عن رفع الصّحابيّ الحديث إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وحكم ذلك عند أهل العلم حكم المرفوع صريحًا.
قلت: وإذا قال الرّاوي عن التّابعيّ: " يرفع الحديث، أو يبلغ به " فذلك أيضًا مرفوعٌ، ولكنّه مرفوعٌ مرسلٌ. واللّه أعلم.
النّوع التّاسع: معرفة المرسل
وصورته الّتي لا خلاف فيها: حديث التّابعيّ الكبير، الّذي لقي جماعةً من الصّحابة وجالسهم، كعبيد اللّه بن عديّ بن الخيار، ثمّ سعيد بن المسيّب، وأمثالهما، إذا قال: " قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم".
والمشهور: التّسوية بين التّابعين أجمعين في ذلك رضي اللّه عنهم.
وله صورٌ اختلف فيها: أهي من المرسل أم لا؟
إحداها: إذا انقطع الإسناد قبل الوصول إلى التّابعيّ، فكان فيه رواية راوٍ لم يسمع من المذكور فوقه، فالّذي قطع به الحاكم الحافظ أبو عبد اللّه وغيره من أهل الحديث أنّ ذلك لا يسمّى مرسلًا، وأنّ الإرسال مخصوصٌ بالتّابعين.
بل إن كان من سقط ذكره قبل الوصول إلى التّابعيّ شخصًا واحدًا سمّي منقطعًا فحسب، وإن كان أكثر من واحدٍ سمّي معضلًا، ويسمّى أيضًا منقطعًا. وسيأتي مثال ذلك إن شاء اللّه تعالى.
والمعروف في الفقه وأصوله أنّ كلّ ذلك يسمّى مرسلًا، وإليه ذهب من أهل الحديث أبو بكرٍ الخطيب وقطع به، وقال: " إلّا أنّ أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث الاستعمال ما رواه التّابعيّ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وأمّا ما رواه تابعيّ التّابعيّ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فيسمّونه المعضل "، واللّه أعلم.
الثّانية: قول الزّهريّ، وأبي حازمٍ، ويحيى بن سعيدٍ الأنصاريّ، وأشباههم من أصاغر التّابعين: " قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم "، حكى ابن عبد البرّ أنّ قومًا لا يسمّونه مرسلًا، بل منقطعًا ؛ لكونهم لم يلقوا من الصّحابة إلّا الواحد والاثنين، وأكثر روايتهم عن التّابعين.
قال الشّيخ أبقاه اللّه: وهذا المذهب فرعٌ لمذهب من لا يسمّي المنقطع قبل الوصول إلى التّابعيّ مرسلًا.
والمشهور التّسوية بين التّابعين في اسم الإرسال كما تقدّم، واللّه أعلم.
الثّالثة: إذا قيل في الإسناد: " فلانٌ، عن رجلٍ أو عن شيخٍ عن فلانٍ " أو نحو ذلك، فالّذي ذكره الحاكم في " معرفة علوم الحديث " أنّه لا يسمّى مرسلًا بل منقطعًا، وهو في بعض المصنّفات المعتبرة في أصول الفقه معدودٌ من أنواع المرسل، واللّه أعلم.
ثمّ اعلم أنّ حكم المرسل حكم الحديث الضّعيف، إلّا أن يصحّ مخرجه بمجيئه من وجهٍ آخر، كما سبق بيانه في نوع الحسن. ولهذا احتجّ الشّافعيّ رضي اللّه عنه بمرسلات سعيد بن المسيّب رضي اللّه عنهما، فإنّها وجدت مسانيد من وجوهٍ أخر، ولا يختصّ ذلك عنده بإرسال ابن المسيّب، كما سبق.
ومن أنكر ذلك زاعمًا أنّ الاعتماد حينئذٍ يقع على المسند دون المرسل، فيقع لغوًا لا حاجة إليه، فجوابه أنّه بالمسند يتبيّن صحّة الإسناد الّذي فيه الإرسال، حتّى يحكم له مع إرساله بأنّه إسنادٌ صحيحٌ تقوم بمثله الحجّة، على ما مهّدنا سبيله في النّوع الثّاني. وإنّما ينكر هذا من لا مذاق له في هذا الشّأن.
وما ذكرناه من سقوط الاحتجاج بالمرسل والحكم بضعفه هو المذهب الّذي استقرّ عليه آراء جماهير حفّاظ الحديث ونقّاد الأثر، وقد تداولوه في تصانيفهم.
وفي صدر صحيح مسلمٍ: " المرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجّةٍ".
وابن عبد البرّ - حافظ المغرب - ممّن حكى ذلك عن جماعة أصحاب الحديث.
والاحتجاج به مذهب مالكٍ وأبي حنيفة وأصحابهما [رحمهم اللّه] في طائفةٍ، واللّه أعلم.
ثمّ إنّا لم نعدّ في أنواع المرسل ونحوه ما يسمّى في أصول الفقه مرسل الصّحابيّ مثلما يرويه ابن عبّاسٍ وغيره من أحداث الصّحابة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يسمعوه منه ؛ لأنّ ذلك في حكم الموصول المسند، لأنّ روايتهم عن الصّحابة، والجهالة بالصّحابيّ غير قادحةٍ، لأنّ الصّحابة كلّهم عدولٌ، واللّه أعلم.
النّوع العاشر: معرفة المنقطع
وفيه وفي الفرق بينه وبين المرسل مذاهب لأهل الحديث وغيرهم:
فمنها: ما سبق في نوع المرسل عن الحاكم، صاحب كتاب (معرفة أنواع علوم الحديث) من أنّ المرسل مخصوصٌ بالتّابعيّ، وأنّ المنقطع منه الإسناد فيه قبل الوصول إلى التّابعيّ راوٍ لم يسمع من الّذي فوقه، والسّاقط بينهما غير مذكورٍ، لا معيّنًا ولا مبهمًا، ومنه: الإسناد الّذي ذكر فيه بعض رواته بلفظٍ مبهمٍ نحو رجلٍ، أو شيخٍ، أو غيرهما.
مثال الأوّل: ما روّيناه عن عبد الرّزّاق، عن سفيان الثّوريّ، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيعٍ عن حذيفة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: " إن ولّيتموها أبا بكرٍ فقويٌّ أمينٌ.. " الحديث. فهذا إسنادٌ إذا تأمّله الحديثيّ وجد صورته صورة المتّصل، وهو منقطعٌ في موضعين، لأنّ عبد الرّزّاق لم يسمعه من الثّوريّ، وإنّما سمعه من النّعمان بن أبي شيبة الجنديّ عن الثّوريّ، ولم يسمعه الثّوريّ أيضًا من أبي إسحاق، إنّما سمعه من شريكٍ عن أبي إسحاق.
ومثال الثّاني: الحديث الّذي روّيناه عن أبي العلاء بن عبد اللّه بن الشّخّير، عن رجلين، عن شدّاد بن أوسٍ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في الدّعاء في الصّلاة: " اللّهمّ إنّي أسألك الثّبات في الأمر... " الحديث، واللّه أعلم.
ومنها: ما ذكره ابن عبد البرّ رحمه اللّه، وهو أنّ المرسل مخصوصٌ بالتّابعين، والمنقطع شاملٌ له ولغيره، وهو عنده كلّ ما لا يتّصل إسناده سواءٌ كان يعزى إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أو إلى غيره.
ومنها: أنّ المنقطع مثل المرسل، وكلاهما شاملان لكلّ ما لا يتّصل إسناده، وهذا المذهب أقرب. صار إليه طوائف من الفقهاء وغيرهم، وهو الّذي ذكره الحافظ أبو بكرٍ الخطيب في كفايته. إلّا أنّ أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث الاستعمال ما رواه التّابعيّ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وأكثر ما يوصف بالانقطاع ما رواه من دون التّابعين عن الصّحابة مثل مالكٍ عن ابن عمر، ونحو ذلك. واللّه أعلم.
ومنها: ما حكاه الخطيب أبو بكرٍ عن بعض أهل العلم بالحديث أنّ " المنقطع ما روي عن التّابعيّ أو من دونه موقوفًا عليه، من قوله أو فعله". وهذا غريبٌ بعيدٌ، واللّه أعلم.
النّوع الحادي عشر: معرفة المعضل
وهو لقبٌ لنوعٍ خاصٍّ من المنقطع، فكلّ معضلٍ منقطعٌ، وليس كلّ منقطعٍ معضلًا.
وقومٌ يسمّونه مرسلًا كما سبق.
وهو عبارةٌ عمّا سقط من إسناده اثنان فصاعدًا.
وأصحاب الحديث يقولون: أعضله فهو معضلٌ - بفتح الضّاد -. وهو اصطلاحٌ مشكل المأخذ من حيث اللّغة، وبحثت فوجدت له قولهم: (أمرٌ عضيلٌ)، أي مستغلقٌ شديدٌ. ولا التفات في ذلك إلى معضلٍ - بكسر الضّاد - وإن كان مثل عضيلٍ في المعنى.
ومثاله: ما يرويه تابعيّ التّابعيّ قائلًا فيه: " قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم "، وكذلك ما يرويه من دون تابعيّ التّابعيّ " عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، أو عن أبي بكرٍ وعمر وغيرهما " غير ذاكرٍ للوسائط بينه وبينهم.
وذكر أبو نصرٍ السّجزيّ الحافظ قول الرّاوي: " بلغني " نحو قول مالكٍ: " بلغني عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: للمملوك طعامه وكسوته.. " الحديث وقال: أصحاب الحديث يسمّونه المعضل.
قلت: وقول المصنّفين من الفقهاء وغيرهم: " قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كذا وكذا " ونحو ذلك، كلّه من قبيل المعضل، لما تقدّم. وسمّاه الخطيب أبو بكرٍ الحافظ في بعض كلامه مرسلًا، وذلك على مذهب من يسمّي كلّ ما لا يتّصل مرسلًا كما سبق.
وإذا روى تابعٌ عن التّابع حديثًا موقوفًا عليه، وهو حديثٌ متّصلٌ مسندٌ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقد جعله الحاكم أبو عبد اللّه نوعًا من المعضل.
مثاله: " ما روّيناه عن الأعمش،... عن الشّعبيّ قال: يقال للرّجل يوم القيامة: " عملت كذا وكذا؟ فيقول: ما عملته، فيختم على فيه..... " الحديث. فقد أعضله الأعمش، وهو عند الشّعبيّ عن أنسٍ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، متّصلًا مسندًا.
قلت: هذا جيدٌ حسنٌ ؛ لأنّ هذا الانقطاع بواحدٍ مضمومًا إلى الوقف يشتمل على الانقطاع باثنين: الصّحابيّ ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فذلك باستحقاق اسم الإعضال أولى، واللّه أعلم.
تفريعاتٌ:
أحدها: الإسناد المعنعن، وهو الّذي يقال فيه: " فلانٌ عن فلانٍ " عدّه بعض النّاس من قبيل المرسل والمنقطع، حتّى يتبيّن اتّصاله بغيره.
والصّحيح - والّذي عليه العمل - أنّه من قبيل الإسناد المتّصل، وإلى هذا ذهب الجماهير من أئمّة الحديث وغيرهم، وأودعه المشترطون للصّحيح في تصانيفهم فيه وقبلوه، وكاد أبو عمر بن عبد البرّ الحافظ يدّعي إجماع أئمّة الحديث على ذلك. وادّعى أبو عمرٍو الدّانيّ - المقرئ الحافظ - إجماع أهل النّقل على ذلك.
وهذا بشرط أن يكون الّذين أضيفت العنعنة إليهم قد ثبتت ملاقاة بعضهم بعضًا، مع براءتهم من وصمة التّدليس. فحينئذٍ يحمل على ظاهر الاتّصال، إلّا أن يظهر فيه خلاف ذلك.
وكثر في عصرنا وما قاربه بين المنتسبين إلى الحديث استعمال " عن " في الإجازة، فإذا قال أحدهم: " قرأت على فلانٍ عن فلانٍ "، أو نحو ذلك، فظنّ به أنّه رواه عنه بالإجازة، ولا يخرجه ذلك من قبيل الاتّصال على ما لا يخفى، واللّه أعلم.
الثّاني: اختلفوا في قول الرّاوي: " أنّ فلانًا قال كذا وكذا " هل هو بمنزلة (عن) في الحمل على الاتّصال، إذا ثبت التّلاقي بينهما، حتّى يتبيّن فيه الانقطاع.
مثاله: (مالكٌ، عن الزّهريّ: أنّ سعيد بن المسيّب قال كذا).
فروّينا عن مالكٍ رضي اللّه عنه أنّه كان يرى (عن فلانٍ) و (أنّ فلانًا) سواءً.
وعن أحمد بن حنبلٍ رضي اللّه عنه: أنّهما ليسا سواءً.
وحكى ابن عبد البرّ عن جمهور أهل العلم: أنّ " عن " و " أنّ " سواءٌ، وأنّه لا اعتبار بالحروف والألفاظ، وإنّما هو باللّقاء والمجالسة، والسّماع والمشاهدة، يعني مع السّلامة من التّدليس، فإذا كان سماع بعضهم من بعضٍ صحيحًا كان حديث بعضهم عن بعضٍ بأيّ لفظٍ ورد محمولًا على الاتّصال، حتّى يتبيّن فيه الانقطاع.
وحكى ابن عبد البرّ عن أبي بكرٍ البرديجيّ أنّ حرف " أنّ " محمولٌ على الانقطاع، حتّى يتبيّن السّماع في ذلك الخبر بعينه من جهةٍ أخرى. وقال: عندي لا معنى لهذا، لإجماعهم على أنّ الإسناد المتّصل بالصّحابيّ سواءٌ فيه قال: " قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم "، أو " أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال "، أو " عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال "، أو " سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول "، واللّه أعلم.
قلت: ووجدت مثلما حكاه عن البرديجيّ أبي بكرٍ الحافظ للحافظ الفحل يعقوب بن شيبة في مسنده الفحل، فإنّه ذكر ما رواه أبو الزّبير عن ابن الحنفيّة عن عمّارٍ قال: " أتيت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يصلّي فسلّمت عليه، فردّ عليّ السّلام". وجعله مسندًا موصولًا. وذكر رواية قيس بن سعدٍ لذلك، عن عطاء بن أبي رباحٍ، عن ابن الحنفيّة " أنّ عمّارًا مرّ بالنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم [وهو يصلّي] "،. فجعله مرسلًا، من حيث كونه قال: " إنّ عمّارًا فعل " ولم يقل: " عن عمّارٍ "، واللّه أعلم.
ثمّ إنّ الخطيب مثّل هذه المسألة بحديث نافعٍ، عن ابن عمر، عن عمر: " أنّه سأل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: أينام أحدنا وهو جنبٌ؟"... الحديث. وفي روايةٍ أخرى: عن نافعٍ عن ابن عمر أنّ عمر قال: " يا رسول اللّه... " الحديث. ثمّ قال: " ظاهر الرّواية الأولى يوجب أن يكون من مسند عمر عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، والثّانية ظاهرها يوجب أن يكون من مسند ابن عمر، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم".
قلت: ليس هذا المثال مماثلًا لما نحن بصدده ؛ لأنّ الاعتماد فيه في الحكم بالاتّصال على مذهب الجمهور إنّما هو على اللّقاء والإدراك، وذلك في هذا الحديث مشتركٌ متردّدٌ، لتعلّقه بالنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وبعمر رضي اللّه عنه، وبصحبة الرّاوي ابن عمر لهما، فاقتضى ذلك من جهةٍ: كونه رواه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، ومن جهةٍ أخرى: كونه رواه عن عمر، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، واللّه أعلم.
الثّالث: قد ذكرنا ما حكاه ابن عبد البرّ من تعميم الحكم بالاتّصال فيما يذكره الرّاوي عمّن لقيه بأيّ لفظٍ كان، وهكذا أطلق أبو بكرٍ الشّافعيّ الصّيرفيّ ذلك فقال: " كلّ من علم له سماعٌ من إنسانٍ، فحدّث عنه فهو على السّماع حتّى يعلم أنّه لم يسمع منه ما حكاه، وكلّ من علم له لقاء إنسانٍ، فحدّث عنه فحكمه هذا الحكم".
وإنّما قال هذا فيمن لم يظهر تدليسه.
ومن الحجّة في ذلك وفي سائر الباب أنّه لو لم يكن قد سمعه منه لكان بإطلاقه الرّواية عنه من غير ذكر الواسطة بينه وبينه مدلّسًا، والظّاهر السّلامة من وصمة التّدليس، والكلام فيمن لم يعرف بالتّدليس.
ومن أمثلة ذلك: قوله: " قال فلانٌ كذا وكذا " مثل أن يقول نافعٌ: " قال ابن عمر". وكذلك لو قال عنه: " ذكر، أو فعل، أو حدّث، أو كان يقول كذا وكذا "، وما جانس ذلك، فكلّ ذلك محمولٌ ظاهرًا على الاتّصال، وأنّه تلقّى ذلك منه من غير واسطةٍ بينهما، مهما ثبت لقاؤه له على الجملة.
ثمّ منهم من اقتصر في هذا الشّرط المشروط في ذلك ونحوه على مطلق اللّقاء، أو السّماع، كما حكيناه آنفًا. وقال فيه أبو عمرٍو المقرئ: " إذا كان معروفًا بالرّواية عنه". وقال فيه أبو الحسن القابسيّ: " إذا أدرك المنقول عنه إدراكًا بيّنًا".
وذكر أبو المظفّر السّمعانيّ في العنعنة أنّه يشترط طول الصّحبة بينهم.
وأنكر مسلم بن الحجّاج في خطبةٍ صحيحهٍ على بعض أهل عصره، حيث اشترط في العنعنة ثبوت اللّقاء والاجتماع، وادّعى أنّه قولٌ مخترعٌ لم يسبق قائله إليه، وأنّ القول الشّائع المتّفق عليه بين أهل العلم بالأخبار قديمًا وحديثًا أنّه يكفي في ذلك أن يثبت كونهما في عصرٍ واحدٍ، وإن لم يأت في خبرٍ قطّ أنّهما اجتمعا أو تشافها.
وفيما قاله مسلمٌ نظرٌ، وقد قيل: إنّ القول الّذي ردّه مسلمٌ هو الّذي عليه أئمّة هذا العلم: عليّ بن المدينيّ، والبخاريّ، وغيرهما، واللّه أعلم.
قلت: وهذا الحكم لا أراه يستمرّ بعد المتقدّمين، فيما وجد من المصنّفين في تصانيفهم، ممّا ذكروه عن مشايخهم قائلين فيه: " ذكر فلانٌ، قال فلانٌ " ونحو ذلك، فافهم كلّ ذلك، فإنّه مهمٌّ عزيزٌ، واللّه أعلم.
الرّابع: التّعليق الّذي يذكره أبو عبد اللّه الحميديّ، صاحب (الجمع بين الصّحيحين) وغيره من المغاربة، في أحاديث من صحيح البخاريّ قطع إسنادها - وقد استعمله الدّارقطنيّ من قبل -: صورته صورة الانقطاع، وليس حكمه حكمه، ولا خارجًا ما وجد ذلك فيه منه من قبيل الصّحيح إلى قبيل الضّعيف، وذلك لما عرف من شرطه وحكمه، على ما نبّهنا عليه في الفائدة السّادسة من النّوع الأوّل.
ولا التفات إلى أبي محمّد بن حزمٍ الظّاهريّ الحافظ في ردّه ما أخرجه البخاريّ، من حديث أبي عامرٍ، أو أبي مالكٍ الأشعريّ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: " ليكوننّ في أمّتي أقوامٌ يستحلّون الحرير والخمر والمعازف.. " الحديث. من جهة أنّ البخاريّ أورده قائلًا فيه: قال هشام بن عمّارٍ وساقه بإسناده، فزعم ابن حزمٍ أنّه منقطعٌ فيما بين البخاريّ وهشامٍ، وجعله جوابًا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف. وأخطأ في ذلك من وجوهٍ، والحديث صحيحٌ معروف الاتّصال بشرط الصّحيح.
والبخاريّ رحمه اللّه قد يفعل ذلك، لكون ذلك الحديث معروفًا من جهة الثّقات عن ذلك الشّخص الّذي علّقه عنه، وقد يفعل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضعٍ آخر من كتابه مسندًا متّصلًا وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب الّتي لا يصحبها خلل الانقطاع، واللّه أعلم.
وما ذكرناه من الحكم في التّعليق المذكور فذلك فيما أورده منه أصلًا ومقصودًا لا فيما أورده في معرض الاستشهاد، فإنّ الشّواهد يحتمل فيها ما ليس من شرط الصّحيح، معلّقًا كان أو موصولًا.
ثمّ إنّ لفظ التّعليق وجدته مستعملًا فيما حذف من مبتدأٍ إسناده واحدٌ فأكثر، حتّى إنّ بعضهم استعمله في حذف كلّ الإسناد.
مثال ذلك: قوله " قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كذا وكذا، قال ابن عبّاسٍ كذا وكذا. روى أبو هريرة كذا وكذا. قال سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة كذا وكذا، قال الزّهريّ عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كذا وكذا". وهكذا إلى شيوخ شيوخه.
وأمّا ما أورده كذلك عن شيوخه فهو من قبيل ما ذكرناه قريبًا في الثّالث من هذه التّفريعات.
وبلغني عن بعض المتأخّرين من أهل المغرب أنّه جعله قسمًا من التّعليق ثانيًا، وأضاف إليه قول البخاريّ - في غير موضعٍ من كتابه -: " وقال لي فلانٌ، وزادنا فلانٌ " فوسم كلّ ذلك بالتّعليق المتّصل من حيث الظّاهر، المنفصل من حيث المعنى، وقال: متى رأيت البخاريّ يقول: " وقال لي، وقال لنا " فاعلم أنّه إسنادٌ لم يذكره للاحتجاج به، وإنّما ذكره للاستشهاد به.
وكثيرًا ما يعبّر المحدّثون بهذا اللّفظ عمّا جرى بينهم في المذاكرات والمناظرات، وأحاديث المذاكرة قلّما يحتجّون بها.
قلت: وما ادّعاه على البخاريّ مخالفٌ لما قاله من هو أقدم منه وأعرف بالبخاريّ، وهو العبد الصّالح أبو جعفر بن حمدان النّيسابوريّ، فقد روّينا عنه أنّه قال: كلّ ما قال البخاريّ: " قال لي فلانٌ " فهو عرضٌ ومناولةٌ.
قلت: ولم أجد لفظ التّعليق مستعملًا فيما سقط فيه بعض رجال الإسناد من وسطه أو من آخره، ولا في مثل قوله: " يروى عن فلانٍ، ويذكر عن فلانٍ " وما أشبهه ممّا ليس فيه جزمٌ على من ذكر ذلك بأنّه قاله وذكره.
وكأنّ هذا التّعليق مأخوذٌ من تعليق الجدار، وتعليق الطّلاق ونحوه، لما يشترك الجميع فيه من قطع الاتّصال، واللّه أعلم.
الخامس: الحديث الّذي رواه بعض الثّقات مرسلًا وبعضهم متّصلًا اختلف أهل الحديث في أنّه ملحقٌ بقبيل الموصول أو بقبيل المرسل.
مثاله: حديث: " لا نكاح إلّا بوليٍّ "، رواه إسرائيل بن يونس في آخرين عن جدّه أبي إسحاق السّبيعيّ، عن أبي بردة، عن أبيه، أبي موسى الأشعريّ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مسندًا هكذا متّصلًا.
ورواه سفيان الثّوريّ، وشعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم مرسلًا هكذا.
فحكى الخطيب الحافظ أنّ أكثر أصحاب الحديث يرون الحكم في هذا وأشباهه للمرسل.
وعن بعضهم: أنّ الحكم للأكثر.
وعن بعضهم: أنّ الحكم للأحفظ، فإذا كان من أرسله أحفظ ممّن وصله فالحكم لمن أرسله، ثمّ لا يقدح ذلك في عدالة من وصله وأهليّته.
ومنهم من قال: " من أسند حديثًا قد أرسله الحفّاظ فإرسالهم له يقدح في مسنده وفي عدالته وأهليّته".
ومنهم من قال: " الحكم لمن أسنده إذا كان عدلًا ضابطًا، فيقبل خبره وإن خالفه غيره، سواءٌ كان المخالف له واحدًا أو جماعةً".
قال الخطيب: " هذا القول هو الصّحيح".
قلت: وما صحّحه هو الصّحيح في الفقه وأصوله، وسئل البخاريّ عن حديث: " لا نكاح إلّا بوليٍّ " المذكور، فحكم لمن وصله، وقال: " الزّيادة من الثّقة مقبولةٌ "، فقال البخاريّ هذا، مع أنّ من أرسله شعبة وسفيان، وهما جبلان لهما من الحفظ والإتقان الدّرجة العالية.
ويلتحق بهذا ما إذا كان الّذي وصله هو الّذي أرسله، وصله في وقتٍ وأرسله في وقتٍ. وهكذا إذا رفع بعضهم الحديث إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ووقفه بعضهم على الصّحابيّ، أو رفعه واحدٌ في وقتٍ ووقفه هو أيضًا في وقتٍ آخر، فالحكم على الأصحّ في كلّ ذلك لما زاده الثّقة من الوصل والرّفع ؛ لأنّه مثبتٌ وغيره ساكتٌ، ولو كان نافيًا فالمثبت مقدّمٌ عليه ؛ لأنّه علم ما خفي عليه. ولهذا الفصل تعلقٌ بفصل زيادة الثّقة في الحديث، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى، وهو أعلم.

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الثامن, النوع

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:06 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir